text
stringlengths
0
254k
الأمير الكبير نسبه: هو الأمير (الكبير) لقبًا وفعلًا، حفيد الإمام المؤسس للدولة السعودية الأولى محمد بن سعود رحمه الله، وابن الإمام عبدالعزيز، فهو الإمام: سعود بن عبدالعزيز بن محمد بن سعود رحمه الله، الملقب بـ(الكبير)؛ قيل: لقوته، وقيل: لتوسع دولته وكبرها. ولادته ونشأته وصفاته: ولد الإمام سعود بن عبدالعزيز عام 1163ه، ونشأ في بيت علم وأدب وحب لإعلاء كلمة التوحيد، مع ما وهبه الله من إقدام وحزم وحكمة وهَيبة. تعليمه: تتلمذ على يد الشيخ محمد بن عبدالوهاب رحمه الله، ولازمه وقرأ عليه عدة سنوات، وله معرفة بالحديث والفقه، وظهر ذلك على خطبه ورسائله؛ فكان يصدِّرهما بالأمر بالتقوى، وأهمية التوحيد. تولِّيه الإمارة: تولى الإمارة بعد مقتل أبيه عبدالعزيز بن محمد سنة 1218ه، وساس الدولة بعده على أحسن ما يكون، وأخضع معظم الجزيرة لملكه، فامتدت الدولة في عهده من عمان واليمن ونجران وعسير جنوبًا، إلى بادية الشام شمالًا، ومن الخليج العربي شرقًا حتى البحر الأحمر غربًا، وكان عصره هو العصر الذهبي للدولة السعودية الأولى. سيرته في الغزو والحروب: كان شجاعًا ثَبْتًا في الحروب، لم يتخلف في جميع المغازي، بل يغزو معه جملة من علماء أهل الدرعية، وفتح البلاد في عهده وعهد أبيه من قبل، وتسابق إليه أمراء العرب بتقديم الولاء والطاعة؛ كإمام صنعاء وشيخ حضرموت، وله سيرة حسنة في المغازي؛ كقصده الخروج يوم الاثنين والخميس، وقضاء حوائج المحتاجين قبل رحيله، ووعظ الجنود قبل النزال، وتثبيتهم بتلاوة آيات من القرآن، وتحذيرهم من أسباب الهزيمة والخِذلان؛ كالظلم والغُلُول، وسائر المعاصي. مجالسه العلمية: وكانت له مجالس للذكر يحضُرها، فمن ذلك درس يحضره بعد صلاة الفجر في خلق كثير من أهل الدرعية، يجلسون حِلَقًا في السوق عند الدكاكين يستمعون للشيخ العلامة عبدالله بن الشيخ محمد بن عبدالوهاب رحمه الله، في تفسير القرآن الكريم للطبري، وفي تفسير ابن كثير. فإذا انتهى من ذلك الدرس جلس يقضي حوائج الناس في قصره، ثم يَقِيل حتى يتعالى النهار. وبعد صلاة الظهر يحضر درسًا في قصره عند الشيخ عبدالله بن حماد إمام مسجد الطريف، وأحيانًا عند القاضي عبدالرحمن بن خميس إمام مسجد القصر، ويقرؤون في تفسير ابن كثير ورياض الصالحين، وإذا فرغوا من الدرس قام الإمام سعود رحمه الله، معلقًا على تلك القراءة ومحقِّقًا لها، ثم يقوم بعد ذلك لقضاء حوائج الناس. وأما درسه بعد المغرب، فكان في سطح ناحية من قصره، يحضره جمع من الأسرة الحاكمة ومن أهل الدرعية عامة، عند الشيخ سليمان بن عبدالله بن الشيخ محمد بن عبدالوهاب رحمه الله، في صحيح البخاري. عبادته: وكان يصلي في مسجد قصره عدا الجمعة فيصليها مع الناس في مسجد الطريف، وكان دائمًا ما يفرق الصدقات في الناس، ويكرم الأئمة والمؤذنين وطلاب العلم، حتى إنه يرسل من يشتري قهوةً للقائمين في رمضان في مساجد البلدان، ويجمع المساكين ليلة 27 من رمضان ويكسوهم، وعددهم في بعض الأحيان كما قال بعض المؤرخين 3000 رجل. حسن سياسته: وعمَّ الدولة في وقته بفضل الله الأمنَ والأمان، فكان الرجل يترك إبله أو خيله في أي موضع شاء لا يخشى عليها أحدًا إلا الله، وقد يسير الراكبان أو الثلاثة بالأموال العظيمة من الدرعية أو غيرها إلى أقصى اليمن لا يخشَون سارقًا ولا قاطعًا، لا يخشون إلا الله. سيرته في الحج: وقد حجَّ رحمه الله تسع حِجَجٍ أو أكثر، وكان يخطب على راحلته يعِظ الناس ويذكِّرهم، ونادى مرة على ظهر راحلته في نَمِرة وهو مُحْرِم بالحج: (ألَّا يُحمَل في مكة سلاح، ولا تَبَرَّج امرأة بزينة)، وقد جعل رحمه الله في الأسواق رجالًا يحضُّون الناس على الصلاة. عقيدته ونصرته للدين: وقد نصر الله به الدين، فهدم القِباب والمشاهِدَ في مكة وينْبُعَ والمدينة، ومنع المحمل في مكة، والمحمل هودج هرمي يُوضَع فيه كُسْوة للكعبة يحمله جمل ضخم، يُؤتَى به من مصرَ ويشيِّعه عِلْيَةُ الناس وعامتهم في شوارع القاهرة، وتصحبه المزامير والطبول والموسيقى وأغاني الحج، ثم إذا وصل مكةَ يُطاف به ويُسعى، ويُتَنَقَّل به بين المشاعر، ويُوضَع في الحرم فيتبرك به الجُهَّال يرجون نفعه، وصار عندهم من شعائر الإسلام، وكذلك يُفعل به في المدينة، ثم يحتفلون به مرة أخرى عند عودته إلى مصر؛ فلهذه البدع منعه الإمام سعود رحمه الله، وهاجمه لأجل ذلك مَن هاجمه مِن مصر والشام واتهموه بمنع الناس الحج، وما فعل ذلك رحمه الله أبدًا إنما منع المحمل فقط، ولم يمنع الحُجَّاج، وإلا لو كان الأمر كما يدَّعون لَما جاء الحاج المغربي وعاد إلى بلاده في السنة التي تليها، بل وشهد لذلك المؤرخ المصري عبدالرحمن الجبرتي رحمه الله في كتابه (عجائب الآثار). وكان من إصلاحه وعمارته للحرم المكي أنْ مَنَعَ شرب التنباك والنرجيلة بين الصفا والمروة، وقد كانت تُشرَب في ذلك المكان الطاهرِ، ومنع شربها في الأسواق أيضًا رحمه الله. وفاته: توفي رحمه الله في عام 1229ه، قيل: بالسرطان، وقيل: بمرض المثانة، بعد أن تولَّى الإمارة عشر سنين وتسعة أشهر، رحمه الله رحمة واسعة. مصادر الترجمة: • عنوان المجد في تاريخ نجد، لابن بشر. • تاريخ الفاخري. • عجائب الآثار للجبرتي. • الأعلام للزِّرِكْلِي. • علماء نجد خلال ثمانية قرون للبسام. • الانحرافات العقدية والعلمية في القرنين 13 و14 للزهراني. • كناشة النوادر لعبدالسلام هارون.
الاستشراق والقرآن الكريم ترجمة المعاني والانتماء التركيز هنا مخصص لمحاولات فهم القرآن الكريم من أولئك الذين لا ينتمون إليه، ولا يتحدثون لغته العربية، مما أدى إلى قيام محاولات لترجمة معانيه إلى لغاتهم، تعود إلى القرن السادس الهجري (سنة 536هـ)، الثاني عشر الميلادي (سنة 1141م)، حينما بدأ بطرس المحترم الكلوني هذا الجهد، وتولى الترجمة له الراهب الإنجليزي روبرت (روبرتوس كيتينيسيس) الكلوني، وكان هو والراهب الآخر هيرمان الدالماتي اللذان ترجَما النبذة المختصرة ملمِّين باللغة العربية، وكانت هذه الترجمة "تزخر بأخطاء جسيمة، سواء في المعنى أو في المبنى، ولم يكن أمينًا، إذ أغفل ترجمة العديد من المفردات، كما لم يتقيد بأصل السياق، ولم يقم وزنًا لخصوصيات الأدب"؛ كما يقول يوهان فوك [1] . يضيف عبدالرحمن بدوي إليهما كلًّا من روبرت كينت وعربي مسلم يُدعى محمدًا، "ولا يعرف له لقب ولا كنية ولا اسم آخر" [2] ، ويذكر محمد عبدالواحد العسري أن من التراجمة أحد المسلمين المنقلبين عن دينهم الأصلي إلى النصرانية [3] ، كما يذكر محمد عوني عبدالرؤوف "أن أحد المَغاربة من المتفقهين في التفسير والدين كان يمدُّ له يد المساعدة دائمًا" [4] ، ومع هذا فلم تكن هذه الترجمة أمينةً؛ "فقد كانت تعاني من نقص شديد في مواطن كثيرة؛ فهي شرح للقرآن أكثر من كونها ترجمةً، لم يعن بأمانة الترجمة ولا بتركيب الجملة، ولم يُعِرِ البيان القرآني أي الْتفات، بل اجتهد في ترجمة معاني السور وتلخيصها، بصرف النظر عن موضوع الآيات التي تعبِّر عن هذه المعاني بالسورة نفسها" [5] . إلا أنَّ هذه الترجمة لم يتمَّ طبعها إلا بعد أربعمائة سنة من ترجمتها؛ أي: في منتصف القرن العاشر الهجري (سنة 950هـ) منتصف القرن السادس عشر الميلادي (سنة 1543م)؛ حيث طبعت في بازل بسويسرا، والذي دعا إلى هذا التأخير أنه تولد جدل لدى رجال الدين في الكنيسة حول جواز نشر القرآن الكريم بين رعايا الكنيسة ومدى تأثيره على مشروع حماية النصارى من الإسلام [6] ، ثم صدرت الطبعة الثانية منها في بازل بسويسرا كذلك سنة 957هـ / 1550م [7] ، تلاها مباشرة محاولة ترجمة معاني القرآن الكريم إلى اللاتينية، وقام بها جمع من رهبان ريتينا، وقيل: إن هذه الترجمة قد أحرقت [8] . تعاقبت الترجمات مستندة إلى ترجمة روبرتوس الكلوني وعلى أيدي المستشرقين، فقد صدرت أقدم ترجمة إلى الإيطالية سنة 954هـ / 1547م، ثم صدرت عن الترجمة الإيطالية ترجمة ألمانية سنة 1025هـ / 1616م، على يد سالومون شفايجر، وعن الألمانية صدرت ترجمة إلى الهولندية غير معلومة اسم المترجم سنة 1051هـ / 1641م، وكل هذه الترجمات كانت عالةً على ترجمة روبرتوس، حتى ظهرت ترجمة لودفيجو ماراتشي إلى الإيطالية سنة 1110هـ / 1698م، "التي لا سبيل إلى مقارنتها، من حيث صحَّتها، مع أي ترجمة أخرى قبلها" [9] ، ثم إلى الفرنسية؛ حيث ترجمها رير سنة 1647م [10] ، وكلها كانت عالةً على ترجمة روبرتوس الكلوني، حتى ظهرت ترجمة لودفيجو ماراتشي إلى الإيطالية سنة 1110هـ / 1698م، "التي لا سبيل إلى مقارنتها، من حيث صحتها، مع أي ترجمة أخرى قبلها" [11] . توالت بعد ذلك ترجمات معاني القرآن الكريم دون تدخل مباشر بالضرورة من الأديرة والكنائس والمنصِّرين، ولكن بقدر من الإيحاء الذي أملتْه العودة إلى الترجمات السابقة، حتى يأتي جورج سيل سنة 1149هـ / 1734م، الذي وصف لاهتمامه البالغ بالإسلام بأنه "نصف مسلم" [12] ، والذي أثنى على القرآن الكريم وترجم معانيه إلى اللغة الإنجليزية، لكنه نفى أن يكون وحيًا من عند الله، بل أكَّد على أنه من صنع محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم؛ حيث يقول: "أما أن محمدًا كان في الحقيقة مؤلف القرآن المخترع الرئيسي له، فأمر لا يقبل الجدل، وإن كان المرجح - مع ذلك - أن المعاونة التي حصل عليها من غيره في خطته هذه لم تكن معاونةً يسيرة، وهذا واضح في أن مواطنيه لم يتركوا الاعتراض عليه بذلك" [13] . وفي نصٍّ آخر للترجمة ينقله علي علي علي شاهين في كتابه: الإعلام بنقض ما جاء في كتاب مقالة في الإسلام: "ومما لا شك فيه ولا ينبغي أن يختلف فيه اثنان أن محمدًا هو في الحقيقة مصنِّف القرآن وأول واضعيه، وإن كان لا يبعد أن غيره أعانه عليه كما اتهمته العرب، لكنهم لشدة اختلافهم في تعيين الأشخاص الذين زعموا أنهم كانوا يُعينونه وهَتْ حجَّتهم، وعجزوا عن إثبات دعواهم، ولعلَّ ذلك لأن محمدًا كان أشدَّ احتياطًا من أن يترك سبيلًا لكشف الأمر" [14] ، وحيث إن هذه الوقفات لم تعن بالردود المباشرة لهذه الادعاءات والطعون [15] ، فإن الرد هنا يقتصر على الآية الكريمة؛ قال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ ﴾ [النحل: 103]. يقول نجيب العقيقي عن هذه الترجمة: "وقد نجح في ترجمته، فذكرها فولتير في القاموس الفلسفي، وأعيد طبعها مرارًا، إلا أنها اشتملت على شروح وحواش ومقدمة مسهبة، هي في الحقيقة بمثابة مقالة إضافية عن الدين الإسلامي عامة، حشاها بالإفك واللغو والتجريح" [16] ، وجاءت ترجمات معاني القرآن الكريم التالية له في معظمها عالةً عليه متأثِّرة به؛ بحيث نظر الآخرون إلى القرآن الكريم بعد جورج سيل بعينيه، ولم ينظروا إليه بعيونهم. تتعاقب الردود على القول بأن القرآن الكريم من تأليف محمد صلى الله عليه وسلم، فيقول المستشرق شيبس: "يعتقد بعض العلماء أن القرآن كلام محمد، وهذا هو الخطأ المحض، فالقرآن هو كلام الله تعالى الموحى على لسان رسوله محمد، وليس في استطاعة محمد - ذلك الرجل الأمي - في تلك العصور الغابرة أن يأتينا بكلام تحار فيه عقول الحكماء، ويهدي به الناس من الظلمات إلى النور، وربما تعجبون من اعتراف رجل أوروبي بهذه الحقيقة، لا تعجبوا؛ فإني درست القرآن فوجدت فيه تلك المعاني العالية والنظُم المحكمة، وتلك البلاغة التي لم أر مثلها قط، فجملة واحدة تغني عن مؤلفات". [17] وهذه لورا فيشيا فاغليري تقول في كتابها: دفاع عن الإسلام: "كيف يكون هذا الكتاب المعجز من عمل محمد وهو العربي الأمي الذي لم يَنظم طوال حياته غير بيتَين أو ثلاثة أبيات لا ينم منهما عن أدنى موهبة شعريَّة؟ وعلى الرغم أن محمدًا دعا خصوم الإسلام إلى أن يأتوا بكتاب مثل كتابه، أو على الأقل بسورة من مثل سوره؛ قال تعالى: ﴿ وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ [البقرة: 23]، وعلى الرغم من أن أصحاب البلاغة والبيان الساحر كانوا غير قلائل في بلاد العرب، فإن أحدًا لم يتمكن من أن يأتي بأي أثر يضاهي القرآن، لقد قاتلوا النبي بالأسلحة، ولكنهم عجزوا عن مضاهاة السمو القرآني" [18] . كون القرآن الكريم من تأليف رسول الله صلى الله عليه وسلم فرية استشراقية قديمة في إطلاقها، ولكنها أثرت كثيرًا على تأثير القرآن الكريم - دون شكٍّ - على قراء ترجمة المعاني باللغة الإنجليزية، بل إن التأثير قد امتد إلى قراء ترجمة المعاني باللغة الفرنسية، عندما تبنَّى المستشرق البولوني ألبر كازميرسكي (1801 - 1887م) نقل ترجمة المعاني من اللغة الإنجليزية إلى اللغة الفرنسية (سنة 1256هـ / 1840 - 1841م) بالأسلوب الذي ترجمها به جورج سيل؛ حيث "تعوزها بعض الأمانة العلمية"، كما يقول نجيب العقيقي [19] . يقول محمد خليفة حسن: "أدَّت وفرة الترجمات الاستشراقية في اللغات الأوروبية إلى نتيجة سلبية في الدراسات القرآنية عند المستشرقين، وهي أنَّ معظم هذه الدراسات اعتمدت على الترجمات، ولم تعتمد على النص العربي للقرآن الكريم" [20] . على أي حال فالبحث في تأريخ الترجمات، التي قام بها الرهبان ثم الرهبان المستشرقون ثم المستشرقون من غير الرهبان، بحث شائق، وليس هذا مجال التوسُّع فيه، إلا أنه غلب على ترجمات معاني القرآن الكريم، من قبل غير أهله، أنها ترجمات اتسمت بالنظرة السلبية تجاه الوحي، وتجاه من نزل عليه الوحي، سيدنا محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم. هذه النظرة التي قال عنها واحد منهم وهو روم لاندو: "إننا لم نعرف إلى وقت قريب ترجمةً جيدة استطاعت أن تتلقف من روح الوحي، والواقع أن كثيرًا من المترجمين الأوائل لم يعجزوا عن الاحتفاظ بجمال الأصل فحسب، بل كانوا إلى ذلك مُفعَمين بالحقد على الإسلام، إلى درجة جعلت ترجماتهم تنوء بالتحامُل والتغرُّض، ولكن حتى أفضل ترجمة مُمكنة للقرآن في شكل مكتوب لا تستطيع أن تحتفظ بإيقاع السور الموسيقي الآسر على الوجه الذي يرتِّلها به المسلم، ولا يستطيع الغربي أن يدرك شيئًا من روعة كلمات القرآن وقوتها إلا عندما يسمع مقاطع منه مرتلةً بلغته الأصلية" [21] . يعلق مصطفى نصر المسلاتي على هذا النص بقوله: "إن اعتراف روم لاندو R. Landau ليعطي فهمًا مبدئيًّا بأن بعضًا من المستشرقين عندما حاولوا ترجمة القرآن، في أفضل ترجمة مُمكنة، أفقدوا القرآن روعته، وأساؤوا إليه، سواء عن قصد أو عن غير قصد. إننا نشير هنا إلى أنَّ جولدزيهر Goldziher قد تمسك بروايات شاذَّة جاء بها دليلًا وبرهانًا على أن القراءات السبع عندما نشأت كانت أصلًا عن طريق الكتابة وعدم نطقها، وقد علم المسلم - بما لا يدع مجالًا للشك - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قد أقرأ صحابته بعدة وجوه، وليس بوجه واحد" [22] . الوقفات النقدية لرؤى جولدزيهر في القراءات خاصةً من خلال كتابه: مذاهب التفسير الإسلامي كثيرة، يرجع منها إلى مناقشات عبدالفتاح عبدالغني القاضي (رئيس لجنة مراجعة المصحف الشريف الأسبق) في مجلة الأزهر في أعداد متوالية، من العدد 9 المجلد 42 إلى العدد 1 من المجلد 45 (11 / 1390 هـ - 1 / 1393هـ الموافق 1 / 1971م - 2 / 1973م)، ثم جمعها في كتاب بعنوان: القراءات في نظر المستشرقين والمُلحِدين طبع عدة طبعات، لعلَّ آخرها ما صدر عن دار السلام بالقاهرة سنة 1426هـ / 2005م [23] . [1] انظر: يوهان فوك. تاريخ حركة الاستشراق: الدراسات العربية والإسلامية في أوروبَّا حتَّى بداية القرن العشرين، ط 2؛ مرجع سابق، ص18. [2] انظر: عبدالرحمن بدوي. موسوعة المستشرقين، ط 4، بيروت: المؤسَّسة العربية للدراسات والنشر، 2003، ص 441. [3] انظر: محمَّد عبدالواحد العسري. الإسلام في تصوُّرات الاستشراق الإسباني؛ مرجع سابق، ص 122. [4] انظر: عبدالرؤوف، محمَّد عوني. فريدريش ريكرت عاشق الأدب العربي؛ مرجع سابق، ص 67. [5] انظر: عبدالرؤوف، محمَّد عوني. فريدريش ريكرت عاشق الأدب العربي، المرجع السابق، ص 67. [6] انظر: قاسم السامرَّائي. الطباعة العربية في أوروبا، في: ندوة تاريخ الطباعة العربية حتَّى انتهاء القرن التاسع عشر، 28 - 29 جمادى الأولى 1416هـ / 22 - 23 أكتوبر (تشرين الأول) 1995م، أبوظبي: المجمع الثقافي، 1996م، ص 45 - 108. [7] انظر: يوهان فوك. تاريخ حركة الاستشراق؛ مرجع سابق، ص 15 - 20. [8] انظر: عبدالرحمن بدوي. موسوعة المستشرقين؛ مرجع سابق، ص 438 - 445. [9] انظر: يوهان فوك. تاريخ حركة الاستشراق؛ مرجع سابق، ص 20. وانظر: ص 97 - 98. [10] انظر: عبدالرؤوف، محمَّد عوني. فريدريش ريكرت عاشق الأدب العربي؛ مرجع سابق، ص 67. [11] انظر: يوهان فوك. تاريخ حركة الاستشراق؛ مرجع سابق، ص 20. وانظر: ص 97 - 98. [12] انظر: محمود حمدي زقزوق. الاستشراق والخلفية الفكرية للصراع الحضاري، الدوحة: رئاسة المحاكم الشرعية والشؤون الدينية، 1405هـ / 1985م، ص 83، (سلسلة كتاب الأمَّة؛ 5). [13] انظر: إبراهيم اللبَّان. المستشرقون والإسلام، القاهرة: مجلَّة الأزهر، 1390هـ / 1970 م، ص 44، (ملحق مجلَّة الأزهر). [14] انظر: علي علي علي شاهين. الإعلام بنقض ما جاء في كتاب مقالة في الإسلام، القاهرة: المؤلِّف، 1418هـ / 1998م، ص 189. [15] انظر: عبدالمحسن بن زبن المطيري. الطعن في القرآن الكريم، ص 275 - 313، في: مجلة البيان ومبرَّة الأعمال الخيرية بالكويت. مؤتمر تعظيم حرمات الإسلام، الرياض: مجلة البيان، 1428هـ / 2007 م، 809 ص. [16] انظر: نجيب العقيقي: المستشرقون؛ مرجع سابق، 2: 47. [17] انظر: محمد أمين حسن محمد بني عامر. المستشرقون والقرآن الكريم، إربد: دار الأمل، 2004م، ص 223، نقلًا عن محمود أبو الفيض المنوفي الحسيني. سيرة سيِّد المرسلين، القاهرة: دار نهضة مصر، ، ص 18 - 19. [18] انظر: لورافيشيا فاغليري. دفاع عن الإسلام / نقله إلى العربية منير البعلبكي، ط 5، بيروت: دار العلم للملايين، 1981 هـ، ص 57. [19] انظر: نجيب العقيقي: المستشرقون؛ مرجع سابق، 2: 498 - 499. [20] انظر: محمد خليفة حسن. دراسة القرآن الكريم عند المستشرقين في ضوء علم نقد الكتاب المقدَّس، في: ندوة القرآن الكريم في الدراسات الاستشراقية المنعقدة في مجمَّع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف بالمدينة المنوَّرة في المدَّة من 16 - 18 / 10 / 1427هـ الموافق 7 - 9 / 11 / 2006 م؛ مرجع سابق، 66 ص. والنصُّ من ص 45. [21] انظر: روم لاندو. الإسلام والعرب؛ مرجع سابق، ص 36 - 37. [22] انظر: مصطفى نصر المسلاتي. الاستشراق السياسي في النصف الأول من القرن العشرين، طرابلس: اقرأ، 1986م، ص 58. [23] انظر: عبدالفتَّاح عبدالغني القاضي. القراءات في نظر المستشرقين والملحدين، القاهرة: دار السلام، 1426هـ / 2005م، 174 ص.
ملخص الرسالة الأحاديث التي انتقدها أبو علي الجياني في "تقييد المهمل وتمييز المشكل" • الطبعة: الأولى. • صفحات الكتاب: 288. الملخصات: بالعربية : يتكلم هذا البحث عن الأحاديث التي انتقدها الجياني في تقييد المهمل وتمييز المشكل، وتخريجها والكلام عليها، ونقل كلام أهل العلم في ذلك، ويختم الكلام على ذلك بخلاصة، يذكر فيها ما تم التوصل إليه بإيجاز. وقد قدمنا قبل فصل الكلام على الأحاديث المنتقدة، فصلين، الفصل الأول كتمهيد بين يدي الموضوع: تحدثنا فيه على المؤلف، وكتابه. والفصل الثاني خصصناه لدراسة تنظيرية حول إخلاف الحديث بسبب نسخ الكتاب، فتكلمنا على صور الاختلاف، وقرائن ترجيح الأسانيد المختلف فيها بين النسخ، وقرائن تخص الأبواب والمتون. ثم الفصل الثالث -الخاص بالأحاديث المنتقدة-، ورتبناه على صور الخلاف، فالمبحث الأول خاص بالأحاديث التي وقع فيها إبدال وتغيير الرواة، والثاني ما وقع فيه حذف وإثبات الرواة، والثالث ما انتقده في المتن. الكلمات المفتاحية : النقد الحديثي، الجياني، الغساني، تقييد المهمل وتمييز المشكل، اختلاف نسخ الكتاب. فهرس المواضيع مقدمة: .......................... ............ .......................... .................................1 الفصل الأول: أبو علي الجياني، وكتابه "تقييد المهمل وتمييز المشكل" ............................. ..........8 المبحث الأول: أبو علي الغساني، وسيرته .......................... .......................... ......... ....8 المطلب الأول: اسمه ونسبه وحياته .......................... .......................... .................. ..8 المطلب الثاني: حياة الجياني .......................... .......................... ........................... 9 المطلب الثالث: شيوخه في الرواية والعلم، وتلاميذه .......................... ........................... .13 المطلب الرابع: مروياته ومؤلفاته .......................... .......................... ................... ..18 المطلب الخامس: وفاته .......................... .......................... ........................... .27 المطلب السادس: ثناء العلماء على الجياني .......................... .......................... ........ ..28 المبحث الثاني: كتاب "تقييد المهمل وتمييز المشكل" .......................... ............................ 31 المطلب الأول: التعريف بكتاب "تقييد المهمل وتمييز المشكل" ورواته عن المؤلف .................. ........31 المطلب الثاني: ترتيب الكتاب ومنهجه وسبب تأليفه .......................... .......................... .34 المطلب الثالث: موارد المؤلف في "تقييد المهمل وتمييز المشكل".. .............. ...........................40 المطلب الرابع: أثر الكتاب على من جاء بعده .......................... ................................ .51 الفصل الثاني: دراسة تنظيرية في اختلاف الأحاديث بسبب نسخ الكتاب ........................... ..... ..55 المبحث الأول: صور اختلاف النسخ .......................... .......................... .............. .55 المطلب الأول: الاختلافات في السياق العام للكتاب .......................... .......................... .55 المطلب الثاني: الاختلافات الواقعة في الأبواب والتراجم والمعلقات ............ ........................... .57 المطلب الثالث: الاختلافات الواردة في متون الأحاديث .................. ............................... .57 المطلب الرابع: اختلافات في أسانيد الأحاديث وأسماء الرواة .......................... .................. .58 المبحث الثاني: قرائن معرفة الصحيح من النسخ ....................................................... ..69 المطلب الأول: قرائن الأسانيد .............................. .......................... ............... ..69 المطلب الثاني: قرائن المتون والأبواب ............................ .......................... ............. 92 الفصل الثالث: دراسة الأحاديث المنتقدة ............................ .......................... ........ .99 المبحث الأول: الأحاديث المنتقدة بإبدال وتغيير الرواة. ............................ .................... .99 المطلب الأول: ما أبدل صحابيه ............................ .......................... ... .............. .99 المطلب الثاني: ما أبدل فيه أحد رواته (في غير طبقة الصحابي) ............................ ............. .142 المطلب الثالث: ما غيرت فيه نسبة راوه .................. ................................... ......... .188 المبحث الثاني: الأحاديث المنتقدة بحذف وإثبات الروا ه........................ ........................ .200 المطلب الأول: ما وقع سقط في طبقة الصحابة .............. ....................................... . ..200 المطلب الثاني: ما وقع فيه سقط راو في غير طبقة الصحابة .................. ............................ 224 المطلب الثالث: اقتران راو بآخر وإسقاطه (الصحابة وغيرهم) ................................... .... ....236 المبحث الثالث: ما انتقده في المتن (نسبة راوي ورد في المتن ............................ ................. 261 خاتمة: ............................ .......................... ... ............................ .......... 274 الفهارس الفنية ............................ ................. ... ....................................... 276 فهرس الآيات: ............................ .......................... ... ........................... ..276 فهرس الأحاديث: ............................ .......................... ........................ .....277 فهرس الأعلام: ............................ .......................... ............................... .280 فهرس المصادر والمراجع: ............................ .......................... ....................... 287 خاتمة: هذا وما كان فيه من صواب فمن الله وحده، وما كان فيه من خطأ فمن تقصيرنا. ونخلص في نهاية بحثنا، إلى نتائج أهمها: ♦ أن أصل الجياني من عرب اليمن، وولد بالأندلس، وبها ترعرع ولم يخرج منها. ♦ سعة رواية الإمام الجياني، رغم مكثه في الأندلس، واضطراب الأوضاع السياسية فيها. ♦ أصالة كتاب الجياني في أوساط الكتب التي تعتني بالصحيحين والعلل، وتمييز المشكل من الرواة. ♦ الأثر العميق الذي تركه الجياني على من جاء بعده، سواءا في ضبط الصحيحين أو انتقادها. ♦ لا بد للمتعرض للصحيحين للدرس أو الشرح أو الانتقاد من ضبط الرواية للصحيح. ♦ استخدم الجياني عدة قرائن لترجيح نسخ الكتاب: منها الكثرة، والنظر في أسانيد الكتاب الأخرى، خطأ التاريخي في أسماء الرواة وكناهم، ترجيح النسخة الموافقة لمصادر المؤلف، وغيرها. ♦ قوة نقد الحافظ الجياني، واطلاعه على أراء العلماء في نقد الأحاديث، وقد وافق الباحث جل ما نقده الجياني، إلا حديثين فيرى الباحث أن الجياني لم يحالفه الصواب في نقدهما. ♦ انتقادات الجياني على النحو التالي: انتقد على البخاري 4 أحاديث، من بينها حديث أخرجه البخاري وانتقده. وانتقد على مسلم: 13 حديث، من بينها حديث ادعى أن مسلم أصلحها من عند نفسه وخالفه الباحث في وجه نظره ووافقه في النتيجة. وانتقد على النسائي وأبي نعيم الجرجاني وأبي بكر النيسابوري حديثا، وعلى أبي داود حديثا. وحديثا على ابن المديني، وعلى محمد بن سنان، وحديثا على معافى بن سليمان. كما انتقد حديثا على العموم ولم يذكر صاحبه ( يرويه الطبراني وغيره ). تم بفضل الله
ما وقع للنبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد وكان قد تعاهد أربعة من رؤوس الكفر على قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم: عتبة بن أبي وقاص، وأبي بن خلف، وابن قمئة الليثي، وعبدالله بن حميد الأسدي، فأما عتبة فقد رماه بأحجار فكسر رَبَاعِيَتَه، وشق شَفَته، وأما ابن قمئة فقد ضربه بالسيف فجاء في المِغفر، فدخلت إحدى حلقاته في وجنة النبي صلى الله عليه وسلم، وكانت هذه أخطر إصابة؛ حيث سقط منها على ركبتيه فأصيبتا بجروح، وأما أبي بن خلف فشد عليه بحربة وهو على فرسه ويقول: لا نجوت إن نجا، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم حربة من الحارث بن الصمة، وقيل: من الزبير كان قربه، وطلب ممن حوله من الصحابة أن يدَعوه له، ثم انتفض انتفاضة تطايرنا له تطاير الشعر عن ظهر البعير إذا انتفض، فرماه النبي صلى الله عليه وسلم بالحربة، فأتت في عنقه، فتدهده من فوق حصانه مرارًا وهو يصيح من الألم، وقال له أصحابه: لا خوف عليك، إنه خدش، فقال: لقد توعدني محمد وهو في مكة عندما قلت له: إني أعلف العود - اسم فرسه - فرقًا من الذرة أقتلك عليه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((بل أنا أقتلك إن شاء الله)) ؛ فوالله لو بصَق عليَّ لقتلني، ثم مات فيما بعد في وادي رابغ، وقيل: بسرف، وقال عليه الصلاة والسلام: ((أشد الناس عذابًا يوم القيامة مَن يقتل نبيًّا، أو يقتله نبي)) ، وورد أيضًا: ((اشتد غضب الله على مَن قتله رسول الله بيده في سبيل الله)) . وكان عدد من الصحابة قد أحاطوا برسول الله صلى الله عليه وسلم يمنعونه، منهم: أبو دجانة؛ فقد جعل ظهره عرضة لنبال المشركين وهو مكب على رسول الله صلى الله عليه وسلم يقيه منها، وتلقى طلحة بن عبيدالله ضربة بالسيف بيده كانت موجهة نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجلس أمامه سعد بن أبي وقاص يرمي المشركين والنبي صلى الله عليه وسلم يقول له وهو يناوله النبال: ((ارم سعد فداك أبي وأمي)) ، وفقد قتادة بن النعمان عينه، فأتى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فردها له، وكانت أحسن عينيه نظرًا، وقاتل مصعب بن عمير قتال الأبطال وصمد وفي يده اللواء، وتكاثر عليه المشركون فقُتل وفي جسده أكثر من ثمانين طعنة، وكان ابن قمئة هو الذي ضربه أولًا، وكان يظن أنه قتل النبي؛ لذلك أشاع هذا الخبر، فحمَل اللواء علي بن أبي طالب، وقتَل عاصم بن ثابت ابني طلحة مسافعًا وكلابًا، رمى كلًّا منهما بسهم، فحملا إلى أمهما سلافة، فنذرت إن أمكنها الله منه أن تشرب بجمجمته الخمر. وأراد عبدالرحمن بن أبي بكر - وكان مشركًا - أن يبارز، فخرج إليه أبو بكر، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((شم سيفك ، وأمتعنا بك)) ، وقد اهتز إيمان بعض المقاتلين لما نزل بهم، فقد سمع أنس بن النضر بعض المسلمين يقول: لو نكلم ابن سلولَ ليأخذ لنا من القوم أمانًا، وذلك بعد أن أشيع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قُتل، فعنَّفهم، وقال: إن كان محمد قد قتل فإن رب محمد لم يقتل، فقاتلوا على ما قاتل عليه نبيكم، وقال: اللهم إني أعتذر إليك مما يقول هؤلاء، وأبرأ إليك مما جاء به هؤلاء - يعني المشركين - ثم قاتل حتى قتل، وروى أنس: أن عمه أنس بن النضر لم يشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة بدر، فشق عليه ذلك وقال: أول مشهد شهده رسول الله صلى الله عليه وسلم غبت عنه، ولئن أراني الله مشهدًا فيما بعد مع رسول الله ليرين الله ما أصنع، فلما كانت الوقعة في أحد استقبل سعد بن معاذ فقال له أنس: يا أبا عمرو، أين؟ واهًا لريح الجنة أجده دون أحد، فقاتلهم حتى قتل، فوجد في جسده بضع وثمانون من ضربة وطعنة ورمية، فما عرفته أخته إلا من بنانه. ثم إن كعب بن مالك أبصر النبي صلى الله عليه وسلم فنادى بأعلى صوته: يا معشر المسلمين، أبشروا! هذا رسول الله حي لم يقتل، فأشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم أن أنصت، وهنا نهض المسلمون نحو الشعب وصعدوا الجبل، وصعد أبو سفيان وجمع من المشركين الجبل، فرآهم النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ((ما ينبغي لهؤلاء أن يعلونا)) ، فقاتلهم عمرُ وجماعة من المهاجرين حتى أهبطوهم، وأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يعلو الصخرة فلم يستطع، وكان عليه درعان، فسارع طلحة بن عبيدالله فجلس تحته ثم رفعه، ونزع أبو عبيدة حلقة الحديد من وجنة النبي صلى الله عليه وسلم بأسنانه، فسقط له سنان، وجاء علي بماء لكي يرقأ جرح رسول الله في وجنته فلم يرقأ، واستمر النزف، فأتت فاطمة وحرقت حصيرًا وكبست الجرح برمادها، فتوقف النزيف.
اليسع وذو الكفل عليهما السلام نتحدَّث في هذا الفصل عن نبيين كريمين من أنبياء الله تعالى؛ وهما اليسع وذو الكفل عليهما الصلاة والسلام، وقد ذكر الله تبارك وتعالى اليسعَ في كتابه مرتين، فذكره في جملة الأنبياء الذين أعطاهم الله تعالى الحُجَّة على قومهم، وأمرَ رسوله صلى الله عليه وسلم أن يَقتدي بهم، فقال تعالى في سورة الأنعام: ﴿ وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ * وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ ﴾ [الأنعام: 83 - 86]، ثم قال تعالى: ﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ ﴾ [الأنعام: 90]. وذكر اليسع مرة أخرى في جملة الأنبياء الذين أمر رسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم أن يتأسَّى بهم في الصبر على أذى قومه له، فقال تعالى في سورة (ص): ﴿ اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ ﴾ [ص: 17]، وبعد سياق قصة داود قال: ﴿ وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ ﴾ [ص: 30]. وبعد سياق قصته ذكر من كان أشد منهما ابتلاء وهو أيوب عليه السلام، وقال في آخر قصته: ﴿ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ ﴾ [ص: 44]. ثمَّ قال: ﴿ وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ ﴾ [ص: 45]، ثم قال: ﴿ وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيَارِ ﴾ [ص: 48]. واليَسع: اسم يمكن أن يكون عبرانيًّا، ويمكن أن يكون عربيًّا، قال أبو حيان في البحر المحيط في تفسير سورة الأنعام: "وقرأ الجمهور ﴿ وَالْيَسَعَ ﴾ كأن "أل" أُدخلت على مضارع وسع، وقرأ الأخوان - يعني بهما حمزة والكسائي - والليسع على وزن فيعل نحو الضيغم، واختلف في: أهو عربي أم أعجمي، فأما على قراءة الجمهور وقول من قال: إنه عربي فقال: هو مضارع سمِّيَ به ولا ضمير فيه، فأعرب ثم نُكر وعُرف بأل، وقيل: سمي بالفعل كيزيد، ثم أدخلت فيه أل زائدة شذوذًا كاليزيد في قوله: رأيتُ الوليدَ بن اليزيد مُباركًا ولزمت كما لزمته في الآن، ومَن قال: إنَّه أعجمي فقال: زيدت فيه أل ولزمت شذوذًا، وممن نصَّ على زيادة أل في اليسع أبو علي الفارسي، وأما على قراءة الأخوين فزعم أبو علي أن أل فيه كهي في الحارث والعباس؛ لأنهما من أبنية الصفات، لكن دخول أل فيه شذوذ عمَّا عليه الأسماء الأعجمية؛ إذ لم يجئ فيها شيء على هذا الوزن، كما لم يجئ فيها شيء فيه أل للتعريف، وقال أبو عبدالله بن مالك الجياني: ما قارنت أل نقله كالمسمَّى بالنضر أو بالنعمان أو ارتجاله كاليسع، والسموأل فإنَّ الأغلب ثبوت أل فيه، وقد يجوز أن تحذف؛ فعلى هذا لا تكون أل فيه لازمة؛ واتَّضح من قوله أن اليسع ليس منقولًا من فعل كما قال بعضهم؛ اهـ. ثم قال أبو حيان: وهذه الأسماء الأعجمية لا تجرُّ بالكسرة ولا تنوَّن إلا اليسع فإنه يجرُّ بها ولا ينون، وإلا لوطًا فإنه مصروف لخفة بنائه بسكون وسطه وكونه مذكرًا وإن كان فيه ما في إخوته من مانع الصرف وهو العلمية والعجمة الشخصية؛ اهـ. هذا، وكون اليسع هو ابن أخطوب أو ابن العجوز أو كان اسمه الأسباط ابن عدي من ذرية يوسف بن يعقوب عليه السلام، أو هو ابن عم إلياس، وكان مستخفيًا معه بجبل قاسيون، وأنه خلف إلياس في قومه أو كان ببانياس من أرض الشام - فإنَّ هذه الأقوال كلها لا تستند إلى دليل صحيح، وفيما ذكره الله عز وجل عنه في محكم كتابه كفاية، والعلم عند الله عز وجل. أمَّا ذو الكفل، فقد ذكره الله تبارك وتعالى كذلك مرتين في كتابه الكريم، فذكره في سورة الأنبياء في جملة من المرسلين بعد قصة أيوب عليه السلام ليتأسَّى بهم رسولُ الله محمدًا صلى الله عليه وسلم في الصبر على أذى قومه، فقال عز وجل: ﴿ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ * وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ ﴾ [الأنبياء: 85، 86]. كما ذكره الله عز وجل في سورة (ص) بعد قصة أيوب أيضًا حيث قال عز وجل: ﴿ وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ * وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ * وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ * إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ * وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ * وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيَارِ ﴾ [ص: 45 - 48]. وقد زعمَ بعضُ الناس أنَّ ذا الكفل لم يكن نبيًّا، ونسبوا هذا القولَ المردود إلى بعض السلف، معتمدين على أخبار مدسوسة إسرائيليَّة، لم يصح منها خبرٌ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمتبادر مِن سياق القرآن العظيم يثبت أنه من الأنبياء العظام الذين أمر الله رسولَه صلى الله عليه وسلم أن يتأسَّى بهم؛ إذ قرنه في سورة الأنبياء بجملة من عظماء المرسلين، ثم قرنه في سورة (ص) بجملة من هؤلاء السادة المرسلين بعد أن أمر محمدًا صلى الله عليه وسلم بالصبر تأسيًا بهؤلاء، ومنهم ذو الكفل عليه السلام، والقاعدة عند الأصوليين أن الأصلَ وجوب العمل بظاهر اللفظ حتى يرِدَ دليلٌ يصرفه عن هذا الظاهر، ولم يرد دليل صحيح يثبت أن ذا الكفل لم يكن من جملة الأنبياء. أما ما رواه ابن جرير وابن أبي حاتم عن مجاهد بأن اليسع عليه السلام استخلفه بعد أن كبر اليسع واشترط عليه أن يصوم النهارَ ويقوم الليل ولا يغضب، وأنه كان تزدريه العين، وأنه وفَّى بما اشترطه عليه اليسع - فهذا من أساطير بني إسرائيل، وكذلك ما رواه ابن أبي حاتم عن أبي موسى الأشعري بأنه خطب فقال: لم يكن ذو الكفل نبيًّا، فهو خبر في سنده اضطرابٌ، وعليه الشنشنة المعروفة عن بني إسرائيل. فأما الحديث الذي رواه الإمامُ أحمد من طريق أسباط بن محمد، حدثنا الأعمش، عن عبدالله بن عبدالله، عن سعد مولى طلحة، عن ابن عمر أنه سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعَ مرات أو أكثر قال: "كان الكفل من بني إسرائيل لا يتورَّع من ذنب عمله، وأنه جاءته امرأة محتاجة، وأنه أعطاها ستين دينارًا ليقارفها، وأنها بكت عندما جلس منها مجلس الرجل من زوجته، فقام وتاب وأعطاها الدنانير، وأنه مات من ليلته فأصبح مكتوبًا على بابه: قد غفر الله للكفل"؛ وقد رواه الترمذي من حديث الأعمش به، وقال: حسن، وذكر أن بعضهم رواه فوقفه على ابن عمر، فهو كذلك من دسائس بني إسرائيل ضد أنبياء الله ورسله، قال ابن كثير في قصص الأنبياء من البداية والنهاية: "هو حديث غريب جدًّا، وفي إسناده نظر". وإلى الفصل القادم إن شاء الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
العلامة محمد لقمان السلفي رحمه الله شخصية فذة في شبه القارة الهندية إنَّ ولاية بيهار في الهند ولاية خِصْبَة من ناحية، ومن ناحية أخرى فهي مزدحمة بالسكان، قام علماؤها البارعون بالأعمال المذهلة في مختلِف المجالات الدينية والعلمية، والدعوية والتدريسية، والفكرية والسياسية والخيرية، قلما توجد أمثلة لها في تاريخ البشرية. قام بعضهم بالأعمال الدعوية، ومتَّع قلوبَ الناس وأذهانَهم بالخَطابة والمحاضرة والدروس الدينية، وأطْلَعَهم على تعاليم الكتاب والسنة، وبعضهم اختار فنَّ التأليف والترجمة، وصنَّف كُتُبًا نافعة ورائعة في مختلِف العلوم والفنون؛ من الحديث والتفسير والفقه، والتاريخ والأدب والسيرة والأبيات، وغيرها. ومنهم من التفَّت إلى تعليم شباب الأمة الإسلامية، وتثقيفهم، وأسَّس المدارس والمراكز التعليمية؛ حتى يتمكَّنَ الفتية والفتيات من إرواء غَلِيلِهم العلميِّ. ومنهم من كرَّس حياته كلها في مجال التعليم والتدريس، ونفع مئات من طلاب العلم والأدب، بعلومه الغزيرة، ومهاراته الواسعة، وعلى رأسهم: العلامة السيد نذير حسين محدث الدهلوي، والشيخ شمس الحق عظيم آبادي، والشيخ عبد العزيز رحيم آبادي، والشيخ إبراهيم الأروي، والعلامة السيد سليمان الندوي، والشيخ صديق حسن البيهاري، والشيخ شمس الحق السلفي، والشيخ عين الحق السلفي، وأستاذي المكرم الجليل شيخ الحديث أمان الله الفیضي، وغيرهم. هؤلاء العلماء البارزون كانوا ينتمون إلى ولاية بيهار، يعترف العالم بخدماتهم المتنوعة، ومن هذه السلاسل المهمة المباركة الدكتور لقمان السلفي؛ الذي كان ينتمي إلى قرية معروفة؛ ألا وهي "جندنبارة"، الواقعة في ولاية بيهار. وقد كان الدكتور محمد لقمان السلفي رحمه الله بحرًا زاخرًا في العلم والأدب، ورائدًا للأمة الإسلامية، وقائدًا كبيرًا لجماعة أهل الحديث في شبه القارة الهندية وغيرها، ونجمًا ساطعًا في الخطابة والصحافة، ومفسرًا فريدًا للقرآن الكريم، وخادمًا عظيمًا للأحاديث النبوية، وفقيهًا بارعًا لأهل السنة والجماعة، ومشرفًا جليلًا على جامعة الإمام ابن تيمية وأقسامها المتنوعة، الكائنة في الهند. إن خِدْمَاتِه العلميةَ والخيرية والدينية والاجتماعية هي صورةٌ مصدِّقة لصفاته المتنوعة، ومهاراته الأكاديمية والفكرية والإدارية ، ومن يقرأ كُتُبَه القَيِّمَة؛ مثل: (تيسير الرحمن لبيان القرآن) في التفسير، و(الصادق الأمين) في السيرة النبوية، و(السعي الحثيث إلى فقه أهل الحديث)، و(اهتمام المحدثين بنقد الحديث سندًا ومتنًا)، و(السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي)، و(هَدْي الثَّقَلين)، و(تحفة الكرام شرح بلوغ المرام)، و(رش البرد شرح الأدب المفرد) في الحديث النبوي الشريف، و(السلسلة الذهبية للقراءة العربية) في المناهج الدراسية لطلاب المدارس العربية، و(كاروان حياة) الشامل لجميع جوانب حياته العلمية والدعوية، وذكر محاسن الأعلام من مشايخه وزملائه وأصحابه، و(رحلة مريم جميلة الأمريكية من الكفر إلى الإسلام) في الأدب العربي والترجمة وغيرها - سيعترف حقًّا بمؤهلاته العلمية والفقهية، والفكرية والأدبية ، وهكذا جامعة الإمام ابن تيمية، وكلية خديجة الكبرى لتعليم البنات، ومدرسة الدكتور محمد لقمان السلفي، ومركز العلامة ابن باز للدراسات الإسلامية، ودار الداعي للنشر والتوزيع بالرياض - أمثلة رائعة لمساعيه الخيرية والتعليمية والاجتماعية، و من يزُر تلك المراكزَ التعليمية والدعوية، فسيُثني عليه، ويرفع يده للدعاء له، ويشهد لإخلاصه وأمانته وصدقه. ومثلما كان فضيلته متحليًا بالأخلاق الفاضلة، والمواهب المختلفة، كان حريصًا أن يرى خريجي جامعة الإمام ابن تيمية مزوَّدين بالعلم والأدب، وكان يحلم دائمًا بأن ينجح أبناء الجامعة في كل مجال من مجالات الحياة، أينما عاشوا، يعرفوا أنفسهم بما أودع الله عز وجل من الكفاءة، ويثبتوا مكانهم في شتى المجالات العلمية والأدبية والدعوية. بذل العلَّامة جهودًا جبَّارة لنُصرة الدين الحنيف، والشريعة الغرَّاء، ومُؤازَرةِ منهج السلف الصالح، وقد اختار لتعليم أبناء المسلمين وتثقيفهم مشايخَ بارعين في الفن والأدب، وأعطى لهم الرواتب العالية، ومنحهم كل أنواع التسهيلات؛ لكيلا يقصروا في تدريس الطلاب علومَ الكتاب والسنة. ومن أبرز هؤلاء المشايخ: أستاذنا الكريم، الشاعر العظيم، والعالم الجليل، الشيخ كفاية الله كيفي رحمه الله، والداعي المتحمس، والخطيب الماهر، الشيخ خورشيد عالم المدني، وصاحب المؤلفات النافعة، الأستاذ أرشد فهيم المدني، والأديب البارع، أستاذي الكريم أبو القيس المدني، وأستاذي الجليل الشيخ ذكاء الله المدني، وأستاذي المثالي الشيخ رحمت الله السلفي، حفِظهم الله ورعاهم. وانتهز طلاب الجامعة هذه الفرصةَ، فاستفادوا كثيرًا جدًّا منهم، واتبعوا إرشادات المشايخ وتوجيهاتهم القَيِّمة في سبيل تعزيز كفاءاتهم الأدبية، ومارسوا كتابة المقالات الدعوية والأدبية، وتدرَّبوا على فنِّ الخطابة والبيان، حتى أصبح بعضهم شاعرًا، وبعضهم خطيبًا وأديبًا. ليس هذا فقط، بل كلَّف العلَّامةُ الأساتذةَ المأمورين على التدريس من الثانوية إلى الفضيلة بالتعليم في اللغة العربية؛ لأجل تحقيق الإتقان الكامل للغة العربية في طلاب الجامعة. وهكذا ألزم فضيلته الطلاب بإجراء الحوار والمحادثة باللغة العربية في الفصول الدراسية وبين زملائهم، كما أن فضيلته رحمه الله أسَّس مكتبة عظيمة رائعة، محتوية على كُتُبٍ قَيِّمَةٍ من العلوم المختلفة في رحاب الجامعة؛ لأجل إرواء الغليل العلمي، وتعبئة العقل والمخ بالمعلومات الخارجية، وعند رؤية هذه المكتبة تتجدد ذكرى مكتبة بغداد الْمُسجَّلة في التاريخ الإسلامي. الحُلُم الذي حَلَمَ به الدكتور تجاه أبنائه قد حقَّقه أبناء الجامعة في حياته المباركة، فلله الحمد والمنة، ونحمد الله عز وجل على أنه وفَّق التَّيمِيِّين للقيام بأمور الجامعة بطريق حسن في العصر الراهن، اليوم صارت لكل منهم هُوِيَّةٌ فريدة في شبه القارة الهندية والعالم العربي، نعم، هذا غيض من فيض أعماله الجليلة، وهناك كثير لا يتسع المكان لذكره. أيها التيميون، تعالَوا نتعهد ألَّا نخيب آماله، ونمد أيدينا بالتعاون والمؤازرة لازدهار الجامعة ورُقِّيها. اللهم اغفر له وارحمه، وأسكنه فسيح جناتك، واجعل ابنه الدكتور عبدالله محمد لقمان السلفي وابن أخيه عبدالرحمن التيمي، وارثًا صادقًا له، واجعل لخدماته المتنوعة ومؤلفاته المفيدة قبولًا حسنًا.
أثر الوسط الفاسد في إلحاد عبد الله القصيمي بيئة الإلحاد : الإنسان يتأثر بالوسط الذي يعيش فيه؛ ولذلك فإن المفاهيم التي تُغرَس في نفوسنا ونحن صغار يصعُبُ تغييرها بعد ذلك؛ ولذلك يقول مالكولم دنكان وينسر الابن: "والفرد منا يتأثر في كل ذلك بطريقة تنشئته، بل إنه كثيرًا ما يكون ضحية لها، وكثير من الأطفال الذين ينشؤون على الأخذ بمعتقدات معينة، يظلون متمسكين بها طوال حياتهم، فإذا نشؤوا في مجتمع ملحِدٍ، صاروا ملحدين، واذا نشؤوا في مجتمع ديني، أصبحوا مؤمنين، وهكذا" [1] ، فهذا السبب يُعَدُّ من أقوى أسباب الإلحاد وأهمها؛ لأن الإنسان ابن بيئته، وإن شيوع الموجة الإلحادية في وسط ما، مع عدم رسوخ المرء في الإيمان يجعله - مع كثرة هبوب رياح الشُّبُهات - عُرْضَةً للوقوع فريسةً لها، وفي قصة عبدالله القصيمي دليل على أن النشأة الأولى كما أن لها دورًا في تشكيل عقيدة الإنسان، فإنَّ لزَيف الوسط المحيط وبَهْرَجَتِه وبريقه أثرًا أعمقَ في اقتلاع جذور هذه العقيدة، إذا توافرت أسباب ذلك. فإن من أكثر دوافع الإلحاد تأثيرًا في الواقع، أن يكون هناك وسطٌ اجتماعيٌّ حاضن له، وبيئة ثقافية داعمة له، وحقوق قانونية تحميه؛ لذلك نجد أعداد الملحدين في الدول الأوروبية، والصين، تفوق الأعداد التي في دول تدعم القضية الإيمانية؛ مثل الولايات المتحدة الأمريكية والدول الإسلامية، والسبب هو المحيط الخارجي الذي يدعم الإلحاد، فيفسح له مساحة من الحرية في الظهور والممارسة، فمن ثَمَّ يتكرس ظَرْفه على أنه حالة اعتيادية مستقرة، في نفسية الملحد، وكذلك في نفسية من يتأرجح أمره بين الشك واليقين، بينما لا يكون الأمر على هذا النحو مطلقًا في مجتمع يحظُرُ الإلحاد، ويشجُبه، فالذي يزيد من عناد الملحدين هو مقابلة إلحادهم بالودِّ، ومن ثَمَّ تتكاثر أعدادهم في الدول التي تسمح بذلك، لذلك فإن نسبة الإلحاد في فرنسا في الفترة من 1999م إلى 2004 هي من 43% إلى 54% من السكان، بينما هي في الولايات المتحدة في نفس الفترة من 5% إلى 9% [2] ، والسبب أن المجتمع الأمريكي لا يحبذ الإلحاد، ولا تفسح له السلطات هناك المجال [3] . فحين يلحد فردٌ ما تحت وطأة ظرف من الظروف، ولا يجد من يشجعه على ذلك ولا من يمنحه حرية الاستمرار عليه، فإنه لا شكَّ سيفكر في تغيير موقفه، وتصحيح قناعاته، أما إذا وقف المجتمع حيال الملحد موقفَ الحامي لاختياره، والمدافع عنه، أو موقف المحايد، الذي لا يبالي بمن ألحد كما لا يبالي بمن آمن، فإن هذه وتلك يمثِّلان البيئة التي يترعرع فيها وباءُ الإلحاد، ويعظُم فيها انتشاره. نشأة عبدالله القصيمي : عبدالله بن علي النجدي القصيمي، هذا الرجل اللغز، المولود في قرية من قرى القصيم بنجد، في 1907م على الراجح، لقد نشأ نشأة قاسية في ظروف فقيرة للغاية، وعندما كان في الرابعة من عمره، انفصل أبوه عن أمه، فتزوجت أمه برجل آخر انتقلت معه إلى قرية مجاورة، وذهب أبوه ليتاجر باللؤلؤ في الشارقة، أما الصغير عبدالله، فقد بقِيَ مع جَدِّه لأمه الذي كان شديد الفقر، حتى إنه تركه وهو ابن خمس سنين يعمل في سوق المواشي وفي الزراعة، تحدَّث هو عن هذه المرحلة من عمره، بحسب يورغن فازلا، في رسالته للدكتوراه التي أعدها عنه، فقال: "كل ما أعيه عن الأيام الأولى لهذه الطفولة أنني وُجِدت مع جدي لأمي ... الذي كان القحط الإنساني، والقحط الطبيعي، وكوارث أخرى قد امتصت منه كل شيء ... أجَّرْت نفسي بلا أجر، نعم بلا أجر، أعمل في سوق المواشي، وفي الزراعة وجني النباتات البرية الصحراوية الطبيعية القليلة جدًّا في هذه البيئة ... كان من العدوان على البشر، ومن التحقير لهم أن يسمَّى القوم الذين كنت أعمل لهم وعندهم بلا أجر بشرًا، مع أن كل حديثهم عن الجنة والنار والدين، والإيمان والتقوى، وعن الخوف من الله العادل المنتقم، الرحمن الرحيم، الرؤوف الجبار" [4] . لقد ظل عبدالله القصيمي في هذه الظروف الصعبة في نجد حتى سن العاشرة، ثم إنه هرب إلى أبيه في الشارقة؛ حيث كان أبوه من التجار الوسطاء، الذين يشترون اللؤلؤ من سفن الغوص، ثم يصدرونه إلى الهند، وهو مع ذلك العمل الموسمي كان أيضًا واعظًا، سلفيًّا، وكانت حياته تقوم على أسلوب الصرامة والتقشف، ومن ثَمَّ فقد فرض على ابنه حين هرب إليه تلك الحياةَ؛ يقول وهو يصف صدمته من أبيه الذي لم يعامله بحب وحنان: "وصلت إلى حيث يقيم والدي ولأول مرة رأيت ولقيت وجربت الأبوة ... كانت صدمة قاسية لأكثر وأبعد من كل حساب ... لقد وجدته متدينًا متعصبًا بلا حدود، لقد حوَّله الدين والتدين إلى فظاظة، أو حوَّل هو الدين والتدين إلى فظاظة ... ومنذ بداية تلاقينا راح يقسو عليَّ قسوة يصعُب وصفها، بل يُهاب ويُرهَب وصفها، بزعم أنه يريد أن يجمع كل العلوم التي يعرفها أو يتصورها أو يسمع بها، وكل أخلاق السلوك المهذَّب الذي يراه كل الكمال، أن يجمع كل ذلك في لقمة واحدة لأبتلعها مرة واحدة بلا تذوق أو مضغ" [5] ، ومع أنه يصف أباه بكل هذه الأوصاف البشعة، لكنه يقول إنه كان يعاني من مرض عضال منذ تلاقيهما وحتى وفاته، بعد ذلك بأعوام قليلة. لقد انكبَّ على الدراسة بعد وفاة والده، ولقِيَ رجلًا سخيًا كان يكبره في السن يُقال له عبدالعزيز بن راشد، أثَّر فيه عبدالله، فقرر بن راشد أن يصحب عبدالله في رحلته لطلب العلم، فأقاما في العراق بضعة أشهر، بمدرسة الشيخ محمد أمين الشنقيطي، ثم رحلا إلى دلهي والتحقا بالمدرسة الرحمانية، لمدة عامين، وكان قد وصف هذه المدرسة في وقت لاحق بأنها قليلة الشأن ورجعية، كان جميع مدرسيها من الهنود، يُلقون دروسهم بالعربية، ثم غادرا إلى القاهرة، لكي يلتحقا بجامعة الأزهر. بين المطرقة والسندان : قدِم القصيمي إلى القاهرة سنة 1927م، وكان الأزهر في ذلك الوقت يتعرض لهجمة شرسة على مناهجه، ويعاني صراعات بين مشايخه، الأمر الذي تأثر به عبدالله القصيمي، بل إنه تأثر بالحياة الثقافية التي كانت تموج بتيارات تغريبية عاتية في مصر في تلك الفترة، ففي عام 1925 أصدر علي عبدالرازق كتابه المشؤوم "الإسلام وأصول الحكم"، وفي عام 1926 أصدر طه حسين كتابه "في الشعر الجاهلي"، وبدأ دور الأزهر يَتَضَعْضَعُ حين وضع رئيس الوزراء سعد زغلول سنة 1925م الإدارة المالية للأزهر تحت رقابة وزارة المالية ووزارة الأوقاف، وأعطيت وزارة المعارف نفوذًا كبيرًا على إدارته، وشغل الوظائف القيادية فيه. وفي عام 1931م صدر أول كتاب للقصيمي بعنوان: "البروق النجدية في اكتساح الظلمات الدجوية"، كان قد سلك في تأليفه مسلك الرد العلمي على شيخ صوفي من كبار شيوخ الأزهر اسمه يوسف الدجوي، وكان شيخ الأزهر عند ذلك هو الشيخ محمد الأحمدي الظواهري، وهو أيضًا صوفي، ومن ثَمَّ صدر القرار بفصل الطالب عبدالله القصيمي من الأزهر في نفس عام صدور الكتاب، وكردِّ فعلٍ لذلك؛ قام بتأليف كتابين آخرَين عن ذات الموضوع، تعرض فيهما لشيوخ الأزهر بشكل أكثر جرأة، وعرض فيهما العقيدة السلفية بقوة، لقد بدا في كتابات هذه المرحلة من حياة عبدالله القصيمي أنه سلفي بقوة، ولقد كان من أبرز مؤيديه في هذه المرحلة الشيخ رشيد رضا [6] . ولقد كان مهمومًا بحال أمته، ففي عام 1946م أهدى كتابه: "هذه هي الأغلال" إلى الملك عبدالعزيز بن سعود؛ حيث ظل إلى ذلك التاريخ يعتَبِرُ أن التصوف وتقديس الأموات والقبور والمعتقدات الخرافية مسؤولةٌ عن انحطاط العالم الإسلامي، لكنه في ذات الكتاب، طالب بتحرر الفرد من التصورات الدينية التي تعيق تفتُّح شخصيته، مما جعله قريبًا في طرحه من العلمانية، فمهَّد بذلك إلى انقلابه على السلفية، ثم على الإسلام كله بعد ذلك، وقد بدا ذلك واضحًا في كتابه: "كيف ذل المسلمون؟" الذي صدر في 1940م، وقد قال فيه عن الشعوب الغربية: "هذه الشعوب لم تبلغ ما بلغته في هذه الناحية القوية البارزة - الصناعات، والاختراعات، والعلوم، والآداب - إلا بعد أن عزلت الدين جانبًا عن كل ضروب حياتها الاجتماعية والفردية" [7] . وقد كان لصدور كتابه "هذه هي الأغلال" أصداء متباينة لدى المجتمع الإسلامي، وقد اعتبره الكثيرون هجومًا على القيم الجوهرية للإسلام؛ حيث قابَلَ بين الدين والنجاح المادي، مما فُهم على أنه دعوة إلى الابتعاد عن الدين، الأمر الذي حدا بشيخ المشايخ محمد بن إبراهيم بالمملكة العربية السعودية، إلى الدعوة بغسل العار، وأهدر دمه [8] . لقد بدأ منذ ذلك التاريخ في الانزواء، لكنه لم يتخلَّ عن أفكاره، بل تمادى، واقترب من الإلحاد خطوة فخطوة، بمؤلفاته منذ العام 1963م، وكان قد طُرِد من مصر، وعاش في لبنان، وهو يعتبر في هذه المرحلة من تاريخه أن العقيدة الدينية لأي إنسان ما هي إلا استجابة نفسية ذاتية، فالعقيدة ليست سوى عملية شعورية، فهو يقول في كتابه (فرعون يكتب سفر الخروج): "إن جميع العبادات والصلوات ليست إلا أحاديثَ إلى الذات ومع الذات بلغات قديمة ... إن جميع أحاديث البشر عن الآلهة والمذاهب والمعتقدات ليست إلا أحاديث عن الذات، وعن الضرورات، بلغة ليست صادقة، ولا ذكية، ولا مدروسة" [9] . بهذه الكلمات التي لا توريةَ فيها، وقع القصيمي في مستنقع الإلحاد، حين اعتبر أن الإيمان والعبادة مجرد عملية نفسية، تقوم بها النفس لحسابها، وليس لله. ولا يزال الرجل يسبح في غياهب الإلحاد، وظلمات الضلال، في مؤلفاته: (الكون يحاكم الإله)، و(يكذبون كي يَرَوا الإله جميلًا)، وغيرهما. أسباب إلحاد القصيمي : لقد درس ذلك الرجل الإسلامَ، وكان معدودًا من رجاله، ثم هو ينقلب على كل الأديان، لا شكَّ أن لهذا الانقلاب أسبابًا يظهر الكثير منها في سيرته، سيما في تلك المدة التي قضاها في القاهرة، في حقبة تاريخية عصيبة، كانت العلمانية تطل فيها برأسها على الأمة بقوة، تلك الفترة التي ماجت بالصراعات الدينية، والهزيمة النفسية على المستويين الشخصي والعام، والتي واكبت صدور كُتُبِهِ التي صرَّح فيها بوجوب تنحية الدين، ثم بالإلحاد. إن تاريخ القصيمي يؤكِّد بحسب ما سبق، أنه قد تعرَّض على مدى تاريخه، إلى ضغوطات، أفقدته في نهاية المطاف اتزانه، فجميع مقولاته عن الدين والتدين، ليست سوى آراء عارية عن الدليل، ليس فيها سوى عرض للأفكار بأسلوب خطابي، وحسب. هذه الحقيقة أكد عليها يورغن فازيلا، فذكر أن مؤلفات القصيمي بعيدة كل البعد عن أن تكون نظامًا فلسفيًّا مترابطًا ومُحكَمًا، وأن كتبه ليست سوى تكرار لنفس الأفكار، وأنه يتبع أسلوب اللف والدوران على صعيد الموضوع والمضمون والأسلوب، وأنه يُطْنِبُ في عرض أفكاره، دون أن تكون لديه المقدرة على صياغة النص المطوَّل المتصل، فهو كثيرًا ما يخرج عن الموضوع، ثم يعود إليه بعد عدة صفحات [10] . نفس ضعيفة ووسط فاسد : إذا أردنا أن نعزوَ إلحاده إلى سبب رئيس جامع؛ فهو: الوسط الفاسد، الذي عاشه واختلط به في القاهرة؛ حيث تقلَّب بين التيارات مثل الريشة التي لا وزنَ لها، إضافة إلى نفسه الضعيفة التي جعلته يتأثر بما تموج به الحياة الثقافية والدينية، في مصر والعالم الإسلامي، على إثر سقوط الخلافة من اضطرابات، كانت فيها مبالغات في جَلْدِ الذات، إلى حد التنكر للعقيدة وتعاليم الدين، تحت غطاء الهجوم على التراث، إن إلحاد القصيمي هو نبتٌ لتلك البذرة الخبيثة التي بذرها طه حسين، وعلي عبدالرازق، ومحمد حسين هيكل، وغيرهم ممن رفعوا في ذلك الوقت لواء الهجوم على الدين، بحجة إصلاحه، وأرجعوا تخلف الأمة إلى دينها، بُغْيَةَ إنشاء جيل من أمثال هذا القصيمي. إضافة إلى ذلك نفسه الضعيفة بطبيعة الحال، التي جعلته يتأثر إلى ذلك الحد من الرفض، حين فُصل من الأزهر، ثم حين أهدر شيخُ المشايخ محمدُ بن إبراهيم دمَه. ولكن لا يغيب عن المستقصي للحقيقة أن أسباب إلحاده على التفصيل تعود في العمق إلى: 1- طفولة معذَّبة، مشرَّدة، أثمرت نفسًا مضطربة، رافضة لكل شيء. 2- واقع إسلامي بائس، مهزوم. 3- قوة النزعة العلمانية وسطوتها على الحياة الثقافية والدينية في ذلك العصر. 4- قسوة ردود الأفعال حيال صدور كُتبه الأولى، من قِبل المؤسسات الدينية. 5- انغماسه في الأجواء العلمانية، مع وَلَعِهِ بالظهور، على إثر امتلاكه لموهبة الكتابة. لقد نفخ فيه كل ذلك مجتَمِعًا روحَ الإلحاد، وقد كان صاحبَ أسلوب، يطمح أن يكون لامعًا كأمثال أبناء ذلك العصر من الكُتَّاب؛ أحمد لطفي السيد، سلامة موسى، طه حسين، وغيرهم، ولقد قرُب من خط هؤلاء في محاربة الدين شيئًا فشيئًا، لكنه جاوزهم، وفاقهم، فبينما هم وقفوا عند حدود علمانية الدولة، تجاوز هو ذلك إلى الإلحاد الكامل. إذًا عبدالله القصيمي مع تحمله الكامل لمسؤولية إلحاده، لكنه أيضًا جاء كردِّ فعل لعديد من المؤثرات الخارجية؛ أبرزها تأثُّره بتيار العلمانية الطاغي في تلك المرحلة، وانخراطه في ذلك الوسط الفاسد الذي سَهَّلَ عليه الاستجابة للاستفزاز المضاد لِما صدر حياله من قرارات قاسية من المؤسسات الدينية، فلم يصدُرْ إلحاده عن قناعات عقلية، ولا مواقف راسخة، والدليل على ذلك: • أن مقولاته الإلحادية كلها مجرد أقوال مشحونة بقدر هائل من الحقد، عارية عن الدليل. • وكذلك تلك الحالة التي مات عليها. فقد ذكر جاره وأحد المقربين إليه إبراهيم عبدالرحمن، أن آخر ما كان عليه القصيمي حين اشتد عليه المرض ونُقل إلى المستشفى، هو قراءة القرآن، وعدم الحديث مع أحد [11] . [1] الله يتجلى في عصر العلم، مقالة: (صحة الدين)، مالكولم دنكان وينسر الابن، ص117 . [2] تقرير مركز نماء للبحوث والدراسات، في 17 / 7 / 2012م، بعنوان: الإلحاد في المجتمعات العربية والغربية، http: / / nama-center.com / ActivitieDatials.aspx?id=101 . [3] في الولايات المتحدة يقول بعض الملحدين إنهم تعرضوا للتمييز؛ وذلك بسبب أن سبع ولايات تحمل في دستورها ملامحَ دينيةً، وحتى في شعارات الولايات المتحدة وغيرها، كما أنه لا يُقبَل بالملحدين في الكشافة، وهناك ممارسات دينية وصلواتية في عدد كبير من المدارس، وكذلك قد حمل بعض رؤساء الولايات المتحدة تمييزًا ضد الملحدين مثل جورج بوش، وذلك عندما سأله أحد الصحفيين عن حقوق الملحدين أجابه: لا أعتقد أن الملحدين يجب أن يكونوا مواطنين ... إننا أمة واحدة تحت الله؛ [المصدر: التمييز ضد الملحدين، موسوعة ويكيبيديا على الشبكة العنكبوتية]. [4] عبدالله القصيمي، التمرد على السلفية، يورغن فازلا، ترجمة: محمود كبيبو، دار جداول، بيروت، ص23، وما بعدها بتصرف. [5] التمرد على السلفية، ص27. [6] التمرد على السلفية، ص45، بتصرف. [7] المرجع السابق، ص70. [8] المرجع السابق، ص171. [9] فرعون يكتب سفر الخروج، ص 220. [10] التمرد على السلفية، ص144. [11] صديق الكاتب السعودي عبدالله القصيمي يفتح خزائن أسراره، موقع العربية نت، في 27/ 12/ 1437هـ، 30/ 9/ 2016م. http: / / www.alarabiya.net / ar / saudi-today / 2016 / 09 / 30 .
الاستشراق والقرآن الكريم [1] التمهيد: نقل المعلومة الشرعية: من وسائل نشر المعلومة الشرعية نقلها لغويًّا من اللغة العربية إلى لغات أخرى يتحدثها من لا يتحدثون العربية من المنتمين للإسلام ومن غير المنتمين إلى الإسلام، وتُسمى هذه الوسيلة بالنقل والترجمة [2] ، وأول ما يتبادر إلى الذهن في مسألة ترجمة المعلومة الشرعية نقل القرآن الكريم من اللغة العربية إلى اللغات الأخرى [3] ، ولكن القرآن الكريم كلام الله تعالى، المنَّزل من عنده بواسطة جبريل عليه السلام إلى محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم النبي الأمي. كلام الخالق تعالى مُعجز لا يرقى إليه كلام المخلوقين؛ من حيث الصياغة والمعنى والمدلول والديمومة، وفيه كلمات لا مقابل لها في اللغات الأخرى، ولا تتهيَّأ ترجمته إلى أي لغة أخرى ترجمةً حرفية، وهي غير ميسورة مهما قامت المحاولات قديمًا وحديثًا، ولذا كانت هناك محاولات للتعامل مع هذه الاستحالة بتفسير القرآن الكريم بلغات أخرى، كما اصطلحَ المسلمون على محاولات الترجمة خروجًا من هذا الحرج بأنها تعامل مع المعنى [4] . تعالج هذه الصفحات الآتية في هذا الفصل الثالث من نقد الفكر الاستشراقي موقف بعض المستشرقين من المعلومة الشرعية، مع التركيز على نقد جهود المستشرقين في التعاطي مع القرآن الكريم بصفته وحيًا معجزًا منزلًا على رسول الله سيدنا محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم؛ بما في ذلك نقد جهود هؤلاء المستشرقين في ترجمة معاني القرآن الكريم إلى اللغات الأوروبية، ونظرة المستشرق للبُعد الإعجازي في القرآن الكريم، بالمفهوم الأشمل للإعجاز الذي يتخطى مجرد الإعجاز في الجوانب العلمية البحتة أو التطبيقية. الاستشراق وترجمة معاني القرآن الكريم: منذ أن ختَم الله تعالى الأديان كلها بالإسلام، وختم الأنبياء والرسل كلهم بمحمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم، وختم الكتب السماوية كلها بالقرآن الكريم، وهذا الكتاب المنزل هو محطُّ اهتمام المسلمين وغير المسلمين بالتفسير والتحليل والسعي إلى فهمه وتمثله من المسلمين، والوقوف على أسرار تأثيره في النفوس مِن غير المسلمين. يَعترف المستشرق الفرنسي المعاصِر جاك بيرك أن محاولتَه ترجمة معاني القرآن الكريم "ليست غير محاولة لتفسير معاني القرآن الكريم؛ لأن الترجمة الحقيقية للنص القرآني مستحيلة، فألفاظ وعبارات القرآن الكريم لها مدلولات ومؤشرات عميقة، ولا تستطيع اللغة (القابلة) أن تنقلها بكل ما تحتويه من معانٍ ظاهرة وخافية" [5] . وفي هذا الأمر جدال سابق بين علماء المسلمين من أمثال أبي حنيفة ومالك بن أنس وابن حزم والغزالي والزركشي والسيوطي وابن تيمية والزرقاني والحجوي ومشيخة الأزهر الشريف [6] ، يرجع هذا الجدال إلى ما قبل فكرة الترجمة، من حيث التأويل والتفسير، وبيان معناه للعامة، والنظر إلى المعاني الأصلية والمعاني التابعة الخادِمة، كما يقول الشاطبي (ت: 790هـ / 1388م) في كتابه: الموافقات في أصول الأحكام [7] . لهذه المواقف، وتقديرًا لكلام الله تعالى، اصطلح المسلمون على أن يُطلقوا على عملية نقل القرآن الكريم وترجمته من اللغة العربية إلى أي لغة أخرى ترجمة معاني القرآن الكريم [8] ، ويتحرَّج المسلم العالم من إطلاق الترجمة على القرآن الكريم دون أن تكون مقيَّدةً بترجمة المعنى [9] . كان هذا مخرجًا حفظ للقرآن الكريم مكانته بلغته العربية، ودفع كثيرين إلى تعلم اللغة العربية، ليستطيعوا تذوُّق القرآن الكريم باللغة التي نزل بها، كما أنه كان مخرجًا لتعدُّد ترجمات المعاني في اللغة الواحدة على أيدي أبنائها وغير أبنائها، بل ربما تعدَّدت ترجمة المعاني باللغة الواحدة على يد مُترجم واحد؛ حيث يتبيَّن له دائمًا التقصير الذي يعتريه، مع كل ترجمة للمعاني، وهذا من طبع البشر [10] . يقول عبدالله بن عبدالمحسن التركي في مقدمته للتفسير الميسر: "كان غير العرب - بمجرَّد دُخولهم في الإسلام - يتعلمون لغة العرب، ليقرؤوا القرآن ويفهموه ويعملوا به، وحينما انحسر المد الإسلامي، وضعف المسلمون، وقلَّ الاهتمام بالعلوم الإسلامية ولغتها العربية ظهرت الحاجة إلى ترجمة معاني كتاب الله لمن لا يتكلَّم اللغة العربية ولا يَفهمها؛ إسهامًا في تبليغ رسالة الإسلام للناس كافة ودعوةً لهم إلى هدْي الله وصراطه المستقيم. وتعدَّدت الترجمات، ودخل في الميدان مَن ليس أهلًا له، بل قام بذلك أناس من غير المسلمين، مما جعل الحاجة ملحةً إلى أن يعتني المسلمون بتوفير ترجمات صحيحة لمعاني كتاب الله، وبيان ما في بعض الترجمات من أخطاء وافتراء ودسٍّ على كتاب الله الكريم، ورسالة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم [11] . الاهتمام بالقرآن الكريم مِن قبل الغربيِّين أدى إلى ترجمتهم لمعانيه إلى لغاتهم، وهم غربيون بمفهوم أنهم غير مسلمين، ومن العجيب أن ترجمة معاني القرآن الكريم إلى اللغات اللاتينية وإلى اللغات الأوربية الأخرى، (أي اللغات الغربية كالجرمانية)، قد بدأت على أيدي غربيِّين غير مسلمين، ورغم كثرتها إلا أن أبرزها ترجمة المستشرق الإنجليزي جورج سيل (1697 - 1736م) إلى اللغة الإنجليزية، التي وضع لها مقدمة قرَّر فيها أن سيدنا محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم هو الذي ألَّف القرآن الكريم - كما سيأتي ذكره - وإن كان لم يَستبعِد أن يكون قد عاونه أحد من حكماء عصره، من بني قومه، أو من اليهود والنصارى [12] ؛ قال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ ﴾ [النحل: 103]. كون القرآن الكريم مِن تأليف رسول الله محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم، سواء أعانه على تأليفه نفر من اليهود والنصارى والحنيفيِّين المُعاصرين له أم لم يُعاونه عليه أحد، أدى إلى المزيد من الصد والالتفات عن الجانب الإعجازي في القرآن الكريم؛ إذ لا يتوقع القائلون بأن هذا من تأليف ذلك العبقري العربي، الذي عاش في القرنين السادس والسابع الميلاديين، أن تكون له نظرات علمية، سواء أكانت متحققةً في زمانه أم أنها داخلة في نطاق ما يأتي من الزمان، وهو الناشئ في بيئة أمية، وهو نفسه كان أميًّا، فلم تساعد هذه النظرة إلى كتاب الله تعالى على مجرد التفكير بأنه كتاب معجز [13] . أعقبَ ذلك نقولٌ أخرى عن هذه الترجمة، وكان هذا التأثير سلبيًّا، ولعله كان مقصودًا لصرف الآخر عن التعلُّق بالإسلام، من خلال تقديم المعلومة الشرعية الصحيحة، بالترجمة الدقيقة للمصدر الأول لهذه المعلومة، هذا في ضوء غياب جهود المسلمين القادرين على تقديم المعلومة الصحيحة، من خلال الترجمة الدقيقة لمعاني القرآن الكريم، وانشغال المسلمين في حينها في النظر في مشروعية النقل والترجمة لمعاني القرآن الكريم إلى اللغات الأخرى. ما دمنا ندور حول إسهامات غير المسلمين في التأثير على المعلومة الشرعية فإن هذا التأثير لم يقتصر على ترجمات معاني القرآن الكريم والسنة النبوية المطهَّرة، بل إن الدراسات حول هذه المعلومة تتعذر اليوم على الحَصر، بما في ذلك الدعوة إلى كتابة القرآن الكريم بالحروف اللاتينية، التي تقدَّم بها عبدالعزيز فهمي لمجمع فؤاد الأول للغة العربية بالقاهرة في 6/ 1 / 1360هـ الموافق 2/ 2 /1941م، التي دعا بها إلى أن تُكتب اللغة العربية بالحروف اللاتينية، إلا أن أعضاء المجمع آنذاك اعترضوا على هذا الاقتراح "حتى اندثر هذا الموضوع وطواه النسيان منذ عام 1944 م" [14] ، وكان ذلك في جلستي 24 و31 من شهر محرم 1363هـ الموافق يناير من سنة 1944م. سعى الأستاذ الدكتور فؤاد سزكين، مدير معهد تاريخ العلوم العربية والإسلامية بفرانكفورت بألمانيا، إلى حصر ما كتب حول الموضوع باللغة الألمانية فقط، وكنتُ أراه يجمع البحوث والدراسات، يستعيرها من مكتبات أوروبا العامة والجامعية والبحثية، ثم يقوم بتصويرها وتجليدها والاحتفاظ بها في مكتبة المعهد القيِّمة، وقد أصدر لذلك قائمة وراقية (ببليوجرافية)، تزيد على خمس مجلدات ضخمة بمعاونة الباحث البوسنوي إسماعيل بالتش وآخرين. لا يزال الأستاذ الدكتور فؤاد سزكين يواصل هذا المشروع ويُصدر قائمة وراقية (ببليوجرافية) جديدة بين الفينة والفينة، ولا يزال يجمع هذه الدراسات من الدوريات العلمية ومن الكتب ووقائع المؤتمرات، حتى تكوَّنت عنده في مكتبة المعهد ثروة علمية من هذه الدراسات، ربما كانت مجالًا للدرس والتحليل، لا سيما أن معظمها جاء من المستشرقين الألمان، أو ممَّن أرادوا البحث والدراسة والكتابة باللغة الألمانية التي تعدُّ لغة الاستشراق الأولى، ومِن ثمَّ تعد اللغات الأوروبية الأخرى عالةً عليها. يمكن القول دون تعميم: إن هذه الدراسات حول المعلومة الشرعية لا تكاد تخلو من الخلل المتعمد في مجمله، وغير المقصود في قليل منه؛ ذلك أن هؤلاء الدارسين للمعلومة قد افتقدوا إلى عاملين مهمين: العامل الأول: الافتقار إلى الانتماء إلى هذه المعلومة وما تُمثِّله من ثقافة، ومِن ثمَّ أعطاهم عدم الانتماء الجرأة في الحكم والتحليل دون النظر إلى التأثير، ولو كان هذا التأثير سلبيًّا. يقول مصطفى عبدالغني: "إن مراجعة ترجمة جاك بيرك هنا تشير إلى أنه - مثل عدد من المستشرقين - رغم استخدامه لعدد من المناهج الغربية الجديدة على النص، فإنه ما زال يحمل رواسب تاريخيةً واجتماعيةً خاصةً في التفسير أكثر من محاولة صارمة في المنهج" [15] . العامل الثاني: هو افتقارهم إلى الإلمام باللغة التي جاءت بها المعلومة الشرعية، وهي هنا اللغة العربية، رغم محاولاتهم الجادة للسيطرة عليها [16] . هذا العامل الثاني أخفُّ بكثير من العامل الأول، ولكن تأثيره بدا واضحًا من خلال اضطرار المستشرقين إلى الاستعانة بالضليعين باللغة العربية من العلماء والأدباء العرب، يقرؤون لهم ويَنسخون ما يكتبون، وقد حَرصوا في ضوء تعميم المطبعة ووسائل الاستنساخ الحديثة على أصحاب الخطوط الجميلة، ومِن هؤلاء العلماء والأدباء (مرتبة أسماؤهم هجائيًّا): إبراهيم شيوخ، وابن أبي شنب، وأحمد تيمور، وأحمد زكي، وأحمد عبيد، وإحسان عباس، والقاضي إسماعيل الأكوع، وحسن حسني عبدالوهاب، وحمد الجاسر، وصلاح الدين المنجد، والشيخ طاهر الجزائري، والعابد الفاسي، وعبدالحي الكتاني، وفؤاد سيد، والفقيه التطواني، وقاسم الرجب، وكوركيس عواد، ومحمد إبراهيم الكتاني، ومحمد رشاد عبدالمطلب، ومحمد محمود بن التلاميذ التركزي الشنقيطي، ومحمد المنوني، ومحمد يوسف نجم، ومحمود محمد الطناحي [17] . يقول رشيد رضا في كتابه: الوحي المحمدي: "إنَّ ترجمات القرآن التي يعتمد عليها الإفرنج في فهم القرآن كلها قاصرة عن أداء معانيه التي تؤديها عباراته العليا وأسلوبه المعجز للبشر، وهي إنما تؤدِّي بعض ما يفهمه المترجم له منهم، إن كان يريد بيان ما يفهمه، وإنه لمن الثابت عندنا أن بعضهم تعمَّدوا تحريف كلمه عن مواضعه، على أنه قلَّما يكون فهمهم تامًّا صحيحًا، ويكثر هذا فيمن لم يكن به مؤمنًا، بل يجتمع لكل منهم القصوران كلاهما؛ قصور فهمه وقصور لغته" [18] . لا شك في أن هذا الموقف من المعلومة الشرعية كان له في مجتمع هؤلاء الدارسين تأثيره السلبي عليها؛ إذ أسهم هذا الأسلوب في إبعاد الناس عن المعلومة الشرعية الصحيحة، ومِن ثمَّ أسهم في ضعف فهم الإسلام أو في سوء فهمه، مما كان له تأثيره على الإقبال على هذا الدين الذي يقوم على المعلومة الشرعية الصحيحة. إذا كان هذا الخلل قد اعترى نقل المعلومة الشرعية من مصدرها الأول وهو القرآن الكريم إلى اللغات الأخرى، فمن المتوقع أن يعتري الخلل نقل السنة النبوية الشريفة عن طريق الترجمة، لا سيما أن في الحديث الشريف ما هو صحيح وما هو حسن وما هو ضعيف وما هو موضوع، والضعيف والموضوع يَختلفان في درجة قبولهما على ما بينه علماء السنة النبوية المطهَّرة في مصطلح الحديث؛ لما فيهما من المعلومات الشرعية ما لم يثبت عن المصطفى صلى الله عليه وسلم، كما أن فيهما من المعلومات ما لا يمكن أن يُعدَّ من المعلومات الشرعية؛ لتعارضه مع النقل الصحيح أولًا، ثم العقل السليم ثانيًا. كان هذا مجالًا رحبًا للخلط في نقل المعلومة، مما كان مجالًا رحبًا كذلك لتشويه الإسلام وسيرة المصطفى محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم، ومِن ثمَّ للمعلومة الشرعية المستقاة من المصدر الثاني الرئيسي من مصادر التشريع الإسلامي؛ سنَّة المصطفى محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم. [1] نُشر هذا الفصل في: مجلَّة البحوث والدراسات القرآنية الصادرة عن مجمَّع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف بالمدينة المنورة، ع 3 (محرَّم 1428هـ - يناير 2007م)، ص 195 - 230. [2] انظر في مناقشة قضية النقل والترجمة في الحضارة الإسلامية: علي بن إبراهيم النملة: النقل والترجمة في الحضارة الإسلامية، ط 3، الرياض: مكتبة الملك فهد الوطنية، 1427 هـ / 2006 م، 204 ص. [3] انظر في مناقشة هذه القضية: إبراهيم بن صالح الحميدان. مواصفات الترجمة المعدَّة للاستعمال في مجال الدعوة، في: ندوة ترجمة معاني القرآن الكريم: تقويم للماضي، وتخطيط للمستقبل، المدينة المنورة: مجمَّع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، 1423 هـ / 2002 م، 69 ص. [4] انظر، مثلًا: عُبادة بن أيُّوب الكبيسي. إمعان النظر في فواتح السوَر، مجلَّة الدراسات الإسلامية، مج 25 ع 2 (1410 هـ)، ص 5 - 42. وانظر، أيضًا: عبدالفتاح عطية يونس. سر إعجاز القرآن الكريم في فواتح السور، منار الإسلام، مج 5 (5 / 1409 هـ - 12 / 1988 م)، ص 6 - 15. [5] انظر: مصطفى عبدالغني. ترجمة جاك بيرك للقرآن: من القراءة إلى التفسير، الاجتهاد، ع 49 (شتاء 2001م - 1421 / 1422هـ)، ص 115 - 137، والنصُّ من ص 119، نقلًا عن: سعيد اللاوندي: محاكمة جاك يبرك؛ إشكالية ترجمة معاني القرآن الكريم، مخطوطة. [6] انظر: عبدالنبي ذاكر. قضايا ترجمة القرآن، طنجة: شراع، 1419هـ / 1998م، 87 ص، (سلسلة شراع، كتاب نصف الشهر: 45). [7] انظر: إبراهيم بن موسى الشاطبي. الموافقات في أصول الأحكام / تعليق محمَّد خضر حسين؛ تصحيح محمَّد منير، القاهرة: المطبعة السلفية، 1341هـ. نقلًا عن: محمَّد مصطفى المراغي. بحث في ترجمة القرآن الكريم وأحكامها / قدَّم له صلاح الدين المنجِّد، بيروت: دار الكتاب العربي، 1401هـ / 1981م، 53 ص. [8] انظر: مصطفى صبري. مسألة ترجمة القرآن، القاهرة: المطبعة السلفية، 1351 هـ. [9] انظر: محمَّد سليمان. كتاب حدث الأحداث في الإسلام: الإقدام على ترجمة القرآن، القاهرة: مطبعة جريدة مصر الحرَّة، 1355هـ. [10] انظر: محمَّد صالح البنداق. المستشرقون وترجمة القرآن الكريم: عرض موجز بالمستندات لمواقف وآراء وفتاوى بشأن ترجمة القرآن الكريم مع نماذج لترجمة تفسير معاني الفاتحة في ستِّ وثلاثين لغة شرقية وغربية، ط 2، بيروت: دار الآفاق الجديدة، 1403هـ / 1983م، 338 ص. [11] انظر: عبدالله بن عبدالمحسن التركي، مشرف. التفسير الميسَّر / تأليف نخبة من العلماء، المدينة المنوَّرة: مجمَّع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، 1418هـ، ص و. [12] انظر: عبدالحكيم فرحات. إشكالية تأثُّر القرآن الكريم بالأناجيل في الفكر الاستشراقي الحديث، في: ندوة القرآن الكريم في الدراسات الاستشراقية المنعقدة في مجمَّع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف بالمدينة المنوَّرة في المدَّة من 16 - 18 / 10 / 1427هـ الموافق 7 - 9 / 11 / 2006م، المدينة المنوَّرة: المجمَّع، 1427هـ / 2006 م، 23 ص. [13] للوقوف على ردٍّ مستفيض لمزاعم جورج سيل المتعدِّدة انظر: علي شاهين. الإعلام بنقض ما جاء في كتاب مقالة في الإسلام؛ مرجع سابق، ص 159 - 591. وسمَّاه جرجس سال. [14] انظر: عبدالحيّ حسين الفرماوي. كتابة القرآن الكريم بالحروف اللاتينية: اقتراح مرفوض، في: المؤتمر الحادي عشر لمجمع البحوث الإسلامية، ج 2، القاهرة: المجمع، 1995م، ص 391 – 416. [15] انظر: مصطفى عبدالغني. ترجمة جاك بيرك للقرآن: من القراءة إلى التفسير، الاجتهاد؛ مرجع سابق، ص 129. [16] انظر مناقشة البعد اللغوي لترجمةٍ من آخر ما ظهر لمعاني القرآن الكريم لدى: مصطفى عبدالغني. ترجمة جاك بيرك للقرآن: ومن القراءة إلى التفسير، الاجتهاد، المرجع السابق، ص 129 - 135. [17] انظر: محمود محمَّد الطناحي. مدخل إلى تاريخ نشر التراث العربي مع محاضرة عن التصحيف والتحريف، القاهرة: مكتبة الخانجي، 1405هـ / 1984 م، ص 223 - 224. [18] انظر: محمَّد رشيد رضا. الوحي المحَمَّدي، ط 6، القاهرة: مطبعة نهضة مصر، 1375هـ / 1956 م، ص 24.
معجم كتب السير الذاتية في العصر الحديث لمحمد بن سعود الحمد صدر حديثًا كتاب " معجم كتب السير الذاتية في العصر الحديث "، تأليف: " محمد بن سعود الحمد "، نشر: " دار الثلوثية للنشر والتوزيع ". وهذا المعجم رصد ببليوجرافي، جمع فيه الكاتب (7109) سيرة ذاتية في معجمه، لمجموعة منوعة من أشهر الأدباء والمؤرخين والرحالة والسياسيين وغيرهم في أدبنا العربي الحديث، ومنها عشرات السير الذاتية النّسائية، وهذا الجهد الخلاق رصد دقيق واستقصاء متميز لألوف السير الذاتية في العصر الحديث بما تحويه من تجارب واعترافات ودروس حياتية، مع ذكر دار النشر وتاريخ النشر، وأهم ما جاء فيها وما تتميز به. وقد عكف مؤلفه على هذا العمل الضخم الفريد سنين طويلة، تنقيبًا وبحثًا واستقصاءً، في همة عالية، تشهد بها صفحات الكتاب ويدركه القارئ الحصيف الحاذق. يقول الأستاذ "وديع فلسطين" في تقديمه لهذا المعجم: " ولا يساورني الشك في أن هذا المعجم النفيس يعد علامة فارقة في سجل الأعمال الأدبية الرصينة، حيث نجح بامتياز في أن يجمع شتات ما تفرق وتبدد من كتب السير الذاتية العربية والمعربة في أنحاء المعمورة بأقلام عباقرة الإنسانية ونوابغها، الذين سطروا سيرهم الذاتية وحيواتهم الشخصية بمداد من حكمة السنين وعبرها، فألهموا وأمتعوا من جاء بعدهم ". وبهذا الجهد يسجل للمؤلف أن كتابه هو أول معجم شامل حوى شوارد السير الذاتية، في العصر الحديث، وحمل بين طياته من الجهد والخبرة والموسوعية ما بوأه أن يُنظر له بعين الاعتبار بين المعاجم المعاصرة. والكاتب "محمد بن سعود الحمد" كاتب ومؤرخ وشاعر سعودي، صدر له من المؤلفات: • " القاهرة في عيون الرحالة ". • " موسوعة الرحلات العربية والمعربة المخطوطة والمطبوعة: معجم ببليوجرافى ". • " معجم كتب التراجم العامة للعرب المعاصرين ".
مع القاضي العمراني كتبَ لي مذكرات بخط يده هي سلافة الدهر ورحيق الفكر، فقد كنتُ أكتب له السؤال وأترك سطرين فارغين أو ثلاثة بحسب السؤال، فيجيب وهكذا حتى أتيتُ على دفترين هما عندي سكر الدفاتر وطيب الأوراق وزبدة الفكرة وحلية الدراسة، ولا أدري أبقيت بين كتبي في جامعة الإيمان أم عبث بها التتار عند احتلالهم لها أو بين دفاتري في عدة بيوت في صنعاء أو في منزلنا في الريف. من يأتي إليَّ الآن بخبرهما؟! وكيف أصل إليهما؟! وبيني وبينهما أمواج البحار وفيافي القفار ودونهما عرض المهامه! ولله تلك الأيام وهو يهش ويبش إذا رآني ويقول: أين دفترك؟ ويخرج قلمه. ولا أنسى مرات عديدة يأمرني بالركوب معه عند إكمال درسه في الجامعة ثم ننطلق مسافة عشرين دقيقة تقل أو تزيد من الجامعة إلى البيت فلا نصل إلا وقد كتب لي ثلاث صفحات أو أربع. ثم أعتكف في مسجده إلى أذان المغرب وليس لي من شغل إلا أن يكتب لي ما تيسَّر من تلك السطور المضيئة التي تشرق فيَّ إلى أن ألقاه مرة أخرى، فقد كانت زادي وقوتي.. وفيها من الفوائد والدُّرَر والنصائح والفتاوى في نوازل كثيرة عصرية وعصارات فكرية ما يشفي غلة الفؤاد. وقد كتبتُ عنه بعض الذكريات والمواقف في كتابي "قطوف الريحان" وبين الحين والآخر أتحسَّر على تلك الذكريات. يقيني أن الله لن يضيع ذلك الجهد، إن كان فيه إخلاص سيعود طال الزمن أم قصر، وإن كان فارغًا من الإخلاص عسى الله أن يعوِّضني ويتوب عليَّ. يا رب أستغفرك، لقد كنت أفتح تلك الدفاتر وأكحل عيني بتلك الحروف المخطوطة التي تضيء لي الحياة وأردِّد: لمَّا قرأتك في فؤادي لم أجد إلا حروفَ الحب في أعماقي ورجعت أقرأ ما تضمُّ دفاتري فإذا بروحك أنت في أوراقي لمَّا سألتُ، أجاب قلبي: لا تسَلْ عما أحسُّ به من الأشواقِ
ترجمة العلَّامة المحدِّث عبدالكريم عباس الأزجي الحسني رحمه الله الحمد لله الذي رفع العلم والعلماء، وجعلهم بفضله ورثة الأنبياء، والصلاة والسلام على خير نبي أُرسِلَ، وعليه أعظم كتاب أُنزل، وعلى آله وصحبه الأتقياء، ومن سار على نهجهم، واقتفى سيرتهم إلى يوم الإلقاء؛ أما بعد: فهذه سيرة عطِرة، وترجمة موجزة لشيخ مشايخنا العلَّامة المحدِّث، والفهَّامة المتحدث، والعالم المربي، والعامل النقي، كنت قد دوَّنتُها في دفتر خاص قبل عشرين عامًا، ونشرتها بين طلبة العلم الشرعي، والحمد لله على فضله ومنِّه، وذكرت فيها جوانب هامة من سيرته وعلمه، وصبره في دعوته، وهمته في نشر العلم ونشره، وقيامه بالأمر بالمعروف والنهي على المحدَثات على أكمل وجه وأتمِّه، حتى توفاه الله راضيًا مرضيًّا، أسأل الله أن ينفع بها كاتبها، وقارئها، وناشرها، وقد قسمت البحث إلى مقدمة وستة مباحث، وخاتمة، وبالله التوفيق، ومنه الإعانة، فهو نعم النصير والرفيق. توطئة: يعتبر العلامة عبدالكريم [1] الملقَّب بالصاعقة، حلقة الوصل بين علامة العراق اللغوي الألوسي رحمه الله؛ صاحب المؤلفات اللغوية والأدبية والشرعية العديدة، وبين طلَّاب المنهج السليم المستقَى من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم في بلاد الرافدين؛ حيث قام الصاعقة بالدعوة إليه، ونشره والحث عليه، والتمسك به، وتخرج في مدرسته دعاة مخلصون، وعلماء ربانيُّون، ومفكِّرون وطلاب علم متمرسون. وإذا كان جهد العلامة الألوسي رحمه الله، وثمرة علمه ظهر في مصنفاته ومؤلَّفاته التي زادت على الستين مؤلَّفًا، جُلُّها في الدفاع عن المنهج السليم، والسُّنة المطهرة، والرد على أهل البدع والانحراف، وقلة معدودة من طلاب نجباء أمثال الصاعقة، والمؤرخ العزاوي، فإن جهد الصاعقة تمثل بترجمة هذه الدعوة إلى واقع ملموس من خلال التربية الصارمة على معاني العلم النافع والدعوة، والصبر على الحق، والرد على مختلف الطوائف المخالفة دون كَلَلٍ أو مَلَلٍ، وتخريج دفعة من طلاب العلم نذروا أنفسهم لنشر الحق على وَفْقِ منهج دعوي قائم على الدعوة بالتي أحسن، والحكمة الموافقة لمنهج الرسول صلى الله عليه وسلم في دعوته، فمن هو عبدالكريم الصاعقة، وما هي جهوده الدعوية؟ المبحث الأول: نبذة مختصرة عن مولده ونشأته: هو عبدالكريم عباس الشيخلي الحسني، وُلِد ببغداد في محلة باب الشيخ القديمة – محلة الأزج – وإليها يُنسَب عام 1285 -1867، واصل نسبه من عائلة الوزير اليمانية [2] ، ووالده الحاج السيد عباس من التجار المعروفين ضمن أعيان بغداد، نشأ على الآداب الفاضلة، والأخلاق السامية؛ حيث كان والده يحضُر مجلسَه الأدباءُ والعلماء، فربَّاه أحسن تربية، واهتمَّ برعايته أفضل عناية؛ لكونه الوحيد له. أولًا: فطنة وموهبة منذ الصغر رحمه الله: كان المذهب الحنفي هو المذهب السائد في العراق، وعليه غالب المفتين والعلماء مثل الألوسي – الجد الملقب بأبي الثناء - إلا المناطق الشمالية؛ حيث الأكراد يتمذهبون بالمذهب الشافعي رحمه الله تعالى، وبعد أن أتقن القراءة والكتابة والخطَّ دفعه والده إلى أحد مشايخ الحنفية في مسجد الشيخ عبدالقادر الكيلاني في باب الشيخ، وفي حلقات العلم سمِع الفتى ما يدور في المجلس من إيراد أقوال علماء المذهب، وآرائهم كزفر والحسن وأبي يوسف رحمهم الله، وغالبًا ما تُذكَر بدون الأدلة من السنة المطهرة، فقال الفتى معبرًا عن فطرته وذكائه: وأين مذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وكان الله أنطقه بذلك لينصح الشيخ والده بأن يأخذه إلى عالم من علماء الحديث، فذهب به إلى علامة العصر، وبقية السلف، الإمام نعمان الألوسي رحمه الله، صاحب كتاب محاكمة الأحمدين، وغيرها من المؤلفات النافعة. ثانيًا: مشايخه ومن تلقَّى عنهم: تلقى الصاعقة علومه ومعارفه في بداية أمره ومسيرته العلمية عن العلامة نعمان الألوسي رحمه الله [3] ؛ فقد درس عليه الفقه والتفسير وعلم الحديث، وخاصة الكتب الستة، ونال الإجازة من الشيخ نعمان، وتعتبر دراسته على العلامة نعمان نقطةَ تحوُّلٍ في مسيرته العلمية؛ حيث استطاع الشيخ نعمان أن يغرِسَ في نفسه حبَّ السنة والتوحيد، ويمتاز العلامة نعمان بأسلوبه الفريد في التعليم والتربية، إضافة إلى سَعة علمه ومعرفته بجميع الفنون مما أكسبه خبرة في التربية، وقد نال العلامة محمود الألوسي من قِبل العلامة نعمان قسطًا وافرًا من التربية الحسنة على معاني العقيدة السليمة، انتقل الصاعقة بعدها إلى الشيخ محمود الألوسي رحمه الله [4] ؛ صاحب المؤلفات الوفيرة فدرس عليه علوم اللغة والأدب والأصول؛ لكونه هو حامل لوائها، ورافع رايتها، ولازمه مدة طويلة، وأخذ عن شاكر الألوسي [5] ، والد فؤاد الألوسي رحمهم الله، ودرس على العلامة عبدالسلام الشواف النجدي، ودرس عنده صحيح البخاري ومسلم [6] (ت: عام 1318 هجرية)، وعمَّر طويلًا، وأخذ عنه صحيح البخاري ومسلم، وقد ولَّد دراسته على نعمان الألوسي طموحًا لا حدود له في حب السنة والحديث، فبدأ يبحث عنهم ويشد الرحال إليهم،، فأخذ منه الصحيحان البخاري ومسلم، وأخذ عن المحدث بدر الدين الحسني [7] ، والعلامة محسن السبيعي، كما التقى بتقي الدين الهلالي [8] في مسجد الدهان الواقع في الأعظمية، ودرس عنده بعض كتب الحديث، وكان هذا المسجد منطلَقًا للدعوة إلى التوحيد والتمسك بالسنة، ومن خلاله عرف شباب الأعظمية الطريق إلى المنهج السليم، وسيأتي بيان ذلك، وأخذ عن العلامة شعيب الجزولي، والعلامة عمر الحمداني، وغيرهم كثير غير من التقى بهم؛ أمثال: محمد إبراهيم آل الشيخ، والنجدي سليمان بن سحمان [9] ، رحمهم الله تعالى. الخانفوري في بغداد: كانت بغداد عاصمة العلم والثقافة، وحاضنة العلماء والفقهاء أيام الدولة العثمانية، بالرغم من الظروف الصعبة التي تحيط بها، وكانت محطَّ أنظار العلماء والمفكرين من جميع بلاد العرب والمسلمين، فقد رحل إليها العالم الأثري الخانفوري يوسف حسن البنجابي [10] ، فوجد العلامة الصاعقة أن الفرصة قد قُدمت إليه على طبق من ذهب، خاصة أن المحدِّث حط رحاله قريبًا من محلته، فأخذ عليه الكتب الستة، بل أجازه بجميع مروياته من علوم شرعية إجازة عامة مع مجموعة ونخبة من تلاميذ الألوسي، وبحضور العلامة محمود الألوسي رحمه الله نفسه يشارك تلامذته في الدراسة والتحصيل، وقد رزق الله الشيخ عبدالكريم الصاعقة همة في طلب العلم، ورغبة في تحصيله ففي رحلته إلى مكة - بسبب ظروف جعلته يغادر بغداد - التقى بعدد من العلماء، كما رحل إلى الهند، وأخذ عن بعضهم أيضًا. المبحث الثاني مواقف من حياة الشيخ الصاعقة رحمه الله: عُرِفَ الصاعقة في كثير من مواقفه الدعوية بنوع من الحِدَّةِ والغِلظة في ردِّه على أهل البدع، وأهل الكِبر والرياسة، خاصة في بداية مشواره، فلم يكن يعرف المداهنة أو المجاملة، ولكن هذه الحدة ممزوجة بالإخلاص والعلم، والرحمة المبنية على القواعد والأصول العلمية، ومحبة الهداية للخلق، وإرادة الخير لهم، وفي سائر حياته وتعامله مع الناس وطلاب العلم تجد الشيخ مرحًا واسعَ الصدر، وقد سببت له تلك الحدة مشاكلَ وصلت في بعض الأحيان إلى محاولة قتله واغتياله ومن تلك المواقف [11] ما يلي: 1- في حلب سمع الشيخ بجبار من جبابرة الظلم، فخطب بين الناس يدعو إلى الخروج عليه، فصدرت الأوامر بإعدامه، وإلقاء القبض عليه، ففرَّ إلى نجد، لكنه وجدها فرصةً لطلب العلم عن طريق الإجازة من المشايخ. 2- كان سياسة التتريك بلغت حدًّا دفع الشيخ إلى إلقاء خطبة حماسية خرج على أثرها مظاهرة وصلت إلى القشلة – ديوان الحاكم ومركز الولاية ببغداد – فصدر الأوامر بإلقاء القبض عليه ففرَّ إلى حلب، وحدث له موقف مشابه مع الملك فيصل، لكنه طلب نقله إلى مسجد الجيد خانة إلى الجوبة، ومواقف أخرى مع بعض ضباط الجيش. 3- حدثني غير واحد من تلامذته كالشيخ نوري وعبدالحميد، والشيخ عدنان الطائي رحمه الله أنه في إقامته بمكة كان يقوم بواجبه في الأمر بالمعروف بأمر من بعض أمرائها – الشريف حسين – فرأى في بعض مجالس الأمراء من الأسرة الحاكمة جواريَ ونساء يخدمن الأمير؛ حيث كانوا يعتقدون بجواز التسرِّي، وأنهن إماء مملوكات في نظرهم وعرفهم، فأنكر ذلك أشد الإنكار دون أن يلتفت إلى مقام الأمير، فأزعج هذا الإنكار مزاجَ الأمير، فكاد الأمر أن ينتهي بقتله، لولا ذيوع صيت الشيخ بين العلماء والأعيان ودفاعهم عنه، فرحل إلى دولة الكويت، وعند دخوله إلى دولة الكويت ومكوثه فيها، نجا من الموت المحتَّم هناك بأعجوبة؛ وذلك أنه خرج من المسجد فأرسلت إليه الدولة العثمانية جاسوسًا تأمره بقتل الشيخ، فقتل آخر مكانه يشبهه في القامة والشكل والصورة، والشيخ رحمه الله كان شجاعًا بطلًا لا يهاب الموت، ولا يخاف من سطوته، وَهَبَهُ الله قلبًا شجاعًا، وهمة وعزيمة قوية لا تنكسر، وقد قيل عن شجاعة الشيخ رحمه الله: إنه قاتل مع الملك عبدالعزيز آل سعود رحمه الله في كثير من معاركه، والله أعلم. 4- مما كان يزعج الشيخ ويعكِّر مزاجه رواية الأحاديث الموضوعة بحجة الترغيب أو الترهيب، وخاصة على المنبر الدعوي، وقد حدث أن روى الشيخ نجم الدين الواعظ [12] حديثًا من هذا القبيل في مسجد حنان، فوقف الشيخ منددًا له معارضًا بعد الخطبة، وقال: إن لم تصعد المنبر وتقول إني كذبت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإلا فعلت بك كذا بالسلاح – كان الشيخ من عادته حمل السلاح، وربما هي عادة معروفة لدى البغداديين آنذاك – فلم يكن بُدٌّ من الشيخ الواعظ إلا أن يمتثل، فتمثل لقول الصاعقة؛ خوفًا من بطشه، فصعد المنبر وقال: إني كذبت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، والحديث ليس في البخاري أو نحوه. 5- وقريبًا من ذلك سمع الصاعقة عن الشيخ محمود الصواف رحمه الله [13] أنه يذكر كلامًا مفاده التزهيد من قراءة كتب الحديث، وأن الوقت إنما للردِّ على الشيوعيين، والأفكار الهدَّامة إلى غير ذلك من تلك الشنشنة التي تعودنا سماعها في كل زمان ومكان، فوقف له الصاعقة بالمرصاد، وحدث ذلك في يومِ عيدٍ، فلما أراد الصواف مصافحة الصاعقة امتنع، وقال له: "يا عدو الوحيين – الكتاب والسنة – لم تمنع الناس من قراءة الحديث أو نحوه؟". جريدة الصاعقة: في بداية عنفوانه وشبابه، وبعد رجوعه إلى بغداد لم يهدأ له بال من سياسة التتريك الظالمة، فأراد أن يفضحهم إعلاميًّا، ويكشف زيفهم بعد أن عجز من مواجهتهم بالحُجَّة، ومن خلال تأسيس جريدة يكون هو صاحب الامتياز ومحررها، فأصدر تلك الجريدة التي عُرف بها تنتقد بقوة وبأسلوب ساخر لاذع موقف الدولة العثمانية من لغة الضاد، ومحاولة طمسها وفرض سياسة الترك على بلاد العرب والعروبة، فكان أول عدد صدر منها عام 8-5-1 911، وسرعان ما أمرت السلطات العثمانية بمنع إصدارها، علمًا أن فيها مقالاتٍ أدبيةً وسياسية وعلمية، وآخر التطورات والمستجدات في العلم والمعرفة، وتبلغ صفحاتها ثمانية صفحات تقريبًا للعدد الواحد، وقد اطلعت على قسم منها مصور من شيخنا صبحي السامرائي، وبحثت عن باقي الأعداد في المكتبة الوطنية لأيام وأسابيع، فلم أعثر منها على عدد واحد. وظائفه التي تنقل فيها: لم يتم تعيينه في وظيفة حكومية لموقف الحكومة العثمانية منه، إضافة إلى قناعته وزهده ورضاه بما قسم الله له، وعيشه على الكفاف، وقد وُجد في خدمة بيت الله خير معين على العلم وتعليمه، ففي عام 1921 كان خطيبًا وإمامًا في مسجد المهدية، وفيه كان مشايخ بغداد أمثال المفتي قاسم القيسي [14] يسأله عما أُشكل عليه في مسائل الحديث والفقه، ثم انتقل واعظًا في مسجد الحيدر خانة – شارع الرشيد – وكان يدرس تفسير الخازن وصحيح البخاري؛ حيث يتجمع حوله طلاب العلم من كل حدب وصوب، يستفيدون من علومه ومعارفه، ثم مسجد صدر الدين وذلك من عام 1937 إلى عام 1948، ثم مسجد عثمان أفندي عند شارع المتنبي، ومن باب الوفاء كان الشيخ صبحي [15] السامرائي كثيرًا ما يصلي فيه ويتردد إليه. المبحث الثالث علومه ومعارفه: للشيخ باعٌ في الأصول وعلم اللغة والأدب، وله معرفة واسعة بكتب التفسير المنقول والمعقول والفقه، حافظ لأقوال الفقهاء وآرائهم، له مَلَكَةٌ قوية على الترجيح بين الأدلة، وموفق بينها، بل وصل إلى رتبة الاجتهاد كما سمعنا ذلك من الشيخ صبحي رحمه الله تعالى، أما معرفته بفتاوى الشيخ ابن تيمية وابن حزم رحمهم الله تعالى، فإنه قد حاز قصب السبق فيها، وغالبًا ما كان يستشهد بها ويستدل بها في مجالسه ومؤلفاته، وقد عرف بانفراده بآراء عن علماء الأمة من خلاله دروسه وفتاويه، وتأييده له، وقد سجلتها من أفواه تلامذته. ومنها: 1- يرى رحمه الله وجوب قراءة الفاتحة على المأموم في السرية والجهرية، ويتبع في ذلك رأي البخاري رحمه الله في صحيحه. 2- مسح الخف ظاهرًا وباطنًا أسفل منه؛ كما هو مذهب اتباع الشافعي رحمه الله [16] ، ولهم في ذلك طريقتان مبسوطة في موضعها، وفيه خلاف بين العلماء مع اتفاقهم على أن أسفل الخف مسحُه سُنَّة، والمسح على الجورب شرط بعض الفقهاء فيه جملة من الشروط؛ مثل: عدم تتابع المشي، أو عدم وجود خرق ونحوه. 3- ويرى أن المطلَّقة بالثلاث في مجلس واحد تقع عليها تطليقة واحدة، كما أن طلاق الحائض لا يقع، وأن من طلَّق زوجته في طهر جامعها فيه لا يقع، وهو ما ذهب إليه شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم رحمهم الله. 4- يرى كُفْرَ تارك الصلاة كما هو رأي الإمام أحمد، وأحيانًا يأتيه السائل في قضايا فقهية، فيسأله: هل تصلي؟ ثم يجيبه على هذا الأساس ويبني الفتوى عليه، إلا أنه كان حكيمًا حليمًا في دعوته، واسع الصدر، يبذل النصح لمن جاءه يريد الهداية، ويبغي السمع والعناية. 5- جواز حرق كتب أهل البدع وإتلافها حسب القواعد المقررة حفاظًا على العقيدة السليمة، وصيانة للدين القويم، وطهرة للقلب السليم؛ لئلا تقع بيد من لا يعرف ضرها، ولا يفرق بين خيرها وشرها، وقد أوصى بحرق كتب المنطق والفلسفة وعلم الكلام، وكتب البدع، إلا إن وصيته لم تنفَّذ. 6- للعالِمِ الأخذ بالعزيمة، وتربية النفس على المكارم، ومجاهدة النفس ومحاسبتها على الهفوة؛ لأن العالم قدوة ليس كغيره، كما عرف عن سيرة الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه؛ ولذا كان العلامة الصاعقة يأخذ بها، ويلتزم بها في دعوته، وفي خاصة نفسه، ويلزم نفسه بأمور لا يلزم بها غيره، فإن ما يسع الواحد ربما لا يسع الجماعة كما هو مقرر. 7- معاملة أهل البدع بشيء من الحِدَّة والغلظة حسب الحال والمقال والظرف؛ لأن البعض منهم لا ينتهي إلا بهذا الأسلوب، ولا يرعوي إلا إذا أخذ على يده، وشدد عليه في القول والفعل، ولله في خلقه شؤون. 8- وله آراء واجتهادات لو بحث عليها مُنصفٌ في مؤلفاته لتجمع له منها كتابًا صغيرًا، ولعل الوقت يسمح لنا بذلك، وتتبع آرائه واجتهاداته رحمه الله تعالى. المبحث الرابع منهجه في التعليم: وهو من أهم فصول هذا البحث؛ حيث اتَّسم منهج الشيخ العلمي بجملة مميزات، وعدة صفات، جعلت الكثير من طلبة العلم يُقبِلون على التعلم، والدراسة عليه، وينهَلون من مَورِدِهِ العذب، ويأخذون من مشكاته الصافية؛ ومنها: 1- الاهتمام بجانب العقيدة، وتخليصها من شوائب الشرك وأدرانه؛ لأنها تحمي طالب العلم من الوقوع في حبائل الشرك وأنواعه، وتغرس في التوحيد، وتزرع في نفسه الثقة، وسائر الأخلاق الفاضلة والصفات الجميلة، ومن الكتب التي كان يعتني بتدريسها كتاب (حق الله على العبيد) لشيخ الإسلام رحمه الله، أو فتح المجيد، ولا شكَّ أن الأصل إذا استقام سهُل على المسلم الاستجابة لبقية الفروع الإسلامية، وهو ما كان يؤمن به، وينافح عنه، ويسير عليه في جميع مراحل حياته الدعوية رحمه الله. 2- علم الحديث بفروعه كمصلح علم الحديث، وعلم الجرح والتعديل، والتوفيق بين الأحاديث، وتراجم الرواة وغير ذلك، وقد أخبرني تلامذته أن الشيخ رحمه الله انفرد بفنِّ التوفيق والجمع بين الأحاديث التي ظاهرها الاختلاف، وباطنها التوفيق والائتلاف، وله مصنف لطيف في هذا، وكان يعرِض على تلامذته هذا الفن لاختبار ذكائهم؛ ولذا اهتم الشيخ بتدريس علم الحديث ليكون الطالب قادرًا على التمييز بين الصحيح من غيره، فدرس إلى جانب المصطلح كتابَ معرفة علوم الحديث للحاكم، والكفاية للخطيب والباعث الحثيث إلى جانب الكتب الستة بالسند، ومسند أحمد، ورياض الصالحين. 3- التربية الحقة على معاني العلم، وذلك من خلاق التخلق بآداب الإسلام، والتحلي بفضائله، ومن ثم الدعوة إليه ليكون العالم كالكتاب المفتوح يرى الناس من خلاله معاني الحق، فيهتدون بهديه، ويتخذونه مثالًا في الخلق والعمل، ومن تلك التربية الحقة الصارمة على معاني الحق نشأ طلابه، وتربى تلامذته، فنشروا علم التوحيد في ربوع العراق من جنوبه إلى شماله، فأحبهم الناس، والتفوا حولهم لِما لهم من دعوة بالحكمة، ومن دون ضوضاء، ومنهم شيخنا نوري وصبحي السامرائي، وغيرهم سنأتي على ذكرهم. 4- الوضوح والتدرج في التعليم، فيبدأ بصغار العلم قبل كباره، وأصوله قبل فروعه؛ لأن المقصود هو التربية والتعليم، وتنشأ الأجيال على الحق والعمل بموجبه، والتخلق بأخلاق الإسلام، وقد كان مجلس الشيخ متاحًا للجميع بمن فيهم المبتدئ لينهل من مورده، ويأخذ من مَعِينه، ولم يضع الشيخ رحمه الله أي حاجز بينه وبين مريديه، فعلوم القرآن والسنة مشاعة للجميع على خلاف دروس المتصوفين والمتكلمين، التي لم يكن باستطاعة أحد أن يستوعبها، فضلًا عن عوام الناس. المبحث الخامس: طلابه وتلامذته: إن ثمرة الشيخ الصاعقة رحمه الله، وجهوده العلمية تمثَّلت بنخبة من الدعاة المخلصين، والعلماء الربانين، والخطباء والأئمة والمصلحين، الذين وكان لهم الدور في نشر التوحيد والسنة في العراق، ومن دون إحداث أي زوبعة أو ضوضاء، بل تمَّ ذلك بتقسيم الأدوار، وترتيب الجهود، وتكاتف الأيادي، والتعاون المثمر أشبه ما يكون بتنظيم للعمل، ومراعاة الظروف، ولا شك أن تنظيم العمل والإعداد له دون التحزُّبِ أو التعصُّبِ هو مما حثَّ عليه الإسلام، ورغِب فيه، ومن ألمع تلاميذ الشيخ: 1- شيخنا صبحي السامرائي: وهو العمدة في الرواية، وصاحب الهمة في الدراية حقَّق ونقَّح أكثر من مائة مخطوط في الحديث وعلومه، فقرأ على الشيخ الصاعقة جُلَّ مروياته من كتب الحديث، وذلك في مسجد (المهدية) قرب محلة الفضل، ومسجد عثمان أفندي – شارع المتنبي - وأجازه بكل مروياته، وهو من أعلم تلاميذ الشيخ بعلم الحديث، وفي التحقيق ومعرفته بمخطوطات الحديث في العالم لا يشُقُّ له غبار، ولا يسبقه أحد في هذا المجال. 2- شيخنا أبو عذراء عبدالرزاق البريد في مسجد العساف، وهو من دعاة التوحيد والسنة، وقد نفعنا الله بدروسه في مصطلح الحديث أنا والشيخ إياد القيسي من خلال قراءة كتاب الباعث الحثيث، وهو مثال للتواضع وبذل العلم والسخاء، وبذل المعروف رحمه الله وكان تلك الأيام من أفضلها وأجملها وأعظمها. 3- الشيخ الجليل نوري أحمد المرسومي رحمه الله لازم مسجد الجمعة بالأعظمية يشبه السلف رحمهم الله في خَلْقِه وسَمْتِه وهَدْيِه، درسنا عليه كتاب فتح المجيد، وهو خير مربٍّ ونعم المؤدي، انتفع من علمه وحفظه للأحاديث جمع غفير من الشباب وكبار السن، فضلًا عن سائر المصلين، اختفى آخر أيامه في بيته بالإسكان، له مؤلفات صغيرة، لم يُنشَر منها شيء منها رسالة في (بدعية السنة القبلية للجمعة) كلفني بنشرها، والشيخ نوري حافظا لكتاب الله وحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، لم يُصَبْ بالنسيان رغم عمره الذي تجاوز الثمانين، وكان يقطع المسافات الطويلة في تبليغ الدعوة رغم كبر سنه، أوصاني بوصية نافعة قبيل وفاته رحمه الله. 4- عبدالحميد نادر صاحب الأخلاق الفاضلة، والآداب السامية، والعجيب في هذا الرجل أنه على جلالة قدره وفضله لم يثِرْ حوله أي زوبعة، فقد كان يعمل في سوق هرج – ببغداد بداية شارع الرشيد - إلا أنه كان له دور عظيم في نشر التوحيد في العراق، وقد كان كتومًا في أسراره وأعماله، خدومًا للمسلمين، متواضعًا لهم، محبًّا لسائرهم، وقد نفعني بمعلومات عن شيخه الصاعقة رحمه الله. 5- الشيخ عدنان الطائي رحمه الله المعروف بقلعة صالح لكونه نشأ فيها، وترعرع فيها؛ حيث ولد بالزبير عام 1933، والتقى بالصاعقة عام في مسجد المهدية، وقرأ عليه التجريد في سنتين ونصف تقريبًا، وقد اهتم بتدريس كتاب التجريد، والمشكاة وأعلام الموقعين، وكتب أخرى، وهو مثال للتواضع وبذل العلم، وكثيرًا ما كان تأخذه العَبرة، ويجهش بالبكاء إذا ذُكر عنده الصاعقة، له همة في نشر التوحيد في مناطق عرفت بكثرة البدع والشركيات كالعمارة وقلعة صالح، وقد ألَّف مذكرة له تضمنت الأحداث التي مرت بها خلال حياته، وقد صورتها ونسختها، ولكنها لم تُطبَع، تُوفِّيَ ليلة الأربعاء من عام 1424 بعد أن قرأ عليه بعض تلامذته التجريد الصحيح، وصُلِّي عليه في مسجد حسن البارح، ودُفن في مقبرة أبي غريب رحمه الله رحمة واسعة. 6- الشيخ عزت العزيزي الأردني، كان يُذكَر أمامي كثيرًا، وهو صاحب علم وتقوى رحمه الله تعالى رحمة واسعة، وألحقنا وإياه مع الصالحين الأبرار. 7- الشيخ عبداللطيف الصوفي [17] : هو عبداللطيف بن خليل بن خضر، وُلِدَ في أم الربيعين نينوى من عام 1930، ونشأ فيها في محلة (عبدو خوب)، واختص بعلم القراءات حتى أصبح من العلماء الذين يُشار إليهم بالبنان، أُجيز من محمد صالح الجوادي، والشيخ عبدالقادر الخطيب ببغداد أيام دراسته بكلية الشريعة، ومن الشيخ شيرزاد والشيخ محمد العربي، وقد أخبرني الشيخ عبداللطيف الصوفي أنه قرأ رياض الصالحين على الصاعقة أيام وجوده في مسجد المهدية في فترة الخمسينيات، مع جملة من طلاب الكلية في شهر، والشيخ الصوفي الآن يبلغ من العمر الثمانين، وله أكثر من 25 مؤلَّفًا في علم القرآن والقراءات، وما يزال يدرس ويعلّم، لم يصِبْهُ النسيان وفقدان الذاكرة. المبحث الخامس: مكتبته وتراثه: وفيما يتعلق بمكتبة الشيخ، فقد أوصى بتلك المكتبة أن تُوقِفَ في جامع الدهان؛ المسجد الذي كان يلتقي فيه بشيخه الهلالي رحمه الله، وقد كتب مرسومَ الوقف بحضور قاضٍ وشهود من تلامذته؛ هما: شيخنا نوري، وشيخنا وعدنان الطائي رحمهم الله، وأعطاهم مالًا قدره 4000 دينار عراقي، ورثه من أقاربه للحفاظ على المكتبة وشراء الكتب التي تهتم بمنهج السلف، ولي مع قصة مع هذه المكتبة، فمن باب البحث عن كنوز ومخطوطات العراق؛ حاولت وبشتى ما يمكن من الوسائل للاطلاع على ما تحويه تلك المكتبة من مخطوطات، وكتب أثرية، ولكن باءت تلك المحاولات بالإحباط، وكنت كمن يبحث عن الماء في الصحراء، فلا يجد إلا السراب، خاصة إذا علمت أن المسؤول عن تلك الغرفة هو الشيخ مولود التركي الأصل رحمه الله، وبفضل الله كانت لي همة لا تعرف الملل، فقد اتصلت ببعض الأصحاب في وزارة الأوقاف، فتمكنت من الحصول على تصريح يخوِّل لصاحبي جَرْدَ ما في المكتبة من مخطوطات وكتب، فتبين لي أن المكتبة تحوي دوريات، ومجاميع لمجلات عصرية، وكتبًا بمثابة المخطوط من ناحية قيمتها لكونها طُبعت بمطابع حجرية، أما المخطوطات فبعضها لا يستحق أن يُذكَر لكونه من كتب أهل البدع، والبعض أجزم أنه ليس بمخطوط، والبعض الآخر يستحق أن يُنفَق عليه الأموال للحصول عليه، وقد قمت بتصويرها؛ مثل الصارم المنكي، ومنهاج السنة النبوية لشيخ الإسلام رحمه الله. مؤلفاته: بالرغم من العلامة الصاعقة لم يكثر من التأليف بسبب انشغاله بالدعوة والتربية والتوجيه، ومؤلفاته رغم قلتها فهي قيِّمة في بابها نافعة في مجالها، فريدة في مجالها، وكلها تصب في خدمة كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ ومنها: 1- أصول الحديث؛ يتعلق بمصطلح الحديث وعلومه. 2- التوفيق بين الأحاديث؛ وهو محاولة للجمع بين الأحاديث التي ظاهرها التعارض. 3- رسالة في أصول الفقه؛ وهي متوسطة الحجم كما ذكر شيخنا صبحي. 4- الرد على علماء الحنفية في بعض فتاويهم التي تعارض الأحاديث الصحيحة. 5- الإجازة العلمية وثبته ومروياته رحمه الله. 6- فتاوى فقهية قائمة على إيراد المسائل مع أدلتها. 7- نظرات في التفسير وهو رد على بعض التأويلات الفاسدة المخالفة، والرد على الإسرائيليات الموضوعة أو الضعيفة وغير ذلك، وكلها لم يطبع منها شيء، وهي الآن تنتظر من يكشف عنها النقاب [18] ، ويميط عنها اللثام، ويخرجها من محبسها بين الرفوف. المباحث السادس: وفاته: أُصيب بمرض في رأسه – ورم – لم يمكنه من الحركة والخروج بحرية، ولم يكن له من يخدمه؛ حيث زواجه من ابنة عمه لم يستمر، وكان له خادم في المسجد توفي في منزله حرقًا رحمه الله، ولزم فراشه وعلى الرغم مما أصابه من ضيق وبلاء، كان طلاب العلم وأعيان البلد من علماء وكبار يأتون لزيارته، ويستفتونه على تلك الحال، فكان يجيبهم بذهن حاضر، ولسان بليغ، وحب للنصح، وبعد حياة عامرة بالعلم والعمل والدعوة، والصبر على الأذى توفي من عام 1959، وكانت جنازته مهيبة، ودفنه ومن شيَّعه إلى مثواه جمع غفير، وهذه هي جنائز أهل السنة والجماعة كما قال قائلهم: بيننا وبين أهل البدع والأهواء يوم الجنائز، رحمه الله رحمة واسعة، وجعل ما قدم من دعوة وصبر وجهاد وعلم شهادة له يوم الدين، ورفعة له في عليين، والحمد لله رب العالمين. نموذج من سند الشيخ الصاعقة في نزهة النظر مثل لبعض تلامذة شيخنا صبحي السامرائي رحمه الله: ثنا الشيخ صبحي قال: ثنا الشيخ عبدالكريم الحسني الشيخلي المعروف بالصاعقة، والشيخ محمد الحافظ التيجاني، والشيخ محمد بن عبدالوهاب البحيري، والعلامة حبيب الرحمن الأعظمي، والعلامة عبيدالله بن عبدالسلام الرحمن، أما الحافظ التيجاني، فيروي عن بدر الدين الحسني عن البرهان إبراهيم السقا عن الأمير الصغير عن الأمير الكبير عن السقاط عن النخلي عن البابلي عن السنهوري عن الغيطي عن زكريا الأنصاري عن الحافظ ابن حجر العسقلاني رحمه الله تعالى، وقال الشيخ عبدالكريم الشيخلي: أخبرنا الشيخ يوسف أبو إسماعيل الخانفوري (ح) وقال العلامة عبيدالله الرحماني: أخبرنا أبو العلى محمد بن عبدالرحمن المباركفوري كلاهما (الخانفوري والمباركفوري) عن العلامة المسند شيخ الكل في الكل محمد نذير الدهلوي عن العلامة أبي سليمان محمد بن إسحاق الدهلوي عن أبي طاهر محمد المدني الكردي بن الشيخ إبراهيم الكوراني صاحب (الأمم لإيقاظ الهمم) وعن الشيخ تاج الدين القلعي، كلاهما عن الشيخ حسن بن علي العجيمي عن أحمد بن محمد القشاش المدني عن أحمد بن محمد الرملي عن الزين زكرياء الأنصاري عن الحافظ ابن حجر العسقلاني المتوفى سنة 852 للهجرة [19] . ونختم هذا البحث بقصيدة نظمتها في مدح الشيخ الصاعقة رحمه الله وهي من البحر الكامل: عبدالكريم له قصيدي مادحًا بعلومه فردٌ من الأفرادِ شيخٌ به نقَّى الحديث روايةً ودرايةً في صحة الإسنادِ بك يعرفُ الناسَ الحديثَ وشرحهِ علمًا وتعليمًا مع الأشهادِ جمعَ الفضائلَ والخصالَ جميعها حبرُ الأنامِ معلمُ الأحفادِ لم تحملِ الحقدَ البغيض لمسلمِ فالعفو ديدنه مع الحسَّادِ وصدعتْ بالحقِّ جهارًا لم تخفْ عند الشدائدِ معلمُ الأسيادِ يردي العدا بصواعقٍ متمسكٍ بعقيدةٍ في قوة الأوتادِ بضيائهِ كشفَ الدجى متوقدٌ محيي الهدى ما مثله ببلادي يدعو الأنامَ إلى الرشادِ بمنهجٍ يبغي الحقيقةَ ملهمُ الأمجادِ طوبى لك الحسنى غدًا مستبشرًا تلقى النعيمَ بصحبةِ العبَّادِ [1] هذه ترجمة جمعتُها من أفواه تلامذته ومحبِّيه، وزدتُ عليها فوائدَ وشوارد لم تُذكر من قبل. [2] انظر ترجمته أيضًا في: تاريخ علماء بغداد في القرن الرابع عشر الهجري، المؤلف: يونس الشيخ إبراهيم السامرائي، الناشر: وزارة الأوقاف والشؤون الدينية، الطبعة: (1402 ھ - 1982 م). [3] وُلد العلامة نعمان الألوسي رحمه الله في بغداد سنة 1252 هـ - 1836م، وتُوفيَ في بغداد عام 1317 هـ - 1899م، ودُفن في جامع مرجان، له ترجمة فيما يلي: والدر المنتثر في رجال القرن الثاني عشر والثالث عشر (34)، والمسك الأذفر (110)، وتاريخ العراق بين احتلالين (8/ 134) عباس العزاوي، وتاريخ علماء بغداد في القرن الرابع عشر (695) يونس السامرائي. [4] وُلد العلامة محمود شكري الألوسي في بغداد عام 1273هـ/ 1856م، وتوفي في يوم الخميس 4 شوال 1342 هـ الموافق 8 آيار 1924م، ودُفن في مقبرة الشيخ معروف الكرخي في بغداد، وقد كتبت له ترجمة وافية نشرت في موقع الألوكة. [5] وُلد العلامة شاكر الألوسي في بغداد يوم السبت 19 صفر 1264 هـ، 26 كانون الثاني 1848م، وهو أصغر أبناء الشيخ أبي الثناء الألوسي، توفي في مدينة إسطنبول عام 1330هـ - 1911م، عن عمر ناهز 63 عامًا، له ترجمة في [البغداديون أخبارهم ومجالسهم، إبراهيم عبدالغني الدروبي، مطبعة الرابطة، بغداد 1958م، انظر مجلس الألوسي، صفحة: 248]. [6] انظر في ترجمته: (تاريخ الأسر العلمية في بغداد)، تأليف السيد محمد سعيد الراوي البغدادي بتحقيق: عماد عبدالسلام عبدالرؤوف، الطبعة الأولى، بغداد، 1997، الرقم: 59، بيت الشواف ... "الاستظهار" في شرح الإظهار، وقد تقدم الطالب حامد ماجد في كلية الآداب من خلال أطروحة لبيان هذا الكتاب مع ترجمة وافية للمؤلف. [7] وُلد بدر الدين الحسني في دمشق سنة 1267هـ الموافق لسنة 1850 م، وتوفي يوم الجمعة الواقع في 27 ربيع الأول سنة 1354هـ، الموافق لسنة 1935 م في دمشق، وقد دُفن في مقبرة الباب الصغير، له ترجمة في الأعلام لخير الدين الزركلي (ط. الخامسة عشرة)، بيروت، لبنان: دار العلم للملايين، ج. 8، ص: 237، كان ذا حافظة متفوقة، وكان يحفظ جميع أحاديث البخاري ومسلم وباقي الصحاح الستة، مع أسانيدها وتواريخ الرواة، وتواريخ ولادتهم ووفاتهم ودرجتهم من الصحة. [8] وُلد 1311 هـ، بوادي سجلماسة، توفي 25 شوال 1407هـ - 22 يونيو 1987م، محدث ولغوي وأديب وشاعر، وفي 1947م سافر الشيخ الهلالي إلى العراق، وقام بالتدريس بالجامعة في كلية الملكة عالية ببغداد كأستاذ مساعد ثم أستاذ، وبقي إلى 1958م حين قام الانقلاب العسكري في العراق، فغادرها عام 1959م إلى المغرب مسقط رأسه، له ترجمة وافية مفصلة من موقع موقعه الرئيسي على شبكة الإنترنت، وانظر: علماء ومفكرون عرفتهم، لمحمد المجذوب، ص: 193. [9] وُلد في قرية السقا من أبها في منطقة عسير عام 1266هـ الموافق 1850م، وكُفَّ بصره في آخر حياته، توفِّيَ في الرياض، وتوفي سنة 1349هـ، الموافق 1931م، له ترجمة في الأعلام، خير الدين الزركلي، ج: 3، الصفحة: 126، ديوان عقود الجواهر المنضدة الحسان، المحقق: عبدالرحمن بن سليمان الرويشد، حيث تضمن ترجمة وافيه له. [10] تاريخ علماء بغداد في القرن الرابع عشر (437) وانظر: مقال نافع ماتع لأخينا الشيخ محمد زياد التكلة، بعنوان: (ترجمة العلامة يوسف حسين الخانفوري)، (1285 – 1352هـ)، نشر على موقع أهل الحديث. [11] هذه المواقع والحوادث سمعتها مرارًا من مشايخنا أمثال: الشيخ عدنان عندما كنت أدرس التجريد عليه، والشيخ نوري من مسجد جمعة، وغيرهم. [12] الشيخ نجم الدين عبدالله أحمد رجب الشهير بالواعظ، ويرجع نسبه إلى عشيرة المعاضيد، وُلد سنة 1298هـ - 1880م، تُوفِّيَ رحمة الله عليه يوم الخميس 27 جمادى الأول 1393هـ، الموافق 28/ 6/ 1973م، ودُفن في مقبرة الخيزران، قرب مرقد الشيخ محمد القزلجي؛ انظر: تاريخ علماء بغداد في القرن الرابع عشر الهجري - يونس ابراهيم السامرائي. [13] الشيخ الصواف له ترجمة في تتمة الأعلام للزركلي، محمد خير رمضان يوسف، دار ابن حزم، بيروت، 1418 هـ - 1998م، وانظر من أعلام الحركة والدعوة الإسلامية المعاصرة، مكتبة المنار الإسلامية، الكويت، 1422 هـ - 2001 م، للكاتب عبدالله العقيل. [14] له ترجمة في مجلة التربية الإسلامية، تصدرها جمعية التربية الإسلامية، بغداد، العدد الثالث، السنة الخامسة والثلاثون، آذار - 2001 م، رثاه الرصافي بقصيدة رائعة من الطويل مطلعها: إذا قاسم القيسيُّ مَرَّ بخاطري = تذكرت عهدًا في الصبا مَرَّ كالحلْمِ تذكرته إذ كنت للعلم طالبًا = بفكري ودمعي جاهد النفس والجسمِ فقد كنت أحيانًا أزور فِناءه = وأنتابه للرشف من مَنْهَلِ العلمِ [15] نُشِرَتْ له على موقع الألوكة بعنوان: (المسند المحقق الشيخ صبحي السامرائي)، وصدرت رسالة ماجستير عن جهوده العلمية والدعوية بعنوان: (الشيخ صبحي السامرائي وجهوده في خدمة الحديث)، للطالب أحمد حسن جابر، وهي جيدة لمن يريد أن يتعرف على الشيخ ومؤلفاته، ومن تخرج على يديه من تلاميذ. [16] قال الشافعية: إن السنة أن يعمم المسح على ظاهر وباطن الخف خطوطًا كالمالكية، بأن يضع يده اليسرى تحت العقب، واليمنى على ظهر الأصابع، ثم يمر إلى ساقه أي إلى آخره؛ [انظر المراجع التالية: مغني المحتاج (1/ 67) وبداية المجتهد (1/ 40) وروضة الطالبين (1/ 630)]. [17] كتبنا له ترجمة وافية نُشرت في مواقع عدة، والشيخ ما يزال حيًّا يدرس ويعلِّم ويُقرئ بالرغم من كبر سنه. [18] بدليل أني قمت بجردها ووجدنا بضمنها كتب أهل المنطق والفلسفة وأهل البدع، وربما لم يتمكن تلامذته من الحصول عليها، أو لم يتفرغوا لذلك، والله أعلم. [19] من موقع كل السلفيين والسند أورده الشيخ عماد بن محمد بن نايف الجنابي البغدادي، وهو إمام وخطيب جامع الإمام أحمد بن حنبل في الفلوجة، أحد تلامذة الشيخ صبحي السامرائي، وذلك رواية كتاب النزهة والبيقونية بالسند المذكور إلى شيخ الإسلام ابن حجر العسقلاني.
معجم تراث الفقه الشافعي لعمر مصطفى أحمد إبراهيم صدر حديثًا كتاب "معجم تراث الفقه الشافعي" ، جمع وإعداد: "عمر مصطفى أحمد إبراهيم" ، نشر: "دار فارس للنشر والتوزيع" . تحاول هذه الدراسة تدوين ما وقف عليه الكاتب من تراث السادة الشافعية معتمدًا على مصادر عديدة، ومرتبًا المصنفات ترتيبًا حسب الحروف الهجائية. يقول الكاتب في مقدمة معجمه: "ثم إن علماء الدين والأئمة المجتهدين بذلوا جهدهم في تحقيق المسائل الشرعية وتدقيق النظائر الفرعية، واستنبطوا أحكام الفروع من الأدلة الأربعة، فاتفاقهم حجة قاطعة، واختلافهم رحمة واسعة، وهذا العلم قد كان في الصدر دون السطر، إلى أن احتاجت الأمة إلى تدوينه، ثم تتابع العلماء - في جميع المذاهب - في التأليف في فروع الفقه، إلى أن نمت هذه المؤلفات وكثرت، ولما كان هذا المذهب الشافعي واحد من المذاهب الأربعة المعتبرة عند أهل السنة والجماعة أحببت أن أجمع تلك المؤلفات في كتاب واحد وسميته: (معجم تراث الفقه الشافعي)" . وقد جمع الكاتب هذه الفهرسة من أمهات كتب المعاجم المعنية بهذا الفن، ومنها كتاب (كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون) للمولى مصطفى بن عبد الله القسطنطيني الرومي الحنفي الشهير بالملا كاتب الجلبي، والمعروف بحاجي خليفة، وكتاب (إيضاح المكنون) وكتاب (هدية العارفين) وكلاهما لإسماعيل باشا البغدادي، وكتاب (الأعلام) للزركلي، وكتاب (معجم المؤلفين) لعمر كحالة، وغيرها من الكتب. وقد تناول الكاتب أشهر مؤلفات الفقه الشافعي، حسب الترتيب الألفبائي، معرِّفًا به بنبذة بسيطة عن الكتاب ومؤلفه، ومذيلًا في الحواشي بالمصادر لمن أراد الاستزادة والرجوع إليها للتأكد من المعلومات، وهو جهد ببليوغرافي محمود يضاف لقائمة المصادر المرجعية المتخصصة المفيدة لجملة الباحثين. والكاتب " عمر مصطفى أحمد إبراهيم" مدرس الفقه المقارن بكلية الشريعة والقانون بأسيوط- جامعة الأزهر، له من المؤلفات: • مختصر القدوري في الفقه الحنفي، لأحمد بن محمد بن أحمد بن جعفر بن حمدان القدوري البغدادي (ت 428 هـ)، جمعه وضبطه: عمر مصطفى أحمد إبراهيم. • الإيضاح في الفقة الحنفي، للعلامة عبدالرحمن بن محمد بن أميرويه بن محمد بن إبراهيم ركن الدين أبوالفضل الكرماني، المتوفي بمرو سنة 543 هـ، دراسة وتحقيق: عمر مصطفى أحمد إبراهيم. • شرح الورقات في أصول الفقه، لجلال الدين محمد بن أحمد بن محمد بن إبراهيم المحلي الشافعي (المتوفى: 864هـ)، دراسة وتحقيق: عمر مصطفي أحمد إبراهيم.
الإسلام وما بعد الاستشراق لا يظهر أن الاستشراق في دراسته للإسلام آيل إلى الزوال؛ ذلك أن الإسلام دين متحرك لا يقف عند زمان أو مكان، ومِن ثمَّ فإنه يجدد كلما رانت على القلوب والأرواح الغفلة، ولذا فإن الاستشراق سيجد مجالًا رحبًا فيما يمر به العالم الإسلامي والمنطقة العربية على وجه الخصوص من أحداث متتالية، كما وجد هذا المجال في الانبعاث الإسلامي أو الإحيائية الإسلامية أو الصحوة الإسلامية، على اختلاف في التسميات، والبحث عن أسباب هذه الصحوة بعثراتها، من خلال الإخفاقات التي أخضعت للتجربة الواقعية في بعض الأقطار العربية والإسلامية، والتي أريد لها أن تكون بديلًا للإسلام؛ كالقوميات، والاشتراكية، والرأسمالية، وغيرها من جهة، أو من خلال الاحتجاج على التخلف والفشل في القضاء عليه من جهة أخرى [1] . كما أن الأحداث الأخيرة، أعني الحادي عشر من سبتمبر 2001م الموافق 22/ 6/ 1422هـ، أججت النظرة إلى الإسلام، لا سيما في أبعاده السياسية، مما أدى إلى "استنفار المؤسسات الاستشراقية التقليدية لتثوير العداء ضد العرب، وعندها سيعود الاحتقان من جديد، وتعود الآلة الاستشراقية إلى سابق عهدها، بعد أن قطعت شوطًا في التخلي عن طروحاتها في فضاء ما بعد الاستشراق" [2] . مع هذه المزاحمة الإعلامية للاستِشراق فقد أضحى موضوعًا له الغلبة اليوم لدى صانعي القرار السياسي المرتبط بعلاقات الشرق بالغرب، وبدأ الإعلام يُزاحم الاستشراق، وكثرت الأفلام التي تسيء للإسلام [3] ، وهذا موضوع واسع تصدَّى له المتخصِّصون في الإعلام، ويكتنف قدرًا من المقارنة بين الإسلام والغرب، وليس بين المسلمين والغرب، وهي مقارنة غير متوازية؛ لأن المقارنة "بين الإسلام والغرب أمر غير جائز، فلا تجوز المقارنة بين دين ومجموعة بشرية، وحتى وإن كان المقصود هو المقارنة بين الحضارة الإسلامية والغربية، أو الثقافة الإسلامية والغربية، فإن ما بين الاثنتين من اختلافات لا يدعو إلى التصادم، ولا يفرض حتمية لهذا التصادم" [4] . أدَّى هذا التحوُّل إلى تخلي بعض المستشرقين عن العمق الاستشراقي في الدراسات والبحوث، والميل إلى الشهرة والظهور الإعلامي؛ من خلال التحليلات السريعة لأحداث راهنة، ولكنها ورثتْ أجندتها من الاستشراق، فلم تنفكَّ عنه [5] ،ومِن ثمَّ ظهر لدينا ما يُمكن أن يسمى بالالتفاف على الاستشراق. والمستشرق برنارد لويس مثال حيٌّ واضح على هذا التخلي، فقد أكثر أخيرًا من الكتابات الإعلامية غير العميقة، المتركِّزة على تشويه الإسلام والمسلمين، وحمل بقوة على المصطلح / الاستشراق، ودعا إلى رمْيه في زبالة التاريخ، وغيره كثير من المستشرقين المعاصرين [6] . لم يثبت على النهج الاستشراقي التقليدي إلا نفر معدودون وغير مشهورين، ولكنهم مقتنعون بما هم عليه من نهج يتسم بالعمق في الدراسة والتحليل حول الإسلام، مما يعني أن أثر هذه الفئة القليلة هو الباقي، امتدادًا للأثر الاستشراقي في الثقافة الإسلامية، ولا بد من ذكر نفر منهم لا يزالون يواصلون إسهاماتهم في مجال الاستشراق العميق، من أمثال المستشرقين الألمان فرتز شتيبات، ويوسف فان إس، واشتيفان فيلت، والمستشرق الإنجليزي القس وليام مونتغمري وات (رغم وفاته يوم الثلاثاء 1/ 10/ 1427هـ الموافق 24/ 10/ 2006م، إلا أن إنتاجه العلمي لا يزال يُنشر)، والمستشرق البريطاني لزلي ماكلوكلن، والمستشرق الأمريكي جون إل. إسبوزيتو، وغيرهم. [1] انظر: فالح عبدالجبَّار، مترجم ومعد، الاستشراق والإسلام، دمشق: مركز الأبحاث والدراسات الاشتراكية في العالم العربي، 1991م، 152 ص. والكتاب عرض لعدد من البحوث عن الانبعاث الإسلامي من خلال ندوة عقدت في براغ في تشرين الأول 1988م عن حركية العامل الإسلامي في بلدان الشرق عمومًا، مع تركيز خاصٍّ على البلدان العربية. [2] انظر: رسول مُحمَّد رسول. نقد العقل التعارُفي: جدل التواصُل في عالمٍ متغيِّر، بيروت: المؤسَّسة العربية للدراسات والنشر، 2005م، ص 68 - 69. [3] انظر: شيرلي شتاينبرغ. مناهج هوليود حول العرب والمسلمين، ص 267 - 279، في: جو كينشلو وشيرلي شتاينبرغ. التربية الخاطئة: كيف يشوِّه الإعلام الغربي صورةَ الإسلام / ترجمة حسان بستاني، بيروت: دار الساقي، 2005م، 295 ص. [4] انظر: أحمد الجهيني ومُحمَّد مصطفى. الإسلام والآخر؛ مرجع سابق، ص 195. [5] انظر: طاهر عبد مسلم. تعارُف الحضارات من أطروحات الاستشراق إلى التمركُز الإعلامي والدعاية المضادَّة، ص 115 - 141، في: زكي الميلاد، معد. تعارُف الحضارات، دمشق: دار الفكر، 1427هـ / 2006م، 226 ص. [6] انظر: علي بن إبراهيم النملة: الالتفاف على الاستشراق: محاولة التنصُّل من المصطلح؛ مرجع سابق، 182 ص.
يونس بن متَّى عليه السلام (3) ذكرْتُ في ختام المقال السابق معنى قوله تعالى عن يونس عليه السلام من سورة (ن) : ﴿ فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ ﴾ [القلم: 48]، وقوله تعالى: ﴿ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ ﴾ [القلم: 48] ليس داخلًا في حيِّز النَّهي، فإن نداء المكظوم ودعاءه ربَّه محبوبٌ مطلوبٌ، ومعنى ﴿ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ ﴾، أي: دعا ربه وهو ممتلئ كربًا وغمًّا؛ حيث قال وهو في بطن الحوت: ﴿ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ ﴾ [الأنبياء: 87]، وقوله تعالى: ﴿ لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ ﴾ [القلم: 49]؛ أي: لولا أن أدركته رحمة الله وعنايته لطُرح بالأرض الفضاء وهو ملوم، وما دام قد أدركته رحمة الله فقد ألقاه الحوت على الساحل غير ملوم، وكأن الله تبارك وتعالى تفضَّل على يونس عليه السلام فلم يُؤاخذْه باجتهاده في فراق قومه حين ذهب مغاضبًا بلا إذن من ربه، كما تفضَّل على محمد صلى الله عليه وسلم حينما لم يؤاخذه على قبول فدية الأسارى يوم بدر؛ حيث قال: ﴿ لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ [الأنفال: 68]، و﴿ لَوْلَا ﴾ حرف امتناع لوجود؛ فقد امتنع جوابها هنا لوجود شرطها، وكلُّ مَنْ لم تدركْه رحمةُ الله مذمومٌ، لكن يونس لم يذم؛ لأنه أدركته رحمة الله. وقوله تعالى: ﴿ فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ ﴾ [القلم: 50] زيادةٌ في فضل الله تعالى على يونس عليه السلام، أن الله تعالى اجتباه؛ أي: أعلى درجته في المصطفين الأخيار، وجعله من الكاملين في الصلاح، وقد وردت أحاديثُ كثيرة صحيحة تُشعر بفضل يونس عليه السلام، وتنهى عن تفضيل سيد الأنبياء وشيخ المرسلين محمد صلى الله عليه وسلم على يونس بن متى، وهي محمولةٌ على أنها من باب تواضعه صلى الله عليه وسلم كما أشرتُ في قصة إبراهيم ولوط ويوسف عليه السلام إلى أن تواضع الرفيع القدر لا يُنزل من قدره، وقد جاء صريح القرآن في تفضيل بعض الأنبياء على بعض؛ حيث يقول الله عز وجل: ﴿ تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ ﴾ [البقرة: 253]، ولا شك عند أهل العلم في أن أولي العزم من المرسلين أفضل ممن سواهم من الأنبياء والمرسلين، وأن أفضل أولي العزم محمد صلى الله عليه وسلم ثم أبوه إبراهيم خليل الرحمن صلى الله عليهم جميعًا وسلم، غير أنه إذا كان المقام مقام تنازع بين أهل الأديان وسببًا لإثارة الشرِّ وإلحاق الضرر بالمسلمين، فإنه ينبغي الكفُّ عن التفضيل؛ على حد قوله تعالى: ﴿ وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [الأنعام: 108]. فإن الأصنام والأوثان تستحقُّ السبَّ، لكن إذا كان سبُّ الأصنام يُثير عابديها على المسلمين فإنه نُهي عن سبها لذلك. وكذلك التفضيلُ على وجه الفخر أو الحميَّة أو العصبيَّة، وعلى هذا يحمل ما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في منع تفضيلِه على موسى أو يونس بن متى عليهم جميعًا الصلاة والسلام؛ فقد روى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: بينما يهوديٌّ يعرضُ سلعة له، أعطي بها شيئًا كَرِهَه أو لم يَرْضَهُ، قال: لا، والذي اصطفى موسى عليه السلام على البشر، فسمعه رجلٌ من الأنصار فلطَمَ وجهه، قال: تقول والذي اصطفى موسى عليه السلام على البشر ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أَظْهُرِنَا؟ قال: فذهب اليهودي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا أبا القاسم، إنَّ لي ذمةً وعهدًا، وقال: فلانٌ لطم وجهي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لِمَ لَطَمْتَ وَجْهَهُ؟)) ، قال: قال يا رسول الله: والذي اصطفى موسى عليه السلام على البشر، وأنت بين أظهرنا، قال: فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى عُرِفَ الغضبُ في وجهه ثم قال: ((لا تُفَضِّلُوا بين أنبياء اللهِ؛ فإنه ينفخ في الصور فيُصعق مَنْ في السماوات ومَنْ في الأرض إلا من شاء الله، قال: ثمَّ ينفخ فيه أخرى فأكون أول من بُعث، أو في أول مَنْ بُعث، فإذا موسى عليه السلام آخذٌ بالعرش فلا أدري أحوسب بصعقته يومَ الطورِ أم بُعث قبلي؟ ولا أقول: إن أحدًا أفضل من يونس بن متى)) ، وقوله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث عن موسى عليه السلام: ((فأكون أولَ من بُعث، فإذا موسى عليه السلام آخذ بالعرشِ، فلا أدري أحوسب بصعقته يوم الطور أم بُعث قبلي؟)) لا يدلُّ على أن موسى أفضل من محمد صلى الله عليه وسلم؛ إذ القاعدة عند أهل العلم أن المزيَّةَ لا تنافِي الأفضليَّة؛ أي: إنْ ثَبَتَ لأحد مزيَّةٌ على أحدٍ في جانب من جوانبه لا يدلُّ على أن صاحبَ هذه المزية أفضل من الآخر، ومثال ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى في منامه أن بلالًا رضي الله عنه يمشي بين يديه في الجنة؛ فقد روى البخاري ومسلم، واللفظ للبخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لبلال عند صلاة الفجر: ((يا بلال، حدثني بِأَرْجَى عملٍ عملتَه في الإسلام؛ فإني سمعت دفَّ نعليك بين يديَّ في الجنة)) ، قال: ما عملت عملًا أَرْجَى عندي أني لم أتطهَّرْ طهورًا في ساعة ليلٍ أو نهارٍ إلا صلَّيت بذلك الطهور ما كتب الله لي أن أُصلي، وفي لفظ لمسلم: ((فإني سمعت الليلة)) ، وفي لفظ له بدل ((دف نعليك)) ((خشف نعليك)) ، والدف: الحركة الخفيفة، والخشف: الحركة الخفيفة أيضًا، فالدف والخشف بمعنى واحد، وقد جاء في رواية الترمذي وابن خزيمة وأحمد من حديث بريدة رضي الله عنه في حديث بلال هذا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((يا بلال، بِمَ سبقتني إلى الجنة؟)) ، ولا يخطرُ على بالِ مسلمٍ أن بلالًا أفضلُ من رسول الله صلى الله عليه وسلم لهذه المزيَّة. ولعلَّ أحدًا يحسب أنه خيرٌ من يونس بن متى عليه السلام عندما يسمع قوله تعالى: ﴿ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ ﴾ [القلم: 48]، ويجهلُ أنَّ المقصود من هذا الذكر الكريم تنبيه رسول الله صلى الله عليه وسلم - كما أسلفت - إلى التأسِّي في باب الصبر بأولي العزم دون التأسِّي بمن ليسوا من أولي العزم في هذا الباب، وينسى كذلك أنَّ الله أمر رسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم بالاقتداء بالأنبياء والمرسلين بما فيهم يونس عليه السلام في باب الاهتداء إلى الصراط المستقيم كما جاء في سورة الأنعام كما أشرت؛ ولذلك كله حَذَّر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم المسلمين من أيِّ خاطر شيطانيٍّ في هذا الأمر، فقد روى البخاري ومسلم من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ما ينبغي لعبدٍ أن يقولَ: إنِّي خيرٌ من يونس بن متَّى)) ، ونَسَبُه إلى أَبِيه، وفي لفظ للبخاري من حديث عبدالله بن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا ينبغي لعبدٍ أنْ يقول: أنا خيرٌ من يونس بن متى)) ، كما روى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا ينبغي لعبدٍ أن يقول: أنا خيرٌ من يونس بن متى)) ، سلام على يونسَ في المرسلين. وإلى الفصل القادم إن شاء الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
ماذا تعرف عن اليهود؟ ﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [فاطر: 1، 2]؛ أما بعدُ: فلقد قمت بإعداد بعض الحقائق عن اليهود؛ لكي يكون المسلمون على حذر منهم، فأقول وبالله تعالى التوفيق: (1) اليهود أكثر الناس تطاولًا على الله تعالى: • قال الله تعالى: ﴿ وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ ﴾ [التوبة: 30]. • قال جل شأنه: ﴿ وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ ﴾ [البقرة: 55]. • وقال سبحانه: ﴿ لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ ﴾ [آل عمران: 181]. • قال تعالى: ﴿ وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ ﴾ [المائدة: 64]. • قال جل شأنه: ﴿ قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ * قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ ﴾ [المائدة: 24، 25]. (2) اليهود أكثر الناس كذبًا على الله تعالى: قال جل شأنه: ﴿ وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾ [آل عمران: 78]. • قال الإمام ابن كثير رحمه الله: "يخبر تعالى عن اليهود عليهم لعائن الله، أن منهم فريقًا يحرفون الكلم عن مواضعه، ويبدلون كلام الله، ويزيلونه عن المراد به؛ ليُوهِموا الجهلة أنه في كتاب الله كذلك، وينسبونه إلى الله، وهو كذب على الله، وهم يعلمون من أنفسهم أنهم قد كذبوا وافتروا في ذلك كله؛ ولهذا قال: ﴿ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾ [آل عمران: 78]"؛ [تفسير ابن كثير، ج: 3، ص: 97]. وقال سبحانه: ﴿ وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 80]. (3) اليهود أكثر الناس تطاولًا على الملائكة: قال سبحانه: ﴿ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ ﴾ [البقرة: 98]. • روى أحمد عن ابن عباس قال: ((أقبلت يهود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا أبا القاسم، إنا نسألك عن خمسة أشياء، فإن أنبأتنا بهن، عَرَفنا أنك نبيٌّ واتَّبعناك، فأخذ عليهم ما أخذ إسرائيل على بنيه، إذ قالوا: الله على ما نقول وكيل، قال: هاتوا... وذكر منها قالوا: ليس من نبيٍّ إلا له مَلَكٌ يأتيه بالخبر، فأخبرنا: من صاحبك؟ قال: جبريل عليه السلام، قالوا: جبريل، ذاك الذي ينزل بالحرب والقتال والعذاب عدوُّنا، لو قلت: ميكائيل الذي ينزل بالرحمة والنبات والقَطْر، لكان؛ فأنزل الله عز وجل: ﴿ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ ﴾ [البقرة: 97] إلى آخر الآية))؛ [حديث حسن، مسند أحمد، ج: 4، ص: 285، حديث: 2483]. (4) اليهود أهل غدر وخيانة: • قال تعالى: ﴿ فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً ﴾ [المائدة: 13]. • قال الإمام ابن كثير رحمه الله: "أخبر تعالى عما أحلَّ باليهود من العقوبة عند مخالفتهم ميثاقه ونقضهم عهده، فقال: ﴿ فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ ﴾ [المائدة: 13]؛ أي: فبسبب نقضهم الميثاق الذي أُخِذ عليهم، لعناهم؛ أي: أبعدناهم عن الحق، وطردناهم عن الهدى، ﴿ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً ﴾ [المائدة: 13]؛ أي: فلا يتعظون بموعظة لغلظها وقساوتها"؛ [تفسير ابن كثير، ج: 5، ص: 134]. • وقال سبحانه: ﴿ أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ﴾ [البقرة: 100]. (5) اليهود أصل الفساد في الأرض: قال تعالى: ﴿ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ ﴾ [المائدة: 64]. • قال الإمام ابن كثير رحمه الله: "قوله تعالى: ﴿ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ ﴾ [المائدة: 64]؛ أي: كلما عقدوا أسبابًا يكيدونك بها، وكلما أبرموا أمورًا يحاربونك بها، يبطلها الله، ويرُد كيدهم عليهم، ويحيق مكرهم السيئ بهم. وقوله تعالى: ﴿ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ ﴾ [المائدة: 64]؛ أي: من سجيتهم - أي طبيعتهم - أنهم دائمًا يسعون في الإفساد في الأرض، والله لا يحب من هذه صفته؛ [تفسير ابن كثير، ج: 5، ص: 281]. (6) اليهود يعرفون الحق وينكرونه: قال تعالى: ﴿ وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ ﴾ [البقرة: 89]. • روى ابن جرير الطبري عن ابن عباس أن يهودَ كانوا يستفتحون على الأوس والخزرج برسول الله صلى الله عليه وسلم قبل مبعثه، فلما بعثه الله من العرب، كفروا به، وجحدوا ما كانوا يقولون فيه، فقال لهم معاذ بن جبل وبشر بن البراء بن معرور أخو بني سلمة: يا معشر يهود، اتقوا الله وأسلموا؛ فقد كنتم تستفتحون علينا بمحمد صلى الله عليه وسلم ونحن أهل شرك، وتخبروننا أنه مبعوث، وتصفونه لنا بصفته، فقال سلام بن مشكم أخو بني النضير: ما جاءنا بشيء نعرفه، وما هو بالذي كنا نذكر لكم؛ فأنزل الله جل ثناؤه في ذلك هذه الآية؛ [تفسير الطبري، ج: 2، ص: 237]. (7) اليهود أكثر الناس جبنًا: قال سبحانه: ﴿ لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ ﴾ [الحشر: 14]. • قال الإمام ابن كثير رحمه الله: "يعني: أنهم من جبنهم وهلعهم لا يقدرون على مواجهة جيش الإسلام بالمبارزة والمقابلة، بل إما في حصون أو من وراء جُدُرٍ محاصَرين، فيقاتلون للدفع عنهم ضرورة"؛ [تفسير ابن كثير، ج: 13، ص: 496]. (8) اليهود أكثر الناس حرصًا على الحياة: قال سبحانه: ﴿ وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ ﴾ [البقرة: 96]. (9) قلوب اليهود متنافرة فيما بينهم: • قال سبحانه: ﴿ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ ﴾ [الحشر: 14]. • قال الإمام ابن كثير رحمه الله: "قوله تعالى: ﴿ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ ﴾ [الحشر: 14]؛ أي: عداوتهم فيما بينهم شديدة، كما قال: ﴿ وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ ﴾ [الأنعام: 65]؛ ولهذا قال: ﴿ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ﴾ [الحشر: 14]؛ أي: تراهم مجتمعين فتحسبهم مؤتلفين، وهم مختلفون غاية الاختلاف"؛ [تفسير ابن كثير، ج: 13، ص: 496]. وقال تعالى: ﴿ وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ﴾ [المائدة: 64]. • قال الإمام ابن كثير رحمه الله: "قوله تعالى: ﴿ وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ﴾ [المائدة: 64]؛ يعني: أنه لا تجتمع قلوبهم، بل العداوة واقعة بين فرقهم بعضهم في بعض دائمًا؛ لأنهم لا يجتمعون على حق"؛ [تفسير ابن كثير، ج: 5، ص: 281]. (10) اليهود قومٌ ضرب الله عليهم الذِّلَّة إلى يوم القيامة: • قال جل شأنه: ﴿ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ ﴾ [البقرة: 61]. • قال الإمام ابن كثير رحمه الله: "يقول تعالى: ﴿ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ ﴾ [البقرة: 61]؛ أي: وُضِعت عليهم، وأُلزموا بها شرعًا وقدرًا؛ أي: لا يزالون مستذَلِّين، من وجدهم استذلهم وأهانهم، وضرب عليهم الصَّغار، وهم مع ذلك في أنفسهم أذلاء متمسكنون"؛ [تفسير ابن كثير، ج: 1، ص: 428]. (11) اليهود أكثر الناس حسدًا: • قال جل شأنه: ﴿ وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [البقرة: 109]. • قال الإمام ابن كثير رحمه الله: "يحذر تعالى عباده المؤمنين عن سلوك طرائق الكفار من أهل الكتاب، ويعلمهم بعداوتهم لهم في الباطن والظاهر، وما هم مشتملون عليه من الحسد للمؤمنين، مع علمهم بفضلهم وفضل نبيهم، ويأمر عباده المؤمنين بالصفح والعفو والاحتمال، حتى يأتي أمر الله من النصر والفتح"؛ [تفسير ابن كثير، ج: 2، ص: 18]. • وقال تعالى: ﴿ أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا ﴾ [النساء: 54]. • قال الإمام القرطبي رحمه الله: "قوله تعالى: ﴿ أَمْ يَحْسُدُونَ ﴾؛ يعني اليهود، ﴿ النَّاسَ ﴾؛ يعني النبي صلى الله عليه وسلم خاصةً؛ قال عبدالله بن عباس ومجاهد بن جبر وغيرهما: حسدوه على النبوة، وأصحابه على الإيمان به"؛ [تفسير القرطبي، ج: 5، ص: 252]. • روى ابن ماجه عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((ما حسدتكم اليهود على شيء، ما حسدتكم على السلام والتأمين))؛ [حديث صحيح، صحيح ابن ماجه للألباني، حديث: 697]. (12) اليهود لا يردعهم إلا القوة: قال تعالى: ﴿ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [البقرة: 63]. وقال سبحانه: ﴿ وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [الأعراف: 171]. • قال الإمام القرطبي رحمه الله: "سبب رفع الطور أن موسى عليه السلام لما جاء بني إسرائيل من عند الله بالألواح فيها التوراة، قال لهم: خذوها والتزموها، فقالوا: لا، إلا أن يكلمنا الله بها كما كلمك، فصُعِقوا ثم أُحْيوا، فقال لهم: خذوها، فقالوا: لا، فأمر الله الملائكة فاقتلعت جبلًا من جبال فلسطين، طوله فرسخ في مثله، وكذلك كان عسكرهم، فجعل عليهم مثل الظلة، وأُتُوا ببحر من خلفهم، ونار من قِبل وجوههم، وقيل لهم: خذوها وعليكم الميثاق ألَّا تُضيِّعوها، وإلا سقط عليكم الجبل، فسجدوا توبةً لله، وأخذوا التوراة بالميثاق"؛ [تفسير القرطبي، ج: 1، ص: 441:440]. (13) اليهود أكثر الناس بخلًا وجشعًا: • قال الله تعالى: ﴿ أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا ﴾ [النساء: 53]. • قال الإمام ابن كثير رحمه الله: "يقول تعالى: ﴿ أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ ﴾ [النساء: 53]، وهذا استفهام إنكار؛ أي: ليس لهم نصيب من الملك، ثم وصفهم بالبخل فقال: ﴿ فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا ﴾ [النساء: 53]؛ أي: لأنهم لو كان لهم نصيب في الملك والتصرف، لَما أعطَوا أحدًا من الناس، ولا سيما محمدًا صلى الله عليه وسلم شيئًا، ولا ما يملأ النقير؛ وهو النقطة التي في النواة، في قول ابن عباس والأكثرين"؛ [تفسير ابن كثير، ج: 4، ص: 119]. • قال سبحانه: ﴿ وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [المائدة: 62]. • قال الإمام ابن كثير رحمه الله: "أي: يبادرون إلى ذلك من تعاطي المآثم والمحارم، والاعتداء على الناس، وأكلهم أموالهم بالباطل"؛ [تفسير ابن كثير، ج: 5، ص: 275]. (14) اليهود قَتَلَةُ الأنبياء: • قال جل شأنه: ﴿ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ ﴾ [البقرة: 61]. • قال الإمام ابن كثير رحمه الله: "هذا الذي جازيناهم من الذلة والمسكنة، وإحلال الغضب بهم؛ بسبب استكبارهم عن اتباع الحق، وكُفْرِهم بآيات الله، وإهانتهم حَمَلَةَ الشرع؛ وهم الأنبياء وأتباعهم، فانتقصوهم إلى أن أفضى بهم الحال إلى أن قتلوهم، فلا كِبْرَ أعظم من هذا، إنهم كفروا بآيات الله، وقتلوا أنبياء الله بغير الحق"؛ [تفسير ابن كثير، ج: 1، ص: 429]. • وقال سبحانه: ﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [البقرة: 91]. • قال الإمام ابن كثير رحمه الله: "إن كنتم صادقين في دعواكم الإيمان بما أنزل إليكم، فلم قتلتم الأنبياء الذين جاؤوكم بتصديق التوراة التي بأيديكم، والحكم بها، وعدم نسخها، وأنتم تعلمون صدقهم؟ قتلتموهم بغيًا وحسدًا، وعنادًا واستكبارًا على رُسُلِ الله، فلسْتُم تتبعون إلا مجرد الأهواء، والآراء والتشهِّي؛ كما قال تعالى: ﴿ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ ﴾ [البقرة: 87]"؛ [تفسير ابن كثير، ج: 1، ص: 490]. (15) اليهود يفضِّلون الشرك على التوحيد: قال تعالى عن اليهود: ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا ﴾ [النساء: 51]. وقال سبحانه: ﴿ وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ * إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ ﴾ [الأعراف: 138 - 140]. (16) اليهود يتحايلون لتحليل المحرمات: • قال تعالى: ﴿ وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ * وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ * فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ * فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ ﴾ [الأعراف: 163 - 166]. • قال الإمام ابن كثير رحمه الله: "هؤلاء قوم احتالوا على انتهاك محارم الله، بما تعاطوا من الأسباب الظاهرة التي معناها في الباطن تعاطي الحرام"؛ [تفسير ابن كثير، ج: 6، ص: 423]. • روى ابن بطة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود، فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل))؛ [إسناده جيد، تفسير ابن كثير، ج: 6، ص: 423، إرواء الغليل للألباني، ج: 5، ص: 375]. (17) اليهود يستحلون الحرام: قال سبحانه: ﴿ فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا * وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ﴾ [النساء: 160، 161]. (18) اليهود أهل جدال عقيم: • قال سبحانه: ﴿ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ * قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ * قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ * قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ * قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ ﴾ [البقرة: 67 - 71]. • روى ابن جرير الطبري عن ابن عباس قال: "لو أخذوا أدنى بقرة، اكتفوا بها، لكنهم شددوا، فشدد الله عليهم"؛ [تفسير الطبري، ج: 2، ص: 204]. (19) قلوب اليهود أشد قسوة من الحجارة: • قال جل شأنه: ﴿ فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ ﴾ [المائدة: 13]. • قال الإمام ابن كثير رحمه الله: "أخبر تعالى عما أحلَّ باليهود من العقوبة عند مخالفتهم ميثاقه ونقضهم عهده، فقال: ﴿ فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ ﴾ [المائدة: 13]؛ أي: فبسبب نقضهم الميثاق الذي أُخِذ عليهم، لعناهم؛ أي: أبعدناهم عن الحق، وطردناهم عن الهدى، ﴿ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً ﴾ [المائدة: 13]؛ أي: فلا يتعظون بموعظة لغلظها وقساوتها"؛ [تفسير ابن كثير، ج: 5، ص: 134]. (20) لم يؤمن أحدٌ من علماء اليهود بالنبي صلى الله عليه وسلم في زمانه إلا واحدًا فقط: علماء اليهود من أكثر الناس كفرًا وعنادًا، في كل مكان وزمان، ودليل ذلك أنه لم يؤمن أحد منهم ببعثة نبينا صلى الله عليه وسلم عند ظهوره وهجرته إلى المدينة، إلا واحدًا فقط؛ وهو عبدالله بن سلام رضي الله عنه، على الرغم من أنهم يعلمون يقينًا من كتبهم الموجودة بين أيديهم صفةَ النبي صلى الله عليه وسلم، وزمان ومكان ظهوره. • روى البخاري عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((لو آمن بي عشرة من اليهود، لآمن بي اليهود))؛ [البخاري، حديث: 3941]. • وروى مسلم عن أبي هريرة، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لو تابعني عشرة من اليهود، لم يبقَ على ظهرها يهوديٌّ إلا أسلم))؛ [مسلم، حديث: 2793]. • قال الإمام النووي رحمه الله: "قوله: ((لو بايعني عشرة من اليهود))، قال صاحب التحرير: المراد عشرة من أحبارهم"؛ أي: علمائهم؛ [مسلم بشرح النووي، ج: 9، ص: 150]. • روى أحمد عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لو آمن بي عشرة من أحبار - أي علماء - اليهود، لآمن بي كل يهودي على وجه الأرض))؛ [حديث صحيح لغيره، مسند أحمد، ج: 14، ص: 229، حديث: 8555]. • روى البخاري عن أنس، قال: سمِع عبدالله بن سلام بقدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو في أرض يخترف - يجمع الفاكهة - فأتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبي: فما أول أشراط الساعة؟ وما أول طعام أهل الجنة؟ وما ينزع الولد إلى أبيه أو إلى أمه؟ قال: أخبرني بهن جبريل آنفًا – الآن - قال: جبريل؟ قال: نعم، قال: ذاك عدو اليهود من الملائكة؛ فقرأ هذه الآية: ﴿ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ ﴾ [البقرة: 97]، أما أول أشراط الساعة، فنارٌ تحشر – تجمع - الناس من المشرق إلى المغرب، وأما أول طعام يأكله أهل الجنة، فزيادة كبد حوت - هي القطعة المنفردة المتعلقة بالكبد - وإذا سبق ماءُ الرجل ماءَ المرأة، نزع الولد، وإذا سبق ماءُ المرأة نزعت، قال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أنك رسول الله، يا رسول الله، إن اليهود قوم بُهُتٌ – كذَّابون - وإنهم إن يعلموا بإسلامي قبل أن تسألهم يبهتوني، فجاءت اليهود، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أي رجل عبدالله فيكم؟ قالوا: خيرُنا وابنُ خيرِنا، وسيِّدُنا وابنُ سيِّدِنا، قال: أرأيتم إن أسلم عبدالله بن سلام؟ فقالوا: أعاذه الله من ذلك، فخرج عبدالله فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، فقالوا: شرنا وابن شرنا، وانتقصوه، قال: فهذا الذي كنت أخاف يا رسول الله))؛ [البخاري، حديث: 4480]. (21) الله تعالى مسخ بعض اليهود فجعلهم قردة وخنازير: قال سبحانه: ﴿ وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ ﴾ [البقرة: 65]. • قال الإمام ابن جرير الطبري رحمه الله: "مسخهم الله قردةً بمعصيتهم، ولم يحيوا في الأرض إلا ثلاثة أيام، ولم تأكل، ولم تشرب، ولم تنسُل"؛ [تفسير الطبري، ج: 2، ص: 168]. وقال سبحانه: ﴿ قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ ﴾ [المائدة: 60]. (22) اليهود أشد الناس عداوة للمسلمين: قال تعالى: ﴿ لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا ﴾ [المائدة: 82]. • قال الإمام ابن كثير رحمه الله: "قوله تعالى: ﴿ لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا ﴾ [المائدة: 82]، ما ذاك إلا لأن كفر اليهود عناد وجحود ومباهتة للحق، وغمط للناس، وتنقُّص بحملة العلم؛ ولهذا قتلوا كثيرًا من الأنبياء، حتى همُّوا بقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم غير مرة وسحروه، وألَّبوا عليه أشباههم من المشركين، عليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة"؛ [تفسير ابن كثير، ج: 5، ص: 311]. (23) اليهود أكثر الناس صدًّا عن سبيل الله: • قال سبحانه: ﴿ فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا ﴾ [النساء: 160]. • قال الإمام ابن كثير رحمه الله: "قوله تعالى: ﴿ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا ﴾ [النساء: 160]؛ أي: صدوا الناس وصدوا أنفسهم عن اتباع الحق، وهذه سجية لهم، متصفون بها من قديم الدهر وحديثه؛ ولهذا كانوا أعداء الرسل، وقتلوا خلقًا من الأنبياء، وكذبوا عيسى ومحمدًا، صلوات الله وسلامه عليهما"؛ [تفسير ابن كثير، ج: 4، ص: 368]. ختامًا: أسأل الله تعالى بأسمائه الـحسنى وصفاته العلا أن يـجعل هذا العمل خالصًا لوجهه الكريم، ويـجعله سبحانه في ميزان حسناتي يوم القيامة؛ ﴿ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ﴾ [الشعراء: 88، 89]، كما أسأله سبحانه وتعالى أن ينفع بهذا العمل طلاب العلم الكــرام، وآخــر دعوانا أن الـحمد لله رب العالـمين، وصلى الله وسلم على نبينا مـحمد، وعلى آلـه، وأصحابه، والتابعين لـهم بإحسان إلى يوم الدين.
مقتطفات من سيرة أسد الله وأسد رسوله حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أما بعد: فهذه مقتطفات من سيرة علم من أعلام هذه الأمة وبطل من أبطالها، كان رضي الله عنه من السابقين إلى الإسلام، وله قرابة من النبي صلى الله عليه وسلم، وبإسلامه أعز الله المسلمين وأذل الله المشركين، وهو سيد الشهداء، وُلد قبل النبي صلى الله عليه وسلم بسنتين وقيل أربع، وأسلم في السنة الثانية من البعثة، لازم نصر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهاجر معه وجاهد، إنه الإمام البطل الضرغام أسد الله حمزة بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف القرشي الهاشمي، أبو عمارة عم النبي صلى الله عليه وسلم وأخوه من الرضاعة، أرضعتهما ثويبة مولاة أبي لهب كما ثبت ذلك في الصحيح [1] ، وهو قريبه من أمه صلى الله عليه وسلم؛ لأن أم حمزة هالة بنت أُهيب بن عبد مناف بن زهرة بنت عم آمنة بنت وهب بن عبد مناف أم النبي صلى الله عليه وسلم، وقد آخى النبي صلى الله عليه وسلم بينه وبين زيد بن حارثة، وقد عقد له رسول الله صلى الله عليه وسلم لواء وأرسله في سرية، فكان ذلك أول لواء عقد في الإسلام في قول المدائني. وقصة إسلامه ذكرها ابن إسحاق في السيرة، وهو أن أبا جهل مر برسول الله صلى الله عليه وسلم عند الصفا فآذاه، وشتمه، ونال منه بعض ما يكره، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ساكتٌ لا يكلمه، ثم انصرف لعنه الله عن النبي صلى الله عليه وسلم إلى نادٍ من قريش عند الكعبة، فجلس معهم، وكانت مولاة لعبد الله بن جدعان في مسكن لها على الصفا تسمع ذلك، فلم يلبث أن أقبل حمزة رضي الله عنه متوشحًا [2] قوسه راجعًا من قنصٍ [3] له. فلما رأته المولاة قالت له: يا أبا عمارة! لو رأيت ما لقي ابن أخيك محمدٌ آنفًا من أبي الحكم بن هشام، وجده ها هنا جالسًا فآذاه وسبَّه، وبلغ منه ما يكره، ثم انصرف عنه، ولم يكلمه محمدٌ، فاحتمل حمزة رضي الله عنه الغضب لما أراد الله به من كرامته – وكان حمزة أعز فتى في قريش وأشد شكيمة [4] – فانطلق يسعى مُصممًا أنه إذا لقي أبا جهل بطش به، فلما دخل المسجد نظر إليه جالسًا في القوم، فأقبل نحوه حتى إذا قام على رأسه رفع القوس فضربه به، فشجَّه شجة منكرة، ثم قال له: أتشتم ابن أخي وأنا على دينه أقول ما يقول؟ فرد عليَّ ذلك إن استطعت، فقام رجالٌ من بني مخزوم إلى حمزة لينصروا أبا جهلٍ، فقال لهم أبو جهلٍ: دعوا أبا عُمارة، فإني والله قد سببت ابن أخيه سبًّا قبيحًا. وعاد حمزة رضي الله عنه إلى بيته، وقد ساورته الوساوس الشيطانية والهواجس النفسية، كيف تركت دين قومك، واتبعت هذا الصابئ للموت خيرٌ لك مما صنعت، ثم التمسرضي الله عنه التوفيق والرشد من الله تعالى، فقال: اللَّهم إن كان رشدًا فاجعل تصديقه في قلبي، وإلا فاجعل لي مما وقعت فيه مخرجًا، فبات رضي الله عنه بليلةٍ لم يبت مثلها من وسوسة الشيطان حتى أصبح، فغدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: يا بن أخي، إني وقعت في أمرٍ لا أعرف المخرج منهُ، وإقامة مثلي على ما لا أدري أرشدٌ هو أم غيٌّ شديدٌ [5] ! فأقبل عليه صلى الله عليه وسلم، فحدَّثه بحديثه الذي يُنير القلوب، ويطمئن النفوس، ويذهب ظُلمات الشك والوساوس، فذكره وبشره، وأنذره، فثبت الله تعالى الإيمان في قلبه، فقال رضي الله عنه: أشهد أنك لصادقٌ، فأظهر دينك يا بن أخي، فوالله ما أحبُّ أن لي ما أظلته السماء، وأنا على ديني الأول. وسُرَّ الرسول صلى الله عليه وسلم بإسلام عمه حمزة رضي الله عنه أيَّما سرورٍ، وعرَفت قريشٌ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد عز وامتنع، وأن حمزة سيمنعه [6] . وقد كانت لهذه الصحابي مواقف عظيمة تدل على شجاعته ونصرته لهذا الدِّين، فقد روى ابن إسحاق بسنده أن أمية بن خلف سأل عبدالرحمن بن عوف يوم بدر فقال: «من الرجل منكم المعلم بريشة نعامة في صدره يوم بدر؟ قلت: ذلك عم رسول الله صلى الله عليه وسلم ذاك حمزة بن عبد المطلب، قال: ذاك الذي فعل بنا الأفاعيل» [7] . وروى البخاري في صحيحه من حديث وحشي قال: «إن حمزة قتل طعيمة بن عدي بن الخيار يوم بدر» [8] . وقال علي رضي الله عنه: «إني يومئذ بعدما ارتفع النهار ونحن والمشركون قد اختلطت صفوفنا وصفوفهم، خرجت في إثر رجل منهم، فإذا برجل من المشركين على كثيب رمل وسعد بن خيثمة، وهما يقتتلان حتى قتل المشرك سعد بن خيثمة، والمشرك مقنع في الحديد، وكان فارسًا فاقتحم عن فرسه، فعرفني وهو مُعْلِمٌ ولا أعرفه، فناداني: هلم ابن أبي طالب للبراز، قال: فعطفت عليه فانحط إليَّ مقبلًا، وكنت رجلًا قصيرًا فانحططت راجعًا لكي ينـزل إليَّ، فكرهت أن يعلوني بالسيف، فقال: يا بن أبي طالب فررت؟ فقلت: قريبًا مفر ابن الشثراء، قال: فلما استقرت قدماي وثبت أقبل، فلما دنا مني ضربني فاتقيت بالدرقة [9] ، فوقع سيفه فلحج – يعني لزم - فأضربه على عاتقه وهو دارع فارتعش، ولقد فض [10] سيفي درعه، فظننت أن سيفي سيقتله، فإذا بريق سيف من ورائي فطأطأت رأسي ويقع السيف فأطنَّ قِحف رأسه [11] بالبيضة [12] ، وهو يقول: خذها وأنا ابن عبد المطلب! فالتفت من ورائي فإذا حمزة بن عبد المطلب [13] ، [14] . وكانت المبارزة أول شيء بدئ فيه من القتال يوم بدر، وجرت العادة أنه لا يخرج للمبارزة إلا الشجعان من الرجال وهذا ما حصل في غزوة بدر. روى البخاري في صحيحه من حديث أبي ذر رضي الله عنه: أنه كان يقسم فيها قَسَمًا إنَّ هذه الآية: ﴿ هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ ﴾ [الحج: 19]، نزلت في حمزة وصاحبيه وعتبة وصاحبيه يوم برزوا في يوم بدر [15] . وروى أبو داود في سننه من حديث علي رضي الله عنه قال: تقدم عتبة بن ربيعة وتبعه ابنه وأخوه، فنادى: من يبارز؟ فانتدب له شباب من الأنصار، فقال: من أنتم؟ فأخبروه، فقال: لا حاجة لنا فيكم، إنما أردنا بني عمنا، فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قُمْ يَا حَمْزَةُ، قُمْ يَا عَليُّ، قُمْ يَا عُبَيْدَةُ بنُ الحَارِثِ»، فأقبل حمزة إلى عتبة وأقبلت إلى شيبة، واختلف بين عبيدة والوليد ضربتان، فأثخن كل واحد منهما صاحبه، ثم ملنا على الوليد فقتلناه واحتملنا عبيدة [16] . وقد استشهد رضي الله عنه في غزوة أُحد، وكان ذلك في النصف من شوال سنة ثلاث من الهجرة، وسماه النبي صلى الله عليه وسلم سيد الشهداء، ويقال: إنه قتل يوم أُحد قبل أن يَقتل أكثر من ثلاثين نفسًا. روى الحاكم في المستدرك من حديث جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «سَيِّدُ الشُّهَدَاءِ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَرَجُلٌ قَـامَ إِلَـى إِمَامٍ جَائِرٍ فَأَمَرَهُ وَنَهَـاهُ فَقَتَلَـهُ» [17] . وقد ذكر البخاري في صحيحه قصة استشهاده من حديث جعفر بن عمرو بن أمية الضمري قال: خرجت مع عبد الله بن عدي بن الخيار، فلما قدمنا حمص قال لي عبيد الله بن عدي: هل لك في وحشي نسأله عن قتل حمزة؟ قلت: نعم، وكان وحشي يسكن حمص، فسألنا عنه، فقيل لنا: هو ذاك في ظل قصره، كأنه حميتٌ، قال: فجئنا حتى وقفنا عليه بيسير، فسلمنا فرد السلام، قال: وعبيد الله معتجر بعمامته، ما يرى وحشي إلا عينيه ورجليه، فقال عبيد الله: يا وحشي أتعرفني؟ قال: فنظر إليه ثم قال: لا والله، إلا أني أعلم أن عدي بن الخيار تزوج امرأة يقال لها أم قتال بنت أبي العيص، فولدت له غلامًا بمكة، فكنت أسترضع له، فحملت ذلك الغلام مع أمه فناولتها إياه، فلكأني نظرت إلى قدميك، قال: فكشف عبيد الله عن وجهه ثم قال: ألا تخبرنا بقتل حمزة؟ قال: نعم، إن حمزة قتل طعيمة بن عدي بن الخيار ببدر، فقال لي مولاي جبير بن مطعم: إن قتلت حمزة بعمي فأنت حُرٌّ، قال: فلما أن خرج الناس عام عينين، وعينين جبل بحيال أحد، بينه وبينه واد، خرجت مع الناس إلى القتال، فلما أن اصطفوا للقتال، خرج سباعٌ فقال: هل من مبارز؟ قال: فخرج إليه حمزة بن عبد المطلب، فقال: يا سباعُ، يا بن أم أنمار مقطعة البظور، أتحادُّ الله ورسوله صلى الله عليه وسلم؟ قال: ثم شدَّ عليه، فكان كأمس الذاهب، قال: وكمنت لحمزة تحت صخرة، فلما دنا مني رميته بحربتي، فأضعها في ثنته حتى خرجت من بين وركيه، قال: فكان ذاك العهد به، فلما رجع الناس رجعت معهم، فأقمت بمكة حتى فشا فيها الإسلام، ثم خرجت إلى الطائف، فأرسلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رسولًا، فقيل لي: إنه لا يهيج الرسل، قال: فخرجت معهم حتى قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما رآني قال: «آنْتَ وَحْشِيٌّ؟»، قلت: نعم، قال: «أَنْتَ قَتَلْتَ حَمْزَةَ؟»، قلت: قد كان من الأمر ما بلغك، قال: «فَهَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تُغَيِّبَ وَجْهَكَ عَنِّي؟»، قال: فخرجت، فلما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فخرج مسيلمة الكذاب، قلتُ: لأخرجن إلى مسيلمة، لعلي أقتله فأكافئ به حمزة، قال: فخرجت مع الناس، فكان من أمره ما كان، قال: فإذا رجل قائم في ثلمة جدار، كأنه جمل أورق، ثائر الرأس، قال: فرميته بحربتي، فأضعها بين ثدييه حتى خرجت من بين كتفيه، قال: ووثب إليه رجل من الأنصار فضربه بالسيف على هامتهِ. قال: قال عبد الله بن الفضل: فأخبرني سليمان بن يسار: أنه سمع عبد الله بن عمر يقول: فقالت جاريةٌ على ظهر بيت: وأمير المؤمنين، قتله العبد الأسود [18] . وقد مثل بحمزة رضي الله عنه بعد قتله، فقد روى الحاكم في المستدرك من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: «لما قتل حمزة أقبلت صفية تطلبه لا تدري ما صنع، فلقيت عليًّا والزبير، فقال علي للزبير: اذكر لأمك، وقال الزبير لعلي: لا، اذكر أنت لعمتك، قالت: ما فعل حمزة، فأرياها أنهما لا يدريان. فجاءت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «إِنِّي أَخَافُ عَلى عَقْلِهَا»، فوضع يده على صدرها ودعا، فاسترجعت وبكت، ثم جاء فقام عليه وقد مثل به فقال: «لَوْلَا جَزَعُ النِّسَاءِ لَتَرَكْتُهُ حَتَّى يُحَصَّلَ مِنْ حَوَاصِلِ الطَّيْرِ وَبُطُونِ السِّبَاعِ»، ثم أمر بالقتلى فجعل يصلي عليهم فيضع تسعة وحمزة رضي الله عنه فيكبر عليهم سبع تكبيرات، ثم يرفعون ويترك حمزة، ثم يأتوا بتسعة فيكبر عليهم سبع تكبيرات، ثم يرفعون ويترك حمزة، ثم يأتوا بتسعة فيكبر عليهم سبع تكبيرات حتى فرغ منهم [19] . فإن قيل: يعارضه ما رواه البخاري في صحيحه من حديث جابر رضي الله عنه قال: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَجْمَعُ بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ مِنْ قَتْلَى أُحُدٍ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ، ثُمَّ يَقُولُ: «أَيُّهُمْ أَكْثَرُ أَخْذًا لِلْقُرْآنِ»، فَإِذَا أُشِيرَ لَهُ إِلَى أَحَدِهِمَا قَدَّمَهُ فِي اللَّحْدِ، وَقَالَ: «أَنَا شَهِيدٌ عَلَى هَؤُلاَءِ يَوْمَ القِيَامَةِ»، وَأَمَرَ بِدَفْنِهِمْ فِي دِمَائِهِمْ، وَلَمْ يُغَسَّلُوا، وَلَمْ يُصَلَّ عَلَيْهِمْ [20] . وقد أجاب الشوكاني عن هذا الإشكال ومن ضمن ما قال: أحاديث الصلاة قد شد من عضدها كونها مثبتة، والإثبات مقدم على النفي، وهذا مرجح معتبر... [21] إلخ، وروى الحاكم في المستدرك من حديث ابن عباس رضي الله عنه قال: قُتل حمزة بن عبد المطلب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم جنبًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «غَسَّلَتْهُ الْمَلَائِكَةُ» [22] . وكان رضي الله عنه يُلقَّب بأسد الله وأسد رسوله، فقد روى الحاكم في المستدرك من حديث يحيى بن عبدالرحمن بن أبي لبيبة عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «والَّذي نَفْسِي بِيَدِهِ! إِنَّهُ لَمَكْتُوْبٌ فِيْ السَّمَاءِ السَّابِعَةِ: حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ المُطَّلِبِ أَسَدُ اللَّهِ وَأَسَدُ رَسُوْلِهِ» [23] . وروى الإمام أحمد في مسنده من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قَدِمَ يوم أحد، فسمع نساء من بني عبد الأشهل يبكين على هَلْكاهن، فقال: «لَكِنَّ حَمْزَةَ لَا بَوَاكِيَ لَهُ»، فَجِئْنَ نِسَاءُ الْأَنْصَارِ فَبَكَيْنَ عَلَى حَمْزَةَ عِنْدَهُ، فَاسْتَيْقَظَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وهن يَبْكِينَ، فَقَالَ: «يَا وَيْحَهُنَّ! إِنَّهُنَّ لَهَا هُنَا حَتَّى الْآنَ؟ مُرُوهُنَّ فَلْيَرْجِعْنَ، وَلَا يَبْكِينَ عَلَى هَالِكٍ بَعْدَ الْيَوْمِ» [24] . وروى الإمام أحمد في مسنده من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لَمَّا أُصِيبَ إِخْوَانُكُمْ بِأُحُدٍ جَعَلَ اللَّهُ أَرْوَاحَهُمْ فِي أَجْوَافِ طَيْرٍ خُضْرٍ، تَرِدُ أَنْهَارَ الْجَنَّةِ، وَتَأْكُلُ مِنْ ثِمَارِهَا، وَتَأْوِي إِلَى قَنَادِيلَ مِنْ ذَهَبٍ مُعَلَّقَةٍ فِي ظِلِّ الْعَرْشِ، فَلَمَّا وَجَدُوا طِيبَ مَأْكَلِهِمْ وَمَشْرَبِهِمْ وَمَقِيلِهِمْ قَالُوا: يَا لَيْتَ إِخْوَانَنَا يَعْلَمُونَ بِمَا صَنَعَ اللَّهُ لِئَلَّا يَزْهَدُوا فِي الْجِهَادِ، وَلَا يَنْكُلُوا فِي الْحَرْبِ؟ فقال اللَّه تعالى: ﴿ وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ﴾ [آل عمران: 169] [25] . قال الحافظ ابن كثير رحمه الله : أما أرواح الشهداء فهي في حواصل طير خضر، فهي كالكواكب بالنسبة إلى أرواح عموم المؤمنين، فإنها تطير بأنفسها، فنسأل الله الكريم المنان أن يثبتنا على الإيمان [26] . ومما يدل على فضل شهداء أحد وشرفهم وعظيم مكانتهم - أن النبي صلى الله عليه وسلم لما ذكر أصحاب أُحد قال: «أَمَا وَاللَّهِ لَوَدِدْتُ أَنِّي غُودِرْتُ [27] مَعَ أَصْحَابِ نُحْصِ الْجَبَلِ»؛ يَعْنِي: سَفْحَ الْجَبَلِ [28] . وقد دفن حمزة مع ابن أُخته عبد الله بن جحش رضي الله عنه في قبر واحد. روى الإمام أحمد في مسنده من حديث خباب بن الأرت قال:... لكن حمزة لم يُوجد له كفن إلا بُردة ملحاء إذا جعلت على رأسه قلصت [29] عن قدميه، وإذا جعلت على قدميه قلصت عن رأسه، حتى مدت على رأسه وجعل على قدميه الإذخر [30] . وقد رثاه كعب بن مالك بأبيات منها: بَكَتْ عَيْنِي وَحَقَّ لَهَا بُكَاهَا وَمَا يُغنِي البُكَاءُ وَلَا العَوِيلُ عَلَى أَسَدِ الإِلَهِ غَداةَ قَالُوا أَحَمزَةُ ذَلِكَ الرَّجُلُ القَتِيلُ قال ابن حجر رحمه الله في الإصابة وفي فوائد أبي الطاهر الذهلي من طريق حماد بن زيد عن أيوب عن أبي الزبير عن جابر رضي الله عنه قال: استُصرخنا على قتلانا بأحُد يوم حفر معاوية العين، فوجدناهم رطابًا يتثنون، وقال حماد: وزاد جرير بن حازم عن أيوب: فأصاب المر [31] رجل حمزة فطار منها الدم. وهذه كرامة عظيمة لحمزة رضي الله عنه وأرضاه، وكان استشهاده كما تقدم في غزوة أحد من السنة الثالثة من الهجرة، فعاش دون الستين – رضي الله عن حمزة وجزاه عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء وجمعناه به في دار كرامته مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقًا. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين [32] . [1] صحيح البخاري (5100)، وصحيح مسلم (1447). [2] متوشحًا: أي متقلدًا؛ انظر لسان العرب (15/ 306). [3] القنص: الصيدُ؛ انظر لسان العرب (11/ 319). [4] يُقال: فلانٌ شديد الشكيمة: إذا كان عزيز النفس أبيًّا قويًّا. انظر النهاية (2/ 444). [5] قال الدكتور محمد أبو شهبة في كتابه السيرة النبوية (1/ 300): هذا يدلُّ على حصافة في العقل، وأصالة في التفكير، واعتدادٍ بالنفس، وأن القوم كانوا أصحاب عقولٍ ومواهب، وأنهم كانوا أهلًا لكل توجيهٍ نبوي كريمٍ حتى صاروا خير أمةٍ أخرجت للناس. [6] أخرج قصة إسلام حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه: الحاكم في المستدرك – كتاب معرفة الصحابة رضي الله عنه باب ذكر إسلام حمزة رضي الله عنه– رقم الحديث (4930) – وابن إسحاق في السيرة (1/ 328). وحسنه شيخنا د/ سعد الحميد في تحقيقه لمختصر استدراك الحافظ الذهبي على مستدرك أبي عبد الله الحاكم (4/ 1740 – 1743) برقم (628)، وقال: فالحديث بهذه الطريق والطريق الأخرى يكون حسنًا لغيره. [7] السيرة النبوية (2/ 223)، وأخرجه البزار في مسنده (1/ 3)، برقم (227) وسنده حسن. [8] برقم (4072). [9] الدرقة: الترس من جلد فليس فيه خشب ولا عقب، المعجم الوسيط (1/ 281). [10] الفض: الكسر بالتفرقة، مفتاح الصحاح (ص212). [11] قحف الرأس: وهو الذي فوق الدماغ، وقيل: هو ما انفلق من جمجمته وانفصل، النهاية في غريب الحديث (1/ 17). [12] البيضة، هي الخوذة التي توضع لحماية الرأس من الضربات. [13] فإذا هو حمزة عمي، والمقتول طعيمة بن عدي. [14] مغازي الواقدي (1/ 92-93). [15] برقم 4743. [16] برقم (2665)، وإسناده صحيح، وصححه الشيخ الألباني۴ في صحيح سنن أبي داود (2/ 507). [17] برقم (4936) وقال الحاكم: صحيح الإسناد، وقال شيخنا د/ سعد الحميد في تحقيقه لمختصر استدراك الحافظ الذهبي على مستدرك أبي عبد الله الحاكم (4/ 1745) برقم (629)، ما خلاصته: الحديث حسن لغيره. [18] برقم (4072). [19] (4/ 203) برقم (4947)، وصححه شيخنا د/ سعد الحميد في تحقيقه مختصر استدراك الحافظ الذهبي على مستدرك أبي عبد الله الحاكم فقال: الحديث صحيح لغيره (4/ 1768- 1775) برقم (635). [20] برقم (1343). [21] نيل الأوطار (4/ 78 – 82). [22] مستدرك الحاكم (4/ 199) برقم (4937)، قال الشيخ الألباني ۴ في أحكام الجنائز (ص56): أخرجه ابن سعد في الطبقات من طريق شيخه محمد ابن عبد الله ثم ساقه بسنده إلى الحسن، وسنده صحيح رجاله كلهم ثقات. يعني: أنه صحيح إلى مرسله الحسن البصري، وقال شيخنا د/ سعد الحميد في تحقيقه لمختصر استدراك الحافظ الذهبي على مستدرك أبي عبد الله الحاكم :فأقل أحوال هذا المرسل أن سنده حسن إلى مرسله، فيكون الحديث من الطريق الضعيفة السابقة مع هذا المرسل حسنًا لغيره، والله أعلم (4/ 1752). [23] (4/ 204) برقم (4950) وحسنه شيخنا د/ سعد الحميد في مختصر استدراك الحافظ الذهبي على مستدرك أبي عبد الله الحاكم، فقال بعد ذكره لطرق الحديث: فهو حسن لغيره بمجموع الطرق (4/ 1776- 1777) برقم (636). [24] (9/ 477) برقم (5666)، وقال محققوه: إسناده حسن. [25] (4/ 218) برقم (2388)، وقال محققوه: حديث حسن. [26] تفسير ابن كثير۴: (3/ 263). [27] غُودرت: من المغادرة وهي الترك: أي ليتني تركت مع قتلى أُحد وأُبقيت فيهم، أي ليتني استشهدت معهم. [28] رواه الإمام أحمد في مسنده (23/ 269 – 270) برقم (15026)، وقال محققوه: إسناده حسن. [29] قلص: ارتفع، النهاية (4/ 288). [30] (34/ 550) برقم (21072)، وقال محققوه: إسناده صحيح. [31] المر: المسحاة أو مقبضها، التاج (م – ر ر). [32] سير أعلام النبلاء (1/ 171 – 184)، والإصابة في تمييز الصحابة (2/ 620 – 622)، واللؤلؤ المكنون في سيرة النبي المأمون (664 – 682)، وحدث غير مجرى التاريخ للمؤلف، ص219-250.
موسى عليه السلام (15) روى البخاريُّ ومسلمٌ، واللفظ للبخاري، من طريق سعيد بن جبير قال: قلت لابن عباس: إن نوفًا البكالي يزعم أن موسى صاحب الخضر ليس هو موسى بني إسرائيل إنما هو موسى آخر، فقال: كذب عدوُّ الله، حدثنا أُبيُّ بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم: أن موسى قام خطيبًا في بني إسرائيل، فسُئل: أيُّ الناس أعلم؟ فقال: أنا، فعتب الله عليه؛ إذ لم يرد العلم إليه، فقال له: بلى، لي عبدٌ بمجمع البحرين هو أعلم منك، قال: أي رب، ومن لي به؟ قال: تأخذ حوتًا فتجعله في مكتل، حيثما فقدت الحوت فهو ثَمَّ، وأخذ حوتًا فجعله في مكتل، ثم انطلق هو وفتاه يُوشع بن نون حتى أتيا الصخرة، ووضعا رؤوسهما، فرَقَدَ موسى واضطرب الحوت، فخرج فسقط في البحر ﴿ فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا ﴾ [الكهف: 61] فأمسك الله عن الحوت جرية الماء فصار مثل الطاق، فانطلقا يمشيان بقيَّة ليلتهما ويومهما حتى إذا كان من الغد ﴿ قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا ﴾ [الكهف: 62]، ولم يجد موسى النصب حتى جاوز حيث أمره الله، قال له فتاه: ﴿ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا ﴾ [الكهف: 63]، فكان للحوت سربًا ولهما عجبًا، قال له موسى: ﴿ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا ﴾ [الكهف: 64]، رجعا يقصان آثارهما حتى انتهيا إلى الصخرة فإذا رجل مسجًّى بثوب، فسلَّم موسى فردَّ عليه فقال: وأنى بأرضك السلام؟! قال: أنا موسى، قال: موسى بني إسرائيل؟ قال: نعم، أتيتك لتعلمني ﴿ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا ﴾ [الكهف: 66]، قال: يا موسى، إني على علم من علم الله، علَّمَنِيه الله لا تعلمُه، وأنت على علم من علم الله علَّمَكَه الله لا أعلمُه، قال: ﴿ هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا * قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا * وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا ﴾ [الكهف: 66 - 68] إلى قوله: ﴿ أَمْرًا ﴾، فانطلقا يمشيان على ساحل البحر، فمرت بهما سفينة، كلَّموهم أن يحملوهم، فعرفوا الخضر فحملوه بغير نولٍ، فلما ركِبا في السفينة جاء عصفورٌ فوقع على حرف السفينة، فنقر في البحر نقرة أو نقرتين، قال له الخضر: يا موسى، ما نقص علمي وعلمك من علم الله إلا مثل ما نقص هذا العصفور بمنقاره من البحر؛ إذ أخذ الفأس فنزع لوحًا، قال: فلم يفجأ موسى إلا وقد قلع لوحًا بالقدوم، فقال له موسى: ما صنعت؟! قومٌ حملونا بغير نولٍ عمدت إلى سفينتهم فخرقتها ﴿ لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا * قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا * قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا ﴾ [الكهف: 71 - 73]، فكانت الأولى من موسى نسيانًا. فلما خرجا من البحر مرُّوا بغلام يلعبُ مع الصبيان، فأخذ الخضر برأسه فقلعه بيده هكذا كأنه يقطف شيئًا، فقال له موسى: ﴿ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا * قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا * قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا * فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ ﴾ [الكهف: 74 - 76] مائلًا، أَوْمَأَ بيدِه هكذا كأنه يمسَحُ شيئًا إلى فوق، قال: قوم أتيناهم فلم يطعمونا ولم يضيفونا عمدت إلى حائطهم ﴿ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا * قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا ﴾ [الكهف: 77، 78]، قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: ((وَدِدْنا أنَّ موسى كان صبر، فقصَّ الله علينا من خبرهما)) ، وفي لفظ قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((يرحمُ اللهُ موسَى، لو كان صبر يُقصُّ علينا من أمرهما)) . ثم سَاقَ البخاري رحمه الله من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إنما سُمِّي الخضر؛ أنه جلس على فروة بيضاء فإذا هي تهتزُّ من خلفه خضراء)) . وقد سَاقَ الله عز وجل قصةَ موسى مع الخضر عليه السلام في محكم كتابه حيث يقول في سورة الكهف: ﴿ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا * فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا * فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا * قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا * قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا * فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا * قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا * قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا * وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا * قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا * قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا * فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا * قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا * قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا * فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا * قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا * قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا * فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا * قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا * أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا * وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا * فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا ﴾ [الكهف: 60 - 81]. هذا، وقد فُتِن كثيرٌ من الصوفية، فادَّعوا لأنفسهم علمًا إلهيًّا غير ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويسمُّونه "العلم اللَّدُنِّي"، وهذا برهانٌ قاطع على جهلهم بشريعة الله، واللغة العربية؛ فإن قولهم "العلم اللدني" لا معنى له في اللغة العربية، وهم لجهلهم بها وانحرافهم عن دين الإسلام يحسبون أن قوله تعالى: ﴿ وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا ﴾ يدل على علم غير شرعي، وينحتون له هذا الاسم، وهو فهم عاطل باطل فاسد كاسد، فإن قوله تعالى: ﴿ وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا ﴾ معناه: أعطينَاه علمًا من عندنا، والعلم الذي أعطاه الله تعالى للخضر هو علم شرعيٌّ آتاه الله الخضر عليه السلام واختصَّه به؛ ولذلك قال الخضر لموسى عليه السلام: ﴿ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ﴾. ولا تدلُّ هذه القصة على أن الخضر أفضل من موسى؛ إذ لا شك عند أحد ينتمي للعلم في أن موسى هو من أكابر أولي العزم من المرسلين، وإعطاء الخضر علمًا خاصًّا به وهو ليس من أتباع موسى عليه السلام لا يدلُّ على أنه أفضل من موسى؛ فالمزية لا تنافي الأفضلية، كما ذكرت في فصول سابقة. وقد ذكرَ الله تبارك وتعالى موسى في مقاماتٍ كثيرة يُنوِّه فيها بفضله؛ كقوله تعالى وهو يذكر جملةً من الأنبياء والمرسلين: ﴿ إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا * وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا ﴾ [النساء: 163، 164]. وكقوله تعالى: ﴿ تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ ﴾ [البقرة: 253]. وكقوله تعالى: ﴿ قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ ﴾ [الأعراف: 144]. وكقوله تعالى: ﴿ شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ﴾ [الشورى: 13].
العولمة والعمَّال الوافدون لأغراضٍ إنسانية وانتمائية تُفضِّل هذه الوقفات التعبيرَ بلفظ (الوافد) بدلًا من (العامل الأجنبي)؛ إذ إن مفهومَ الأجنبي غيرُ واضح المعالم ثقافيًّا، ويرسِّخ مفهومَ الغُربة والانعزالية عن المجتمع، الأمر الذي لا يتحقَّق في حال منطقة الخليج العربية، لا سيما عندما يكون هذا الوافدُ ذا قابلية للتعايش مع معطيات المجتمع الخليجي، كما سيأتي بيانه. ينبغي أن نوازنَ بين مواردنا البشرية المحلية / الخليجية، وما تحتاجه أسواقُ العمل في المنطقة من قوى عاملة، وإذا كان المُستهدَف لدى منظمة التجارة العالمية هو أن تكونَ نسبة 25% من القوى العاملة من غير المواطنين، فإن الواقع أن المعادلةَ لدينا معكوسة؛ إذ لا يعمل من المواطنين إلا أقل من 25% إجمالًا في سوق العمل في القطاع الخاص خاصة، والبقية وافدون [1] . إن النظام السابق للعمل والعمال في المملكة العربية السعودية الصادر سنة 1389هـ/ 1969م - قد أكد هذه النسبة قبل فرضِها من قِبَل المنظمة بثلاثين سنة؛ حيث نصَّ النظامُ السابق على الآتي: "يجب ألا تقلَّ نسبةُ العمال السعوديين الذين يستخدمهم صاحب العمل عن 75% من مجموع عماله، وألا تقلَّ أجورُهم عن 51% من مجموع أجور عماله، ولوزيرِ العمل في حالة عدم توفُّر الكفاءات الفنية أو المؤهِّلات الدراسية أن يخفِضَ هذه النسبة مؤقَّتًا" [2] ، ثم أكد هذه النسبةَ نظامُ (قانون) العمل المحدث لسنة 1426هـ/ 2005م؛ حيث نصَّ النظامُ على الآتي: "2- يجب ألا تقلَّ نسبة العمال السعوديين الذين يستخدمهم صاحب العمل عن 75% من مجموع عماله، وللوزير في حالة عدم توفُّر الكفاءات الفنية أو المؤهِّلات الدراسية، أو تعذُّر إشغال الوظائف بالمواطنين أن يخفض هذه النسبة مؤقَّتًا" [3] . لقد مرَّ على المنطقة الخليجية ما يمكن أن يسمَّى بالإغراق في القوى العاملة، بحيث أصبحت هناك مشكلات ترتَّبت على فتح المجال في الاستقدام، في ضوء اللجوء إلى خطط التنمية المرحلية السريعة التي شهِدتها المنطقة، لا سيما ما له عَلاقة بالبنية التحتية. أسهم في هذا الإغراق لجوءُ ذوي النفوس الضعيفة من مواطني المنطقة إلى اتخاذ الاستقدام مجالًا للدخل السريع، مخالفين بذلك النُّظُم والقوانين العامة، أصبحت المتاجرةُ بالتأشيرات مشكلةً سعت دول المنطقة إلى معالجتها بروح إنسانية، لا تتعارض مع كرامة هذا الإنسان، الذي جاء ليكسِبَ العيشَ الحلال، موعودًا من هذه الفئة الضعيفة بفرص الغِنى السريع [4] . يُفضَّل التعبيرُ هنا بالمتاجرة بالتأشيرات؛ للتفريق بينها وبين الاتِّجار بالبشر، الذي يتضمَّن مفهومًا رديئًا ذا علاقة بالرقيق الأبيض، والدعارة، والاستغلال السيء للنساء والأطفال من الجنسين، ومن ثَمَّ فاستخدام المتاجرة بالتأشيرات - رغم عدم نظاميته ولا إنسانيته - لا يقارَن بالاتِّجار بالبشر، وفي الربط بينهما إجحافٌ لا مسوِّغَ موضوعيًّا له [5] . أدى أسلوبُ المتاجرة بالتأشيرات إلى وجود بطالة بين العمال الوافدين أنفسِهم في المنطقة، تزيد عن نصف مليون (500,000) عامل وافد؛ مما يشكِّل ظاهرةً غريبة؛ إذ إن الأصلَ في وجود العامل الوافد وجودُ عمل له، أدى هذا بدوره إلى قيام حملات وطنية وإقليمية للتخفيف من هذه الظاهرة، التي أدت إلى ممارساتٍ غيرِ أخلاقية من التزوير والتزييف، والجريمة والتعاطي مع الممنوعات [6] . لا يسمح الموقف المتعقِّل أن يكونَ هذا عامًّا بين العمال الوافدين - وإن وُجد بينهم من يقوم بذلك - بخلاف ما ظهرت به بعضُ الكتابات المتعجِّلة التي ربما اتسمت بقدر من النظرة العصبوية والتمييز العرقي، التي حصرت الجريمةَ بأنواعها على الوافد، وفي هذا ردٌّ على مَن قال: "تدلُّ كلُّ المؤشرات على أن العامل المهم في انتشار المشكلات الاجتماعية؛ كالجريمة والسرقة وحوادث القتل، وتعاطي المخدِّرات والمشروبات الكحولية، وانحراف الأحداث - هو وفودُ العمالة الأجنبية التي ربما كان بينهم الكثيرُ ممَّن امتهنوا الجريمةَ في مناشئهم الأولى، وحملوا بذورها إلى هذه المجتمعات" [7] . يقول باقر النجار: "وقد جاءت محاولاتُ بعض الدول الخليجية للقضاء على العمالة (السائبة) غير المكفولة بصورة رسمية؛ لتساهم في التخلُّص - في عموم المنطقة في السنوات الثلاث الأخيرة من التسعينيات - من أكثر من نصف مليون عامل أجنبي لم تكن إقامتُهم تتمُّ بصورة شرعية" [8] . الجدول الأول : يبين إحصائيات السكان الحالية والمتوقعة عام 1435هـ - 2015م مقارنة بعدد العمال الوافدين. (لا بد من التوكيد على أن الإحصائيات هنا غيرُ دقيقة؛ للافتقار إلى جهة مسؤولة عن الإحصاء الخليجي، وإن كانت مؤسسات الإحصاء المحلية لكل دولة، فإنها على المستوى الخليجي غيرُ فاعلة، فيضطر الباحث إلى البحث عن الإحصاءات من مصادرَ ثانوية دولية متفاوتة في التواريخ، وهذا من المآخذ على الإحصاءات الواردة هنا). • يبلغ السكان المواطنون الآن (27,700,000)، بينما يبلغ عدد الوافدين حوالي (13,163,970). (يتبع التنويه السابق أن الأرقام تتغيَّر بسرعة مذهلة، وحيث إن منطقة الخليج العربية قد تأثَّرت بما تأثَّر به العالم في الأزمة الاقتصادية الأخيرة (رمضان 1429هـ/ سبتمبر 2008م)، فإنه من المتوقع أن تتغير التركيبةُ السكانية، عندما تُسرِّح بعض الدول الخليجية أعدادًا كبيرة من العمال الوافدين). يُتوقع أن يبلغ سكان المنطقة بحلول سنة 1435هـ - 2015م (39,660,419) مقسمة على النحو الآتي: الدولة عدد السكان معدل النمو الإمارات العربية المتحدة 4,488,000 1,5 مملكة البحرين 146,209 1,5 المملكة العربية السعودية 31,000,000 2,4 سلطنة عمان 4,100,000 3,2 دولة قطر 1,226,210 1,4 دولة الكويت 2,800,000 2,5 الإجمالي 39,660,419 1,93 • المصدر: تقرير التنمية البشرية لعام 2001م، ص 154 - 155. • تبلغ نسبة عدد الوافدين لسنة 2006م ما لا يقلُّ عن 72% من إجمالي قوة العمل في المنطقة [9] ، كما تبلغ حوالي 95% من قوة العمل في القطاع الخاص [10] . كما تبلغ نسبة الوافدين إلى السكان 80% في الإمارات العربية المتحدة، و70% في دولة قطر، و50% في مملكة البحرين، و37% في المملكة العربية السعودية، ولا تتوافر إحصائياتٌ لدى الباحث عن سلطنة عمان ودولة الكويت. الجدول الثاني يبين عدد الوافدين العاملين والمرافقين لهم في منطقة الخليج العربية مع نهاية القرن الميلادي المنصرم: • الجدول الثاني : إحصائية بعدد العاملين الوافدين، دون المرافقين، في منطقة الخليج العربية للعام 1426 - 1427هـ/ 2005 - 2006م. الدولة البيانات الإمارات العربية المتحدة 2,187,086 مملكة البحرين 260,917 المملكة العربية السعودية 6,144,236 سلطنة عمان 859,000 دولة قطر 427,821 دولة الكويت 1,174,000 • المصدر: المملكة العربية السعودية، وزارة الاقتصاد والتخطيط، مصلحة الإحصاءات العامَّة، 1425/ 1426هـ - 2005م. • المصدر: منظمة العمل الدولية: تقرير الاستخدام في العالم 1998 - 1999م. الجدول الثالث : إحصائية بعدد العاملين الوافدين والمرافقين لهم: عدد العاملين 10,238,643 عدد المرافقين 2,925,326 • نسبة الوافدين إلى المجموع الكلي: 32%، ونسبة الوافدين إلى المواطنين: 48%، وتصل نسبة الإناث من الوافدين إلى 30,5% [11] . هناك تفصيلات وجداول وتحليلات جيدة حول وجود العمال الوافدين في منطقة الخليج العربية وآثارها الأمنية والاجتماعية والأخلاقية، والبحث في تهيئة الموارد البشرية المحلية لدى باقر سلمان النجار في كتابه: (حلم الهجرة للثروة: الهجرة والعمالة المهاجرة في الخليج العربي) [12] . [1] انظر: فهد بن سعد الدوسري، مدى خضوع انتقال وإقامة العمالة الأجنبية وتوطين الوظائف لاتفاقيات منظَّمة التجارة العالمية - محاضرة - الرياض: الغرفة التجارية الصناعية بالرياض. [2] المادة الخامسة والأربعون من نظام العمل والعمَّال، الصادر بالمرسوم الملكي ذي الرقم م/ 21 والتاريخ 6/ 9/ 1389هـ. [3] المادة السادسة والعشرون من نظام العمل، الصادر بالمرسوم الملكي ذي الرقم م/ 51 والتاريخ 23/ 8/ 1426هـ، بناءً على قرار مجلس الوزراء ذي الرقم 219 والتاريخ 22/ 8/ 1426هـ. [4] انظر: باقر سلمان النجار، حلم الهجرة للثروة: الهجرة والعمالة المهاجرة في الخليج العربي، بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2001م، ص 117. [5] انظر: ممدوح عبدالحميد عبدالمطلب، الاتِّجار بالبشر، مجلة البحوث الأمنية، ع 34 (8/ 1427هـ - 9/ 2006م)، ص 81 - 131. [6] انظر الملحق في نهاية هذه الوقفات؛ حيث يعالج الباحث مشكلة المتاجرة بالتأشيرات وتأثيراتها الاجتماعية. [7] انظر: ناصر ثابت، التحدي الاجتماعي أحد التحديات الحضارية والغزو الثقافي في دول الخليج العربي - الرياض: مكتب التربية العربي لدول الخليج، 1987م - ص 362، نقلًا عن: باقر سلمان النجَّار، حلم الهجرة للثروة: الهجرة والعمالة المهاجرة في الخليج العربي - مرجع سابق - ص 190 - 191. [8] انظر: باقر سلمان النجار، حلم الهجرة للثروة: الهجرة والعمالة المهاجرة في الخليج العربي، المرجع السابق، ص 117. [9] انظر: المكتب التنفيذي لمجلس وزراء العمل والشؤون الاجتماعية بدول مجلس التعاون لدول الخليج العربية، نظم معلومات سوق العمل في إطار التشغيل وتنمية الموارد البشرية والبحرية، المنامة: المكتب، 1419هـ/ 1998م، ص 224. [10] انظر: يوسف خليفة اليوسف، العولمة واقتصاديات دول مجلس التعاون، ص 75 - 98، في: مركز دراسات الوحدة العربية، المجتمع والاقتصاد أمام العولمة، بيروت: المركز، 2004م، ص 18. [11] ينقل باقر سلمان النجار عن عبدالرزاق فارس الفارس (1998م) أن عدد العمال الوافدين في المنطقة قد وصل سنة 1425هـ/ 2005م 15,579,000 عامل، وسيصل سنة 1430هـ/ 2010م 18,303,000 عامل، وسيصل سنة 1435هـ/ 2015م 20,848,000 عامل، انظر: باقر سلمان النجَّار، حلم الهجرة للثروة: الهجرة والعمالة المهاجرة في الخليج العربي - مرجع سابق - ص 200. [12] انظر: باقر سلمان النجار، حلم الهجرة للثروة: الهجرة والعمالة المهاجرة في الخليج العربي، بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2001م - 216 ص.
مناهج التصنيف النحوي في القرن الخامس الهجري ليوسف قاسم البلام صدر حديثًا كتاب " مناهج التصنيف النحوي في القرن الخامس الهجري "، تأليف : " يوسف قاسم البلام "، نشر: " دار كنوز المعرفة للنشر والتوزيع ". ويسعى هذا البحث إلى استقراء المصنفات النحوية في القرن الخامس الهجري، على نحو يكشف لنا السمات العامة لمناهج التصنيف في ذلك العصر، وطرائق التبويب والترتيب، والمسالك التي سلكها المصنفون في علاج القضايا والمسائل النحوية، والدوافع وراء تلك المصنفات، وأثرها في غيرها من المصنفات في حدود عصرها، مستجليًا آلية تفكير نحاة القرن الخامس في تصنيفاتهم. ويتوزع البحث على مقدمة وتمهيد، وفصلين، فصل يعالج الاتجاه النظري للتصنيف، وفصل يعالج الاتجاه التطبيقي للتصنيف، وخاتمة، فيأتي التمهيد واصفًا الظروف السياسية والاقتصادية والثقافية في تلك الحقبة التاريخية محل الدراسة، ثم يقدم الفصل الأول عرضًا لمصنفات الاتجاه النظري ثم يُلحِقه بتحليل لمناهج هذه المصنفات مبيّنًا منهجها في علاج الأبواب والمسائل النحوية، ثم يأتي الفصل الثاني واصفًا مصنفات الاتجاه التطبيقي، ثم يقدّم تحليلًا لمناهجها وطرائق علاجها النصوص المقصودة، باحثًا عن المشتركات والاختلافات بينها، أمّا الخاتمة فتلخّص النتائج التي توصل إليها البحث. والباحث "يوسف قاسم البلام" شريك مؤسّس لشركة (ن) للاستشارات اللغويّة. • يعمل موجّه فني لمادّة اللغة العربيّة في وزارة التربية. • مراجع دروس اللغة العربيّة في القناة التربويّة. • مدير مركز (ن) للاستشارات اللغويّة منذ التأسيس. • رئيس الفريق اللغوي في مركز (ن) للاستشارات اللغويّة منذ 13/ 12/ 2020. • مدقّق لغوي - معلّم للنحو العربي. • حاز على بكالوريوس تدريس اللغة العربيّة (متوسط - ثانوي) جامعة الكويت، كليّة التربية 2007. • ماجستير في اللغة والنحو - جامعة الكويت - كليّة الآداب 2020.
العولمة والحماية الاجتماعية بلغ عددُ أعضاء منظمة التجارة العالمية حتى نهاية شهر سبتمبر 2006م مائةً وتسعًا وأربعين دولة (149)، منها إحدى عشرة دولة عربية، هي: الأردن، والإمارات العربية المتحدة، والبحرين، وجيبوتي، وتونس، وقطر، وعمان، والكويت، ومصر، والمغرب، وموريتانيا، والمملكة العربية السعودية [1] ، ومنها ثمانٍ وثلاثون دولة إسلامية (38)، بما فيها الإحدى عشرة العربية، ولا تزال كلٌّ من الجزائر ولبنان والسودان واليمن تتفاوض بقَبول عضويتها، ضمن ثماني عشرة دولة إسلامية. إن الانضمامَ لمنظمة التجارة العالمية الذي اكتمل لدول الخليج العربية قبل نهاية النصف الأول من هذا العقد الهجري 1421 - 1425هـ/ الميلادي 2001 - 2005م - سيؤدي - مما يؤدي إليه - إلى الانفتاح الاقتصادي على العالم، واتخاذ الإجراءات والتدابير الإدارية والنظامية (القانونية) لتسهيل هذا الانفتاح [2] ، وذلك بمراجعة الإجراءات الإدارية والأنظمة؛ مثل: مشروعات التوطين للقوى البشرية، ونظم ( قوانين ) العمل والتأمينات الاجتماعية. هذا ما بدأ بالفعل لثلاثة عقود مضت 1390هـ - 1420هـ/ 1970 - 2000م، بما في ذلك زيادة مؤسسات التعليم الفني والتدريب المهني؛ من كليات تقنية ومعاهد فنية ومراكز تدريب، على المستويين الحكومي والأهلي، ثم اتخاذ الإجراءات والتدابير التي تكفُل مزيدًا من الدَّعمِ لحملة التدريب والتأهيل؛ مثل: صناديق تنمية الموارد البشرية [3] ، وتلمُّس مواطن فرص العمل، وتفعيل إجراءات إشغالها وتنظيم إجراءاتها، وأيضًا ما يدخل ضِمنًا في تنمية الموارد البشرية من حملاتٍ صحية أسهمت بإذن الله في مكافحة الأمراض، والارتقاء بمستوى الصحة العامة، وبالتالي زاد معدَّل/ متوسط عمر العامل المتوقَّع إلى 65 سنة، وانخفض معدل وفَيَات الأطفال بما يزيد عن 50% [4] . كل هذا يدخل في مفهوم الالتفات إلى الحماية الاجتماعية، بما في ذلك ما يتعلق بعمل الأطفال دون سنِّ الرُّشد، والنساء والبيئة، ويزيد هذا من وجود أرضية للتفاهم بين أعضاء المنشأة، في ضوء تنامي تأثير منظمة العمل الدولية، التي ارتقت في أدائها، وانصرفت عن البُعدِ الأيديولوجي الذي انطبعت به الحركات العمالية في العالم كافَّة، والعالم الثالث بخاصة. مع هذا، فإنَّ هناك تخوُّفًا من أن "تنزلق" دولُ منطقة الخليج العربية، والدول العربية والإسلامية، إلى استيراد المعايير الاجتماعية، بما فيها تهيئة الموارد البشرية من بيئات تختلف عنها اجتماعيًّا، مما يؤثِّر على نجاح المعايير المستورَدة، عندئذٍ نعود إلى "الغابة التجارية" التي تسعى منظمةُ التجارة العالمية إلى الخروج منها إلى نظامِ قواعد وشفافية في التبادلات الدولية، كما عبَّر عن ذلك (بيتر استيرلاند) آخر مدير لمنظمة الجات، وأول مدير لمنظمة التجارة العالمية [5] . وخوفٌ آخر هو أن تفرِضَ العولمةُ على الدول والمناطق التخليَ عن مسؤوليات الرفاه الاجتماعي، التي أخذتها الحكوماتُ على عاتقِها على مدى القرن الماضي، "مثل: تقديم مخصَّصات لأجل الإسكان والرعاية الصحية والتعليم والعجز والبطالة" [6] ، العجيب أن تستثنيَ منظمةُ التجارة العالمية عنصري الدفاع والأمن من حكم الدعم والإعانات الحكومية [7] . [1] انضمت المملكة العربية السعودية لمنظمة التجارة العالمية كآخر دولة في منطقة الخليج العربية في المؤتمر الوزاري السادس الذي عُقد في هونج كونج في المدة من 12 - 17 من ذي القعدة 1426هـ الموافق 13 - 18 ديسمبر 2005م، انظر: فواز عبدالستار العلمي الحسني، مفهوم العولمة بلغة مفهومة - مرجع سابق - ص 48. [2] انظر: مصباح نعوش، الوطن العربي ومنظمة التجارة العالمية، المستقبل العربي، ع 282 مج 25 (8/ 2002م)، ص 113 - 134. [3] Abdul Rahman Al Tuwaijrie. The New Economy Vision. The Emirates International/ Forum. Dubai: April 2002 [4] انظر: جلال أمين، العولمة والتنمية العربية، من حملة نابليون إلى جولة الأوروغواي 1798 - 1998م، بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، ص 122. [5] انظر: رجب بو دبوس، العولمة بين الأنصار والخصوم - مرجع سابق - ص 103 - 108. [6] انظر: أليسون جاغار وآخرين، الدرجة صفر للتاريخ أو نهاية العولمة/ ترجمة عدنان حسن، اللاذقية: دار الحوار، 2004، ص 11. [7] يؤكد فواز عبدالستار العلمي أن انطلاقة منظمة التجارة العالمية كانت من مؤتمر باريس للسلام الذي عُقد بعد الحرب العالمية الأولى في يوم السبت 15 ربيع الثاني 1337هـ الموافق 18 يناير 1919م، مرورًا باتفاقية الجات (1366هـ/ 1947م) وتحولها إلى منظمة التجارة العالمية سنة 1415/ 1995م، انظر: فواز عبدالستار العلمي الحسني، مفهوم العولمة بلغة مفهومة - مرجع سابق - ص 38 و101.
صُلح الحديبيَة في ذي القعدة من السنة السادسة للهجرة قصد رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة معتمرًا ومعه ألف وأربعمائة، وقيل أكثر، من أصحابه من المهاجرين والأنصار يريدون أداء العمرة ولا يقصدون حربًا، وساق النبي صلى الله عليه وسلم معه الهدي، وكان سبعين بدنة؛ وذلك ليعلم الناس أنه إنما جاء معتمرًا لا محاربًا، ولقي النبي صلى الله عليه وسلم عندما بلغ عسفان بسر بن سفيان الكعبي، فقال: يا رسول الله، هذه قريش علمت بمسيرك فاجتمعوا بذي طوى يحلفون بالله لا تدخلها عليهم أبدًا، وقد قدموا خالد بن الوليد بفرسان يقودهم إلى كراع الغميم، فلما بلَّغه بسرٌ ما فعلت قريش، قال: ((يا ويح قريش قد أكلتهم الحرب! ماذا عليهم لو خلوا بيني وبين سائر الناس، فإن أصابوني كان الذي أرادوا، وإن أظهرني الله دخلوا في الإسلام وافرين، والله لا أزال أجاهدهم على الذي بعثني الله به حتى يظهره الله أو تنفرد هذه السالفة)) ، كلام فيه شفقة وحنين إلى قومه وأهله وعشيرته، يرجو لهم الهداية ووفرة السلامة، ولكن عندما يتعارض فكرهم وجهدهم مع رسالة الله فلا خيار له في المجابهة وقمع من يصد عن سبيل الله، واستمر في مسيرته ولكن مع تغيير الطريق إلى مكة لكي يتجاوز جيش خالد فلا يصطدم معه، وسلك ثنية مرار، ثم هبط الحديبية، وهناك بركت ناقته، فقال الناس: خلأت - امتنعت عن السير - القصواء، فقال عليه الصلاة والسلام: ((ما خلأت، ولكن حبسها حابس الفيل، لا تَدْعوني قريش اليوم إلى خطة يسألوني فيها صلة الرحم إلا أعطيتهم إياها)) ، ثم قال للناس: ((انزلوا)) ، فقالوا: ما بالوادي من ماء، فأخذ سهمًا من كنانته فأعطاه أحد أصحابه "ناجية بن عمير" فنزل في قليب من تلك القُلُب فغرزه في جوفه، فجاش الماء بالري، حتى ضرب الناس عنه بعطن - فاض - ثم أتاهم بديل بن ورقاء الخزاعي في نفر من خزاعة، وقال للنبي صلى الله عليه وسلم: لقد تركت كعب بن لؤي وعامر بن لؤي على مياه الحديبية - يقصد الآبار ذات المياه - وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إنا لم نأتِ لقتال أحد، ولكنا جئنا معتمرين، وإن شاءت قريش ماددناهم مدة ويخلوا بيني وبين الناس، وإن أبوا فوالذي نفسي بيده لأقاتلنهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي)) - صفحة العنق، وتستعمل مرادفة لكلمة أقتل - فعاد بديل بن ورقاء إلى قريش فأعلمهم ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم، فقام عروة بن مسعود الثقفي، فقال: هذا الرجل عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها، دعوني آتيه، فقالوا: ائته، فأتاه، فقال: يا محمد، جمعت أوشاب الناس - أخلاطهم - ثم جئت بهم إلى بيضتك لتفضها بهم، إنها قريش خرجت معها العوذ المطافيل - النوق بأطفالها - قد لبسوا جلود النمور يعاهدون الله أنك لا تدخلها عليهم عنوة أبدًا، وايم الله لكأني بهؤلاء قد تكشفوا عنك غدًا، ثم جعل يتناول لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يكلمه - على عادة الكبار في ذلك الوقت - والمغيرة بن شعبة في الحديد يحرس رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقرع يد عروة وهو يقول له: اكفف يدك قبل ألا تصل إليك، فقال عروة: من هذا؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((هذا ابنُ أخيك المغيرةُ)) ، فقال: أي غدر، وهل غسلت سوءتك إلا بالأمس؟ وكان المغيرة قد قتل ثلاثة عشر رجلًا من بني مالك وهرب، فتهايج الحيان، فقام عروة ودفع دية المقتولين، وطال الكلام مع عروة، ولكنه لاحظ أن أصحاب النبي يحبونه حبًّا جمًّا لم يشهد مثله من قبل، فكان إذا توضأ تهافت الصحابة على ماء وضوئه، كل يأخذ بكفه فيمسح بها جسمه، حتى النخامة لا تقع إلا في يد أحدهم ليتبرك بها، يأمرهم فيطيعون، وما يُحِدُّ أحدهم النظر إليه تعظيمًا، فرجع عروة إلى قريش وقال: أي قوم، قد وفدت على كسرى وقيصر والنجاشي، فوالله ما رأيت ملكًا قط يعظمه أصحابه كما يعظم أصحاب محمد محمدًا، وقص عليهم ما رأى، ثم قام رجل من كنانة اسمه الحليس بن علقمة، وهو سيد الأحابيش، فقال: دعوني آتيه، فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم قال: هذا مِن قوم يعظمون البُدن، فابعثوا الهدي في وجهه، فلما رأى الهدي رجع إلى قريش ولم يصل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال لقريش: يا قوم، قد رأيت ما لا يحل صده، الهدي في قلائده، فقالوا: اجلس؛ إنما أنت أعرابي لا علم لك، فقال: والله ما على هذا حالفناكم؛ أن تصدوا عن البيت من جاء معظمًا له، والذي نفسي بيده، لتخلن بين محمد وبين البيت أو لأنفرن بالأحابيش نفرة رجل واحد، فقالوا: مه! كف عنا يا حليس حتى نأخذ لأنفسنا، ثم أتى بعده مكرز بن عمرو ليكلم النبي صلى الله عليه وسلم، فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((هذا رجل فاجر)) ، ثم أتى بعده سهيلُ بن عمرو، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((سهل أمركم)) ، وكان مجيئه بعد أن أرسل النبي صلى الله عليه وسلم عثمان بن عفان ليخبرهم سبب قدومه، وأنه يريد أداء العمرة والعودة، وكان اختيار عثمان لمنعة قومه، فلا يجرؤون على إيذائه، وقد أجاره أبان بن سعيد بن العاص وبلغهم الرسالة، فقالوا: إن شئت فطف بالبيت، فقال: ما كنت لأفعل حتى يطوف به النبي صلى الله عليه وسلم، فاحتبسته قريش عندها، فبلغ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أنه قتل، فقال: لا نبرح المكان حتى نناجز القوم، فدعا إلى البيعة، فبايعوه تحت شجرة سمرة ولم يتخلف عنه أحد سوى الجد بن قيس، وقد ذكر اسمه مع المنافقين، وقد سميت هذه البيعة ببيعة الرضوان؛ لأن الله تعالى رضي عنهم جميعًا، وجاء سهيل بن عمرو وحدثت مباحثات بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم، وطالت، وكان مفوضًا من قريش بتوقيع عهد أو صلح بشروط حددتها له قريش، وبعد الاتفاق على شروط الصلح دعا النبي صلى الله عليه وسلم عليًّا ليكتب الصلح، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اكتب بسم الله الرحمن الرحيم)) ، فقال سهيل: لا نعرف هذا، ولكن اكتب باسمك اللهم، فكتبها، ثم قال: ((اكتب هذا ما صالح عليه محمد رسول الله سهيل بن عمرو)) ، فقال سهيل: لو نعلم أنك رسول الله لم نقاتلك، ولكن اكتب: اسمك واسم أبيك، وكان علي قد كتبها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي: ((امحُ رسول الله)) ، فقال علي: لا أمحوك أبدًا، فأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: ((ضع يدي عليها)) ، فوضعها، فمسحها بريقه، وقال: ((اكتب محمد بن عبدالله)) ، وذكر أنه قال لعلي: ((لتبلين بمثلها)) ، وكان ذلك في التحكيم، ثم اصطلحا على إيقاف الحرب عشر سنين، وأن يعودوا أدراجهم ويعتمروا في العام القادم ليس معهم سوى سلاح الراكب والسيف في القرب، ولا يزيدوا على ثلاثة أيام، أن من جاء من قريش مسلمًا يرد إلى قريش، ومن جاء من المسلمين إلى قريش - مرتدًّا - لا يرد إليهم، ومن أحب أن يدخل في حلف مع قريش فله ذلك، ومن أراد أن يدخل في حلف مع المسلمين فله ذلك، فدخلت قبيلة بكر في حلف قريش، ودخلت قبيلة خزاعة في حلف مع المسلمين، وشهد على الصلح جماعة من المسلمين، منهم: أبو بكر وعمر وعبدالرحمن بن عوف وغيرهم، كما شهد جماعة من المشركين، وورد خبر الحديبية عند البخاري وأحمد والترمذي.
موسى عليه السلام (14) أشرتُ في ختام الفصل السابق إلى بعض ما لقيه موسى عليه السلام وأخوه هارون صلى الله عليه وسلم من تنطُّع بني إسرائيل وأذاهم، حتى قال موسى عليه السلام كما حكى الله عز وجل ذلك: ﴿ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ﴾ [الصف: 5]. وقد روى البخاري ومسلم، من حديث عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم قسمًا فقال رجل: إن هذه لَقِسْمةٌ ما أُريد بها وجه الله، فأتيتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم فأخبرتُه، فغضب، حتى رأيت الغضبَ في وجهه، ثم قال: (( يرحمُ اللهُ موسى قد أُوذي بأكثر من هذا فَصَبر )). كما روى البخاري ومسلم، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن موسى كان رجلًا حييًّا ستِّيرًا، لا يُرى من جلده شيء استحياء منه، فآذاه مَن آذاه من بني إسرائيل فقالوا: ما يستتر هذا التستر إلا مِن عيب بجلده؛ إما برص وإما أدرة وإما آفة، وإن الله أراد أن يبرِّئه مما قالوا لموسى، فخلا يومًا وحدَه، فوضع ثيابه على الحَجَرِ، ثم اغتسل، فلما فرغ أقبل إلى ثيابه ليأخذَها، وإنَّ الحجرَ عدا بثوبه، فأخذ موسى عصاه، وطلب الحجرَ، فجعل يقول: ثوبي حجر، ثوبي حجر، حتى انتهى إلى ملأٍ من بني إسرائيل فرأوه عريانًا أحسن ما خلق الله وأبرأه مما يقولون، وقام الحجرُ، فأخذ ثوبَه فلَبِسَه، وطَفِقَ بالحجَرِ ضربًا بعصاه، فوالله إنَّ بالحجر لندبًا من أثر ضربِه ثلاثًا أو أربعًا أو خمسًا، فذلك قوله: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا ﴾ [الأحزاب: 69])). ومن أمثلة شُحِّ نفوسِهم، أنهم لما استسقى موسى لهم أمره الله عز وجل أن يضربَ بعصاه الحجرَ فانفجرت منه اثنتا عشرة عينًا بِعَددِ أسباطهم، ولو كانوا أهل إحسان وتراحم لَكَفَتْهُم عينٌ واحدة، وفي ذلك يقول الله عز وجل: ﴿ وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ ﴾ [البقرة: 60]. وكما قال عز وجل: ﴿ وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ﴾ [الأعراف: 160]، ومن أمثلة تعنُّتِهم أنهم قد امتنَّ الله عليهم بالمَنِّ والسلوى طعامين شهيين بلا كُلفة ولا مشقة، فما رعوها حقَّ رعايتها، والسلوى طير شهي الطعم سمين، والمَنُّ شبيه بعسل النحل، يجدونهما عند رؤوسهما في الصباح والمساء، ومع ذلك قالوا لموسى عليه السلام: لن نصبر على طعام واحدٍ، نريدُ بقلًا وقثاءً وثومًا وعدسًا وبصلًا، فأجابهم عليه السلام: أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير؟! اهبطوا مصرًا فإن لكم ما سألتم، وفي ذلك يقول الله عز وجل: ﴿ وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ ﴾ [البقرة: 61]. وقد اغتنم موسى عليه السلام فرصةَ حرصهم على البقول والقثاء والثوم والعدس والبصل، فأمرَهم أن يدخلوا بيت المقدس ليطهِّروه من الكافرين، فقالوا: إنَّ فيها قومًا جبارين، وإنا لن ندخلها ما داموا فيها، وقالوا لموسى: اذهب أنت وربُّك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون، وهذا من أبرزِ أمثلة جُبْنِهم وذِلَّتِهم، حتى ورث هذا الجبن مِن بعدهم ذُرِّيَّاتهم، وفي ذلك يقول الله عز وجل: ﴿ لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ ﴾ [الحشر: 14]. ولم يزلْ هذا الخُلق الذميم تمتلئ به جوانحهم إلى اليوم، وهم لم ينتصروا على المسلمين ويحتلوا بيت المقدس في عصرنا بشجاعتهم، وإنما بذنوبنا وتفرُّق كلمتنا وحَبْلٍ من الناس، فإنه إذا عصى الله مَن يعرفه سلَّطَ عليه من لا يعرفه، وفي امتناع بني إسرائيل عن دخول الأرض المقدسة وعصيانهم لموسى عليه السلام يقول الله عز وجل: ﴿ وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ * فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ ﴾ [البقرة: 58، 59]. وقوله تعالى: ﴿ فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ ﴾ [البقرة: 59]؛ أي: بدل أن يقولوا: حطَّة، قالوا: حبةٌ في شعرة، وقالوا: حِنْطَة، ودخلوا يزحفون على أستاههم بدل أن يدخلوا الباب ساجدين، وكما قال عز وجل: ﴿ وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ * فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِنَ السَّمَاء بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ ﴾ [الأعراف: 161، 162]. وكما قال عز وجل: ﴿ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ * يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ * قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ * قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ * قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ ﴾ [المائدة: 20 - 25]. وقد عاقبهم اللهُ عز وجل على هذا العصيانِ بالتِّيه في الصحراءِ أربعين سنةً؛ حيث يقول عز وجل: ﴿ قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ ﴾ [المائدة: 26]. ومن أمثلة تنطُّعهم أنهم لما قَتل واحدٌ منهم نفسًا، وتدافعوا وتخاصموا فيمن قتلها؛ حيث لم يُعرف القاتل، أمرهم موسى عليه السلام بذبح بقرة بأمر من الله عز وجل، فكان أولُ ردٍّ منهم على موسى كليم الله أن يقولوا: أتستهزئ بنا؟ فلمَّا عرفهم أن الاستهزاء بالناس جهلٌ لا يليق بعبدٍ صالحٍ، قالوا: ما سنُّها؟ فأجابهم موسى عليه السلام: ﴿ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ ﴾ [البقرة: 68]، وحضَّهم على المسارعة إلى الامتثال، فتنطَّعوا وقالوا: ما لونها؟ فأجابهم بأنها ﴿ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ ﴾ [البقرة: 69]، فتنطَّعوا وقالوا: بيِّن لنا ما هي؟ أسائمة أم عاملة؟ إن البقر تشابه علينا، فأجابهم موسى عليه السلام بأنها ﴿ بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ ﴾ [البقرة: 71]، أي: غير مذلَّلة بالعمل، فلا تنفع لحرث الأرض ولا لسقي الزرع، خاليةٌ من العيوب واختلاط الألوان، وهنا انقطعوا وكادوا يعجزون عن الحصول عليها، ولو أنهم عندما أمرهم أول مرة سارعوا فذبحوا أيَّ بقرة لكفتهم. وفي قصة بقرة بني إسرائيل يقول الله عز وجل: ﴿ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ * قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ * قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ * قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ * قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ * وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ * فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴾ [البقرة: 67 - 73]. وإلى الفصل القادم إن شاء الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
قوادح الإيمان لعيسى بن عبد الله السعدي صدر حديثًا طبعة جديدة من كتاب " قوادح الإيمان "، تأليف : د. " عيسى بن عبد الله السعدي "، نشر: " مكتبة الرشد للنشر والتوزيع ". ويسعى هذا البحث إلى تعريف الإيمان عند أهل السنة، والمخالفين لهم (الوعيدية والمرجئة.. وغيرهم)، مع ذكر قوادح الإيمان الثلاثة: الكفر، الكبيرة، الصغيرة. وعرّف بكل واحدة، وآثارها. فالإيمان مدار سعادة الدنيا والآخرة؛ فلابد أن يعرف المسلم حقيقته، ولابد أن يعرف ما يقدح في أصله أو كماله؛ لأن فضائل الإيمان وآثاره لا تحصل تامة لأهلها إلا بشرط السلامة من قوادح الإيمان؛ ولهذا كانت محل اهتمام أهل العلم، فكتبوا فيها كتابات كثيرة وجليلة، لكن ضبطها قد يشق على القارئ العادي؛ فرأى الكاتب جمع أصولها، واختصر الكلام فيها في نقاط موجزة، ومباحث مجملة. وتكلم الكاتب عن آثار الإيمان، وآثار المعاصي، وعقوبات الذنوب القدرية. والمباحث التي قام عليها مدار البحث هي: 1- معنى الإيمان وفضائله وآثاره. 2- معنى الصغيرة وأهم أحكامها. 3- معنى الكبيرة وأهم آثارها. 4- معنى الكفر وأنواعه. 5- معنى النفاق وأنواعه. 6- معنى الشرك وأنواعه. 7- معنى البدعة وأهم آثارها. 8- عقوبات الذنوب القدرية. وبين الكاتب في دراسته أن مذهب السلف في أصحاب الكبائر يتلخص في أمرين: أحدهما: أثر الكبيرة على اسم الإيمان؛ فالكبيرة عند السلف ترفع اسم الإيمان المطلق؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (لايزْنِي الزانِي حِينَ يزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلا يَسْرِقُ السارِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلايَشْرَبُ الخمْرَ حِينَ يَشْرَبها وَهُوَ مُؤْمِنٌ) فدل هذا النص ونظائره على أن الكبيرة تؤثر على الإيمان، وترفع اسمه المطلق. ولكن الكبيرة عندهم لا ترفع مطلق الإيمان؛ لدلالة النصوص على بقاء الإيمان مع الكبيرة، كقوله تعالى: ﴿ وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا ﴾ [الحجرات: 9]؛ فكان السلف بهذا القول وسطًا بين إفراط الوعيدية وتفريط المرجئة؛ لأن الوعيدية رفعوا عن صاحب الكبيرة مطلق الإيمان، والمرجئة أعطوه الإيمان المطلق. والثاني: أثر الكبيرة على أهلها في الآخرة؛ فالسلف يثبتون وعيد الكبائر، ويقطعون بإنفاذه في حق بعضهم؛ لقوله تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ ﴾ [النساء: 48] فأخبر أن مغفرته تقع لبعض العصاة دون بعض، ويجزمون مع هذا بأمرين عظيمين: ١- أن القطع بإنفاذ وعيد الكبيرة إنما يكون على سبيل الإجمال، فلا يقطع بإنفاذه في حق معين؛ لاحتمال أن يقوم به مانع من موانع إنفاذ الوعيد، كالحسنات الماحية، والمصائب المكفرة، والشفاعة المقبولة، والعفو المحض؛ قال تعالى: ﴿ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ ﴾ [هود: 114] وقال: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ ﴾ [النساء: 48]، وقال صلى الله عليه وسلم: (لا يموت لمسلم ثلاثة من الولد فيلج النار إلا تحلة القسم)، وقال: (ما من رجل مسلم يموت فيقوم على جنازته أربعون رجلًا لا يشركون بالله شيئا إلا شفعهم الله فيه)، وقال: (شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي)، وقال: (خَمسُ صَلَواتٍ كَتَبهنَّ اللهُ على العبادِ، فمن جاء بهنَّ لم يُضَيِّعْ منهنَّ شَيئًا استِخفافًا بحَقِّهنَّ، كان له عند الله عَهدٌ أن يُدخِلَه الجنَّةَ، ومن لم يأتِ بهنَّ فليس له عند اللهِ عَهدٌ؛ إن شاء عَذَّبه، وإن شاء أدخَلَه الجنَّةَ). ٢- أن من شاء الله تعالى أن ينفذ وعيده من أصحاب الكبائر فإنه لا يخلد في النار؛ لأن الله تعالى يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان؛ قَالَ صلى الله عليه وسلم: (يدخلُ أهلُ الجنَّةِ الجنةَ، وأهلُ النارِ النارَ، ثُمَّ يقولُ اللهُ عزَّ وجلَّ: أخرِجوا من كان في قلبِهِ مثقالُ حبَّةِ من خردَلٍ من إيمانٍ، فيخرُجونَ منها قدِ اسوَدُّوا، فيُلْقَونَ في نهرِ الحياةِ، فينبُتونَ كما تنبُتُ الحِبَّةُ في جانِبِ السيلِ، ألم ترَ أنَّها تخرجُ صفراءَ ملتويَةً)، وقال: (إذا أراد الله رحمة من أراد من أهل النار أمر الله الملائكة أن يخرجوا من كان يعبد الله فيخرجونهم ويعرفونهم بآثار السجود وحرم الله على النار أن تأكل أثر السجود فيخرجون من النار فكل ابن آدم تأكله النار إلا أثر السجود فيخرجون من النار قد امتحشوا فيصب عليهم ماء الحياة فينبتون كما تنبت الحبة في حميل السيل)، قال ابن كثير: (تواترت الأحاديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه يخرج من النار من كان في قلبه أدنى مثقال ذرة من إيمان). والكاتب هو "عيسى بن عبد الله السعدي الغامدي" أستاذ العقيدة بجامعة الطائف، من مؤلفاته: 1- موانع إنفاذ الوعيد. 2- الوعد الأخروي. 3- حقيقة المثل الأعلى وآثاره. 4- دلالة الأسماء الحسنى على التنزيه. 5- المحو والإثبات في المقادير. 6- ميثاق الإيمان. 7- دراسات في دلالات المثلات. 8- شذرات من سمات الإسلام. 9- مدخل لعقيدة السلف. 10- الخلاصة في العلو والكلام والرؤية. 11- المختصر في مسائل الإيمان. 12- المختصر في الأديان والفرق. 13- المختصر في المذاهب الفكرية المعاصرة. 14- مقاصد كتاب التوحيد.
مختارات من "عنوان المجد في تاريخ نجد" المعروف بــــ "تاريخ ابن بشر" الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد: فمن كتب التاريخ التي أرَّخت لدعوة الإمام محمد بن عبدالوهاب رحمه الله، وما حصل من أحداث فيها وبعدها، كتاب المؤرخ عثمان بن عبدالله بن بشر -رحمه الله- المسمى "عنوان المجد في تاريخ نجد" الذي يعرف بـ"تاريخ ابن بشر"، يقول الشيخ عبدالله البسام رحمه الله: هذا التاريخ أنفس وأجمع وأوثق وأعدل ما صنف من تواريخ نجد. ويقول الدكتور محمد بن ناصر الشثري: "من أحسن الكتب التي أرخت هذه المدة الزمانية وهذه الأحداث الهامة، والأستاذ حمد الجاسر قد أخذ على المترجم أنه نقل في تاريخه كثيرًا مما ذكره ابن غنام والفاخري في تاريخهما، ومع هذا لم يشر إلى ذلك، إلا أن الأستاذ حمد الجاسر قال عن مؤلفه عنوان المجد: إن عنوان المجد هو خير كتاب أُلِّف في موضوعه على ما فيه". هذا وقد يسَّر الله الكريم لي فقرأتُ الكتاب، واخترتُ منه مقتطفات قليلة، أسأل الله أن ينفع بها الجميع، ومن رام معرفة ما مرَّ ببلاد نجد من حوادث ووقائع في تلك السنين، فعليه بقراءة الكتاب كاملًا. الكذب في زمان المؤلف ( توفي سنة 1288هـ): الكذب في هذا الزمان غلب على الناس، فلا تتجاسر أن نكتب كل ما نقلوه في القرطاس؛ لأنَّا وجدناهم إذا سمعوا قولًا ونقلوه من موضع إلى موضع زادوه ونقصوه، لا سيما واختلاق الكذب عليهم أغلب، وذهبوا إليه كل مذهب، فنسأل الله العظيم أن يعصمنا من الزَّلل في القول والعمل. أراجيف المنجمين: قال مرعي بن يوسف في "تاريخه": وفي أول سنة سبع وعشرين وألف ظهر في الشرق عمود أبيض، مستطيل كطول المنارة، فأرجف المنجمون بأراجيف، وزعموا وقوع أمور مهولة، وكذبوا والله... ولم ير المسلمون إلا خيرًا. أتلف شرحه لكتاب "الإقناع" لأن غيره شرحه: في سنة تسع وسبعين ألف (1079هـ) توفي الشيخ العالم الفقيه القاضي سليمان بن علي بن محمد...بن مشرف [جدُّ الشيخ محمد بن عبدالوهاب]... ذُكِرَ لي أنه شرح "الإقناع"، وسار به معه إلى الحج، فوافق الشيخ منصور البهوتي في مكة، فذكر له أنه شرحه، فأتلف سليمان شرحه الذي معه. سيل عظيم بمكة أغرق الناس وعلا على مقام إبراهيم: وفي سنة إحدى وتسعين وألف (1091هـ) وقع بمكة سيل عظيم، أغرق الناس، قال العصامي في "تاريخه": وأخرب الدُّور، وأتلف من الأموال ما لا يُحصى، وأغرق نحو مئة نفس، وهدم نحو ألف بيت، وعلا على مقام إبراهيم، وعلى قُفْل باب الكعبة. سنون مباركة على أهل نجد وغيرهم من الأوطان: ودخلت السنة السابعة والخمسون بعد المئة والألف (1157هـ) وهي التي قدم فيها محمد بن عبدالوهاب رحمه الله بلد الدرعية، وهي مبتدأ أول السنين التي لأجلها وضع الكتاب؛ لأنها ولاية إسلامية جدد فيها العمل بــ "لا إله إلا الله " وجاهدوا عليها من زاغ عنها في سبيل الله، وأقيمت الصلوات، وأديت الزكوات، وقام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على كل شريف وحقير، وكبير وصغير، وظهرت شعائر الإسلام، وبطلت الاعتقادات والمتعبدات المضاهية لعبدة الأصنام، وأمنت السبل، وصار المسلمون إخوانًا، فكانت سنين مباركة على أهل نجد، بل وعلى غيرهم من الأوطان. سلاح العلم والكتب: الشيخ محمد بن عبدالوهاب...سار إلى المدينة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام، فلما وصلها وجد فيها الشيخ العالم عبدالله بن إبراهيم بن سيف من آل سيف، رؤساء بلد "المجمعة"...قال الشيخ: كنت عنده يومًا، فقال لي: أتُريدُ أن أُريك سلاحًا أعددته للمجمعة؟ قلتُ: نعم، فأدخلني منزلًا عنده فيه كتب كثيرة، فقال: هذا الذي أعددنا لها. لسانه لم يفتر عن ذكر الله: الشيخ محمد بن عبدالوهاب... خرج من الإحساء وقصد بلد حريملاء... وانتقل الشيخ بعدها إلى بلد العيينة... ثم سار الشيخ... حتى وصل الدرعية، وذُكر لي أنه في طريقه لا يفتر لسانه من قوله: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ﴿ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ﴾ [الطلاق: 2، 3]. كلمة التوحيد من تمسك بها، وعمل بها، ونصرها ملك البلاد والعباد: لما وصل الشيخ إلى الدرعية نزل عند... ابن سويلم، فلما دخل على ابن سويلم ضاقت عليه داره خوفًا على نفسه من محمد بن سعود، فوعظه الشيخ وسكَّن جأشه، وقال: سيجعل الله لنا ولكم فرجًا ومخرجًا...محمد بن سعود...قذف الله سبحانه في قلبه...محبة الشيخ ومحبة ما دعا إليه...وقال له: أبشر ببلاد خير من بلادك وبالعز والمنعة، فقال له الشيخ: وأنا أبشرك بالعز والتمكين والنصر المبين، وهذه كلمة التوحيد التي دعت إليها الرسل كلهم، فمن تمسك بها وعمل بها ونصرها، ملك بها العباد والبلاد. من فضائل الإمام محمد بن عبدالوهاب رحمه الله ومحاسنه: كان الشيخ رحمه الله تعالى كثير الذكر لله، ما يفتر لسانه من قول: "سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر"، وكان إذا جلس الناس ينتظرونه يعلمون إقباله إليهم قبل أن يروه من كثرة لهجه بالتسبيح والتحميد والتهليل والتكبير، وكان عطاؤه عطاء من وثق بالله لا يخشى الفقر، بحيث إنه يهب الزكاة والغنيمة في مكان واحد، ولا يقوم ومعه منها شيء، ويتحمل الدَّين الكثير لأضيافه وسائليه والوافدين عليه، وعليه الهيبة العظيمة التي ما سمعنا بها اتفقت لغيره من العلماء والرؤساء وغيرهم، وهذا شيء وضعه الله في القلوب...ما علمنا أحدًا ألين ولا أخفض منه جنابًا لطالب علم، أو سائل، أو ذي حاجة، أو مقتبس فائدة، وكان له مجالس عديدة في التدريس، كل يوم، وكل وقت، في التوحيد، والتفسير، والفقه، وغيرها، وانتفع الناس بعلمه. وبالجملة فمحاسنه وفضائله أكثر من أن تُحصَر، وأشهر من أن تُذكَر...وكفى بفضله شرفًا ما حصل من إزالة البدع، واجتماع المسلمين وإقامة الجماعات والجمع، وتجديد الدين بعد درسه، وقلع أصل الشرك بعد غروسه. وباء وتضرع ودعاء: ثم دخلت السنة الثالثة والعشرون بعد المئتين والألف (1223هـ)...وفي هذه السنة والغلاء والقحط في نجد على حاله في الشدة،...ووقع مع ذلك مرض ووباء، مات فيها خلق كثير في نواحي نجد...ثم دخلت السنة الرابعة والعشرون بعد المئتين والألف (1224هـ) وفيها اشتدَّ الوباء والمرض، وخصوصًا في بلد الدرعية...ومات في الدرعية خلق كثير...وكتب سعود [الإمام سعود بن عبدالعزيز بن محمد بن سعود، رحمه الله] نصيحة غليظة لأهل الدرعية، وأرسلها إلى جميع النواحي، وحَضَّهم على التخلي عن الذنوب، والتوبة النصوح، وذكر فيها كثيرًا من المحظورات، وأورد الأدلة بالترهيب منها، ودعا الله في آخرها دعاء عظيمًا، أكثر فيه من الثناء على الله، والتوسُّل بأسمائه الحسنى وصفاته العُلى برفع الضر والوباء عن الناس. ذُكِرَ لنا أنه لما قرئت هذه النصيحة على الناس في مساجد الدرعية، ارتفع الوباء بعدها عن أهل الدرعية. الوباء العظيم الذي عَمَّ في الدنيا، وأفنى الخلائق في جميع الآفاق: ثم دخلت السنة السادسة والثلاثون بعد المئتين والألف (1236هـ)... وفي هذه السنة حدث وباء عظيم عَمَّ في الدنيا، وأفنى الخلائق في جميع الآفاق، وهو الوجع الذي يحدث في البطن فيُسهله، وتقيء الكبد، ويموت الإنسان من يومه ذلك، أو بعد يومين أو ثلاثة، ولم أعلم أنه حدث قبل هذه في الدنيا، وكان أول حدوثه في ناحية الهند، فسار منه في هذه السنة إلى البحرين، والقطيف، وفني بسببه خلائق عظيمة، ثم وقع في الإحساء والبصرة والعراق والعجم وغير ذلك. الطاعون العظيم: ثم دخلت السنة السابعة والأربعون بعد المئتين والألف (1247هـ)...وفي هذه السنة وقع الطاعون العظيم، الذي عَمَّ العراق، ثم مشى على السواد والمجرة، ثم إلى سوق الشيوخ والبصرة، وبلد الزبير والكويت وما حولهم، وليس هذا مثل الوباء الذي قبله...بل هو الطاعون المعتاد، نعوذ بالله من غضبه وعقابه، وحلَّ بهم الضرب والفناء العظيم، الذي انقطع منه قبائل وحمائل، وخلت من أهلها منازل، وإذا دخل في بيت لم يخرج منه حتى لم يبق فيه عين تطرف، وجثا الناس في بيوتهم، لا يجدون من يدفنهم، وأموالهم عندهم ليس لها والٍ، وأنتنت البلدان من جيف الإنسان، وبقيت الدواب سائبة في البلدان ليس عندها من يعلفها ويسقيها حتى مات أكثرها، ومات بعض الأطفال عطشًا وجوعًا وخرَّ أكثرهم في المساجد صريعًا؛ لأن أهاليهم إذا أحسوا بالضرب رموهم بالمساجد رجاء أن يأتيهم من يُنقذهم، فيموتون فيها لأنه لا يأتيها أحد ولا يقام فيها جماعة، وبقيت البلدان خالية لا يأتي إليها أحد. فلما كان بالنصف من ذي الحجة من السنة المذكورة ارتفع، وكان بدوه شيئًا فشيئًا ثم كثر حتى أفنى. علم التاريخ: علم التاريخ علم شريف، فيه موعظة واعتبار، واطلاع على حوادث الدهر الدوار، ومعرفة أحوال الماضين مما يوقظ الأذهان والأفكار، ويقيس العاقلُ نفسه على ما مضى من أمثاله في هذه الدار، وقد قصَّ الله علينا بعض أخبار الأمم في الكتاب، قال الله تعالى: ﴿ لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ ﴾ [يوسف: 111]. من فضائل الإمام عبدالعزيز بن محمد بن سعود، رحمه الله: كان عبدالعزيز رحمه الله كثير الخوف من الله، والذكر له، آمرًا بالمعروف، ناهيًا عن المنكر، لا تأخذه في الله لومة لائم...كان لا يخرج من المسجد بعد صلاة الصبح حتى ترتفع الشمس، ويصلي فيه صلاة الضحى، وكان كثير الرأفة والرحمة بالرعية، خصوصًا أهل البلدان بإعطائهم الأموال، وبثّ الصدقة لفقرائهم والدعاء لهم، والتفحُّص عن أحوالهم، وقد ذكر لي بعض من أثق به أنه يكثر الدعاء لهم في ورده، قال: سمعته يقول: اللهم أبقِ فيهم كلمة "لا إله إلا الله" حتى يستقيموا عليها، ولا يحيدوا عنها. وكانت البلاد من جميع الأقطار والرعية في زمنه آمنة مطمئنة، في عيشة هنية. وكان رحمه الله تعالى مع رأفته بالرعية شديدًا على من جنى جناية من الأعراب، أو قطع سُبُلًا، أو سرق شيئًا من مسافر أو غيره، بحيث من فعل شيئًا من ذلك أخذ ماله نكالًا، أو بعض ماله أو شيئًا منه على حسب جنايته، وأدَّبه غير ذلك أدبًا بليغًا. وكانت الحجاج والقوافل... يخرج الراكب وحده من اليمن وتهامة والحجاز والبصرة والبحرين وعمان ونقرة الشام، لا يحمل سلاحًا، بل سلاحه عصاه، لا يخشى كيد عدو، ولا أحد يريده بسوء. وكان متواضعًا، يحب العلماء، وطلبة العلم، وحملة القرآن، ويعظمهم، ويحب الفقراء والمساكين، ويعطيهم حقهم. وكان يُوصي عُمَّاله بتقوى الله، وأخذ الزكاة على الوجه المشروع، وإعطاء الضعفاء والمساكين، ويزجرهم عن الظلم، وأخذ كرائم الأموال. وكان كثيرًا ما يكتب لأهل النواحي يحضهم على تعليم القرآن وتعلم العلم وتعليمه. جوانب من سيرة الإمام سعود بن عبدالعزيز بن محمد بن سعود، رحمه الله: كانت له المعرفة التامة في تفسير القرآن، أخذ العلم عن الشيخ محمد بن عبدالوهاب، أقام سنين يقرأ عليه، ثم كان يلازم على مجالس الدروس عنده، وله معرفة في الحديث والفقه، وغير ذلك، بحيث إنه إذا كتب نصيحة لبعض رعاياه من المسلمين ظهر عليه في حسن نظامه ومضمون كلامه عدم القصور في الاطلاع على العلوم، ورأيت العجب في المنطوق والمفهوم. كان ذا رأي باهر، وعقل وافر، ومع ذلك إذا أهمَّه أمر وأراد إنفاذ رأي أرسل إلى خواصه من رؤساء البوادي، واستشارهم، فإذا أخذ رأيهم وخرجوا من عنده، أرسل إلى خواصه وأهل الرأي من أهل الدرعية ثم أخذ رأيهم، فإذا خرجوا أرسل إلى أبناء الشيخ وأهل العلم من أهل الدرعية واستشارهم، وكان رأيه يميل إلى رأيهم، ويُظهِر لهم ما عنده من الرأي. وكان ثبتًا شجاعًا في الحروب محببًا إليه الجهاد في صغره وكبره، بحيث إنه لم يتخلف في جميع المغازي والحجج، ويغزو معه جملة من العلماء من أهل الدرعية وأهل النواحي، أعطي السعادة في مغازيه، ولا أعلم أنه هزم له رايه... وهو مع ذلك في الغاية من التواضع للمساكين وذوي الحاجة، وكثير المداعبة والانبساط لخواصه وأصحابه. وكان رحمه الله تعالى آمرًا بالمعروف، ناهيًا عن المنكر، كثير الحضِّ على ذلك في مجالسه ومراسلاته للمسلمين، ناصرًا له، محببًا إليه أهل العلم وطلبته، ويُعظِّمهم ويُكرِمهم، ويجزل عطاياهم، ويلزم أهل البلدان بإكرامهم وتعظيمهم. وكان يحب أن يسمع القرآن من غيره...ولو تتبعت فضائله، وهيبته في القلوب...وما مدح به من الأشعار...وما رثاه به الشعراء...لم يسعه كتاب كبير، وهذا قليل من كثير. الإمام فيصل بن تركي وقع في مهلكات فجعل الله له منها فرجًا قريبًا: كان الإمام فيصل...له مع ربه سِرٌّ يلتجئ في الشدائد إليه، وثقة به في كل نازلة يرجوه ويعول عليه، وقد كان حفظ القرآن على ظهر قلب وهو صغير، وحافظ على تلاوته والتهجد به شابًّا وكبيرًا، وكان له حظ من الليل والقيام فيه، وكثير التضرع والابتهال لخالقه وباريه، فكم حامت عليه حوائم الخطوب والآفات، وكم وقع في عظائم ومهلكات، يدخلُ فيها اليأس على الأتقياء والأكياس، فضلًا عن أهل الولايات ورؤساء الناس، فيجعل الله له من ذلك فرجًا قريبًا، ويجعل الله له منه مخرجًا عجيبًا. من نصائح الإمام سعود بن عبدالعزيز بن محمد بن سعود رحمه الله لرعاياه: كان أول تصديره النصيحة: الوصية بتقوى الله تعالى، وتعريف نعمة الإسلام، والاجتماع عليه بعد الفرقة، وتعريف التوحيد، والحض على التمسك به، ثم الحضّ على الجهاد في سبيل الله، ثم الزجر عن جميع المحظورات من ترك الصلوات في الجماعات، ومنع الزكاة، وغير ذلك من العبادات، ثم التحذير من اقتراف الفواحش من الزنا والربا وقول الزور وشهادة الزور، وقذف المحصنات، وغير ذلك من الغيبة، والنميمة، وتتبُّع العورات. من أقوال الحكماء: قالت الحكماء: من سلَّ سيف العدوان أُغمِد في رأسه. وقيل: لكل عاثرٍ راحم، إلا الباغي، فإن القلوب مطبقة على الشماتة بمصرعه، وما أعطى البغيُ أحدًا شيئًا إلا أخذ منه أضعافه.
العولمة واللغة إنه لا ينبغي أن نكونَ عولميين أكثرَ من العولميين أنفسهم، فننساقَ وراء مفاهيمَ لم تتضح معالمُها بعد، ونبدي من الحماس للعولمة على أنها المخرجُ إلى التنمية البشرية، على حساب ظروفنا الخاصة، التي تقتضي منا التريُّثَ دون التوقف، والتُّؤَدة دون التعطُّل، والتأمُّل دون الإبطاء [1] ، مع الأخذ في الحسبان أن الانخراطَ في تيار العولمة الذي تمثله - الآن - منظمةُ التجارة العالمية، قد ترك هامشًا جيدًا "لاتخاذ التدابير اللازمة لحماية القيم الدينية والأخلاقية، والتراث الثقافي، والصحة البشرية والحيوانية" [2] ، وكذا الحفاظ على اللغة، لا سيما اللغة العربية، التي ارتبطت بالدين والقرآن والحديث والتراث العربي الإسلامي، والتي "تُعدُّ من أهم الملامح التي تُكوِّن هُوِيَّة الأمة، وتُميِّزُها عن غيرها من الأمم؛ فاللغة والدين هما العنصران المركزيان لأي ثقافة أو حضارة، كما يؤكد ذلك صموئيل هنتنجتون في كتابه ( صدام الحضارات )، ومن هنا فإن أيَّ تحدٍّ لثقافة ما ينطوي على تحدٍّ للغتِها" [3] . في هذا الصدد يقول أحدُ المحاضرين عن العولمة: "إن مواجهةَ الإفرازات العقائدية للعولمة الغربية لا تكون بالرفض السلبي، أو بالشكوى والتحذير السطحي، بل بالتعامل الموضوعي والجدِّي معها، والعودة إلى مكنون الفكر والتراث الإسلامي، وإعادته إلى موقع الرِّيادة والمقدِّمة، وطرحه، ليس كبديلٍ معاصر، بل كأصل تغافَل الناس عنه، وانغمسوا في بدائلَ واهنة، لا ترقى إلى مضمونه؛ فإن مواجهة التداعيات المادِّية للعولمة لا تكون - هي الأخرى - ذاتَ جدوى إذا لم تقترن بعمل منهجي لإصلاح هيكل الاقتصاد العربي؛ ليكون شريكًا فاعلًا في رسم معالم العولمة وصانعًا لاستحقاقاتها، وهي معالمُ ما زالت غضَّة تستوعب القادرين على تعديل معالمها وتوجُّهاتها، والقدرة مرحلة متقدِّمة من صراع الإنسان مع قدراته الذاتية والمكتسَبةِ، وهو صراع حضاري لا يمكن التغلُّب عليه بالانكفاء والتخاذل والرفض" [4] ، وهذا ما يؤكده كذلك عبدالحي زلوم في كتابه: نذر العولمة [5] . سَعَتْ تقاريرُ التنمية البشرية إلى التطرُّق إلى اللغة العربية، وأنها تواجه أزمة ينبغي بذلُ الجهد في تخطِّيها، هذا المنظور الأُمَمِيُّ يُقرأ على أنه جاء مجحفًا في حق اللغة العربية، كما يقول منير شفيق في دراسته التحليلية النقدية لتقريري التنمية الإنسانية العربية لعامي 2002 و2003م [6] . على أن التسميةَ الاصطلاحية لهذه التقارير هي التنمية البشرية، وليس الإنسانية، إلا أن مترجمي التقارير جعلوها التنميةَ الإنسانية لحاجةٍ في نفس يعقوب؛ إذ إن المقاييسَ تختلف في التنمية البشرية عنها في التنمية الإنسانية؛ فمقياسُ التنمية البشرية يقوم على ثلاثة مؤشِّرات: متوسط الدخل، والعمر المتوقَّع عند الميلاد، ومستوى التعليم، بينما تناول واضعو التقرير العربي "هذا المقياس وأدخلوا عليه تعديلاتٍ جوهرية، فحذفوا مؤشر متوسط الدخل تمامًا، واحتفظوا بالمؤشرين الآخرين، ولكنهم أضافوا أربعة مؤشرات جديدة: 1- مؤشر الحرية. 2- مؤشر أَسمَوه (تمكين النوع)، ويعكس - على حدِّ تعبيرهم - (مدى توصُّل النساء للقوة في المجتمع). 3- ومؤشر الاتصال بشبكة الإنترنت. 4- ومؤشر تلوث البيئة..." [7] . من المؤشرات المُضافة ما يمكن قياسُه كمِّيًّا، ومنها متغيراتٌ انطباعية، كما يقول منير الحمش [8] . يذكر منير شفيق أن التقريرَ اعتمد "على معيار لقياس التنمية الإنسانية ولَّده لتوِّه ومن عند نفسه، وهو معيار غير معترَف به علميًّا أو عالميًّا أو منهجيًّا، وما زال تحت التجريب... ولا مبالغةَ إذا استُنتِج - والحالة هذه - أن التقرير صمم معياره خصِّيصى للبلاد العربية؛ ليهبِطَ بها إلى أدنى السُّلَّم، وإلا كيف لا يبرُز الشكُّ من قوله: "معيار مفهوم التنمية الإنسانية يجعل من السابق لأوانه الاحتفاءَ بالإنجازات التنموية العربية كما يوحي مقياس التنمية البشرية" [9] ، والذين صاغوا التقريرَ بلغتِه العربية هم من أبناء العروبة، الذين ظهروا في الفضائيات؛ ليسوِّغوا منهجَهم في التدخل في معايير التنمية البشرية بالنسبة للمنطقة العربية، بما في ذلك تغيير العنوان من تقرير التنمية البشرية إلى تقرير التنمية الإنسانية. [1] انظر: سيار الجميل، العولمة الجديدة والمجال الحيوي للشرق الأوسط: مفاهيم عصر قادم، بيروت: مركز الدراسات الإستراتيجية والبحوث والتوثيق، 1997م، 268 ص. [2] انظر: أسامة جعفر فقيه، منظمة التجارة العالمية واستحقاقات العضوية، الرياض: المجلَّة العربية، 1420هـ - 1999م، (سلسلة كتيب المجلة العربية؛ 31)، وهذا ما نصت عليه المادة العشرون من نظام المنظمة، انظر كذلك: طلال بن عبدالعزيز (الأمير)، آثار اتفاقيات منظمة التجارة العالمية على الدول العربية ودول مجلس التعاون الخليجي، محاضرة في ندوة نظمها مركز التميز في الإدارة بكلية العلوم الإدارية، جامعة الكويت، (6/ 11/ 2001م)، ص 12. [3] انظر: أحمد بن محمد الضبيب، اللغة العربية في عصر العولمة، الرياض: مكتبة العبيكان، 1422هـ/ 2001م، ص 13. [4] انظر: عبدالعزيز إسماعيل داغستاني، العولمة: المبدأ والبعد الاقتصادي، ص 183 - 187، في: خواطر اقتصادية، الرياض: دار الداغستاني، 1423هـ/ 2003م. [5] انظر: عبدالحي زلوم، نذر العولمة: هل يستطيع العالم أن يقول: لا للرأسمالية المعلوماتية؟ ط 2، بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2000م، وانظر بالخصوص: الفصل الثاني والعشرين: المطلوب: بالله لا بالأموال ثقتنا، ص 377 - 387. [6] انظر "أزمة اللغة العربية" لدى: منير شفيق، تنمية إنسانية أم عولمة؟: دراسة تحليلية نقدية لتقريري التنمية الإنسانية العربية لعامي 2002 و2003م، بيروت: دار الطليعة، 2004م، ص 121 - 131. [7] انظر فقرة "التنمية الإنسانية العربية" تقرير أم فضيحة؟ لدى: جلال أمين، عصر التشهير بالعرب والمسلمين: نحن والعالم بعد 11 سبتمبر 2001، القاهرة: دار الشروق، 1424هـ/ 2004م، ص 88 - 129. [8] انظر "أزمة اللغة العربية" لدى: منير شفيق، تنمية إنسانية أم عولمة: دراسة تحليلية نقدية لتقريري التنمية الإنسانية العربية لعامي 2002 و2003م - مرجع سابق - ص 32. [9] انظر "أزمة اللغة العربية" لدى: منير شفيق، تنمية إنسانية أم عولمة: دراسة تحليلية نقدية لتقريري التنمية الإنسانية العربية لعامي 2002 و2003م - المرجع السابق - ص 27.
قصة خالد بن الوليد مع (سبايا عين التمر) ذكر الطبري في تاريخ الأمم والرسل والملوك (3 /377) ، وابن الجوزي في المنتظم في تاريخ الأمم والملوك (4 /107) ، وابن كثير في البداية والنهاية (6/ 385) وغيرهم -باختصار وتصرُّف-: "قالوا: لما فرغ خالد من الأنبار واستحكمت له، استخلف على الأنبار الزِّبْرقان بن بدر وقصد لعين التمر [1]. وبها يومئذٍ: مِهْران بن بهرام جُوبين في جمع عظيم من العجم، وعَقَّة بن أبي عَقَّة في جمع عظيم من العرب من النَّمِر وتَغْلِب وإياد ومن لاقاهم،.. فلقيه عَقَّة بن أبي عَقَّة، فقدم عليه خالد وهو في تعبئة جنده، فعبَّى خالد جنده وقال لمجنبتيه: اكفونا ما عنده؛ فإني حامل، ووكَّل بنفسه حواميَ، ثم حمل وعقة يقيم صفوفه فاحتضنه فأخذه أسيرًا، وانهزم صفه من غير قتال؛ فأكثروا فيهم الأسر... ثم أقبل خالد في الناس حتى ينزل على الحصن ومعه عَقَّة أسيرًا... وهم يرجون أن يكون خالد كمن كان يغير من العرب، فلما رأوه يحاولهم سألوه الأمان، فأبى إلا على حُكْمه.. ثم أمر خالد بعَقَّة وكان خفير القوم فضُربت عنقه؛ ليوئس الأسراء من الحياة، ولما رآه الأسراء مطروحًا على الجسر يئسوا من الحياة.. فضرب أعناق أهل الحصن أجمعين، وسبى كل من حوى حصنهم وغنم ما فيه، ووجد في بيعتهم أربعين غلامًا يتعلمون الإنجيل، عليهم باب مغلق فكسره عنهم... فبعثهم إلى المدينة وفَرَّقهم في الأمراء وأهل الغنائم"، وكان منهم: نصير: وهو والد موسى بن نصير بن عبدالرحمن اللخمي القائد المسلم فاتح الأندلس وشمال إفريقيا. وسيرين: وهو والد محمد بن سيرين إمام من أئمة التابعين. ويسار: مولى قيس بن مخرمة بن المطلب بن عبد مناف، ويقال: إنه أول سبي دخل المدينة من العراق، وهو جد محمد بن إسحاق بن يسار إمام المغازي والسير. وأفلح: مولى أبي أيوب الأنصاري، ثم أحد بني مالك بن النجار، ويكنى أبا عبدالرحمن: قال ابن سعد: وكان ثقة يكنى أبا كثير، وقال ابن عساكر: "كان ثقة قليل الحديث"، ووثَّقه العجلي، وهو من رجال مسلم. وأسلم: مولى عمر رضي الله عنه، أبو زيد العدوي: قال الذهبي في العبر، وابن العماد في الشذرات: "كان فقيهًا نبيلًا"، وقال في ميزان الاعتدال: ثقة. روى له الجماعة. وحُمْران بن أبان: مولى عثمان بن عفان، فكان بعد يصلي عثمان فإذا أخطأ فتح عليه حُمْران، كما قال قتادة، وقال الذهبي: كان كاتب عثمان وحاجبه، وُلي إمرة سابور من الحجَّاج، وأدرك أبا بكر وعمر. وكيسان: جد أبي العتاهية إسماعيل بن القاسم بن سويد بن كيسان، الشاعر الزاهد المكثر، سار قوله، وانتشر شعره، وشاع ذكره في أقطار الأرض، ويقال: إن أحدًا لم يجتمع له ديوانه بكماله لعظمه، وغيرهم. [1] عين التمر: بلد في العراق، قريب من الأنبار، غربي الفرات والكوفة، فتحها خالد بن الوليد عنوةً أيام الصديق رضي الله عنهما، سنة اثنتي عشرة، انظر: مراصد الاطلاع (2 /977)، ومعجم البلدان (4/ 176).
مدخل إلى كتاب الكوكب السَّاطع في نظم جمع الجوامع للسُّيوطي [1] د. عبدالحكيم الأنيس بسم الله الرَّحمن الرَّحيم الحمد لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله وسلَّم وبارك على نبيِّه الأمين، اللَّهم علِّمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علَّمتنا، وزدنا علمًا وعملًا وأدبًا وفقهًا في الدِّين. وبعد: فهذه كلماتٌ بين يدي كتاب "الكوكب الساطع في نظم جمع الجوامع" للإمام جلال الدين السيوطي [2] . 1-تعريف بالنَّاظم: الإمام السُّيوطي، رحمه الله، صاحب هذا الكتاب إمام معروف من علماء القرن التَّاسع والعاشر، ولد سنة (849) وتوفِّي سنة (911)، فهو لم يُعمَّر كثيرًا، ولكنَّ الله بارك في أخذه وعطائه ووقته وعمره وجهوده؛ فأنتج إنتاجًا كبيرًا جدًّا، إنتاج متنوِّع، غزير، في العلوم الإسلاميَّة والعربيَّة والطِّبِّيَّة، وكان حريصًا على وقته، ولهذا رأينا هذا الإنتاج إلى جانب التَّدريس والإفتاء، والتَّدريس والإفتاء يأخذان من وقت العالِم الكثير، فلنا أن نتصوَّر كم بذل من جهد، وكم ضحَّى بأوقات راحته من أجل القيام بخدمة العلم والدِّين. كُتِب عنه الكثير، ومِن أوثق ما يكون ما كتبه هو عن نفسه، وقد ترجم هو لنفسه ترجمة مُبكِّرة بآخر كتابه (بغية الوعاة في طبقات اللُّغويِّين والنُّحاة) وذلك سنة (871) وكان في عنفوان شبابه، وذكر لنفسه في هذه التَّرجمة - التي لم تُطبع في المطبوع من بغية الوعاة - مؤلَّفات كثيرة. ثمَّ بعد ذلك عندما بلغ الأربعين من العمر ألَّف كتابًا سمَّاه (التَّحدُّث بنعمة الله) وخصَّصه للكتابة عن نفسه، لسيرته الذَّاتيَّة الشَّخصيَّة. ثمَّ كتب عن نفسه ترجمة مُوجزة مُهمَّة في كتابه (حسن المحاضرة في تاريخ مصر والقاهرة). ثمَّ أفرد رسالة لمؤلَّفاته سمَّاها (فهرست مؤلَّفاتي)، وعليها العُمدة؛ فهي التي أودع فيها ما ارتضاه وأبقاه إلى الممات. والمؤلَّفاتُ في هذه الرِّسالة نحو (530) مؤلَّفًا، فقوائم مؤلَّفاته هي: • القائمة الأولى في ترجمته في (بغية الوعاة). • القائمة الثَّانية التي أوردها في (التَّحدُّث بنعمة الله). • القائمة الثَّالثة التي أوردها في ترجمته في (حسن المحاضرة). • القائمة الرَّابعة (فهرست مؤلَّفاتي) وهي المعتمدة؛ لأنَّه أعرض فيها عن كتب غسلها أو تراجع عنها أو لم يشأ أن يكملها. فإذا أردنا أنْ نعرف حياة السُّيوطي في الأربعين سنة الأولى فنرجع إلى كتابه (التَّحدُّث بنعمة الله)، وأمَّا العشرون سنة الأخرى فهذه لا بدَّ لها من مصادر أخرى؛ لأنَّ السُّيوطي لم يتابع الكتابة عن تلك السَّنوات، إنَّما توقَّف في الأربعين سنة الأولى. قام تلاميذه بشيء من هذه المهمَّة؛ فهناك كتاب (ترجمة العلَّامة السُّيوطي) لتلميذه الكبير أبي عبدالله شمس الدِّين محمَّد بن عليّ الدَّاوودي المالكي، وهو مطبوع في مجلَّد كبير. والثَّاني هو الشَّيخ عبدالقادر الشَّاذلي في كتابه (بهجة العابدين بترجمة حافظ العصر جلال الدِّين) وفي هذين الكتابين ما يكمِل شيئًا ممَّا تركه السُّيوطي في كتاب (التَّحدُّث بنعمة الله). كما أنَّ المؤرِّخين قد كتبوا عنه، ومنهم أهل عصره كالسَّخاوي في كتاب (الضَّوء اللَّامع لأهل القرن التَّاسع) وقد ظلمه، ممَّا استدعى السُّيوطي أن يؤلِّف (الكاوي في تاريخ السَّخاوي). وكتب عنه الغزِّي في (الكواكب السَّائرة بأعيان المئة العاشرة) وابن العماد، والشَّعراني في طبقاته الوسطى والصُّغرى. وأكتفي بهذه الإلماعة في مصادر ترجمة الإمام السُّيوطي. 2-السُّيوطي وعلم الأصول: ما يهمُّنا هو أن نتوقَّف قليلًا عند السُّيوطي وعلم الأصول، وإذا أردنا أن نأخذ تصوُّرًا عن ذلك لابدَّ أن نعود إلى ما قاله هو عن نفسه. يقول في كتاب (التَّحدُّث بنعمة الله) وهو يتحدَّث عن نشأته: «وختمت القرآن ولي من العمر دون الثَّمان سنين، ثمَّ حفظت عمدة الأحكام، ومنهاج النَّووي، وألفيَّة ابن مالك، ومنهاج البيضاوي [وهذا في أصول الفقه]، وعرضت الثَّلاثة الأُوَل في صفر سنة أربع وستِّين على شيخ الإسلام علم الدِّين البلقيني، وشرف الدِّين المناوي، وقاضي القضاة عزّ الدِّين الحنبلي، وشيخ الشُّيوخ أمين الدِّين الأقصرائي وغيرهم، وأجازوني». وممَّا وقع له في نشأته أنَّه أفتى وألَّف رسالة صغيرة في تحريم المنطق، يقول: "ووقعتْ لي في أيَّامه [يعني أيَّام شيخه البلقيني] واقعة تحريم المنطق وهو أوَّل الوقائع التي قام الناس عليَّ فيها، وذلك أنِّي كنت اشتغلت به فقرأت إيساغوجي وشرحه على الشَّيخ شمس الدِّين الحنفي خازن الكتب بالشَّيخونيَّة وعلى قاضي طرسوس علاء الدِّين رجل روميّ، قدم علينا الشَّيخونيَّة فنزل عند شيخنا الكافِيَجي، وكنت إذ ذاك اختصرت ورقات إمام الحرمين في مقدِّمة لطيفة، فرآها معي القاضي المذكور فأخذها ثمَّ لم يردَّها إليّ، وربما توهَّمت أنَّه يريد نسبتها لنفسه إذا ذهب إلى البلاد، فسقط من عيني...» إلى آخر ما قال. ويذكر أيضًا أنَّه لزم دروس شيخ الإسلام شرف الدِّين المناوي، قال: «وسمعت عليه دروسًا عديدة من الكشَّاف، والتَّوضيح [في النحو] وحاشيته عليه، وشرح الشُّذور، وتلخيص المفتاح والعضد». ثمَّ قال: «ثمَّ لزمت دروس شيخنا العلَّامة أستاذ الأستاذين الكافيجي، فأخذت عنه الفنون قراءةً وسماعًا، من التَّفسير والحديث والأصلين [أصول الدِّين وأصول الفقه] فقرأت عليه من شرح القواعد له، وأشياء من مختصراته، وسمعت عليه من الكشَّاف وحواشيه، والمغني وحاشيته، وتوضيح صدر الشَّريعة، والتَّلويح للشَّيخ سعد الدِّين» فالتَّوضيح والتَّلويح في أصول الفقه، وذكر كتبًا أخرى. ثمَّ قال: «وفي هذه المدَّة قرأت على صديق والدي قاضي القضاة عزِّ الدِّين الكناني الحنبلي، فأخذت عنه قراءة بحثٍ قطعةً من جمع الجوامع لابن السُّبكي [3] ، وقطعةً من نظم مختصر ابن الحاجب الأصلي ومن شرحه، كلاهما تأليفه». ثمَّ عندما ذكر ما له من مسموعات ذكر كذلك جمع الجوامع لابن السُّبكي. وممَّا قاله السُّيوطي عن نفسه في (حُسن المحاضرة) فيما يتعلَّق بعلم الأصول، قال: «رُزقت التَّبحُّر في سبعة علوم: التَّفسير، والحديث، والفقه، والنَّحو، والمعاني، والبيان، والبديع، على طريقة العرب والبلغاء» ثمَّ قال: «ودون هذه السَّبعة في المعرفة أصول الفقه والجدل والتَّصريف، ودونها الإنشاء، والتوسُّل، والفرائض، ودونها القراءات، ولم آخذها عن شيخ، ودونها الطِّبّ...» إلى آخر ما قال. 3- مؤلَّفاته في الأصول: • الكوكب السَّاطع في نظم جمع الجوامع، ثمَّ شرح هذا النَّظم. • النُّقاية، اشتمل على علوم متعدِّدة، منها علم أصول الفقه، ثمَّ شرحه في إتمام الدِّراية. • النُّكَت اللَّوامع على المختصر والمنهاج وجمع الجوامع. وأفرد الاجتهاد بمؤلَّفات متعدِّدة: • أولاها- تقرير الاستناد في تيسير الاجتهاد، وذلك عندما ادَّعى الاجتهاد وذلك سنة (888) وكان على مشارف الأربعين. • الرَّدُّ على من أخلد إلى الأرض وجهل أنَّ الاجتهاد في كل عصر فرض [4] . • ثمَّ ألَّف إرشاد المهتدين إلى نصرة المجتهدين. • جزيل المواهب في اختلاف المذاهب [5] . 4- السُّيوطي ونظمه للعلوم: أمَّا اشتغاله بنظم العلوم فالسُّيوطي كان بارعًا في العربيَّة، والعربيَّة هي أوَّل فنونه؛ فنرى أنَّه قد كتب أرجوزة هي (فصل الكلام في حكم السَّلام)، وله أرجوزة تسمَّى (السُّلاف في التَّفضيل بين الصَّلاة والطَّواف) وهاتان الأرجوزتان لم يذكرهما فيما بعد في (فهرست مؤلَّفاتي). وله نظم كثير، منه: • أحاسن الاقتياس في محاسن الاقتباس. • مقاطع الحجاز. • نَور الحديقة. • الشَّهد في النَّحو، وهي قصيدة من بحر الهزج. وأما نظمه الآخر في العلوم فإن له ألفيَّات متعددة، وقولنا ألفيَّات لا يعني أنَّه اقتصر على ألف بيت، وإنَّما هي ألف وتزيد، فله: • الكوكب السَّاطع في نظم جمع الجوامع، وهذا قرابة (1500) بيت. • الفريدة في النَّحو. • عقود الجمان في البلاغة. • عقد الدُّرر في علوم الأثر، وهذه ألفيَّة في الحديث. • ألفيَّة في القراءات، وهذه ذكرها في كتاب (التَّحدُّث بنعمة الله) ثمَّ لم يعد إلى ذكرها في (فهرست مؤلَّفاتي)، ولا نعرف لها نسخة. • الخلاصة في الفقه، وقد ذكرها في كتاب (التَّحدُّث بنعمة الله) فقال: «الخلاصة في نظم الرَّوضة، مع زيادات كثيرة، وليس فيه كلمة حشو، كُتب منه من أوَّل الطَّهارة إلى الصَّلاة في نحو ألف بيت، ومن الخراج إلى السَّرقة في أكثر من ألف بيت»، إذن هذه الخلاصة أكثر من (2000) بيت، ولا نعرف للخلاصة نسخة. أمَّا الكوكب السَّاطع وعقد الدُّرر والفريدة وعقود الجمان فهذه الألفيَّات الأربع وصلت إلينا وهي معروفة متداولة. 5- متن (جمع الجوامع) وجهود العلماء فيه: أمَّا جمع الجوامع فهو متن مشهور ومعروف، فلا أطيل الكلام عليه، ألَّفه تاج الدِّين ابن السُّبكي، وقال في مقدِّمته: «نحمدك اللَّهمَّ على نعمٍ يُؤذِن الحمد بازديادها، ونصلِّي على نبيِّك محمَّد هادي الأمة لرشادها، وعلى آله وأصحابه، ما قامت الطُّروس والسُّطور لعيون الألفاظ مقام بياضها وسوادها، ونضرع إليك في منع الموانع عن إكمال جمع الجوامع، الآتي من فنِّ الأصول بالقواعد القواطع، البالغ من الإحاطة بالأصلين مبلغ ذوي الجدِّ والتَّشمير، الوارد من زهاء مئة مصنَّف منهلًا يروي ويمير، المحيط بزبدة ما في شرحي على المختصر والمنهاج مع مزيد كثير، وينحصر في مقدِّمات وسبعة كتب». وهذا المتن دخل في المناهج العلميَّة في العالم الإسلاميّ، وحفظه كثيرون، وتمكَّن في الأصول به كثيرون، وشرحه العلماء، وكتبوا عليه حواشي، ونظموه، وشرحوا النَّظم، وغيرها. إذا أردنا أن نأخذ فكرة عن الجهود التي قامت على هذا الكتاب والحركة العلميَّة التي أحدثها جمع الجوامع فنعود إلى (كشف الظُّنون عن أسامي الكتب والفنون) لحاجي خليفة، وقد ذكره في حرف الجيم، فقال: جمع الجوامع في أصول الفقه: لتاج الدِّين عبدالوهاب بن عليّ بن السُّبكي، الشَّافعيّ، وهو مختصر مشهور، أوَّله: «نحمدك اللَّهمَّ على نعم توزِن الحمدَ بازديادها...» هكذا جاء في طبعة مؤسَّسة الفرقان (3: 245)، والصَّواب: (يُؤذِن الحمدُ بازديادها) فليُصحَّح. وذكر الشُّروح فقال: وله شروح كثيرة، أحسنها شرح المحقِّق جلال الدِّين المحلِّي. وتحدَّث على شروح أخرى، وذكر شرح بدر الدِّين الزَّركشي فقال: «وهو شرح ممزوج» وهو (تشنيف المسامع) وهو شرح ممتاز، وهناك من سمَّى بهذا الاسم أيضًا وهو شمس الدِّين محمَّد بن محمَّد بن الأسدي الغزِّي، وله على المتن مناقشات أرسل بها إلى مؤلِّفه وهو في صلب ولايته. قال: فلمَّا رآه أثنى عليه وأجابه عنها في مؤلَّف سمَّاه (منع الموانع عن جمع الجوامع) ذكره السَّخاوي، ثم ذكر شروحًا أخرى. وفي الأخير ذكر من نظمه؛ فهناك نظم لشهاب الدِّين الطُّوخي، ورضيّ الدِّين الغزِّي، ثمَّ ذكر السُّيوطي فقال: نظم جلال الدِّين السُّيوطي، سمَّاه (الكوكب السَّاطع) وشرح هذا المنظوم. هذا الكلام إلى عصر حاجي خليفة الذي توفي سنة (1067)، فماذا عن هذه المدَّة من وفاة حاجي خليفة إلى يومنا هذا؟ هذا ما نجده في كتاب آخر لحاجي خليفة عصرنا وهو الأستاذ عبدالله الحبشي اليمني، حفظه الله تعالى، فله كتاب (جامع الشُّروح والحواشي) طبع في أبو ظبي في ثلاثة مجلَّدات، ونجد الكلام على جمع الجوامع في المجلَّد الثَّاني في الصَّفحة (868) ويمتدُّ الكلام إلى الصَّفحة (880) وهو ذكر ما ذكره حاجي خليفة وأضاف عليه، فذكر مَن شرحه، ومن حشَّاه، ومن نظمه. ومن اللَّطائف أنَّ من الذين نظموا هذا الكتاب سلطان المغرب عبدالحفيظ المتوفَّى سنة (1356) واسم نظمه: (الجواهر اللَّوامع) طبع في فاس سنة (1327). فمن أراد التَّوسع فليرجع إلى هذين الكتابين؛ كشف الظُّنون، وجامع الشُّروح والحواشي. وهناك دراسة بعنوان (منهج الإمام تاج الدِّين السُّبكي في أصول الفقه) للدُّكتور أحمد الحسنات. وهناك أيضًا رسالة علميَّة عن جمع الجوامع في كليَّة العلوم الإسلاميَّة في جامعة بغداد للدُّكتور صالح بن قادر الزَّنكي. وللباحث زياد سعيد بلال رسالة ماجستير بعنوان: "التطبيقات الفقهية للإمام السبكي في كتابه جمع الجوامع" نُوقشت قبل سنتين. بعض شروح جمع الجوامع: • شرح الإمام الزَّركشي وهو (تشنيف المسامع)، وأنا أوصي به. • الثِّمار اليوانع على جمع الجوامع، تأليف الشَّيخ خالد بن عبدالله الأزهري، وتوفِّي سنة (905)، صدر عن وزارة الأوقاف والشُّؤون الإسلاميَّة في المغرب. • الضِّياء اللَّامع شرح جمع الجوامع، لأحمد بن عبدالرَّحمن المعروف بحُلُولُو. • الشَّرح الجديد على جمع الجوامع، لشيخنا الشَّيخ عبدالكريم الدَّبان التّكريتي رحمه الله تعالى، وقد أفاد فيه كثيرًا من المحلِّي كما ذكر في المقدِّمة، وكنتُ قرأته عليه، وقد صدر عن دار ابن حزم بعناية الأخ الدُّكتور صلاح سيد فرحان العبيدي. ومن مزايا شرح شيخنا أنَّه ترجم للرِّجال المذكورين في جمع الجوامع، وفاته قسم، وقد أفردتُ هذه التَّراجم بالنَّشر، تجدونها في ( شبكة الألوكة ). 6- الكوكب السَّاطع: هذا النَّظم هو في (1480) بيت، نظمه السُّيوطي وله من العمر (28) سنة، ثمَّ شرَحه، وله عدَّة طبعات منها طبعة بمطبعة البوسفور سنة (1332) أي قبل أكثر من مئة سنة، وحقَّقه من أهل العصر الشَّيخ عليّ بن حمد الصَّالحي، طبع سنة (1438). ثم صدرتْ له طبعة ضمن "مجموع رسائل السيوطي الفقهية والأصولية" عن دار اللباب. 7- مقترحات: أقترحُ أن يُكتب بحث عن (السُّيوطي الأصولي) فهذا موضوع يمكن أن يتناوله من شاء من طلاب الدِّراسات العليا. وأن يُدرس (السُّيوطي شاعرًا)، وهو موضوع مهمٌّ وكبير. 8- الإجازة: بسم الله الرحمن الرحيم الحمدُ لله وكفى، وسلامٌ على عباده الذين اصطفى. وبعـد: فقـــد عقـــد (نادي مداد في جامعة الكويت) مجلسين عن بُعد، قرأتُ فيهما مِن كتاب "الكوكب الساطع في نظم جمع الجوامع" للإمام جلال الدين السيوطي (ت: 911)، (812) بيتًا، وسمع ذلك عددٌ من الإخوة الفضلاء، والأخوات الفُضليات، وأجزتهم بروايته عني، ومنهم: «...». وأروي هذا الكتاب إجازةً عن شيخنا الشيخ محمد ياسين الفاداني الشافعي، والشيخ عبدالفتاح أبوغدة الحنفي، والشيخ محمد بوخبزة التطواني المالكي، والشيخ عبدالرحمن الكتاني المالكي، أربعتهم عن الشيخ محمد عبدالحي الكتاني، عن الشيخ عبدالله السُّكري الدمشقي، عن الشيخ عبدالرحمن الكزبري، عن الشيخ مصطفى الرحمتي، عن الشيخ عبدالغني النابلسي، عن الشيخ نجم الدين الغزي، عن والده الشيخ بدر الدين الغزي، عن الناظم الإمام السيوطي. نفعنا اللهُ تعالى بالعلم والعمل، وبلَّغنا مِنْ رضاهُ غاية السؤل والأمل، وأصلحَ لنا البال وحقَّقَ الأمل، وجنَّبنا الزللَ والخللَ. وكتبَ عبدالحكيم بن محمد الأنيس لطف الله به. دُبي: الأربعاء (17) من ربيع الآخر سنة (1445) = (1/ 11/ 2023م). [1] أُلقيَ في صدر المجلسين اللذين أقامهما نادي مداد في جامعة الكويت لقراءة هذا الكتاب، يوم الأحد (14) من ربيع الآخر سنة (1445) = الموافق (29/ 10/ 2023)، ثم يوم الأربعاء الذي بعده. وأشكر شكرًا جزيلًا الأخ الكريم الفاضل الشيخ أحمد جنيد لقيامه بتفريغ هذا المدخل وفقه الله تعالى. [2] تنبيه: كانت القراءة في طبعة دار طيبة الخضراء في مكة المكرمة، بتحقيق الأستاذ علي بن حمد الصالحي، الطبعة الأولى، (1438). [3] والسُّيوطي إذا أراد تاج الدِّين سمَّاه ابن السُّبكي، وإذا أراد الأب تقيّ الدِّين يقول السُّبكي، فلننتبه لهذا. [4] وقد اختار هذا العنوان ليشير إلى أنَّ الذي كان يعارضه في دعوة الاجتهاد هو من أصل يهوديّ، هو عالم مسلم، ولكنَّ أصوله من أهل الكتاب، هذا ما ظهر لي في اختيار هذا العنوان، وهو يستدعي الحادثة القديمة في الذي أخلد إلى الأرض، وقصَّته معروفة. [5] وهذه الأربعة وفَّق الله تعالى لخدمتها، وهي موجودة في موقع دائرة الشُّؤون الإسلاميَّة والعمل الخيريّ بدبيّ.
من أقوال السلف عن فلسطين والمسجد الأقصى الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد: فللمسجد الأقصى في فلسطين فضائل كثيرة، وخصائص عديدة، منها: أنه أحد المساجد الثلاثة التي لا تشدُّ الرحال بنية التعبد إلا إليها، ومنها: أنه ثاني مسجد وُضِع في الأرض، ومنها: أن الصلاة فيه تضاعف عن غيره من المساجد سوى مسجد الكعبة، ومسجد النبي صلى الله عليه وسلم، كما ثبت ذلك في الأحاديث عن رسول الله عليه الصلاة والسلام. للسلف رحمهم الله أقوال عن فلسطين والمسجد الأقصى، يسَّر الله الكريم فجمعتُ بعضًا منها، أسأل الله أن ينفع بها الجميع. بركة فلسطين: قال ابن شوذب رحمه الله في قوله تعالى: ﴿ وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا ﴾ [الأعراف: 137]، قال: فلسطين. فضائل المسجد الأقصى (بيت المقدس): قال مجاهد رحمه الله، في قوله تعالى: ﴿ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ ﴾ [الإسراء: 1] سمَّاه مباركًا؛ لأنه مقر الأنبياء، ومهبط الملائكة والوحي، ومنه يحشر الناس يوم القيامة. قال الإمام الطبري رحمه الله: قوله: ﴿ الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ ﴾ يقول تعالى ذكره: الذي جعلنا حوله البركة لسُكَّانه، في معاشهم، وأقواتهم، وحروثهم، وغروسهم. قال الإمام العز بن عبدالسلام رحمه الله: ﴿ بَارَكْنَا ﴾ بالثمار ومجرى الأنهار، أو بمن جُعل حوله من الأنبياء والصالحين. قال الإمام السمعاني رحمه الله: قوله: ﴿ الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ ﴾ يعني: بالماء والشجر. قال الإمام الشوكاني رحمه الله: بارك الله سبحانه حول المسجد الأقصى ببركات الدنيا والآخرة. قال الشيخ محمد الطاهر عاشور: وكون البركة حوله كناية عن حصول البركة فيه بالأولى؛ لأنها إذا حصلت حوله فقد تجاوزت ما فيه. قال العلامة السعدي رحمه الله: من بركته: تفضيله على غيره من المساجد، سوى المسجد الحرام، ومسجد المدينة، وأنه يطلب شد الرحال إليه للعبادة، والصلاة فيه، وأن الله اختصه محلًّا لكثير من أنبيائه وأصفيائه. قال الشيخ عبدالرزاق بن عبدالمحسن البدر: المسجد الأقصى مسجد عظيم مبارك، له مكانة عالية في نفوس المؤمنين، ومنزلة رفيعة في قلوبهم، فهو مسجد قد خُصَّ في الكتاب والسنة بميزات كثيرة، وخصائص عديدة، وفضائل جمة، تدل على رفيع مكانته، وعظيم قدره. لا فضيلة لصخرة بيت المقدس: قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: أما الصخرة فلم يصل عندها عمر رضي الله عنه، ولا الصحابة، ولا كان على عهد الخلفاء الراشدين عليها قبة؛ بل كانت مكشوفة...وأهل العلم من الصحابة والتابعين لهم بإحسان لم يكونوا يعظمون الصخرة، فإنها قبلة منسوخة. قال العلامة الألباني رحمه الله: ولقد شددت الرحل إلى بيت المقدس لأول مرة بتاريخ 23 /5 /1385هـ، فصليت في المسجد الأقصى، وزرت الصخرة للاطلاع فقط، فإنه لا فضيلة لها شرعًا، خلافًا لزعم الجماهير من الناس. مدينة نابلس بفلسطين: قال الإمام ابن العربي رحمه الله: دخلت نابلس وهي قرية المنجنيق لإبراهيم عليه السلام، فما رأيت أحسن منها، وسكنتها مدة، وترددت عليها مرارًا، فما وقعت فيها عيني على امرأة نهارًا، حتى إذا كان يوم الجمعة امتلأ المسجد بهن، ثم لا تقع عين عليهن إلى الجمعة الأخرى. بيت أريحا ببيت المقدس: قال الإمام القرطبي رحمه الله: بيت أريحا ببيت المقدس بناه داود وسليمان عليهما السلام. أخذ الفرنج النصارى لبيت المقدس سنة (492هـ): قال الحافظ ابن الجوزي رحمه الله: ثم دخلت سنة اثنتين وتسعين وأربعمائة، فمن الحوادث فيها أخذ الإفرنج بيت المقدس...وقتلوا فيه زائدًا على سبعين ألف مسلم. قال الإمام ابن الأثير الجزري رحمه الله: قتل الفرنج بالمسجد الأقصى ما يزيد على سبعين ألفًا، منهم جماعة كثيرة من أئمة المسلمين وعلمائهم، وعُبَّادهم، وزُهَّادهم. قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: لما كان ضحى يوم الجمعة لسبع بقين سنة ثنتين وتسعين وأربعمائة، أخذت الفرنج- لعنهم الله- بيت المقدس- شرَّفه الله- وكانوا في نحو ألف ألف مقاتل، وقتلوا في وسطه أزيد من ستين ألف قتيل من المسلمين...وذهب الناس على وجوههم هاربين من الشام إلى العراق....فلما سمع الناس ببغداد هذا الأمر الفظيع هالهم ذلك، وتباكوا، وقد نظم أبو سعد الهروي كلامًا قرئ في الديوان وعلى المنابر، فارتفع بكاء الناس، وندب الخليفة الفقهاء إلى الخروج إلى البلاد ليحرضوا الملوك على الجهاد...فساروا في الناس فلم يفد ذلك شيئًا. سبب تسمية المسجد الأقصى بهذا الاسم: قال الإمام البغوي رحمه الله: سُمِّي أقصى؛ لأنه أبعد المساجد التي تزار، وقيل: لبُعْده عن المسجد الحرام. جرائم الصهيونية في فلسطين وفي المسجد الأقصى: قال العلامة عبدالرحمن الوكيل رحمه الله: أي مسلم ينسى خيانة الصهيونية على المسلمين عبر تاريخهم وكيدهم وأضغانها التي توارثتها ضد كل ما هو حق وخير وسلام؟! أي مسلم ينسى الجرائم الملعونة التي اقترفها وتقترفها الصهيونية ضد العروبة والإسلام في فلسطين؟! أي مسلم ينسى مآسي الأيامي واليتامى والأرامل في فلسطين؟! أي مسلم ينسى أولئك الإخوة الكرام الذين شرَّدتهم العصابة الباغية عن ديارهم؟! قال الشيخ صالح بن عبدالله الحميد: لقد هانت هذه الأمة حين ظهر فيها تفرُّق الكلمة واختلاف الأعراض وتجاذب الأهواء....في هذه الأجواء المظلمة والأحوال القاتمة يزداد الصهاينة في مقدساتنا عتوًّا وفسادًا وتقتيلًا وتخريبًا، يريدون في زعمهم أن يبنوا هيكلهم المزعوم على أنقاض ثالث المسجدين الشريفين، ألا ساء ما يزعمون، كذبوا وخسروا...العزة لله ولرسوله وللمؤمنين، والذلة والصغار والمسكنة لمن غضب الله عليه ولعنه، وجعل منهم القردة والخنازير وعبدة الطاغوت، أولئك شَرُّ مكانًا وأضلُّ عن سواء السبيل. قال الشيخ عبدالرزاق بن عبدالمحسن البدر: يزداد ألم المسلمين وأسفهم يومًا بعد يوم على الحال التي آل إليها المسجد الأقصى، من تسلُّط اليهود المجرمين عليه، وانتهاكهم لحرمته، واعتدائهم على قدسيته ومكانته، وارتكابهم فيه ومع أهله أنواعًا كثيرةً من التعديات والإجرام. المدافعة عن الأرض المقدسة واستنقاذ مسجده الشريف المقدس: قال الشيخ عبدالله بن حسن آل الشيخ رحمه الله: الله تبارك وتعالى جعل الجهاد في سبيله سببًا لنصرة دينه، وإقامة شرعه وتمكينه، وقد تضافرت نصوص الكتاب والسنة في فضله والحث عليه والترغيب فيه. إذا تقرر هذا فاعلموا معاشر المسلمين أن جميع الشعوب العربية والأمم الإسلامية قد بذلوا نفوسهم وأموالهم في المدافعة عن الأرض المقدسة واستنقاذ مسجده الشريف المقدس -الذي هو ثالث المساجد التي فضَّلَها النبي صلى الله عليه وسلم، وأمر بزيارتها وشدِّ الرحال إليها، والصلاة فيها- من أيدي تلك الأمة الغضبية اليهودية الملعونة التي نزلت بأرضه المقدسة، والتي لا تريد إلا محو الإسلام والمسلمين. وليس للمسلمين عذر في التخلف عن الدفاع عن دينهم وأوطانهم بأموالهم وأنفسهم. قال العلامة محمد بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله: قد علمتم أن هذه الطائفة - أعني اليهود- هي أخبث الطوائف، ومن أشدها ضررًا على الدين وأهله وأعظمها عداوةً وحنقًا وغيظًا على المؤمنين، قال تعالى: ﴿ لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ ﴾ [المائدة: 82] . ..فعداوتهم الشديدة للحق وأهله منذ بعث الله نبيه صلى الله عليه وسلم حتى الآن أشهر شيء، مع عداوتهم الجنسية للعرب، وأيامهم معهم قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم لا تخفى، فقد اجتمعت فيهم العداوتان: عداوة الدين، وعداوة الجنس....ولا إرب لهم إلا إطفاء نور الله تعالى واجتيازهم بلاد المسلمين، ولا سيما البلاد المقدسة ومهابط الوحي ليبذروا فيها...فسادهم...فمن أوجب أنواع الجهاد جهادهم، حماية للدين، وذبًّا وممانعة عن أوطان المسلمين. وجوب نصرة المسلمين في فلسطين: قال العلامة مقبل بن هادي الوادعي رحمه الله تعالى: واجب علينا أن ننصر إخواننا...الفلسطينيين، سواء كان بالمال أو كان بالنفس. ويعتبر جهادهم ودفاعهم دفاعًا عن الإسلام، ونصرًا للإسلام. نعم، إنه يعتبر نصرًا للإسلام. قال الشيخ عبدالرزاق بن عبدالمحسن البدر: لا يخفى على أي مسلم ما يعانيه المسلمون في فلسطين من آلام وقتل وتشريد، بسبب توالي الاعتداء الغاشم عليهم من اليهود المعتدين الغاصبين، ولا يخفى أيضًا حاجة المسلمين في فلسطين وضرورتهم إلى الكساء والطعام والدواء؛ ولذا فإن من الواجب على المسلمين المسارعة إلى نجدتهم ومدِّ يد المساعدة لهم، والوقوف معهم في محنتهم حتى يتمكنوا من مقاومة عدوِّهم الذي يملك العدة والعتاد. المسجد الأقصى ثالث المسجدين، وليس ثالث الحرمين: قال العلامة عبدالله بن محمد بن حميد رحمه الله: عندما يذكرون المسجد الأقصى في القدس، يقولون: ثالثُ الحرمين...فهل نوافقهم على هذا؟ فهل هو ثالث الحرمين؟ نقول: قولهم هذا باطل، ليس ثالث الحرمين باتفاق المسلمين، فالمسجد الأقصى ليس بحرم، بل قُل: "ثالث المسجدين" هذا صحيح، والصلاة فيه بخمسمائة صلاة، هذا صحيح ؛ لأن معنى "الحرم" هو الذي لا يُعضد شوكه، ولا يُختلى خلاه، ولا يُنفر صيده، ولا تلتقط لقطته إلا لمعرف، هذه الأحكام لا يوجد شيء منها بالأقصى. القضية الفلسطينية قضية إسلامية: قال العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: القضية الفلسطينية قضية إسلامية أولًا وأخيرًا، ولكن أعداء الإسلام بذلوا جهودًا جبارة لإبعادها عن الخط الإسلامي وإفهام المسلمين من غير العرب، إنها قضية عربية لا شأن لغير العرب بها، ويبدو أنهم نجحوا إلى حد ما في ذلك؛ ولذا فإني أرى أنه لا يمكن الوصول إلى حل لتلك القضية إلا باعتبار القضية إسلامية، وبالتكاتف بين المسلمين لإنقاذها، وجهاد اليهود جهادًا إسلاميًّا، حتى تعود الأرض إلى أهلها. لن يكون لليهود دولة في فلسطين: قال العلامة أحمد شاكر رحمه الله: لقد ألقى الإنكليز الحديد والنار على فلسطين، حماية لقضية خاسرة، وانتصارًا لأمة لا تقوم لها قائمة، ولن تكون لها دولة كلكم...يعرف أن البشائر التي في القرآن بشائر صدق، وأن آياته كلها حق، والله تعالى يقول في شأن هؤلاء اليهود: ﴿ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ﴾ [آل عمران: 112] ويقول في شأنهم: ﴿ وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ ﴾ [المائدة: 64] ثم الله يحكم عليهم حكمًا أبديًّا ﴿ وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ * وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا ﴾ [الأعراف: 167، 168] هذه صواعق من الله تنصب على رؤوس أعدائكم وعلى رؤوس حماتهم، هذا وعد الله بنصركم عليهم، والله منجز وعده....إن هؤلاء الأذلاء . ...ستكون عاقبة أمرهم إن شاء الله أن يجليهم المسلمون عن كل بلاد الإسلام. فتح بيت المقدس واستنقاذه من أيدي الكفرة: قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: ثم دخلت سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة، فيها كانت وقعة حطين التي كانت أمارة وتقدمة وإشارة لفتح بيت المقدس، واستنقاذه من أيدي الكفرة...واستنقاذه من أيدي النصارى بعد أن استحوذوا عليه مدة ثنتين وتسعين سنة....ولما تطهَّر بيت المقدس مما كان فيه من الصلبان والنواقيس والرهبان والقساوسة، ودخله أهل الإيمان، ونودي بالأذان وقُرئ القرآن، ووحد الرحمن، كانت أول جمعة أقيمت في اليوم الرابع من شعبان، بعد الفتح بثمان...وجاء الحق، وبطلت الأباطيل...وانجلت الكربات، وأقيمت الصلوات، وأذن المؤذنون، وخرس القسيسون، وزال البؤس، وطابت النفوس، وأقبلت السعود، وأدبرت النحوس، وعبد الله الأحد الصمد الذي ﴿ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ ﴾ [الإخلاص: 3، 4] وكبره الراكع والساجد، والقائم والقاعد، وامتلأ الجامع، وسالت لرقة القلوب المدامع، ولما أذن المؤذنون للصلاة قبل الزوال كادت القلوب تطير من الفرح في ذلك الحال. وصية لأهل فلسطين: قال العلامة عبدالعزيز بن عبدالله بن باز رحمه الله: الوصية للمسلمين في فلسطين بتقوى الله، والتعاون على الخير، والاستقامة في العمل، فالله ينصر من ينصره، قال سبحانه وتعالى: ﴿ إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ ﴾ [محمد: 7]، فعليهم أن يصبروا ويصابروا، فوعد الله حق، والله ناصر من ينصره. وختامًا، فعلى المسلمين الصبر، فالصبر والنصر قرينان، ونصر الله جل وعلا لعباده المؤمنين الصادقين قريب.
صريف الأقلام في إسلام ابن الإسلام بين يدي الحدث: هذا قبس من هذه السيرة النبوية المباركة، ومن أحداثها نتنسَّم عَبَقَها، ومن دلالاتها نعبَق رحيقها. وهذا سلمان الخير، ولما كان يدًا لهذا النبي محمد صلى الله عليه وسلم، ومن بعد أن كان صفيه، ومن قبل كان عنه بحثه، وصدقه، وولعه، ورهفه. ومما قد حفل التاريخ بسيرته مجدًا، ولما قد ازدانت به صفحاته، ريًّا، وزينة، وشرفًا. وهكذا تاريخ الصُّنَّاع الْمَهَرَة، وحين يكونون وقودًا للدعوات، وقناديلَ للخيرات. وأعالجه في عشرين مسألة: المسألة الأولى: تمهيد وتخريج: روى الإمام أحمد، والإمام البزار، وأورده الشيخ شعيب الأرنؤوط في تخريج المسند عن ابن عباس رضي الله تبارك وتعالى عنه، عن سلمان الفارسي، وأخرجه الشيخ مقبل بن هادي الوادعي في (الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين) ، وقال: حديث حسن، وأخرجه الشيخ الألباني في (السلسلة الصحيحة: 2/ 556) ، وهو إذ يحكي رضي الله عنه قصة إسلامه، وخروجه من الظلمات إلى النور. المسألة الثانية: ﴿ وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [العنكبوت: 69]. وهذا الذي يجعلنا نستطلع في بداية هذه المناسبة توفيقَ رب العزة والجلال لعبدٍ، ونسأل الله تعالى أن نكون من أولاء الموفَّقين، أن يستنهض نفسه، وأن يدارك ذات نفسه، بتوفيق من ربه وخالقه ومولاه رب العزة والجلال، أن يستنقذه من ظلمات الضلالة، وغَوَى الشرك، إلى أنوار وهدًى ورشد من الله تعالى الحق المبين سبحانه. وحين يعلم رب العزة والجلال، من عبدٍ صدق نيته، نحو هذا الهدف، وإنما لَسوف يوفَّقه ربه ومولاه؛ ولأنه تعالى قال: ﴿ وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [العنكبوت: 69]. المسألة الثالثة: أمجاد سجل تاريخي حافل: وأمامنا في التاريخ الإسلامي المنير، السراج الجميل، وحين حوى قطوفًا يانعة، زاهرة، مثمرة، كثيرة، طيبة، زادًا للسالكين، ومنارًا للسائرين، ولما كان منها ما نحن بين يديه الآن، ومن قصة إسلام سلمان الخير، سلمان الذي كان سلمان الفارسي نسبًا، وإذ ها هو سلمان الخير، نسبًا آخر ضافيًا، مسلمًا كان حنيفًا لله تعالى، وحين كانت حكايته مضرب التاريخ، مثلًا يُحتذى، وقيمة تُقتدى. ذلكم الذي كان عابدًا من عَبَدَةِ النار يومه ذاك، ومن قصة طويلة، ولسوف أحاول تلخيصها، وإيجازها؛ وخروجًا منها بالفائدة، التي قدمتها، وهي وأنه إذا علم الله خيرًا قَلْبَ عبدٍ، وفَّقه ربه ومولاه، لاستنقاذه من الظلمات إلى النور. المسألة الرابعة: نقلة نوعية: وحين قد كان ولدًا لرجل، كان رئيس قومه، وإنما آثر الاسترقاق وحياته على حياة هي متاع، ومن حياة أبيه وهذا أيضًا كافٍ بالدلالة على كم كان هذا الدين الإسلام الحنيف الخالد جميلًا وأي جمال؟! وعزيزًا وأية عزة؟! وحين يضفي على عبدٍ دالَّة الرضا والقبول والاستكانة، ومن نقلة نوعية ومن ظلام شركه، وإلى ومن، ويكأنه، ومن قول أتباع نبي الله تعالى موسى عليه السلام لفرعون، وحين نقل لنا القرآن العظيم قولهم هذا: ﴿ قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى * إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى * وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى * جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى ﴾ [طه: 72 - 76]. وحين كان هذا الرجل سلمان عابدًا من عَبَدَةِ النار، ومما أسلفنا، ولما أخبر أن أباه كان قد حجبه بيته، ومنعه من الخروج منه؛ وقفًا على خدمة أبيه، ويكأن البر كان له منهجًا وسبيلًا، ومن قبل إسلامه وجهه لله تعالى، وهو محسن. المسألة الخامسة: كن رأسًا في الهدى: ولأن أباه كان دِهْاقًا، ويكأنه كان زعيمًا في القوم، ورأسًا في الضلالة، ولما كان قد أوقف نفسه موقدًا لنارهم، ويتعبدونها، ومن أمامه؛ صنديد ضلالة، ورأس كفر معًا، وهذا الذي يُستنبط منه، وألَّا يكون رأسًا في ضلالة؛ ولأنه عليه إثم من فَعَلَ فعله، أو قال قوله، أو نهج سبيله، أو اتبع طريقه، وإلى أن يقوم الناس لرب العالمين؛ ومن قوله صلى الله عليه وسلم: ((من دعا إلى هدًى، كان له من الأجر مثل أجور من تبِعه، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئًا، ومن دعا إلى ضلالة، كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه، لا ينقص ذلك من آثامهم شيئًا)) [1] . ومن كتابه ويوم أرسل لعظيم القبط بالإسكندرية: "بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد عبدالله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى؛ أما بعد: فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أسْلِمْ تَسْلَم، يؤتِك الله أجرك مرتين؛ فإن توليتَ، فإنَّ عليك إثمَ الأرِيسِّيِّين، و﴿ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ ﴾ [آل عمران: 64]، إلى قوله ﴿ اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 64] [2] . المسألة السادسة: حجاب المرأة في الجاهلية: ولما كان، ومن نبأ عنه، أن أباه كان قد حبسه، وكما تُحبَس الخَدور؛ أي النساء في بيوتهن، وانظر كيف كانت حتى عقيدة الجاهلية، وحين كان منها هو هكذا حبس الخدور، وإذ ليس يُقصَد بالحبس ها هنا السجن، وبمعناه العقابي المعروف، وإنما هذا كناية عن الحفظ، والحجاب، والستر، حتى عند الجاهلية الأولى، وإلا ما كان معروفًا، ومن نواديهم، وبغائهم، فحتى هذا كان، ومن نظام خاص، وكما كان حجابهم ومن شأن خاص أيضًا، ولما كان لا يُقصَد منه إلا التحجب، وسوى التستر. ولأن المرأة قيمة في المجتمع، ولأنها فتنة ولا شك، فلما تُحجَب؛ صيانة لها، وللمجتمع، فإن هذا كرم من الله عز وجل، وفضل ومِنَّة ونعمة، والحاصل أنه حتى في الجاهلية الأولى، كانت المرأة تحجب، ومن قول سلمان هذا. المسألة السابعة: إلهام عبدٍ: وإلا أن النفس اللوامة توَّاقة إلى هكذا عود إلى فطرتها، التي فطر الله تعالى الناس عليها. وهو ذلكم العود، إليها من حنيفية، سمحة، خالصة لربها، وحين تنزع عنها ومنه غيُّها، وإفكها؛ ولتعود إلى هكذا النور، والهدى، والرضا. ولهذا الذي قدمنا، وأنه إذا علم الله تعالى من عبد خيرًا، وإنه سبحانه يوفَّقه، ويلهمه، وكان من توفيقه وإلهامه أنه خرج من قيد أبيه، وحبسه، ومنعه، وحجبه، ولما كان من سياحته غير مرة باحثًا عن حقٍّ، لاويًا عن ضلال. المسألة الثامنة: جولات سلمان الخير؛ بحثًا عن الحق: راح سلمان الخير إلى نَصِيبِين، وراح إلى عَمُّورية، وكل مرة، يقابل فيها راهبًا نصرانيًّا، حتى وصل إلى صاحب عمورية، وحين دخل عليه يوم بدء آخرته، وجاء وقت موعد لقائه بربه تعالى. وحين استوصاه سلمان الخير، وإلى من يوصيه، ليذهب إليه، ولما قد حلَّ عليه يوم الهدى، وحانت ساعة الرضا. ويومها أنبأ الراهب سلمانَ الخير، وإنه قد أظل زمان خروج رسول، وبَعْثِ نبيِّ، من بلاد العرب، فصفته أنه من بلاد العرب، وصفته أن مُهاجَرُه بلدة بين حَرَّتين، بها نخل، وفي إشارة إلى يثربَ التي هي المدينة، ولا يأكل الصدقة، ويقبل الهدية، وبين كتفيه خاتم النبوة، وهو على دين إبراهيم، وهذه ستُّ علامات. هذا وصف الراهب لسلمان الخير، والذي كان يومًا فارسيَّ المولد، للنبي المصطفى القرشي العربي الهاشمي الإبراهيمي محمد بن عبدالله بن عبدالمطلب صلى الله عليه وسلم. وهذه حجة قاطعة وإذ ومن أين أتيت بها يا أيها الراهب؟ ويكأنه وهذا من لسان حاله، وأن هكذا وصف هذا النبي لدينا في العهدين. المسألة التاسعة: نداء دعويٌّ حان: ونريد، وكما ننادي دائمًا، باستخراج هذا الكنز؛ ومن قيل الناس أنفسهم لأنه أمانة في أعناق القوم. والرجوع إلى الحق فضيلة، ومنقبة، والإصرار على الباطل مذمة، وسوء كَيلة، ولسوف يُحاسَب عليها كلُّ مقصِّرٍ، وكل مخف، ويتحمل إثم فعله، وإثم فاعله، وممن قام على فعله. ولا يغرنَّك أن رئيس قوم قد كان إثمه على من ضلَّله، وليس يغني عنه وزره، أنهم جميعًا كانوا قومًا خاطئين؛ ولقول ربنا الرحمن سبحانه: ﴿ فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ ﴾ [الزخرف: 54]. ومنه؛ فإنه لا يجوز الاستخفاف في مسائل هذا الدين الإسلام الحنيف الخالد، ولنفعل كما فعل سلمان الخير، يبحث عن دينه، ويسترقُّ نفسه، ويُعبِّد نفسه، عند الناس رقيقًا، أفضل عنده، من أن يكون عابدًا سادنًا للنار. المسألة العاشرة: سلمان الخير يُؤثِر حياة الرق على الحرية؛ لله: فالحاصل أنه كان وجد تجارًا آتِين من بلاد العرب، من قبيلة كلب، وحين عرض عليهم أن يأخذوه معهم مقابل أن يعطيهم كل ما كان قد ادخره من تعبه، ومن جَدِّه، ومن نَصَبِهِ، فوافقوا، وأخذوه معهم. وهو إذ يريد أن يتسلل خفية؛ رهبة الى الله تعالى، ومحبة في دين الله، وتوفيقًا من الله. وهذا الذي قدمناه، ونؤكده مرارًا، وحين يقدم العبد بين يدي ربه عنوانًا على البذل، ولِما تغيثه السماء، وحين تنهمر عليه قطرات خيرها، سحًّا، غدقًا، مجللًا؛ ألم ترَ كيف قال ربنا الرحمن سبحانه؟ ﴿ وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ ﴾ [الأنفال: 23]. أقدِمْ على الخير، تنفتح لك أبوابه، وعلى مصراعيها، لا ينفتح مصراع واحد؛ وعن أبي هريرة: يقول الله تعالى: ((أنا عند ظنِّ عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم، وإن تقرب إليَّ بشبرٍ تقربت إليه ذراعًا، وإن تقرب إليَّ ذراعًا تقربت إليه باعًا، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة)) [3] . ومن هذا الحديث الطويل العظيم، هو الذي نحن بين يديه الآن، وحين وافق سلمان الخير أن يأخذوه، فأخذوه، واسترقوه، وحين كان من قصده أن يأتي يثرب، وليرى عن قرب، وليؤمن وعن يقين، وإذ لا بد، ومن عقده، أن يقف على هكذا علامات النبوة الست، التي كان قد حكاها له هذا الراهب، وحين راح إلى المدينة؛ كي يرى، ويعمل، وإذ ليس يعرف أنها المدينة، وإلا حين وجد فيها نخلًا وبين حرتين فعلِم أنها ذلكم الوصف، الذي قال له عنه الراهب المدينة، وهذه التي قال عنها النبي صلى الله عليه وسلم: ((اللهم بارك لنا في المدينة، وفي مُدِّها، وفي صاعها)) . وهذا هو عقد هذا النبي محمد صلى الله عليه وسلم، ومن يقينه بربه تعالى، وأنه سبحانه، ولسوف يقلب قلب عبده، محبة في يثرب، وكما كان ألقاها لب عبده ونبيه محمد صلى الله عليه وسلم محبة مكة أيضًا؛ ولأن المقام وحيثما كان العبد قادرًا على إقامة دينه. وهذا هو الذي جعل هذا النبي محمدًا صلى الله عليه وسلم، والذي به دعا ربه تعالى، أن يحبها؛ أي المدينة، وكما قد حبَّب إليه مكة، وقد حبَّب الله تعالى إليه المدينة، وكما قد حبَّب إليه مكة. ومرة أخرى؛ ولأن موطن المسلم، هو ذلكم المكان الذي يمكنه فيه أن يقيم دينه، ولأن الأرض كلها لله يورثها من يشاء، ولأن الأرض كلها معبر دنيوي، إلى مصير خالد أخروي، فحيثما استطاع العبد أن يقيم دينه، فثمت، وتمت الإقامة، ودونما حواجز مصطنعة، ودونما موانع مدَّعاة؛ فعن عائشة أم المؤمنين: ((لما قدِم رسول الله صلى الله عليه وسلم وُعِكَ أبو بكر وبلال، قالت: فدخلت عليهما، فقلت: يا أبتِ كيف تجدك؟ ويا بلال كيف تجدك؟ قالت: وكان أبو بكر إذا أخذته الحمى يقول: كل امرئ مُصبَّح في أهله = والموت أدنى من شراك نعله، وكان بلال إذا أقلع عنه يرفع عقيرته فيقول: ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة = بوادٍ وحولي إذخرٌ وجليلُ، وهل أرِدْنَ يومًا مياه مَجَنَّة = وهل تبدون لي شامة وطَفِيل، قال: قالت عائشة: فجئتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فقال: اللهم حبِّب إلينا المدينة كحبِّنا مكة أو أشد، وصحِّحها، وبارك لنا في صاعها ومُدِّها، وانقُل حُمَّاها فاجعلها بالجُحْفَةِ)) [4] . وحينها، ولما كان منه عمله، واسترقاقه؛ ولأن كل شيء، ومن سبيل مشروع، ومن طريق مسنون، أن يصل العبد، ومن سناه، ومن سببه، إلى الحق، فقد هان وحتى جاء النبي من مَبْعَثِهِ من مكة، وصبر سلمان الخير، هذا كله، عشر سنوات في مكة، وما ندري كم سنة في العراق، متنقلًا بين هذا الراهب وإلى آخر، وحين كان منه صبره على هذا كله، ومرة أخرى وإلا أنه؛ ولأن كل شيء ومن سبيل مشروع، ومن طريق مسنون، أن يصل العبد ومن سناه، ومن سببه، إلى الحق، فقد هان، وهذا الذي فعله سلمان الخير، ولما كان له، ومن هكذا سلف. وانظر كيف كان، ومن زيد بن عمرو بن نفيل، وهو هذا الذي حُقَّ أن يفرد له، من مقال؛ ولنحكي هكذا الحال، وإلى أبناء الأمة، وجيلًا ومن بعد جيل آخر، وتتناقلها الأجيال، هديًا، وسننًا حسنًا، وها هو سلمان الخير يتصبر، وإلى أن يدخل في هذا الدين الإسلام الحنيف الخالد. المسألة الحادية عشرة: اصبروا وصابروا: وأقول هذا لماذا؟ لكي نتصبر نحن، ثم وقد أتحفنا بهذا الإسلام من دون ما قد قضاه سلمان الخير بحثًا، ولما قد جاءنا هذا الإسلام الحنيف الخالد، وعلى طبق من ورد، وعلى بساط هكذا ممهد؛ ولنحمد الله عز وجل على ذلك كثيرًا كثيرًا. وليكن عمل أحدنا، ومن بعد ذلك، وإن هو إلا الاستقامة، والاستزادة، ومن طرق الخير؛ وكيما يلقى عبدٌ ربَّه تعالى، عبدًا مرضيًّا عنه، بالهدى ودين الحق، والعمل الصالح، والنية الصادقة، مع رب العزة والجلال. أي: إنك لست تقول قولًا، أو تفعل فعلًا، إلا صدقًا، وحين قد سِيقت إليك أقصوصة سلمان الخير. ويكأنه، ومرة أخرى ومن إلف أن يقال، وكما يستنبط، ومن أقصوصته، وسيرته أيضًا، وهي ذلكم الأرض المهاد، ولما كانت موطنًا للعباد، وحيثما أمكن أحدهم أن يقيم دينه، وثمت هي الإقامة. ولأن الرجل قد تنقل من بلاد فارس، إلى العراق، إلى يثرب، ولم يحكِ لنا شيئًا من موانع، وحدًّا من حواجز، وحين علم أنها المدينة، واسترق نفسه أيضًا، ومما نقول، وصبرًا وتصبرًا؛ وحتى جاء النبي صلى الله عليه وسلم، من مبعثه من مكة، وصبر سلمان هذا الزمن كله، عشر سنوات في مكة، وما أدري كم سنة في العراق، يصبر على هذا كله؛ ومن جده، ومن نصبه، ولما كان من شأنهم، أن وافقوه، على عرضه هذا وأخذوه، وانصرفوا، ولكنه يريد خفيته؛ رهبة الى الله تعالى، ورغبة لما عنده، وما قد أعده له، ومن غيره، ومن هدى، وقبول لدين الله تعالى، وفرارًا إلا إليه وحده سبحانه. الحاصل أن سلمان الخير، كان قد لقي هذا النبي محمدًا صلى الله عليه وسلم، وفي حديث طويل الحقيقة، وإذ كان ولا بد أن ننجزه، وأن نوجزه أيضًا. وأخذ، وأصر، وإلا أن يختبر علامات النبوة التي كان قد حكاها له ذلكم الراهب وواحدة واحدة، وليس بتارك منها شيئًا أيضًا. المسألة الثانية عشرة: لا تكن مقلدًا: وهذا الذي يستنبط منه ضرورة العلم، وتحصيله، وليس يكتفي عبد بتقليد، ولأن العلم أثبت، وأيقن؛ وهو ذلكم الحصن الذي يقي عبدًا، ومن رياح التقليد العاتية، والتي سرعان ما تجرف معها مقلدًا فلا تراه ثابتًا راسخًا، بل يميل، وحيث أميل، وهذا من الواجب، على كل أحد ألَّا يكون مقلدًا لأحد، ولما كان قادرا على التعلم، وسبر غور، مما أمامه من علوم، قد انتظم في سلكها؛ ليعلم مراد الله تعالى، ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم؛ وكيما يتعبد الله تعالى، عن علم، لا عن تقليد، ومما أنف بيانه الآن توًّا. وحال العبد ها هنا، وأنه إذ ينقب في الكتب، والدفاتر، وواقع الحال، وما يؤول إليها من مآل. المسألة الثالثة عشرة: استيثاق سلمان من علامات النبوة: ولما كانت هذه اختبارات ستة، ولما كان أولها: ومن أن نبينا محمدًا صلى الله عليه وسلم، على دين خليل الله تعالى، ونبيه، إبراهيم عليه السلام: وأنه هو ذلكم الذي دعا إليه نبي الله إبراهيم، ومن خلعة الأنداد، وإزاحة الشركاء، وإماطة النظراء، وإحلال العقد فيه تعالى، وأنه النافع وحده، وأنه الضار وحده، وأنه الآمر وحده، وأنه الناهي وحده، وأن هذه هي خلاصة، ويسر، وسلاسة دين، كان قد أنزله ربنا الرحمن، وبعث به الرسل، ونبأ به النبيين. وثانيتها: وحين كان هذا النبي محمد صلى الله عليه وسلم، من جزيرة العرب: وهذا الذي تحقق منه سلمان الخير، وحين كانت بعثته صلى الله عليه وسلم، ومن جزيرة العرب، وأنه هو نفسه، ومن أنسابها أصالة، وفرعًا، وجزءًا، وكلًّا، وبعضًا وجمعًا. وثالثتها: وأنه ليس يأكل الصدقة: ولما كان قد أخذ معه وما به أنبأ عنه النبي محمدًا صلى الله عليه وسلم، وأنه صدقة، وليتمنع عنها، وليأمر صحابته الأخيار الأبرار أن يأكلوها. ورابعتها: وأنه يقبل الهدية: وحين أخذ معه هديته، ومن ثم جاءه بها، وحين قبلها النبي صلى الله عليه وسلم، فأكل منها، وأمر أصحابه، أن يأكلوا معه. وهذا إيثار نبي وهذا الذي به قد كان إليه أسبق، ولما قد كان عليه أوفر، وأميز، وأسرع؛ ومن هكذا وصفه تعالى لهذه الأمة المسلمة يومها هذا؛ ومن قول رب العزة والجلال سبحانه وتعالى: ﴿ وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [الحشر: 9]. وخامستها: وهو أن مهاجره بأرض بين حرتين، بينهما نخل ولما كانت يثرب المدينة هي هكذا، ومن تضاريسها، وأنها هي هذه الأرض ذات الحجارة السوداء، وفي المدينة النبوية، وهما الحرتان، وعلى جانبيها، وهما اللابتان أيضًا، وهما اللتان كان قد أُريهما النبي محمد صلى الله عليه وسلم، ويوم أن رآه، ومن منامه، يوم هجرته، وعلى تفصيل، ويكأنه رؤية بصر، ولما كان رؤيا خبر، وما بين الحرتين أو اللابتين تقع مزارع ومساكن المدينة. وسادستها: هو خاتم النبوة: وحين ذهب سلمان الخير إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهو إذ يدفن أحد أصحابه، في بقيع الغرقد، الذي هو المقابر، والذي كان منتسبًا يومًا إلى شجر الغرقد، الذي قد كان به متميزًا، ويكأنه قد راح وصفه، واندثر نعته، ومن ورائه يهود أيضًا. وحينها، ولربما كان قد أُلقي في روع هذا النبي صلى الله عليه وسلم، ومن خلال قسمات، وحركات سلمان الخير هذا، أنه يريد الاستيثاق، من أمر خاتم النبوة، وحينها كشف نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ومن بين منكبيه؛ ليظهر خاتم النبوة. وهذا من ذكاء وفطنة القائد، وحين يصبر على من حوله، ومن يريد الاستيثاق من خبر، أو نبأ ما، فيتصبر عليه؛ لكي يؤمن عن يقين، وثبات، ورضًا، وقبول، وصدق. ومن ثم رأى سلمان الخير الخاتم، واستوثق. وكل مرة كان يزداد فيها سلمان الخير إيمانًا ويقينًا راسخًا. غير أنه، ومما أنف وهذا هو الذي حمل سلمان الخير، ألَّا يكون مقلدًا؛ وكيما يتخرج جيل اليقين، على هدي خاتم النبيين، وسنن إمام المرسلين نبينا محمد صلى الله عليه وسلم. المسألة الرابعة عشرة: كاتِبْ يا سلمان: وهكذا كانت بعثة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وهكذا كانت هجرته، وهكذا كان استرقاق سلمان الخير؛ ولعل هذا هو الذي كان مانعه، ومن اللحوق بالنبي صلى الله عليه وسلم، يومي بدر وأحد. وإلا أن هذا الدين، ولما كان من أعماله، هو ذلكم تقليص أمر الرق، أول مرة، ولما كان من نسائمه، هو هكذا تخليص البشرية منه، آخر المرة؛ ومنه جاء دور القيادة؛ لتعمل عملها، ومن استنقاذ سلمان الخير هذا، ومن رقِّه. ويومها أمره النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وأن يكاتب على ذات نفسه؛ وكيما يصير حرًّا، ولعل يومًا آخر، وزمنًا قريبًا، سوف يكون له، ومنه دوره، ومن يوم الخندق مثالًا، ومن يوم الأحزاب عبرة وتذكارًا. وحينها كاتب سلمان الخير، وأن يعمل لدى سيده؛ ومن موجب عقد رقه، وأن يعمل وقت راحته، وليس براحة ولأداء، وسداد جعل كان بينهما، ولما كان مقداره أن يغرس ثلاثمائة نخلة بالفقير، وهو حفرتها، وإلى أن تنمو ومن وزن أربعين أوقية ذهبًا أيضًا، وأنت راءٍ كم كان الثمن باهظًا، عاليًا، مكلفًا، مرهقًا، مقضًّا. المسألة الخامسة عشرة: سطوة أصحاب الأعمال: وهذا الذي يئن منه العمال، ومن سطوة أصحاب الأعمال، وحين تربو ذممهم المالية، وتعلو، ومن ضآلة ما يعطون، ومن مسمى الأجر، لعمالهم، وهذه الشدة، وهذه الصعوبة؛ ليستثقل العبد؛ ومن جرائها الأداء، ليفضل أن يكون عبدًا رقيقًا، خيرًا له من هذا العقد الجاثم على أنفاسه، وهذا الوضع، وبحاجة إلى إعادة النظر؛ وكيما يكون الناس، ومن شبع، وقناعة، وراحة، ولما كان من استغلال العمال؛ ومن حاجتهم، وضعفهم. ومنه وجب على الولي التدخل لإزالة هكذا عسر، يعرض للعمال؛ ومن حاجتهم، وضعفهم، ومن غياب الوازع الديني، والبعد الإيماني، أو هكذا ضعفه، وإن شئت فقل؛ وكيما يتنشأ مجتمع التكافل، وعلى وجهه، الذي يتأمله هذا الدين الإسلام الحنيف الخالد. المسألة السادسة عشرة: تعدد الاسم من شرف المسمى: والمناسبة هي تسمية النخلة نبتة، ثم إذا ظهرت بادرتها أسمَوها وَدِيَّةً، ثم إذا نمت شيئًا آخر، ومرحلة أخرى أسمَوها فسيلة، وهكذا ثم أسمَوها شاءة. وهذا من عظم شأن النخل عند القوم، وإذ وكلما زاد وكثر وتعدد الاسم دلَّ ذلك على شرف المسمى. حتى التمرة، وحين كان لها خمسة أسماء، في كل طور من حياتها لها اسم منها أيضًا، ولما كان طلعًا، فخلالًا، فبُسرًا، فرطَبًا، فتمرًا. وهو هذا التمر الذي قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم: ((يا عائشة، بيت لا تمر فيه جياعٌ أهله، يا عائشة، بيت لا تمر فيه جياع أهله - أو جاع أهله - قالها مرتين أو ثلاثًا)) [5] . وحديث عائشة أم المؤمنين: (( ابن أختي، إن كنا لننظر إلى الهلال، ثم الهلال، ثلاثة أهلة في شهرين؛ وما أوقدت في أبيات رسول الله صلى الله عليه وسلم نار، فقلت: يا خالة، ما كان يعيشكم؟ قالت: الأسودان: التمر والماء، إلا أنه قد كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم جيران من الأنصار، كانت لهم منائح، وكانوا يمنحون رسول الله صلى الله عليه وسلم من ألبانهم، فيسقينا)) [6] . فالتمر يخص بذكر؛ لقيمته، وعظمته، وغذائيته، بل وشفائه، ونجاعته، فإن فيه من العناصر الطيبة، التي تكون محورًا هامًّا من محاور استجلاب الصحة، ودفع الأسقام، ورفع الأمراض، ودرء الأوجاع. ولديك حديث نبينا محمد صلى الله عليه وسلم: ((من تصبح كل يوم سبع تمرات عجوة، لم يضره في ذلك اليوم سُمٌّ ولا سحر)) [7] . المسألة السابعة عشرة: شآبيب الرحمة تظلل سلمان الخير: والحاصل المهم: أن قد كاتب سلمان الخير رضي الله عنه، ولم يكن لديه مال يفي به، ولسوف يرزقه مولاه وليس ينساه، وحين تتنزل، وكم من شآبيب الرحمة وعلى عبد كان منه! هو هكذا مشواره الطويل، وسفره الممتد صدقًا مع ربه تعالى، ومولاه الحق المبين، ويكأنه وقد حل يوم إجازته مرتين: مرة: يوم إسلامه، ومرة: يوم قضائه عن عتقه، وهذا الذي منه، وإذا علم الله تعالى من عبده خيرًا، استشرف له أمامه طرق الخير، ومنها هذا الذي وفق إليه سلمان، ومن إسلامه، ومنه مكاتبته؛ ليستخلص ذات نفسه من رقه، ومن عبوديته، إلى حريته. المسألة الثامنة عشرة: مجتمع التكافل الاجتماعي: ومنها توفيق النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وحين أذَّنَ في الناس أن يعينوا صاحبهم، ويساعدوه؛ كفالة، وحين تسوق العبد سوقًا، وتقوده قودًا، إلى أن يساعد الأخ أخاه؛ ومن قول نبينا محمد صلى الله عليه وسلم يومًا: ((ترى المؤمنين في تراحمهم وتوادهم وتعاطفهم، كمثل الجسد، إذا اشتكى عضو تداعى له سائر جسده بالسهر والحمى)) [8] . والحاصل المهم، أنه كانت قد بقيت الأربعون الأوقية الذهب. المسألة التاسعة عشرة: علم نبوة ضافٍ: وحين أتاه النبي صلى الله عليه وسلم، ببعض مال من أموال الغنائم، وكان مثل بيضة الدجاجة، على الوصف من سلمان الخير، وأكمل منها الأربعين إعجازًا، وإذ، وماذا تفعل بيضة دجاجة وزنًا، مقابل أربعين أوقية من الذهب؟ ولكنه أخذت منها زنة أربعين أوقية، وبقيت هي ببركتها، وهذا محل الاستشهاد وها هنا موضع الإعجاز، ومن دلائل نبوة هذا النبي محمد صلى الله عليه وسلم. ومنضافًا إلى الدلائل التي قال عنها، وأخبر عنها سلمان، نيابة عن الراهب النصراني، الذي هو حجة على كل القوم أيضًا، وإذ نحن في حاجة إلى استنهاض هذه الهمم، واستدعاء تلك القمم؛ كيما تكون حجة، ثم لننشر الحق. ولأن الحق حق، ولا ينظر إلى الحق، ومن أين أتى؟ ولأن الحق أحق أن يتبع، وبه فقد انتهت القضية. المسألة العشرين: سلمان الخير يحضر المشاهد: وحتى جاء يوم الخندق، وما أدراك ما يوم الخندق؟ وكان الفضل فيه لله تعالى، ثم لسلمان الخير، وحين استشار النبي أصحابه كيف تكون مواجهة الأحزاب، أهل الكتاب، ومشركي العرب، والمنافقين، وها قد اجتمعوا، على هذا النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وصحبه، ليشير سلمان رضي الله عنه، بحفر الخندق، فكرة عسكرية، ماهرة، باهرة، أتى بها من بلاده، من بلاد فارس. فأخذ بها النبي محمد صلى الله عليه وسلم، والحكمة ضالة المؤمن، وحيثما وجدها فهو أحق بها. وعلى أنه رضي الله تعالى عنه، ولم يتخلف عن مشهد، ومن يوم الخندق، وإلى أن لقي ربًّا غير غضبان، وحديث سلمان الخير ذو ملح، ولطف، وزهر. واكتفينا بإيجاز شرحه؛ نيابة عن نسخه، وألَّا يطول قولنا، كما قد رأيناه طال. [1] صحيح مسلم: 2674. [2] صحيح الأدب المفرد، الألباني: 845. [3] صحيح البخاري: 7405. [4] صحيح البخاري: 5677. [5] صحيح مسلم: 2046. [6] صحيح البخاري: 2567. [7] صحيح البخاري: 5445. [8] صحيح البخاري: 6011.
قبس من سير أئمة النحاة الخليل بن أحمد الفراهيدي • شيخ العربية المبجَّل، وإمام أهل اللغة، لا يزاحمه في ذلك مزاحم، ولا يدافعه من مكانته مدافع. • وُلِد سنة 100 هج، وتُوفِّيَ سنة 170 هج. • أبرز نحاة مدرسة البصرة. • ما من فنٍّ من فنون العربية إلا وله فيه القَدَحُ الْمُعلَّى، واليدُ الطُّولى؛ فالنحو ملعبه، والصرف ميدانه، والعروض منه بمنزلة الفرع من الأصل، أو قُلْ: بمنزلة الابن من أبيه، ولِمَ لا؟ وهو الذي ابتكره، وفضَّ حُجُبَه، فقد نضِج هذا الفنَّ على يديه واحترق، ولم يستطِع أحدٌ بعده أن يزيد شيئًا ذا بال في هذا الفن. • إمام اللغويين؛ فقد صنَّف أول معجم في تاريخ العربية؛ وهو معجم العين. • ابتكر الهمزة (ء)؛ وهي عبارة عن رأس عين كما ترى، ولعل الذي دفعه لابتكار هذا الشكل (ء)؛ ليعبر به عن الهمزة هو قرب مخرج الهمزة من مخرج حرف العين؛ فالهمزة والعين يخرجان من مخرج واحد، وهو الحلق على تباعد يسير بينهما. • صاحب اليد الطولى فيما آل إليه، واستقر عليه نظام الإعجام في الكتابة العربية. • من أبرز تلاميذه: النَّضْر بن شُمَيلٍ، والكسائي إمام مدرسة الكوفة، وسِيْبَويَهِ؛ ذلك النحويُّ المبرَّز وأحد أقطاب الصنعة، وصاحب كتاب "الكتاب"؛ الذي تدور حوله رَحَى كُتُبِ النحاة. • كان رحمه الله زاهدًا في الدنيا، مُؤثِرًا ما عند الله؛ فلم يزاحم الناس على الدنيا، ولم تطمح نفسه يومًا في الشهرة وحب الظهور، كما هو معهود عند كثير من بني الإنسان. ولْنَدَعِ الحديث لتلميذه النضر بن شميل؛ فهو أعرف الناس به؛ يقول النضر بن شميل: "أقام الخليل في خُصٍّ (كوخ) من أخصاص البصرة، لا يقدر على فَلْسَينِ، وأصحابه يكسِبون بعلمه الأموال". • إنها شخصية فذَّة تثير الإعجاب، فلم يَكَدْ يسمع عنه أحد من العامة في عصره؛ نظرًا لأنه كان يحب الخمول، ويجنح إلى الزهد، بينما كان تلامذته أكثر شهرة منه، ويتقلبون في رغد من العيش بسبب علمه الذي أحرزوه وأفادوه منه، وحازوا به مكانتهم ومقاعدهم من ذوي السلطان. • أما عن سبب وفاته، فنكتفي بما ذكره العلامة الفهَّامة المؤرخ، شيخ الإسلام الذهبي رحمه الله في كتابه (تاريخ الإسلام)؛ حيث ذكر أن وفاته كانت بسبب اصطدامه في سارية المسجد؛ حيث كان مشغولًا بالتفكير في ابتكار نوع من الحساب يسهِّل على الناس حياتهم في طريقة الحساب، وقيل: بل كان يفكر في بحر من بحور العروض، فاصطدم بالسارية؛ حيث زاغ عنها بصره، فمات على إثْرِ ذلك. • رحِم الله شيخ العربية المبجَّل، وأستاذ الأستاذين، وجزاه الله عما قدمه للغة القرآن خير الجزاء، والله نسأل أن يرفع قدره في الآخرة كما رفعه في الدنيا. سيبويه: • إن ذِكْرَ اسمه له هيبة في نفوس النحويين، ولِمَ لا، وكتابه في علم العربية قد فاح عطره، وراج ذكره، حتى صار العمدة في هذا الفن، وأضحى صخرة شامخة لم تطُلْها معاول الهدم، ولم يَسْتَطِعْهُ إلا أولو الفهم، وقليلٌ ما هم؟ • اسمه: عمرو بن عثمان بن قَنْبَر الحارثي. • كنيته: أبو بِشْرٍ. • لقبه: سِيبويه، وقد طغى هذا اللقب على اسمه حتى ما عاد يعرفه أحد إلا بلقبه ذاك، وسيبويه كلمة فارسية معناها: رائحة التفاح. • صاحب كتاب "الكتاب"، الذي تدور في فلكه كتب النحاة من بعده قاطبة. • وُلِدَ في بلاد فارس سنة ١٤٨ هج على الراجح، ورحلت أسرته إلى البصرة حيث نشأ وترعرع فيها. • طلب علم الحديث والفقه في مقتبل عمره، وكان يجالس آنذاك شيخه حمَّاد بن سلمة أحد أئمة الحديث، وقد لحَّنه حماد بن سلمة في حديث ما، ومن ساعتها أخذ على نفسه العهد أن يطلب علمًا يعصِمه من اللحن، فكان له ذلك بفضل الله؛ فقد صار شيخًا من شيوخ النحاة، وقطبًا من أقطاب الصنعة، وقد خَلَّد ذكره بتصنيف كتابه "الكتاب" في علم العربية الذي ما زالت هيبته مستوطنة في نفوس النحاة إلى يومنا هذا. • شيوخه: من أبرز شيوخه أستاذ الأستاذين شيخ العربية الأول؛ الخليل بن أحمد الفراهيدي، وقد لازمه سيبويه وتعلم منه كثيرًا، وما من أحد من البشر له مِنَّة في رقبة سيبويه كما للخليل رحمه الله. • نِعْمَ التلميذ البار بشيخه؛ فقد أحيا علم شيخه الخليل، فما الكتاب إلا علم شيخ العربية الأول الخليل بن أحمد الفراهيدي. وقد تتلمذ أيضًا على يد عيسى بن عمر، ويونس بن حبيب وغيرهما من أساطين وشيوخ اللغة، وقد استفاد منهم كثيرًا، وقد ظهر أثر ذلك في كتابه. • تلاميذه: من أبرز تلاميذه أبو الحسن الأخفش، وقُطْرُب. • أما عن ثناء أهل العلم عليه فحدِّث ولا حرج، ونكتفي بما ذكره شيخ الإسلام الذهبي رحمه الله: "إمام النحو، حُجَّة العرب، الفارسي، ثم البصري، قد طلب الفقه والحديث مدة، ثم أقبل على العربية، فبرع وساد أهل العصر، وألف فيها كتابه الكبير الذي لا يُدرَك شأوه فيه، قيل: فيه مع فرط ذكائه حبسة في عبارته، وانطلاق في قلمه". • سبب وفاته: قيل: تُوفِّيَ على إثر المسألة الزُّنبورية المتعلقة بمناظرته مع الكسائي، والقصة مشهورة، ولا أرى داعيًا لذكرها؛ فقد طفحت بها الكتب قديمًا وحديثًا. • تُوفِّيَ سنة ١٨٠ هج رحمه الله، وقد عاش فترة قصيرة، ولكنها خَلَّدت علمًا ما زال الناس يطلبونه إلى يوم الناس هذا. • رحم الله إمام النحاة، وجزاه الله عما قدمه للغة العربية خير الجزاء، والله نرجو أن يغفر له ما عرف عنه من اعتزاله. الكسائي: • اسمه: علي بن حمزة بن عبدالله الأسدي. • كنيته: أبو الحسن. • لقبه: الكسائي، وقد غلب هذا اللقب على اسمه حتى عُرِف به. قيل: لُقِّب بهذا اللقب لكساء أحْرَمَ فيه. • وُلِد سنة 120 هج. • توفي سنة 189 هج على الأرجح. • شيخ الكوفيين، وإمام المدرسة الكوفية. • واحد من القراء السبعة. • الإمام الكسائي رحمه الله إمام كبير من أئمة العربية والقراءات؛ إنه عَلَمٌ على رأسه نار. • صاحب المناظرة المشهورة التي ذكرها غير واحد من أهل العلم في كتبهم، تلك المناظرة التي حدثت بين سيبويه والكسائي، التي تتعلق بالمسألة الزنبورية المعروفة. زعم بعضهم أن الكسائي اتفق مع الأعراب لكي يظفَرَ بالنصر أمام سيبويه. والرد على هذا الافتراء من وجهين: • قصة المناظرة المشهورة تلك بين سيبويه والكسائي لم تكن محل إجماع بين أهل العلم، فهناك من يرى أنها لم تحدث أصلًا. بل هناك أبحاث معاصرة تناولتها بالبحث، وانتهت إلى أنها مُخْتَلَقَةٌ. • وعلى افتراض وقوعها فإننا ننزِّه جناب الإمام الكسائي عن هذا الصنيع؛ فالرجل معروف بالديانة والأخلاق الحميدة، وهو واحد من القراء السبعة. ثناء العلماء عليه: نكتفي بشهادة إمام الدنيا الشافعي؛ قال الشافعي: "من أراد أن يتبحر في النحو فهو عيال على الكسائي". • شيوخه: من أبرز شيوخه شيخ العربية الأول، وإمام النحاة واللغويين؛ الخليل بن أحمد الفراهيدي رحمه الله. وأختم بهذه القصة التي تدل على علوِّ الهمة عند الإمام الكسائي: حكَوا عنه أنه في أول طلبه لعلم النحو أنه كان يجد صعوبة بالغة في تحصيله، حتى بدأ يداخله اليأس، وذات يوم رأى نملة تصعد حائطًا ثم تتعثر فتسقط، ثم تعاود المحاولة مرة بعد مرة حتى نجحت في تخطي الحائط، وقد علَّمت هذه النملة الكسائيَّ الدرسَ جيدًا، ومن ساعتها صار الكسائي ملءَ السمع والبصر، إمامًا كبيرًا من أئمة العربية لا يُشَقُّ له غبار. رحم الله الإمام الكسائي، وجمعنا به على خير.
العولمة والتدريب إنه في سبيل تنمية الموارد البشرية في ظلِّ العولمة، تبيَّن أن التعليمَ والتدريب المهني هما المقوِّمان الرئيسيان في تنمية الموارد البشرية، وأن هناك رضًا يصل إلى 77% على وفرة التعليم دون الجامعي، ثم يبدأ مستوى الرضا ينخفض ليصل إلى 62% في مجال التعليم الجامعي، ثم تتراجع النسبة فيما يتعلَّق بالتأهيل والتدريب للوظائف الفنية ليصل إلى 50% [1] ، وهي نسبة معقولةٌ في ضوء ضعف التركيز على التعليم الفني والتدريب المهني سابقًا ولسنوات عديدة، والاعتماد على العامل الوافد لسدِّ هذا العجز، هذا بالإضافة إلى روحِ التفاؤل التي يشجِّعها التوجه القوي نحو التدريب والتأهيل، من خلال الخطوات الآتية: 1- إنشاء المزيد من مراكز التدريب الحكومية والأهلية والخاصَّة بالمنشآت التجارية والصناعية، بما في ذلك المعاهد الفنية والكليات التطبيقية؛ من تقنية، وصحية، وزراعية، ومعلوماتية، وملاحقة مستجدات التدريب [2] . 2- زيادة الإقبال الملحوظ من الشباب على الالتحاق بهذه المراكز والمعاهد والكليات. 3- التعاون المشترك في مجالات التدريب والتأهيل بين المؤسسات التدريبية والغُرفِ التجارية الصناعية في منطقة الخليج العربية، من خلال وزارات العمل واتِّحاد الغرف التجارية والصناعية في المنطقة، ومن أبرز الأمثلة على ذلك: التنظيمُ الوطني للتدريب المشتركِ في المملكة العربية السعودية، الذي تتعاون فيه المؤسسة العامة للتعليم الفني والتدريب المهني، ومجلس الغرف التجارية الصناعية، وصندوق تنمية الموارد البشرية وصناديق أخرى، تسعى إلى مساعدة المواطن السعودي على الدخول الواثق في سوق العمل، من خلال التدريب والتأهيل وتنمية الحاضنات لتطوير المشروعات الصغيرة. وكذلك برنامج "سند" في سلطنة عمان، الذي يخطو خطواتٍ ثابتة نحو دخول العامل العماني المؤهَّل سوقَ العمل بثقة، هذا بالإضافة إلى برامج خليجية أخرى. 4- ربط التدريب بالتوظيف، بحيث يضمن المتدرِّب - إلى حدٍّ كبير - قَبول سوق العمل له عند الانتهاء من تدريبه، بل إن الأمرَ تعدَّى ذلك إلى التدريب على رأس العمل. 5- بَدء ظهور الاقتناع ومن ثَمَّ الإرادة لدى أصحاب الأعمال بالتوجه إلى العامل المواطن، بعد أن حقَّق تقدُّمًا في مجال التأهيل والتدريب والالتزام بأخلاقيات العمل، وبعد أن تقاربت كلفةُ العامل المواطن والعامل الوافد من حيث الأجورُ وتكلفة إجراءاتِ الاستقدام، وكذلك بعد أن توجَّهَ طالبو العمل إلى مفهوم التدريب قبل التوظيف، واكتساب مهارات مؤهِّلة للدخول في سوق العمل. روحُ التفاؤل هذه لا ينبغي أن تُغفِلَ النظر إلى أن "جهود التدريب المهني في البلدان العربية كبيرة، لكنَّها تمثِّل لوحةَ فُسيفساء متناثرة الأنواع، يغلِب عليها التشتُّتُ في الجهود بين مختلف الجهات؛ وذلك لعدم نجاح المجالس العليا للقوى العاملة والتدريب (في حال وجودها) على القيام بدور فعَّال في التنسيق، ثم لتنوُّع نُظُمِ التدريب مع تصدُّر المؤسسات الكبيرة للقيام بجهود فعَّالة للتدريب تتناسب مع حاجاتها؛ مثل: جهود الشركات النفطية (أرامكو في السعودية، وسونتراك في الجزائر)، أو الشركات الأخرى (سابك للألمنيوم في البحرين)"، كما يزعُمُ إبراهيم قويدر، مدير عام منظمة العمل العربية [3] . هذا في حدِّ ذاته تحدٍّ يُخرج مفهومَ التدريب الفني والتأهيل المهني إلى آفاقٍ أرحبَ وأوسع، من خلال الرغبة في الإبقاء على مواقع العمال في العمل، بالمزيد من الاتصال المستمرِّ والمنتظم مع المعرفة ومستجداتها، وتقنية المعلومات ومتطلَّباتها؛ للخروج من مفهوم الأمِّيَّة الحاسوبية أو الأمية الإلكترونية بصورة أعم، ومن الأمية الفنية بصورة أكثر عمومًا [4] . [1] انظر: إحسان أبو حليقة: الاقتصاد السعودي بعد جيل - مرجع سابق - ص 6. [2] انظر: أحمد سيد مصطفى، تحدِّيات العولمة والتخطيط الإستراتيجي: رؤية مدير القرن الحادي والعشرين - ط 4 - د. م، د. ن، 2003م - ص 168 - 170. [3] انظر: إبراهيم قويدر، تنمية الموارد البشرية العربية وسياسات خلق فرص العمل - مرجع سابق - ص 117. [4] انظر: بثينة حسنين عمارة، العولمة وتحديات العصر وانعكاساتها على المجتمع المصري، القاهرة: دار الأمين، 1420هـ / 2000م، ص 35.
إلى عظماء البشرية صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم يا صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، اسمحوا لي في الحديث عنكم، وكأنني أتحدث إليكم، وأجلس بين أيديكم، أخبروني بالله عليكم، أنا على يقين إن شئتم أن يصلني بإذن الله إلى ردِّكم. من أنتم لتفوزوا من دون كل البشرية، وتنالوا شرف صحبة خيرِ من وَطِئَ الثَّرى؟ من أنتم لتكتحل أعينكم وآذانكم وكل جوارحكم بالنظر، وطِيب السماع، والجلوس بين يديه، وهو ينثُر لكم أرقى وأطيب، وأحلى وألذ، وأروع وأمتع كلمات الرحمة والحرص، والرأفة والتزكية، والرشد والهداية، وحسن الأخلاق؟ هنيئًا لكم ودُّ حديثه، ولطافةُ معاشرته، وجميل تبسُّمه وضحِكه. لماذا اختاركم الله واصطفاكم لصحبة نبيه وحبيبه، وخِيَرةِ خَلْقِهِ وخاتم رسله؟ كلما طالعت سيرتكم استذكرت بعضًا من معاشرتكم، وتسابقكم في ميادين الخيرات والتضحيات، والجهاد والأخلاق، والعبادات والتزكيات والعقائد، وازداد إعجابي بكم، وحبي لكم، وينشرح صدري حين أستحضر قدراتكم في التأثر والتأثير، والتعايش مع كلمات الله القرآنية، وهو يتنزل غضًّا طريًّا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنتم معه وحوله، وبين يديه، لا تفارقونه حتى يفارقكم لبعض شؤونه، أو يكون في حجراته مع زوجاته، حينها فقط أتحسَّرُ كيف لم يختارني الله لأكون معكم؟ لكنني - وحسن ظني بربي الذي استودعت حبه وعظمته في قلبي وبين جوانحي - أتأمَّلُ في توفيقه لي ليأخذني في مدارج الصالحين، لأستحق بفضله وكرمه، وعظيم رحمته، شفاعةَ حبيبي وسيدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، في نَيلِ شرف رؤيته ورؤيتكم، والجلوس بين أيديكم، فهو سبحانه نعم المولى ونعم النصير. هنيئًا لكم قول الله فيكم: ﴿ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا ﴾ [الفتح: 29]. وهنيئًا لكم قول الله فيكم: ﴿ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا * لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ ﴾ [الأحزاب: 23، 24]. وهنيئًا لكم قول الله فيكم: ﴿ رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ * لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ ﴾ [النور: 37، 38]. كيف استشعرتم خطاب الله لكم وهو يقول لكم: ﴿ هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ [الحديد: 9]؟ كيف استقر الإيمان في قلب مَن وقف ينصر الله ورسوله، ويوالي الحق وأهله، وقد ألجأهُ والده أو ولده، أو إخوانه أو عشيرته، أو كلهم جميعًا في قتالهم، فيقتلونه أو يقتلهم؟ كيف لمثل هؤلاء أن تهدأ نفوسهم، ويشرح الله صدورهم، وهم يقرؤون ما سطَّره القرآن يُتلى إلى قيام الساعة ثباتَهم على الحق، وقوة ولائهم لله ولرسوله وللمؤمنين، فيكونوا نجومًا يُحتذى بهم في قول الله تعالى: ﴿ لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [المجادلة: 22]؟ هنيئًا لكم وأنتم تقرؤون قول الله فيكم: ﴿ لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ * وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [الحشر: 8، 9]، وبعد الثناء عليكم يرشد ويوجِّه من يأتي بعدكم بالدعاء لكم، والاعتراف بفضلكم: ﴿ وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ [الحشر: 10]. هنيئًا لكم والقرآن يتنزل عليكم منجَّمًا مفرَّقًا لِتَعِيَه قلوبكم، وتُشرق نفوسكم، وتفقهه عقولكم، وتعيشوه مُيسَّرَ الحفظ، مليء المعاني، غزير التوجيه، عميق الأفكار، أعانكم الله على تبليغه والعمل به، ولو نزل عليكم جملة "دفعة" واحدة، لَما استطعتم؛ فقال الله لكم: ﴿ لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ [الحشر: 21]، وقال الله لنبيِّه حين قال الكفار: ﴿ لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا ﴾ [الفرقان: 32]، وقال الله لنبيه: ﴿ وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا ﴾ [الإسراء: 106]. هنيئًا لكم يوم سطَّر القرآن حتى معاناتكم وشدة ما لاقيتم، وأنتم تخوضون غِمار الجهاد، وحياة الكفاح بجميع أنواعه وأحواله، ويخاطبكم مباشرة وصراحة: ﴿ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ ﴾ [البقرة: 214]. وهنيئًا لكم يوم يبيِّن لكم الصراع الذي نالكم بين مداخل نفوسكم، وذكَّركم بحقائقِ دوافعكم يوم معركة أُحُدٍ، يوم اجتهدتم فخالفتم وما قصدتم فيما ظهر لكم إرادتكم المخالفة؛ فقال لكم: ﴿ وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ * إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾ [آل عمران: 152، 153]، هكذا خاطبكم الحق العظيم بخطاب لا يطيقه إلا العظماء، وكنتم أنتم دون غيركم. وهنيئًا لكم وأنتم تسمعون وتقرؤون قول الله لنبيه في شأنكم: ﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ ﴾ [آل عمران: 159]. وهنيئًا لكم سورة الأنفال التي انفردت بتفاصيل الكثير من الحياة الجهادية التي عايشتموها، فيها من الآلام والانتصارات بقضيتكم التي نذرتم أنفسكم لها؛ وهي حماية العقيدة، وتبليغ الرسالة، وإعلاء كلمة الله، التي ابتدأت بالثناء على قوة إيمانكم، وحسن توكلكم على ربكم، لتنتهي بتحقيق أسمى وأرقى وثائق الإيمان؛ وهو حسن الولاء لله ولرسوله وللمؤمنين: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ... وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ﴾ [الأنفال: 72 - 74]. يا صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، كيف تلقيتم هذا الخطاب الذي امتدحكم فيه ربكم، وأعلى فيه قدركم، ونسَبَكم إلى أبي الأنبياء إبراهيم عليه السلام أبًا لكم، وهو من سمَّاكم وشرَّفكم بهذا الاسم؛ المسلمين؟ ﴿ وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ ﴾ [الحج: 78]، فهنيئًا لكم، والله هنيئًا لكم. سادتي وقدواتي، عظماء البشرية وخِيرَتَها، تزدحم ذاكرتي بمواقفكم الكثيرة، العديدة بشخوصها الشامخة العظيمة، عبر مراحل سيرتكم العَطِرة، وتاريخكم المشرق الوضَّاء، يستلهم منها قارئها أسمى معاني الرجولة والعظمة، حتى كأنهم يشاهدون ملائكة على هيئة بشر يجسِّدون معانيَ الإسلام الحنيف بتفرُّد فذٍّ عجيب، سأذكر بعضًا منها كشواهد للحياة البشرية الملائكية المثالية التي لا تتكرر إلى قيام الساعة. 1- عمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي استعرض عزَّة المسلم الذي عرف الحق فاتبعه، وأذعن له، ولم يمنعه مخافة إنكار سادة قريش عليه تركَ دينهم، ودين آبائهم، وأشهر إسلامه في ناديهم متحديًا لهم: "من أراد أن تَثْكَله أمُّه، وتُرْمِل امرأته، فَلْيَلْحَقْني وراء هذا الوادي"، وظل يقاتلهم وقد اجتمعوا عليه يضربونه، حتى غربت الشمس؛ كما يقول أهل السير. 2- عمرو بن الجموح الذي سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يبشرهم قبل التحام الجيشين في معركة بدر الفرقان، أن ليس بينهم وبين دخول الجنة إلا الشهادة في سبيل الله، وكان بيده تمرات يأكل منها؛ فقال رضي الله عنه: "بخٍ بخٍ ما بيني وبين الجنة إلا أن يقتلني هؤلاء؛ يعني المشركين، ثم نظر إلى التمرات فقال: لأن عشتُ حتى آكل هذه الثمرات، إنها لحياة طويلة"، ثم رماهنَّ وأقبل يقاتل حتى استشهد رضي الله عنه. 3- أبو يحيى صهيب الرومي، الذي أراد الخروج من مكة مهاجرًا إلى المدينة، فمنعه المشركون إلا أن يترك كل ماله، فتركه لهم، فاستقبله رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه الكلمات الخالدة: ((ربِح البيع أبا يحيى، ربح البيع أبا يحيى))، وأنزل القرآن فيه: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ ﴾ [البقرة: 207]. 4- كل من تعرَّض للتعذيب من العبيد والمستضعفين؛ لأنهم آمنوا بالله، وعرفوا التوحيد، وكان منهم مؤذِّن رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي اشتراه سيدنا أبو بكر رضي الله عنه، فقال الفاروق عمر رضي الله عنه: "أبو بكر سيدُنا، أعتق بلالًا سيدَنا"، حين أعتقه بعد أن اشتراه، رضي الله عنهم جميعًا. 5- استحقاق الكثير منهم شرف الألقاب والصفات كنياشين منحهم إياها رسول الله صلى الله عليه وسلم، لِما اشتهروا به من الأعمال والمواقف والمواهب، فكان منهم أمين هذه الأمة أبو عبيدة عامر بن الجراح، وأسد الله حمزة بن عبدالمطلب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسيف الله المسلول خالد بن الوليد، والصديق أبو بكر صاحب رسول الله الأول، وخليفته من بعده، ورفيق هجرته، والفاروق عمر بن الخطاب، وذو النورين عثمان بن عفان، ومنزلة علي بن أبي طالب كرم الله وجهه عند رسول الله كمنزلة هارون من موسى عليهما السلام، وكان قاضي الصحابة ومستشارهم، رضي الله عنهم جميعًا، وحواريُّ الرسول الزبير بن العوام، وشاعرهم حسان بن ثابت الذي كان يهجو قريشًا، ورسول الله يقول له: ((اهْجُهم وروح القدس معك))، وسفير الإسلام الأول مصعب بن عمير رضي الله عنه. وغسيل الملائكة حنظلة الذي خرج حين سمع النداء: يا خيل الله اركبي، وكان حديثَ عُرْسٍ وهو على جنابة. وتلك المرأة السوداء التي كانت مصابة بالصَّرع، ((فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم تقول له: يا رسول الله، إني أُصرع، فهل دعوت الله لي فلا أُصرع؟ فقال لها: إن شئتِ دعوت الله لكِ، أو تصبري ولكِ الجنة، فقالت: بل أصبر، ثم قالت: ادعُ الله لي ألَّا أتكشف إذا جاءني الصرع، فدعا لها فكان الصحب الكرام يقولون: هذه امرأة تمشي على الأرض وهي من أهل الجنة))، وذلك الأعرابي الذي شارك في أول معركة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد إسلامه، فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم ليأخذ سهمه من الغنائم فقال: ((يا رسول الله، والله ما على هذا اتبعتك، وإن ما أرجوه أن أُرمى بسهم ها هنا، فأدخل الجنة، وأشار بيده إلى موضع في حلقه؛ أي: رقبته، ووجده رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد المعركة، وهو صلى الله عليه وسلم يبحث في الشهداء، والسهم أصابه حيث أشار بيده؛ فقال لأصحابه: صدق الله فصدقه الله)). أي جيل أنتم من الطُّهر والنقاء، والإخلاص والصدق مع الله، ثم مع أنفسكم، ماذا أقول؟ وكيف أختتم حديثي العذب معكم عنكم؟ ليس إلا أن أتلو قول الله عنكم: ﴿ وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾ [التوبة: 100]. اللهم هؤلاء الذين اصطفيتهم لحبيبك، وزكَّيتهم في كتابك، ورضيت عنهم وأرضيتهم، اجمعنا بهم يا مولانا، ولا تحرمنا بعدَ لذةِ النظر إلى وجهك الكريم، أن نلقاهم ونشرب معهم من حوض حبيبك ونبيك، وأن تُظِلَّنا في ظل عرشك يوم لا ظل إلا ظلك، لا إله إلا أنت سبحانك، إني كنت من الظالمين، والحمد لله رب العالمين.
شرفُ العقلِ ومنزلةُ أولي الألبابِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ ﴾ [النساء: 43]. تأمل قَولَ اللَّهِ تَعَالَى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُون ﴾ [النساء: 43]، لتعلم أن من أعظم مقاصد الشرعِ حفظ العقل، فإن من لا عقل له لا يدري ما يقول ولا يدري ما يفعل. وأعظم مصيبة يصاب بها العبد بعد الدين ذهاب العقل، لذلك جعله الله تعالى مناط التكليف: ﴿ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَاب ﴾ [الرعد: 19]. وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ، عَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَكْبَرَ، وَعَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ، وَعَنِ الْمَجْنُونِ حَتَّى يُفِيقَ» [1] . فتأمل تلك النصوص التي تدلُّ على شرف العقل، ومنزلة أولي الألباب، وانظر إلى حال أولئك الذين يتعاطون ما يذهب عقولهم قصدًا، فيصير أحدهم مجنونًا أو المجنون، مع ما باء به من غضب الله تعالى عليه، نسأل الله العافية والسلامة. ومما يدلُّ على قبح الخمرِ أنَّ قَيْسَ بْنَ عَاصِمِ المِنْقَرِي شَرِبَ الْخَمْرَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَسَكِرَ فَعَبَثَ بِذِي مَحْرَمٍ مِنْهُ، فَهَرَبَتْ مِنْهُ، فَلَمَّا أَصْبَحَ قِيلَ لَهُ ذَلِكَ، فَقَالَ: رأيت الخمر جامحة وفيها خصال تُفسد الرجل الحليما ­­فلا والله أشربها صحيحًا ولا أشفي بها أبدا سقيما ­­­­­ولا أعطي بها ثمنًا حياتي ولا أدعو لها أبدًا نديما ­­­­­فإن الخمر تفضح شاربيها وتجشمهم بها الأمر العظيما ­­­­­ ومما يدل على قدر العقل أن الحجاج خطب في يوم جمعة فأطال الخطبة، فقام إليه رجل فقال: إن الوقت لا ينتظرك والرب لا يعذرك، فأمر به إلى الحبس، فأتاه آل الرجل فقالوا: إنه مجنون، فقال: إن أقر على نفسه بما ذكرتم خليت سبيله، فقال الرجل: لا والله لا أزعم أنه ابتلاني وقد عافاني [2] . [1] رواه أحمد- حديث رقم: 940، وأبو داود- كِتَاب الْحُدُودِ، بَابٌ فِي الْمَجْنُونِ يَسْرِقُ أَوْ يُصِيبُ حَدًّا، حديث رقم: 4398، والترمذي- ‌‌أَبْوَابُ الْحُدُودِ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،‌‌ بَابُ مَا جَاءَ فِيمَنْ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ، حديث رقم: 1423، والحاكم- ‌‌كِتَابُ الْحُدُودِ، حديث رقم: 8170، بسند صحيح، عنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ [2] وفيات الأعيان (2/ 40).
غزوة بني المصطلق وأحداثها كانت في شعبان سنة ست للهجرة، فقد وصلت الأخبار للنبي صلى الله عليه وسلم أن بني المصطلق تجمعوا بقيادة الحارث بن أبي ضرار، فلما سمع بهم خرج بجيشه ليقاتلهم، فلقيهم على ماء المريسيع عند قديد، فاقتتلوا، فانهزم بنو المصطلق تاركين وراءهم عددًا من القتلى والمصابين، وغنم المسلمون أموالًا وسبايا كثيرة، فقسمها بين أصحابه وفيهم جويرية بنت الحارث، فوقعت في سهم - من نصيب - ثابت بن قيس، فكاتبته على مبلغ من المال، فأتت النبي صلى الله عليه وسلم تستعين به على سداد مكاتبتها، فقال لها: ((هل لكِ في خير من ذلك؟)) قالت: وما هو؟ قال: ((أقضي مكاتبتك وأتزوجك))، قالت: نعم يا رسول الله، ففعل، وسمع الناس الخبر فقالوا: أصهار رسول الله، فأعتقوا أكثر من مائة بيت من أهل بني المصطلق، فما كانت امرأة أعظم بركة على قومها منها. • قُتل من المسلمين هشام بن صبابة، قتله خطأ رجل من الأنصار من الخزرج وهو يظنه من العدو. • حدث خلاف على الماء والناس يستقون بين جهجاه خادم عمر بن الخطاب وهو من غفار، وبين سنان الجهني حليف الخزرج، فصرخ الجهني: يا معشر الأنصار، وصرخ جهجاه: يا معشر المهاجرين، فغضب عبدالله بن أبيٍّ ابنُ سلول، وعنده رهط من قومه فيهم زيد بن أرقم - غلام حديث السن - فقال: أقد فعلوها! كاثرونا في بلادنا! أما والله ﴿ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ ﴾ [المنافقون: 8]، ثم قال لمن حضره من قومه: هذا ما فعلتم بأنفسكم، أحللتموهم ببلادكم، وقاسمتموهم أموالكم، والله لو أمسكتم عنهم ما بأيديكم لتحولوا إلى غير بلادكم، ونقلها زيد إلى النبي صلى الله عليه وسلم وعنده عمر بن الخطاب، فقال عمر: يا رسول الله، مُرْ عباد بن بشر فليقتله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((كيف إذا تحدَّث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه؟!))، ولكن أذِّنْ بالرحيل، فارتحل الناس في ساعة لم يكن يرتحل فيها، فقال أسيد بن حضير: يا رسول الله، رحت في ساعة لم تكن تروح فيها، فقال: ((أوما بلغك ما قال عبدالله بن أبي؟))، قال: وماذا قال؟ قال: ((زعم إن رجع إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل))، قال أسيد: فأنت والله تخرجه إن شئت؛ فإنك العزيز وهو الذليل، ثم قال: يا رسول الله، ارفق به؛ فوالله لقد منَّ الله بك وإن قومه لينظمون له الخرز ليتوجوه، فإنه يرى أنك قد استلبته ملكًا، وأتى ابن سلولَ إلى النبي صلى الله عليه وسلم وحلف: إنني ما قلت هذا ولا تكلمت به، فقال الجالسون: لعل الغلام أخطأ في النقل ولاموه، فأنزل الله: ﴿ إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ * اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ * وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ * سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ * هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ * يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [المنافقون: 1 - 8]، فلما نزلت بعث رسول الله إلى زيد بن أرقم فقال: ((إن الله قد أنزل عذرَك وصدقك))، وفي رواية أنه لما حلف ابن سلول أنه ما قال الذي نقل عنه، كذَّب الناس زيد بن أرقم، فنام مهتمًّا، قال: فبينما أنا أسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر وقد خفقت برأسي من الهم إذ أتاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرك أذني وضحك في وجهي، فما كان يسرني أن لي الخلد بها في الدنيا، فلحقني أبو بكر وقال: ما قال لك رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قلت: ما قال شيئًا إلا أنه عرك أذني وضحك في وجهي، فقال: أبشِرْ، وكذلك فعل عمر، وجاء ولده عبدُالله بنُ عبدِالله بنِ أبيٍّ - وهو مسلم نقي تقي - بأبيه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول له: والله لا تنفلت حتى تقر أنك الذليل ورسول الله العزيز، ففعل، وروي أنه قال: يا رسول الله، إنه بلغني أنك تريد أن تقتل أبي، فوالذي بعثك بالحق ما تأملت وجهه قط هيبة له، ولئن شئت آتيك برأسه لأتيتك، فإني أكره أن أرى قاتل أبي يمشي في الناس؛ فأقتله، فأقتل مؤمنًا بكافر، فأدخل النار، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((بل نترفَّق به، ونحسن صحبته ما بقي معنا))، فكان بعد ذلك إذا أحدث أمرًا عاتبه قومه وعنفوه وتوعدوه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر: ((كيف ترى ذلك يا عمر؟ أما والله لو قتلته يوم أمرتني بقتله لأرعدت له أنف لو أمرتها اليوم بقتله لقتلته))، فقال عمر: أمر رسول الله أعظم بركةً مِن أمري. • حضر مقيس بن صبابة إلى المدينة على أنه مسلم وطالب بدية أخيه هشام الذي قتل خطأ، فأعطاه النبي صلى الله عليه وسلم ديَة أخيه، ثم أقام فترة في المدينة فعدا على قاتل أخيه فقتله، ثم هرب إلى مكة مرتدًّا. • وفي غزوة بني المصطلق كان حديث الإفك، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم لما رجع من غزوة بني المصطلق ونادوا بالرحيل، وكانت عائشة في صحبته، خرجت ليلًا لقضاء حاجتها، ثم عادت وتجهزت للرحيل وقبل أن تركب الهودج فقدت عِقدها في المكان الذي كانت فيه، فأسرعت إلى ذلك المكان تبحث عنه، فلما وجدته عادت فإذا بالناس قد رحلوا، وظن الموكل بالهودج أنها داخله، وقاد مع الناس، فلما حصل ما حصل مكثت في مكانها وتلفعت بمرطها تنتظر أن يطلبوها عندما يفتقدونها، وكان صفوان بن المعطل مكلفًا بمسح المكان وتفقده، فرآها، فقدم بعيره بعد أن استرجع وقال: اركبي، فركبت، فساق بها إلى أن أدرك الجيش، ولما رآه المنافقون أشاعوا الفاحشة، وأوَّلوا هذا التأخير إلى الوقوع بها وبصفوان، وتصاعد الكلام حتى وصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى أبي بكر، وحدث أن توعكت عائشة وألم بها المرض وارتفعت درجة حرارتها، وشعرت بجفوة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكانت أمها تمرِّضها، وإذا دخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل أمها: ((كيف تيكم؟))، لا يزيد على ذلك، فلما رأت هذه الجفوة - وهي لا تزال لم تسمع بما رماها به المنافقون ومَن ضعف إيمانه وشك في بيت النبوة - طلبت من الرسول صلى الله عليه وسلم أن تمرض في بيت أمها، فأذن لها، وما نقهت من مرضها إلا بعد أكثر من عشرين ليلة، ثم تسرب لها الخبر، عن طريق أم مسطح، فقد خرجت معها ليلًا لقضاء حاجتها، فعثرت أم مسطح بمرطها، فقالت: تعس مسطح، فقالت عائشة: لعمر الله بئس ما قلت لرجل من المهاجرين شهد بدرًا، قالت: أوما بلغك الخبر؟ قلت: وما الخبر؟ فأخبرتها بما يدور في المدينة، فعادت إلى منزلها وهي تبكي، وقالت لأمها: تحدث الناس بما تحدثوا ولا تذكرين لي من ذلك شيئًا؟ فهدَّأت أمها مما أصابها وقالت لها: أي بنية، خفضي عليك، فوالله قل ما كانت امرأة حسناء عند رجل يحبها لها ضرائر إلا كثرن وكثر الناس عليها، ولما مضت هذه المدة والناس في أخذ ورد، كلما خفت الكلام حركه المنافقون، فخطب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: ((أيها الناس، ما بال رجال يؤذونني في أهلي ويقولون عليهن غير الحق، ويقولون ذلك لرجل والله ما علمت عليه إلا خيرًا، وما دخل بيتًا من بيوتي إلا معي؟!)) - يقصد به صفوان بن المعطل - وكان الذي يحرك الفتنة ابن سلولَ مع مسطح وحمنة بنت جحش أخت زينب من باب كيد الضرائر وهي تنتصر لأختها دون رضا زينب بهذا، وتحرك المخلصون من الصحابة، فقال أسيد بن الحضير: يا رسول الله، إن كانوا من الأوس نكفيكهم، وإن يكونوا من إخواننا الخزرج فمرنا بأمرك، فقال سعد بن عبادة: والله ما قلت هذه المقالة إلا وقد عرفت أنهم من الخزرج، ولو كانوا من قومك ما قلت هذا، وكاد الشر يقع، ثم دعا النبي صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب وأسامة بن زيد فاستشارهما، فأما أسامة فقال خيرًا، وأما علي فقال: النساء كثير وسل الخادم تصدقك، فدعا بريرة فقال: اصدقيني القول، فقالت: خيرًا، وما أعيب عليها إلا أنها كانت تنام من عجينها فيأتي الداجن فيأكله، فهي على هذا غاية في الطيبة والعفاف، ثم دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على عائشة، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: ((يا عائشة، إنه قد كان ما بلغك من قول الناس، فإن كنت قارفت سوءًا فتوبي إلى الله))، فقالت لأبويها: ألا تجيبانه؟ فقالا: والله ما ندري بماذا نجيب! فاستعبرت، ثم قالت: والله لا أتوب إلى الله مما ذكرت أبدًا، والله لئن أقررت - والله يعلم أني بريئة - لتصدقُني، ولئن أنكرت لا تصدقني، ولكني أقول كما قال أبو يوسف - نسيت اسمه وهو يعقوب: ﴿ فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ ﴾ [يوسف: 18]، ولهذا الموقف الرهيب الذي خيم على بيت النبوة وعلى بيت أبي بكر، وإنه والله لساعة شديدة، ولمصيبة وقعها على النفس أليم - كان لا بد من تدخل الوحي ليزيل هذه الغمة بالنبأ اليقين، فما برح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكانه حتى أتاه الوحي، وإن أبا بكر لفي فرق كبير خشية أن يصدق كلام الناس، فلما سُرِّي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنه ليتحدر عنه مثل الجمان، فجعل يمسح العرق عن جبينه ويقول: ((أبشري يا عائشة؛ فقد أنزل الله براءتك))، فقلت: بحمد الله، ثم خرج إلى الناس فخطبهم وذكر لهم ما أنزل الله فيَّ من القُرْآن، ثم أمر بمسطح بن أثاثة وحسان بن ثابت وحمنة بنت جحش، وكانوا ممن أفصح بالفاحشة، فضربوا حدهم، وأنزل الله في ذلك: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ * لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ * لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ * وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ * إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ * وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ * يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [النور: 11 - 17]، وبهذه الآيات الكريمة برَّأ الله بيت النبوة مما أراد المنافقون أن يرموه به، وخرج المسلمون وهم أكثر قوة وإيمانًا. وصايا مستخلصة من هذه الآيات إن أهمية الوصايا تكمن في أهمية سبب النزول، إن هذا الحدث الذي اهتزت له المدينة والذي يتعلق مباشرة ببيت النبوة قد وجه الأنظار إلى أمر خطير إذا استشرى في المجتمع دمره وشل قواه، وبانتشاره يصبح المسلمون غرضًا سهلًا لأعدائهم، وكما ركز الدين الإسلامي على طُهر المجتمع وعفافه، وأن اختراقه من هذا الجانب مذلٌّ ومهين ومخالف لتعاليم الدين القويمة، فإن حمايته أيضًا تستوجب إحاطته بسياج قوي؛ كيلا يخترق، فإذا ما تآمر قوم على تشويه سمعة أحد المسلمين أو إحدى المسلمات وأشاعوا ما أرادوا من تهم، ثم ترك هذا الأمر بلا ضوابط، فإن البناء الإسلامي سينهار؛ ولذلك كانت الحماية على قدر عظم النتيجة، فجاءت هذه الآيات لتوقظ عقول المسلمين ولتضع حدًّا لمثل هذه التُّهم. • سمى الله هذه الحادثة بالإفك، وهو قمة الكذب والفرية مع الظلم، وأسوأ أنواع الكذب الذي ينتج عنه تدمير المجتمعات. • ذكر الذين أشاعوه بأنهم عصبة تكتلوا من أجل الكيد للمسلمين وهم المنافقون، ومع ذلك فلا تحسبوا أيها المسلمون أن في إشاعته قد انتصر الشر، وإنما في ذلك خير؛ من أجل أن تعرفوا مكائد الأعداء، ولكي تتنبهوا لها، كما أن هذه التهمة قد نزل بها تشريع يعرفكم كيفية التعامل مع مثل هذه التهم ضمن ضوابط ربانية. • توعد أصحاب الإفك بالعذاب، كل على حسَب خوضه فيها، ورأس الفتنة الذي تولى إشاعتها سيناله قسط من العذاب الأليم. • تنبيه المسلمين إلى كيفية التعامل مع هذه الإشاعات والتهم، وعدم الانسياق وراءها كأنها حقيقية، وعليكم أيها المسلمون دائمًا أن تظنوا بأنفسكم وبإخوانكم جميعًا الخير، وهو المقدم؛ لأن جانب الخير عند المسلم هو الأصل، والانحراف هو النادر، ولا ينبغي تقديم النادر على الأغلب الأعم، فإذا ما ظهر في المجتمع مثل هذه التهم لأي مسلم - والمسلمون جسد واحد - عليهم أن يقولوا: هذه فِرية وتهمة، فلا يخوضوا فيها، وكما يقال اليوم: المتهم بريء حتى تثبت إدانته. • ثم أتت القواعد التي تدين المتهم أو تبرئه، وأن مثل هذه الأمور الخطيرة - التي لها أثرها الخطير على سلامة المجتمع الإسلامي - لا تثبت إلا بأربعة شهود يشهدون على أنهم رأوا وقوع الزنا بين فلان وفلانة رؤية واضحة لا لبس فيها، فالتهمة بلا شهود تعد باطلة، وأصحابها كاذبون مفترون مؤاخَذون على أقوالهم. • الأمر الذي تكلم به الناس عظيم خطره، وإن من رحمة الله وفضله على المسلمين أن رحمهم فلم ينزل بهذا الشأن غضبه وعذابه عليهم، وربما لأنها المرة الأولى التي يمرون فيها بهذه التجرِبة فلم تكن لديهم خبرة في التعامل معها كما ينبغي فأخطؤوا. • بيان انتقال الإشاعة من لسان إلى لسان دون التثبت من صدق المصدر ومعرفته، وهذا الأمر خطير؛ لأنه يسهل غرض المغرضين، فلو كانت مثل هذه التهمة مؤكدة لما كان ينبغي إذاعتها، فكيف بها وهي باطلة؟ فالأَوْلى عدم نقل مثل هذه الأخبار، فلو أن كل واحد من المجتمع قد تكتم عليها ودفنها عنده لما وصلت إلى غيره، فلا تكونوا سبب نقل ما ليس لكم به علم أو تأكد من صحته، فبهذا تشاركون في الإثم المترتب على هذه التهمة. • وكان عليكم أيها المسلمون عندما سمعتم بهذه الفرية التي تتهم زوج نبيكم ومثلكم الأعلى النقي الطاهر وقد عرفتموه بذلك، أن تقولوا: ﴿ سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ ﴾ [النور: 16]. • وبعد هذه التجرِبة العملية التي مررتم بها إياكم أن تعودوا لتصديق الإشاعات والتهم الكاذبة التي تقضي على وحدة المسلمين وتماسكهم، فهذا درس بليغ عليكم الاستفادة منه، والعاقل من تحنكه التجارِب. • وقد وردت في ثلاث آيات متتاليات عبارات: ﴿ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ [النور: 14] و﴿ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ ﴾ [النور: 15] و﴿ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ ﴾ [النور: 16]، فلهذا دلالته على الحدث، والأهمية التي وصلت إلى منتهاها في فرية الإفك، فكانت تستحق العقاب العظيم؛ لأن جُرمها عند الله عظيم، ولأنها بهتان عظيم. وبعد بيان تبرئة عائشة رضي الله عنها وبيان الموقف الذي كان يجب أن يكون عليه المسلمون، هدأ الخطاب قليلًا؛ لأنه أصبح يقعد لبناء خلق المسلم والتزامه بالأخوة الإسلامية، وأن المسلم يصون عرض إخوانه ويمنع أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا، بل يغضب أشد الغضب إذا رأى منكرًا أو فاحشة قد انتشرت في مجتمعه أو بين إخوانه المؤمنين: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ * وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ [النور: 19 - 21]، وكان أبو بكر يُنعم على مسطح ويساعده ماديًّا، ولما خاض في حديث الإفك أقسم أبو بكر أن يقطع عنه المساعدة؛ لأنه لا يستحقها، فنزل قوله تعالى: ﴿ وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [النور: 22]، فتراجع أبو بكر رضي الله عنه عن قراره، وقال: بلى أنا أحب أن يغفر الله لي، وأعاد إلى مسطح نفقته، ثم جاء التهديد القوي والقانون الرباني الذي سنَّه الله تعالى ليردع أولئك المفترين الذين يرمون المحصنات: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ [النور: 23]، وهناك لا يستطيعون الإنكار مهما أقسموا، كما فعل ابن سلولَ، ﴿ يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ ﴾ [النور: 24، 25]، ثم وضع الله مكانة الخبيثين والخبيثات وأنهم مناسبون بعضهم لبعض لصفات الخسة والوضاعة، ورفع الله تعالى مكانة المؤمنين والمؤمنات بأن بعضهم لبعض لصفات السمو الروحي والطهر والعفاف: ﴿ الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ﴾ [النور: 26].
موسى عليه السلام (13) أشرتُ في ختام الفصل السابق إلى أن الله تبارك وتعالى ذكر في مواضع من كتابه الكريم قصة مواعدته موسى عليه السلام لإعطائه التوراة واختيار سبعين رجلًا من بني إسرائيل ليذهبوا مع موسى عليه السلام، وما حدث لموسى وللذين معه من الصَّعق، وما كان من عبادة قومه للعجل من بعد ذهابه لتلقِّي التوراة، ورجوعه إلى قومه غضبان أسفًا، وما كان بين موسى وهارون في ذلك، وعقوبة السامري، وتحريق العجل ونسفه في اليم، ففي سورة البقرة يقول الله عز وجل: ﴿ وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ * ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ * ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ [البقرة: 51 - 56]. ويقول في نفس السورة: ﴿ وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ * وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [البقرة: 92، 93]. ويقول تبارك وتعالى في سورة الأعراف: ﴿ وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ * وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ * قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ * وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ * سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ * وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ * وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ * وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ * وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ * وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ * وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ ﴾ [الأعراف: 142 - 155]. ويقول تعالى في سورة طه: ﴿ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى * كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى * وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى * وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى * قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى * قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ * فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي * قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ * فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ * أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا * وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي * قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى * قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا * أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي * قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي * قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ * قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي * قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا * إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا ﴾ [طه: 80 - 98]. ويقول عز وجل في سورة القصص: ﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ * وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ * وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ﴾ [القصص: 43 - 46]. هذا، وقد قصَّ الله تبارك وتعالى كثيرًا مما لَقِيَه موسى عليه السلام من بني إسرائيل من الأذى والتنطُّع والتشدُّد؛ كعدم رضاهم بالمَنِّ والسَلْوى، وطلبهم بدلها بُقولًا وثومًا وقثاءً، وعدسًا وبصلًا، وكقولهم لما رأوا موسى عليه السلام حييًّا ستِّيرًا لا يُرى من جلده شيء استحياءً، فآذاه من آذاه منهم بقولهم فيه: ما يستتر هذا التستر إلا مِنْ عيبٍ بجِلْدِه، إما برص وإما أدرة وإما آفة، ﴿ فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا ﴾ [الأحزاب: 69]. وإلى الفصل القادم إن شاء الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أم المؤمنين: ميمونة بنت الحارث الهلالية الحمد لله الذي جعل في السماء بروجًا، وجعل فيها سراجًا وقمرًا منيرًا، وهو الذي جعل الليل والنهار خلفةً لمن أراد أن يذَّكَّر أو أراد شكورًا، والصلاة والسلام على نبينا محمد، الذي أرسله ربه هاديًا ومبشرًا ونذيرًا، وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا؛ أما بعد: فإن ميمونة بنت الحارث هي إحدى أمهات المؤمنين؛ الذين قال الله تعالى عنهم: ﴿ النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ ﴾ [الأحزاب: 6]، فأحببت أن أذكِّر نفسي وإخواني الكرام بشيء من سيرتها العطرة؛ فأقول وبالله تعالى التوفيق: الاسم والنسب: هي ميمونة بنت الحارث الهلالية. أمها: هند بنت عوف بن زهير بن الحارث. وميمونة بنت الحارث هي أخت أم الفضل زوجة العباس، وخالة خالد بن الوليد، وخالة ابن عباس؛ [الطبقات لابن سعد، ج: 8، ص: 104، سير أعلام النبلاء ج: 2، ص: 38]. قال مجاهد بن جبر: "كان اسم ميمونة بَرَّةً، فسمَّاها رسول الله صلى الله عليه وسلم ميمونة؛ [الطبقات الكبرى لابن سعد، ج: 8، ص: 108]. زواج النبي صلى الله عليه وسلم بميمونة: تزوج مسعود بن عمرو الثقفي ميمونةَ في الجاهلية ثم فارقها، فتزوجها أبو رهم بن عبدالعُزَّى، فتُوفِّيَ عنها، فتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة سبع من الهجرة، على مهر خمسمائة درهم، ووليُّ نكاحه إياها العباس بن عبدالمطلب، وكانت آخر امرأة تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ [الطبقات الكبرى لابن سعد، ج: 8، ص: 104]. أحاديث أم المؤمنين ميمونة: روت ميمونة بنت الحارث سبعة أحاديث في (الصحيحين)، وانفرد البخاري بحديث، ومسلم بخمسة، وجميع ما روت: ثلاثة عشر حديثًا. حدَّث عنها: ابن عباس، وابن أختها الآخر عبدالله بن شداد بن الهادي، وعبيد بن السباق، وعبدالرحمن بن السائب الهلالي، وابن أختها الرابع يزيد بن الأصم، وكريب مولى ابن عباس، ومولاها سليمان بن يسار، وأخوه: عطاء بن يسار، وآخرون؛ [سير أعلام النبلاء للذهبي، ج: 2، ص: 239، 245]. مناقب أم المؤمنين ميمونة: (1) روى ابن سعد عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الأخوات مؤمنات: ميمونة وأم الفضل وأسماء))؛ وأم الفضل: زوجة العباس، وأسماء بنت عميس، وكانت أخت ميمونة لأمها؛ [حديث صحيح، الطبقات الكبرى لابن سعد، ج: 8، ص: 109]. (2) روى ابن سعد عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: "كانت ميمونة بنت الحارث من أتقانا لله وأوصلنا للرحم"؛ [حديث صحيح، الطبقات الكبرى لابن سعد، ج: 8، ص: 111]. وفاة ميمونة بنت الحارث: تُوفِّيَت ميمونة بنت الحارث رضي الله عنها، سنة إحدى وخمسين من الهجرة، وصلى عليها ابن عباس، ودخل قبرها هو، ويزيد بن الأصم، وعبدالله بن شداد بن الهادي، وهم بنو أخواتها، وعبيدالله الخولاني، وكان يتيمًا في حجرها؛ [الاستيعاب لابن عبدالبر، ج: 4، ص: 395]. رحم الله تعالى ميمونة بنت الحارث رحمةً واسعةً. أسأل الله تعالى بأسمائه الـحسنى وصفاته العلا أن يجعل هذا العمل خالصًا لوجهه الكريم، ويـجعله في ميزان حسناتي يوم القيامة؛ ﴿ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ﴾ [الشعراء: 88، 89]، كما أسأله سبحانه أن ينفع به طلاب العلم الكرام، وآخر دعوانا أن الـحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله، وأصحابه، والتابعين لـهم بإحسان إلى يوم الدين.
العولمة والتأهيل تبعًا للوقفة السابقة، من المهم التوكيد - في ضوء هذا التسابُق المحموم نحو تبنِّي معطيات العولمة - أن الاستثمارَ الحقيقي في منطقة الخليج العربية على الخصوص، وفي غيرها كذلك، يكمن في الاستثمار في القوى البشرية، من حيث التعليمُ والتدريب والتأهيل، والتنشئة على حبِّ العمل واحترام بيئته قبل ذلك كله، وأنه مهما أنفقت الدولُ على هذا الاستثمار فإنها - في النهاية - هي الرابحة، والعكس صحيح. يتطلَّب هذا التوكيد على هذا النوع من الاستثمار في خطط التنمية المرحلية التي لم تُغفِل ذلك ابتداءً، ولكن التوكيد على تطبيق ذلك وإبرازِه ضروري جدًّا في ضوء ما صدر من أدبيَّات تتحدث عن أُطروحات العولمة، وما خرجت به هذه الأطروحات من تصورات - وإن كانت عجلى - تُظهر أن هناك قدرًا من التغاضي عن الاستثمار في الموارد البشرية، ذلك التغاضي الذي يثير كثيرًا من التساؤلات حول مصير القوى البشرية إن لم تتدارك الدول الخليجية ذلك، وتُسارع في تكثيف استثماراتها في القوى البشرية المتنامية. على أي حال، التوجهُ الدولي يسير نحو تشجيع التوسع في تدريب الموظفين والعاملين؛ إذ تُبيِّن بعضُ الدراسات أن مجملَ ما يُنفق على التدريب في مجال تقنية المعلومات ( I،T. ) فقط يصل إلى تسعة عشر مليار (19,000,000,000) دولار، بزيادة سنوية تصل إلى 11% [1] . يؤكد خبراءُ التأهيل أن البطالة تتضاءل أمام التأهيل والخبرة؛ إذ "تواجه كثيرٌ من الشركات صعوبةً في إيجاد المشتغلين المؤهلين الذين يُعوَّل عليهم في مجالات اختصاصهم، ولا يوجد بين صفوف الفئات المؤهلة و(الغالية) من العاملين عاطلون عن العمل بصورة عامَّة" [2] . الإحصاءات المُرفَقة، في هذه الوقفات، دليلٌ على ذلك، مما يتيح مجالًا واسعًا لاستشراف المستقبل والتخطيط في ضوء معطيات هذه الإحصائيات، تلك من الأسباب التي تُطالب بها الدولُ منفردةً من خلال مؤسساتها المعنيَّة بتنمية الموارد البشرية بالتعليم والتدريب والتأهيل، وتطالب بها مجتمعةً من خلال القرارات التي تتبنَّاها منظماتها الإقليمية والدولية. إذا صحت توقُّعاتُ (سيار الجميل)، فإن العرب يمرُّون بامتحان يقوم على ضرورة توفير ثلاثين مليون (30,000,000) فرصة عمل بَدءًا من حلول عام 1426هـ/ 2005م، يتنافس عليها ما يزيد عن خمسين مليون (50,000,000) نسمة من القادمين العرب الجدد، من الشباب من الجنسين،(ذكر سيَّار الجميل الرقم هكذا "نصف بليون") [3] . هذا يتطلَّب أن يكونَ تعليمُ الفرد العربي وتدريبه وتأهيله بما يمكِّنه من التنافس في سوق العمل، التي لن تعترفَ بالجنسيات، والتي أضحت لا ترحِّبُ بغير المؤهَّلين الراغبين في العمل والباحثين عنه، وعندما تتوافر هذه العناصرُ الثلاثة (التأهيل والرغبة والبحث)، فإن البطالةَ في هذه المنطقة ستكون محدودة جدًّا، وسيعود الحالُ إلى ما كان عليه من قبل من تزايدِ الطلب على العامل المحلي، والاستعاضة به عن العامل الوافد، بحيث تعود العَلاقة بين العامل المحلي والعامل الوافد إلى علاقة تكاملية، بدلًا من كونها الآن عَلاقةً تنافسية، للوافد فيها - غالبًا - السبق [4] ، لا سيما أن دولَ منطقة الخليج العربية قد اتفقت على تناقلِ القُوى العاملة فيها، بحيث تُعدُّ القوى العاملة الخليجية داخلةً في مفهوم القوى العاملة الوطنية، وتُحسب ضمنها. [1] انظر: محمد مقدادي، العولمة: رقاب كثيرة وسيف واحد، ط 2، بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2002م، ص 256 - 258. [2] انظر: نورمان فان شربنبرغ، فرص العولمة: الأقوياء سيزدادون قوة/ تعريب حسين عمران - الرياض: مكتبة العبيكان، 1423هـ/ 2002م - ص 180. [3] انظر: سيَّار الجميل، العولمة والمستقبل - مرجع سابق - ص 119 - 120، ويظهر أنَّ هناك خطأً ما في هذه الأرقام، ولم يكتف المؤلِّف بالأرقام، بل كتبها: "نصف بليون نسمة من القادمين العرب الجدد في الجيل القادم، فماذا يتطلَّب ذلك كله؟" - ص 119 - 120. [4] انظر: أحمد هاشم اليوشع، عولمة الاقتصاد الخليجي: قراءة للتجربة البحرينية - مرجع سابق - ص 75.
فيض الكريم في صفة إخفاء الميم لعمرو عبد الله الحلواني صدر حديثًا كتاب " فيض الكريم في صفة إخفاء الميم "، تأليف: " عمرو عبد الله الحلواني "، نشر: " دار خير زاد للنشر والتوزيع ". وهذا الكتاب في علوم القراءات، وهي رسالة في حكم الميم الساكنة والنون الساكنة عند الباء، وكيفية اللفظ بالميم المخفاة عند الباء، أراد بها الكاتب تتبع الأدلة الواردة في هذه المسألة بقصد بلوغ الصواب فيها، ومن ثم بيانه لغيره ممن شغلته هذه المسألة، واختلفت عليه فيها الأقوال، لأنها مسألة كثر فيها الخلاف والجدال في هذه الأيام، ألَا وهي طريقة اللفظ بالميم المخفاة عند الباء، وسواء كانت الميم منقلبة عن نون في نَحو قولَه عز وجل: ﴿ أَنْ بُورِكَ ﴾ [النمل: 8] و ﴿ أَنْبِئْهُمْ ﴾ [البقرة: 33]، أو كانت الميم أصلية، نحو ﴿ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ ﴾ [آل عمران: 101] و ﴿ أَمْ بِظَاهِرٍ ﴾ [الرعد: 33] و ﴿ إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ ﴾ [العاديات: 11]. وقد بيَّن الكاتب أنه قد كتب كثير من الأفاضل في هذه المسألة، وأدلى كل بدلوه، فقد ذاع ذكر الخلاف فيها وانتشر بين العام والخاص، وكيف لا؟!، وهو متعلق بكيفية تلاوة كتاب الله، وهي مسألة يكثر ورودها جدًا في القرآن، فلا تكاد تخلو تلاوة قارئ من ورودها، فكان من الأهمية بمكان تحرير هذه المسألة، حيث بحث الكاتب في الأقوال الواردة فيها، ونظرَ في كل ما استطاع النظر فيه من كتب العربية والتجويد عند المتقدمين والمتأخرين فيما يتعلق بهذه المسألة، كذلك اطلع على الكثير من الرسائل المؤلفة فيها من الباحثين المعاصرين، وذلك بغرض تصحيح تلاوات للقرآن، وإرشاد طلبة العلم وغيرهم من عامة المسلمين إلى ما ظهر للكاتب مما يحسب أنه الحق في هذه المسألة، من بعد النظر في الأدلة الواردة فيها. ونجد أنه لا يخفي أنه قد انقسم الناس في هذه المسألة إلى فريقين عظيمين، فريق يأخذ بإطباق الشفتين على الميم الساكنة عند الباء إطباقًا كاملًا، فيطبقون الشفتين على الباء والميم جميعًا إطباقًا واحدا، فيظهر صوت الميم في اللفظ ويجرون معها الغنة من الخيشوم، وفريق آخر يقولون بترك فرجة بين الشفتين، فلا يظهر صوت الميم في اللفظ، ويجرون الغنة من الخيشوم ثم يطبقون الشفتين على الباء، والمذهب الأخير هو الذي قرأ الباحث به على عامة من قرأ عليهم من شيوخه، لم يأخذ على أحد بإطباق الشفتين على الميم والباء جميعًا. وبين الكاتب أنه كان يسعه كما يسع كل واحد من المسلمين أن يقف عند ما قرأ به واقتصر عليه لأنه هكذا أخذه عن شيوخه، وهكذا أخذ غيره عن شيوخهم من الفريقين، والقراءة سنة يأخذها الآخر عن الأول، لكن لما رأى جماعة من أئمة المسلمين الذين قد علا قدرهم عند العام والخاص، والذين لَا يشَُكُّ في علمهم وإتقانهم لَمَّا رآهم يقولون بخلاف ما تلقاه عن شيوخه، وبخلاف ما يأخذ به على تلامذته رأى أنه يتعين عليه بحث هذه المسألة وأن يعمل وُسعه في تحصيل ما ورد فيها من أقوال المتقدمين والمتأخرين، وإنما كثر فيها الخلاف لأن وجه الحق فيها لا بد أن يكون على صفة واحدة، ولا يمكن تعدده، فلا يمكن بحال تصويب الوجهين، ولأن أيا من الفريقين لا يقدر على نقل إجماع فيها عن المتقدمين أو المتأخرين، ولأن النصوص الواردة فيها عن أئمة العربية والتجويد عزيزة كما أن أكثرها ليس فيها التصريح بكيفية الإخفاء المذكور، بل ظاهر بعضها يحتمل تصويب أحد القولين وظاهر بعضها يحتمل تصويب القول المخالف له، ولما لم يكن أحد قادرًا على نقل الإجماع في المسألة وكان كل فريق يدعى أنه هكذا تلقاها عن شيوخه، وأن هذا هو معنى الإخفاء، كان لابد من الرجوع إلى نصوص الأئمة المتقدمين منهم والمتأخرين، ليتبين لنا كيف كان لفظهم بالإخفاء المذكور، وهذا الذي عزم عليه الكاتب رغم كثرة الخلاف الوارد فيها وتشتت الآراء. وجاء البحث في مقدمة وثلاثة مباحث وخاتمة وثبت بمصادر الدراسة والمراجع التي رجع إليها الكاتب، وجاءت مباحث الكتاب الثلاثة على النحو التالي: • حكم النون الساكنة والتنوين والميم الساكنة عند الباء. • شبهات والرد عليها في موضع إخفاء الميم. • تنبيهات متعلقة بإخفاء الميم. • خاتمة فيها خلاصة البحث. والمؤلف الشيخ: "عمرو بن عبد الله الحلواني"، المجاز بالقراءات العشر، له من المؤلفات: • "الدرة البهية في القراءة من الطرق العشر النافعية". • "شواهد التنقيح على مختصر قواعد التحرير". • "إيضاح الدلالات في ضابط ما يجوز من القراءات ويسوغ من الروايات". من إصدارات: دَارُ خَيْرِ زَادٍ لِلطَّبْعِ وَالنَّشْرِ وَالتَّوْزِيعِ – مِصْر.
علوُّ الهمة في سيرة الإمام النووي رحمه الله من أعظم ما يثير الهمم، ويرفع العزائم قراءةُ سير الصالحين، وتتبُّع أخبار المبدعين، فقراءة سيرهم تُذكي في النفس العملَ، وتشعل في القلب جذوة الإبداع، وتبين صعوبة البدايات، وتُشعِر بحلاوة النهايات؛ فقد كان الإمام أبو حنيفة رحمة الله تعالى يقول: "قراءة سير الصالحين أحب إليَّ من كثير من الفقه"، وصدق؛ فإن الاطلاع على سيرهم وقراءة حياتهم تبيِّن لنا كثيرًا من تجارِبهم، وعصارة أفكارهم، وواقع حياتهم؛ فنتعلم الاقتداء بهم، أو التشبه ببعض خِصالهم: فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم إن التشبُّهَ بالكِرام فلاحُ ومن هؤلاء المبدعين الذين شهِد لهم الجميع بحسن السيرة، وعلوِّ الهمة، وأجمع على علو منزلته الموافق والمخالف - الإمام النووي، الذي ترك للأمة تراثًا لا يندثر، وعلمًا لا ينمحي، على قصر حياته، وتقدم وفاته، فقد كانت حياته عامرة بالعلم والتعلم، مليئة بالعمل، فلا تراه إلا طالبًا للعلم، أو معلمًا، أو عابدًا في محراب، أو آمرًا بمعروف، أو ناهيًا عن منكر؛ حتى صدق عليه قول الله تعالى: ﴿ قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الأنعام: 162]. ومن خلال ما سيأتي من مقتطفات من سيرته، سترى كيف كانت حياته أعجوبة من الأعاجيب، وكيف عاش عمره مع الله تعالى لا يحيد عنه أو يميل عن طريقه. كان الأطفال يلعبون وهو منكبٌّ على الدرس: كان الإمام النووي رحمه الله نجيبًا، بدت عليه علامات النبوغ والذكاء منذ صغره، فكان لا يشغله عن التعلم ما يشغل الصبيان في سِنِّهِ، فلم يكن يلعب معهم، أو يلهو بمثل لهوِهم، بل كان يراهم يلعبون فينكب على القراءة وحفظ القرآن، وكانوا يَرَونه فيجبرونه على اللعب معهم وهو يبكي؛ إذ لا يريد أن يلعب معهم وهو على هذا الحال في قريته، حتى جاء اليوم الذي مر بقريته الشيخ ياسين بن يوسف المراكشي، فرأى الصبيان يُكْرِهونه على اللعب، وهو يهرب منهم ويبكي لإكراههم، ويقرأ القرآن، فذهب إلى والده ونصحه أن يفرِّغه لطلب العلم، فاستجاب له، وكان أبوه صالحًا عفيفًا، محبًّا للعلم، فاستجاب لنصيحة ذلك الشيخ، وفي سنة 649هـ قدِم مع أبيه إلى دمشق؛ لاستكمال تحصيله العلمي في مدرسة دار الحديث، وسكن المدرسة الرَّواحية، وهي ملاصقة للمسجد الأموي، ثم ذهب للحج مع أبيه، فلما عاد إلى دمشق، فرَّغ نفسه، وانكب على علمائها ينهل منهم العلم والأدب. لم ينم على الأرض سنتين: كان الإمام النووي شغوفًا بطلب العلم، منكبًّا على التحصيل، يقضي يومه مع العلماء، يسمع منهم، ويأخذ العلم من ألسنتهم، فإذا جاء الليل انكبَّ على كتُبه ينظر فيها ماذا تعلم في يومه، فلا يكاد يجد الوقت للراحة أو النوم، وقد حدَّث عن نفسه رحمه الله تعالى بقوله: "وبقيت سنتين لم أضع جنبي على الأرض". سنتين لم يذُق طعم النوم، بل كان ينكب على الكتب، فإذا غالبه النوم، نام وهو جالس على كتبه، ثم لا يلبث أن يستيقظ ويستمر في طلب العلم. وقد حكى عنه البدر بن جماعة أنه سأله رحمه الله تعالى عن نومه؛ فقال الإمام النووي رحمه الله تعالى: "إذا غلبني النوم، استندت إلى ال كتب لحظة وأنتبه". فانظر إلى عظيم همته، وانكبابه على طلب العلم، فكيف يكون من هذا حاله، وهذا صبره وجَلَدُه في أخذ العلم؟ إن سيرة الإمام النووي أعجوبة لمن أراد أن يطلب العلم، فليس طلب العلم يأتي بالتقلب على الفُرُش الوثيرة، ولا راحة الجسم، وإنما بسهر الليالي، ومطالعة الكتب الغوالي، والأخذ من العلماء الأكابر. وقال تلميذه البدر: "وكنت إذا أتيته أزوره يضع بعض الكتب على بعض؛ ليوسع لي مكانًا أجلس فيه". لم يأكل من فواكه دمشق: وقد جمع الإمام النووي إلى عظيم همته في طلب العلم، الورعَ والزهد في الدنيا، فلا يأبه لها، أو يلتفت إليها، فلا يهمه ماذا يأكل أو ماذا يشرب. ومما يُذكَر في ذلك أنه عاش في دمشق التي عُرفت بطيب فاكهتها، ولذيذ أكلها، فلا يكاد يسير فيها الراجل إلا والبساتين عن يمينه وشماله، وفيها ما لذ وطاب من أصناف الفواكه، ومع ذلك فقد كان الإمام النووي لا يطعم تلك الفواكه ولا يتلذذ بها، وقد سُئل عن ذلك رحمه الله تعالى فقال: "إن دمشق كثيرة الأوقاف"، فلا يطمئن أن يكون ما يأكله من هذه الأوقاف التي لا تحل له أن يأكل منها، فانظر إلى وَرَعِهِ وزهده بما يراه الناس من المسلَّمات في هذه الأرض التي تنبت أصنافًا من الفواكه، وتنتشر البساتين في أرجائها. له في اليوم اثنا عشر مجلسًا للتعليم: كانت سيرة الإمام النووي مليئة بطلب العلم، فلا تمر ساعة إلا وهو مشغول في طلب العلم؛ حيث أخذ منه كل وقته، واستولى على كل حياته، فلم يكن يلعب كما يلعب الصبيان، بل كان منكبًّا في نهاره في حضور حلقات العلم، وفي الليل في مدارسة ذلك العلم الذي كتبه في نهاره، فكان يومه في أوله مشغولًا بطلب العلم، وفي وسطه في تدريس ذلك العلم الذي تعلمه، وفي نهايته في التأليف والتصنيف. ولهذا لم يجتمع لعالم مثل تصنيفاته وكتبه التي سارت بها الركبان، وتلقَّاها العلماء بالقبول، وانكبَّ عليها طلبة العلم، بين ناشرٍ لها وشارح لمادتها، وهذا شأن العلم؛ لا يمكن أن تحصل عليه إلا عندما تعطيه كل ما تملك من وقت وجهد، فيُثْمِر ذلك الجهد؛ فالعلم لا يعطيك بعضه إلا إذا أعطيته كلَّك، ومن عجائب الإمام النووي رحمه الله في طلب العلم أنه كان عند الطلب يحضر في يومه اثني عشر درسًا، في شتى صنوف العلم، يُقبِل عليها بشغف لا نظير له، وجهد لا يُرى مثله، فكان له درسان في الوسيط في الفقه، ودرس ثالث في المهذب، ودرس في الجمع بين الصحيحين، ودرس في صحيح مسلم، ودرس في اللمع في النحو، ودرس في إصلاح المنطق لابن السكيت في اللغة، ودرس في التصريف، ودرس في أصول الفقه، ودرس في المنتخب للفخر الرازي، ودرس في أسماء الرجال، ودرس في أصول الدين في التوحيد؛ يعني: عددها اثنا عشر، وهذه الدروس قد يمكث الواحد منا اليوم السنواتِ في تعلم فنٍّ من هذه الفنون، فكيف به رحمه الله تعالى، وقد كان له في كل منها نصيب في يومه؟ فهذا يدل على موهبة فذة، وذكاء وقَّاد، وجهد كبير، لا يبلغه إلا أصحاب الهمم، وأهل العزائم والصبر؛ وكما قال الإمام الشافعي: ومن لم يذُقْ ذُلَّ التعلم ساعةً تجرَّع ذل الجهل طول حياتِهِ ومن فاته التعليم وقت شبابه فكبِّر عليه أربعًا لوفاتِهِ حياة الفتى والله بالعلم والتُّقى إذا لم يكونا لا اعتبار لذاتِهِ كان يقوم يصلي بآية: أما عبادته رحمه الله تعالى، فقد كان آية في العبادة، إمامًا في طاعته لله تعالى؛ فقد شهد له من عاصره من مشايخه وتلاميذه بحسن عبادته، وكثرة تعبده، وذكره لله، فلا تمر ساعة إلا وهو منشغل في عبادة من العبادات، أو ذكر من الأذكار؛ قال عنه تلميذه ابن العطار رحمه الله: "كان كثير التلاوة، كثير الذكر لله تعالى، وكان معرضًا عن الدنيا، مقبلًا على الآخرة"، وقال الرافعي: "كان كثير السهر في العبادة والتلاوة والتصنيف"، وقال ابن كثير في (البداية والنهاية): "كان يصوم الدهر". فانظر إلى ثناء الناس عليه، وفي تنوع عبادته وتقلبه في الطاعة بين صلاة وصيام وذكر، وتعلم وتعليم، وفي نظري أن هذا ما جعل له القبول عند الله تعالى؛ فالنوافل والعبادة مما يحبها الله تعالى ويرضى عن صاحبها؛ يقول الله تعالى في الحديث القدسي: ((ما تقرَّب إليَّ عبدي بشيء أحبَّ إليَّ مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه...)).
العولمة والثروة البشرية ينبغي التوكيدُ أن الثروةَ الحقيقية الدائمة هي الثروةُ البشرية العاملة بكفاية، "ولقد أثبتت التجارِب الدولية أن الثرواتِ الحقيقية للشعوب لا تتأتَّى من مجرد توافر الموارد الطبيعية أو من وفرة الجوانب المادِّية، أو في شراء التكنولوجيا الجاهزة فقط، وإنما من خلال تدريبِ الأفراد، وحسن تنظيم العملية التدريبية في المجتمع، والارتقاء بالمفاهيم حول العمل وسلوكه والانضباط فيه" [1] . إن مِن أبرز الجوانب التي تقتضي جُهدًا مضاعفًا في تحسين بيئة العمل جانب ترسيخ أخلاقياتِ العمل وسلوكياته. بعض قوانين العمل تتطرَّق إلى تنظيم سلوكيات العمل، إلا أن هذا الجانبَ الذهني لا تكفي فيه القوانينُ والأنظمة؛ إنه جزءٌ من الثقافة القائمة على معاييرَ سلوكية يحكمها مفهومُ الثواب والعقاب، والمراقبة الذاتية، ووجود رقيب أعلى، لا يعتمد تقنيةَ الرقابة الحديثة من أجهزة تصوير وتنصُّت؛ إذ لم تنجح هذه الأجهزةُ في تحسين بيئةِ العمل، بل إنها من خلال تجارب أثَّرت سلبًا على الإنتاجية - عندما تبيَّن للعاملات في مشغل للحياكة أنها قد سُلِّطت عليهن - إنما يُنَصُّ على سلوكيات العمل في قوانين العمل؛ للاحتكام إليها في وجه الدعاوى. يذكر (محمد علي حوات) أن نجاحَ الاندماجِ مع معطيات العولمة إنما يرتكز على تنميةِ الموارد البشرية، وإيجاد البيئة الملائمة للاستخدام الأمثل لها؛ "فالاهتمام برأس المال البشري، وزيادة قدرته على التكيُّفِ مع التطورات التكنولوجية الجارية عالميًّا هو من أهمِّ عوامل الاستفادة من آلية العولمة، بدلًا من الخضوع لسلبياتها" [2] ، ويقوم هذا على أساسٍ من الشورى/ الديمقراطية، وتحقيق العدالة بين المواطنين، والأخذ بمبدأ الثواب والعقاب. تؤكد منى حلمي، وهي تتحدَّث عن الحبِّ والعاطفة العميقة في العمل - "أنه خيرٌ للإنسان ألا يعملَ عن القيام بأداء نشاط يُفقده إنسانيتَه، ويخرب علاقتَه بذاته وبالحياة، إن رقيَّ ونهوض المجتمعات هما مجموعُ رقي ونهوض أفرادها، ولا رقي أو نهوض لأفراد يقضون حياتهم في أعمالٍ مُجبرين عليها" [3] . هذا ما أكده قرارُ منظمة العمل الدولية، التي نشأت سنة 1340هـ/ 1919م؛ نتيجة لمؤتمر السلام في باريس الذي عُقد في السنة نفسها، جاء قرارُها بشأن تدريب الموارد البشرية وتنميتها، في دورتها الثانية والثمانين (جنيف، ربيع الأول، 1421هـ/ يونيو 2000م)، الذي ركز على أن التدريبَ حقٌّ للجميع، على اعتبار أنه - جنبًا إلى جنب مع تدابيرَ أخرى - أخذ أدواتِ التصدي للتحدي الذي يمثِّله القطاعُ غير المنظَّم، الذي لا يحظى بالحماية، ويتَّسم - في معظم الحالات - بانخفاض الدخل والإنتاجية معًا؛ مما يُفضي هذا التصدي في النهاية إلى إيجاد العمل الشريف/ المحترم اللائق ( Work Decent ) لكل الراغبين في العمل. [1] انظر: منظمة العمل العربية، العولمة وآثارها الاجتماعية، مرجع سابق. [2] انظر: محمد علي حوات، العرب والعولمة: شجون الحاضر وغموض المستقبل، القاهرة: مكتبة مدبولي، 2002م، ص 210. [3] انظر: منى حلمي، الحب في عصر العولمة، مرجع سابق، ص 35.
سيد القُرَّاءِ بلا منازع أقف في هذه اللحظة أيها القُرَّاء الكرام معكم وأتحدث في هذه العجالة وإياكم عن أغنى الشخصيات علمًا وعملًا، وأكثرها سحرًا وبيانًا، وأوعاها دينًا وقرآنًا، ونتذاكر معًا شيئًا من مواقفه وفضله وكراماته وعلمه في جملة من نصوص الوحي التي انبجست على جنبتيها فضلًا ورفعةً، كل فضل ورفعة دونها يتلاشى ويضمحل، ولا بدع فكل واحدة منها لا تقوم لها الدنيا وما فيها! أجل، لقد انقطعت الألسنة دون وصفها، وحارت العقول في تصورها، وعجزت الأقلام عن رسمها، ولكنها مع ذلك دُوِّنت في الكواغِد والكراريس، لا يُخْلِقُ ديباجتَها هرمٌ، ولا يُلِمُّ بها قدم. وآية لها أنك ترى كيف عجز صاحبها نفسه -كما سيأتي معنا- على سعة علمه وعظيم قدره عن تصوُّرها وتصديقها؛ ولذلك فقد ذهب الناس في معانيها مذاهب متشعبة، واختلفوا في شأنها اختلافًا كثيرًا، ولا أدري علامَ يختلفون وأين يذهبون؟! وهي تدل على معناها دلالةً واضحةً لا تشتبه وجوهها، ولا تتشعَّب مسالِكها. وقد قال بعض أهل العلم -رحمة الله عليهم-: إنهم إنما أوتوا من جهلهم بهذه الشخصية التي تدل أوصافها عليه، وترشد فضائلها إليه. وحتى لا أطيل: إنه سيِّدُ القُرَّاءِ بلا منازع، وأَقْرأُ هذه الأمة على الإطلاق، رأس في العلم والعمل -رضي الله عنه- وسيِّد المسلمين، وأوَّل من كتب للنبي الأمين -صلى الله عليه وآله وسلم- صاحب العبادة والعمل، وأكثرهم خوفًا ووجلًا من الله عز وجل. لقد كان لفضله وعلمه يُسأل عن النوازل، ويُتحاكم إليه في المعضلات، أحد كِبار رجال الإسلام وعصابة الإيمان، وعسكر القرآن، وجند الرحمن، من أئمة الهدى ومصابيح الدُّجى، وأنصح الأئمة للأمة، وأعلمهم بالأحكام وأدلتها، وأفقههم في دين الله، وأعمقهم علمًا، وأقلهم تكلُّفًا، وممن دارت رحى الفتيا عليهم، وانتشر العلم منهم وإليهم، ومن فقهاء الأمة -رضي الله عنهم أجمعين- إنه الصحابي الجليل: أُبَيُّ بن كعب رضي الله عنه. وأسردها على عجل، فمن هذه المواقف والفضائل: ما رواه البخاري رقم: (3599)، ومسلم رقم: (2465) عن أنس -رضي الله عنه- قال: ((جمع القرآن على عهد النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- أربعة كلهم من الأنصار: أُبَيٌّ، ومعاذ بن جبل، وأبو زيد، وزيد بن ثابت رضي الله عنهم)). ولما كان في ظاهر الحديث ما يدل على الحصر أشكل هذا عند جماعة؛ لأن جماعة آخرون من الصحابة -رضي الله عنهم- قد جمعوه أيضًا؛ ولذلك تعددت أقوال أهل العلم في معنى الجمع؛ كالإمام الباقلاني، والنووي، والقرطبي، وابن بطَّال، وابن حجر، والسيوطي، وغيرهم رحم الله الجميع. ومما قيل في معاني الجمع المذكور: أنه لم يجمعه على جميع الوجوه والأحْرُف، والقراءات التى نزل بها إلا أولئك النفر فقط، وقريب منه قول مَن قال: لم يجمع ما نسخ منه بعد تلاوته وما لم ينسخ إلا أولئك، وقيل: إنه لم يجمع القرآن ويأخذه تلقينًا من فيِ النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- غيرهم بخلاف غيرهم، فيحتمل أن يكون تلقَّى بعضه بالواسطة، وقيل: إن المعنى لم يَجمع القرآن على عهد النبى -صلى الله عليه وآله وسلم- أي: من انتصب لتلقينه، وأقرأ الناس له غير تلك الطبقة المذكورة، وقيل: المراد بالجمع الكتابة فلا ينفي أن يكون غيرهم جمعه حفظًا عن ظهر قلب، وأما هؤلاء فجمعوه كتابةً، وحفظوه عن ظهر قلب، وقيل: لأن هؤلاء تفرَّغوا لأن يُؤخَذ عنهم، أو أنه -صلى الله عليه وآله وسلم- أراد الإعلام بما يكون بعد وفاته -صلى الله عليه وآله وسلم- من تقدم هؤلاء الأربعة، وأنهم أقرأ من غيرهم، كما سيأتي الإشارة إليه بعد، وقيل: أي من الأوس بقرينة المفاخرة المذكورة، ولم يرد نفي ذلك عن المهاجرين، ولا شك أنه أيًّا كان المراد فإن جمعهم هذا على عهد النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- فضيلة جليلة، ومنقبة عظيمة. ومنها: ما رواه البخاري رقم: (3549)، ومسلم رقم: (2464): أن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- قال: ((استقرئوا القرآن من أربعة: من عبدالله بن مسعود، وسالم مولى أبي حذيفة، وأُبَيِّ بن كعب، ومعاذ بن جبل رضي الله عنهم)). وفي البخاري رقم: (3597) أن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- قال: ((خذوا القرآن من أربعة: من عبدالله بن مسعود- فبدأ به - وسالم مولى أبي حذيفة، ومعاذ بن جبل، وأُبَيِّ بن كعب -رضي الله عنهم-)). وقوله -صلى الله عليه وآله وسلم- : ((استقرئوا القرآن))- بكسر الراء-: أي خذوه أو اطلبوه، وتأمَّل كيف تكرِّر ذكر أُبَيِّ بن كعب ومعاذ بن جبل- رضي الله عنهم- في جميعها: (الجمع، والاستقراء، والأخذ)، وهذا يدل كما قال بعض أهل العلم- رحمهم الله-: أنهم كانوا أكثر ضبطًا له، وأتقن لأدائه، وأحفظ لألفاظه وأحضرهم لآيه، وأنهم تفرَّغوا لأخذه مشافهةً؛ ولذلك تصدَّوا لأدائه من بعده -صلى الله عليه وآله وسلم- وندب إلى الأخذ عنهما، والاستقراء منهما، والله أعلم. ومنها: ما روى الإمام مسلم في صحيحه رقم: (810): عن أُبَيِّ بن كعب -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- : ((يا أبا المنذر، أتدري أي آية من كتاب الله معك أعظم؟))، قال: قلت: الله ورسوله أعلم، قال: ((يا أبا المنذر، أتدري أي آية من كتاب الله معك أعظم؟)) قال: قلت: ﴿ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ﴾ [البقرة: 255] قال: فضرب في صدري، وقال: ((والله ليهنك العلم أبا المنذر)). ورواه الإمام عبدالرزاق في مصنفه، ومن طريقه الإمام أحمد في مسنده، وهو في سلسلة الأحاديث الصحيحة رقم: (3410): عن أُبَيِّ بن كعب -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- قال: ((أي آية في كتاب الله أعظم؟))، فقال: اللهُ ورسولُه أعلمُ! يكررها مرارًا، ثم قال أُبَيٌّ: آية الكرسي، فقال النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- : ((لِيَهنِكَ العلمُ أبا المنذرِ! والذي نفسي بيده، إنَّ لها لسانًا وشَفَتَينِ تُقَدِّسان الملِك عند ساقِ العرش))؛ يعني: آيةَ الكرسيّ. والمعنى: ليكن العلم هنيئًا لك، وهذا فيه لأُبَيٍّ -رضي الله عنه- منقبة عظيمة ومأثرة كريمة، ودليل على كثرة علمه وفقهه، وعظيم فضله ومنزلته، وكذا إجلاله وتبجيله، وإكرامه وتقديره، وشهادة له وإقرار بغزارة العلم ووفرته، ورسوخ قدمه فيه وعلو كعبه، فهي شهادة تنمحق دونها كل شهادة، وإقرار ينتهي عقبه كل إقرار. ومنها: ما أخرجه أبو داود رقم: (907)، وجوَّد إسناده الخطَّابي في معالم السنن (1 /216)، وصحَّحه ابن حِبَّان رقم: (2242)، والنووي (4 /241)، والألباني وغيرهم، عن عبدالله بن عمر -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-: ((صلى صلاة، فقرأ فيها فلبس عليه، فلما انصرف قال لأبي -رضي الله عنه- : أصليت معنا؟ قال: نعم، قال: فما منعك))، والمراد: "أن تفتح عليَّ" كما عند الطبراني في الكبير رقم: (13216)، وفي مسند الشاميين رقم: (771). فقوله -صلى الله عليه وآله وسلم- لأُبَيٍّ -رضي الله عنه-: ((فما منعك أن تفتح عليَّ)) يدلنا على منزلة أُبَيٍّ -رضي الله عنه- وأنه من أقْرائهم -رضي الله عنهم أجمعين- وإلا لَمَا خَصَّه رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- بهذا. ومنها: ما أخرج الإمام أحمد في مسنده (2 /412) عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: خرج رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- على أُبَيِّ بن كعب -رضي الله عنه- وهو يصلي فقال: ((يا أُبَيُّ)) فالتفت فلم يجبه، ثم صلَّى أُبَيٌّ فخفَّف ثم انصرف إلى رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- فقال: السلام عليك أي رسول الله، قال: ((وعليك))، قال: ((ما منعك أي أبي إذ دعوتك أن تجيبني؟!)) قال: أي رسول الله، كنت في الصلاة، قال: ((أفلست تجد فيما أوحى الله إليَّ أن ﴿ اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ ﴾ [الأنفال: 24]؟!))، قال: قال: بلى أي رسول الله، لا أعود، قال: ((أتحب أن أعلمك سورة لم تنزل في التوراة ولا في الزبور ولا في الإنجيل ولا في الفرقان مثلها؟))، قال: قلت: نعم أي رسول الله، فقال رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- ((إني لأرجو ألَّا تخرج من هذا الباب حتى تعلمها))، قال: فأخذ رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- بيدي يحدثني وأنا أتبطأ مخافة أن يبلغ قبل أن يقضي الحديث، فلما أن دنونا من الباب، قلت: أي رسول الله، ما السورة التي وعدتني؟ قال: ((فكيف تقرأ في الصلاة؟))، قال: فقرأت عليه أُمَّ القرآن، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-: ((والذي نفسي بيده، ما أنزل الله في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في الفرقان مثلها، وإنها للسبع من المثاني)). فتأمل الحثَّ والتحضيض من رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- لأُبَيٍّ-رضي الله عنه- وحرصه على تعليمه بقوله: ((أتحبُّ أن أعلمك)) وأخذه -صلى الله عليه وآله وسلم- بيديه يحدثه وقوله -صلى الله عليه وآله وسلم- : ((إني لأرجو ألَّا تخرج من هذا الباب حتى تعلمها)) من جهة، وحرص أُبَي -رضي الله عنه- على العلم وهو يتباطأ ليقضي نهمته مما وعده به رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- وما كان عليه من الحرص- أيضًا- يوم قال: "أي رسول الله، ما السورة التي وعدتني؟" من جهة أخرى. ومنها: ما روى البخاري رقم: (3598)، ومسلم رقم: (799) عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- قال لأبي -رضي الله عنه-: ((إن الله يأمرني أن أقرأ عليك: ﴿ لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ﴾ [البينة: 1]))، قال: وسَمَّاني؟ قال: ((نعم))، فبكى. قال عبدالرحمن بن أبزى كما في تاريخ دمشق وغيره: قلت لأُبَيٍّ -رضي الله عنه-: وفرحت بذلك؟ قال -رضي الله عنه- : وما يمنعني، وهو يقول: ﴿ قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا ﴾ [يونس: 58]، وفي البخاري رقم: (4676): ((إن الله أمرني أن أقرأ عليك القرآن))، قال أُبَيٌّ: آلله سمَّاني لك؟ قال: ((الله سَمَّاك لي))، وفي رواية أخرى للبخاري رقم: (4677): ((إن الله أمرني أن أقرئك القرآن))، قال -رضي الله عنه- : آلله سمَّاني لك؟ قال: ((نعم))، قال: وقد ذكرت عند رب العالمين؟ قال: ((نعم))، فذرفت عيناه. وهذه القراءة وإن كانت قراءة إبلاغ وإنذار لا قراءة تفقه واستذكار، وقراءة تبليغ لا قراءة تعَلُّم؛ كيف وهو -صلى الله عليه وآله وسلم- الذي نزل عليه القرآن، إلا أنها- ومع ذلك- منزلة شريفة ورتبة منيفة، وفيها تنبيه وإرشاد على جلالة أُبَيٍّ -رضي الله عنه- وأنه من أقرأ هذه الأمة إن لم يكن أقرأها، فقد أخرج الترمذي رقم: (3791)، وابن ماجه رقم: (154)، وابن حبان رقم: (2218) و(2219)، والحاكم (3 /422) وهو في السلسلة الصحيحة رقم: (1224): عن أنس -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-: ((..وأقرؤهم لكتاب الله أُبَيُّ بن كعب))، وانظر للفائدة: رسالتي: التحقيق في عموم ﴿ ثَانِيَ اثْنَيْنِ ﴾ [التوبة: 40] مذخرة أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- عند ﴿ ثَانِيَ اثْنَيْنِ ﴾ في الرحمة. وأخرج البخاري رقم: (1906): عن عبدالرحمن بن عبد القاري أنه قال: "خرجت مع عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- ليلة في رمضان إلى المسجد، فإذا الناس أوزاع متفرقون يصلي الرجل لنفسه، ويصلي الرجل فيصلي بصلاته الرهط، فقال عمر -رضي الله عنه-: إني أرى لو جمعت هؤلاء على قارئ واحد لكان أمثل، ثم عزم فجمعهم على أُبَيِّ بن كعب..". وأعلم أنه ما من أحد من رؤوس الصحابة- رضي الله عنهم- إلا وقد خُصَّ بخصيصة وهذه خصوصية أُبَيٍّ -رضي الله عنه-: ﴿ لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ﴾ [البينة: 1]؛ إذ لا يُعلَم أحد من الناس شاركه في هذا، وهي ميزة على أقرانه بإقراء حبيبه -صلى الله عليه وآله وسلم- عليه، وبلاغ وبيان للناس على فضيلة أبي -رضي الله عنه- في ذلك، وحثهم على الأخذ عنه؛ ولذلك فقد كان بعده -صلى الله عليه وآله وسلم- رأسًا مقصودًا، وإمامًا مشهورًا في إقراء القرآن، حتى أصبح من أجل ناشريه إن لم يكن أجلهم. وكيف لا يكون كذلك وقد أخذ عنه -صلى الله عليه وآله وسلم- رسم التلاوة كما أخذها نبي الله -صلى الله عليه وآله وسلم- عن جبريل- عليه السلام- ثم يأخذه على هذا النمط الآخر عن الأول والخلف عن السلف، وقد أخذ عن أبي -رضي الله عنه- بَشَرٌ كثيرون من التابعين ثم عنهم من بعدهم وهكذا دواليك دواليك، فسرى فيه سر تلك القراءة عليه، حتى سرى سره في الأمة إلى الساعة، فأي تشريف أعظم من هذا، وأي فضل أجَلُّ من هذا، ويعظم هذا كله بأنه لم يشاركه أحد من الناس في هذه المنقبة، ولا سيما مع ذكر الله -عز وجل- لاسمه والتنصيص عليه، وهذه منقبة أخرى ومزية كبرى له بذكر الله -عز وجل- له وتسميته. ألا ترى قوله: "آللهُ سَمَّاني لك؟!" بهمزة الاستفهام الدالة على التعجب منه! لتدرك توهُّج المشاعر الجيَّاشة التي لم يسعها صدره، حتى تجلَّت في ملامحه كلها، وهنا سارع النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- مجيبًا له؛ لأنه يرى -صلى الله عليه وآله وسلم- بأبي -رضي الله عنه- ما لا طاقة له به من تلك المشاعر المنبعثة منه، فقال له مباشرة: ((اللهُ سمَّاك))، لتتدافع بعد مشاعره أعظم كتغشمر السيل من أعلى الجبل إلى منتهاه، مقبلة بِشدَّة، وتجري بحدة، فهو لا يكاد يصدق ما يسمع، ثم يردف على الفور ذلكم السؤال بتساؤل وهو في خضم تلكم المشاعر المتدفقة المختلجة فيقول: "وقد ذكرت عند رب العالمين؟" متعجبًا متحيرًا، ثم لا يكاد يستطيع بعد كبح شعوره حتى تتدفق تلك المشاعر فتفيض، وهنا يأتي ذلكم التعبير الذي يُصوِّر حالته -رضي الله عنه- : "فذرفت عيناه"، واستهلَّت مدامِعُه وانسكبت مقلته، واغرورقت عَيناهُ وذرفت مآقيه. وهذا منه -رضي الله عنه- : إمَّا فرحًا وسرورًا لما بُشِّر به وأُعطي له، من تأهيله لهذه النعمة وإعطائه لهذه المنزلة الرفيعة وذكر الله -عز وجل- له، وحق له؛ كما قال الشاعر: غلب السرور عليَّ حتى إنه من فرط ما قد سرَّني أبكاني وإمَّا خوفًا وهضمًا: خوفًا من تقصيره في شكر تلك النعمة الجسيمة، وهضمًا لنفسه؛ أي: أنى لي هذه المرتبة المنيفة؟! وأما تخصيص هذه السورة بقراءتها على أُبَيٍّ -رضي الله عنه- فهو يقتضي اختصاصها وامتيازها بما اقتضى ذلك، من أنها جامعةٌ لأصول وقواعد ومهمات عظيمة من التوحيد والرسالة والإخلاص وتطهير القلوب والصحف والكتب المُنزَّلة على الأنبياء وذكر الصلاة والزكاة والمعاد وبيان أهل الجنة والنار وكذا لوجازتها فإن الحال يقتضي الاختصار والإيجاز، واللهُ أعلمُ.
غزوة ذي قَرَد في السنة السادسة للهجرة، وكان سببها أن عيينة بن حصن الفزاري قد أغار على إبل للنبي صلى الله عليه وسلم، فاستاقها، وأول من نذر بهم سلمة بن الأكوع، وقيل: حدثت بعد صُلح الحديبية، قال سلمة: أقبلنا مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة بعد صلح الحديبية، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بظهر مع رباح غلامه، وخرجت معه بفرس طلحة بن عبيدالله، فلما أصبحنا إذا عبدالرحمن بن عيينة بن حصن الفزاري قد أغار على ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستاقه أجمع وقتل راعيه، قلت: يا رباح، خذ هذا الفرس فأبلغه طلحة، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن المشركين قد أغاروا على سرحه، ثم استقبلت الأكمة فناديت ثلاثة أصوات، يا صباحاه! ثم خرجت في أثر القوم أرميهم بالنبل وأرتجز وأقول: خذهاوأنا ابن الأكوع واليوم يوم الرضَّع قال سلمة: فوالله ما زلت أرميهم وأعقر بهم، فإذا خرج إليَّ فارس قعدت في أصل شجرة فرميته فعقرت به، وإذا دخلوا في مضايق الجبل رميتهم بالحجارة من فوقهم، فما زلت كذلك حتى ما تركت من ظهر أخذوه لرسول الله صلى الله عليه وسلم بعيرًا إلا جعلته وراء ظهري، وخلوا بيني وبينه، وألقوا أكثر من ثلاثين رمحًا وثلاثين بردة يتخففون بها، لا يلقون شيئًا إلا جعلت عليه أمارة - علامة - حتى يعرفه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وانتهوا إلى مضيق به عيينة بن حصن، فقعدوا للطعام ضحوة، وكان ظهر عليهم سلمة، فقال عيينة: من هذا؟ قالوا: لقينا منه البرح - الشدة - وقد استنقذ كل ما بأيدينا، ثم ظهرت بدايات فرسان رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحضر الأخرم الأسدي واسمه محرز بن نضلة على فرسه، وطلب منه سلمة التريث وألا يغامر وحده بإنشاب المعركة، لكنه أصر على قتال الغزاة، فقاتل عبدالرحمن بن عيينة فقتل فرسه، لكن ابن عيينة تمكن من قتله وأخذ فرسه، ثم حضر أبو قتادة فلحق بعبدالرحمن وقاتله فطعنه، فانطلقوا هاربين، ثم نزلوا على ماء يقال له: ذو قرد ليشربوا منه وهم عطاش، فلما رأوا سلمة غادروه ولم يتمكنوا من شرب قطرة منه، ثم رمى أحدهم بسهم فقتله، ثم ترك القوم فرسين فجاء بهما وعاد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان نازلًا على الماء بقرد وقد نحروا جملًا وجلس بلال يشوي لهم اللحم، فقال سلمة: لو انتخبت مائة رجل نتابع القوم، فضحك عليه الصلاة والسلام وقال: ((إنهم ليقرون بأرض غطفان)) ، وبات المسلمون ليلتهم، وعند الصباح قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((خير فرساننا أبو قتادة، وخير رجالنا سلمة بن الأكوع)) ، فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم سهم الفارس وسهم الراجل، وفي هذه الغزوة لما جاء الصريخ بشأن غارة غطفان: "يا خيل الله، اركبي".
موسى عليه السلام (12) عندما جاء موسى لميقاتِ ربِّه، وقد اختار من قومه سبعين رجلًا لهذا الميقات، فلمَّا انتهوا إلى الجبل ﴿ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا ﴾ [النساء: 164]، قال موسى: ﴿ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ ﴾ [الأعراف: 143]، فإن كان هذا الطور لا ينهدُّ إذا تجلَّى اللهُ له، فإنك تقدر على رؤيتي، وأرادَ الله عز وجل أن يضرب لموسى وغيره مثلًا على أن الله عز وجل قد احتجَبَ بالنُّور عن خلقه؛ لأنهم لم يُهيَّؤوا في هذه الحياة الدنيا لرؤية الله، وإنما يرونه إذا ماتوا على الإيمان في الدار الآخرة، فإن المؤمنين لن يروا ربهم حتى يموتوا، وحجابه النور أو النار، لو كَشَفَهَ لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه. وقد زعم بعض أهل الأهواء أن قوله تعالى: ﴿ قَالَ لَنْ تَرَانِي ﴾ دليلٌ على استحالة الرؤية؛ بدعوة أن (لن) تفيد تأبيد النَّفي، وجهلوا أن الله عز وجل قال في اليهود: ﴿ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ [البقرة: 94]، ثم قال: ﴿ وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ﴾ [البقرة: 95] مع أنهم يتمنون الموت وهم في جهنم؛ إذ ينادون مع نظرائهم من الكفار: ﴿ يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ ﴾ [الزخرف: 77]، ولمَّا تجلَّى الله تعالى للجبل ﴿ جَعَلَهُ دَكًّا ﴾؛ أي: مدكوكًا مستويًا بالأرض ﴿ وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [الأعراف: 143]، ولمَّا رأى موسى عليه السلام أن السبعين الذين معه لا يزالون في صعقتهم دعا الله عز وجل أن يكشف عنهم، واعتذر إلى الله عز وجل بأنه أرادَ أن يقطع شبهة هؤلاء السفهاء الذين سألوه أن يريهم ربهم جهرةً، وقد أجاب الله تعالى دعوة موسى عليه السلام، وأفاق السبعون من صعقتهم، وقال الحق لموسى عليه السلام: ﴿ إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي ﴾ [الأعراف: 144]، وأعطاه الألواح، وقد كتب له فيها من كل شيء ﴿ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ ﴾ [الأعراف: 145] يحتاجه بنو إسرائيل في معاشهم ومعادهم، وقد كان موسى عليه السلام عندما أقبلَ على مكان المناجاة سارعَ إلى جانب الطور الأيمن، فسبق السبعين الذي كانوا معه، فقال له العليم الخبير: ﴿ وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى * قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى ﴾ [طه: 83، 84]. ومن ثمرات هذا السؤال والجواب تقريرُ أن المسارعة إلى الخيرات والمسابقة إلى مرضاة الله من الأمور المحبوبة شرعًا، وليس في كل عجلة ندامة، وبعد أن أعطى الله تعالى موسى التوراةَ أخبره أن قومه عبدوا عجلًا صنعه لهم السامريُّ، فرجع موسى بالتوراة إلى قومه غضبانَ حزينًا على ما فعله قومه، وأخذ يؤنِّبهم ويوبِّخهم على عبادة العجل، وقال لهم: ﴿ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي ﴾ [الأعراف: 150]، ﴿ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا ﴾ [طه: 86]؟! بإنزال التوراة نورًا لكم، أفطالت غيبتي عليكم أم أحببتم أن ينزل بكم غضبٌ من ربكم فأخلفتم وعدكم إياي بالثبات على الإيمان وإخلاص العبادة لله وحدَه، وكأنَّكم استعجلتم عقوبة الله؟! فحاولوا الاعتذارَ بأنهم ما قدروا على ردِّ ضلال السامري، فإنه سوَّل لهم ما سوَّل، وغَلَبَ على عقولهم، وزعم لهم أنه إله موسى، وأن موسى نسيَ أنه ربُّه، فذهب يطلب ربَّه عند الجبل، وكان هارون عليه السلام قد حذَّر قومه من عبادة العجل وكان قد قال لهم: ﴿ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي * قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى * قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا * أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي ﴾ [طه: 90 - 93]، بأن تقضي على سبيل المفسدين، وقد بلغ الغضبُ بموسى عليه السلام مبلغًا، فألقى الألواحَ وأخذَ برأس أخيه هارون ولحيته يجرُّه إليه، فقال هارون: ﴿ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴾ [الأعراف: 150]، وقال هارون عليه السلام لموسى صلى الله عليه وسلم: ﴿ يَا ابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي ﴾ [طه: 94]. وأراد عليه السلام استعطافَ موسى بقوله: يا ابن أم، مع أنه أخوه لأبيه وأمه، وهذا شبيه بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي: ((أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبيَّ بعدي))؛ إذ الرابطة بينهما الإسلام، وفاطمة عليها السلام بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد حاول بعضُ أهل الأهواء أن يستدلوا بهذا الحديث على أن عليًّا رضي الله عنه هو خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا الاستدلال باطل من وجوه، منها: أن هارونَ مات قبل موسى، ولم يكن خليفةً من بعده، بل الذي كان خليفة بعد موسى هو يُوشعُ بن نون، ومنها أن هذا الحديث ليس نصًّا في كون عليٍّ رضي الله عنه هو الإمام بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسبب الحديث يوضح مرادَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما خلَّف عليًّا رضي الله عنه في المدينة المنورة حينما أراد الذهاب إلى تبوك قال بعض المنافقين في المدينة: إنما خلَّف عليًّا لأنه يستثقلُه ولا يحبُّه، فلما علم عليٌّ رضي الله عنه بذلك أخذ سيفَه، ولحق برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو نازل بالجرف، وأخبره بقول المنافقين، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أمَا تَرْضَى أن تكونَ منِّي بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبيَّ بعدي))، وكأن النبي صلى الله عليه وسلم يُبيِّن لعلي رضي الله عنه أن استخلافه على المدينة كاستخلاف موسى لهارون حينما ذهب موسى عليه السلام لميقات ربه، ولم يكن استخلاف موسى لهارون عن البغض أو الاستثقال له كما ذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، كما أن الحنان الذي يحسُّ به موسى لهارون فيه معنى يوجدُ شبيهه بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين علي رضي الله عنه؛ إذ إن فاطمةَ بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت تحته، وحنو رسول الله صلى الله عليه وسلم عليها وعلى زوجها وبنيها لا يحتاج إلى دليلٍ. وبعد أن سكت عن موسى الغضب أخذ الألواحَ وفي نسختها - أَيْ في نصِّها وجُملتها وتعاليمها - هدًى ورحمةً للذين يخافون الله عز وجل، ويهتدون بما أنزل من الكتاب، وفي مواعدة موسى لإعطائه التوراةَ واختيار سبعين رجلًا للذهاب معه، واستخلاف موسى هارونَ على بني إسرائيل مدةَ غيبته هذه، ووصايا موسى لهارون عليه السلام، وعبادة بعض بني إسرائيل للعجل الذي أضلَّهم به السامري، وسؤال موسى عليه السلام ربَّه أن ينظرَ إليه، وجواب الله عز وجل له، وصعقة موسى والسبعين الذين معه، وانْدِكَاك الجبل لما تجلَّى الله للجبل، وإخبار الله عز وجل موسى أن قومه عبدوا العجل من بعده، ورجوعه عليه السلام إلى قومه غضبان أسفًا، وأخذ موسى بلحية أخيه هارون ورأسه يجرُّه إليه، وفي اعتذار هارون واستعطافه، وما عاقب به موسى عليه السلام السامريَّ الذي صنعَ العجل، وما فعل موسى عليه السلام بعجل السامريِّ؛ من تحريقِه ونَسْفِه وتذريتِه في البحر - في هذا كلِّه أَنْزَلَ الله عز وجل على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم ذِكْرَ ذلك في كتابه الكريم في مواضع من الذكر الحكيم. وإلى الفصل القادم إن شاء الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
المعرفة التاريخية صُمِّمت للحاضر الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله؛ أما بعد: فالمرتكز الأساس في حياتنا هو الواقع الذي نعيشه على كافة أصْعِدَتِهِ ومساراته، واختلاف أحداثه المليء بها، وقضاياه الشائكة التي يعِجُّ بها، من الصعب اعتزال هذا الواقع أو عدم الالتفات إليه، بيد أنه يُحتَّم علينا التعامل معه، بل التفاعل بشكل إيجابي، وتحليل أحداثه، واستشفاف ما وراءها، والوصول إلى رسم ملامح الخطوات اللاحقة، والتصور للمواقف القادمة في مسيرتنا العملية والبنائية الفكرية، وإلى جانب هذا وذاك يمثِّل الماضي عنصرًا أساسيًّا لفهم الواقع، وما صحِبه من أحداث جَلَل، وما تخلَّله من مشاهدَ وتحولات كبرى لا يمكن التغافل عنها، باعتبارها سببًا للوصول لكثير مما نعيشه ونشاهده في واقعنا وأحداثنا اليوم؛ وهنا يكمن الامتداد للمثلث الزمني (الحاضر والمستقبل والماضي)، وهذه الامتدادات الزمنية تشكل حلقات مترابطة، وسلسلة متشابكة، لا يمكن انفكاكها، أو فصل بعضها عن بعض في مسار الوعي وصناعته، وفي مضمار الإنجازات والنجاحات المراد تحققها على الصعيد الفردي والجماعي. ومن هنا، فالواقع يمثل نقطة انطلاق نحو المستقبل، وركيزة أساسية في بنائه، ولا يمكن أن ينأى عن الماضي وإدراك تحولاته لمن يريد إصلاح الدنيا والدين؛ ولهذا قال ابن خلدون: "وقفنا على أحوال الماضين من الأمم في أخلاقهم، والأنبياء في سِيَرِهم، والملوك في دولهم وسياساتهم حتى تتم فائدة الاقتداء في ذلك لمن يرومه في الدين والدنيا". وبناء عليه، فالتفاعل الإيجابي مع الواقع ينطلق من تحدِّيين: • الوعي الإيجابي بتاريخنا، والتحرر من رواسب التاريخ السلبية. • امتلاك الوعي المعرفي لبناء الرؤية المستقبلية الإستراتيجية. ولهذا يقولون: "المعرفة التاريخية صُمِّمت وظيفيًّا في فن التاريخ؛ لخدمة الحاضر تفسيرًا وتغييرًا، ومدخل لبناء المستقبل ورؤيته". فالوعي بالتاريخ يشكل الشرط اللازم لفقه الواقع وإشكالاته، والتفاعل الإيجابي مع هذا الواقع من حيث الوعي بتحدياته، وإدراك حاجياته ومتطلباته، والإسهام في ورش بنائه وإصلاحه، وهذا متوقف على امتلاك رؤية إستراتيجية مستقبلية، تتجاوز إحباط الراهن وتُعانِق المستقبل للأمة. ومع أهمية المعرفة التاريخية فإن ثمة إشكالًا منهجيًّا يواجه هذه المعرفة، وتتمثل في إشكالين: الأول: المنهج المادي الغربي بشقَّيه: الليبرالي والماركسي، وما يعتريه من التناقضات والمخالفات المنهجية العلمية، والإسقاط التأويلي التعسفي للأحداث التاريخية، والوصول من خلال هذا الإسقاط إلى التحيز في كتابة التاريخ، ووضع مصالحهم ومنافعهم فحسب نُصْبَ أعينهم، بل التجني والتشويه على تاريخ الآخرين سيما التاريخ الإسلامي، وكذلك إسقاط الدراسة المصدرية للوثائق، واعتماد الروايات التاريخية قبل توثيقها وعرضها ودراستها على موازين الجرح والتعديل، منها قضية تولي أبي بكر رضي الله عنه الخلافة، وأنها كانت بنوع من الاستقواء والضغط القَبَلي، وتجاوز الحوار وتبادل الآراء، واعتماد هذه الرواية دون دراسة التأكُّد من مصدريتها وتوثيقها، وعرضها على المنهج العلمي في النقد والقبول والرد، لبيان زَيفها وبطلانها. الإشكال الثاني: المنهج العاطفي: فمن مشاكل البناء المعرفي التاريخي المنهجُ العاطفي الذي يتغاضى عن الأخطاء، ويبالغ في التمجيد والتقديس، ويستميت في الدفاع عن أخطاء الرجال، ويتكلف تأويل الأحداث، ويُروى أن الحديث عن الأخطاء خطأ، وبهذا يبقى المسلمون يجتمعون على أساس عاطفي بدل الفكرة والمبدأ، ويتخلون عن مشقة البناء إلى سهولة الشعارات والهتافات. وإذا أتينا إلى المعرفة التاريخية، فسنجد أن أبرز قضايا بناء الوعي التاريخي تكمن في تَحَوِّلين حصلا في الأمة الإسلامية: الأول: التحول السياسي المبكر للحكم الإسلامي، والانتقال من الخلافة إلى الملك العضوض، ثم الملك الجبري. الثاني: التحول الحضاري التغريبي بعد إسقاط الدولة العثمانية، والانتقال من الملك العضوض إلى مرحلة الجبر، مع ما صحِبه من الهجوم على المجتمعات الإسلامية، والدخول لها واستعمارها باسم الانتداب والحماية والتدويل، إلى جانب الانبهار بالحضارة الغربية من قِبل كثير من المسلمين؛ مما أحدث شرخًا عميقًا في المجتمع الإسلامي وبنيته الفكرية. ومن هنا؛ فمن الأهمية بمكان إدراك هذا التحول في تاريخ الأمة، ثم الانطلاق نحو المستقبل، وبناء على هذا التحول الذي حصل في الأمة الإسلامية والنظر فيه، لا يمكن تصحيح الواقع والانطلاق منه إلى بناء رؤية مستقبلية إستراتيجية، إلا بجملة من الأصول؛ تتمثل في مجالين: الأول: الأصول النظرية: وهي جملة النصوص الشرعية من القرآن الكريم، والسُّنة النبوية الصحيحة، التي تشكل الإطار النظري المُحْكَم لبناء الرؤية المستقبلية الواضحة والمنشودة، سواء النصوص المقيدة والمشترطة للإيفاء بالشروط لتحقيق المشروط، التي تشترط الإيمان والتوبة، والتقوى والتوكل في تحقيق مراد العبد في الأمن الدنيوي والأخروي، والحياة الطبية في الدنيا والآخرة، أو النصوص الْمُطْلَقة التي جاء فيها الوعد بنصر النبي صلى الله عليه وسلم، والمؤمنين على عدوهم، أو النصوص التي وردت في التمكين الكلي للإسلام. الثاني: الأصول العملية: وهي التي تتمثل في سلوك الإنسان في الاستخلاف والسعي لعمارة الأرض وفق مناهج النبوة، مع الصبر والنفس الطويل، وعدم استبطاء النصر والتمكين، وعدم اليأس من وعد الله تعالى لعباده المؤمنين في الدنيا، والتطلع لما وعد الله به عباده في الآخرة. وبهذه الأصول تتحول الأمة نحو مستقبلها، وتشييده بمنهج واضح المعالم، بعيدًا عن المصادفة والارتجال، وبنوع من التوازن الدقيق، والربط الوثيق بين الامتدادات الزمنية الثلاثة. وهذا الترابط بين الامتدادات الزمنية الثلاثة يجعلنا نستوعب مراحل بناء المستقبل ورؤيته الإستراتيجية، ونستحضر السنن الربانية، التي من أهمها في هذا الجانب: سُنَّة الإعداد، وسنة التغيير. فالإعداد سنة كونية واجتماعية تحدَّث عنها القرآن الكريم؛ فقال سبحانه: ﴿ وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ ﴾ [الأنفال: 60]، والإعداد هو ثمرة الفهم الصحيح لهذه السنة، الإعداد الشامل بجميع جوانبه: العلمي، والفكري، والتربوي، والبدني، والاقتصادي، والإعلامي. وكذلك سنة التغيير من السنن الربانية والمتمثلة بقوله تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ﴾ [الرعد: 11]، وهذه السنة تقوم على غرس العقيدة الإيمانية الصحيحة، فهي المرتكز الأساس في استمداد مقومات التغيير، والارتباط بخالق الكون والإنسان، إلى جانب بناء جيل ونخبة مصطفاة تحمل همَّ هذا التغيير، مع أخذ دورة الزمان في الحسبان وعدم الاستعجال، إلى جانب إدراك الواقع وفهمه، وفهم الخطاب الشرعي، وتأصيل منهج التعامل معه وكيفية تنزيله على الواقع، إضافة إلى فهم الواقع المحلي والإقليمي والدولي والتعامل وفق التصور الصحيح، مع الاستفادة من وسائل العصر وأدواته في تحقيق سنة التغيير.
من أقوال السلف فضائل الشام الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين؛ نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين؛ أما بعد: فإن لبلاد الشام فضائلَ كثيرة، وردت في القرآن الكريم، وسنة الرسول عليه الصلاة والسلام، والآثار عن الصحابة والتابعين رضي الله عنهم أجمعين؛ قال عبدالله بن مسعود رضي الله عنه: "قسم الله الخير، فجعله عشرة أعشار، فجعل تسعة أعشاره بالشام، وبقيته في سائر الأرضين"، وقال كعب الأحبار رحمه الله: "إن الله تعالى بارك في الشام من الفرات إلى العريش"، وقال وهب بن منبه رحمه الله: "رأس الأرض الشام"، وقال أبو عبدالملك الجزري: "إذا كانت الدنيا في بلاء وقحط، كان الشام في رخاء وعافية، وإذا كان الشام في بلاء وقحط، كانت فلسطين في رخاء وعافية، وإذا كانت فلسطين في بلاء وقحط كان بيت المقدس في رخاء وعافية"؛ [أورد هذه الآثار العلامة السيوطي رحمه الله، في كتابه (الدر المنثور في التفسير المأثور)، نقلًا عن الحافظ ابن عساكر رحمه الله]. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "ثبت للشام وأهله مناقب بالكتاب والسنة وآثار العلماء... حيث ذكر الله أرض الشام... ووصفها بأنها الأرض التي باركنا فيها... وفيها المسجد الأقصى، وفيها مبعث أنبياء بني إسرائيل، وإليها هجرة إبراهيم، وإليها معراج ومسرى نبينا، ومنها معراجه، وبها ملكه، وعمود دينه وكتابه، والطائفة المنصورة من أمته، وإليها المحشر والمعاد". وقال العلامة عبدالرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله: "من بركة الشام أن كثيرًا من الأنبياء كانوا فيها، وأن الله اختارها مُهاجَرًا لخليله، وفيها أحد البيوت الثلاثة المقدسة؛ وهو بيت المقدس". وقال العلامة الألباني رحمه الله في كتابه (تخريج أحاديث فضائل الشام ودمشق للربعي): "فهذه أحاديث في فضائل الشام ودمشق... حتى يعلم الناس أن في فضل الشام أحاديثَ كثيرة صحيحة، خلافًا لظن بعض الكُتَّاب، وحتى يعرف المستوطنون فيه فضلَ ما أنعم الله به عليهم، فيقوموا بشكره بالعمل الصالح، وإخلاص العبادة لوجهه سبحانه وتعالى، وإلا فإن الأمر كما قال سلمان الفارسي لأبي الدرداء رضي الله عنه: إن الأرض المقدسة لا تُقدِّس أحدًا، وإنما يقدس الإنسان عمله". وقال الشيخ محمد بن لطفي الصباغ رحمه الله: " بلاد الشام بلد واحد، طيب مبارك، وقد وردت نصوص من الكتاب والسنة تقرر فضله وبركته". للسلف رحمهم الله أقوال في فضائل الشام، مبنية على آيات القرآن الكريم، وأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم التي وردت في فضل الشام، جمعت بفضل من الله بعضًا من أقوالهم في ذلك، أسأل الله الكريم أن ينفع بها الجميع. بلاد الشام بارك الله جل وعلا فيها: • قال الله عز وجل: ﴿ وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا ﴾ [الأعراف: 137]. • قال الحسن رحمه الله: "أرض الشام". • قال قتادة رحمه الله: "التي باركنا فيها الشام". • قال ابن شوذب رحمه الله: "فلسطين". • قال زيد بن أسلم رحمه الله: "قرى الشام". • قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "ومعلوم أن بني إسرائيل إنما أُورِثوا مشارق الشام ومغاربها، بعد أن أُغرِق فرعون في اليم". • قال الإمام ابن عطية الأندلسي رحمه الله: "الأرض... التي بارك فيها، لا يتصف بهذه الصفة وينفرد بها عن غيرها، إلا أرض الشام؛ لِما بها من الماء والشجر والنعم والفوائد". • قال الله عز وجل: ﴿ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ ﴾ [الإسراء: 1]. • قال الإمام البغوي رحمه الله: "﴿ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى ﴾ يعني: بيت المقدس". • قال مجاهد رحمه الله: "سماه مباركًا؛ لأنه مقر الأنبياء، ومهبِط الملائكة والوحي، ومنه يُحشر الناس يوم القيامة". • قال الإمام ابن عطية الأندلسي رحمه الله: "والبركة حوله من جهتين؛ إحداهما: النبوة والشرائع والرسل الذين كانوا في ذلك القطر، وفي نواحيه ونواديه، والأخرى: النعم من الأشجار والمياه والأرض المفيدة التي خص الله الشام بها". • قال الله جل وعلا: ﴿ وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ * وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ ﴾ [الأنبياء: 70، 71]. • قال أبي بن كعب رضي الله عنه: الشام. • قال الإمام القرطبي رحمه الله: "يريد نجينا إبراهيم ولوطًا إلى الأرض؛ أرض الشام". • قال الله جل وعلا: ﴿ وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا ﴾ [الأنبياء: 81]. • قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: "يعني أرض الشام". • قال الله سبحانه وتعالى: ﴿ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا ﴾ [سبأ: 18]. • قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: "قال مجاهد والحسن، وسعيد بن جبير، ومالك بن زيد بن أسلم، وقتادة، والضحاك، والسدي، وابن زيد وغيرهم: "يعني قرى الشام". الرسول عليه الصلاة والسلام دعا للشام بالبركة: • عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((اللهم بارك لنا في شامنا، اللهم بارك لنا في يمننا، قالوا: يا رسول الله، وفي نَجْدِنا، قال: اللهم بارك في شامنا، اللهم بارك في يمننا، قالوا: يا رسول الله، وفي نجدنا، فأظنُّه قال في الثالثة: هناك الزلازل والفتن، وبها يطلُع قرن الشيطان))؛ [أخرجه البخاري]. • قال العلامة الكرماني رحمه الله: "(شامنا) يريد به إقليم الشام، (يمننا) إقليم اليمن". • قال الإمام الطيبي رحمه الله: "إنما دعا لهما بالبركة؛ لأن مولده بمكة وهي من اليمن، ومسكنه ومدفنه بالمدينة وهي من الشام". • قال الإمام المباركفوري رحمه الله: "والظاهر في وجه تخصيص المكانين بالبركة؛ لأن طعام أهل المدينة مجلوب منهما". ملائكة الرحمن باسطة أجنحتها على الشام: • عن زيد بن ثابت رضي الله عنه، قال: ((كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم نؤلِّف القرآن من الرِّقاع، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: طوبى للشام، فقلنا: لأي ذلك يا رسول الله؟ قال: لأن ملائكة الرحمن باسطة أجنحتها عليها))؛ [أخرجه الترمذي، وقال: هذا حديث حسن غريب، قال الألباني: حديث صحيح]. • قال الإمام الطيبي رحمه الله: "ومعنى طوبى لك: أصبت خيرًا وطيبًا". • قال الإمام المباركفوري رحمه الله: "قوله: ((طوبى للشام)) تأنيث أطيب؛ أي: راحة وطيب عيش حاصل لها، ولأهلها، ((باسطة أجنحتها عليها))؛ أي على بقعة الشام وأهلها، بالمحافظة عن الكفر؛ قاله القاري". • قال المناوي رحمه الله: "أي: تحُفُّها وتحوطها بإنزال البركة، ودفع المهالك والمؤذيات". الطائفة المنصورة في الشام: • عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يزال أهل الغرب ظاهرين حتى تقوم الساعة))؛ [أخرجه مسلم]. • قال الإمام النووي رحمه الله: "قال معاذ: هم بالشام، وجاء في حديث آخر هم ببيت المقدس، وقيل: هم أهل الشام". • قال العلامة الألباني رحمه الله: "واعلم أن المراد بأهل الغرب في هذا الحديث أهل الشام؛ لأنهم يقعون في الجهة الغربية الشمالية للمدينة المنورة، التي فيها نطق عليه الصلاة والسلام بهذا الحديث الشريف، ففيه بشارة عظيمة لمن كان فيها من أنصار السنة، المتمسكين بها الذَّابِّين عنها، والصابرين في سبيل الدعوة إليها، نسأل الله تعالى أن يجعلنا منهم، وأن يحشرنا في زمرتهم تحت لواء صاحبها محمد صلى الله عليه وسلم". • قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "بها الطائفة المنصورة إلى قيام الساعة الثي ثبت فيها الحديث في الصحاح من حديث معاوية وغيره: ((لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خالفهم، ولا من خذلهم حتى تقوم الساعة))، وفيهما عن معاذ بن جبل قال: وهم بالشام. وفي صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((لا يزال أهل الغرب ظاهرين لا يضرهم من خذلهم، حتى تقوم الساعة))؛ قال أحمد بن حنبل: أهل الغرب هم أهل الشام. • عن نصر بن علقمة الحضرمي - من أهل حمص - أن عمير بن الأسود، وكثير بن مرة الحضرمي قال: إن أبا هريرة وابن السمط كانا يقولان: لا يزال المسلمون في الأرض حتى تقوم الساعة؛ وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تزال من أمتي عصابة قوَّامة على أمر الله عز وجل، لا يضرها من خالفها، تقاتل أعداءها، كلما ذهب حرب، نشب حرب قوم آخرين، يُزِيغ الله قلوب قوم ليرزقهم منه، حتى تأتيهم الساعة، كأنها قطع الليل المظلم، فيفزعون لذلك، حتى يلبِسوا له أبدان الدروع، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هم أهل الشام، ونكت رسول الله صلى الله عليه وسلم بإصبعه يومئ بها إلى الشام حتى أوجعها))؛ [صححه الألباني برقم (3425)، وقال: أخرجه البخاري في التاريخ، ويعقوب بن سفيان في (المعرفة)]. • قال العلامة الألباني رحمه الله: "وقد جاء في أهل الشام، وأنهم الطائفة المنصورة أحاديث أخرى في أسانيدها ضعف، كنت أشرت إليها في الضعيفة، تحت الحديث (6104)، ثم وقفت على هذا، فبادرت لإخراجه هنا لصحة إسناده. واعلم أن الشام هو الإقليم الشمالي من شبه جزيرة العرب؛ ويشمل: سوريا ومنها أنطاكية، والأردن، وفلسطين إلى عسقلان، كما في معجم البلدان. دمشق من خير مدائن الشام: • عن أبي الدرداء رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن فسطاط المسلمين يوم الملحة بالغُوطة، إلى جانب مدينة يُقال لها: دمشق؛ من خير مدائن الشام))؛ [أخرجه أبو داود، وصححه الألباني]. • قال عبدالله بن سلام رضي الله عنه: "دمشق معقل الناس في آخر الزمان من الملاحم". تكفَّل الله عز وجل بالشام وأهله: • عن عبدالله بن حوالة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((سيصير الأمر إلى أن تكونوا جنودًا مجندةً: جند بالشام، وجند باليمن، وجند بالعراق، قال ابن حوالة: خِرْ يا رسول الله إن أدركت ذلك، فقال: عليك بالشام؛ فإنها خِيرة الله من أرضه يجتبي إليها خيرته من عباده، فأما إذ أبيتم فعليكم بيمنكم، واسقوا من غُدَرِكم؛ فإن الله توكل لي بالشام وأهله))؛ [أخرجه أبو داود، وصححه الألباني]. • قال الإمام العز بن عبدالسلام رحمه الله: "أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الشام في كفالة الله تعالى، وأن ساكنيه في كفالته وحفظه وحمايته، ومن حاطه الله تعالى وحفِظه، فلا ضَيعةَ عليه". • قال الإمام ابن العربي رحمه الله: "وقد رُوِيَ: ((إن الله تكفَّل لي بالشام وأهله))، ورُوِيَ (( أن عمودًا من نور، رآه النبي عليه السلام في المنام أخذ من تحت رأسه، فذهب به إلى الشام، ألَا إن الإيمان إذا وقعت الفتن بالشام))، ((ألا إن الإيمان حين تقع الفتن بالشام))، وهذه أحاديث يرويها أهل الشام". • قال الإمام الطيبي رحمه الله: "يعني: إن الشام مختار الله من أرضه، فلا يختارها إلا خير الله من عباده، فإن أبيتم أيها العرب ما اختاره الله تعالى، واخترتم بلادكم، ومسقط رأسكم من البوادي فالزموا يَمَنَكم، واسقوا من غُدَرِها؛ فإنها أوفق لكم من البوادي، ألَا ترى كيف جمع الضميرين في القريتين بعد أن أفرده في قوله: ((عليك بالشام))، فعُلِم من هذا أن الشام أولى بالاختيار، واليمن عند الاضطرار... فإن الله تعالى توكل... بالشام... والمعنى أنه تعالى ضمِن حفظها، وحفظ أهلها من بأس الكفرة واستيلائهم، بحيث يتخطفهم، وتدمرهم بالكلية". الشام عقر دار المؤمنين: • عن سلمة بن نفيل رضي الله عنه قال: "كنت جالسًا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رجل: ((يا رسول الله، أذال الناس الخيل، ووضعوا السلاح، وقالوا: لا جهادَ؛ قد وضعت الحرب أوزارها، فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم بوجهه، وقال: كذبوا، الآن جاء القتال، ولا يزال من أمتي أمة يقاتلون على الحق، ويزيغ الله قلوب أقوام، ويرزقهم منهم حتى تقوم الساعة، وحتى يأتي وعد الله، والخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة، وهو يوحي إليَّ: أني مقبوض غير ملبَّث، وأنتم تتبعوني أفنادًا، يضرب بعضكم رقاب بعض، وعقر دار المؤمنين الشام))؛ [أخرجه الإمام النسائي، وصححه العلامة الألباني]. • قال الإمام ابن الأثير الجزري رحمه الله: "((عقر دار الإسلام الشام))؛ أي: أصله وموضعه، كأنه أشار به إلى وقت الفتن؛ أي: يكون الشام يومئذٍ آمنًا منها، وأهل الإسلام به أسلمَ" . • عن بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جده رضي الله عنه، قال: ((قلت: يا رسول الله، أين تأمرني؟ قال: ها هنا، ونحا بيده نحو الشام))؛ [أخرجه الترمذي، وقال: هذا حديث حسن صحيح]. • قال الإمام ابن العربي رحمه الله: "ذكر حديث بهز حين حضه النبي صلى الله عليه وسلم على الشام وهو عند النبي عليه الصلاة والسلام: ((أين تأمرني أن أكون؟ قال: ها هنا، ونحا بيده نحو الشام)). • قال الإمام المناوي رحمه الله: "أي: الزموا سُكْناه؛ لكونها أرض المحشر والمنشر، أو المراد آخر الزمان؛ لأن جيوش المسلمين تنزوي إليها عند غلبة الفساد". خيار أهل الأرض من لزم الهجرة إلى الشام حين تكثر الفتن: • عن عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ستكون هجرةً بعد هجرةٍ، فخيار أهل الأرض ألزمُهم مُهاجَرَ إبراهيمَ، ويبقى في الأرض شِرار أهلها، تلفِظهم أرضوهم، تقذَرُهم نفس الله، وتحشرهم النار مع القردة والخنازير))؛ [أخرجه الإمام أبو داود، وصححه العلامة الألباني في السلسلة الصحيحة: 3203]. • قال الإمام الطيبي رحمه الله: "المعنى: ستكون هجرة إلى الشام بعد هجرة كانت إلى المدينة... كأنه قيل سيحدث للناس مفارقة من الأوطان، وكل إنسان يفارق وطنه إلى آخر، يهجره هجرة بعد هجرة، فخيارهم من يهاجر أو يرغب إلى مهاجر إبراهيم عليه الصلاة والسلام؛ وهو الشام... وذلك حين تكثر الفتن، ويقل القائمون بأمر الله تعالى في البلاد، ويستولي الكفرة الطغام على بلاد الشام، وتبقى الشام يسوسها العساكر الإسلامية منصورة على من ناوأهم، ظاهرين على الحق، حتى يقاتلوا الدجال؛ فالمهاجِرُ إليها حينئذٍ فارٌّ بدينه، ملتجئ إليها لصلاح آخرته، يُكثِّر سواد عباد الله الصالحين القائمين بأمر الله تعالى". • قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "أخبر أن خيار أهل الأرض من ألزمهم مهاجر إبراهيم، بخلاف من يأتي إليه ثم يذهب عنه، ومهاجر إبراهيم هي الشام". • قال أبو أمامة رضي الله عنه قال: "لا تقوم الساعة حتى يتحول خيار أهل العراق إلى الشام، ويتحول شرار أهل الشام إلى العراق"؛ [رواه أحمد، وابن أبي شيبة]. • قال عبدالله بن عمر رضي الله عنهما: "يأتي على الناس زمان لا يبقى فيه مؤمن إلا لحق بالشام"؛ [رواه عبدالرزاق في مصنفه، والحاكم في مستدركه]. سُكنى الشام عند اقتراب الساعة؛ لأن المحشر يكون بها: • قال الإمام ابن العربي رحمه الله: "روى أبو عيسى حديثًا صحيحًا ((أن نارًا تخرج من بحر حضرموت قبل يوم القيامة تحشر الناس، قالا: يا رسول الله، فما تأمرنا؟ قال: عليكم بالشام))، وهذا حديث صحيح السند، صحيح المعنى، وفي الصحيح أنها تقيل مع الناس حين قالوا، وتبيت معهم أين باتوا، وهذا حديث لا تؤمن به المعتزلة ولا الْمُلْحدة؛ لأن نارًا تخرج من بحر باطل عندهم، تعسًا لهم قد رأوا الشجر الأخضر يخرج منه النار، وهذا عنوان ذلك ودليله، والمراد بهذا الحديث الصحيح، ((الكون بالشام عند اقتراب الساعة؛ لأن المحشر يكون بها))". • قال الإمام الطيبي رحمه الله: "قوله: ((نار من نحو بحر حضرموت)) يحتمل أن يكون رأي العين، وهو الأصل، ويحتمل أنها فتنة عبَّر عنها بالنار، وعلى التقديرين، فالوجه فيه أنها قبل قيام الساعة؛ لأنهم قالوا: فما تأمرنا؟ يعني في التوقي عنها، فقال: ((عليكم بالشام))". لا خيرَ في الناس إذا فسد أهل الشام: • عن معاوية بن قرة، عن أبيه رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا فسد أهل الشام فلا خير فيكم، لا تزال طائفة من أمتي منصورين لا يضرهم من خذلهم حتى تقوم الساعة))؛ [أخرجه الإمام الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح]. • قال الإمام ابن العربي رحمه الله: "وأما مدحه للشام عند الفتنة؛ فلأنه كان مأوى الجهاد والرباط، فإذا فسد أهله، فسد الناس كلهم؛ لأنهم إذا تركوا الجهاد ذَلُّوا". الشام أرض المحشر والمنشر: • قال ابن عباس رضي الله عنهما: "من شكَّ أن المحشر بالشام؛ فليقرأ هذه الآية: ﴿ هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ ﴾ [الحشر: 2]، قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذٍ: ((اخرجوا، قالوا: إلى أين؟ قال: إلى أرض المحشر))". • قال الحسن رحمه الله: "معنى أول الحشر: هو أن الشام أرض الحشر والمنشر". • قال الإمام الطبري رحمه الله: "قوله: ﴿ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ ﴾ [الحشر: 2] يقول تعالى ذكره: لأول الجمع في الدنيا، وذلك حشرهم إلى أرض الشام". • قال ابن كثير رحمه الله: "سيَّرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأجلاهم من المدينة، فكان منهم طائفة ذهبوا إلى أذرعات من أعلى الشام؛ وهي أرض المحشر والمنشر". • قال الإمام الشوكاني رحمه الله: "قيل: آخر الحشر هو حشر جميع الناس إلى أرض المحشر؛ وهي الشام".
قيمة الإنسان الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا، وبعد: يقول ربنا سبحانه وتعالى في محكم كتابه العزيز: ﴿ وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ﴾ [هود: 7]، تأمل في كلمة ﴿ لِيَبْلُوَكُمْ ﴾ ، فاللام عند أهل اللغة تُسمَّى لام السبب والعلَّة، والمعنى أن خلق السماوات والأرض إنما هو من أجلك أيها الإنسان لكنك تجهل حقيقة ذاتك ووجودك. وكم تواردت كلمة (لكم) في كتاب الله تعالى؟ والتي ترشد وتدل على عظيم ما أسنده الله تعالى لك أيها المخلوق المكرم؛ الإنسان. حين تكلَّم الباري سبحانه عن الأرض والسماء قال سبحانه: ﴿ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ ﴾ [البقرة: 22] وحين جاء على ذكر النجوم قال سبحانه: ﴿ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا ﴾ [الأنعام: 97]، وحين ذكر الليل قال جل وعلا: ﴿ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ ﴾ [يونس: 67]، وحين ذكر الفُلك قال سبحانه: ﴿ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ ﴾ [إبراهيم: 32]، وحين ذكر الأنعام قال سبحانه: ﴿ وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ ﴾ [النحل: 5]، وقال أيضًا: ﴿ خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ ﴾ [الزمر: 6] وحين ذكر النبات والزرع قال جل وعلا: ﴿ يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ [النحل: 11]، وحين ذكر الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم قال جل وعلا: ﴿ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ﴾ [النحل: 12]. وأنت تتأمَّل فيما مضى من آيات، تجد نفسك أيها الإنسان في واحة عظيمة مخلوقة من أجلك وأنت السيد المستخلف على تلك الأمانات، بل أنت الكون كله بصورة مصغرة، فأنت الأرض وأنت السماء، فجسدك من طين كما قال المولى سبحانه: ﴿ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ ﴾ [الأنعام: 2]، وقال سبحانه: ﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ ﴾ [المؤمنون: 12]، وقال جل وعلا: ﴿ إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ ﴾ [ص: 71]. وروحك وهي الجزء المكمل لقصة وجودك نفحة من السماء، قال جل وعلا: ﴿ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ ﴾ [الحجر: 29]. فصِرتَ أنت -أيها الإنسان- الأرض وأنت السماء، بل أنت عناصر الطبيعة المبثوثة في مخلوقات الله تعالى، والناظر في جدول عناصر الطبيعة الكيميائية يراها (118) عنصرًا، يحمل الإنسان منها بحسب ما اكتُشف لغاية اليوم نصفها تقريبًا، ففيه (هيدروجين وأوكسجين ونتروجين وكاربون وكبريت وفسفور ومغنسيوم وكالسيوم وكلور وصوديوم وبوتاسيوم... وغيرها)، وهنا نكتشف أن الإنسان في الحقيقة كون مُصغَّر: سماء، وأرض، وعناصر طبيعية. بل تلمس وأنت تقرأ القرآن الكريم معالم الارتباط بالكون الغيبي بين الإنسان وبين المخلوقات الغيبية مثل الملائكة والجن، ففي ساعة ما قبل الصفر الوجودي للإنسان يذكر ربنا سبحانه حوارًا بينه وبين الملائكة (المخلوقات الغيبية) عن المخلوق القادم الجديد، فيقول جل وعلا: ﴿ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 30]. وما ذلك إلا توطئة لما بعده من تكريم، فأسجد للإنسان عالم الملائكة، وجعل للمخلوقات الغيبية وظائف لتستكمل مهمة الوجود الإنساني، فمن الملائكة حَفَظة، قال سبحانه: ﴿ وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ ﴾ [الانفطار: 10 - 12]، وقال جل وعلا: ﴿ لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ ﴾ [الرعد: 11]. ومنها ملائكة تتبع حِلق الذكر، وأخرى تجتمع في صلاتَي العصر والفجر، وأخرى تحمل الروح لتضعها في الجنين، وملائكة لنزع الروح، وكلها وردت أعمالها ووظائفها في القرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة المُطهَّرة. وكذا في عالم الجن، تلك المخلوقات الغيبية التي لها وظائف مكملة لقصة الاستخلاف الإنساني في الكون، فحين تقرأ ما ورد في كتاب الله تعالى من خطاب لذلك العالم تلمس جليًّا تفوُّق الإنسان على ذلك العالَم الخفي، فالرسائل الربانية لا يحملها إلا بني الإنسان، وهي من خصوصياته، فالرسل كلهم من الإنس، قال جل وعلا: ﴿ وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ ﴾ [الأحقاف: 29]، وقال سبحانه: ﴿ قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا ﴾ [الجن: 1]. وليعرف الإنسان حقيقة ماهيته وكيانه وسر وجوده فلنتأمل في قوله سبحانه: ﴿ وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ ﴾ [النحل: 61]، وقوله سبحانه: ﴿ وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا ﴾ [فاطر: 45]. وأنت تتساءل: ما سِرُّ هذا الفناء لكل دابة في حالة غياب الإنسان؟ فإنه سيتبادر إلى ذهنك إجابة واحدة وسريعة؛ أنه لا قيمة لدواب الأرض إذا غاب عنصرها الأساس وهو الإنسان، فتفنى مع فنائه، وتزول مع زواله، وهذا يؤكد حقيقة قيمة هذا المخلوق العجيب. وكذا لو تفكَّر أحدُنا في آية سورة الأحزاب، وهي قوله سبحانه: ﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا ﴾ [الأحزاب: 72] سترى أن استعداد السماوات والأرض لحمل أمانة التكليف واهية وضعيفة خلافًا لهذا الإنسان الذي أعَدَّ الله فيه ملكة التلقي والاستخلاف والعمران. وأختم لك أيها المبارك لتعرف حقيقتك -أيها الإنسان- أن لله تعالى يومًا عظيمًا تتغيَّر فيه ملامح الوجود كله (الواقعة، والزلزلة، والقارعة) يوم تُكوَّر الشمس، وتنكدر النجوم، وتُسيَّر الجبال، وتُعطَّل العِشار، وتُسجَّر البحار، يومٌ يختل فيه نظام الكون المعهود، فتُبدَّل الأرض غير الأرض والسماوات، وما ذاك إلا لانتقال هذا المخلوق من عالم الابتلاء والعمل إلى عالم الجزاء والخلود الأبدي. فكم أنت عظيم أيها الإنسان إذا ما فهمت الرسالة، وعملت وفق مراد ربك الخالق الذي أوجدك واستخلفك. اللهم إنا نسأل الخلود المقيم في جنات النعيم، وصلَّى الله وسلَّم على نبيِّنا محمد، وعلى آله وأصحابه وسلِّم تسليمًا كثيرًا.
بسام الجابي بقلم أحد محبِّيه كانت معرفتي بالأخ الحبيب المحقِّق المدقِّق المرحوم بسَّام عبد الوهَّاب الجابي في سنِّ الشباب ( وهو أصغر منِّي بسنتين )، وكان يعمل في دار القلم بدمشق أواخرَ السبعينات، وكنت أتردَّد عليه، وتوطَّدَت العَلاقةُ بيننا، وعندما علم بأنني قد كتبتُ تعليقاتٍ على كتاب ( متن الغاية والتقريب ) للقاضي ( أبو شجاع ) ولم أبلغ سنَّ الثلاثين عرَضَ عليَّ طباعته، فاستعظَمتُ ذلك، فشجَّعَني عليه قائلًا: ألستَ واثقًا ممَّا كتبت؟ قلتُ: بلى، قال: إذن هاتِه لأطبعَه، قلت: إذن لا تكتب اسمي عليه، قال: بل سأكتبُه لتلومَكَ الناسُ إذا أخطأت، ممَّا جعلني أحرِصُ على الدقَّة فيما أكتب، وعرَضتُه على المرحوم الشيخ هاشم المجذوب قبل طباعته فأثنى عليه وقدَّم له بمقدِّمة، وطُبع الكتاب الطبعة الأولى عام 1399هـ في دار البصائر التي كان قد أنشأها بسام حديثًا. ثم علَّمني فنَّ إخراج الكتب ( المونتاج )، وله فيه باعٌ طويل، فتعلَّمتُ ذلك بسرعة، ففرح بذلك وقال: صِرتَ أمهرَ منِّي فيه، وهذا يدلُّ على إخلاصه وحبِّه الخيرَ لغيره. وعندما عرَضَ صاحبُ دار الملَّاح تجهيزَ طباعة ( تفسير البيضاوي )، وكانت طبعةً فريدة كُتبت بخطٍّ جميل على هامش المصحف، لكنَّ التفسير لم يستوعِب الهوامش، وبقي فيه فراغاتٌ ملأها الدكتور مصطفى الخن بزيادات على قدر الفراغات، فعرَضَ عليَّ المرحوم بسام القيامَ بهذا العمل، وآثرَني على نفسه فيه، فوافقتُ على ذلك، وكنت أختصر التعليقاتِ إن زادت على الفراغ، ومكَّنَني من استخدام مكتبه (في شارع العابد) وأدواته حتى أنجَزتُ المشروع في شهر رمضان 1399هـ. ولمَّا تخرَّجتُ في الجامعة وبحثتُ عن عمل فلم أوفَّق سافر إلى لبنان وأخذني معه؛ ليعرضَ على دُور النشر تجهيزَ كتب أو تحقيقها ليحصِّلَ لي عملًا، فجزاه الله عنِّي خيرَ ما جازى صديقًا عن صديقه. وعندما سافرتُ إلى الإمارات أراد طباعةَ كتاب ( الدُّرَر البَهيَّة فيما يلزمُ المكلَّفَ من العلوم الشرعية ) لأبي بكر شطا صاحب ( إعانة الطالبين )، وعرض عليَّ أن أعلِّقَ عليه، فقُمت بذلك، وطبعَه لي، وتدرَّجتُ في التحقيق والتعليق فأنجَزتُ كتاب ( مسائل التعليم ) المشهور ( بالمقدِّمة الحَضْرَمية ) لبافَضْل الحَضْرَمي، ونصحَني بطباعته لدى الشركة المتحدة، وطُبعَ طبَعاتٍ عديدةً حتى عُرِفَت طبعتي بين المحقِّقين، كلُّ ذلك بفضل الله، ثم بفضل المرحوم الجابي جزاه الله عنِّي خيرًا. أمَّا صفاتُه: فقد كان مستقلًّا في الرأي، حريصًا على وقته، امتاز بالجِدِّية والوَقار، آلَى على نفسه نشرَ دُرر من التراث بثوب قَشِيب وهيئة بهيَّة، وظلَّ مثابرًا على هدفه طولَ حياته، ولم تقتصِر تحقيقاتُه على فنٍّ واحد، بل حقَّق في علوم شتَّى في العقيدة والفقه واللغة والأدب والأعلام، حتى في النوادر والطُّرَف، وبارك الله بوقته فحقَّق وطبع قرابةَ مئتي كتاب . كانت جلَساتُه ممتعة، فيها الكثيرُ من الفوائد؛ إذ يخبرك بالطريف من مطالعاته، والأخطاء التي وقعَ فيها غيرُه من المحقِّقين. وكان لا يقتصر على السَّماع ممَّن يوافقه في الرأي، بل يسمع ممَّن يخالفه بأدب، ويستفيد منه. وكان يحبُّ الأطفال ويهتمُّ بهم ويسامرهم. ومن صفاته رحمه الله: كرمُه الشديد، فلا يبخل على جُلسائه ( وهو ذوَّاقة ) بأنواع من المأكولات يعدُّها بنفسه، وهو ماهرٌ في ذلك. مضى بسَّام الجابي إلى ربِّه في 20 من شعبان عام 1438هـ، وبقيَت آثارُه شاهدةً عليه، فذِكْرُه باقٍ لمن يُطالع كتبَه، وعملُه صدقةٌ جارية يعود نفعُها عليه في قبره. رحم الله أخي بسام، وجمعَني به في مستقرِّ رحمته، وبارك في ذرِّيته من بعده.
الاستشراق والرسول صلى الله عليه وسلم [1] (التنصير والسيرة النبوية) محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم الذي يبدو أن سلمان رشدي قد عناه بروايته وأسماه ماهوند، "بناءً على خلفيات تاريخيَّة قديمة"، أو موهوند؛ التي يأتي من معانيها الشيطان وأمير الظلام [2] - لم يسلم من هذا "التجريح" على مرِّ الزمان، والمتابعون لمسيرة الإسلام - من خلال ما كتبه عنه جمع من المُستشرقين وغيرهم - يَستطيعون رصد ما كتب عنه صلى الله عليه وسلم. إن ما يتعرَّض له خاتم الأنبياء وسيد المرسلين، سيد ولَد آدم محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم من هجوم مِن بعض القساوِسة، يبدو أن التأثير الصهيوني قد ظهر عليه جليًّا؛ ذلك أنه يكثر التأثير الصهيوني على بعض رعاة الكنائس الذين يؤيِّدون الوجود اليهودي في فلسطين المحتلَّة، على حساب الوجود الفلسطيني، مما يخلط هنا الجانب العقدي مع الجانب السياسي رغم الدعوة إلى فصل الدين عن السياسة. لعلَّ مِن آخر أشكال هذا الهجوم ما تَتناقله القنوات الفضائية الغربية بعد التداعيات التي صاحبت وأعقبَت حوادث يوم الثلاثاء 11 / 9 / 2001م الموافق 22 / 6 / 1422هـ، فهذا القس جيري فولويل أحد القيادات الدينية في الملَّة النصرانيَّة يقول عن محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم: "أنا أعتقد أنَّ محمدًا كان إرهابيًّا، وأنه رجل عنْف" [3] . مثل ذلك يقول بات روبرتسون، الذي رشَّح نفسه مرة لرئاسة الجمهورية في الثمانينيَّات الميلادية، وله قناة تنصيرية خاصة CBN [4] ، يقول عن نبي الهدى محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم: "إنه رجل متعصِّب إلى أقصى درجة، إنه كان لصًّا وقاطعَ طريق، إن ما يدعو إليه هذا الرجل ما هو إلا خديعة وحيلة ضخمة، إن 80% من القرآن منقول من النصوص النصرانية واليهودية، إن هذا الرجل كان قاتلًا سافكًا للدِّماء" [5] ، هكذا يتعرَّض نبيُّ الهدى محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم سيد البشر لهذا من أشخاص مسؤولين، إمَّا أن يكونوا قيادات دينية أو علمية أو سياسية، بتأثير مباشر أو غير مباشر من طروحات المستشرقين حول السيرة العطرة والسنة المطهَّرة، فهم ينهلون هذه الافتراءات من مَعين الاستشراق الذي قال عن رسول الله محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم أكثر مما قالته العرب المشركون عنه زمن البعثة، "فما مِن شيء شائن أو يفتقر إلى أيَّة بينة كان يستحيل قوله على محمد، فكما قال جيبرت النوجنتي Guibert of Nogent (حوالي 1053 - 1124)، مؤلِّف أقدَم السير عن النبي خارج إسبانيا، ردًّا على التساؤل عما إذا كانت الأشياء البغيضة التي يَرْويها عن محمد حقيقة من عدمها: "من المأمون أن نتحدَّث شرًّا عن شخص تتجاوز طبيعته الشريرة أيَّ سوء يمكن قوله" [6] . يستمرُّ التعرُّض لهذا الدين الذي جاء به محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم بالهجوم المباشر على رسول الله عليه الصلاة والسلام [7] ، فهذا فرانكلين جراهام ابن القس بيلي جراهام يقول عن هذا الدين: "إن الإرهاب جزء من التيار العام للإسلام، وإن القرآن يحضُّ على العنف، وإن الإسلام دين شرير"، وينضمُّ إليهم دانيل فيكتوس، من زعماء الكنيسة الإنجيليكية [8] . يدخل في هذه الأشكال الإهانة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم الإهانة إلى المسلمين من خلال تلك الرسوم الهزلية المسيئة (الكاريكاتورية) التي نشرتها صحيفة أوروبية مؤخرًا، فهبَّت الأمَّة احتجاجًا وغيرةً على الطاهر المطهر صلى الله عليه وسلم. هذا الحدَث والموقف منه استدعى الاستشراق مجددًا، من ناحية العودة إلى إسهامات المستشرقين في السيرة النبوية ثم السنة المطهرة، ومن ناحية مواصلة الاستمرار في الكتابة عن نبي الهدى صلى الله عليه وسلم بالبحوث العلمية، والمقالات الصحفية العجلى، ودون استباق للأمور، فإنه يتوقع لهذا النتاج الاتكاء على رؤى المستشرقين السابقين والمعاصرين، لا سيما مع بروز عاملَي عدم الانتماء لهذا الدين، والضعف الواضح في الحصيلة اللغوية. إن يكن تأثير الاستشراق في هذه الحادثة بعينها غير واضح، فإن التأثير اليهودي غير ظاهر كذلك، إلا أن البحث في خلفية القائمين على الصحيفة تقود إلى هذا التأثير، ويبدو أن للمراقب المستشار دانييل بايبس - اليهودي المتعصب ضد الإسلام والمسلمين - تأثيرًا من نوع ما، فيما حصل من هذه الصحيفة الغربية؛ إذ تبين أن له علاقةً ما برئيس تحرير الصحيفة، وإن كان دانيل بايبس نفسه يقلِّل من أهمية هذه العلاقة وأنها لا تتعدَّى إجراء مقابلة صحفية معه. لا يتوقع أن يقف الأمر في الإساءات للإسلام والمسلمين عند هذا الحدِّ؛ إذ إن من المتوقَّع أن تظهر علينا أنواع أخرى من الإساءات بأشكال وأساليب حديثة؛ سواء بالفلم أم باستخدام تقنية المعلومات، فقد أساءت هوليوود عاصمة السينما في العالم إلى عبدالله ورسوله موسى بن عمران عليه السلام، وإلى عبدالله ورسوله عيسى ابن مريم عليهما السلام أكثر من إساءة. إلا أنَّ هذه الهبة المتزامنة من الأمة أظهرت قدرًا من الاعتزاز برسول الله صلى الله عليه وسلم، تجعل هذه المحرِّكات تفكر مليًّا قبل أن تقدم على أي إساءة من مثل ما يتعرَّض له أنبياء الله؛ موسى بن عمران وعيسى ابن مريم عليهم الصلاة والسلام. كل هذه وغيرها تحتاج إلى مضاعفة الجهد على مختلف الصعد، والعديد من القنوات للدفاع عن نبي الهدى خاتم الرسل، ودين الإسلام خاتم الأديان، والكتاب المنزل خاتم الكتب. ما ذكرتُه هنا حول الموقف من نبي الهدى محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم ليس حديثًا، ولكنه يتجدَّد مع حصول أحداث تصطبغ بالتأثير العام، ولعلَّ ذلك يرجع إلى قيام الحروب الصليبية، حينما تبيَّن جهل شمال أوروبا بالإسلام وبنبي الإسلام الذي عدوه عندهم إلهًا من ثلاثين إلهًا من آلهة المسلمين، ويُدعى مهومد؛ كما ذكر ذلك ريتشارد سوذرن، الذي كتب عن صورة الإسلام في أوروبا في القرون الوسطى [9] ، وغير أولاء ذكروا أنَّ المسلمين يعبدون ثلاثة آلهة هم أبولون وماهون وزفاجان؛ كما يذكر كلود كاهن في كتابه الشرق والغرب زمن الحروب الصليبية [10] . لعل منطق "من جهل شيئًا عاداه" ينطبق على النظرة الغربية القديمة والحديثة لرسول الهدى محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم؛ ذلك أن من عرف هذا الرسول النبي الأمي [11] ، لا يَملك إلا أن يطريه، إطراءً يليق به رسولًا نبيًّا، لا إطراءً كما تطري النَّصارى المسيحَ عيسى بن مريم عليهما السلام، كما أن منطق العصيان على بصيرة حاضر هنا؛ إذ إن بعض المتهجمين على رسول الله يدركون بطلان هجومهم هذا، ولكنهم يصرُّون على ذلك من باب إنكار ظهور الشمس في وضح النهار. وليس يصحُّ في الأذهان شيء إذا احتاج النهارُ إلى دليلِ [1] نُشر هذا البحث: في: مجلة الجامعة الإسلامية (المدينة المنوَّرة)، عدد (1429هـ / 2008م). [2] انظر: وليد بن بلهيش العُمري: السيرة النبوية في دائرة المعارف البريطانية - دراسة تحليلية لما كُتب تحت مادَّة ((مُحَمَّد: النبي والرسالة))، ص 16، في: ندوة عناية المملكة العربية السعودية بالسنَّة والسيرة النبوية، المدينة المنوَّرة: مجمَّع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف بالمدينة المنوَّرة، 1425هـ / 2004م. [3] في التعرُّف على المزيد من هذا التوجُّه، لا سيما مواقف القس جيري فولويل انظر: بحث عن حياة فولويل، ص (104 - 115)، في: غريس هالسل: النبوءة والسياسة: الإنجيليون العسكريون في الطريق إلى الحرب النووية / ترجمة: مُحَمَّد السمَّاك، ط 6، بيروت: دار النفائس، 1426هـ / 2005م، 231 ص. [4] انظر: غريس هالسل: يد الله: لماذا تضحِّي الولايات المتَّحدة بمصالحها من أجل إسرائيل؟ ترجمة: مُحَمَّد السمَّاك، ط 2، القاهرة: دار الشروق، 1423هـ / 2002م، ص (13 - 33). [5] انظر: رسول مُحمَّد رسول: نقد العقل التعارُفي: جدل التواصُل في عالم متغيِّر، بيروت: المؤسَّسة العربية للدراسات والنشر، 2005م، ص 62. [6] انظر: زكاري لوكمان: تاريخ الاستشراق وسياساته: الصراع على تفسير الشرق الأوسط؛ مرجع سابق، ص (84). [7] انظر: مع جيري فولويل في أرض المسيح (معركة هَرْمَجدون)، ص (57 - 65)، في: غريس هالسل: النبوءة والسياسة: الإنجيليون العسكريون في الطريق إلى الحرب النووية؛ مرجع سابق، 231 ص. [8] انظر: مصطفى الدبَّاغ: إمبراطورية تطفو على سطح الإرهاب: الكتاب الذي يجيب على التساؤل الأمريكي: لماذا يكرهوننا؟ بيروت: المؤسَّسة العربية للدراسات والنشر، 2004م، ص 16 - 78. [9] انظر: ريتشارد سوذرن: صورة الإسلام في أوروبا في القرون الوسطى / ترجمة: وتقديم رضوان السيِّد، ط 2، بيروت: دار المدار الإسلامي، 2006م، ص 14. [10] انظر: كلود كاهن: الشرق والغرب زمن الحروب الصليبية / ترجمة: أحمد الشيخ، القاهرة: سينا للنشر، 1995م، ص (66 - 70). [11] يدور نقاش بين المستشرقين اليوم حول حقيقة أميَّة الرسول صلى الله عليه وسلم استنادًا إلى بعض إسهامات المسلمين في القرون الهجرية الأربعة الأولى، انظر: لخضر شايب: هل كان مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم أمِّيًّا؟ الحقيقة الضائعة بين أغلاط المسلمين ومغالطات المستشرقين، دمشق: دار قتيبة، 1423هـ / 2003م، 231 ص.
العلامة محمد الرابع الحسني وإسهاماته في تطوير الأدب الإسلامي العلَّامة السيد محمد الرابع الحسني الندوي، من أولئك الأعلام الأفذاذ الذين لا يجود بهم التاريخ إلا قليلًا، كان سماحته - بلا نزاع - من أساتذة الحركة الأدبية الإسلامية، ومن صفوة الكُتَّاب والدعاة المرشدين، والعلماء من الطراز الأول، وهو الذي جمع بين الإيمان العميق بالمبدأ، والفَهم العميق بروحه، والعلم العميق بدقائقه وأسراره، والقلم السَّلْسال اللَّبِق، واللسان العَذْب الذَّلِق، وهي مَيزات ومواهب قلما تجتمع في رجل واحد، إلا ما شاء ربك. الشيخ محمد الرابع الحسني الندوي اسم معروف في الأوساط العلمية والأدبية والدينية، وهو الاسم الذي كان يحتل مكانًا رفيعًا عاليًا حبيبًا في النفوس، بعد الإمام السيد أبي الحسن علي الحسني الندوي رحمه الله؛ هذا الاسم الذي تألَّق في سماء العالم الإسلامي بُرْهَة سعيدة من الزمن، ثم مُحيَ من صفحة الوجود، وسُجِّل في عالم الخلود. كان سماحته أديبًا أرِيبًا، ومؤلِّفًا قديرًا، وكاتبًا ذا أسلوب قَشِيب، قد اتَّسم بالسلاسة الأدبية، والرزانة العلمية، وغزارة المعرفة، جمع بذلك السمات المختلفة، وكان يتخذ أسلوبًا وعبارةً واضحة متناسبة مع الموضوع، وهو من خصائص البلاغة في كتابات الأدباء، وذلك بأن يكون الكلام وفقًا للمراد ومقتضى الحال، وأن يكون سهلًا سائغًا للقُرَّاء، وهي صفة تفوت كثيرًا من المشتغلين بالكتابة. هناك كثير من الإنجازات ما تحتوي عليها شخصيته الفريدة، ولكن أما دوره ككاتب، ومؤلف، وباحث، وخطيب، فحدِّث عن البحر ولا حرج، فالبيت يعرفه والحِلِّ والحرم. إن أيما رجل تتنوع قواه ومواهبه في مختلِفِ المجالات الفكرية والعلمية، أو يشتغل بتنظيم جماعة وإدارة مؤسسة، أو يشتغل بالدعوة والخطابة لا يستطيع أن يركِّز همَّه في التأليف والبحث والدراسة، أو يأتي فيه بشيء من جديد رائع، ويقوم في هذا المجال بدور يُذكَر، وخدمة تُشكَر، أو يسُدَّ فراغًا، ويملأ مكانًا شاغرًا، ولكن سماحة الشيخ محمد الرابع الحسني الندوي كذب هذا الخيال، ومؤلفاته كلها تشهد بذلك، وتدل على دراسة واسعة، وتفكير طويل، واستنباط رائع، واجتهاد سليم، ورزانة علمية لا تخلو منها حتى مقالاته. وليس على الله بمستنكَرٍ أن يجمعَ العالَمَ في واحدِ قد تعرضت في السطور الآتية لتعريف موجز بعديد من مؤلفاته الأدبية التي دَبَجَها يَراعُه، وهي برهان ساطع على روحه العلمية، وبراعته الأدبية، ونظرته العميقة، ودراسته الواسعة، رغم الأشغال المتلاحقة، والمواعيد المتلاصقة، وزيارات واجتماعات، وأحاديث ورحلات، في داخل البلاد وخارجها، وإشراف تنظيم هيئة الأحوال الشخصية المسلمة في الهند وسيرها على الوضع المقبول. 1- (الأدب العربي بين عرض ونقد): هذا الكتاب مجموعة دروس ألقاها المؤلِّف على طلبة جامعة ندوة العلماء لكناؤ الهند، وقد قام فيها بشرح اختلاف الأساليب الأدبية العربية في مختلف أدوار التاريخ العربي، كما قام بالتعريف بأصحاب هذه الأساليب مع بيان القيمة الأدبية لكل أسلوب، وقد سجَّل المؤلف هذه الدروس، ثم أعمل فيها التهذيب والتنقيح، وأضاف إليها نصوصًا أدبية من النثر؛ لتكون عونًا على التطبيق والشرح، على حد قوله، فكان من كل ذلك هذا الكتابُ. وقيمة هذا الكتاب العلمية على اختصاره أنه أول كتاب وُضِعَ لشبابٍ لم يعرفوا من الأدب العربي إلا مجموعات مختارات من النثر والشعر، ومعلومات يسيرة بدائية عن تاريخ الأدب العربي، على ما قال الإمام العلامة السيد أبو الحسن علي الحسني الندوي فيما قدمه لهذا الكتاب. يبدأ الكتاب بالتصدير، ثم بالمقدمة، ثم بتوطئة أدبية، وينتقل بعد ذلك إلى الفصول؛ وهي حقيقة الأدب، والنقد والتحليل، والنماذج وقيمتها الأدبية، وهذا الفصل الأخير يتناول الأدب حسب العصور: • الأدب الجاهلي. • عصر الأدب الإسلامي الأول. • عهد المدنية والحضارة. • النهضة الحديثة. ويختتم الكتاب بثبت للمراجع. إن هذا الكتاب يعتبر خدمةً جليلة لطلاب الأدب في بلد غير عربي، وخلاصة مفيدة للأدب العربي الأصيل. 2- (منثورات من أدب العرب): إن هذا الكتاب حلقة ذهبية في سلسلة كتب اللغة العربية والأدب العربي، التي تكلَّفت ندوة العلماء بوضعها ونشرها وتقديمها إلى شقيقاتها من دُور التعليم الإسلامي العربي، فقد سعدت بتقديم كتب ومجاميعَ تسدُّ عوزًا كبيرًا في اللغة العربية، وتعرض آدابها عرضًا جميلًا صحيحًا، يجدر بمكانة هذه اللغة وسعتها وجمالها. هذا هو الكتاب الذي يجمع بين البيان العربي الْمُشْرِق، والفكرة الإسلامية الصافية، والروح الدينية القوية، قد اقتبس فيه المؤلف من كُتُبِ السيرة والتاريخ والأدب والدين قطعًا نابضة، مشرقةَ الديباجة، واضحة الفكرة، إسلامية النزعة، تغذي الْمَلَكَةَ الأدبية، والعاطفة الدينية في وقت واحد، وتمثل الأخلاق العربية الفاضلة، والحضارة الإسلامية الْمُثْلَى، وقد جمع فيه المؤلف بين النثر البليغ، والشعر الرقيق، والأدب القديم، والأدب الحديث، فجاء كتابه مجموعة جامعة تغرس في قلوب الناشئة حبَّ هذه اللغةِ الكريمة التي يدرسونها، وحب الأخلاق والأغراض التي يحملها أدبها، وحب المجتمع الذي عاشت فيه هذه اللغة وآدابها، ويدفعهم إلى تقليد هذه الأساليب الأدبية السهلة الطبعية، ويَرَون أن كل ذلك ميسور، فتنشأ فيهم الثقة بنفوسهم وبدينهم، ولغتهم وقريحتهم. 3- (أضواء على الأدب الإسلامي): هذا الكتاب مجموعة لكلمات ومقالات، كَتَبَ غالبيتَها المؤلفُ مفتتِحًا لأعداد الصحيفة العربية الناطقة للجمعية الأدبية الإسلامية "رابطة الأدب الإسلامي العالمية"، التي صدرت عدة سنوات من مكتبها الرئيسي في ندوة العلماء لكناؤ، وكتب بعضها كبحوث لندوات علمية أدبية عُقِدَت في الهند وخارجها. وهي مقالات وإنتاجات أدبية تجمع بين التأثير البياني، وروعة الكلام الأدبي، وجمال التعبير، وقوة المعاني، وهي نموذج أدبيٌّ يتلاءم مع القيم الأدبية الصافية التي انبثقت من نماذج أصحاب الأساليب البليغة من المسلمين في مختلف أصناف الأدب ومجالاته المتنوعة. وبالجملة، فإن هذا الكتاب مُزْدانٌ ببيان أهمية الأدب الإسلامي ومزاياه وخصائصه البارزة، والنظرية التي يوجِّهها الإسلام إلى الأدب، ومسيرة الأدب الإسلامي، والفرق بين الأدب الإسلامي والأدب الجاهلي، وما أثَّرت الدعوة الإسلامية في الأدب، والقيمة الأدبية للمناجاة والابتهالات، ومزاياها الفنية، وسمات النبوة وطبائع البشر في الكلام النبوي، وأنماط جديدة للأدب، ودراسة مذاهب الأدب الغربية، وجود العرب في ضوء الشعر العربي، واختتم الكتاب بسرد موجز لخصائص الأدِيبَينِ الكبيرين الشهيرين العلامة السيد سليمان الندوي، والشاعر الإسلامي عمر بهاء الدين الأميري، مع عرض نصوصهما الأدبية القيِّمة الجليلة. 4- (الغزل الأردي محاوره ومكانته في الشعر): قد أدى سماحة المؤلف خدمة جليلة في الأدب بعرض الغزل الأردي للقرَّاء العرب، وتعريفه بنماذج قيِّمة منه، وهذا الكتاب بحث ممتع يدخل في التاريخ والنقد كليهما، فإنه قارن بين الغزل الأردي والغزل العربي، وبين خصائص الغزل في اللغة الفارسية والأردية والعربية كذلك، وبحث تطوره من عهد النشأة إلى العصر الحديث، وتعرف مصادر اللغة العربية القديمة، ويجد القارئ في النماذج التي عرضها المؤلف في كتابه أن الغزل الأردي يدور حول قضايا الحياة، والتعامل مع الناس، وكل ما يثير في القلب عاطفة الحب أو الكراهية، أو تعليق على حادث أو رد فعل، وهو صِنف من الشعر في الأردية، وفي الشعر العربي موضوع. وهذا الكتاب إضافة قيِّمة في المكتبة الأدبية خاصة النقد الأدبي؛ فإن اللغة الأردية ظلَّت مجهولة لدى الأدباء العرب عامة، اللهم إلا الأساتذة الذين يدرُسون اللغات الشرقية من الفارسية والأردية، وعددهم معدود على البَنان. قد استعرض المؤلف في هذا الكتاب تاريخ الغزل في اللغة الأردية، وتاريخ اللغة الأردية، ونشأة أدبها، وأبرز فيه المؤلِّف تأثير العنصر الإسلامي الذي يلاحَظ في غزل بعض الشعراء، وهو بمثابة توظيف الغزل للدعوة والإرشاد، وترسيخ الإيمان بالله، والقدر بخيره وشره. 5- (رسالة المناسبات الإسلامية): هذا الكتاب يضم مقالاتٍ وأحاديثَ كَتَبَها وألَّفها سعادة الشيخ محمد الرابع الحسني الندوي رحمه الله حول مناسبات دينية، وموضوعات إسلامية، بروح توجيهية خالصة، وأسلوب أدبي شيق ممتع رفيع، وهي تنطوي على مفاهيمَ عالية، ومعانٍ سامية، مما يتعلق بالحياة الإسلامية شبه المفقودة اليوم والمطلوبة، كما أنها تحمل غذاءً دَسِمًا لأولئك الملتزمين بالدين، والمعجبين بالإسلام وتعاليمه، الذين لا يبغون عنها حِوَلًا، ولا يرضَون عنها بديلًا. يبدأ الكتاب بكلمة المؤلف، ثم بالمقدمة، وينتقل بعد ذلك إلى العناوين الآتية: • الإسراء والمعراج. • الصيام وعيد الفطر. • الحج وعيد الأضحىز • دروس الهجرة. • وشهر الربيع، وهلم جرًّا. 6- (العالم الإسلامي اليوم: قضايا وحلول): يشتمل هذا الكتابُ على المقالات التي كتبها فضيلة المؤلف في مناسبات مختلفة، ألْهَمَها انفعاله بما وقع في العالم الإسلامي من أحداث ووقائع واتجاهات، وما تثور فيه من قضايا تهُمُّ كل من يحمل الهمَّ الإسلامي. إن الخطاب في هذه المقالات موجَّه إلى الإخوة العرب؛ لأنها بلسانهم، ونُشرت في صحيفة عربية، وتتميز بالعاطفة كما تتميز بالمطالعة العميقة، والفكر الغائر، فيجد القارئ ألوانًا مختلفة في هذه المقالات؛ ففيها مقالات تغلُب عليها العاطفة، ومقالات تغلُب عليها طبيعة التعليم والتربية، وفيها مقالات تغلُب عليها الدراسة العلمية والتفكير. تتناول هذه المقالاتُ الموضوعاتِ التعليميةَ والتربوية، وبناء المجتمع الإنساني، ومناهج الدعوة ومقتضياتها، وترشيد الصحوة الإسلامية، وبيان المزالق فيها، وأساليب الغزو الفكري، وطرق معالجتها، وبيان خصائص الأمة الإسلامية، ومسؤوليات الدعاة، ودراسة الأوضاع التي يمر بها العالم العربي، وخاصة ممارسة الوسائل القيمة التي لجأت إليها بعض القيادات السياسية؛ خوفًا من الثورة المضادة، ودرأً لردِّ فعل الشعوب المقهورة. 7- (قيمة الأمة الإسلامية منجزاتها وواقعها المعاصر): يحتوي هذا الكتاب على الدراسات والمقالات التي أعدَّها المؤلف لندواتٍ علمية أدبية عُقِدَت في عدد من البلدان العربية، وهي تحمل في طيِّها معلومات مؤثرة مفيدة، وهي عصارةُ تفكيرٍ عميق، ونظرٍ واسع إلى طريق الرشد والهداية. قد قام فيه المؤلف ببيان وسطية الأمة الإسلامية، ودلالة القرآن والسنة عليها، وخصائص هذه الأمة ومسؤولياتها نحو الإنسانية، ومجالات عظمتها ومميزاتها، وألقى الضوء على الصحوة الإسلامية عواملها وأسبابها، ووضعية العلوم الإنسانية في العالم الإسلامي اليوم، وفي الجامعات ومراكز البحوث وتأثيرها على الحياة، ومكانة المسلم في نظر الدكتور محمد إقبال. وبالجملة؛ فإن هذه المقالات كلها تدور حول الأمة الإسلامية، وتعبِّر عن خصائصها الدينية، والثقافية، والنفسية، وواقعها المعاصر؛ حيث تبدو الأمة ممزَّقة موزَّعة حائرة، ولكنها أبدًا صامدة، لا تقبل التحلُّل والذوبان؛ لارتباطها بالرسالة الخالدة الكاملة؛ فهي أمة القيادة والهداية، أراد الله لها أن تحمل مسؤولية الوصاية على العالم: ﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ﴾ [المائدة: 3]، وما أراده نافذ، ولقد بدأت الصحوة وزالت الغفوة، وتراجع الظلام، وإن الصبح موعدُه قريب. 8- (الأدب الإسلامي وصِلته بالحياة): هذا الكتاب - في الحقيقة - بحث قد أعدَّه فضيلة المصنِّف ليُعرَضَ في الندوة العالمية الأولى، المنعقدة في رحاب جامعة ندوة العلماء لكناؤ الهند في عام 1401ه‍، وقد بحث فيه المؤلف صلة الأدب بالإسلام بصفة خاصة، وشرح جوانب هذا البحث في توسُّعٍ وإيجاز، وبيَّن مَيزةَ الأدب الإسلامي بين الآداب العالمية وسَعَتَه، وعُنِيَ باهتمام الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته رضي الله عنهم أجمعين بالأدب والشعر بصفة خاصة، وعرض نماذجَ رائعةً، وقطعًا بيانية خالدة من كلام الرسول صلى الله عليه وسلم، ورفع اللثام عن خصائص الأدب النبوي الكريم، وما يمتاز به من الشعور الرقيق، والعاطفة الفيَّاضة، والأسلوب الجَزْلِ والمنهج التربويِّ الحكيم، ثم عَرَضَ لأدب الصحابة رضي الله عنهم، وأشار إلى جوانبه البلاغية والنفسية والدعوية، وبعد ذلك جاء هذا الكتاب على وجازته غنيًّا بالمواد البلاغية التاريخية، دافقًا بالحيوية والقوة الرشاقة، يُشكَر عليه صاحبه، ويعترف بمجهوده وسلامة ذوقه، وسعة اطِّلاعه. 9- (تاريخ الأدب العربي، العصر الإسلامي): هذا الكتاب يُعَدُّ من الكتب التي ظهرت لأول مرة في تاريخ الأدب العربي في شبه القارة الهندية، وقد أعده المؤلف تكملة لكتاب "تاريخ الأدب العربي (العصر الجاهلي)"، لشقيقه العزيز الأديب البارع، والكاتب القدير، محمد واضح رشيد الندوي، وهذان كتابان قد تم إعدادهما في الوقت الذي كانت المدارس العربية الهندية فيه بأشد الحاجة إليهما، فهما من أيادٍ خالدة سبقت من قبل صاحبيهما على أهل المدارس في الهند، وإثراء لمكتبة الأدب العربي بثروة قيمة. استهل المؤلف كتابه بكلمته التمهيدية، ثم قسم الكتاب على القسمين: القسم الأول: صدر الإسلام. والقسم الثاني: عهد بني أمية. أما القسم الأول، فقد رفع فيه المؤلف الستار عن الحياة العربية قبل ظهور الإسلام، وما كان العرب فيه من الإطار الجمهوري، والأُمِيَّة مع البراعة اللغوية والأدبية، والتمتع بالهوى والرغبات والنظرة إلى المرأة وطلب الشهرة، والسخاء، والشجاعة وطلب النار، وإغاثة الملهوف، والحالة الدينية، وظهور الإسلام وتأثيره، ومبادئ دعوة الإسلام. ثم قام ببيان أصول الأدب الإسلامي، وتأثير الدين في حياة العرب، ونظرة الإسلام إلى الأدب، والروح الإسلامية للأدب، واعتناء الصحابة بالشعر، والمفهوم الإسلامي للأدب، وأهمية النثر في العهد الجديد، وبعد ذلك بيَّن دعائم أدب العهد الجديد، والنثر وأعلامه في العهد الإسلامي الأول، مع عرض نصوصهم الأدبية، ومكانة الشعر في صدر الإسلام، وأعلام الشعراء مع سرد كلامهم. وأما القسم الثاني، فيتناول تاريخ الأدب في عهد بني أمية مما فيه: أدب هذا العهد؛ أسسه وأصنافه، والعوامل والمؤثرات من الخلفية الاجتماعية والسياسية، والحالة الاقتصادية، أغراض الأدب وأصنافه من الشعر والنثر، نهضة جديدة للشعر، الشعر ورجاله في هذا العهد.
غزوة حمراء الأسد تُعَد هذه الغزوة متممة لغزوة أُحد، وقد ذكرت في القُرْآن مباشرة عَقِيب ذكر غزوة أُحد؛ وذلك أن أبا سفيان بعد أن انسحب بجيشه وقال: يوم بيوم بدر، والحرب سجال، وتوعد المسلمين بحرب في العام القادم، مضى باتجاه مكة، لكن كان في الجيش من لم يعجبه هذا الانسحاب، فتشاوروا في العودة إلى المدينة وغزوها، وعلم النبي صلى الله عليه وسلم بما عزمت عليه قريش، فورد أن أبا سفيان قابل في الطريق ركبًا من عبدالقيس فقال لهم: بلغوا محمدًا أنا قد أجمعنا الرجعة على أصحابه لنستأصلهم، فمر الركب برسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه: ﴿ حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ﴾ [آل عمران: 173]، فندب المقاتلين الذين كانوا معه في أُحد بالتحرك إلى حمراء الأسد مكان تجمع قريش، ولم يستثنِ الجرحى من الخروج، ولبى الجميع نداء رسول الله صلى الله عليه وسلم فانطلقوا نحو حمراء الأسد، وقد امتدح الله هؤلاء المؤمنين فقال: ﴿ الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ * الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ * إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [آل عمران: 172 - 175]، وهناك رواية جيدة: أن النبي خرج إلى حمراء الأسد، وهي على بُعد سبعة أميال من المدينة، فلقيه معبد الخزاعي وهو يومذاك مشرك - وخزاعة مسلمها وكافرها هواهم مع النبي صلى الله عليه وسلم - فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد عز علينا ما أصابك، ثم خرج فلقي أبا سفيان ومن معه بالروحاء قد أجمعوا الرجعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليستأصلوا المسلمين، فلما رأى أبو سفيان معبدًا قال: ما وراءك؟ قال: محمدٌ قد خرج في أصحابه يطلبكم في جمعٍ لم أرَ مثله، قد جمع من تخلف عنه وندموا على ما صنعوا وما ترحل حتى ترى نواصي الخيل، قال أبو سفيان: فوالله قد أجمعنا الرجعة لنستأصلهم، قال: إني أنهاك عن هذا، فثنى ذلك أبا سفيان ومن معه وعاد، وهكذا غيَّر أبو سفيان رأيه وخشي الهزيمة ومضى في طريقه إلى مكة، وعاد المسلمون إلى المدينة وقد حازوا ثواب هذه الغزوة دون أن يلقوا قتالًا أو يمسهم سوء. وورد أن صفوان بن أمية قال: يا قوم، لا تفعلوا؛ فإن القوم قد حزنوا، وأخشى أن يجمعوا عليكم من تخلف من الخزرج، فارجعوا والدولة لكم، فإني لا آمن أن تكون الدولة عليكم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أرشدهم صفوانُ وما كان برشيد، والذي نفسي بيده، لقد سوِّمت لهم الحجارة، ولو رجعوا لكانوا كأمسِ الذاهب) )، فانصرف القوم سراعًا. ♦ ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم ظفر بأبي عزة، وكان - كما مر - عفا عنه بعد أسره ببدر على ألا يظاهر على المسلمين، ولما قدم ليقتل قال: يا محمد، امنن علي، فقال له: ((المؤمن لا يلدغ من جحر مرتين) )، وقُدِّم فضربت عنقه. ♦ وتخلف معاوية بن المغيرة بن أبي العاص، وهو الذي جدع أنف حمزة في أُحد، تخلف ليتجسس على المسلمين، ولما رأى أن أمره اكتشف لجأ إلى قريبه عثمان وقال له: أجرني، فأجاره عثمان وخرج ليبلغ النبي صلى الله عليه وسلم عنه، لكنه فوجئ أن النبي أمر أصحابه أن يخرجوه من دار عثمان، فأتوا به، فتشفع به عثمان وقال: أمهِلوه ثلاثة أيام فإذا انقضت فدونكم به، فخرج ولحق بقريش، لكنه ضل الطريق، ولما خرج المسلمون إلى حمراء الأسد وجدوه في اليوم الرابع، فأتوا به فضربت عنقه.
موسى عليه السلام (4) بعد أن قضى موسى الأجلَ الذي التزم به وأدَّاه على أكمل وجه، ألهمه الله عز وجل أن يتَّجه بأهله نحو مصر، وهو لا يعلم أن مراسيم السعادة تنتظره في الطريق، وأن الله عز وجل سيناديه ويكلِّمه ويناجيه بالوادي المقدس طوى، فسار بأهله ومعه قطيع من الغنم متجهًا إلى أرض مصر، وفي أثناء سيره مرَّت به ريح باردة في ليلة مظلمة، لم يتمكَّن معها من مواصلة السير؛ إذ اشتد بهم البرد، ولم يعرف اتجاه الطريق، وفجأة لاحتْ له نار أبصر عندها شجرة، فدخل عليه لذلك أُنسٌ ومسرَّةٌ، وقال لأهله: ﴿ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا ﴾ [طه: 10] سأذهب إليها، لعلِّي أجد عندها من يرشدنا إلى الطريق السوي والصراط المستقيم، أو آتيكم منها بقطعةٍ من النار؛ لعلكم تستدفئون بها، والظاهر أن زوجته عليه السلام لم تُبصر هذه النار، وأن النار إنما تجلَّت لموسى وحده، كما يظهر أن موسى عليه السلام لم يعرف اسم المكان الذي رأى النار فيه، ولم يدرك أنه الوادي الْمُقدس طوى، وأنه سيجد عنده أعظم الهدى، وما إن اقترب موسى عليه السلام من النار وبيده عصا حتى ﴿ نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ ﴾ [القصص: 30]، أي: من جانب الوادي مما يلي الجبل عن يمينه من ناحية الغرب ﴿ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ ﴾ [القصص: 30] ﴿ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [النمل: 8] ﴿ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى ﴾ [طه: 12] ﴿ يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [النمل: 9] ﴿ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي * إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى * فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى ﴾ [طه: 14 - 16]. وبعد أن توَّج الله عز وجل موسى عليه السلام بمراسيمِ السعادة سأله وهو العليم الخبير عمَّا بيده، ليدخل عليه الأنسَ وليثبت قلبه، وليُظهر له معجزة تبين له أن الله تعالى سيؤيِّده وينصره ويجعل العاقبة الحميدة له ولمن آمن به، فقال عز وجل: ﴿ وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى * قَالَ هِيَ عَصَايَ ﴾ [طه: 17، 18]، ولم يقف موسى في الجواب إلى هذا الحدِّ، فأخذ يبيِّن بعض منافع عصاه زيادة في طول لذَّةِ المناجاة، فقال: ﴿ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي ﴾ [طه: 18]، ثم قال: ﴿ وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى ﴾ [طه: 18]؛ لعله يسأله عن هذه المآرب والمقاصد، فيزداد لذَّةً، وتطولُ لذَّةُ المناجاة؛ فالحبيب يودُّ ألا ينقطع عنه صوت حبيبه على حد قول الشاعر: ولا حُسْنَ إلا من سَمَاعِ حديثِكُمْ مشافهةً يُمْلَى عَليَّ فَأَنْقلُ وعلى حد قول الشاعر الآخر: وكنتُ إذا ما جئتُ سعدى أزورها أرى الأرضَ تطْوَى لي، ويَدْنُو بعيدُها من الخفراتِ البيضِ ودَّ جليسها إذا ما انقضَتْ أحدوثةٌ لو تعيدُها ولله المثلُ الأعلى، فأمره الله عز وجل بإلقاء العصا على الأرض، فألقاها فإذا هي حيَّة تسير على بطنها في غاية السرعة كأنها جانٌّ، فلما رآها موسى عليه السلام وهي تهتزُّ وتتحرَّك مسرعة ولَّى مدبرًا، ولم ينتظر من شدة الخوف، فناداه الله عز وجل: ﴿ يَا مُوسَى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ ﴾ [النمل: 10]، وقال له: ﴿ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى ﴾ [طه: 21]، فأخذها، فعادت في يده عصا كما كانت أوَّل مرة. ثم أمره الله عز وجل أن يُدخل يدَه في جيبه، أي: في طوق قميصه فأدخلها، فلما أخرجها إذا هي بيضاء من غير برَص ولا مرض، مع أن موسى عليه السلام كان أسمر اللون آدم، فهذه آية أخرى. وأمره الله عز وجل بالذهاب إلى فرعون الطاغية الذي يقول لقومه: ﴿ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى ﴾ [النازعات: 24]، ويطالبه وقومه بإخلاص العبادة لله وحده، وأن يُسلمه بني إسرائيل، ويخلصهم من العذاب المهين، وطلب منه أن يتلطَّفَ في دعوة فرعون إلى الله، وأن يقول: ﴿ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى ﴾ [طه: 44]، فطلب موسى عليه السلام من ربِّه أن يشرح له صدره، وأن يُيسِّر له أمره، وأن يحلل له عقدة من لسانه ليفقهوا قوله، وأن يُرسل معه هارون أخاه ليَشُدَّ به أزرَه ويُشركه في أمره؛ لأنَّ هارون بن عمران عليه السلام مشهور بالفصاحة بين قومه، فأجابه الله عز وجل لذلك كله، وبيَّن له أن منَّة الله عليه عظيمة، وليست هذه أول منة، وذكَّره بمنة أخرى عند ولادته؛ إذ أوحى إلى أمِّه أن تلقيه في اليَم ليلتقطه آلُ فرعون ويُربَّى في حِجر عدوه، الذي يصونه ويرعاه مع أنه لا يفتأ يذبح أبناء بني إسرائيل. وقد ذكر موسى عليه السلام أنه يخاف من فرعون أن يقتله بالقبطي، فطمأنه الله عز وجل وعرَّفه أنه سيجعل له سلطانًا، فلا يتمكَّن فرعون من قتله، وقال له: ﴿ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى * فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى ﴾ [طه: 46، 47]. وقد وصف الله تبارك وتعالى مجيء موسى إلى الوادي المقدَّس طُوى، وحدَّد المكان الذي تمَّت فيه المناجاة، وذكر ما ناجى به موسى عليه السلام في مواضع مِن القرآن العظيم ليُثبت بذلك فؤاد رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم، وليكون آية بيِّنة للعرب والعجم أن محمدًا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، فلم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أحد من قومه يعرف هذه الأخبار الدقيقة الصادقة، وهو الأُمِّيُّ في القوم الأميين، فلم يكن محمد صلى الله عليه وسلم بجانب الغربي إذ قَضى الله إلى موسى الأمر، وما كان من الشاهدين، وما كان بجانب الطور إذ نادى موسى عليه السلام، ولكنها رحمة من الله للبشير النذير ولمن آمن به إلى يوم القيامة. وفي ذلك يقول الله تبارك وتعالى في سورة مريم: ﴿ وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا * وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا * وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا ﴾ [مريم: 51 - 53]. ويقول عز وجل في سورة طه: ﴿ وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى * إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى * فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى * إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى * وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى * إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي * إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى * فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى * وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى * قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى * قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى * فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى * قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى * وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى * لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى * اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي * وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي * كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا * وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا * إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا * قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى * وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى ﴾ [طه: 9 - 37]. وإلى الفصل القادم إن شاء الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
نماذج تطبيقية من وسطية النبي صلى الله عليه وسلم لحمد الصقعبي صدر حديثًا كتاب: " نماذج تطبيقية من وسطية النبي صلى الله عليه وسلم "، تأليف: د. " حمد بن عبدالله بن حمد الصقعبي "، الأستاذ المساعد بكلية الشريعة والدراسات الإسلامية بجامعة القصيم، نشر: " دار العقيدة للنشر والتوزيع ". ويتناول هذا الكتاب المراد بالوسطية في الاصطلاح والمفهوم، وبيان أهميتها، وأدلتها، ونماذج تطبيقية من السيرة النبوية، مع الحديث عن أهم مظاهرها وآثارها المترتبة عليها. يقول الكاتب في مقدمة الكتاب: "أهل السنة في الجملة أهل توسط واعتدال في كل أمور الدين، عقيدة وعلمًا وعملًا وأخلاقًا ومواقفًا، فهم وسط بين الغلو والتقصير، وبين الإفراط والتفريط، وفي سائر الأمور". وتتمثل أهمية البحث في بيان أهمية الموازنة والوسطية في إقامة وحفظ الضروريات الخمس من غير إفرط ولا تفريط؛ حيث قامت الشريعة في أصولها الكلية على حفظ الضروريات الخمس للعباد؛ الدين والنفس والعقل والنسل والمال. كما جاء البحث للتحذير من ظاهرة الغلو التي برزت في المجتمعات الإسلامية في العصر الحديث، ولبيان خطورة انتشار ظاهرة التطرف بين أوساط الشباب نتيجة البعد عن منهج الوسطية الحقة. وجاء البحث في مقدمة وتمهيد وستة مباحث وخاتمة على النحو التالي: المقدمة وتشتمل على: • مقدمة البحث. • أهمية البحث. • أهداف البحث. • خطة البحث. • منهج البحث. تمهيد: في التعريف بمصطلح البحث، وفيه: • التعريف بالوسطية. (الوسطية ومكانتها في الإسلام)، وفيه ستة مباحث: المبحث الأول: أهمية الوسطية في الإسلام. المبحث الثاني: أدلة الوسطية من القرآن والسنة. المبحث الثالث: نماذج تطبيقية من وسطية النبي - صلى الله عليه وسلم -. المبحث الرابع: مظاهر الوسطية في الإسلام. المبحث الخامس: الآثار المترتبة على الالتزام بالوسطية. المبحث السادس: الآثار المترتبة على عدم التمسك بالوسطية. خاتمة: في أهم نتائج البحث وتوصياته. وقام الكاتب بإثراء بحثه بالفهارس اللازمة لخدمة الموضوع ومساعدة القارئ. يقول الكاتب: "ولا شك أن الغلو في الدين يجعل الشخص خارجًا عن الاستقامة، مخلًا بموازينها، وهذا يحدث الانفصام بين ما هو عليه، وما ينبغي أن يكون عليه. وقد ظهر الغلو في الأزمنة الأخيرة نتيجة بروز عدد من التيارات التي تتخذ العنف وسيلة للتغيير والإصلاح، سواء كانوا من المسلمين أو غيرهم، وهذه الظاهرة الخطيرة باتت تهدد العالم في أمنه واستقراره، وتعيد للأذهان صور الدمار والخراب التي خلقتها أعمال هذه الجماعات المنحرفة، والتي منشؤها الحقيقي هو الغلو في الدين، ونبذ الوسطية والاعتدال".
الاستشراق والرسول صلى الله عليه وسلم [1] (الاستشراق والسِّيرة) لقد عرف المسلمون رسولهم صلى الله عليه وسلم منذ ولادته، فلم تكن طفولته غامِضة، كما يزعم بعض المستشرقين من أمثال مونتجمري وات والمستشرق كارل بروكلمن في كتابه: تاريخ الشعوب الإسلامية، والمستشرق يوليوس فلهاوزن [2] ، وقال قريبًا من هذا المستشرق موير والمستشرق نيكلسون، والمستشرق مرجليوث في كتابه: "محمد"، والمستشرق كانون سيل في كتابه: "حياة محمد"، وجورج بوش في كتابه: محمد مؤسس الدين الإسلامي ومؤسس إمبراطورية المسلمين، المترجم أخيرًا إلى اللغة العربية [3] ، وغيرهم كثير ممن ورد ذكرهم في هذه الوقفات ومَن لم يرد لهم ذِكرٌ [4] . لم تسلم سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم من الهمز واللمز والطعون والشبهات والمزاعم والأخطاء والتناقضات والإنكار، مِن قِبَل رهط من المستشرقين الذين تعرَّضوا لحياة الرسول عليه الصلاة والسلام، وهذه السمات هي مجمل المواقف من سيرة الرسول محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم [5] ، وسنَّته المطهَّرة في متنها وسندها الذي تنفرد به الثقافة الإسلامية في التحقُّق من الرواة الثقات من أهل الحديث الشريف [6] ، مما أوجد علمًا من علوم الحديث الشريف، اصطُلح على تسميته بعلم الجرح والتعديل [7] . يقول ألويس شبرنجر في مقدمة بالإنجليزية لكتاب "الإصابة في تمييز الصحابة" المطبوع في كلكتَّه سنة 1853 - 1864م: "لم تكن فيما مضى أمة من الأمم السالفة، كما أنه لا توجد الآن أمة من الأمم المعاصرة، أتت في علم أسماء الرجال بمثل ما جاء به المسلمون في هذا العلم الخطير الذي يتناول أحوال خمسمائة ألف رجل وشؤونهم" [8] . يؤيد موريس بوكاي هذه الشهادة بقوله حول تدوين الحديث واشتغال المسلمين فيه: "كان همهم الأول في عملهم العسير في مدوناتهم منصبًّا على دقة الضبط لهذه المعلومات الخاصَّة بكل حادثة في حياة محمد صلى الله عليه وسلم، وبكل قول من أقواله، وللتدليل على ذلك الاهتمام بالدقة والضبط لمجموعات الأحاديث المعتمَدة، فإنهم قد نصُّوا على أسماء الذين نقلوا أقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله؛ وذلك بالصعود في الإسناد إلى الأول من أسرة النبي صلى الله عليه وسلم ومن صحابته ممن قد تلقوا هذه المعلومات مباشرة من محمد صلى الله عليه وسلم نفسه؛ وذلك بغية الكشف عن حال الراوي في جميع سلسلة الرواية، والابتعاد عن الرواة غير المشهود لهم بحسن السيرة وصدق الرواية، ونحو ذلك من دلائل ضعف الراوي الموجبة لعدم الاعتماد على الحديث الذي روي عن طريقه، وهذا ما قد انفرد به علماء الإسلام في كل ما روي عن نبيهم صلى الله عليه وسلم" [9] . تلك هي أبرز المواقف الاستشراقية من السنة النبوية والسيرة العطرة، التي انتقلت إلى أيامنا هذه، وبلغات غربية متعدِّدة، أبرزها وأقدمها اللغة الإسبانية؛ حيث يعود التأليف بها حول نبي الله صلى الله عليه وسلم إلى القرن الثالث الهجري، بداية القرن التاسع الميلادي (807م)، يقول محمد بن عبدالقادر برَّادة: "بدأ اهتمام الإسبان بالسِّيرة والحديث النبويين منذ القرن التاسع الميلادي، وكان أول من أدخل هذه العلوم إلى إسبانيا السوري صعصعة بن سلام (807م)" [10] ، واللغة الفرنسية في القرن الثالث الهجري، التاسع الميلادي، كذلك [11] ، وتستقيان أدبيات الهجوم على رسول الله صلى الله عليه وسلم من كتابات بيزنطية، منقولة عن سابقة لها سورية، كما يقول أليكسي جورافسكي [12] . ثم تأتي اللغات الأخرى؛ إذ تعود العناية بالسيرة النبوية في هذه اللغات الأخرى غير الإسبانية إلى قبيل قيام الحروب الصليبية 491 - 690هـ الموافق 1098 - 1291م كما في اللغة الإنجليزية [13] واللغة الروسية، حينما ظهر كتاب المفكر الروسي ذي الخلفية المسيحية سوليفوف: "محمد: حياته وتعليمه الديني"، في النصف الثاني من القرن الثاني عشر الهجري النصف الثاني من القرن التاسع عشر الميلادي [14] ، وكتاب آخر ألفه نيكولاي تروناؤو جاء عرضًا لمبادئ الشريعة الإسلامية سنة 1850م [15] ، ثم اللغة الألمانية واللغة المجرية؛ حيث انطلقت الكتابات عن الرسول صلى الله عليه وسلم بدءًا بما كتبه جيرمانوس جولا، الذي أسلم وحمل الاسم عبدالكريم جرمانوس؛ وذلك سنة 1351هـ الموافق 1932م [16] . ثم ظهرت اللغة العِبريَّة لتُسهم في سلسلة الطعون والشبهات لسيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم وسنَّته، مُستقيةً هذه الطعون والشبهات من اللغات الأخرى؛ لترسيخ مفهوم أن محمدًا صلى الله عليه وسلم قد بنى هذا الدين على التعاليم اليهودية والمسيحيَّة [17] ، كما يدَّعي رهط من المستشرقين لاحقهم عالة على سابقهم. يقول إجناس جولتسيهر: "لكي نقدِّر عمل محمد عليه السلام من الوجهة التاريخيَّة، ليس من الضروري أن نتساءل عما إذا كان تبشيره ابتكارًا وطريفًا من كل الوجوه ناشئًا عن روحه، وعما إذا كان يفتح طريقًا جديدًا بحتًا، فتبشير النبي العربي ليس إلا مزيجًا منتخبًا من معارف وآراء دينية، عرفها أو استقاها بسبب اتصاله بالعناصر اليهودية والمسيحية وغيرها التي تأثَّر بها تأثرًا عميقًا، والتي رآها جديرة بأن توقظ عاطفة دينية حقيقية عند بني وطنه، وهذه التعاليم التي أخَذَها عن تلك العناصر الأجنبيَّة كانت في رأيه كذلك ضروريةً لتثبيت ضرب من الحياة في الاتجاه الذي تُريده الإرادة الإلهية" [18] ، وهذا في شأن الشرائع التي اختلفت فيها الأديان، أما أصول الاعِتقاد فهي رسالة الأنبياء جميعًا. مما يؤخذ على الاستشراق أنه قد عجز "عن تمثُّل النبوة الإسلامية بشكل جيد يعود، في جانب منه، إلى عدم امتلاكهم للإحساس بالعناصر الروحيَّة، وقدرتها على إنجاز المشاريع الكبرى بوساطة استغلال قوى المادة ذاتها"، كما يقول لخضر الشايب [19] . هذا العجز عن التمثُّل مبني على عدم التصديق بنبوَّة محمد صلى الله عليه وسلم، ومِن ثمَّ التشكيك في صحة الحديث النبوي [20] ، يقول عماد الدين خليل في بحث له عن المستشرقين والسيرة: "إن المستشرقين - بعامة - يريدون أن يدرسوا سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وفق حالتين تجعلان من المستحيل تحقيق فهم صحيح لنسيج السيرة ونتائجها وأهدافها التي تحرَّكت صوبها، والغاية الأساسية التي تمحورت حولها، فالمستشرق بين أن يكون علمانيًّا ماديًّا لا يؤمن بالغيب، وبين أن يكون يهوديًّا أو نصرانيًّا لا يؤمن بصدق الرسالة التي أعقبت النصرانية" [21] . على أن هناك طائفةً من المستشرقين بحثوا في السيرة والسنَّة، وخرَجوا من دراساتهم بالإعجاب بسيرته وسنَّته عليه الصلاة والسلام ولم يُخفوا إعجابهم هذا؛ ذلك أنهم توخَّوا الإنصاف في دراساتهم، وربما انتهى بهم المقام العلمي إلى أن يَكونوا مُناصِرِين للكتاب والسنَّة، بغضِّ النظر عن ترجمة هذه المناصَرة إلى إيمان بالرسالة وبالرَّسول صلى الله عليه وسلم. لئن قيل: إنَّ هذا كلام في الماضي، فإن الماضي ينعكس الآن في الحملة على الإسلام والمسلمين، وعلى رموز الإسلام وقياداته في الماضي والحاضر، وعلى رأسهم نبي الهدى محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم، ولعلَّ هذه الثورة التقنية وثورة الاتصالات تُهيئ قدرةً على إيصال المعلومة الصادقة عن الرسالة والرسول صلى الله عليه وسلم؛ بحيث يخفُّ الجهل تدريجيًّا، وإن لم يخفَّ الإجحاف في حق الرسالة والرسول صلى الله عليه وسلم، ممَّن نصَّبوا من أنفسهم دعاة للفكر الغربي، وما يَحمله من خلفيات دينية، لا يستطيع الغرب التنكُّر لها، مهما ادعى التوجه العلماني، ولكنها خلفيات مغلوطة فيما يتعلَّق بالأديان السماوية والثقافات الأخرى. يؤكِّد هذا بدوره على عظم المسؤولية على المسلمين أنفسهم في الاستمرار في تقديم الإسلام المتسامِح المعتدل الوسطي ومواجهة الهجوم على الإسلام ورموزه بالحكمة، سواء أكانوا من المستشرقين أم من المنصِّرين أم من غيرهم من الخائضين في أمور الدين الإسلامي ممَّن تنقصهم المعلومة الصحيحة عن هذا الدين، ويَنقصُهم الانتماء إلى هذا الدِّين، ويفتقرون إلى السيطرة على اللغة التي جاء بها هذا الدِّين، أو ممن يسعون إلى تشويه المعلومة الصحيحة عن الإسلام وعن نبيِّ الإسلام صلى الله عليه وسلم وعن رموز الإسلام على مرِّ التاريخ، بما في ذلك الإعلام الذي أضحى يمارس أثرًا فاعلًا في التأثير في النفوس. أمَّا أن يتعرَّض للسيرة العطرة مارِقٌ من المارقين مِن قريب أو بعيد فهذا حصل في الماضي ويحصل الآن ويُتوقَّع أن يحصل في المستقبل، عندما تعمى الأفئدة التي في الصدور، والمارقون كثُر [22] ، ويعبِّرون غالبًا عن آرائهم لا عن دياناتهم، فيتعرَّضون للذَّات الإلهيَّة وللملائكة وللكتب المنزَّلة وللرسل ولليوم الآخر وللقدر... ولا يكون لهم وقع أو تأثير، وإن أوجب الأمر الوقوف عند أقوالهم والردود عليهم؛ تبيانًا للحق كما هو عليه كتاب الله تعالى المنزَّل على عبده ورسوله محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم في مجادلة الآخرين ومحاجَجتهم. كَتب مونتجمري وات (1909 - 2006م) المستشرق الإنجليزي المعاصر - وكان في الوقت نفسه قسِّيسًا - عدَّةَ كتب عن النبي الكريم محمد بن عبدالله عليه الصلاة والسلام منها: محمد في مكة، ومحمد في المدينة، ومحمد القائد والنبي، وفي كتابه الأول يتحدَّث عن ادعاء المستشرقين الذين سبقوه بوجود آيات حُذفَت من القرآن الكريم، سُميت بآيات الغرانيق، وضمِّن بعض الأخبار والروايات التي وردَت في بعض كتب التراث واتَّكأ عليها بعض المستشرقين، وسمَّاها مونتجمري وات "الآيات الشيطانية" [23] . يظهر أنَّ الكاتب سلمان رشدي قد أُعجب بهذا العنوان الذي هو جزء من فصل من فصول كتاب: "محمد في مكة"، وجعله عنوانًا لروايته الآيات الشيطانية، وأخذ عن المستشرقين هذه الأخبار وصاغها في رِواية كلها إساءة للإسلام والمسلمين في شخص محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم وأزواجه وصحابته رضي الله عنهم. مع هذا كلِّه نجد من الدول من تقدِّر هذا الرجل وتؤويه وتمنحه الجوائزَ التقديرية، بل يستقبله زعماءُ تلك البلاد؛ ليُثبتوا للعالم الإسلامي احترامَهم لحريَّة التعبير، في الوقت الذي يَعتذرون فيه للرئيس المسلم علي عزت بيجوفتش رحمه الله عن المقابلة في وقت تُنتهك فيه حقوق الإنسان - وليس فقط حرية التعبير - على أيادي سلوبودان ميلوزوفيتش الرئيس الصربي الراحل، وأعوانه من المُتابعين من الجهات الأمنية والقضائية الدولية؛ من أمثال المهرِّب رادوفان جرادتش الذي أعلن في يوم من أيام هذه الحرب أنه لو كان الأمر بيده لما توقَّف زحفُه إلا في مكَّة المكرمة [24] ، متأثِّرًا بهذا من قريب أو بعيد بما أعلنه المنصِّر روبرت ماكس من قبل بقوله: "لن يتوقَّف سعينا نحو تنصير المسلمين حتى يرتفِع الصليب في مكة ويقام قداس الأحد في المدينة" [25] . [1] نُشر هذا البحث في: مجلة الجامعة الإسلامية (المدينة المنوَّرة)، عدد (1429هـ / 2008م). [ 2 ] انظر في متابعة هؤلاء المستشرقين الثلاثة: عبدالله مُحمَّد الأمين النعيم. الاستشراق في السيرة النبوية: دراسة تاريخية لآراء (وات - بروكلمان - فلهاوزن) مقارنة بالرؤية الإسلامية، هيرندن (فرجينيا): المعهد العالمي للفكر الإسلامي، 1417هـ / 1997م، 344. [3] انظر، جورج بوش. مُحمَّد صلى الله عليه وسلم مؤسِّس الدين الإسلامي ومؤسِّس إمبراطورية المسلمين / ترجمه وحقَّقه وعلَّق عليه عبدالرحمن عبدالله الشيخ، الرياض: دار المرِّيخ، 1425هـ / 2004م، 668 ص. [4] انظر: مُحمَّد مهر علي. الاهتمام بالسيرة النبوية باللغة الإنجليزية: عرض وتحليل. – في: ندوة عناية المملكة العربية السعودية بالسنَّة والسيرة النبوية؛ مرجع سابق، 53 ص. [5] انظر البحث الاستقصائي لمستشرق واحد تعرَّض لسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم لدى: مهدي بن رزق الله أحمد. مزاعم وأخطاء وتناقضات وشبهات بودلي في كتابه: الرسول: حياة مُحَمَّد: دراسة نقدية، في: ندوة عناية المملكة العربية السعودية بالسنَّة والسيرة النبوية؛ مرجع سابق. 141 ص. [6] انظر، مناقشة المستشرقين في الحديث النبوي متنًا وسندًا: مُحمَّد بهاء الدين. المستشرقون والحديث النبوي، كوالالامبور: دار الفجر، 1420هـ / 1999م، 321 ص. [7] انظر: مزاعم المستشرقين وأتباعهم في عدم اهتمام المحدِّثين بنقد المتن ودحضها، ص 417 - 503، في: مُحمَّد لقمان السلفي. اهتمام المحدِّثين بنقد الحديث سندًا ومتنًا ودحض مزاعم المستشرقين وأتباعهم، ط 2، الرياض: دار الداعي، 1420هـ - 599 ص. [8] نقلًا عن مُحمَّد صدر الحسن الندْوي. المستشرقون والسنَّة النبوية، ص 425 - 455. والنصُّ من ص 434، في: نخبة من العلماء المسلمين. الإسلام والمستشرقون؛ مرجع سابق، 511 ص. [9] انظر: القرآن والأحاديث النبوية والعلم الحديث، ص 273 – 283. والنصُّ من ص 275، في: موريس بوكاي. دراسة الكتب المقدَّسة في ضوء المعارف الحديثة، القاهرة: دار المعارف، 1978م، 291 ص. [10] انظر: مُحمَّد بن عبدالقادر برَّادة. دراسات إسبانية للسيرة النبوية، ص 8. ـ في: ندوة عناية المملكة العربية السعودية بالسنَّة والسيرة النبوية؛ مرجع سابق، 54 ص. [11] انظر: حسن بن إدريس عزُّوزي. الاهتمام بالسيرة النبوية باللغة الفرنسية: عرض وتحليل، في: ندوة عناية المملكة العربية السعودية بالسنَّة والسيرة النبوية؛ مرجع سابق، 67 ص. [12] انظر: أليكسي جورافسكي. الإسلام والمسيحية / ترجمة خلف مُحمَّد الجراد، راجع المادة العلمية وقدّم له محمود حمدي زقزوق، الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، 1417هـ / 1996م، ص 73، (سلسلة عالم المعرفة؛ 215). [13] انظر: مُحمَّد مهر علي. الاهتمام بالسيرة النبوية باللغة الإنجليزية: عرض وتحليل، ص 10. – في: ندوة عناية المملكة العربية السعودية بالسنَّة والسيرة النبوية. – مرجع سابق. – 53 ص. [14] انظر: إلمير بن روفائيل كولييف. الاهتمام بالسيرة النبوية باللغة الروسية، في: ندوة عناية المملكة العربية السعودية بالسنَّة والسيرة النبوية؛ مرجع سابق، 45 ص. [15] انظر: سليمان بن مُحمَّد الجار الله. جُهود الاستشراق الروسي في مجال السنَّة والسيرة، 59 ص، في: ندوة عناية المملكة العربية السعودية بالسنَّة والسيرة النبوية، المدينة المنوَّرة: مجمَّع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف بالمدينة المنوَّرة، 1425هـ / 2004م. [16] انظر: أحمد عبدالرحمن أوكفات. الاهتمام بالسيرة النبوية باللغة المجرية، 55 ص، في: ندوة عناية المملكة العربية السعودية بالسنَّة والسيرة النبوية، المدينة المنوَّرة: مجمَّع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف بالمدينة المنوَّرة، 1425هـ / 2004م. [17] انظر: موسى البسيط. ردُّ الطعون الواردة في الموسوعة العبرية عن الإسلام ورسوله صلى الله عليه وسلم، 112 ص، في: ندوة عناية المملكة العربية السعودية بالسنَّة والسيرة النبوية، المدينة المنوَّرة: مجمَّع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف بالمدينة المنوَّرة، 1425هـ / 2004م. [18] انظر: إجناس جولتسيهر. العقيدة والشريعة في الإسلام: تاريخ التطوُّر العقدي والتشريعي في الديانة الإسلامية / نقله إلى العربية وعلَّق عليه مُحمَّد يوسف موسى وعبدالعزيز عبدالحقِّ وعلي حسين عبدالقادر، القاهرة: دار الكتب المصرية، 1946م، ص: 5 - 6. [19] انظر: لخضر الشايب: نبوَّة مُحمَّد صلى الله عليه وسلم في الفكر الاستشراقي المعاصر، الرياض: مكتبة العبيكان، 1422هـ / 2002م، ص 584. [20] انظر: تشكيك المستشرقين في صحَّة الحديث النبوي، ص 243 - 293، في: مُحمَّد لقمان السلفي. مكانة السنة في التشريع الإسلامي ودحض مزاعم المنكرين والملحدين، ط 2. ـ الرياض: دار الداعي، 1420هـ / 1999م، 372 ص. [21] انظر: عماد الدين خليل. ((المستشرقون والسيرة النبوية: بحث مقارن في منهج المستشرق البريطاني المعاصر مونتغمري وات))، 1: 113 - 201، في: مناهج المستشرقين في الدراسات العربية الإسلامية، 2 مج، الرياض: مكتب التربية العربي لدول الخليج، 1405هـ / 1985م. [22] انظر: سعيد أيوب: شيطان الغرب سلمان رشدي: الرجل المارق، القاهرة: دار الاعتصام، 1989م، 158 ص. [23] THE ((SATANIC VERSES)) in: W.Montgomery Watt. Muhammad at Mecca. Karachi: Oxford press. 1979 – p (103 – 109) . [24] انظر: علي بن إبراهيم الحمد النملة: التنصير - مفهومه وأهدافه ووسائله وسبل مواجهته، ط 4، الرياض: المؤلف، 1426هـ / 2005م، 248 ص. [25] انظر: عبد الودود شلبي: الزحف إلى مكَّة؛ حقائق ووثائق عن مؤامرة التنصير في العالم الإسلامي، القاهرة: الزهراء للإعلام العربي، 1409هـ / 1989م، 168 ص.
فقر الإلحاد بضاعةُ الملحدين بضاعةٌ كاسدة، وليس لديهم ما يقدِّمونه لأتباعهم، ويملؤون به فراغهم الروحيَّ؛ فهم بعد أن يُلقُوا تلك الشُّبَهَ السقيمة، ويتقبلها الأتباع، يعملون بعمل معلمهم الأكبرِ إبليسَ لعنه الله؛ قال تعالى مخبرًا عنه: ﴿ كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الحشر: 16]. لذلك لا يَمَلُّون الكذبَ والافتراء على الشريعة الإسلامية، والتشكيك في مصداقيتها، لكن يأبى الله إلا أن يُوقِعَهم في سوء أعمالهم، ويُتِمَّ نورَه، ولو كرِه الكافرون. آخر ما اطَّلعت عليه من شُبَهِهم تشكيكُهم في آيات الميراث، وزعمهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يجيد الحساب، مستدلين بالعول والانكسار، وغيرهما من مسائل علم الفرائض، متناسين خواص الأعداد وقسمتها إلى أعداد أولية، وأعداد عشرية، حاصل القسمة عليها غير منتهٍ. ولو سلَّمنا جدلًا بصحة ما يدعون إليه، وأهملنا أصحاب الفروض، وقُسِّمت التَّرِكَةُ بشكل متساوٍ بين الرجل والمرأة، فلن تخلوَ من تلك العمليات المعقَّدة، والفواصل غير المنتهية، فهب أن رجلًا مات عن ثلاثة بنين، وثلاث بنات، وخلَّف 100 دينارٍ ذهبيٍّ، ستجد أن حاصل القسمة فاصلته غير منتهية، فماذا نفعل بالدنانير الباقية؟ ولمن تُصرَف؟! ناهيك عما في طرحهم من عَوَارٍ وانحراف عن الفطرة والعدل، فالشريعة أعْطَتِ الذكرَ مثلَ حظِّ الأُنْثَيَينِ، وألزمته بنفقة العيال ومهر المرأة، فالأنثى بطبعها ضعيفة وعاجزة، وبحاجة لمن يمنحها الرعاية ويقوم عليها، واعتراض الملاحدة هنا يذكِّرني بقول المتنبي: وكم من عائبٍ قولًا صحيحًا وآفته من الفَهم السَّقيمِ ولكن تأخذ الآذان منه على قدر القرائحِ والعلومِ تلك المسائل الرياضية وغيرها هي التي دفعت العلماء المسلمين لتصحيح المسائل الحسابية، وإيجاد الحلول لها. وأول مسألة عائلة هي: زوج وأختان؛ وذلك أنه في عهد عمر رضي الله عنه، ماتت امرأة عن زوج وأختين، فرُفِعَ أمرهم إلى عمر، فالتبس عليه الأمر ثم اجتهد وحكم بالعول؛ [تاريخ التشريع الإسلامي، ص217، مناع القطان]. وهذا ما دفع عالم الرياضيات المسلم "الخوارزمي" لاكتشاف علم الجبر والمقابلة وإظهاره للناس، لكن قلوب الملحدين عمياء، فلو تأملوا وأنصفوا، لأدركوا أن هذه إحدى بركات تدبُّر القرآن الكريم؛ قال تعالى: ﴿ كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾ [ص: 29]، لكن يأبى الظالمون إلا جحودًا وكُفُورًا. فلا شكَّ أن علم الجبر أفاد البشرية، وهو أحد مفاتيح النهضة العلمية الحديثة، ولولا علم الفرائض، ما عُرِف علم الجبر؛ فاعتبروا يا أولي الأبصار. لا شكَّ أن هذه الشبهة شبهة مستهلَكة، وهذا وتر طالما عزف عليه الملحدون، فعادة الإلحاد الاصطياد في الماء العَكِر، فبدلًا من إذاعة الشبهة، كان الأولَى ردها لأهل العلم والاستنباط، ثم الأخذ بما يطرحونه من أدلة شرعية توافق العقل والمنطق السليم، لكن الإلحاد يسعى بصاحبه ليكون ممن قال الله تعالى فيهم: ﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ ﴾ [النحل: 108]. لا شك أن الملاحدة أثاروا تلك الشبهة للطعن في القرآن الكريم، وبيان أنه ليس من لدن حكيم خبير، وهذا جهل بالأصول والقواعد التي قررها القرآن الكريم؛ فالله سبحانه وتعالى يقول: ﴿ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ [النحل: 44]. فبيان ما أُشْكِل فَهمه من آي الذكر مهمة الرسول الكريم، وورثته العلماء؛ الذين قال الله تعالى فيهم: ﴿ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ ﴾ [النساء: 83]؛ لذلك تُرِك باب الاجتهاد مفتوحًا لمن أخذ بنصيب وافر من العلم، وتوفرت فيه شروط الاجتهاد الأخرى كافة، فلا ترجعوا أمرًا قَصَرَتْ أفهامكم عن إدراك معانيه لتقصير الوحي، بل لتقصيركم في البحث وطلب العلم الشرعي من موارده، فلْيَهْنِكُم الجهل إذًا، إن لم يَهْنِكُمُ العلم. يعتمد الملاحدة الغربيون على "نظرية التطور" لتفسير نشأة الخلق، ويطورون نظريات ليثبتوا أزلية الكون، ويعتمدون على طرح "فرويد" لتفسير السلوك والأخلاق، يسلكون بذلك سبيل الظالمين؛ ﴿ الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كَافِرُونَ ﴾ [الأعراف: 45]، أما الملاحدة "المسلمون" فحظُّهم التقليد الأعمى، نعوذ بالله من الشقاء والخِذلان، وطمس البصيرة عن الإيمان.
نسخة جديدة من شرح رياض الصالحين لابن عثيمين صدر حديثًا طبعة جديدة منقحة ومزيدة من كتاب " شرح رياض الصالحين من كلام سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم"، تأليف: العلامة " محمد بن صالح العثيمين " (ت 1421 هـ)، في أربعة مجلدات، نشر: " مؤسسة الشيخ محمد بن صالح العثيمين الخيرية للنشر والتوزيع ". وهذا الكتاب يحتوي على تعليقات نافعة وتقييدات وتوجيهات علمية ماتعة، يستفيد منها طلاب العلم كما يستفيد منه العامة، لفضيلة شيخنا محمد بن صالح العثيمين - رحمه الله تعالي - لجمل كبيرة من الأحاديث الواردة في كتاب: (( رياض الصالحين من كلام سيد المرسلين )) للإمام النووي. وقد جاءت تلك التعليقات ضمن أحاديث الشيخ محمد بن صالح العثيمين بعد صلاة العصر في الجامع الكبير بعنيزة، وتكررت طباعتها منذ الطبعة الأولي عام 1415هـ التي اعتني بها فضيلة الأستاذ الدكتور "عبد الله بن محمد بن أحمد الطيار". يقول الشيخ ابن عثيمين في مقدمة شرحه: "... فهذه الخطبة الطويلة المفيدة (( لكتاب رياض الصالحين )) الذي ألفه الشيخ الحافظ النووي - رحمه الله - وهو كتاب جيد ولم يسبق لنا قراءته. ورأيت أن نبدأ فيه ونسأل الله تعالي أن نتمه على خير؛ لأنه كتاب نافع للقلوب، وللأعمال الظاهرة والمتعلقة بالجوارح؛ لذلك ينبغي أن يعتنى بهذا الكتاب". وهو شرح متوسط مفيد ونافع قرر فيه "ابن عثيمين" أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة، مبتعدًا عما شاب شرح "ابن علَّان" السابق للكتاب في إيراده بعض مباحث طريقة الأشاعرة في تأويل الصفات، منوهًا في ثنايا شرحه بجملة من المسائل الأصولية والفقهية والحديثية التي تفيد طالب العلم. ويمتاز هذا الإصدار الجديد بعدة ميزات من أهمها: • تحتوي على كامل متن "رياض الصالحين". • إحالة الأحاديث غير المشروحة إلى مظانها من مؤلفات الشيخ رحمه الله. • إعادة مقابلة محتوى الكتاب على المادة الصوتية، وتنقيح العبارات كتابيًا. • مع الاستفادة من ملاحظات القراء في تدارك نقص الطبعات السابقة للكتاب بحيث يخرج في أمتن صورة علمية. • إعادة مراجعة وتنقيح الكتاب لغويًا. • إكمال الفهرسة التفصيلية. • فهرسة الفوائد العلمية. وصاحب الشرح المبارك هو الشيخ العلامة محمد بن صالح بن محمد بن سليمان بن عبد الرحمن آل عثيمين من الوهبة من بني تميم. وُلِد في ليلة السابع والعشرين من شهر رمضان المبارك عام 1347هـ في عنيزة، ألحقه والده ليتعلم القرآن الكريم عند جده من جهة أمِّه، المعلِّم عبد الرحمن بن سليمان الدامغ رحمه الله، ثمَّ تعلَّم الكتابة، وشيئًا من الحساب، والنصوص الأدبية في مدرسة الأستاذ عبد العزيز بن صالح الدامغ، وذلك قبل أن يلتحق بمدرسة المعلِّم علي بن عبد الله الشحيتان، حيث حَفِظ القرآن الكريم عنده عن ظهر قلب، ولمـَّا يتجاوز الرابعة عشرة من عمره بعد. وبتوجيهٍ من والده أقبل على طلب العلم الشرعي، وكان فضيلة الشيخ العلامة عبد الرحمن بن ناصر السعدي يُدرِّس العلوم الشرعية والعربية في الجامع الكبير بعنيزة، وقد رتب اثنين من طلبته الكبار؛ لتدريس المبتدئين من الطلبة، فانضمَّ الشيخ إلى حلقة الشيخ محمد بن عبد العزيز المطوع حتى أدرك من العلم في التوحيد، والفقه، والنحو ما أدرك. ثم جلس في حلقة شيخه العلامة عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله، فدرس عليه في التفسير، والحديث، والسيرة النبوية، والتوحيد، والفقه، والأصول، والفرائض، والنحو، وحفظ مختصرات المتون في هذه العلوم. وعندما كان الشيخ عبد الرحمن بن علي بن عودان قاضيًا في عنيزة قرأ عليه في علم الفرائض، كما قرأ على الشيخ عبد الرزاق عفيفي في النحو والبلاغة أثناء وجوده مدرسًا في تلك المدينة. ولمـَّا فتح المعهد العلمي في الرياض أشار عليه بعضُ إخوانه أن يلتحق به، فاستأذن شيخَه العلامة عبد الرحمن بن ناصر السعدي فأذن له، والتحق بالمعهد عامي (1372 - 1373هـ). ولقد انتفع - خلال السنتين اللتين انتظم فيهما في معهد الرياض العلمي - بالعلماء الذين كانوا يُدرِّسون فيه حينذاك ومنهم: العلامة المفسِّر الشيخ محمد الأمين الشنقيطي، والشيخ الفقيه عبد العزيز بن ناصر بن رشيد، والشيخ المحدِّث عبد الرحمن الإفريقي رحمهم الله تعالى. وفي أثناء ذلك اتَّصل بسماحة الشيخ العلامة عبد العزيز بن عبد الله بن باز، فقرأ عليه في المسجد من صحيح البخاري ومن رسائل شيخ الإسلام ابن تيمية، وانتفع به في علم الحديث والنظر في آراء فقهاء المذاهب والمقارنة بينها، ويُعدُّ سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز هو شيخه الثاني في التحصيل والتأثُّر به. ثم عاد إلى عنيزة عام 1374هـ وصار يَدرُسُ على شيخه العلامة عبد الرحمن بن ناصر السعدي، ويُتابع دراسته انتسابًا في كلية الشريعة، التي أصبحت جزءًا من جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلاميَّة، حتى نال الشهادة العالية. وتوسم فيه شيخه النَّجابة وسرعة التحصيل العلمي فشجَّعه على التدريس وهو ما زال طالبًا في حلقته، فبدأ التدريس عام 1370هـ في الجامع الكبير بعنيزة. ولمـَّا تخرج من المعهد العلمي في الرياض عُيِّن مدرِّسًا في المعهد العلمي بعنيزة عام 1374هـ. وفي سنة 1376هـ تُوفي شيخه العلامة عبد الرحمن بن ناصر السعدي، فتولَّى بعده إمامة الجامع الكبير في عنيزة، وإمامة العيدين فيها، والتدريس في مكتبة عنيزة الوطنية التابعة للجامع؛ وهي التي أسَّسها شيخه عام 1359هـ. ولمـَّا كثر الطلبة، وصارت المكتبة لا تكفيهم؛ بدأ فضيلة الشيخ يُدرِّس في المسجد الجامع نفسه، واجتمع إليه الطلاب وتوافدوا من المملكة وغيرها حتى كانوا يبلغون المئات في بعض الدروس، وهؤلاء يدرسون دراسة تحصيلٍ جاد، لا لمجرَّد الاستماع، وبقي على ذلك، إمامًا وخطيبًا ومدرسًا، حتى وفاته رحمه الله تعالى. بقي الشيخ مدرِّسًا في المعهد العلمي من عام 1374هـ إلى عام 1398هـ عندما انتقل إلى التدريس في كلية الشريعة وأصول الدين بالقصيم التابعة لجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، وظلَّ أستاذًا فيها حتى وفاته. وكان يُدرِّس في المسجد الحرام والمسجد النبوي في مواسم الحج ورمضان والإجازات الصيفية منذ عام 1402هـ، حتى وفاته. وللشيخ أسلوبٌ تعليميٌّ فريدٌ في جودته ونجاحه؛ فهو يُناقش طلَّابه ويتقبَّل أسئلتهم، ويُلقي الدروس والمحاضرات بهمّةٍ عاليةٍ ونفسٍ مطمئنَّةٍ واثقة، مبتهجًا بنشره للعلم وتقريبه إلى الناس. آثار ابن عثيمين العلمية: ظهرت جهوده العظيمة خلال أكثر من خمسين عامًا من العطاء والبذل في نشر العلم والتدريس والوعظ والإرشاد والتوجيه وإلقاء المحاضرات والدعوة إلى الله سبحانه وتعالى. ولقد اهتمَّ بالتأليف وتحرير الفتاوى والأجوبة التي تميَّزت بالتأصيل العلمي الرصين، وصدرت له العشرات من الكتب والرسائل والمحاضرات والفتاوى والخطب واللقاءات والمقالات، كما صدر له آلاف الساعات الصوتيَّة التي سجلت محاضراته وخطبه ولقاءاته وبرامجه الإذاعية ودروسه العلمية في تفسير القرآن الكريم والشروحات المتميزة للحديث الشريف والسيرة النبوية والمتون والمنظومات في العلوم الشرعية والنحوية. وإلى جانب تلك الجهود المثمرة في مجالات التدريس والتأليف والإمامة والخطابة والإفتاء والدعوة إلى الله سبحانه وتعالى كان لفضيلة الشيخ أعمالٌ كثيرة موفقة منها ما يلي: • عضوًا في هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية من عام 1407هـ إلى وفاته. • عضوًا في المجلس العلمي بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية في العامين الدراسيين (1398 - 1400هـ). • عضوًا في مجلس كلية الشريعة وأصول الدين بفرع جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية في القصيم ورئيسًا لقسم العقيدة فيها. • وفي آخر فترة تدريسه بالمعهد العلمي شارك في عضوية لجنة الخطط والمناهج للمعاهد العلمية، وألّف عددًا من الكتب المقررة بها. • عضوًا في لجنة التوعية في موسم الحج من عام 1392هـ إلى وفاته - رحمه الله تعالى - حيث كان يلقي دروسًا ومحاضرات في مكة والمشاعر، ويفتي في المسائل والأحكام الشرعية. • ترأس جمعية تحفيظ القرآن الكريم الخيرية في عنيزة من تأسيسها عام 1405هـ إلى وفاته. • ألقى محاضرات عديدة داخل المملكة العربية السعودية على فئات متنوعة من الناس، كما ألقى محاضرات عبر الهاتف على تجمعات ومراكز إسلامية في جهات مختلفة من العالم. • من علماء المملكة الكبار الذين يجيبون على أسئلة المستفسرين حول أحكام الدين وأصوله عقيدة وشريعة، وذلك عبر البرامج الإذاعية من المملكة العربية السعودية وأشهرها برنامج "نور على الدرب". • نذر نفسه للإجابة على أسئلة السائلين مهاتفه ومكاتبة ومشافهة. • رتَّب لقاءات علمية مجدولة، أسبوعية وشهرية وسنوية. • شارك في العديد من المؤتمرات التي عقدت في المملكة العربية السعودية. • ولأنه يهتم بالسلوك التربوي والجانب الوعظي اعتنى بتوجيه الطلاب وإرشادهم إلى سلوك المنهج الجاد في طلب العلم وتحصيله، وعمل على استقطابهم والصبر على تعليمهم وتحمل أسئلتهم المتعددة، والاهتمام بأمورهم. • وللشيخ أعمال عديدة في ميادين الخير وأبواب البرّ ومجالات الإحسان إلى الناس، والسعي في حوائجهم وكتابة الوثائق والعقود بينهم، وإسداء النصيحة لهم بصدق وإخلاص. وقد مُنح جائزة الملك فيصل العالمية لخدمة الإسلام عام 1414هـ، وتُوفي في مدينة جدّة قبيل مغرب يوم الأربعاء الخامس عشر من شهر شوال عام 1421هـ، وصُلِّي عليه في المسجد الحرام بعد صلاة عصر يوم الخميس، ثم شيّعته تلك الآلاف من المصلّين والحشود العظيمة في مشاهد مؤثرة، ودفن في مكة المكرمة. من مصنفاته: له مؤلفات كثيرة منها: • "من أحكام الصلاة". • "شرح ثلاثة الأصول". • "الشرح الممتع على زاد المستقنع". • "شرح مقدمة التفسير". • "أسماء الله وصفاته وموقف أهل السنة منها". • "شرح العقيدة الواسطية". • "القواعد المثلى في صفات الله تعالى وأسمائه الحسنى". • "مختصر لمعة الاعتقاد الهادي إلى سبيل الرشاد". • "فتح رب البرية بتلخيص الحموية". • "مجموعة أسئلة في بيع وشراء الذهب". • "شرح الأربعين النووية". • "شرح رياض الصالحين من كلام سيد المرسلين". • "فتح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام". • "إزالة الستار عن الجواب المختار لهداية المحتار". • "الإبداع في بيان كمال الشرع وخطر الابتداع". • "القول المفيد على كتاب التوحيد". • "شرح العقيدة السفارينية". • "شرح كتاب السياسة الشرعية لشيخ الإسلام ابن تيمية". • "فتاوى أركان الإسلام". • "صفة الحج والعمرة". • "أصول في التفسير". • "شرح مقدمة التفسير لابن تيمية". • "شرح البيقونية". • "شرح الآجرومية". • "شرح الدرة اليتيمة في النحو". • "شرح ألفية ابن مالك".
الاستشراق والرسول صلى الله عليه وسلم (طبيعة البحث في السيرة) مع استمرار الكيد للمصطفى صلى الله عليه وسلم على مرِّ السنين والقرون تظلُّ سيرته عليه الصلاة والسلام مليئة بالعبر والحِكَم والأمثلة التي تجسِّد القدوة الصالحة؛ قال تعالى: ﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا ﴾ [الأحزاب: 21]، وهي لا تزال موضع بحث ودراسة على مستوى الدراسات العلمية في الجامعات والكليات والمعاهد العليا، وعلى مستوى الدراسات الثقافية والفكرية، وعلى مستوى الأفراد الذين يُسهمون في النهضة الثقافية التي يعيشها المسلمون اليوم، بفضل من الله تعالى. تظلُّ سيرته عليه الصلاة والسلام منهلًا عذبًا للاقتداء والتأسِّي به صلى الله عليه وسلم، فهي لا تدرس كما تدرس سير العظماء والأبطال ورجال التاريخ، بل إن دراستها تدخل في وجه من وجوه العبادة، التي تجعل من سنته صلى الله عليه وسلم وسيرته مثلًا يُحتذى، فلم يكن صلى الله عليه وسلم ينطق عن الهوى، إنما كان ينطق عن وحي يُوحى؛ قال تعالى: ﴿ وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى ﴾ [النجم: 3، 4]، ولذا تَنفرد هذه السيرة العَطِرة بأنها أكثر من مجرَّد أحداث تمرُّ على الأفراد وتسجَّل لبيان عظمتهم في التاريخ، وتُغفل بعض خصوصياتهم، بل إنها لسيرة شاملة في الأمور العامة والخاصة، حتى ليقال إنه كان صلى الله عليه وسلم في مثْل هذا الموقف يَفعل كذا، وفي ذاك الموقف يفعل كذا، ليفعل المسلمون كما كان يفعل صلى الله عليه وسلم في أمور دينهم ودنياهم، مهما تعدَّدت الوسائل واختلفت الطرق وتنوعت الأساليب التي يَقتضيها الزمان والمكان [1] . لذلك حُفظت هذه السيرة العطرة بالتدوين منذ مرويات عروة بن الزبير بن العوام عن أم المؤمنين عائشة بنت أبي بكر الصديق، ثم تدوين ابن إسحاق فابن هشام، ثمَّ تستمرُّ التدوينات عن سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا، مما يَستدعي قيام قاعدة معلومات تحصر فيها المدَّونات المطبوعة والمخطوطة وباللغات المختلفة، وهذا ما دعت إليه التوصية الثامنة عشرة من توصيات ندوة عناية المملكة العربية السعودية بالسنة والسيرة النبوية، السالف ذكرها. مهما وقف المسلمون مع سيرة سيد الأولين والآخرين رسول الله محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم، فلن يُشبعوه بحثًا ودرسًا وحِكَمًا مُستقاة وعِبَرًا مستفادة، في الوقت الذي أنصفه المنصفون من غير المسلمين وسطروا إعجابهم به، سواء اعترفوا به نبيًّا ورسولًا أم لم يعترفوا به، ولا ينتظر المسلم من غير المسلم أن يعترف بنبوة سيد البشر صلى الله عليه وسلم، وإلا لأمكن أن يكون مسلمًا، وهو لا يريد أن يكون كذلك، وإن ظهرت تسمية نبي الإسلام ورسوله في بعض الكتابات، ولكن المسلم يَنتظر من الآخرين ألا يُسيئوا إلى نبيٍّ مِن أنبياء الله تعالى ورسله كلهم، ناهيك عن أن تكون هذه الإساءة لخاتم الأنبياء وسيد المرسلين محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم. لا ينتظر المسلم كذلك أن تُسقط أفعال أتباع رسول الله محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم عليه هو، وعلى ما جاء به من هدي، فما جاء به عليه الصلاة والسلام من هدي هو الذي يسقط على أفعال أتباعه، فما وافق الهدي كان تابعًا له، وما خالفه كان خارجًا عنه؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مَن عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد)) [2] ، وقال صلى الله عليه وسلم: ((مَن أحدث في أمرنا هذا ما ليس فيه فهو رد)) [3] ، فما يقوم به الناس المسلمون على مر التاريخ الإسلامي ليس حجة على الإسلام وعلى نبي الإسلام، ولكن الإسلام ونبي الإسلام صلى الله عليه وسلم حجَّة على ما يقوم به المسلمون، ومِن ثمَّ فإن اتهام سيدنا محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم بما يتهم به بعض أتباعه على مر العصور لا يستند على منطلق منطقي يقبله العقل وتقرُّه الممارسات الحضارية. لقد كانت هذه الوقفة حول سيد الثقلين صلى الله عليه وسلم؛ لأنَّ المتنفذين من رجال الدين في الملل الأخرى قد تعرَّضوا بالهجوم على المصطفى صلى الله عليه وسلم، وهم المحسوبون بين قومهم ممَّن يتوقع منهم أن يعوا التاريخ، ويَحكموا عليه بقدرٍ من الإنصاف الذي يرشدون إليه، لا سيما أنهم يخرجون أسبوعيًّا على الفضائيات، خاصةً صباح كل أحد، عدا عن المواقف الوعظيَّة التي يَجتمع لها الناس في الملاعب الرياضية والأماكن العامة والتي تَستوعِب عشرات الآلاف، تفوق الثمانين ألف مستمع يقفون أمامهم يدعون إلى الفضيلة وإلى السماحة وإلى تبني تعاليم المسيح عيسى ابن مريم عليه وعلى والدته صلاة الله وسلامه الذي بشَّر بمحمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم. [1] انظر: الحسين بن مُحمَّد آيت سعيد: السنَّة النبوية وحي من الله محفوظة كالقرآن الكريم، في: ندوة عناية المملكة العربية السعودية بالسنَّة والسيرة النبوية؛ مرجع سابق، 75 ص. [2] رواه مسلم في كتاب الأقضية، باب نقض الأحكام الباطلة وردِّ المحدثات، حديث رقم 3342. [3] رواه البخاري في كتاب الصلح، باب إذا اصطلحوا على صلح جور فالصلح مردود، حديث رقم 2499، ورواه مسلم في كتاب الأقضية، باب نقض الأحكام الباطلة وردِّ المحدثات، حديث رقم 3343.
القُرْآن يسجل غزوة أُحد سجل القُرْآن الكريم غزوة أُحد وما دار فيها من أحداث، وغاص في أعماق النفوس، فكانت المرآة الحقيقية لما حدث، حيث البعد عن إضافات الرواة ورؤيتهم من زاوية نظرتهم الخاصة؛ قال الله تعالى: ﴿ وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ * وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ [آل عمران: 122، 123]، بيان المصافة قبل بدء المعركة، وتوزيع النبي صلى الله عليه وسلم لقواته وَفْق تكتيك حربي معين، ما بين ميمنة وميسرة وقلب، وقادة الفرق، وحملة الألوية، ومعنى ﴿ تُبَوِّئُ ﴾؛ أي: تري كل فئة منهم مكانهم الذي سيقفون فيه قبل بدء القتال، وقد أكد النبي صلى الله عليه وسلم على مكان الرماة الخمسين بقيادة عبدالله بن جبير بقوله: ((انضحوا الخيل عنا، ولا نؤتين من قِبلكم، الزموا مكانكم إن كانت النوبة لنا أو علينا، وإن رأيتمونا تخطفنا الطير فلا تبرحوا مكانكم)). وأما الطائفتان المذكورتان، فقد قال جابر بن عبدالله: فينا نزلت نحن بنو حارثة وهم الأوس، وبنو سلِمة وهم الخزرج، وكان الخلاف بعد أن انسحب عبدُالله بن أبيٍّ ابنُ سَلُولَ من دخول المعركة بثلث الجيش، وكان الخلاف في الرجوع أو الإقدام وعدم مجاراة المنافقين فيما فعلوا، فتولوا الله حبًّا في الدفاع عن دينه، فكان الله وليهما، وأما في أُحد فلم تقاتل الملائكة، وكان المدد مشروطًا بالصبر والتقوى: ﴿ بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ ﴾ [آل عمران: 125]؛ فعن ابن عباس قال: "كانت سيما الملائكة في يوم بدر عمائم بيضاء قد أرسلوها بين ظهورهم، وفي يوم حنين عمائم حمراء، ولم تضرب الملائكة في يوم سوى يوم بدر"، وكان حضورهم في الغزوات عددًا ومددًا لا يضربون، وقال تعالى: ﴿ لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ ﴾ [آل عمران: 128]؛ أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أنس: أن النبي صلى الله عليه وسلم كُسِرت رَبَاعِيَتُه يوم أُحد، وشُجَّ وجهُه حتى سال الدم، فقال: ((كيف يفلح قوم فعلوا هذا بنبيهم وهو يدعوهم إلى ربهم؟))؛ فأنزل الله: ﴿ لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ﴾ [آل عمران: 128]. ثم كانت بعد ذلك آيات فيها استطراد وتنبيه وتعليم، ثم عودة إلى موضوع غزوة أُحد: ﴿ وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ ﴾ [آل عمران: 139 - 141]، فيه تقوية لعزيمة المسلمين، وطمأنة لهم بأنهم الأعلون مهما حصل لهم، وأن هذه النكسة كانت درسًا لأخذ العبرة لمزيد من الإيمان والتماسك والالتزام بتعليمات القيادة، ومع ذلك فلا تظنوا أن الإيذاء والجراحات قد أصابتكم وحدكم، وأن عدوكم لم يصب بأذى، وأنه خرج سليمًا من المعركة، فلقد أصيب هو أيضًا، ومسه قرح مثلكم تمامًا، والأمر دُوَل، مرة لكم، ومرة عليكم، ولكن دون استئصال؛ لأن الله أراد لهذا الدين أن ينتشر، وأنتم مَن اختارهم الله لنصرة نبيه ونصرة الإسلام. واعلموا أن ما حصل لكم في أُحد هو اختبار وتمحيص لصبركم، وليتبين المؤمن الذي يقاتل لإعلاء كلمة الله ممن جاء للدنيا أو المغنم؛ لأن دخول الجنة له شروطه واختباره؛ ﴿ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ ﴾ [آل عمران: 142]؛ فالله تعالى هو العالم بمن سيدخل الجنة، ولكن هذا الاختبار لكي يرى منكم المجاهدة، ويُشهد ملائكته عليكم، وأما الذي تمنوا لقاء العدو لأنه فاتهم في بدر فها قد أتاكم في أُحد؛ ﴿ وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ ﴾ [آل عمران: 143]، فتمنِّي القتال أمر ليس سهلًا، وإنما يحتاج إلى مصابرة وقوة تحمُّل وثبات؛ فالموت ورؤيا الدماء تسيل والرؤوس تتطاير لا يكفيه التمني، وإنما المعايشة في ساحة القتال والصبر على الجراح، فالذين تمنوا لقاء العدو وكانوا يظنون الأمر سهلًا ها هم عندما قامت الحرب علَتْهم رهبة، وعرفوا شدة البأس في ساحات القتال، وأنها تتطلب القوة والصبر؛ لذلك قال عليه الصلاة والسلام: ((لا تتمنوا لقاء العدو، وسَلُوا الله العافية، فإذا لقيتموه فاصبروا، واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف))، ثم عاتب الله تعالى مَن كان قد سمع دعوى الكفار بأن النبي صلى الله عليه وسلم قُتل، فأسقط في يده ورمى سلاحه وجلس ينتظر الموت؛ لأن الدنيا في نظره قد انتهت، وهذا الشعور أمر محبط، واستسلام مهين؛ فالدنيا قائمة، والحياة مستمرة إلى وقت معلوم، ومجاهدة الكفار لا تنقطع، فإن غيب الموت قائدًا فليس هذا نهاية الدنيا، فليستلم من بعده قائد آخر، وإلا فإن الكفر يستشري ويقوى، وما أحسن من قال: قاتلوا وموتوا على ما مات عليه نبيكم، أمثال أنس بن النضر؛ قال الله تعالى: ﴿ وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ ﴾ [آل عمران: 144]. ثم ضرب الله مثلًا بمن سبق من الأنبياء الذين قاتلوا الأعداء فكانوا مثال الصبر والتحمل والثبات في ساحات القتال، ولم يوهن قوتهم ما أصابهم فيها: ﴿ وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ ﴾ [آل عمران: 146]، ثم أعطانا الله السلاح القوي الذي يجعلنا نتفوق به على أعدائنا: ﴿ بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ ﴾ [آل عمران: 150] الاعتماد على الله؛ فهو الناصر لعباده، وهو الذي يقذف الرعب في قلوب المشركين: ﴿ سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ ﴾ [آل عمران: 151]، سلاحانِ قويان للمؤمن يدرع بهما؛ الاعتماد على الله، ثم ما يقذف الله مِن الرعب في قلوب المشركين، ولقد قال عليه الصلاة والسلام: ((نُصرتُ بالرعب مسيرة شهر)). ثم عاد السياق القُرْآني إلى المعركة ليوقفنا على مشاهدَ من المعركة: ﴿ وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [آل عمران: 152]، في بداية المعركة عندما أقدمتم بقلوب مفعمة بالإيمان خالية من حب الدنيا نصركم الله عليهم، فكانت بداية المعركة لكم، وأراكم في عدوكم ما تحبون من النصر حتى ولوا الأدبار ومنحوكم ظهورهم، ولما مِلتم إلى الدنيا والغنائم وتسابقتم عليها، تُركتم إلى قصدكم وهوى أنفسكم، فانقلب أمركم، وأعمل العدو فيكم سيفه، ألم يأمر نبيكم الرماة بالمحافظة على الموقع وعدم تركه مهما حصل؟ ثم إذا بهم لما رأوا الغنائم يتركون موقعهم من أجل حطام الدنيا، ونازعوا قائدهم ابن جبير عندما ذكَّرهم بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يستمعوا إلى تذكيره، فكان منكم من يريد الآخرة، وآخرون أرادوا الدنيا، فاضطربت القلوب، واختلفت في المقصد، فانعكس هذا على الأداء وسير المعركة، ثم كشف الله تعالى من أمرهم أكثر فقال معاتبًا لهم: ﴿ إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾ [آل عمران: 153]، فقد صعدوا الجبل منهزمين لا يلتفتون إلى شيء، وبقيت القلة القليلة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد ناداهم أن هلموا إليَّ عباد الله، وكما حدث في بدر من الرأفة بالمسلمين فغشيهم النعاس، فقد خفف الله عنهم في أُحد فغشاهم النعاس أيضًا: ﴿ ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ﴾ [آل عمران: 154]، وقد رُوي أن النعاس في الصلاة من الشيطان، وفي القتال من الله تعالى، يزيل به هم المسلم، وقد روي عن أبي طلحة قال: كنت فيمن تغشاه النعاس يوم أُحد حتى سقط سيفي من يدي مرارًا، يسقط وآخذه، يسقط وآخذه، وفي رواية أخرى له: غشينا النعاس في مصافنا يوم أُحد، فجعل السيف يسقط من يدي وآخذه، ويسقط وآخذه، وفي رواية أخرى له: قال: فرفعت رأسي أنظر وما منهم أحد إلا يميل تحت جحفته من النعاس، وأما الطائفة الأخرى من الذين أهمتهم أنفسهم فهم المنافقون، ليس لهم إلا أنفسهم، أجبن قوم وأخذلهم للحق، وأهل شك وريب في الله، لكأن الإسلام لم يدخل في قلوبهم وهم مقيمون على معتقد الجاهلية، وقد اعتقدوا أن الإسلام سينتهي من الوجود ولم يكن عندهم يقين بانتصار الإسلام وانتشاره ليبلغ مشارق الأرض ومغاربها، ويخفون الشك في الإسلام عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ﴿ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا ﴾ [آل عمران: 154] هكذا سمع الزبير قول معتب بن قشير، ورد الله تعالى على قولهم: ﴿ قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ ﴾ [آل عمران: 154]، لقد كانت غزوة أحد درسًا بليغًا، محَّص الله فيه أهل الحق من أهل الزيغ، وكشف فيه عن خبيئات المنافقين، وأن هؤلاء لا يعتد بهم عند الجد، وفي حومة القتال، ولا يؤمن جانبهم، حتى ولو كانوا مع المسلمين في الظاهر؛ فهم عنصر مثبط منهزم، يفلون من معنويات المقاتلين. ثم يأتي العتاب الشديد للمنهزمين، وأن الشيطان قد أغواهم، فالذي يرتكب مخالفة شرعية يصبح حليف الشيطان، وواقعًا تحت تأثيره وإغوائه، وهذا من زلل الشيطان للإنسان: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ ﴾ [آل عمران: 155]، لكن - كما يروى - كان هناك مجموعة من المتولين الهاربين يوم الزحف من خيار الصحابة، وهم بعيدون عن النفاق، فكان ذلك في حقهم زلة، وعن عبدالرحمن بن عوف أنهم ثلاثة، واحد من المهاجرين، واثنان من الأنصار: عثمان بن عفان، وخارجة بن زيد، ورافع بن المعلى، ولسابقتهم وفضلهم تاب الله عليهم، ثم أعقب ذلك تنبيهات عامة للمسلمين: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ * وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ ﴾ [آل عمران: 156 - 158]، تعليم للمسلمين بألا يدخلوا في قاموسهم واعتقادهم كلمة "لو"؛ لأنها - كما ورد - تفتح عمل الشيطان؛ فإن الأمر كله مقدر من الله ومكتوب، فلا تغير الحروب والغزوات مما قد كتبه الله وقدره، وإن مَن تكتب له الشهادة في هذه الغزوات التي هي ضد الكفر ولحماية الدعوة الإسلامية فإنه يكون قد فاز ونال رحمة الله ورضوانه، وأسكنه الله فسيح جناته، ثم يُظهر المولى تعالى بعضًا من صفات الرسول صلى الله عليه وسلم: ﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ ﴾ [آل عمران: 159]، ثم أخبَر تعالى بأنه إن نصر عبده أو عبيده فلن يهزمهم أحد مهما أوتي من القوة: ﴿ إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ ﴾ [آل عمران: 160]، فـ "لا" نافية للجنس؛ أي: لا أحد يغلبكم أبدًا إن كان الله معكم وأراد نصركم، وبالمقابل: ﴿ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ﴾ [آل عمران: 160]، وعلى المؤمنين أن يثقوا بنصر الله لهم ما داموا على الحق يقاتلون أعداء الله، مخلِصين له النية، ومتوكلين عليه، فهم لن يخذلوا أبدًا، وأما الانكسارات التي يتعرض لها المسلمون فهي نتيجة أخطاء في الفكر، وأخطاء مماثلة لِما كانت عليه حالة المسلمين في أُحد، فإذا تجنب المسلمون هذه الأخطاء فالله ناصرهم على أعدائهم ولن يغلبهم أحد أبدًا، وقد فهم عمر هذا وأفهمه للفاتحين: "نحن قوم أعزنا الله بالإسلام، فإذا ابتغينا العزة بغيره أذلنا الله"، لقد وازن المسلمون بين ما كان في غزوة بدر وما جرى لهم في أُحد، فحزنوا على ما أصابهم، وبكَوا قتلاهم، فكان العتاب الرقيق الذي يجبُرُ كسرهم، ويقوِّي عزيمتهم: ﴿ أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [آل عمران: 165]، فقد قتَل المسلمون في بدر سبعين وأسروا سبعين، وقُتل منهم في أُحد سبعون، فقد أصابوا من قريش ضعف ما أصابت قريش منهم، فضلًا عن أكثر من عشرين قتيلًا من قريش في أُحد: ﴿ وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ * وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ * الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ [آل عمران: 166 - 168]، بيان أن الذي أصابهم في أُحد من القتل والجراح كان بعلم الله، وبقضائه وقدره، ﴿ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [آل عمران: 166]؛ فالله عالم بهم، ولكن ليريهم أنفسهم إذا خالفوا حتى يمروا بهذه التجرِبة الأليمة فلا يعودوا لمثلها في اللقاءات القادمة، وكذلك ﴿ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا ﴾ [آل عمران: 167]، فكان جوابهم ﴿ لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ ﴾ [آل عمران: 167]، فكانوا يتذرعون بالحجج الواهية، أو تعالوا دافعوا عن أنفسكم فهذا الجيش قاصد المدينة ليقتل أهلها بلا تفريق بين مسلم أو منافق، فكان الجواب نفسه ﴿ لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ ﴾ [آل عمران: 167]، بذلك عرفوا بنواياهم السيئة وأنهم كانوا ﴿ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ ﴾ [آل عمران: 167]؛ فكلامهم في الظاهر شيء، وما أخفوا في باطنهم ضد الإسلام شيء آخر، فهم يعملون ضد الإسلام؛ فلا تصدِّقوا أقوالهم الظاهرة؛ لأنها كذب وغطاء لما في نفوسهم من حقد، ﴿ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ ﴾ [آل عمران: 167]، وكانوا يرددون عبارة ابن سلولَ ﴿ لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا ﴾ [آل عمران: 168]؛ لأن رأيه كان قتالهم داخل المدينة، لكن المتخاذل يصطنع الأعذار، حتى ولو كانوا مع رأيه في قتال الكفار داخل المدينة لخذل المسلمين أيضًا بأعذار أخرى، إن المسلم المطيع يكون مع الجماعة حتى ولو قررت خلاف رأيه، فكيف وقد قرر رسول الله صلى الله عليه وسلم الخروج؟ فعليه الالتزام، ويروى أنه لما انخذل عن المسلمين بثلث الجيش، وقال: أطاعهم وعصاني - يعني النبي - والله ما ندري علام نقتل أنفسنا ها هنا؟ فرجع بمن تبعه من أهل النفاق، ولحق به عبدالله بن عمرو بن حرام، فقال له: يا قوم، أذكركم الله أن تخذلوا نبيكم وقومكم عندما حضر عدوهم، قالوا: لو نعلم أنكم تقاتلون ما أسلمناكم، ولما لم يسمعوا منه وأبوا إلا الانصراف، قال لهم: أبعدكم الله أعداء الله وأعداء رسوله، فسيغني الله عنكم، ثم أتت البشارة من الله تعالى للشهداء وما سيلاقون في آخرتهم من سعادة ونعيم وأنهم وإن ماتوا في الدنيا فإنهم أحياء في الآخرة: ﴿ وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [آل عمران: 169 - 171]، ورد أن هذه الآية نزلت في حمزة وأصحابه من شهداء أُحد، وورد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لما أصيب إخوانكم بأُحد جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر ترِد أنهار الجنة وتأكل من ثمارها وتأوي إلى قناديل من ذهب معلقة في ظل العرش، فلما وجدوا طيب مأكلهم ومشربهم وحسن مقيلهم، قالوا: يا ليت إخواننا يعلمون ما صنع الله لنا!))، وفي لفظ: ((قالوا: مَن يبلغ إخواننا أنَّا أحياء في الجنة نرزق؛ لئلا يزهدوا في الجهاد ولا ينكلوا عن الحرب؟! فقال الله: أنا أبلغهم عنكم))؛ فأنزل: ﴿ وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا ﴾ [آل عمران: 169].
موسى عليه السلام (3) ذكرتُ في ختام الفصل السابق أن القبطيَّ أخبرَ آل فرعون أن موسى عليه السلام هو الذي قتل القبطيَّ، وأنهم تآمروا عليه، وقد أحسَّ موسى عليه السلام بغمٍّ شديدٍ، وامتحان عسير وفتنة شديدة، وقد سخَّر الله تعالى لموسى عليه السلام رجلًا قريبَ المنزل من آل فرعون يسكن معهم في أقصى المدينة كالعادة في القديم والحديث أن الأشرافَ يسكنون الأطرافَ، ويعرف أخبارهم، ويُكنُّ لموسى عليه السلام محبة قوية، فسارع يبحث عن موسى عليه السلام حتى وجدَه في داخل المدينة، وأخبره أن آل فرعون يأتمرون بموسى ليقتلوه، وأمره أن يسارع بالفرار من مصر ليَسْلَمَ من شرِّهم، وينجو من مكرهم، وبيَّن له أن الحامل له على ذلك هو حُبُّه ونصحه له، فخرج موسى عليه السلام مسرعًا متجهًا إلى سيناء وهو يدعو ربَّه أن ينجِّيه من القوم الظالمين الذين يقررون قتل من لا يستحق القتل، وقد عزم عليه السلام أن يتجه تلقاء مدين، غير أنه غيرُ خَبيرٍ بالطريق إليها، فتضرَّع إلى الله تعالى أن يهديه إلى طريقها، وأن يوفِّقه إلى سلوك طريق قصد، وأن يرشده إلى سواء السبيل. واستمرَّ في سيره عليه السلام حتى ﴿ وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ ﴾ ووجد عليه جماعة من الناس يسقون مواشيهم، ووجد أمامه قبل هؤلاء الجماعة الذي يسقون مواشيهم امرأتين تدفعان غنمهما حتى لا تردَ الماء مع رؤية موسى عليه السلام للغنم في حاجة إلى الماء، فقال موسى عليه السلام للمرأتين: ما شأنكما؟ لماذا تدفعان غنمكما عن الماء وهي في حاجة إليه؟ قالتا: نحن لا نحب أن نختلط مع الرجال الرعاء، ولنا أب شيخ كبير لا يستطيع أن يتولَّى سقي أغنامنا، فتقدَّم موسى عليه السلام وسقى لهما دون أن يطلب منهما أجرًا على ذلك، ولما سقى لهما أغنامهما تولَّى إلى ظلِّ شجرة قريبة وجلس تحتها وناجى ربه قال: ﴿ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ ﴾ [القصص: 24]، فجاءته إحدى المرأتين والحياء بادٍ على محياها ومشيتها ﴿ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا ﴾ [القصص: 25]، ويكافئك على هذا الإحسان بالإحسان، فلما وصل موسى عليه السلام إلى الشيخ الكبير وقصَّ عليه قصته مع آل فرعون قال له الشيخ الكبير: ﴿ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴾ [القصص: 25]، فطلبت إحدى المرأتين من أبيها أن يستأجر موسى عليه السلام ليرعى الغنم، وأشعرت أباها أنه خير من يُستأجر؛ لأنه قويٌّ أمين، يجمع أهمَّ وأحسن وأوفى صفات الأجير، وكأنها عرفت ذلك من مراقبتها له، وهو يسقي الغنم مع غضِّ بصره وحسن سمته عليه السلام، فقال الشيخ الكبير: إني أحب أن أزوجك إحدى ابنتيَّ هاتين، على أن تشتغل عندي أجيرًا ثماني سنوات، فإن أتممتَ في الخدمة عشر سنوات فهذا من عندك، ولا أشقُّ عليك ولا أجهدك، فوافق موسى عليه السلام على أن يتزوج إحدى المرأتين بمهرٍ هو خدمة ثمانية أعوام، وإن شاء أتمَّها عشرًا، ولا شك في أنه مهر مرتفع، لكن حكمة الله واصطناعه لموسى عليه السلام، حتى يكون هذا الأجل هو الباقي لموسى عليه السلام حتى يبعثه الله رسولًا، ويتم عليه نعمته ويجيء إلى الطور على قَدَر. وإلى ذلك كله يشير الله عز وجل؛ حيث يقول في سورة طه مبينًا ما أصاب موسى من الهمِّ والغمِّ بعد مقتل القبطي واستصراخ الإسرائيلي به في اليوم الثاني وهروبه إلى أرض مَدْين ومكثه بها ما شاء الله أن يمكث فيقول: ﴿ وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى * وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي ﴾ [طه: 40، 41]. ويقول الله عز وجل في سورة القصص: ﴿ وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ * قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ * فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ * فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ * وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ * فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ * وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ * فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ * فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ * قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ * قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ ﴾ [القصص: 15 - 28]. وقد ذكرت في قصة شعيب عليه السلام أنَّه لم يكن صِهْر موسى عليه السلام، وأن الشيخ الكبير الذي زوَّج موسى عليه السلام ابنته في مَدْين هو رجل صالح من بقايا من آمَن بشعيب عليه السلام، وذكرت ما يدلُّ على ذلك من كتاب الله تبارك وتعالى في هذا المقام. هذا، وأما ما اشتهر عند الناس من حديث الفتون الذي ذكره النسائي في كتاب التفسير من سننه المتضمِّن قصة موسى مبسوطة مِن أولها إلى آخرها الذي رواه النسائي، فقال: حدثنا عبدالله بن محمد، حدَّثنا يزيد بن هارون، حدثنا أصبغ بن زيد، حدثنا القاسم بن أبي أيوب، أخبرني سعيد بن جبير قال: سألت عبدالله بن عباس عن قول الله تعالى لموسى: ﴿ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا ﴾ فسألته عن الفتون: ما هي؟ فقال: استأنِف النَّهار يا ابن جبير فإن لها حديثًا طويلًا، فلما أصبحتُ غدوتُ إلى ابن عباس لأتنجز منه ما وعدني من حديث الفتون، فساق الحديث، قال ابن كثير في تاريخه بعد أن ساقه: هكذا ساق هذا الحديث الإمام النسائي وأخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم في تفسيريهما من حديث يزيد بن هارون، والأشبه والله أعلم أنه موقوف، وكونه مرفوعًا فيه نظر، وغالبه متلقًى من الإسرائيليات، ثم قال: وفي بعض ما فيه نظر ونكارة، والأغلب أنه من كلام كعب الأحبار، وقد سمعتُ شيخنا الحافظ أبا الحجاج المزي يقول ذلك، والله أعلم. وإلى الفصل القادم إن شاء الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الشجاعة الأدبية للفاروق يعجبني دائمًا ما أقرؤه عن الفاروقِ عمرَ؛ لأن القراءة فيه تحلو، تُرقِّق العاطفة، وتبعث المعاني السامية التي تحلِّق في عالم اليقين الثابت، والهمة العالية، والصراحة الغالية، والشجاعة الأدبية النادرة، والبت في الأمور بوضعها في مكانها المناسب عند وقتها الْمُواتي، قلبه جمع بين الشدة التي لا تشوبها القسوةُ، والرفق الذي لا يشوبه الضعف، والحكمة التي لا يُؤتاها إلا مُلْهَم، وحسن البصر والبصيرة، وكأنه يعرف النتيجة قبل المقدمات، والبراهين قبل المعطيات، والنور قبل الظلمات، والوقوف عند الحق ولو خالف رأيه، لا يزدهيه مدح ولا يستثيره نقد، عرَف ما يرفع شأن الإنسان فالتزمه، وما يحط من قدره فاجتنبه، فارتفع بالأولى ونجا بالثانية. إن الحديث عن مثل شجاعة الرجل هي في حد ذاتها هَرْطَقَةٌ كتابية؛ إذ إن الكتابة في حرم الكمال كمال، والسكوت عنه أشد كمالًا وجمالًا، ولا مثل الشجاعة عند عمر، فعمر كله شجاعة؛ بدنية وأدبية؛ لأنه رجل صَدَقَ إيمانُه، لا يثبت عنده إلا بإشهاره على رؤوس الرجال، عساهم يحظَون من هذا الخير بنصيب، رجولة تدفعه إلى إظهار ما آمن به؛ إذ إنه - وهو الفارس المحنَّك، والجريء الجسور - يفزع من الخوف، ويفر من الجبن، لا يأنس إلا بالوضوح، ولا يجد الراحة إلا في الصراحة، ولو عاداه الناس جميعًا بسببها، أليس الناس من خوف الأذى في أذًى؟ ومن الهرب من عواقب حمل الحق وتكاليفه في مَوات؟ ما طال الخوف بقوم واستحكم، إلا طال بهم ليلُ الذُّلِّ واستبهم. رجل من مَعدِنِ الرجولة القليل، عرَفه الرسول في أوديةِ مكَّةَ ودروبها، فأدرك بحسِّه النقي وحكمته النبوية أثرَه في تثبيت دعائم الدين ونصرته، ورؤيته الشاملة للوجود الإسلامي كله، وتصويره التحليلي للشخصية العمرية، وإدراكه لعوالمها الداخلية، والنفسية والروحية، والأخلاقية والفكرية الرحيبة، واستشرافه لمستقبل هذا الدين، ومستقبل الإنسانية في ظلِّه، فتمنَّى أن يشرح الله صدره للإسلام، فدعا له وهو لم يكن بعدُ قد أسلم؛ فقال: ((اللهم أعزَّ الإسلام بأحبِّ الرجلين إليك؛ بعمرَ بنِ الخطاب، أو بأبي جهل عمرو بن هشام)) [1] . وكانت الدعوة على قِصَرِها وقلة تفاصيلها متمتِّعة بأغلب خصائص وسمات الدعاء، فكانت جمَّة المعاني، قوية النظم والأمانيِّ، فيها من الخير الكثير والتفاني؛ إذ بها قد يُعَزُّ الإسلام بأحب العمرين، فكان هو أحبهما إلى الله تعالى، جاهلي كَسَبَهُ الإسلامُ، فكسبه العالم الإنساني كله، ونفس ضائعة رُدَّت إلى صاحبها، فعرف منها ما كان ينكر، واطلع منها على ما كان يجهل، ونفع بها أمته وأممًا لا تُحصى، وصنع بها الإسلام أعظم ما يصنعه قدر. رجلٌ فاروقٌ فرَّق الله به بين الحق والباطل، شجاع بدنيًّا وأدبيًّا، أرهب الصناديد، وانتصر للمحاميد، خاشع لربه متبتِّل في محرابه، قالت عنه أم أبان عتبة بن ربيعة: "إنه رجل أذهله أمر آخرته عن أمر دنياه، كأنه ينظر لربه بعينيه"، وذلك عندما عرض عليها الزواج، فاعترضت ورفضت، فهو في الحق أصدقُ وصفٍ لإيمان هذا الرجل المتفرد بإيمانه، كما تفرد بكثير من شؤونه، إنه تجاوز حدَّ الإيمان إلى حدِّ الرؤية والعِيان، وهي قولة عابرة من قائلة أصابت ما لم يُصِبْه قائل، ولعلها لا تدري مدى صوابها، على الرغم من رفضها إياه. درجت طفولته على بِطاح مكة وسُهُولِها، فلوَّنت بشرته القمحية شمسها المحرقة، وجوِّها اللاحف، وبين جبالها الشُّمِّ الرواسي، وقممها العالية تفتح شبابه، وقوِيَت سواعده، رجل قيل عنه: إنه لما صدر من مِنًى (في آخر حجاته) أناخ راحلته بالأبطح، ثم كوم كومة من بطحاء - الحصى الصغير - ثم طرح عليها رداءه، ثم استلقى ومد يديه إلى السماء، وقال: "اللهم كبِرت سني، وضعُفت قوتي، وانتشرت رعيتي، فاقبضني إليك، غير مضيِّعٍ ولا مفرط" [2] ، واستجاب الله له، فما انسلخ ذو الحِجَّة من ذاك العام حتى طُعِنَ فمات رضي الله عنه. قال عنه عبدالله بن مسعود في أسمى صور الحب النبيلة، عندما مات أخوه عتبة بكاه في لوعة وشوق وحب، فقيل له: أتبكي؟ قال: "نعم، أخي في النسب، وصاحبي مع رسول الله، وأحب الناس إليَّ، إلا ما كان من عمر بن الخطاب" [3] . لم يبكِ أخيه من ناحية صلة الدم وحدها، ولكنه يبكي فيه رابطة العقيدة الغالية، والصحبة النبوية الطاهرة، والعمل في سبيل الله، ثم بعد كل هذه الروابط الوثيقة بينه وبين أخيه، نراه أعمق حبًّا لعمرَ؛ لأنه يعلم أنه أكثر نفعًا للإسلام منه ومن أخيه، وأكثر أثرًا فيه، وأبعد أملًا منه، وقال عنه: "ما زِلْنا أعزَّة منذ أسلم عمرُ، كان إسلامه فتحًا، وهجرته نصرًا، وإمارته رحمة، قد رأيتُنا وما نستطيع أن نصلي بالبيت حتى أسلم عمر"، لك الله يا عمر. كان رضي الله عنه يتصاغر في نفسه، على قدر ما يراه من بواعث الكبرياء، لا على قدر ما يراه من بواعث الصِّغر، وكلما اعتزَّ مَن حوله مِن خاصة أهله، وخُلصاء قومه ورعاياه، بما يرَونه فيه من بَسْطَةِ السلطان المبسوط، والكلمة العالية في أمر المضبوط، حطَّ من شأن نفسه، فقال لأصحابه يومًا وقد مرَّ ببعض الشِّعاب: "لقد رأيتُني في هذه الشعاب أرعى إبل الخطاب، وكان غليظًا يُتْعِبني، ثم أصبحت وليس فوقي أحد"، وهو من هو؟ إنه خليفة المسلمين، وأمير المؤمنين، فضايقت كلمته ولده فقال له: ما حملك على ما قلتَ يا أمير المؤمنين؟ قال: "إن أباك أعجبته نفسه فأحب أن يضعَها"؛ أي: يُقلِّل من شأنها. وانظر هنا إلى كلمة أمير المؤمنين يقولها الابن، ثم انظر إلى كلمة أباك يقولها أمير المؤمنين، هو من هو؟ إذا ذكرت الفاروق، أشار إليه البَنان والبنيان بأنه عمر بن الخطاب، وحسبُ عمرَ ذكرًا وعراقة أنك إذا أطلقتَ اسمه مجردًا فقلت: قال عمر، فلن تذهب المقالة في الأولين والآخرين إلا إليه؛ لأنه أبرز وأجَلُّ من أن يدل عليه نسب، أو تعلو به كُنية، أو يشرِّفه لقب. فقد تروق الفرد ما يكتب عن عمرَ من معالم التربية الصحيحة، ولو كان في قدر الله أن يمُنَّ على الأمة بحظٍّ من بضع عميرات مثله، لانقشع الغيم عنها، وأشرق الأمل ونَصَعَ؛ لأن خشيته لربه كانت لها الأثر العميق في الدولة، ولا أعني الخشية كثرة صلاته وصيامه وزكاته وحجِّه، فما أكثر من يفعل ذلك، ولكنه ليس له وزن وثِقَلٌ عند الله! حقًّا إن هذه الفرائض هي الأسس التي بُنِيَ عليها الإسلام، ولن يكون إسلامٌ بغيرها، إنما القصد بالخشية حالٌ تُلازِم القلب، فتجعله في حضور دائم مع الله، كل خَفْقَةٍ من خَفَقَاتِهِ واعية ذاكرة، كل نفس من أنفاس صدره تفكُّر وتدبُّر، إن أدى فريضة فراحةٌ ورضاء، وإن تقدَّم بالنوافل فخوفٌ ورجاء، إن صحا القلب فمتعة روحانية وإخاء، قلب مُزْهِر فيه سراج وضَّاء، سراج الخشية الذي يجعل الله متجليًا في كل الأشياء، يرى الله بقلبه قبل أن يرى القبلة التي يصلي إليها. كان رجلًا لا يعرف من دنياه إلا مكةَ وما يحيط بها، فكانت دنياه محصورة، ومآله في الدنيا محدودة، فماذا حدث حتى أصبح حديثَ الدنيا بأسرها، كيف دانت الدنيا له ولجنده؟ وكيف أصبحت الدنيا والأرض بأقطارها الأربعة مفتوحة أمام كلمة عمر التي يستمدها من كتاب الله؟ ماذا جرى له حتى أصبح موضعَ دراسة علماء السياسة والاقتصاد والاجتماع وقادة الجيوش؟ إنه الإسلام؛ دين الله الخالد، تلك كانت مقدمة عن الرجل لنعرف لِمَ نأخذ عنه تلك الشجاعة الأدبية. جاء الأقرع بن حابس وعيينة بن حصن إلى أبي بكر فقالا: يا خليفة رسول الله، عندنا أرض سَبِخَةٌ ليس فيها كلأ ولا منفعة، فإن رأيت أن تُقْطِعناها، فأجابهما أبو بكر وكتب لهما، وأشهد القوم وعمر ليس فيهم، فانطلقا إلى عمرَ ليُشْهِداه فيه، فتناول عمر الكتاب ومحاه، فتذمَّرا له وقالا له قولة سيئة، فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتألَّفكما والإسلام يومئذٍ قليل، وإن الله قد أعزَّ الإسلام، اذهبا فاجْهَدا جَهْدكما، لا رعى الله عليكما إن رَعَيْتُما. فأقبلا إلى أبي بكر وهما يتذمران فقالا: ما ندري والله أنت الخليفة أم عمر؟! قال: لا، بل هو لو أراد، فجاء عمر وهو مُغضَب حتى وقف على أبي بكر فقال في شجاعته الأدبية: أخبرني عن هذا الذي أقطعتَهما، أرضًا لك خاصة، أم للمسلمين عامة؟ قال أبو بكر وهو من هو؟ خليفة رسول الله وأمير المؤمنين: بل للمسلمين عامة، فقال عمر: فما الذي حملك على أن تخص بها هذين؟ قال أبو بكر: استشرت الذين حولي فأشاروا عليَّ بذلك، وقد قلت لك: إنك أقوى على ذلك مني فغلبتني. قد يُقال: إن تصرف عمر رضي الله عنه لا يتماشى مع ما تواضع عليه الناس من قواعد التعامل في مثل هذه المواقف، ولكنه قول من لم يُؤتَ تقديرًا للعُرف بين الناس في الأزمنة المختلفة، ففي ذك العهد المكي والمدني النظيف لم تكن هناك رُتَبٌ ولا ألقاب، والخليفة بالنسبة لمن حوله كان يُخاطَب كأي فرد من الرعية بلا تفرقة، هذا وإن حب المساواة بين أفراد المجتمع، والحرص على مصالحه وغضبة الحق، والرغبة في إرجاع الأمير عن خطئه، كل ذلك أثار عمر فوقف من أبي بكر ذلك الموقف الشديد، كما أنه أراد أن يعلم الأقرع وعيينة أن العصبية والجاه والزعامة القبلية لا تجر لأصحابها في الإسلام مغانمَ، لا يظفَر بها المجردون من تلك الصفات. هذا الموقف في تقديري يبين لنا رأيَ أبي بكر في عمر رضي الله عنهما، وإنه لَنظر حكيم في تقدير الرجال للرجال في غير غضب ولا اعتداد بمكانة، ولا ينفَسُ أحد على أحد ما أتاه الله من فضله، إنه انصياع كامل للحق، ولو في قالبٍ لا يُرضِي الذين يؤثِرون الْمَظْهَرَ على المخبر، والذين يهتمون بالقشور دون حقائق الأمور. إني أَغْمَط وليَّ الله عمرَ رضي الله عنه حقَّه؛ إذ أنا لم أعرض له في مجال شجاعته الأدبية، وليس بمستنكَر أن يكون هؤلاء الناس من أصحاب تلك الشجاعة، وليس بضائري أن أُشِيدَ به من تلك الناحية، لأبيِّنَ ما يفعل الإيمان وخشية الله وتملُّك الشجاعة الأدبية في نفوس الصالحين، وإني لَمُوقِن بداءة أنني لن أصل إلى مبتغاي مع عمر في هذا المقام الجليل، ومع الإحساس الصـادق، فإنـي مُقْـحِم نفسـي وسأكتب، ودافعي من الكتابة أني أكتب متعبدًا لله أولًا، ومحبًّا لعمر ثانيًا، وطالبًا للأجر ثالثًا. فما مرَّ بالعالم كله على طول تاريخه، ووفرة شجعانه وحُكَّامه، بعد عمر رضي الله عنه مَن ساواه أو دنا منه في أي ناحية من نواحيه، حتى لقد كان بعض من بَهَرَهم عمرُ يزعُمون أنه أسطورة اخترعها بعض أذكياء المسلمين، ولا يمكن لبشر أن يكون على هذا الغرار المذهل العجيب، وإني لأعتذر كل العذر لسيدي عمر رضي الله عنه، وإن كنت أعلم أن ما سأكتبه يرضيه ولا يغضبه. رأى عمرُ معاذَ بن جبل جاء من اليمن وقد أصاب نفعًا كثيرًا استكثره عليه، وأحب أن يرد هذا النفع إلى بيت مال المسلمين، فانظر إلى دقة التصرف وجلاله، وجلال التصرف ودقته وجماله بين من تناولوه، ووجهة نظر كل منهم في تقديره لصاحبه، تعرف كيف كانت النظرات الموضوعية هي أساس التعامل، في ذلك العهد الإسلامي الرفيع النظيف الجميل. ففي عام فتح مكة، بعث النبي صلى الله عليه وسلم معاذ بن جبل إلى طائفة من أهل اليمن ليجبره، وكتب إليه: إني عرَفت بلاءك في الدين، والذي ذهب من مالك حتى ركِبك الدَّين، وقد طِيبت لك الهدية، فإن أُهْدِيَ إليك شيء فاقبل، فمكث معاذ باليمن أميرًا، وكان أول من اتَّجر في مال الله، فمكث حتى ربِح ربحًا كثيرًا، فلما مات رسول الله، قدِم معاذ إلى المدينة، فقال عمر لأبي بكر: أرسل إلى هذا الرجل فَدَعْ له ما يعيشه وخُذْ سائره منه، فقال أبو بكر: إنما بعثه النبي ليجبره، ولست بآخذ منه شيئًا إلا أن يعطيني، ورأى عمر أن أبا بكر لم يأخذ برأيه، ولكن عمر مقتنعٌ بصواب رأيه، فذهب إلى معاذ لعله يرضى، فقال معاذ: إنما بعثني رسول الله ليجبرني ولست بفاعل [4] . إن عمر لم يذهب إلى أبي بكر مستعديًا، ولكنه كان يريد الخير لمعاذ وللإسلام والمسلمين، وها هو ذا معاذ يرفض نصيحته، ويعلم عمر أنه ليس بصاحب سلطان عليه فينصرف راضيًا؛ لأنه قام بواجبه من النصيحة، ولكن معاذًا رأى بعد رفضه نصيحة عمر ما جعله يذهب إليه قائلًا: قد أطعتك، وإني لَفاعل ما أمرتني به، فإني رأيت في المنام أني في خوضة ماء قد خَشِيت الغرق، فخلَّصتني منه يا عمر، ثم ذهب معاذ إلى أبي بكر رضي الله عنهما، فذكر ذلك كله له، وحلف أنه لا يكتمه شيئًا، فقال أبو بكر: أنا لا آخذ شيئًا قد وهبته لك، فقال عمر: هذا حين حلَّ وطاب. وهكذا تُحَلُّ المشكلات بين الحاكم وبِطانته ورعيته في رفق ولين وتبيُّن، يُنهي الأمور في مودة وسلام، ناصح ينصح، ومنصوح يترنح، وحاكم يكبح، فتستقيم النصيحة في قلب المنصوح، وفي مقاصدها تنجح، لك الله يا عمر. والعبرة والتربية الجميلة وتحليل الصورة في تقديري من السياق هنا ما يلي: • خليفة اختص رجلين بشيءٍ ليس له أن يتصرف فيه، أخبرني عن هذا الذي أقطعتهما، أرضًا لك خاصة، أم للمسلمين عامة؟ والسؤال واضح ولا يحتاج إلى إيضاح: بل للمسلمين عامة. • الرجلان من ذوي العصبية والعُنْجُهِيَّة والاستعلاء، وهذا واضح من ردِّهما البذيء على عمر. • قد يظن من لم يتمكن الإسلام من قلبه أن هذه المعاني ما يزال لها بقاء في الإسلام، وذاك الظن في عرف الإسلام الجميل خاطئ. • إقرار أبي بكر خليفة المسلمين لعمر في تصرفه اعترافٌ بصواب شجاعة عمر الأدبية من الناحية الشرعية. • استعداء الرجلين لأبي بكر على عمر بضربهما على وترٍ يظنان أن له في الإسلام رنينًا: ما ندري والله أنت الخليفة أم عمر؟! • احتقار أبي بكر لهذا المعنى، فكان الرد أشد تقريعًا ورنينًا، بردِّه هذا الرد الْمُسْكِت: بل هو لو أراد. • التفاهم التام بين الحاكم والمحكوم، فاقهين كل الفقه لدِينهما الجميل، وكل ديننا سهل وجميل. • فيه جواز إحاطة الحاكم أو ولي الأمر ببطانة سياسية صالحة، توجهه وتنصحه وترشده إلى ما فيه خير البلاد والعباد، وإصلاح أمور القلب والفؤاد. • فيه عدم جواز قبول من تقلَّد منصبًا تابعًا للدولة، أو ارتقى مرتقًى عاليًا فيها لأي نوع من الهدايا تحت أي مسمًّى من المسميات؛ درءًا للشبهات، وبُعدًا عن المفاسد، وتغليبًا للمصالح. • أنه يجوز للحاكم أو ولي الأمر أن يرسل ولاة أمره ليجبرهم، إذا ما دعت الحاجة إلى ذلك سبيلًا، وإلا فلا؛ لذلك كتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى معاذ قائلًا: قد طِيبت لك الهدية، فإن أُهْدِيَ إليك شيء فاقبل. • يقدم الفرد نصحه بشجاعة أدبية رصينة لا نظير لها، فيقول عمر لأبي بكر رضي الله عنهما: أرسل إلى هذا الرجل، فَدَعْ له ما يعيشه وخذ سائره منه، وهذا واجب عليه في الدين. • ينبغي على الحاكم، أيًّا كان هذا الحاكم، أن يقوم بتوفير ما يقوِّم أمر كل فرد من رعيته في الدولة من أساسيات المعيشة، وذلك قوله: فدع له ما يعيشه. • لا يقتنع الحاكم بوجاهة الرأي فيرفضه، قائلًا: إنما بعثه النبي ليجبره، ولست بآخذ منه شيئًا، إلا أن يعطيني، وهذا حقه. • لا يغضب الفاروق صاحب النصيحة الفاروقية، والشجاعة الأدبية، ولا يتعصب لرأيه، فينصرف، وهذا من خُلُق الإسلام. • يذهب الناصح عمر إلى المنصوح صاحب الشأن معاذٍ فينصحه، فيأبى المنصوح فلا يُخاشِنه، ولا يقاطعه، وهذا التزام شرعي وواجب عليه. • يعرف الناصح وضعه كفرد في الدولة، فينصرف دون أن يثير ضجة أو يفتعل مشكلة، وهذا فَهمٌ منه في الدين. • يجد لصاحب الشأن معاذ بن جبل ما يقنعه بصـواب رأي الناصح بعد رفضه له، فيذهب إلى الناصح راضيًا برأيه، ثم يذهب إلى الحاكم ليخبره بما استقر عليه رأيه، والرجوع إلى الحق فضيلة من فضائل الدين، والدين كله حِكَمٌ وفضائل. • يَهَبُ الحاكم أمير المؤمنين المالَ للمنصوح صاحبِ الشأن، فيتغير سبب الحيازة، وهذا أصل في الدين وتشريع. • يرتاح صدر الناصح لتغير سبب الحيازة، فيرضى عن بقاء المال في يد صاحبه، وهذا فقه منه وأدب. • لا يجد واحدًا منهما ناصحًا كان أو منصوحًا، في صدره شيئًا على صاحبه، وهذه فطرة المؤمن الصادق. • جرى كل ذلك وتم في بساطة ووضوح؛ لأن كل أحداثه قامت على قواعد الإسلام الصحيحة، والإسلام كله قواعد صحيحة. [1] رواه عبدالله بن عمر، المحدث الطبراني، المصدر: المعجم الأوسط، رقم (4752)، خلاصة حكم المحدث: لم يروِ هذا الحديث عن سفيان بن عيينة إلا عبدالعزيز بن يحيى. [2] رواه عمر بن الخطاب، المحدث النخشبي، المصدر: تخريج الحنائيات، رقم 1292/2، خلاصة حكم المحدث: حسن صحيح، وقد أدرك سعيد بن المسيب عمر بن الخطاب، فسماعه من عمر لهذه الخطبة صحيح، والحديث صحيح. [3] رواه عبدالله بن عتبة، المحدث: الطبراني، المصدر: المعجم الأوسط، رقم (5873)، خلاصة حكم المحدث: لم يروِ هذا الحديث عن عون بن عبدالله إلا أبو العميس محمد بن عبدالله بن عبدالرحمن المسروقي. [4] رواه عبدالله بن عبدالرحمن بن كعب بن مالك، المحدث ابن حجر العسقلاني، المصدر: المطالب العالية بزوائد المسانيد الثمانية، رقم 120/ 2، خلاصة حكم المحدث: إسناده صحيح، ولكنه مرسل، ورُويَ موصولًا.
معاوية في عيون أئمة الأمة • قال الإمام الذهبي: معاوية بن أبي سفيان أمير المؤمنين، ملك الإسلام، أبو عبدالرحمن، القرشي، الأموي، المكي. • قال عنه عبدالله بن عباس -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما-: ما رأيتُ رجلًا كان أخْلَقَ للمُلْك من معاوية. • عيَّنه عمر أميرًا على الشام وكذلك كان أميرًا في عهد عثمان رضي الله عنهم. قال الإمام الذهبي رحمه الله: حَسْبُكَ بِمَنْ يُؤَمِّرُهُ عُمَرُ، ثُمَّ عُثْمَانُ عَلَى إِقْلِيْمٍ -وَهُوَ ثَغْرٌ- فَيَضْبِطُهُ، وَيَقُوْمُ بِهِ أَتَمَّ قِيَامٍ، وَيُرْضِي النَّاسَ بِسَخَائِهِ وَحِلْمِهِ، وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ تَأَلَّمَ مَرَّةً مِنْهُ، وَكَذَلِكَ فَلْيَكُنِ المَلِكُ. وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُ مِنْ أَصْحَابِ رَسُوْلِ اللهِ صلى الله عليه وسلم خَيْرًا مِنْهُ بِكَثِيْرٍ، وَأَفْضَلَ، وَأَصْلَحَ، فَهَذَا الرَّجُلُ سَادَ وَسَاسَ العَالَمَ بِكَمَالِ عَقْلِهِ، وَفَرْطِ حِلْمِهِ، وَسَعَةِ نَفْسِهِ، وَقُوَّةِ دَهَائِهِ وَرَأْيِهِ. • قال قبيصة بن جابر: ما رأيت أحدًا أعظم حلمًا، ولا أكثر سؤددًا، ولا أبعد أناةً، ولا ألين مخرجًا، ولا أرحب باعًا بالمعروف من معاوية. • عن عبدالله بن الزبير أنه قال: لله در ابن هند (يعني معاوية) إنا كنا لنفرقه [نخافه] وما الليث على براثنه بأجرأ منه، فيتفارق لنا، وإن كنا لنخدعه وما ابن ليلة من أهل الأرض بأدهى منه فيتخادع لنا، والله لوددت أنا مُتِّعنا به ما دام في هذا الجبل حجر وأشار إلى أبي قبيس. • سئل المعافى بن عمران: أيهما أفضل: معاوية أو عمر بن عبد العزيز؟ فغضب وقال للسائل: أتجعل رجلًا من الصحابة مثل رجل من التابعين؟ معاوية صاحبه وصهره وكاتبه وأمينه على وَحْي الله. • وسُئل عبدالله بن المبارك رحمه الله أيهما أفضل: معاوية بن أبي سفيان، أم عمر بن عبد العزيز؟ فقال: والله إن الغبار الذي دخل في أنف معاوية مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أفضل من عمر بألف مرة، صلَّى معاوية خلف رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال: سمع الله لمن حمده، فقال معاوية: ربنا ولك الحمد، فما بعد هذا؟ • ذُكر عمر بن عبد العزيز وعدله عند الأعمش، فقال : فكيف لو أدركتم معاوية؟! قالوا: يا أبا محمد، يعني في حلمه؟ قال: لا واللهِ، بل في عدله. • وقال الضحاك بن قيس: إن معاوية كان عود العرب، وجدَّ العرب، قطع الله عز وجل به الفتنة، وملَّكه على العباد، وفتح به البلاد. • روى الإمام أحمد عن أَبي عَبْدِ رَبِّهِ قَالَ: سَمِعْتُ مُعَاوِيَةَ يَقُولُ عَلَى هَذَا الْمِنْبَرِ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: (إِنَّ مَا بَقِيَ مِنْ الدُّنْيَا بَلَاءٌ وَفِتْنَةٌ، وَإِنَّمَا مَثَلُ عَمَلِ أَحَدِكُمْ كَمَثَلِ الْوِعَاءِ إِذَا طَابَ أَعْلَاهُ طَابَ أَسْفَلُهُ، وَإِذَا خَبُثَ أَعْلَاهُ خَبُثَ أَسْفَلُهُ) ؛ إسناده حسن. • روى الإمام أحمد في كتاب الزهد عن علي بن أبي حملة عن أبيه قال: رأيت معاوية على المنبر بدمشق يخطب الناس وعليه ثوب مرقوع. • وأخرج ابن كثير عن يونس بن ميسر الحميري الزاهد -وهو من شيوخ الأوزاعي- قال: رأيت معاوية في سوق دمشق وهو مردف وراءه وصيفًا، وعليه قميص مرقوع الجيب يسير في أسواق دمشق. • قال سعد بن أبى وقاص -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: ما رأيت أحدًا بعد عثمان أقضى بحق من صاحب هذا الباب؛ يعني معاوية. • وعن عبدالله بن عباس -رضي الله عنهما- أنه قال: ما رأيت رجلًا أخلق بالملك من معاوية. • وعن عبدالله بن عمرو بن العاص -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أنه قال: ما رأيت أحدًا أسود (من السيادة) من معاوية. • وعن أبي الدرداء -رضي الله عنه- أنه قال لأهل الشام: ما رأيت أحدًا أشبه صلاة بصلاة رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من إمامكم هذا (يعني: معاوية) . • أخرج الطبراني عن سعيد المقبري، قال: قال عمر بن الخطاب: تذكرون كسرى وقيصر ودهاءهما وعندكم معاوية! • قال عمر بن الخطاب -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- لما ولَّاه الشام: لا تذكروا معاوية إلا بخير؛ فإني سمعت رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول: (اللهم اهد به) . • روى البخاري في الصحيح أنه قيل لابن عباس: هل لك في أمير المؤمنين معاوية فإنه ما أوتر إلا بواحدة، قال: إنه فقيه. • قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- لم يكن من ملوك الإسلام ملكٌ خيرًا من معاوية، ولا كان الناس في زمان ملك من الملوك خيرًا منهم في زمن معاوية، إذا نسبت أيامه إلى من بعده. • قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: واتفق العلماء أن معاوية أفضل ملوك هذه الأمة، فإن الأربعة قبله كانوا خلفاء نبوة وهو أول الملوك، كان ملكه ملكًا ورحمة. • يقول الأستاذ منير الغضبان في كتابه الرائع «معاوية بن أبي سفيان»: أنا أعتذر لمعاوية، لأني على ثقة أنه كان يقصد الحق، ولا يضيره بعد ذلك أن يكون أصاب الحق أم أخطأه. أما أنه كان يعرف نفسه أنه على باطل ويقاتل عليه فهذا كلام مرفوض؛ لأن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- شهد للطائفتين أنهما يقصدان الحق، وعلي -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- والمسلمون معه أصابوه، ومعاوية -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- والمسلمون معه أخطؤوه. وذلك كما ثبت في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم: (لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَقْتَتِلَ فِئَتَانِ عَظِيمَتَانِ وَتَكُونُ بَيْنَهُمَا مَقْتَلَةٌ عَظِيمَةٌ وَدَعْوَاهُمَا وَاحِدَةٌ) . والحديث في رواية الإمام أحمد له تتمَّة قيمة ونصُّه: (لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَقْتَتِلَ فِئَتَانِ عَظِيمَتَانِ دَعْوَاهُمَا وَاحِدَةٌ تَمْرُقُ بَيْنَهُمَا مَارِقَةٌ يَقْتُلُهَا أَوْلَاهُمَا بِالْحَقِّ) . والمارقة التي خرجت قد قاتلها علي -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- وهم الخوارج. والحديث الصحيح الذي ورد في مقتل عمار بن ياسر -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: (يا عمار، تقتلك الفئة الباغية) يؤكد أن الفئة الباغية هي فئة معاوية، ولكنه لا يعني أبدًا أن معاوية والمسلمين معه يعرفون ذلك ويُصِرُّون على البغي. وأعود لأقول ما قاله أهل السنة والجماعة في هذا الصدد في «كتاب العواصم من القواصم»: أهل السنة المحمدية يدينون لله على أن عليًّا ومعاوية ومن معهما من أصحاب رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كانوا جميعًا من أهل الحق، وكانوا مخلصين في ذلك، والذي اختلفوا فيه إنما اختلفوا عن اجتهاد، كما يختلف المجتهدون في كل ما يختلفون فيه، وهم لإخلاصهم في اجتهادهم مثابون عليه في حالتَي الإصابة والخطأ، وثواب المصيب أضعاف ثواب المخطئ، وليس بعد رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- بشر معصوم عن أن يخطئ، وقد يخطئ بعضهم في أمور ويصيب في أخرى، وكذلك الآخرون، ومن مرق عن الحق في إثارة الفتنة الأولى على عثمان لا يعد من إحدى الطائفتين اللتين على الحق، وإن قاتل معها والتحق بها؛ لأن الذين تلوَّثت أيديهم ونياتهم وقلوبهم بالبغي الظالم على أمير المؤمنين عثمان -كائنًا من كانوا- استحقوا إقامة الحد الشرعي عليهم سواء استطاع وليُّ الأمر أن يقيم عليهم هذا الحد أو لم يستطع، وفي حالة عدم استطاعته فإن مواصلتهم تسعير القتال بين صالحي المسلمين كلما أحسُّوا منهم بالعزم على الإصلاح والتآخي -كما فعلوا في وقعة الجمل وبعدها- يعد إصرارًا منهم على الاستمرار في الإجرام ما داموا على ذلك. فإن قلنا: إن الطائفتين كانتا من أهل الحق فإنما نريد أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- الذين كانوا من الطائفتين ومن سار معهم على سنته -صلى الله عليه وآله وسلم- من التابعين، ونرى أن عليًّا المبشر بالجنة أعلى مقامًا عند الله من معاوية خال المؤمنين وصاحب رسول الله رب العالمين، وكلاهما من أهل الخير وإذا اندسَّ فيهم طوائف من أهل الشر فإن من يعمل مثقال ذرة خيرًا يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرًّا يَرَهُ. • وفي حديث فيه ضعف رواه الإمام أحمد عن سَعِيدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، عَنْ مُعَاوِيَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «تَوَضَّئُوا»، قَالَ: فَلَمَّا تَوَضَّأَ نَظَرَ إِلَيَّ، فَقَالَ: «يَا مُعَاوِيَةُ، إِنْ وُلِّيتَ أَمْرًا فَاتَّقِ اللَّهَ، وَاعْدِلْ»، قَالَ: فَمَا زِلْتُ أَظُنُّ أَنِّي مُبْتَلًى بِعَمَلٍ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى وُلِّيتُ، مَنْ كعليٍّ ومعاوية رضي الله عنهما؟! • محاولة ترجيح كِفَّة صحابي على صحابي محاولة سيئة، (أسوء ما فيها أنها تضع أفضل أجيال الأمة بين أشداق السفلة، وتجرئ الجيل الحالي مع ضعفه العقدي؛ على الخوض في أعراض من رضي الله عنهم) ؛ وهذا سوء مخيف؛ وعواقبه تصل إلى الجرأة على كل رموز ومُقدَّسات الأُمَّة ! • مَن كأبي الحسن والحسين (علي بن أبي طالب رضي الله عنه) ، في بذله وعطائه وتضحيته وجهاده في سبيل ربه، الخليفة الراشد، والفقيه العابد، والإمام الزاهد؟ أسلم أولًا، وصاحب ثانيًا، وهاجر ثالثًا، واستمر على العهد رابعًا وخامسًا وسادسًا، يكفي لفضله ذكر اسمه، لتأتي فضائله للأذهان تباعًا تباعًا ! • ومَن كمعاوية الصحابي الجليل، والخليفة الموفق، والقائد المسدد، والرجل الذي اشتهر حلمه وعفوه، وطار في الآفاق خبر حنكته وفطنته؟ وصفه الإمام النووي بقوله: (وأما معاوية فهو من العدول الفضلاء، والصحابة النجباء) ، وكان الرجل يقول لمعاوية: (واللهِ لتستقيمنَّ بنا يا معاويةُ، أو لنُقومنَّك) ! وهو الخليفة الأعظم؛ فيقول: (بماذا؟) ، فيقول: (بالخشب) ! فيقول: (إذًا نستقيم) ! وأخبار خلافته زاخرة بالعلم، واتساع رقعة الإسلام، والانتصار لكيان الأمة المسلمة ! • علي ومعاوية -رضي الله عنهما- صحابيان جليلان، عقيدتنا -أهل السنة والجماعة- فيهما؛ هي حبُّهما والترضِّي عنهما، والشهادة لهما بالعدالة، وعدم الغلوِّ فيهما، أو ادِّعاء ما ليس لهما؛ فهما مع فضلهما ليس بنبيِّين، ولا بمعصومَين، ويجوز منهما الخطأ والصواب، لكن الخطأ منهما مغمور في بحار حسناتهما، ولا يجوز لنا الخوض فيما حصل بينهما، وندع ذلك لربِّ العالمين، نتمثل في حقهما وحق الصحابة أجمع: ﴿ تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [البقرة: 134]. • هذه عقيدتنا؛ فمن فارقها فارقناه، ومن خاض في عرض عليٍّ ومعاوية اتهمناه، ومن لمز وهمز في أحدهما كرهناه وأبغضناه؛ ذلك أنهما أحبَّا رسولَ الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأحبهما، ومات -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهو راضٍ عنهما، ونحن تبعٌ لنبي الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ولا خير فينا إن لم نكن له تبعًا، ولرضاه نسعى رغبًا وطمعًا . اللهم ارض عن علي ومعاوية وسائر صحابة نبيِّك -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- واجمعنا بهم في جنات النعيم، وأسلم قلوبنا وألسنتنا لهم، ولا تجعلنا مع القوم الجاهلين، وجنبنا طرق الهالكين، واجعل سبيلنا سبيل عبادك المؤمنين العادلين .
نثر ألفية العراقي في علوم الحديث لبدر بن محمد العجمي صدر حديثًا كتاب: " نثر ألفية العراقي في علم الحديث "، تأليف وتحقيق وضبط: أ.د. " بدر بن محمد بن محسن العماش العجمي "، الأستاذ بكلية الحديث بالجامعة الإسلامية بالمدينة، نشر: " دار الأوراق للنشر والتوزيع ". وهو نثر لألفية الحافظ العراقي في علوم الحديث، قصد فيها مؤلفها نثر لفظها وتسهيل رسمها، وفك رموزها، وفتح ما يستغلق منها. حيث نظمَ الإمام العراقي - رحمه الله - ألفيةً في علم المصطلح، اختصر فيها كتاب "معرفة أنواع علم الحديث" لابن الصلاح، ولم يكتف بالاختصار بل زاد بعض المسائل والأقوال والتعقبات على ما في كتاب ابن الصلاح، وقد نبه على هذا في ألفيته بقوله: لخصت فيها ابن الصلاح أجمعه وزدتها علمًا تراه موضعه وتبلغ عدد أبيات هذه الألفية ألف بيت وبيتين حسب التعداد لها من خلال شرح مصنفها لها في كتابه "شرح التبصرة والتذكرة". أما عن تسمية الألفية، فإن العراقي لم يصرح في نفس الألفية بتسميتها لكنه قال في إجازته لتلميذه ابن حجر: "وقرأ علي " الألفية " المسماة بـ"التبصرة والتذكرة " من نظمي". ففي هذه العبارة ذكرها - رحمه الله - بوصفها "الألفية"، وباسمها "التبصرة والتذكرة" وهما أشهر أسمائها التي عرفت بها من بعد العراقي عَلمًا عليها. ولم يكن نظم الحافظ العراقي وشرحه مجرد تضمين لكتاب ابن الصلاح، خاليًا عن الفوائد، بل كان خلاصة جهود ابن الصلاح مضافًا إليها ما أفاده العراقي خلال رحلته العلمية الممتدّة على طول سني حياته. لذا فلم يخلُ هذا المصنَّف من استدراكات وتعقبات على صاحب الأصل (ابن الصلاح) هذا خلا زوائده التي بحثها في ألفيته. ونظرًا لما تمتعت به ألفية العراقي من ثراء الأسلوب، واحتواء المعاني، وسلاسة الألفاظ، وترتيب الأفكار والموضوعات، فقد أصبحت ديدن طلاب هذا العلم والمشتغلين فيه، لاسيما وقد كان وكْدُ الناظم الأول تلخيص كتابٍ هو العمدة في هذا الباب، ألا وهو كتاب ابن الصلاح؛ لذا كثرت عليها الشروح والتعليقات، ومن أوائل من شرحها الحافظ العراقي نفسه، وفي وسعنا القول أن الحافظ العراقي بألفيته وشروحه عليها يعدُّ المؤسس الثاني والمُنَظِّر الأخير لعلم المصطلح، وإن استدركت عليه بعض الأشياء، فهي لا تخل بروح التجديد التي امتلكها الحافظ العراقي، في أثناء شرحه. وهذا الشرح للدكتور "بدر العماش العجمي" من باب تبسيط المادة العلمية لمصطلح الحديث لجمهور عامة الطلاب، كما تميز مصنفه بضبط الألفية على عدة أصول متقنة بلغت (13) نسخة، منها نسخ للنظم وأخرى للشرح، إليها في الصحة المنتهى، منها نسخة بخط الحافظ العراقي - غير تامة - ونسخ تامة مقروءة عليه حُررت بين يديه بضبطه وطُرزت بخطه، ونسخ مقروءة على تلاميذه وعليها خطوطهم، ونسخ بخطوط كبار الحفاظ. كما أضاف إلى ذلك ما وقف عليه من ضبط أو إعراب يفيد ضبطًا من كتب الشروح والنكت المطبوعة والمخطوطة وحواشيها والتعليقات عليها. إلى جانب أنه زاد على هذا الشرح النافع تعقبات واستدراكات العلماء على نظم ألفاظ العراقي، ومنهم تعقبات السادة العلماء برهان الدين الحلبي والبقاعي وزكريا الأنصاري وغيرهم. والحافظ العراقي هو الإمام الحافظ الكبير زين الدين أبو الفضل عبد الرحيم بن الحسين بن عبد الرحمن بن أبي بكر بن إبراهيم. ولد الحافظ العراقي في سنة (725هـ) في شهر جمادي الأولى، بمنشأة المهراني بين مصر والقاهرة على شاطئ النيل. تميز الحافظ العراقي بالذكاء المفرط، وسرعة الحافظة، فقد حفظ القرآن الكريم وله من العمر ثماني سنوات، وحفظ "التنبيه" وأكثر "الحاوي"، و"الإلمام" إلى غير ذلك. ثم أقبل على علم الحديث في سنة (742هـ) ولازمه وأكب عليه من سنة (752هـ) حتى غلب عليه وتوغل فيه، بحيث صار لا يعرف إلا به. ومن أبرز شيوخه: أ- علي بن عثمان بن إبراهيم المارديني, علاء الدين، الشهير بابن التركماني الحنفي. ب- محمد بن أحمد بن عبد المؤمن بن اللبان. جـ- محمد بن أحمد بن عبد الوهاب العلائي, شهاب الدين، الشهير بابن بنت العز. ومن استقرأ كتاب "الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة" للحافظ ابن حجر استخرج منه عددًا كبيرًا وجمًا غفيرًا من شيوخه. وقد تولى الإمام العراقي التدريس في مدارس عدة، فوفد إليه طلبة العلم من أنحاء كثيرة كي يتعلموا عليه، وينهلوا من معينه فكثروا كثرةً عظيمة، يصعب معها الحصر، ومن أبرز تلاميذه هو الإمام الحافظ أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، المتوفي سنة (852هـ). وفي رحلته للعلم سافر إلى مكة المكرمة، والمدينة المنورة، وبيت المقدس، والخليل، ودمشق، وحلب، والإسكندرية، وبعلبك، وحماة، وحمص، وصفد، وطرابلس، وغزة، ونابلس وغيرها من حواضر الإسلام. وتوفي الحافظ العراقي نصف ليلة الأربعاء ثامن شعبان سنة (806هـ) بالقاهرة. ومن مصنفاته: • "تقريب الأسانيد وترتيب المسانيد": كتبه لابنه أبي زرعة، وأسانيد الكتاب من أصح الأسانيد . • "طرح التثريب في شرح التقريب": لم يتم شرحه، فأكمله ابنه أبو زرعة . • تخريج أحاديث إحياء علوم الدين وسماه "إخبار الأحياء بأخبار الإحياء"، واختصره في: "المغني عن حمل الأسفار في تخريج ما في الإحياء من الأخبار" . • "نظم علوم الحديث" لابن الصلاح وشرحها وعمل عليه نكتًا . • "كتاب في المراسيل" . • "تقريب الإسناد" . • "التبصرة والتذكرة" وهي ألفية الحديث . • "نكت منهاج البيضاوي في الأصول" . • "التحرير في أصول الفقه" . • "نظم الدرر السُنّية منظومة في السيرة النبوية (ألفية السيرة النبوية)". • "الألفية في غريب القرآن" . • "النقييد والإيضاح في مصطلح الحديث" . • "شرح الترمذي".
الاستشراق والرسول صلى الله عليه وسلم [1] (السيرة النبوية) وقف كثير من الدارسين والمحللين والباحثين في عظماء الرجال عند سيرة المصطفى محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم العَطِرة، منذ مولده عليه الصلاة والسلام عام الفيل 570م إلى وفاته صلى الله عليه وسلم سنة 11هـ / 632م، وكانت حياته قبل البعثة وبعدها حافلةً بالخير والبركة، وكان مقبولًا من الجميع؛ لأنَّ الجميع لم يُظهر له قبل بعثته كيدًا أو يكن له أي لون من ألوان العداء، حتى دعته قريش قبل بعثتِه عليه الصلاة والسلام بالأمين. صدق به من صدق به من المسلمين في أول يوم من بعثته صلى الله عليه وسلم بدءًا بأم المؤمنين خديجة بنت خويلد رضي الله عنها إلى أبي بكر الصديق إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنهما، ثم بقية الصحابة الذين كانوا يتعلمون ويتربون على يديه في مكة المكرمة، حينما كان ينبني فيها الإيمان، وكذب به من كذب من مشركي قريش والعرب الذين سمعوا به. بدأت المكائد والمؤامَرات منذ البعثة المحمدية (سنة 610م) تأخذ أساليب شتى، وهي منذ بعثته عليه الصلاة والسلام إلى اليوم لم تتمكَّن من إطفاء النور الذي جاء به الرسول الأمين محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: ﴿ يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ﴾ [التوبة: 32]، قال تعالى: ﴿ يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ﴾ [الصف: 8]. تظلُّ مسيرة التصديق مستمرة إلى اليوم، وإلى أن يشاء الله تعالى، كما تظلُّ مسيرة التكذيب مستمرة، مصحوبة أحيانًا بالكيد بأساليب مختلفة، تتناسب مع العصر الذي توجَّه فيه وإليه، ويتمثل التصديق في عودة المسلمين أنفسهم إلى الحق كما يتمثل في استمرار دخول غير المسلمين في الإسلام، على مختلف المستويات للأفراد؛ من حيث خلفياتهم ونِحَلهم ومِلَلهم. التشكيك في سيرته عليه الصلاة والسلام وفي الطعن في حياته الخاصة، التي لم تكن تحيط بها الأسرار أو التكتُّمات، وفي زوجاته أمهات المؤمنين رضي الله عنهنَّ [2] ، وفي إدارته لشؤون الدولة الإسلامية، وفي التشكيك بالكتاب، الذي أنزل عليه وحيًا من الله تعالى؛ قال تعالى: ﴿ لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ﴾ [فصلت: 42]، ثمَّ يتمثَّل التكذيب في التشكيك بسنته صلى الله عليه وسلم في أقواله وأفعاله وتقريراته المحفوظة كحفظ القرآن الكريم [3] ؛ وذلك من حيث ثبوتها، ومن حيث صحتها، ومن حيث كونها مصدرًا من مصادر التشريع [4] ، ثمَّ التشكيك في صحابته رضوان الله عنهم أجمعين، لا سيما رواة الحديث المُكثرين كأبي هريرة؛ عبدالرحمن بن صخر، وعائشة أم المؤمنين بنت أبي بكر الصديق، وأبي ذر الغفاري، وأبي الدرداء رضي الله عنهم، ثمَّ التشكيك في سيرة الخلفاء الراشدين؛ أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي رضي الله عنهم، ثم التشكيك في علماء المسلمين الذين اشتغلوا بسنَّة المصطفى صلى الله عليه وسلم وبسيرته مِن تخريج وتجميع وتدوين وتصنيف وتبويب وغيرها؛ كالبخاري ومسلم وابن ماجه وابن حنبل والنسائي وأبي داود ومالك بن أنس، وغيرهم من أصحاب الصِّحاح والمسانيد، وعلماء الجرح والتعديل رحمهم الله أجمعين [5] . يأتي ذلك كله في زماننا الحاضر على أيدي رهط من المستشرقين والمنصِّرين ثمَّ الإعلاميين الغربيين ومَن في حُكمهم مِن الشرقيين، ومَن تأثَّر بهم من بعض علماء المسلمين عفا الله عنهم، الذين أرادوا من سيرته وسنَّته عليه الصلاة والسلام أن تكون مؤيدًا لتوجُّهات فكرية حادثة على الفكر الإسلامي أو وافدة على الأمة؛ كتيار الاشتراكية مثلًا، أو أنهم أُعجبوا بالطرح الاستشراقي وتأثروا به [6] ، والأمثلة على هذا التوجه كثيرة لا يَخلو المنشور العربي من وقفات نقدية لها [7] . جهود المستشرقين والمنصرين في موقفهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم تَحتاج إلى عناية بالرصد أولًا، ثم بالردود على الشبهات "ب لغة علميَّة رصينة، ثم إيصال هذه الردود إلى مراكز البحث العلمي في الغرب، والعناية بترجمة هذه الردود إلى اللغات المنتشرة "، كما تنصُّ التوصية الحادية والعشرون لندوة عناية المملكة العربية السعودية بالسنَّة والسيرة النبوية، التي عقدت في رحاب مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف بالمدينة المنورة، في المدة من 15 - 17 / 3 / 1425هـ الموافق 4 - 6 / 5 / 2004م، وشارك فيها أكثر من تسعة وسبعين باحثًا، من بينهم باحثون في الاستشراق والرسول صلى الله عليه وسلم وسيرته عليه الصلاة والسلام، جرى الاستشهاد ببعضهم في هذه الوقفات. [1] نُشر هذا البحث في: مجلة الجامعة الإسلامية (المدينة المنوَّرة)، عدد (1429هـ / 2008م). [2] انظر: محمود مهدي الإستانبولي ومصطفى أبو النصر الشلبي. نساء حول الرسول والردُّ على مفتريات المستشرقين، ط 2، جدَّة: مكتبة السوادي، 1410هـ / 1990م، 386 ص. [3] انظر: أبو لبابة بن الطاهر حسين. السنَّة النبوية وحي من الله محفوظة كالقرآن الكريم، 58 ص، في: ندوة عناية المملكة العربية السعودية بالسنَّة والسيرة النبوية، المدينة المنوَّرة: مجمَّع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف بالمدينة المنوَّرة، 1425هـ / 2004م. [4] انظر في مناقشة مواقف المستشرقين من صحَّة الحديث: السنة مع المستشرقين، ص 187 - 235، في: مصطفى السباعي. السنَّة ومكانها في التشريع الإسلامي، ط 3، دمشق: المكتب الإسلامي، 1402هـ / 1982م، 484 ص. [5] انظر: عبدالغفور بن عبدالحقِّ البلوشي. علم الجرح والتعديل ودوره في خدمة السنة النبوية، 152 ص. وانظر، أيضًا: عبدالعزيز بن مُحَمَّد فارح: عناية العلماء بالإسناد وعلم الجرح والتعديل وأثر ذلك في حفظ السنَّة النبوية، في: ندوة عناية المملكة العربية السعودية بالسنَّة والسيرة النبوية؛ مرجع سابق، 59 ص. [6] انظر مناقشة لآراء محمود أبو رية في كتابه أضواء على السنة الـمُحَمَّدية: مُحمَّد مُحمَّد أبو شهبة. دفاع عن السنة وردُّ شُبه المستشرقين والكتَّاب المعاصرين، القاهرة: مطبعة الأزهر، 1967م، 312 ص. [7] انظر مناقشة لآراء أحمد أمين في السنة ورواتها لدى: تقي الدين الندوي. السنة مع المستشرقين والمستغربين.. مكَّة المكرَّمة: المكتبة الإمدادية، 1402 هـ / 1982م، 27 ص.
﴿ فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ ﴾ [التوبة: 122] لقد كانت هناك وجهَتي نظرٍ في تحديد الطائفة التي تتفقه في الدين طبقًا لهذه الآيةِ المباركة من سورة التوبة: ﴿ وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ﴾ [التوبة: 122]. فهناك من ذهب إلى أنَّ الطائفة التي تظل مع النبي صلى الله عليه وسلم ليتعلموا منه العلم الشرعي، ويعلموا معانيه، ويفقهوا أسراره، وليعلموا غيرهم، عند عودتهم من الجهاد، قائلين أن في هذا فضيلة العلم، وخصوصا الفقه في الدين، وأنه أهم الأمور، وأن من تعلم علمًا، فعليه نشره وبثه في العباد، ونصيحتهم فيه، فعلى المسلمين في حالة عدم النفير العام، أن يقسموا أنفسهم إلى قسمين: 1- قسم يبقى مع الرسول -صلى الله عليه وسلم- ليتفقه في دينه. 2- وقسم آخر يخرج للجهاد في سبيل الله، فإذا ما عاد المجاهدون، فعلى الباقين مع الرسول صلى الله عليه وسلم، أن يبلغوا العائدين ما حفظوه عن الرسول صلى الله عليه وسلم. وهنا يظهر للعيان أن الذين يبررون هذا الرأي يفضلون القاعدين لأجل تعلم الفقه من رسول الله، وأنهم هم العلماء وأنهم أفضل درجة من الذين خرجوا للجهاد، وأنَّهم هم الذين سيعلمون العائدين من الجهاد ما تعلموه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورسول الله بين ظهرانيهم، وهذا يثير الاستغراب! لأنَّ رسول الله هو مُبلغ وحي الله ولا يزال يمارس دوره كرسولٍ للبشرية يبلِّغ رسالته. أما الرأي الآخر، فيرى أن الطائفة النافرة هي التي ستتفقه بما تعاين من نصر الله لأهل دينه ولأصحاب رسوله على أهل عداوته والكفر به، فتفقه بذلك من معاينته حقيقة علم أمر الإِسلام، وظهوره على الأديان، من لم يكن فقه، ﴿ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ ﴾ فيحذروهم أن ينزل بهم من بأس الله، مثل الذى نزل بمن شاهدوا، ممن ظفر بهم المسلمون من أهل الشرك، إذا هم رجعوا إليهم من غزوهم ﴿ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ﴾؛ أي: لعل قومهم إذا هم حذروهم ما عاينوا من ذلك، يحذرون فيؤمنون بالله ورسوله، حذرًا من أن ينزل بهم ما نزل بالذين أخبروا خبرهم. وهذا الرأي له أصل من تأويل ابن عباس - رضي اللّه عنهما - ومن تفسير الحسن البصري، واختيار ابن جرير، وقول لابن كثير - أن هذا الدين منهج واقعي، لا يفقهه إلا من يتحرك به؛ فالذين يخرجون للجهاد به هم أولى الناس بفقهه؛ بما يتكشف لهم من أسراره ومعانيه؛ وبما يتجلى لهم من آياته وتطبيقاته العملية في أثناء الحركة به. أما الذين يقعدون فهم الذين يحتاجون أن يتلقوا ممن تحركوا، لأنهم لم يشاهدوا ما شاهد الذين خرجوا؛ ولا فقهوا فقههم؛ ولا وصلوا من أسرار هذا الدين إلى ما وصل إليه المتحركون. وهذا الرأي له ما يشير إلية القرآن الكريم في سورة العلق حيث يأمرنا الله أن نفقه الواقع أولًا، في الأمر بالقراءة الأولى، حتى نستطيع أن نستوعب ونفهم ما جاءنا من كتاب ربنا في الأمر بالقراءة الثانية: ﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ﴾ [العلق: 1 – 5]. فالتعمُّق في دراسة الواقع وفهمه ومعرفته معرفةً تامّةً يثمر نضجًا في فهم الدين؛ ذلك أن تنزيل حكمٍ شرعيٍّ على واقعةٍ ما، لا يُمكن إلا بفهم ملابسات وظروف هذا الواقع. ويتعلَّق فقه الواقع بمسألةٍ مهمّة ذات بعدٍ عقدي، وهي صلاحية الشريعة للتطبيق في كل زمان ومكان، وهذا مقتضى شمولها وكمالها، إنَّ فقه الواقع مبني على دراسة الواقع المعيش دراسة دقيقة مستوعبة لكل جوانب الموضوع معتمدة على أصح المعلومات وأدق البيانات والإحصائيات. فالفقيه هو الذي يتفقَّد أحوال الناس، ويخرج إلى أماكن عملهم في المؤسسات التعليمية، والطبية، والحكومية، والدكاكين، والبساتين، وورشات الأعمال، والمقاولات؛ حتى تكون له دراية بما يجري في عالم الناس. مع العلم أن تاريخ الأمة الإسلامية سجل لنا حضورَ الفقهاء ومشاركاتِهم في ميادين كثيرة من المهن، والحرف، وأنواع التجارة، فكان منهم الخراز، والزيات، والخياط، والنساج، والجندي وهلم جرًّا.. وعلى ضوء ما سبق ، يمكن القول: إنَّه لا يمكن إيجاد الأحكام، أو تنزيلُها تنزيلًا صحيحًا على المستجدَّات إلا من قِبَلِ الفقيه المجتهد الذي توفَّرت فيه ضوابطُ وشروط الاجتهاد، وكان أيضًا ماهرًا في كيفية التنزيل، ومحيطًا إحاطةً كاملةً بفقه الواقع الذي يعيشُه هو أولًا، ومجتمعه ثانيًا، فمن كان ضعيفًا فيه زلَّ في تقرير الأحكام، والْتبستْ عليه المسائل حتى صار يتخبَّط في كثيرٍ من الأوهام. والتجارب تقطع على أن الذين لا يندمجون في الحركة بهذا الدين لا يفقهونه؛ مهما تفرغوا لدراسته في الكتب - دراسة باردة! - وأن اللمحات الكاشفة في هذا الدين إنما تتجلى للمتحركين به حركة جهادية لتقريره في حياة الناس؛ ولا تتجلى للمستغرقين في الكتب العاكفين على الأوراق! الجالسين في استديوهات التصوير والنشر في الفضائيات والنت، ويُجيشون من ينافقهم ويمجدهم ويعلوا بهم ويتعصب لرأيهم سواء بالحق أو الباطل. فالحركة بهذا الدين هي التي أنشأت ذلك الفقه، والحركة بهذا الدين هي التي حققت نموه. ولم يكن قط فقهًا مستنبطًا من الأوراق الباردة، بعيدًا عن حرارة الحياة الواقعية! وهذا ما يؤكده قول الله تعالى: ﴿ أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا ۚ كَذَٰلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [الأنعام: 122]. لقد انتشر الإسلام في بقاع الأرض بحركة هؤلاء الحاملين للواء حركة الحياة بشمولها، في القرون الأولى للإسلام، ثم توقف هذا المد وتجمد، في العصور الحالية، بل تم هيمنة أعداء الله علي بقاع الأرض بتوقف منهج الله في الحياة وحركتها، وأصبح القاعدون بين الأوراق، ثم بين كمرات التصوير وجدران الفضائيات، وصفحات النت، ويدَّعون أنهم ورثة الجيل الأول من الصحابة، ولديهم أوراق فهم هذا الجيل من الصحابة في خزائنهم، ويفتون بعلمهم دون فهم واقع الحياة، وليس أدل على ذلك من اختلاف المسلمين في توقيت أعيادهم لجمود هؤلاء في فقههم. وقد تعجبت كمسلم أن أرى اختلاف قبلة بعض المساجد لعشرات السنين على بعد مئات الأمتار من بعضها لتمسك البعض على رأيه رغم التقدم العلمي في تحديد القبلة، بل ذهب البعض أن يرفض إزالة التراب من المسجد على أساس أن التراب طاهر، ودليله أننا نتيمم به ونصلي، وأنه يعلم هذا من الدين والآخرون جهلة لا يعلمون مثله. لا يخفى أننا نعيش اليوم في أمواج التكنولوجيا العاتية، والتي فيها أمورٌ غامضةٌ جدًّا، فلا بد إذًا من الإحاطة بتلكم الأحداث، وتلكم المسائل التي صارت جزءًا لا يتجزَّأ من حياة الناس اليوم. لذلك لم يجعل الله تعالى الأنبياء ملائكة، بل بشرًا يوحى إليهم، يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق، ويتزوجون وينجبون، حتى تكون حياتهم مشابهة لحياة الناس، قريبين منهم، يعايشونهم ويفهمون أحوالهم، ويرشدونهم إلى تطبيق الدين في واقعهم، وينبغي لأهل العلم أن يكونوا كذلك على قدر كافٍ من القرب من الناس ومعايشتهم وفهم واقعهم، حتى تتحقق فيهم صفة القدوة ويكونوا أقدر على الإرشاد.
ابن تيمية والمنطق الحجاجي قراءة في كتاب: "الخطاب الحجاجي عند ابن تيمية: مقاربة تداولية" صدر الكتاب عن دار الانتشار العربي، عسير، أبها، بالمملكة العربية السعودية في طبعته الأولى سنة 2013م، وقد استهلَّه الكاتب بشكر عدد من كبار المهتمين بحقل المنطق الحجاجي والتداوليات والدراسات التيمية، وعلى رأسهم: طه عبدالرحمن، وحمو النقاري وأحمد المتوكل، وأبو بكر العزاوي، وحسان الباهي ( المغرب )، وأبو يعرب المرزوقي ( تونس ) ونعمان بوقرة (الجزائر)، وشكري المبخوت ( تونس )، والترحم على الدكتور عبدالله صولة رحمه الله تعالى ( تونس ) الذين كان لهم الفضل في بذر الاهتمام بالدراسات الحجاجية في الجامعات العربية، وفي توسيع الاهتمام بها واتخاذ المنطق الحجاجي بجميع أنواعه منهجًا لتجديد النظر في التراث وعلومه، وفي دراسة آليات منطق اشتغال الخطاب الطبيعي، كما كان لهم الفضل في إنضاج أفكار الكاتب وإخراج الكتاب في حُلَّة علمية رصينة؛ مما يضع الكتاب ضمن الدراسات المنطقية والحجاجية للتراث التيمي بعيدًا عن ضجيج الخلافات المذهبية الفقهية والعقدية والسياسية التي شوَّشت الرؤية المتوازنة لتراث هذا العَلَم. أولًا- جوانب من أهمية الكتاب: هكذا يظهر أن الكتاب يكتسي أهمية كبيرة من جوانب عدة في تقديري: أولها : أنه توظيف عميق للنظريات الحجاجية وتأصيل لها في التراث الإسلامي من خلال الجهود الكبيرة والعملاقة التي انتهت مع ابن تيمية في صورة نسقية أخذت باهتمام المناطقة الجُدُد في الغرب وخاصة المنطق الحجاجي وتقديرهم، وكما وجه النظرَ إليه عددٌ من المناطقة الحجاجيين العرب، وعلى رأسهم الدكتور طه عبدالرحمن وحمو النقاري وغيرهما. ثانيها : أنه إبراز لجهود ابن تيمية في المجال المنطقي والحجاجي والتداولي وإبراز فرادته العلمية والمنهجية التصورية والتطبيقية في التعامل مع الاختلاف، ذلك الرجل الذي عاش الاختلاف وحاور المخالفين، وكان ضحية التعصب المذهبي والفكري في زمانه وما بعد زمانه، فأمعن في مناوأته كثيرٌ من المخالفين، وتخلَّى عنه كثير من الموالفين؛ ولذلك بقيت الدراسات الحجاجية وحدها القادرة على الحديث عن جهوده المنطقية والحجاجية من غير حُجب التعصب المذهبي ولا سُحب التحزُّب السياسي. ثالثها : أن الكتاب قام بتحليل جهود ابن تيمية حجاجيًّا وتداوليًّا محققًا إضافة نوعية إلى الدراسات المنطقية التراثية عامة والتراث التيمي خاصة. ثانيًا- من أطروحات الكتاب: • إن الاختلاف ظاهرة طبيعية في عالم البشر والخطاب الحجاجي ممارسة عملية تؤدي إلى حل الاختلافات وتشكل بديلًا عن العنف؛ (ص 39). • إن ابن تيمية ذو طبيعة حجاجية في تكوينه الخَلْقي وفي بيئته، وفي مكتسباته المعرفية واللغوية، وفي قدراته الإدراكية، وتفاعله الاجتماعي المكتنز بالأحداث الجسام والاختلافات المذهبية، وفي تكوينه العلمي والعملي تأليفًا وتدريسًا، جهادًا واجتهادًا، جدالًا للمخالفين وحجاجًا. • إن ابن تيمية مارس الحجاج وَفْقَ شروطه من الكفاءة الحجاجية والوعي بالاستراتيجية الخطابية والتواصلية مع المختلفين ضمن المجال التداولي المؤطَّر بالزمان والمكان والثقافة. • إن ابن تيمية تفرَّد بامتلاك قدرات خاصة في تقويم أقوال غيره وإعمال النظر فيها، وقدرة متميزة على فقه الخطابات وسياقاتها ومقاصدها سواء أكانت خطابات داخل مجال التداول الإسلامي (مذاهب المتكلمين والمُفسِّرين والمُحدِّثين والفقهاء واللغويين والفلاسفة والمتصوفة.. ) أو الديني المخالف ( يهودية ومسيحية ومعتقدات أخرى ) أو الفلسفي ( الفلسفة اليونانية وغيرها ). أن الخطاب الحجاجي عند ابن تيمية له أصول نظرية ترجع إلى: • إدراكه الاختلاف بين المنطق الصوري والمنطق الطبيعي. • وإدراكه لأصل الفساد في قول المناطقة وهو القول بالكلي لإفضائه إلى مخالفات عقدية إسلامية. • والعمل بالمنوال الحجاجي الكلامي باعتباره المنوال الأصيل المناسب لمجال التداول اللغوي والشرعي. • رفض مفهوم العقل عند الفلاسفة والمناطقة باعتباره جوهرًا قائمًا بذاته، لما يفضي إليه من القول بالتشبيه، وأن الله مجرد فكرة كلية أو القول بالاتحاد والحلول. • رفض حصرهم طريق إدراك التصورات في الحد فقط، ورفض حصرهم طريق العلم بالتصديقات في القياس وصورة تأليفه من مقدمتين، والحد الأوسط الجامع بينهما، وهو طريق راجع للقول بمفهوم الكلي أيضًا. • رد ما ترتب عن الحصر السابق من مفاسد منها: إعمال التفكير الافتراضي الصوري، وإهمال المجال التداولي، وتجاهل اختلاف الناس، والزعم بوحدة الحقيقة، وفساد التعبير، وعسر العبارة، والخلط والتشويش، والحشو والتطويل. ♦ تعويض ابن تيمية لمفهوم العقل الفلسفي وللقول بالكلي بالقول بالمعين والجزئي، وتعويض حصر المعرفة في التصورات بالحد وفي التصديقات بالقياس بالقول بإجراء نظره على مراعاة اعتبارات ثلاثة: الاعتبار الشرعي، واللغوي، والاعتبار الإنساني، لكونها اعتبارات مؤسسة على احترام خصوصية المجال التداولي الشرعي الإسلامي واللغوي العربي والإنساني ( مراعاة سياق التخاطب ومقاماته وحاجات المخاطبين ). ♦ أن ثمرة التأصيل السابق أفضى بابن تيمية إلى تأسيس مشروع يدعو إلى إصلاح المنطق اليوناني الصوري وتعويضه بالمنطق الحجاجي المناسب للمجال التداولي الشرعي الإسلامي واللغوي على مقتضى اللسان العربي. ♦ أن الخطاب الحجاجي تتركب بنيته من مادتين اثنتين رئيستين هما: الدعوى والحجة؛ فلا يمكن أن يوصف خطاب بأنه حجاجي ما لم يُبْنَ بهاتين المادتين بوصفهما بنيتين حجاجيتين، وهذا لن يتم إلا بتفاعل خارجي وتفاعل داخلي، فالتفاعل الخارجي هو تفاعل بين طرفي الخطاب، أما التفاعل الداخلي فهو تفاعل بين هاتين البنيتين؛ (ص 255). ♦ الدعوى قضية تشتمل على الحكم المقصود إثباته بالدليل أو إظهاره بالتنبيه، والقاصد والمتصدي لذلك (أي: لإثبات الحكم أو إظهاره) يسمى مدعيًا، وأن الدعاوى أصنافٌ متراتبةٌ وأنواعٌ متفاوتةٌ، ومتباينة في البيان. ♦ والحجة اسم لكل ما يُحتَجُّ به من حقٍّ وباطل، وهي عمل ينجز باستعمال الوسائل اللغوية ضمن مجموعة متعاونة، وتتميز بطابعها التركيبي، وظيفتها تركيب الخطاب وتناميه وتقدُّمه وتحقيق التفاعل بين المختلفين المتحاججين وفق شروط يجب مراعاتها في إعمال الحجج. ♦ الفعل الحجاجي فعل قصدي ومعرفي ومنهجي، فلا حجاج بدون قصد وإلا أصبح لغوًا من الكلام، ولا حجاج دون خلفية معرفية وإلا أصبح الكلام هذرًا، ولا حجاج دون منهج وإلا أصبح الكلام خبطًا وفوضى، وهي عناصر توفرت في الحجاج التيمي لمخالفيه؛ (ص 273). ♦ الخطاب الحجاجي مؤهل بطبيعته لتوسيع نظرية الأفعال الكلامية وإغنائها بوصفه فعلًا كلاميًّا ممارسًا وإن كان فعلًا مركبًا. ♦ تجسَّدت ممارسة ابن تيمية الحجاجية حول المنطق في فعلين مركبين يجسدان حركية الفعل الحجاجي هما: فعل الاعتراض، وفعل العرض؛ (ص 291)، ففعل الاعتراض غرضه التوجه إلى دحض المنطق بوصفه مركز ثقل طوائف عديدة، بل عمدة الاختلاف معهم، أما فعل العرض فتوخَّى منه ابن تيمية عرض دعاواه وإثباتها بالحجج الملائمة في فعل كلامي نسميه فعل الإثبات.. بغية تأسيس منوال بديل للخطاب الحجاجي؛ (ص 299)؛ أي: إن خطاب ابن تيمية الحجاجي سوف يفضي إلى نتيجة مركبة من: نقدٍ للمنطق الأصيل، وتأسيسٍ للمنطق البديل؛ (ص 315). ثالثًا: فصول الكتاب ومباحثه: جاء الكتاب في خمسة فصول مع مقدمة وتمهيد وخاتمة. الفصل الأول: تكوين ابن تيمية الحجاجي. الفصل الثاني: الأصول النظرية. الفصل الثالث: بناء الخطاب الحجاجي. الفصل الرابع: ترتيب الخطاب الحجاجي. الفصل الخامس: المنوال البديل. ثم انتهى إلى خاتمة ضمنها خلاصات وتوصيات. فالخلاصات جعلها من نوعين: نوعٍ خاصٍّ بمشروع ابن تيمية الحجاجي، ونوعٍ عامٍّ يتعلق بوجوه عدة منها: ♦ بيان دور الحجاج في حل الخلافات، والتأسيس للنقد العلمي وتكوين المعرفة وتطورها وإغنائها. ♦ إمكانية الاستفادة من النظريات الحجاجية والتداولية والتواصلية ونظرية أفعال الكلام والاستفادة من المناهج اللسانية وغير اللسانية في إعادة قراءة علوم التراث الإسلامي ومشروعات رجاله وأعلامه. أما التوصيات فرامَ الباحث فيها الدعوة إلى توسيع البحث في التراث التيمي وإعادة قراءة مدونته في ضوء ما صحَّ وصلح من المناهج والنظريات، وتوسيع دائرة الاشتغال بالدراسات الحجاجية والتداولية وتوظيفها في قراءة أعمال بعض العلماء المسلمين في أي حقل علمي. رابعًا ملحوظات ختامية: ♦ يمكن عَدُّ كتاب "الخطاب الحجاجي عند ابن تيمية: مقاربة تداولية" من الدراسات العميقة في مشروع ابن تيمية المنطقي الذي يمثل روح مشروعه العقدي والأصولي والفقهي واللغوي لكون المؤلف استعان بالمنهج الحجاجي والتداولي ونظرياتهما ذات البعد المنطقي العملي الذي يقوم على التحليل الداخلي للقول وسياقه التخاطُبي. ♦ اعتماد المناهج الحجاجية والتداولية مكنت من دراسة المشروع التيمي دراسة منطقية بعيدًا عن القراءة الإيديولوجية التي غالبًا ما أدَّت إلى مزالق عديدة. ♦ إن أهم ما ميَّز القراءة المنطقية للتراث الإسلامي ولمشروعات أعلامه الكبار أنها تمكَّنت من التجرُّد من غوائل الإيديولوجية وحوائل المذهبية، فأبرزت القيمة العلمية والمنطقية لكثير من العلوم التي طمَسَها التحليل الإيديولوجي، وأظهرت القيمة العلمية لمشروعات عدد من العلماء التي طالما حجبها التحيُّز المذهبي وشوَّهَها التعصُّب الفكري والسياسي. ♦ كما أن أهمية الكتاب ترجع في نظري المتواضع إلى قدرة المؤلف على توظيف كثير من النظريات والمناهج توظيفًا إجرائيًّا، وقدرته على نحت مصطلحات ومفاهيم خاصة به جمعت بين دقة المعنى وإقناعه وجمال المبنى وإمتاعه، هذا إلى جانب تميُّزه بالاستقلال الفكري والقدرة على التحليل والاستنباط، والتحرُّر من كثير من المقولات التي هيمنت على البحث التراثي الإسلامي؛ مما يجعل الكتاب بمنهجه وأدواته التحليلية وطريقته البنائية والنمائية صالحًا لاستلهام روحه ومقاصده في تجويد البحث الجامعي. والله أعلم وأحكم.
سيادة القيم المادية وتهميش القيم الروحية إن القضية القِيَمِيَّة قضيةٌ كبرى تواجهها التربية المعاصرة في مجالاتها كافة، وهي تناقَش على المستوى الوطني والإقليمي والعالمي؛ حيث تتعالى النداءات وصرخات اليقظة للاهتمام بمنظومة القِيَمِ، وإعادة تشكيلها عند الإنسان المعاصر. وعمومًا فإن قضية عولمة القيم تقع في صلب اهتمام المنظِّرين والمثقَّفين على امتداد العالم وسَعَتِهِ؛ لِما لها من تأثير في أن يستمدوا آمالهم ويوجهوا تصرفاتهم، وتُعرَف بأنها ظاهرة ممنهجة ومنمَّقة تحاول وتهدف إلى إقصاء أو تهميش للقيم الروحية والأخلاقية، وسيادة القيم المادية . ولذا فهي تعتبر ثورة معرفية وتكنولوجية واجتماعية، وهي لا تستخدم العنف والقوة العسكرية التقليدية، لكنها تعتمد على القبول والاندماج؛ فهي تخاطب العقول بمناهجها الفكرية، وقيمها المادية، فأثَّرت في تكوين الإنسان المعاصر حتى أخذ يسعى وراء المادة وقيمها المادية، فَفَشَتِ القيم المادية، وسيطرت على منظومة القيم الإنسانية كصراع بين المحافظة على المرأة والأسرة، وبين قيم جديدة تدعو إلى التفكُّك الخلقي والاجتماعي، وصراع بين قيم طاعة الوالدين والتماسك الأسري، وبين قيم الاستقلال الفردي، والتمرد على أفراد الأسر والمجتمع، والخروج عليها؛ ولذا فإن سيادة القيم المادية وطغيانها في سلوك الإنسان أدت إلى تدمير المجتمعات والحضارات، حتى هدمت المجتمعات في واقعنا ثقافيًّا وحضاريًّا، وذلك من خلال محو القيم الأخلاقية والروحية من الأجيال الجديدة، من خلال الإعلام الجديد (العولمة الرقمية)، حتى أصبحت تلك الرسائل الإعلامية الجديدة أشبه بالقنابل الموقوتة، تمَّ غرسُها بعقول الشباب وبرمجتها باتجاه فكري معين، حتى أحدث عولمة القيم المادية، وتهميش القيم الروحية والأخلاقية، التي منبعها القرآن الكريم والسنة النبوية. تهميش القيم الروحية والأخلاقية: فحاجتنا للقيم ذات الأصول الإسلامية في الوقت الحاضر هو نتاج طبيعي لِما يموج به المجتمع المعاصر من مشكلات، نتجت عن تلك التغيرات السريعة المادية؛ ومن ثَمَّ فإن علاجها لا يقتصر على مجرد غرس مجموعة من المبادئ والقيم أو استجلائها، بل يجب أن يهدف الغرس إلى تنمية القدرة على التفكير حول القيم السائدة ومن ثَمَّ تفهُّم معنى ومدلول القيم الدينية، والمبادئ الخلقية، الذي يؤهل استخدامها استخدامًا سليمًا في مواجهة المواقف الاجتماعية والمشكلات المختلفة. والأمة الإسلامية لا تحتاج إلى من يبرهن لها على ضرورة التمسك بالقيم الدينية، هي بحاجة إلى إحداث تغيير ديني وخلقي، تستعلي به على المعطيات المادية، وبِناءً على ما سبق فإن مواجهة تلك التحديات من عولمة القيم والإعلام الجديد لا يمكن أن تتم إلا بالتحصين الداخلي؛ بحيث يُستثمَر الإعلام الجديد في تطوير المؤسسات التربوية، ونشر الوعي وإعادة النظر في الطرق التعليمية لتوظيفها في تنمية الشخصية الإنسانية، وتعزيز القيم الخلقية والروحية، وتغيير السلوك لِما هو أفضل وموافق حدود الشرع مع متطلبات ومستجدَّات العصر، بتعليم الفكر النقدي وتطويره في كيفية أن نخوض تلك التحديات مع الحد الأدنى من الخسائر الثقافية والأخلاقية والروحية. ومن سُبُلِ مواجهة تلك التحديات تتمثل في منهج القرآن الكريم التربيةُ الإيمانية؛ لِما لها دور كبير في مواجهة التحديات بحيث يلجأ المسلم إلى الله في كل شدة وتلك فطرة تربَّى عليها، فالمتأمل للمنهج القرآني يتطلع إلى تربية المسلم على الدعاء؛ قال تعالى: ﴿ فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [الأنعام: 43] .
الاستشراق والقرآن الكريم انتشار القرآن الكريم جاءت هذه الوقفة لتأييد التوجُّه الوارد الحديث عنه في الوقفة السابقة في تنظيم الندوات التقويميَّة للأعمال الجليلة النافعة، في ضوء تنامي التوجُّه إلى العناية بكتاب الله تعالى، مِن مُنطلَق نشْرِه بين الأمم التي لا تتحدَّث لغة القرآن الكريم، مثل هذه الأعمال التي يقوم بها مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف بالمدينة المنوَّرة، وتقوم بها جهات معنيَّة أخرى في المشرق والمغرب، تتضافَر فيها الجهود لسدِّ العجز في نقل المعلومة الشرعية إلى غير المتحدِّثين باللغة العربية نقلًا موثقًا. وحيث تخطَّت العناية بالمصحف الشريف الطباعة بمفهومها الفني، فلعلَّ المجمع والجهات المشابِهة له تمدُّ اهتماماتها، كما هي الآن ممتدَّة، فيتحوَّل اسم المجمع إلى مجمع الملك فهد للعناية بالقرآن الكريم والحديث الشريف، لتشمل العناية الطباعة والتسجيل والترجمة والدراسات والبحوث والندوات والمؤتَمرات والنشر الورقي والإلكتروني، وغير ذلك مما يدخل في مفهوم العناية بكتاب الله تعالى وسنة رسوله سيدنا محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم، وقد خرجت عدة نداءات ودعوات لتفعيل هذا المسار على مستوى العالم العربي والإسلامي، كما هو مفعَّل الآن بالمملكة العربية السعودية. • من هذه الدعوات ما خرجت به توصيات ندوة عناية المملكة العربية السعودية بالقرآن الكريم وعلومه، التي عقدت في مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف بالمدينة المنورة، في المدة من 3 - 6 رجب 1421هـ الموافق 30 سبتمبر - 3 أكتوبر 2000م، في البيان الختامي والتوصيات، لا سيما التوصية السادسة التي نصت على الآتي: "إنشاء قاعدة معلومات عن القرآن الكريم في وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد، ممثَّلة في مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، يتقصى كل ما يستجد في علوم القرآن الكريم من دراسات وبحوث ومقالات ورسائل جامعية وترجمات وبرامج حاسوبية وأخبار" [1] . • ما خرجت به توصيات ندوة ترجمة معاني القرآن الكريم التي عقدت في مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف بالمدينة المنورة، في المدة من 10 - 12 صفر 1423هـ الموافق 23 - 25 إبريل 2002م، لا سيما التوصية السادسة التي نصَّت على الآتي: "إنشاء قاعدة بيانات عن ترجمات معاني القرآن الكريم في وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد، ممثلةً في مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، تتقصَّى فيها حركة التأليف في مجال الترجمة القرآنية، مِن أول نشأتها إلى العصر الحاضر، فتَستوعِب ما صدر في هذا الحقل من أعمال ودراسات وبرامج حاسوبية" [2] . • ما خرجت به أيضًا توصيات الندوة الدولية حول ترجمة معاني القرآن الكريم التي عقدتها جمعية الدعوة الإسلامية العالمية في بنغازي بليبيا، سنة 2001م، ونصَّت على الآتي: "العمل على إنشاء مركز عالمي لخدمة القرآن الكريم وعلومه، وترجمات معانيه، بمختلف اللغات، باعتبار أن ذلك عمل أساسي لإدراك حقيقة الإسلام، وتبيين مقاصده، وأنه أمر جوهري في عمل الدعوة، وقبل هذا وذاك فإنه مدخل لا بدَّ منه لمعرفة الإسلام، دينًا وثقافة" [3] . • ما دعت إليه الأستاذة الدكتورة زينب عبدالعزيز في مشروعها لترجمة معاني القرآن الكريم، الذي يعدُّ من المشروعات "المهمة، التي يجب أن ننظر إليها لا بمجرد عين الاعتبار أو الاستحسان فحسب، وإنما بصورة جادة وحازمة وبلا تهاون؛ أي: إن هذا المشروع الأساس لا يجب أن نتناوله من مجرد فكرة "التشجيع"، كما هو وارد بعنوان هذا المحور، وإنما من منطلق كيفية التنفيذ" [4] . • ما خرجت به كذلك توصيات ندوة عناية المملكة العربية السعودية بالسنة والسيرة النبوية، التي عقدت في مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف بالمدينة المنورة، في المدة من 15 - 17 / 3 / 1425هـ، الموافق 4 - 6 / 5 / 2004م، لا سيما التوصية الثامنة عشرة التي نصت على الآتي: "العمل على إنشاء قاعدة بيانات شاملة عن السنة والسيرة النبوية، تجمع شتات الدراسات العلمية المتفرِّقة في الموضوع الواحد، وتيسِّر سبُلَ تنظيمها البحثي، لتكون في متناول أهل العلم والاختصاص" [5] . • دعوة الأستاذ الدكتور محمود حمدي زقزوق في توصيته الخامسة في الندوة العلمية عن الإسلام والمستشرقين التي عقدت في مجمع دار المصنفين في الهند في جمادى الأولى 1405هـ، الموافق فبراير من سنة 1985م، والتي نصت على الآتي: "لا بدَّ مِن إعداد ترجمة مقبولة لمعاني القرآن باللغات الحية تسد بها الطريق على عشرات الترجمات المنتشرة الآن بشتى اللغات، والتي قام بإعدادها المستشرقون وصدروها في غالب الأحيان بمقدمات مملوءة بالطعن على الإسلام. لا بدَّ مِن اختيار مجموعة كافية ومناسبة من الأحاديث النبوية الصحيحة، وترجمتها أيضًا لتكون مع ترجمة معاني القرآن في متناول المسلمين غير الناطقين بالعربية، وفي متناول غير المسلمين الذي يريدون فهم الإسلام من منابعه الأصلية" [6] . • دعوة الدكتور حسن معايرجي إلى قيام "مجمع ترجمات تفسير القرآن الكريم"؛ وذلك في الندوة العالمية حول ترجمات معاني القرآن الكريم، التي عقدتها جمعية الدعوة الإسلامية في إسطنبول سنة 1986م [7] . • دعوة فؤاد الكعبازي إلى إنشاء مركز عالمي موحد "لمراجَعة جميع الترجمات المتداولة للقرآن الكريم، ابتداءً من الفرنسية والإنجليزية، والإسبانية، ثم تصحيحها، والقيام بحملة واسعة النطاق بكشف أخطائها، أو فشلها لنزع صبغة القدسيَّة التي اكتسبتها، بسبب سكوتنا، ومكانة أصحابها الأكاديمية" [8] . • ما خرجت به ندوة القرآن الكريم في الدراسات الاستشراقية التي عقدت في رحاب مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف بالمدينة المنورة في المدة من 16 - 18 / 10 / 1427 هـ الموافق 7 - 9 / 11 / 2006 م، في ست وعشرين توصية، كلها تُعنى بكتاب الله تعالى ونشره والعناية بترجمة معانيه ومد جسور الحوار مع المستشرقين المعنيِّين بكتاب الله تعالى دراسة وترجمةً. إن يكن هذه الفصل قد ركز على تشويه المعلومة الشرعية، من خلال تشويه مصدرَيها؛ الكتاب والسنة [9] ، فإن المعلومة الشرعية في الجانب الآخر لا تزال مجالًا واسعًا لخدمة أبنائها لها، ليس من خلال النقل والترجمة من اللغة العربية إلى اللغات الأخرى فحسب، بل من خلال وسائل حديثة شتى. الخلاصة: 1- تأخَّرَ المسلمون في نقل المعلومة الشرعية، ومنها تقديم القرآن الكريم إلى الأقوام الأخرى، عن طريق ترجمة معانيه، وكان هناك جدل بين علماء المسلمين حول مشروعية ترجمة معاني القرآن الكريم إلى اللغات الأخرى غير اللغة العربية. 2- تردَّد رجال الكنيسة في قبول ترجمة معاني القرآن الكريم؛ خوفًا من انتشار الإسلام، وحُبست أول ترجمة لمعانيه في الكنيسة لأربعة قرون (536 - 950هـ / 1114 - 1543م)، وأُحرقت بعض الترجمات، لا سيما المحاولة الثانية التي قام بها جمع من رهبان ريتينا. 3- رغبةً في الحد من انتشار الإسلام بين النصارى على حساب العقيدة النصرانية، انطلقت ترجمات معاني القرآن الكريم من الكنائس والأديرة، ولم تكن الدوافع لهذه الترجمات - بالضرورة - علمية أو موضوعية. 4- اتسمت الترجمات الأولى لمعاني القرآن الكريم التي قام بها المستشرقون بالطعون في كتاب الله تعالى، وفي كونه كتابًا منزلًا على نبي مرسل، ومِن ثمَّ فقد ظهر الزعم بأن هذا الكتاب الكريم من تأليف محمد صلى الله عليه وسلم، أعانه عليه قوم آخرون من معاصريه من اليهود والنصارى والحنيفيين. 5- كان لهذا الزعم بأن القرآن الكريم من تأليف محمد صلى الله عليه وسلم أثره في التعامي عن الجوانب المعجزة من كتاب الله تعالى، تستوي في ذلك الجوانب الإعجازية في العلوم التطبيقية والبحتة، والعلوم الاجتماعية والعلوم الإنسانية، مما يعني عدم التركيز في الجوانب الإعجازية من كتاب الله تعالى على العلوم التطبيقية والبحتة فقط. 6- منطلق النظرة إلى أن إعجاز القرآن الكريم قائم على القاعدة بأن القرآن الكريم من كلام الله والكون كله من خلق الله، فكان من المنتظر أن يكون الإعجاز من سمات هذا الكتاب الكريم المنزل على رسوله محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم، الذي: ﴿ لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ﴾ [فصلت: 42]. 7- الذين تلقوا القرآن الكريم من غير المسلمين مترجَمًا مباشرة عن طريق المسلمين كانوا أكثر تأثرًا به وبإعجازه ممن تلقوه عن طريق ترجمات المستشرقين الأولى، ومِن ثمَّ انبرى مستشرقون وعلماء أوروبيون متأخِّرون إلى إنصاف كتاب الله تعالى بما احتوى عليه من جوانب إعجازية، ومِن ثمَّ استبعاد أن يكون هذا القرآن الكريم من صنع البشر. 8- تحتِّم هذه النتيجة اضطلاع المسلمين بنقل المعلومة الشرعية من منطلق انتمائي، بما في ذلك نشر ترجمات معاني القرآن الكريم التي يعدها المسلمون أنفسهم، واضطلاع مراكز علمية وبحثية بذلك، على غرار ما يقوم به الأزهر الشريف بجمهورية مصر العربية ومجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف بالمدينة المنورة بالمملكة العربية السعودية، وغيرهما من المراكز الموثوقة في العالم الإسلامي في تركيا والباكستان وماليزيا وغيرها، بل في بلاد العالم بأسره؛ حيث انتفت الجهوية لهذا الدين الحنيف. [1] انظر: البيان الختامي والتوصيات، في: ندوة عناية المملكة العربية السعودية بالقرآن وعلومه؛ مرجع سابق، 14 ص. [2] انظر: البيان الختامي والتوصيات، في: ندوة ترجمة معاني القرآن الكريم: تقويم للماضي وتخطيط للمستقبل؛ مرجع سابق، 20 ص. [3] انظر: جمعية الدعوة الإسلامية العالمية. الندوة الدولية حول ترجمة معاني القرآن الكريم؛ مرجع سابق، ص 270. [4] انظر: زينب عبدالعزيز. مشروع لترجمة معاني القرآن الكريم، ص 166 - 187. والنصُّ من ص 166، في: الندوة الدولية حول ترجمة معاني القرآن الكريم، المرجع السابق، 272 ص. [5] انظر: البيان الختامي والتوصيات. – 20 ص، في: ندوة عناية المملكة العربية السعودية بالسُّنَّة والسيرة النبوية؛ مرجع سابق، [6] انظر: محمود حمدي زقزوق. الإسلام والاستشراق، ص 71 - 102. والنصُّ من ص 99. في: نخبة من العلماء المسلمين. الإسلام والمستشرقون؛ مرجع سابق، 501 ص. وقد تكرَّرت هذه الدعوة في كتاب المؤلِّف: محمود حمدي زقزوق. الاستشراق والخلفية الفكرية للصراع الحضاري، ط 2، بيروت: مؤسَّسة الرسالة، 1405هـ / 1985م، 156 ص، (ترجمة إسلامية لمعاني القرآن الكريم، ص 147 - 148). [7] انظر: حسن معايرجي. مجمَّع ترجمات تفسير القرآن الكريم، . في: الندوة العالمية حول ترجمات معاني القرآن الكريم؛ مرجع سابق، ص 243 - 253. [8] انظر: فؤاد الكعبازي. أهمية التفسير العلمي للقرآن الكريم ودوره في الدعوة الإسلامية للغرب، في: الندوة العالمية حول ترجمات معاني القرآن الكريم، المرجع السابق، ص 271 - 314. [9] مما تعرَّض له القرآن الكريم من طعون التشكيكُ في كونه مصدرًا للتشريع واقتصاره على المجازات الأدبية والحكايات الأسطورية. انظر: محمَّد بن سعيد السرحاني. الأثر الاستشراقي في موقف محمَّد أركون من القرآن الكريم، في: ندوة القرآن الكريم في الدراسات الاستشراقية المنعقدة في مجمَّع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف بالمدينة المنوَّرة في المدَّة من 16 - 18 / 10 / 1427هـ الموافق 7 - 9 / 11 / 2006 م؛ مرجع سابق، 74 ص.
السعي وراء الحقائق دأب كل عاقل ليس شيء كالانتقاد مظهرًا للعيوب كي تجتذب، ومبينًا للخطأ ليصلح، ومميزًا للصواب من الخطأ ﴿ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ ﴾ [الرعد: 17]. فالانتقاد يمحص الحقائق، ويثير الأذهان، ويُوسِّع نطاق العقول، ويبرز الحقيقة من خفايا الوجود بأبهى حُللها وأجمل بُرودها، تتجلَّى للرائين كالغزالة عند الطلوع، فتعشو عند ذلك عيونُ المكابرين، فيرتد بصَرُهم خاسئًا وهو حسير. وليس من أمة حطَّت عنها أعباء الكسل، ورمت بإهمالها إلى أقصى مكان، إلا كان الانتقاد هو الداعي الأكبر، والسبب الأقوى في تقدمها؛ ولذلك نرى أن مقدار ارتقائها إلى أوج السعادة في المعرفة والمدنية، بكثرة عدد المنتقدين فيها، واقتدارهم على معرفة مواضع النقد ليظهروها، وحذقهم بمحال العلة فيخرجوها، وما المنتقدون إلا كالأطباء، يرون العِلَل وأسبابها، فيعملون على تطهير البدن منها، ويصفون لها من العلاجات والأدوية ما يكون عاملًا على إخراجها، وإراحة الجسم من أذاها، هذا إذا كان الطبيب نطاسيًّا حاذقًا، يقيس الأشباه بالأشباه والنظائر بالنظائر؛ وليس فهمه قاصرًا على درسه، وإلا فيكون ضرره أكبر، وخطبه أعظم. إن السعي وراء الحقائق دأبُ كل عاقل يربأ بنفسه أن يرد موارد الأوهام والظنون، وشنشنة المرء الذي لا يهمه إلا التنقيب عما هو حقيقة راهنة لا تقبل الإبهام، فمعرفة الحقيقة واستطلاع شؤونها غاية ما يتطلبه العقلاء، ومنتهى ما يسعى لأجله الأدباء. وقد زعم قوم أن لا حقيقة في الوجود، وهذا قول صادر عمَّن لا رؤية له ولا تعقُّل، إن قصد به نفي الحقيقة، وقد يكون له وجه من الصحة، إن قصد بذلك أن الحقيقة مستورة بأباطيل المبطلين، وأستار المموِّهين، الذين يرون الحق أبلج، غير أنهم يعدلون عن الجهر به لأغراض لهم: كخوف من مُسْتبدٍّ، أو خجل من الإقرار بالخطأ، وغير ذلك، فإن كان المدعي من هذا القسم فهو ممن يمكن إقناعهم وإرجاعهم إلى الوجه الحق بالبراهين والأدلة التي لا تقبل الردُّ. ومتى ثبت أن في الوجود حقيقةً راهنةً، فلا بُدَّ من السعي وراءها، وذلك دأْبُ من تحرَّكت في جسمه عاطفة الأدب، وجرى في جثمانه دم النُّبْل غير أن معرفة هذه الحقيقة صعبة على من لم يحلِب الدَّهْرَ أشْطُرَه، ويعرف حُلوه ومُره؛ لأن تحصيل هذه المعرفة يتوقف على إذكاء نار الجد، وإيقاد جذوة الطلب والاجتهاد، والمباحثة والمذاكرة، والرد والاعتراض، والمناقشة والانتقاد. فقد عرف فائدة ذلك العقلاء، فدرجوا عليه، وتحقَّقُوا فوائده، فاتخذوه أساسًا لأعمالهم، ورائدًا لهم في أمورهم، حوِّل نظرك إلى تاريخ مَن تقدَّم من سلف العلماء فترى أن مجالسهم كانت تغص بالأدباء، وتموج بأمواج العلماء، هذا يفيد، وذاك يعترض، والآخر ينتقد، ووجهة الكل واحدة، وهي نصرة الحق، وإظهار الصحيح من قواعد العلم، اللهم إلَّا ما شذَّ عن ذلك، وهم قليل لا يُعبأ بهم، ولا يُلتفَت إليهم.
تُخْمَةُ الْجِدَال الجِدال من طبيعَته - ولا يُلجِمُ ذلك الطَّبع إلَا عَقْلٌ وَحِكمة - يَتكلَّم في كلِّ فنٍّ ويجادل فيه: حاذِق في الطِّب، وبارِع في الهندسة، وخبير في الزِّراعة، ومُختَص في تَربية الأنْعام، ناقِد للشعر، ضلِيع في السِّياسة، عالم بالاقتصاد، مُتمكِّن في التِّجارة، مُطَّلع على علوم الفضاء، مُتمرِّس في الصِّناعة، لا يغيب عنه شَارِدة ولا وَارِدة ما اجْتمَعت العُلوم إلَا له، ولم تَخضَع المعارف لغيره، أوحد زمانه ونابِغة عَصره، في كُلِّ شيء له رَأْي، في العلماء واللاعبين، والحكَّام والمحكومين، ونظرَته ثاقِبة في القديم والحديث، وتحْليله للمستقْبل لا يَكَاد يخيب. قُصاصات من ورق وقعَت بَين يديه كوَّنت عنده آراءً، وكلمات من أَشتَات المجالس مُبَعثرَة صارَت عنْده حَقائِق، يَروي بذاك غرُورَه، ويُتخِم بِالسَّفه كِبْرياءه. كيف له أن يَصمُت، فهذا يَحُطُّ من مكانَته، ويقلِّل من شأنِه، فلا بُدَّ أن يُنَظِّر مع المنظِّرين، ويكون من المُصوِّبِين أو المُخَطّئين. لا يَجِد في نَفسِه ضيْرًا أن يُنَاطِح كُلَّ أحد من أَهْل الاخْتصاص، فله عَقْلٌ كمَا لَهُم عُقولٌ، ظانًّا أنَّ مسحَةً من عَقْل تغنيه عن التَّضَلع من ذلك العلم حتى يُتْقِنه، ثُمَّ يَتحدَّث فيه، يُحَاوِر بغَير عِلم، ويتحاذق من غير فَهْم، يَفِرُّ من الجهل فيلْتحِف به. ضاع العَقل في تَيْهِ التَّصَدُّرِ والتَّعَالُم، وعندَ هذا القُبْحِ لم يَتوَقَّف، بل تَعَدَّت جُرْأَتُه قُدْرَتَه، فانتَقل من عُلُوم الدُّنيا إلَى علوم الدِّين، ومنْ جدال المَخلوق إلَى جدَال الخَالِق سُبحَانَه! معترضًا على شرعه، مقتديًا بالمجادل الأول إبليس: ﴿ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ ﴾ [الأعراف: 12]. يقول: إن فَهم الدين ليس حكرًا على أحد، وهذا صحيح من حيث الابتداء، فكل له الحق في تعلم الدين، ولكن الفهم الحقيقي لا يتحقق لأحدٍ حتى يأخذ أدواته ويتمرَّس في علومه على أهله: ﴿ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [النحل: 43]. يأتي بفَهم جديد لنصوص الوحي، معارضًا فهمَ العلماء السابقين، ويعلن متبجِّحًا أنه فهم ما لا يفهَمه الأوائل! جهله بأصول العلم أوجد عنده منطلقات خاطئة توهَّمها، فصار يدعو إليها، ويحاكم الناس عليها! يتوهم أنه أدرك من الفهم ما غاب عمَّن أُنزل عليه الوحي صلى الله عليه وسلم، وعزب عن فهم أصحابه، ونَأَى عن علماء الأمة في القرون المفضلة! المسكين يُسْقِطُ نفْسَه من حيثُ ظَنَّ أنَّه يَرْفَعُهَا، ويَدْخُل في دائرَة الحُمْقِ، من حيث اعتقَد أنَّه اعْتَلَى في مَراقِي الحِكمَة! ﴿ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ ﴾ [العنكبوت: 43]، فهذه الأشباه والنظائر من الأمثال لا يعقلها إلا العالم بالله وآياته، ومن لم يفهم المعنى فليس من أهل العلم، ولو ادعاه! وعلى قَدْر ما جاء في القُرآن من تنْويعِ الحُجَج ومُخاطبة العقل، إلا أنَّه لا يَنقطع عن المُجادلة والمُخاصمة في الكُلِّيَّات أو الجُزْئِيَّات، ﴿ وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا ﴾ [الكهف: 54]. ولو جيء بالآيات تِباعًا ما انتَفَع وقد أضْمَر المُنازعَة، لم يُوَفَّق للحقِّ لأنه لمْ يَطلبه، ﴿ وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ * لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ ﴾ [الحجر: 14، 15]. حتَّى إذَا سِيق أهلُ النَّار إلى النَّار يوْمَ المعَاد، أقامُوا حُجَّتَهُم على الكَذب والإنْكَار، ﴿ ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ ﴾ [الأنعام: 23]، حِينئذ يُختَم على الأفواه وتُخرَس الألْسن الكاذبة، وتُؤمَر الأعضاء بالكلام فَتَشهد عليه بما كان يَعمَل، ويجتمع فيه المتناقضات، فهو الشَّاهد والمشْهود، والكاذب والصَّادق، والمنكر والمعترف، ثمَّ لا تَكَاد الشَّهادة تَنتهي ويُسْمَح له بِالنُّطق حتى يُجَادِل أعْضاءه ويلومها على شهادتها، مع يَقينِه أنَّ اَللَّه مُطَّلِع على قوله وخَبايا نفسِه! حتَّى في تلك اللَّحظات التي تَتَراءى فيها الخليقةُ الجنَّة والنَّار، وأنَّه لا مَلجأ من اَللَّه إلا إليه، إِلَّا أَنَّه لا يَنقَطِع جِداله حَتَّى مع بَعض جَسدِه، فهل بَعْد ذلك من سَفَه! ﴿ وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ * حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ * وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ * فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ ﴾ [فصلت: 20 - 24].
مخاطر تعلم اللغات الأجنبية ﴿ وَعَلَّمَ ءَادَمَ ٱلْأَسْمَآءَ كُلَّهَا ﴾ ﴿ إِنَّآ أَنزَلْنَٰهُ قُرْءَٰنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴾ تتعرض الأمة الإسلامية لحالة غزوٍ ثقافي ومعرفي، كما تتعرض لتشييد محتوى ثقافي بديل عبر اللغات الأجنبية وإهمال وتهميش اللغة العربية. وبصفتي أستاذًا متخصصًا في مناهج التربية وعلى درايةٍ بواقع التربية في عالمنا العربي الإسلامي وتطوراته المتلاحقة حتى الآن، أكتب هذه الكلمات مستشعرًا خطر هذه المشكلة. فالمنطقة العربية كانت مستعمرات انجليزية وفرنسية، وكان المستعمر يخطط للتعليم في المنطقة لطمس الهوية العربية الإسلامية وجعلها هوية غربية، وتم تكوين كوادر من أهل المنطقة يديرون هذا المخطط بعد زوال الاستعمار، ولا تزال المنطقة العربية الإسلامية تسير علي نهج هذه المخططات على زعم تفوق الغرب علميًّا، ولابد لنا من أن نسير في هذا الركب لتغيير وضعنا المتخلف، وهذا النهج تسير عليه التربية في المنطقة ويتم تحويل التعليم العربي الإسلامي إلى تعليم غربي بزعم التقدم الغربي، وأصبح هناك تكالبٌ بالوطن العربي الإسلامي على المدارس الأجنبية، من الحضانة إلى أعلى الدرجات العلمية. هذه المشكلة أصبح يعاني منها أطفال العالم العربي الإسلامي، حيث يتم تعليمهم هذه اللغات الأجنبية بالدرجة الأولى وتلقى هذه اللغات أهميةً كبيرة عن اللغة العربية، وهذا له خطورة عظمي في تكوين فكر المحتل الذي يركز على طمس الهوية الإسلامية وتكوين شخصيات تؤمن بالانحلال الخُلقي والفكر الحيواني الغريزي، بل أحط. وعندما شغلني هذا الموضوع كمسلمٍ وأستاذ جامعي تربوي، وأستاذٍ في مناهج البحث، فقد سرت على منهج القرآن في البحث، فقرأتُ الواقع، (أمر القراءة الأول في سورة العلق، وقد أوضحت هذا فيما سبق باختصار حتى لا يمل القارئ)، ثم انتقلت إلى الأمر الثاني بالقراءة؛ حيث قال الله تعالى: ﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ﴾ [العلق: 1 - 5]. والآن نستكمل المنهج في القراءة الثانية في كتاب الله، نتلمس من خلاله هدى الله لبيان هذه المشكلة وكيفية السير على منهج الله. فقد حدد الله مهمة الإنسان في الأرض بقوله تعالى: ﴿ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ﴾ [البقرة:30]. وكلف الله الإنسانَ قيادة الحياة في الأرض من: الجماد والنبات والحيوان والإنسان نفسه وغيره، بمنهج الله ولله. ومن أجل قيادة كل ذلك، علَّم الله الإنسان أسماءها ومدلولاتها وخصائصها، إذ قال: ﴿ وَعَلَّمَ ءَادَمَ ٱلْأَسْمَآءَ كُلَّهَا ﴾ [البقرة: 31]. قال العلماء:أي: علمه أسماء الأشياء، وما هو مسمى بها، فعلمه الاسم والمسمى، أي: الألفاظ والمعاني. ويصح حمل الأسماء على خواص الأشياء ومنافعها، فإن الخواص والمنافع علاماتٌ على ما تتعلق به من الحقائق؛ إذ الأسماء لابد لها من مسميات، فإذا أجرى حديثًا عن الأسماء حضر في ذهن السامع ما هو لازم لها. أي: أن الله - تعالى - ألهم آدم وعرفة ذوات الأشياء التي خلقها، وكلمة (كلها) تفيد الإحاطة؛ أي: معرفة كل شيء عن هذه الأسماء. وهنا ندرك أن الله علم آدم اللغة ليقود بها الحياة على الأرض عبادةً لله. وقد قال الله تعالى في كتابه: ﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴾ [يوسف: 2]. لقد اختار الله اللغة العربية لحمل دعوة الإسلام إلى أقطار الأرض جميعًا، فهي صالحة لحمل هذه الدعوة والسير بها في أقطار الأرض. ولو كانت لغةً ميتة أو ناقصةَ التكوين ما صلحت لحمل هذه الدعوة، وما صلحت لنقلها إلى خارج الجزيرة العربية. وهنا ندرك أن اللغة العربية توقيفية من الله، وعبادة الله لا تصح إلا بها، فقد اختصها الله لقيادة الحياة على وجه الأرض؛ فقد أنزل الله هذا الكتاب الكريم على نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - بلسانٍ عربيٍّ مبين، لعلنا نحن المكلفين بالإِيمان به نعقل معانيه، ونفهم ألفاظه، وننتفع بهداياته، وندرك أنه ليس من كلام البشر، وإنما هو كلام خالق القوى والقدر، وهو الله عز وجل. وجملة ﴿ لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴾ : بيان لحكمة إنزاله بلغة العرب، وحذف مفعول " تعقلون " للإِشارة إلى أن نزوله بهذه الطريقة، يترتب عليه حصول تعقل أشياء كثيرة لا يحصيها العد. وبعد محاولة استشفاف النور من الكتاب المبين لقول الله: ﴿ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ﴾ [العلق: 3 - 5]. فمِن كرم الله أن ينور لنا الطريق لحل مشاكلنا بالرجوع إلى كتابه الكريم ليعلمنا ما لم نستطع الكشف عنه بعقولنا في واقع الحياة؛ لذلك نقول كما قال موسى - علية السلام - عندما ضاقت عليه الأرض بما رحبت، قال: ﴿ وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَىٰ رَبِّي أَن يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ ﴾ [القصص: 22]. واستكمالا لمنهج الله في حل هذه المشكلة نرى توجيه الله لنا كمسلمين في مثل هذه الحالة في قول الله تعالى: ﴿ وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً ۚ فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ﴾ [التوبة: 22]. ويرى العلماء بناء على هذه الآية الكريمة، أن المسلمين ينبغي لهم أن يُعدُّوا لكل مصلحة من مصالحهم العامة من يقوم بها، ويوفر هو وقتَه عليها، ويجتهد فيها، ولا يلتفت إلى غيرها، لتقوم مصالحهم، وتتم منافعهم، ولتكون وجهة جميعهم، ونهاية ما يقصدون قصدًا واحدًا، وهو قيام مصلحة دينهم ودنياهم، ولو تفرقت الطرق وتعددت المشارب، فالأعمال متباينة، والقصد واحد، وهذه من الحكمة العامة النافعة في جميع الأمور‏.‏ وقياسًا على منهج الله في مثل حالة تعلم اللغات الأجنبية لنقل علومهم إلى العالم العربي الإسلامي أن نختار لكل تخصص من التخصصات العلمية من يستطيع تعلمه من الكبار المتعلمين لإتقان تلك العلوم الأجنبية وترجمتها إلى العربية، بعد التأكد من عدم مخالفتها للعقيدة الإسلامية، وذلك بالرجوع إلى العلماء الثقات المتخصصين، ثم يتم تعليمها بالجامعات أولًا، ثم يتم التدرج بها إلى باقي السلم التعليمي. وبذلك لا يتم إرهاق أطفالنا بتعلم اللغات الأجنبية بما فيها من فكرٍ إلحادي ومخالفات للعقيدة الإسلامية، والأولى تعلمهم اللغة العربية التي هي وعاء فكر التوحيد والاتصال بالله والسير على منهجه في الحياة كما بين لنا الله. إن اللغة العربية هي التي اختارها الله لنا، والتي تُحقق لنا تماسك المجتمع وتآلفه وتمسكه بقيمه وأخلاقه وتقدمه العلمي في توازن وأمان وأمن وسلام مع النفس والغير والمجتمع والبشرية كلها، بل ومع الكون الذي خلقه الله وعلم آدم طبيعة هذا الكون وكيف يعيش فيه بسلام. فهل يصحُّ كي ننقذ بلاد المسلمين من الضياع أن نفتح الباب على مصراعيه للماسونية العالمية وأعداء الله لتعليم أبناء الإسلام لغات الغرب التي تحمل في طياتها تدمير البشرية، وقد كلفنا الله بقيادة البشرية لننقذها من شر نفسها والشيطان، فقد أرسل الله محمدًا صلى الله عليه وسلم بالإسلام رحمة للعالمين، ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ ﴾ [الأنبياء: 107].
صراع المبادئ والمصالح المبادئ والمصالح في صراع منذ الأزل، يعلِّق البعض الأُولَى في مكتبه، ويعمل بالثانية، وهذا التناقض بين ما ندَّعيه وما نعمله، وما نقوله وما نمارسه، وما نعلنه وما نُبْطنه، هو مرض عُضالٌ سبَّب لنا الكثير من التأخر، وحرمنا التوفيق في كثير من المجالات، والحقيقة أنه لا يوجد اختبار نستطيع أن نقوم به لنعرف أصحاب المبادئ من أصحاب المصالح، لكننا نكتشفهم من خلال الممارسة والعمل، لكن الأمر ليس سهلًا كما قد يُظن؛ لأن البعض يكون صاحب مبدأ ثم يتحول مع الزمن لصاحب مصلحة، وهذا التحول تدريجي ليس له نقطة فاصلة تدل عليه، والبعض يكون صاحب مبدأ في أمر، وصاحب مصلحة في أمر آخر، كمن يمارس المبدأ في المعاملات الأخلاقية، لكنه صاحب مصلحة في القضايا المالية، وقِسْ على ذلك، وهناك من يمارس المبدأ في الحالات الطبيعية، لكنه ينقلب على عقبيه تحت ضغوط إدارية أو في ظروف معينة، وهناك من يخلط الأوراق ويدمج المصطلحات لأجل التضليل، فيتحدث عن المبادئ والمصالح العامة والأولويات، ثم يمرر من خلالها المصالح الخاصة والشخصية، وهنا وهناك. ولأننا لا نستطيع معالجة نوازع النفس وميولها وتقلباتها، وضعفها في الظروف المختلفة، فإننا نؤكد على مرتكزات أربعٍ ينبغي لكل من تقلَّد أمرًا أن يراعيها ويوليها جل اهتمامه: ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾ [الفاتحة: 5]، هذه قاعدة سيرنا في هذه الحياة، دَعَك من كل المخلوقين، لا تعمل إلا لله ولا تستعين إلا به، وسوف تعيش حينها كبيرًا وسيكون كل ما حولك صغيرًا، حينما تسير بركني العبادة والاستعانة من الله تعالى، فقد استمسكت بالعروة الوثقى التي هي أقوى سبب وأكبر مدد، وهذا كما لا يخفى على كل لبيب لا ينفي بذل الأسباب المادية؛ لحصول متطلبات الحياة في البيت والعمل، لكنه يعني أن يكون عمل القلب متعلقًا بالله عبادة واستعانة في كل أمر، وهو وحده القادر ليس فقط على جلب المطلوب، ولكن على تيسير حصوله وتعظيم أثره وزيادة البركة فيه، ولا ينبغي حينها التعويل على مخلوق تزلُّفًا أو تملُّقًا أو استجداءً. ﴿ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ ﴾ [الطلاق: 2، 3]، إذا فهمت المرتكز السابق وبدأت العمل بموجبه، فسوف تخوض تحديات كبيرة مع نفسك ومع الآخرين، فليست الحياة حلوة كما يُقال، بل هي اختبار وتمحيص ليتبين الصادق من الكاذب، والتقي من الدَّعِيِّ، ستمر عليك مواقفُ تقف فيها على مفترق طرق بين المصالح والمبادئ، ولا بد لك من اختيار أحدهما، وطريق المصالح مليء بالمغريات والمكتسبات القريبة، ويؤزُّك عليه هوى النفس وضعفاء النفوس، أما طريق المبادئ فلا حاديَ فيه إلا صوت الضمير، وحِسُّ الأمانة، ومكتسباته ومعطياته غيبية غير ظاهرة إلا بنور الإيمان والتقوى؛ لذا فإن معوِّلَك - أيها الموفَّق - ومنارتك التي تهتدي بها هي الآية التي بدأنا بها هذه الفقرة. ﴿ وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ ﴾ [الصافات: 24]، حين تغفُل عن المرتكز السابق، وتهم بالاستجابة لنداءات النفس الأمَّارة بالسوء، وتستهويك مغريات طريق المصالح، فتذكر هذه الآية، لا تظن أنك خِلْوٌ من التَّبِعات، وأنك إن أفلتَّ من عين رقيب الدنيا، ستفلت من عين رقيب الآخرة، تذكَّر هذا الوقوف وهذا السؤال، وسيكون موقظًا لك من غفلتك، ورادعًا لك عن التمادي في السير نحو حتفك. ﴿ أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ ﴾ [الزمر: 36]، استصحب هذه الآية طوال سيرك في معتركات المصالح والمبادئ، اجعلها كهفًا تأوي إليه كلما أبانت الأيام عن وجهها الكالح، تدبرها كلما رأيت أنك تسير وحدك والعالم من يحولك يعُبُّ من مصالحه، ويصعد في سلالم الترقيات والمكافآت، والهِبات والأُعطيات؛ لأنه حابى هذا، وجامل هذا، وطوع النظام ليفعل ما لا يُرام، لا تقلق وأنت تأوي إلى ركن شديد، وتذكر أن السجود همس خفيٌّ يدُكُّ صعوبات الحياة.
مشاهد من معركة أحد • كانت أم أيمن حاضنة الرسول صلى الله عليه وسلم تسقي الماء، فرماها ابن العرقة بسهم فأصاب ذيلها - طرف ثوبها - فضحك، فدفع النبي صلى الله عليه وسلم سهمًا إلى سعد بن أبي وقاص وقال: ((ارمِه)) ، فرماه فأصابه، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم وقال: ((استقاد - اقتص من خَصمها - لها سعد، أجاب الله دعوتك، وسدَّد رميتك)) . • أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلًا أن ينظر في القتلى، فوجد بين القتلى سعد بن الربيع وبه رمق، فقال: أبلغ رسول الله مني السلام، وقل له: جزاك الله خير ما جزى نبيًّا عن أمته، وأبلغ قومي السلام، وقل لهم: لا عُذر لكم عند الله إن خلص إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أذى وفيكم عين تطرف، ثم مات. • وجد حمزة ببطن الوادي وقد بقر بطنه عن كبده ومُثِّل به، فحين رآه النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لولا أن تحزن صفية - أخت حمزة - أو تكون سنَّة بعدي، لتركته حتى يكون في أجواف السباع وحواصل الطير، ولئن أظهرني الله على قريش لأمثلن بثلاثين رجلًا منهم)) ، وقال المسلمون: لنمثلن بهم مثلة لم يمثلها أحد من العرب، فأنزل الله: ﴿ وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ ﴾ [النحل: 126]، فعفا رسول الله صلى الله عليه وسلم وصبر ونهى عن المُثلة، وأخبرت صفية بما حصل لحمزة فأقبلت لتراه فقال النبي صلى الله عليه وسلم لولدها الزبير ليردها كيلا تراه وهو على هذه الحالة، فأعلمها الزبير بذلك، فقالت: لأحتسبن ولأصبرن، فما أرضانا بما كان، فلما علم النبي صلى الله عليه وسلم بما قالت، أذن لها برؤيته - علم رباطة جأشها وقوة إيمانها • فأتت ودعت له واسترجعت، ثم أمر النبي صلى الله عليه وسلم بدفنه. • وكان في المسلمين رجل اسمه قزمان، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إنه من أهل النار)) ، فخرج يوم أُحد ولحق بالمسلمين في أُحد وحمل قوسه وتقلد سيفه ثم قاتل قتالًا شديدًا، وقتل ثمانية أو تسعة من قريش، وجُرح، فحُمل إلى بيته، وقيل له: أبشر قزمان، فقال: بمَ أبشر وأنا ما قاتلت إلا عن أحساب قومي؟ ثم اشتد عليه جرحه، فأخذ سهمًا فقطع عروقه فنزف فمات، فأُخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ((أشهد أني رسول الله)) . • وفي المقابل ذُكر رجل يدعى الأصيرم، واسمه عمرو بن ثابت، فقد كان منكِرًا على قومه أن دخلوا في الإسلام، ويوم أُحد بدا له فأسلم والتحق بالمسلمين وقاتل قتال الأبطال، وقد وُجد بين القتلى في الرمق الأخير، فقالوا: هذا الأصيرم، فقالوا: ما جاء بك؛ أحدَبٌ على قومك أم رغبة في الإسلام؟ فقال: بل رغبة في الإسلام، آمنت بالله وبرسوله، وأسلمت، ثم أخذت سيفي وغدوت فقاتلت حتى أصابني ما أصابني، فلم يلبث أن مات، فذكر خبره لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ((هو مِن أهل الجنة)) . • مخيريق اليهودي، جمع اليهود وقال لهم: تعلمون أن نصرة محمد عليكم حق، فقالوا: إن اليوم السبت، فقال: لا سبت، وأخذ سيفه وعدته، وقال: إن قُتلت فمالي لمحمد يصنع به ما يشاء، ثم غدا فقاتل حتى قتل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مخيريق خيرُ يهودَ)) . • قُتل في هذه الغزوة اليمانُ أبو حذيفة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد رفعه في الحصن هو وثابت بن قيس مع النساء؛ لكبر السن، وعند احتدام المعركة قال اليمان لثابت: ما ننتظر؛ أفلا نأخذ أسيافنا فنلحق برسول الله صلى الله عليه وسلم فنقاتل؛ لعل الله يرزقنا الشهادة؟! ففعلا ودخلا بين المقاتلين والمعركة محتدمة، فقتل المشركون ثابتًا، كما أن المسلمين لم يميزوا اليمان وظنوه مع المشركين فضربوه بسيوفهم، وفي اللحظة الأخيرة اكتشفه ولده حذيفة فصاح: أبي.. أبي! فقالوا: ما عرفناه، فقال: يغفر الله لكم، وأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يعطي ولده الديَة، لكن حذيفة تصدق بها. • شرع المسلمون في دفن قتلاهم، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يدفنوا حيث صرعوا، وكان يُدفَنُ الاثنان والثلاثة في القبر الواحد، وأن يقدم إلى القبلة أكثرهم قُرْآنًا، وصلى عليهم، فكان كلما أتي بشهيد جعل حمزة معه وصلى عليهما، وقيل: كان يجمع تسعة من الشهداء وحمزة عاشرهم فيصلي عليهم، ودفن ابن الجموح وعبدالله بن حرام في قبر واحد، كانا متصافِيَيْنِ في الدنيا. • في أثناء منصرفه صلى الله عليه وسلم من أُحد لقيته حمنة بنت جحش، فنعى لها أخاها عبدالله، فاسترجعت له • إنا لله وإنا إليه راجعون - ثم نعى لها خالها حمزة، فاستغفرت له، ثم نعى لها زوجها مصعب بن عمير، فولولت وصاحت، فقال: ((إن زوج المرأة منها لبمكان)) ، ومر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بدار من دور الأنصار فسمع البكاء والنواح، فذرفت عيناه فبكى، قال: ((لكن حمزة لا بواكي له)) ، فرجع سعد بن معاذ إلى دار بني عبدالأشهل فأمر نساءهم أن يذهبن فيبكين على حمزةَ. • ومر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بامرأة من الأنصار قد أصيب أبوها وزوجها، وقيل: ابناها، وهي السميراء بنت قيس، فلما نُعِيا لها قالت: ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالوا: هو بحمد الله كما تحبين، قالت: أرونيه، فلما نظرت إليه قالت: كل مصيبة بعدك يا رسول الله جَلَلٌ؛ أي: هينة. • أقبل ثابت بن الدحداحة يومئذ والمسلمون أوزاع - جماعات متفرقة بعد أن دارت عليهم الدائرة - قد سُقط في أيديهم، فجعل يصيح: يا معشر الأنصار، إليَّ إليَّ أنا ثابت بن الدحداحة، إن كان محمد قد قُتل فإن الله حي لا يموت، فقاتلوا عن دينكم؛ فإن الله مظهركم وناصركم، فنهض إليه نفر من الأنصار، فجعل يحمل بمن معه من المسلمين، وقد وقفت لهم كتيبة خشناء، فيها كبارهم، خالد بن الوليد وعمرو بن العاص وعكرمة بن أبي جهل وضرار بن الخطاب - كلهم أسلموا فيما بعد - فقاتلهم ابن الدحداحة حتى أنفذ خالدٌ الرمحَ في صدره وقتل من كان معه من الأنصار، وهؤلاء آخر من قتل في هذه المعركة. • قال ضرار بن الخطاب يذكر معركة أُحد: فلما خرجنا إلى أُحد وأنا أقول: إن أقاموا في صياصيهم فهي منيعة لا سبيل لنا إليهم، نقيم أيامًا ثم ننصرف، وإن خرجوا إلينا من صياصيهم أصبنا منهم - لتفوق عددنا وعدتنا - فقضي لهم فخرجوا، فوالله ما أقمنا لهم حتى هزمنا وانكشفنا مولين، فقلت في نفسي: هذه أشد من وقعة بدر، وجعلت أقول لخالد بن الوليد: كر على القوم، فيقول لي: وترى وجهًا نكر فيه؟ حتى نظرت إلى الجبل الذي كان عليه الرماة خاليًا، فقلت: أبا سليمان، انظر وراءك، فعطف عنان فرسه، فكر وكررنا معه، فانتهينا إلى الجبل فلم نجد عليه أحدًا له بال، وجدنا نفيرًا فأصبناهم ثم دخلنا العسكر والقوم غارُّون ينتهبون العسكر، فأقحمنا الخيل عليهم فتطايروا في كل وجه. • أقبل وهب بن قابوس المزني ومعه ابن أخيه الحارث بن عقبة، بغنم إلى المدينة فوجداها خِلْوًا، فسألا: أين الناس؟ قالوا: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم لقتال قريش، فلحقا بالجيش، ووصلا والدائرة على قريش والمسلمون في معسكرهم ينتهبون وهم على ذلك إذ طلعت عليهم خيل المشركين، فقاتلا، ثم انفرقت فرقة من خيل المشركين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((مَن لهذه الفرقة؟)) ، فقال وهب بن قابوس المزني: أنا يا رسول الله، فقام فرماهم حتى انصرفوا، ثم رجع، فانفرقت فرقة أخرى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مَن لهذه الكتيبة؟)) ، فقال المزني: أنا يا رسول الله، فقام فذبها بالسيف حتى ولوا، ثم رجع، ثم طلعت كتيبة أخرى، فقال: ((من يقوم لهؤلاء؟)) ، فقال المزني: أنا يا رسول الله، فقال: ((قم وأبشر بالجنة)) ، فقام مسرورًا وهو يقول: والله لا أقيل ولا أستقيل، فقام فجعل يدخل فيهم فيضرب بالسيف ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر إليه والمسلمون، حتى خرج من أقصاهم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((اللهم ارحمه)) ، ويرجع فيهم، فما زال كذلك وهم محدقون به حتى اشتملت عليه أسيافهم ورماحهم فقتلوه، فوُجد به عشرون طعنة برمح كلها في مقتل، وقد مثل المشركون به، ثم قاتل ابن أخيه مثل قتاله حتى قتل، فكان عمر بن الخطاب يتمنى مِيتة كالمزني. • شاركت النسوة في نقل المياه، وكان منهن عائشة بنت أبي بكر وفاطمة بنت محمد وأم سليم بنت ملحان، وأم عمارة نسيبة بنت كعب، أما أم عمارة فقد تحولت إلى مقاتلةٍ شجاعة لما رأت ما حل بالمسلمين، قالت: فلما انهزم المسلمون انحزت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقمت أباشر القتال وأذب عنه بالسيف وأرمي عنه بالقوس حتى خلصت الجراح إليَّ، فقد أصابها ابن قمئة بضربة سيف على عاتقها كان لها أثر بليغ، علمًا بأنها ضربته عدة ضربات فلم تؤثر فيه، فقد كان عليه درعان، وكان ابنها قد أصيب؛ حيث ضربه مشرك في عضده فنزف ولم يرقأ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم له: ((اعصب جرحك)) ، فأقبلت أم عمارة ومعها عصائب فعصبته، ثم قالت: قم فضارِبْ، فنظر إليها النبي صلى الله عليه وسلم وقال: ((ومَن يُطيق ما تطيقين يا أم عمارة؟)) ، ثم أقبل ضارب ابنها، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((هذا ضارب ابنك)) ، فضربت ساقه فبرك، ثم أقبلت عليه مع ابنها وعلَوْه بالسلاح حتى أجهزوا عليه. • واستُشهد عمرو بن الجموح، وكان أعرج شديد العرج، وكان له بنون أربعة مثل الأسود يشهدون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم المشاهد، فلما كان يوم أُحد أرادوا حبسه، وقالوا: إن الله عذرك، فأتى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وقال: إنهم يريدون أن يحبسوني عن هذا الوجه والخروج معك، فوالله إني لأرجو أن أطأ بعرجتي هذه الجنة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أما أنت فقد عذرك الله، فلا جهاد عليك)) ، وقال لبنيه: ((ما عليكم أن تمنعوه؛ لعل الله أن يرزقه الشهادة)) ، فخرج فقُتل رضي الله عنه. • قُتل من المسلمين سبعون، ومِن المشركين اثنان وعشرون.
موسى عليه السلام (2) ذكرتُ في ختام الفصل السابق ما قصَّه الله عز وجل عن ميلاد موسى عليه السلام وإيحاء الله تعالى لأمه أن ﴿ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ ﴾ [القصص: 7]. وقد اشتمل هذا الوحي على أمرين ونهيين وخبرين، وقد أجمل الله تبارك وتعالى ذلك في سورة طه؛ حيث يقول ممتنًّا على موسى عليه السلام: ﴿ وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى * إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى ﴾ [طه: 37، 38]، ثم فصَّل ذلك الوحي المجمل فقال: ﴿ أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي ﴾ [طه: 39]. وقد قامت أمُّ موسى عليه السلام بما أمرها الله تعالى به، فألقت ولدها في اليَم بعد أن وضعته في التابوت، أي: الصندوق، وقد ذكر الله تبارك وتعالى أن اليم ألقى بالصندوق وفيه موسى عليه السلام إلى الساحل، أي: شاطئ النهر أمام بيت آل فرعون ﴿ فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ ﴾ [القصص: 8]، وفرحوا به لما ألقى الله عز وجل على موسى من المحبة في قلب مَن يراه، غير أن فرعون خشي أن يكون مِن بني إسرائيل، وفكَّر في قتله، فقالت زوجته آسيا رضي الله عنها: ﴿ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ﴾ [القصص: 9]، أنَّهم التقطوا مَن يزول ملكهم على يديه، وأنه سيكون لهم عدوًّا وحَزَنًا، فقيَّض الله له عليه السلام أعدى أعدائه أن يُربُّوه، وأن ينشأ في بيتهم؛ على حد قول الشاعر: وإذا العِنَايةُ لاحظتْكَ عيونُها نَمْ فالمخاوفُ كلُّهنَّ أمانُ وهيَّأ الله تعالى له المرأة الصالحة آسيا زوجة فرعون عدو الله ورسله لتشرف على تربيته، غير أن الله عز وجل منعه من الْتِقَامِ أيِّ ثَدْيٍ غير ثدي أمه، فكلما قدموه لمرضعةٍ رفض الامتصاصَ من ثديها، وقد بلغ الحال بأم موسى مع شدة كظم ما بها من الخوف عليه أن أصبح فؤادها كالهواء، كأنها كادت أن تُجنَّ لولا أن ربط الله على قلبها لتكون من المؤمنين، وقالت لأخته: تتبَّعي أثرَه، وانظري ماذا يفعل به ملتقِطوه، وإيَّاكِ أن يعرفوا أنك أخته أو أنك تحاولين معرفة شيء عنه، فانظري عن بُعْد وبطريقة جانبية لا يُعْرفُ منها أنك مشغولة به، فقامت أختُه بتنفيذ وصية أمها، ومرُّوا بها يبحثون عن مرضعة له، فقالت: أنا أدلكم على مرضعة لعلَّه يقبل منها، فجاؤوا به إلى أمه فالتقم ثديَها ففرحوا فرحًا عظيمًا، وجعلوا يتردَّدون به عليها، وقد قرَّت عينها به وخلَّصها الله تعالى من الحزن عليه، وعَلِمت أن وعد الله حق، وأن الله على كل شيء قدير، وأنه إذا أراد أمرًا هيَّأ له الأسباب وأزال الموانعَ، وقد استمرَّ موسى عليه السلام في بيت فرعون كأنه ولد لهم، يحوطونه بمحبتهم حتى بلغ أشُدَّه واستوى، وملأ الله قلبه حكمة وفقهًا وعلمًا. وفي هذا تثبيت فؤاد رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، وأن الله تعالى ينصر أولياءه، ويخلِّصُهم من المحن وينجِّيهم من السوء. وفي ذلك كله يقول الله تبارك وتعالى في سورة القصص: ﴿ فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ * وَقَالَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ * وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ * وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ * فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ * وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ﴾ [القصص: 8 - 14]. ويقول تعالى في سورة طه: ﴿ إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ ﴾ [طه: 40]، وفي قوله تعالى: ﴿ فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا ﴾ اللام في قوله: ﴿ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا ﴾ لام العاقبة؛ أي: ما دروا أنهم بالتقاطه ستكون العاقبة أن يكون لهم ﴿ عَدُوًّا وَحَزَنًا ﴾، وكم من عملٍ يعمله الإنسان لأمر، فتكون عاقبتُه على عكس ما أراد من عمله؛ لأن الأمر كله لله وحده. والإنسان مهما ادَّعى القدرة والمعرفة فإنه يجهل عاقبة أمره. وهامان هو وزير فرعون لعنهما الله، وفي تنشئة موسى في بيت فرعون يقول الله تعالى في سورة الشعراء: ﴿ قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ ﴾ [الشعراء: 18]، وبعد أن بلغ موسى عليه السلام أشدَّه وتم نضجه وشبابه وتكامل عقله وأفاء الله تعالى عليه من الحكمة والفقه والعلم، وأراد الله عز وجل أن يقيم على يديه سببًا يدعوه للخروج من مصر، والهروب من آل فرعون والبُعد عن تقاليدهم وعاداتهم قدَّر الله له أن يدخل وسط المدينة في وقت غفلة أهلها؛ إما في وقت نومهم وإما في وقت اشتغالهم بلعبهم ولهوهم؛ حيث تكون الطرقات شبه خالية من المارَّة، فوجد فيها رجلين يتصارعان يريد كلٌّ منها الفتْكَ بصاحبه، وموسى عليه السلام قد عرف أن أحدَهما إسرائيليٌّ وأن الآخرَ قبطيٌّ، وكأنه رأى أن القبطيَّ أشد بأسًا من الإسرائيلي؛ ولذلك استغاثه وطلب منه العون، فأراد موسى عليه السلام أن يدفع القبطيَّ عن الإسرائيلي، فوكزه بيده ودفعه بِجمع كَفِّه ليدفعه عنه، ولم يكن موسى عليه السلام يدري أن هذه الوكزةَ ستقضي عليه وتقتله؛ ولذلك أحسَّ بندم شديد وأسند هذا الشر للشيطان فقال: ﴿ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ * قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾ [القصص: 15، 16]، وعزم على أنه لن يعود لمثلها، وقال: ﴿ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ ﴾ [القصص: 17]؛ أي: نصيرًا لأحد من الكافرين المجرمين. وقد أصبح ﴿ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ ﴾ [القصص: 18]، ماذا سيؤدي إليه قتلُ هذا القبطي؟ وهل سيعرفون أنه موسى فيأخذونه به؟ وبينما هو كذلك في طريق قريب من موضع قتل القبطي، وإذا بالإسرائيلي الذي ساعده بالأمس (يستصرخه) ويستغيث به على قبطي آخر، فأجابه موسى عليه السلام بأنك شديد الغواية بيِّن الأذى، ولما أشار موسى عليه السلام بيده إلى الإسرائيلي إشارة غضب مؤدبًا له على سوء سلوكه، ﴿ قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ ﴾ [القصص: 19]، فعلم موسى عليه السلام أن الخبر لا بد من أن يصل إلى فرعون من هذا القبطي، وأنهم - لا بد - قاتلوه، وفعلًا أَعْلَمَ القبطيُّ آلَ فرعون بأن موسى هو الذي قتل القبطي بالأمس، فتآمروا على قتل موسى عليه السلام. وإلى الفصل القادم إن شاء الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
تسمية من روى الموطأ عن الإمام مالك لابن الأكفاني صدر حديثًا كتاب "تسمية من روى الموطأ عن الإمام مالك بن أنس الأصبحي إمام دار الهجرة"، تأليف: الإمام "أبي محمد هبة الله بن أحمد ابن الأكفاني" (ت 524 هـ)، تحقيق: أ.د. "طه بن علي بوسريح التونسي"، نشر: "دار سحنون للنشر والتوزيع" بتونس. وهو من ضمن جهود الأستاذ الدكتور "طه بن علي بوسريح التونسيّ" في خدمة موطأ الإمام مالك، حيث نذر علمه ووقته لخدمة كتاب "الموطّأ" - للإمام "مالك بن أنس" إمام دار الهجرة - بتحقيق ودراسة كتب لها علاقة وطيدة بهذا المصدر الحديثي والفقهي الخطير منذ التسعينات من القرن الماضي، ومن تلك الجهود هذا السفر النفيس المسمى بـ"تسمية رواة الموطأ": لهبة الله ابن الأكفاني الدّمشقي (ت524هـ) وهو أوّل كتاب ألّف في ذكر أسماء رواة "الموطأ" عن مالك، قبل القاضي عياض (ت544هـ) وكتاب ابن الأكفاني مصدر أساسي من مصادر كتاب ابن ناصر الدّين الدّمشقي (ت842هـ) "إتحاف السالك برواة الموطأ عن الإمام مالك" وقد ذكر أسماء الرّواة باختصار مع ذكر كناهم وشيء من أخبارهم، ثمّ ذكر لفوائد عزيزة. وقد قام المحقق بالتعليق على الكتاب بعد ترجمة المؤلف، وتوثيق الكتاب.. وذكرَ بالهامش كلّ من وافق "ابن الأكفاني" على اعتبار كلّ راو سمّاه من رواة الموطأ مع الترجمة المختصرة، وذكر المحقق كلام أئمة الجرح والتعديل في كلّ راوٍ باختصار. مع ضبط نصه، والتقدمة له ببيان جهود العلماء في خدمة الموطأ والتعريف بابن الأكفاني والمكانة العلمية لمؤلفه. ويرى المحقق أنّ علماء تونس المعاصرين قد قصروا في خدمة كتاب المذهب الرئيس وهو "الموطّأ" ما عدا طائفة من أهل العلم ممّن أشار إليهم. وعلى رأسهم العلامة المحقق محمّد الطاهر ابن عاشور رحمه الله (ت1973م)، والعلامة محمّد الشاذلي النيفر رحمه الله (ت1997م)، وأمّا بقية الباحثين ومن قبلهم مشايخ الزيتونة فإنّهم كتبوا مقالات متفرقة، أو محاضرات متنّوعة، أو جملة من الأختام المطبوعة أو المخطوطة وليس تلك الأعمال بذلك العمق العلمي المنشود أو التأصيل المنهجي الدقيق، بل هي أشبه بتقيدات ونقول عن المتأخرين وبعضها مكرّر فائدته قليلة. ومؤلف الكتاب هو هبة الله بن أحمد بن محمّد، أبو محمّد بن الأكفاني الأنصاري الدّمشقي، قال عنه الذّهبي في "التّاريخ": "الحافظ"، له عناية بالتأريخ. وهو شافعيّ، كان من كبار العدول، قال ابن قاضي شهبة: "محدث دمشق، كتب ما لم يكتبه أحد من أبناء زمنه بالشام". ولد سنة ( 444 هـ). وسمع وهو ابن تسع سنين، وبعد ذلك من والده، وأبي القاسم الحنائي، وأبي الحسين محمد بن مكي، وعبد الدائم بن الحسن الهلالي، وأبي بكر الخطيب، وعبد العزيز الكتاني، ولازمه مدة، وأبي نصر بن طلاب، وأبي الحسن بن أبي الحديد، وطاهر بن أحمد القايني، وعبد الجبار بن برزة الواعظ، وأبي القاسم ابن أبي العلاء، وخلق كثير، وكان أبوه قد سمع من عبد الرحمن بن الطبيز. وسمع جده لأمه أبا الحسن ابن صصرى وغيره، وكان يزكي الشهود إلى أن مات. حدث عنه غيث الأرمنازي، وأبو بكر ابن العربي، وأبو طاهر السلفي، وابن عساكر، وأخوه الصائن، وعبد الرزاق النجار، وإسماعيل بن علي الجنزوي، وأبو طاهر الخشوعي، وآخرون. قال ابن عساكر: سمعت منه الكثير، وكان ثقة ثبتًا متيقظًا، معنيًا بالحديث وجمعه، غير أنه كان عسرًا في التحديث، وتفقه على القاضي المروزي مدة، وكان ينظر في الوقوف، ويزكي الشهود. وقال أبو طاهر السلفي: "هو حافظ مكثر ثقة، كان تاريخ الشام، كتب الكثير". وقال ابن عساكر: مات الأمين في سادس المحرم سنة أربع وعشرين وخمسمائة، رحمه الله. من مصنفاته: "ذيل ذيل تاريخ مولد العلماء ووفياتهم"، و"من حديث أبي محمد ابن الأكفاني"، و"وفيات ابن الحبال"، و"تسمية من روى عن المزني المختصر الصغير من علم الشافعي". والمحقق هو د. "طه بن علي بوسريح التونسيّ" رئيس وحدة الحديث والسيرة بجامعة الزيتونة، ورئيس دار الحديث بتونس. تتلمذ على يد العلامة محمد الشاذلي النيفر وهو عمدته، وعن الشيخ إسماعيل بن ماحي الأنصاري والشيخ عبد العزيز الغماري، وأحمد محمد زبارة مفتي اليمن، وعبد الله التليدي، وأبي أويس محمد بوخبزة، ويوسف العتوم الأردني، وتدبّج مع كثيرين، وهو من القلائل الذي يروون عن العلامة حماد الأنصاري محدث المدينة لشدّته المعروفة، وقد سمع الشيخ منه الأولية بشرطه وأجازه إجازة عامّة رحمه الله.. وغيرهم. ومن تحقيقاته: • كتاب "الجمع بين الصحيحين" للحافظ عبد الحق الإشبيلي (قدّم له د. بشار عواد). • "مطالع الأنوار على صحاح الآثار" لابن قرقول في 5 مجلدات عن دار ابن حزم. • "مسند الموطأ" للجوهري. • "جزء في الأربعين في المساواة" للحافظ ابن عساكر (قدّم له الشيخ عبد القادر الأرنؤوط). • "جزء لأبي عمرو الداني في مصطلح الحديث". • "نقد علمي لكتاب الإسلام وأصول الحكم للشيخ محمد الطاهر بن عاشور (تحقيق). • "كشف المغطى من المعاني والألفاظ الواقعة في الموطأ" للشيخ محمد الطاهر بن عاشور (تحقيق). ومن تآليفه: • "المنهج الحديثي عند الإمام ابن حزم الأندلسي". • "المنهج النقدي عند الحافظ ابن عبد البرّ من خلال التمهيد". • "مصادر الحافظ ابن عبد البر الأندلسي". • "من جهود شيوخ الزيتونة في التحذير من الأحاديث الضعيفة والموضوعة".
أوليات: أبو بكر الصديق رضي الله عنه أول من أظهر إسلامه من الصحابة: قاله مجاهد؛ [تاريخ ابن معين رقم: (2393)، وتهذيب الأسماء واللغات (1 / 174)، (2 / 37)، إكمال تهذيب الكمال (7 / 5) لمغلطاي]، وقاله ابن مسعود؛ [وانظر رسالتي: التحقيق في عموم ﴿ ثَانِيَ اثْنَيْنِ ﴾ [التوبة: 40] مذخرة أبي بكر الصديق رضي الله عنه في ﴿ ثَانِيَ اثْنَيْنِ ﴾ في إظهار الإسلام]. أول من أسلم من الرجال: وقد ذكرته بشيء من التوسع في [رسالتي: التحقيق في عموم ﴿ ثَانِيَ اثْنَيْنِ ﴾ [التوبة: 40] مذخرة أبي بكر الصديق رضي الله عنه في ﴿ ثَانِيَ اثْنَيْنِ ﴾ في الإسلام والإيمان]، بما يغني عن الإعادة فانظره هناك. أول من صلى مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : انظر: [التحقيق في عموم ﴿ ثَانِيَ اثْنَيْنِ ﴾ [التوبة: 40] مذخرة أبي بكر الصديق رضي الله عنه] فقد نقلت شيئًا مما قيل في هذا، في ﴿ ثَانِيَ اثْنَيْنِ ﴾ في الصلاة وإمامة الناس، وقيل: علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وانظر: أوليات علي بن أبي طالب رضي الله عنه. أول من استُخْلِف من الخلفاء: الأوائل للعسكري (ص: 148). أول مَن سُمِّيَ خليفة: الأوائل للعسكري (ص: 145)، الأوائل لتقي الدين الجراعي (ص: 59)، الكامل في التاريخ (2 / 266)، تاريخ الخلفاء (ص:63)، شجرة النور الزكية (2 / 50). أول خليفة في الإسلام: تهذيب الأسماء واللغات (2 / 191)، الأنس الجليل (1 / 245)، أسد الغابة (3 / 230)، تفسير ابن عرفة (3 / 295). أول أمير أُرْسِل على الحج: حجَّ بالناس سنة تسع من الهجرة، وحديثه في الصحيحين؛ [تهذيب الأسماء واللغات (2 / 191)، أسد الغابة (3 / 230)]. أول من جمع الناس في الحج: سنة تسع؛ [تاريخ أبي زرعة (ص: 589)]. أول الخلفاء الراشدين: تهذيب الأسماء واللغات (2 / 191)، الأعلام (4 / 102) للزركلي، معجم المفسرين (1 / 315). أول من عهِد بالخلافة: تهذيب الأسماء واللغات (2 / 191)، فقه السيرة النبوية (ص: 353). أول من جمع القرآن في المصاحف: العلل ومعرفة الرجال (2 / 58)، فضائل الصحابة (1 / 354)، معرفة الصحابة (1 / 32)، مصنف ابن أبي شيبة (6 / 148) و(7 / 248-259)، المعرفة والتاريخ (2 / 581)، ضعفاء العقيلي (4 / 180)، الشريعة (4 / 1782-1783)، الأوائل للعسكري (ص:143)، الأوائل لتقي الدين الجراعي (ص: 124)، الأوائل لأبي عروبة (ص: 128-130)، الاستذكار (2 / 485)، الإبانة الكبرى (8 / 402-405-407)، المنتظم (4 / 61)، تلقيح فهوم أهل الأثر (ص:75)، صفة الصفوة (1 / 242)، تاريخ دمشق (24 / 89-90) و(30 / 380)، وفيات الأعيان (3 / 68)، كنوز الذهب (2 / 48)، تاريخ الإسلام (2 / 60)، أسد الغابة (3 / 230)، فضائل القرآن (ص: 280-283) لابن سلام، تفسير ابن كثير (1 / 25)، فضائل القرآن (ص:57) لابن كثير، الأوائل (ص: 128) لأبي عروبة، الانتصار للقرآن (2 / 487-488)، غاية النهاية في طبقات القراء (1 / 431)، الجوهرة (2 / 173)، الرياض النضرة في مناقب العشرة (1 / 162)، تاريخ الخلفاء (ص:63)، الإتقان (1 / 163)، السيرة الحلبية (3 / 508)، شجرة النور الزكية (2 / 50). أول مَن سمَّى المصحف مصحفًا: الأوائل للعسكري (ص: 143)، الأوائل لتقي الدين الجراعي (ص: 124)، صبح الأعشى (1 / 489)، الكامل في التاريخ (2 / 266)، تاريخ الخلفاء (ص: 63)، السيرة الحلبية (3 / 508). أول من وَلِيَ الخلافة وأبوه حيٌّ: الأوائل للعسكري (ص: 145)، الأوائل لتقي الدين الجراعي (ص: 59)، الكامل في التاريخ (2 / 266)، تاريخ الخلفاء (ص: 63-69)، كنز الدرر وجامع الغرر (3 / 156). أول خليفة فرض له رعيَّتُه العطاءَ: الأوائل للعسكري (ص: 145)، الأوائل لتقي الدين الجراعي (ص: 59)، الكامل في التاريخ (2 / 266)، تاريخ الخلفاء (ص: 63). أول من اتخذ بيت المال: تاريخ الخلفاء (ص: 64)، السيرة الحلبية (3 / 508)، شجرة النور الزكية (2 / 50)، وقيل: عمر رضي الله عنه؛ [انظر: أوليات عمر بن الخطاب رضي الله عنه]. أول لقب في الإسلام لقبُ أبي بكر رضي الله عنه عَتِيقٌ؛ [قاله الحاكم، تاريخ الخلفاء (ص: 64)]. أول خليفة ورِثَه أبوه: الأوائل لأبي عروبة (ص: 128 )، أسد الغابة (3 / 230)، إكمال تهذيب الكمال (8 / 64)، المصباح المضي في كتاب النبي الأمي (1 / 33)، تاريخ الخلفاء (ص: 69) . أول خليفة سُمَّ: كنز الدرر وجامع الغرر (3 / 156)، وانظر: التحقيق في عموم ﴿ ثَانِيَ اثْنَيْنِ ﴾ [التوبة: 40] مذخرة أبي بكر الصديق رضي الله عنه في ﴿ ثَانِيَ اثْنَيْنِ ﴾ في سبب الموت. أول من ورث الكَلالة: المعرفة والتاريخ (2 / 581)، ضعفاء العقيلي (4 / 180)، جامع البيان (1 / 63)، تاريخ دمشق (24 / 89-90) ، الأوائل (ص: 128) لأبي عروبة، الأوائل لتقي الدين الجراعي (ص: 64). أول من قاء تحرُّجًا من الشُّبُهات: صحيح البخاري رقم: (3629)، معرفة الصحابة (1 / 32)، تلقيح فهوم أهل الأثر (ص: 75)، صفة الصفوة (1 / 242)، كنوز الذهب (2 / 48). أول من تنزَّه عن شرب الخمر في الجاهلية والإسلام: معرفة الصحابة (1 / 32)، تلقيح فهوم أهل الأثر (ص: 75)، صفة الصفوة (1 / 242). أول من قطع الرِّجل: فضائل الصحابة (1 / 230)، الأوائل لتقي الدين الجراعي (ص: 70). أول من عمِل الياقوتة بمنًى: أخبار مكة للفاكهي (3 / 194). أول من نُعِيَ من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم وجاءت وفاته بالمدينة: أخبار مكة للفاكهي (3 / 198).
من أعلام مدينة دمشق أستاذي الشيخ هيثم إدلبي يعود بي شريطُ الذكريات للعام 1969 عندما كنت طالبًا في الصف العاشر في ثانوية ابن الأثير بدمشق، في بنائها القديم في سوق ساروجة طلعة سوق الهال القديم، عندما كان اللقاء الأول بفضيلة الشيخ هيثم إدلبي رحمه الله، وقد خطَّت لحيته ولم تكتمل، وهو طالبٌ في الصف الثاني عشر، ويرفع أذانَ العصر من إذاعة المدرسة، ويؤمُّ الطلَّابَ في الصلاة. كان يُمسك بيدي في الفرصة بين الحِصَّتين وأقرأ عليه غيبًا صفحةً من القرآن الكريم، وفي وقت الاستراحة بين الدَّوامين كنَّا نصلِّي الظهر في جامع الحيِّ بعد تناول الغداء، ونجلس في ذلك المسجد، ويجيبني عن أسئلة تراودُني، ويوضح كثيرًا من الشُّبهات. فمَن هو هذا العَلَم؟ المربي الداعية الشيخ هيثم بن محمود إدلبي ، ولد في مدينة دمشق عام 1951 لأسرة طيبة كريمة، فوالدُه من أهل الصلاح لا يكاد لسانُه يفتُر عن ذكر الله عز وجل، والصلاة على النبيِّ صلواتُ الله وسلامه عليه. ويتصف الشيخ هيثم رحمه الله بالخُلق الرفيع والأدب الجمِّ، والتواضع مع كامل الحِشمة والهَيبة، منحَهُ الله عزوجل ذكاءً حادًّا، ونظرة عميقة ثاقبة للأمور. وكان صاحبَ همَّة عالية؛ يعمل بصمت ولا يحبُّ الظهور. ويَصدُق فيه: (إنَّ الله يحبُّ العبد التقيَّ النقيَّ الخفيَّ). واجتباه الله عز وجل لخدمة كتابه الكريم وسنَّة نبيِّه عليه الصلاة والسلام، والعلم الشرعي، ولسانُ حاله يردِّد قوله تعالى: ﴿ قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي ﴾ [يوسف: 108]، وينطبق عليه القولُ المأثور: (كالغَيث أينما وقَع نفَع). وقد أحيا الله عز وجل به إرثَ الشيخ عبد القادر القصاب رحمه الله، فمنذ 1975 وقفَ نفسَه لخدمة مدرسة الشيخ عبد القادر القصَّاب في دَير عَطِيَّة، فجعل الله عز وجل منه منارةً للقلَمون وخاصَّة النبك، فتخرَّج به شبابٌ نهلوا من علوم القرآن الكريم؛ تلاوةً وحفظًا وتدبُّرًا وعملًا، وتعلَّموا الفقهَ والسيرة وعلوم العربية، وكانوا مثالَ الوعي والنشأة الطيبة. ثم انتقل إلى جامع الشيخ محمد الأشمر رحمه الله؛ ليجعلَ منه خليَّةَ نحل، فيها الزهور الطيبة، وليجعل منها قاماتٍ شامخةً تخدُم القرآن الكريم وعلومه؛ تعلُّمًا وعملًا ودعوة. فتخرَّج به شبابٌ يصدُق فيهم قولُ مولانا عزو جل: ﴿ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى ﴾ [الكهف: 13]. ثم شرَّفه الله عز وجل ليكونَ مديرَ معاهد تحفيظ القرآن في مدينة دمشق، ومديرًا لمعهد الفرقان لعلوم الشريعة واللغة العربية. وحلَّ به المَطافُ ليكون فارسَ منبر جامع سيدنا زيد رضي الله عنه، وعضوَ اللجنة العليا لشؤون القرآن الكريم في وِزارة الأوقاف، وعضوَ اتحاد المحكَّمين في المسابقات القرآنية الدَّولية، ورئيسَ اللجنة الدائمة لشؤون القرآن الكريم، ولجنة تدقيق المصاحف، ولجنة تصديق الإجازات، ولجنة المنشورات القرآنية. وهو صاحبُ فكرة هذه اللجان والمهندسُ لعملها ودورها في خدمة القرآن الكريم، والمحافظة على المصحف الشريف. كان الشيخ رحمه الله داعيةً مؤثِّرًا، جذب إلى المساجد بفضل الله تعالى عشَرات بل ربما مئات الشباب والفتيات من دير عطية حتى دمشق، وتعرفه المدارسُ والثانويات العامَّة في دير عطية ودمشق قبل المدارس الشرعية، وكان رحمه الله يعتِبُ على العلماء وأساتذة التربية الإسلامية الذين يتركون المدارسَ الحكومية ويذهبون للتدريس في المدارس الشرعية؛ لأنه كان يرى أنَّ مِساحةَ العمل الأخطر هناك، عند تلك الفئة من الشباب التي لا تأتي إلى المساجد، فكان يذهب هو إليها، وكان يعرف تمامًا أين يعمل، ويسعى إليه بجهد لا يهدأ. مَن عرَف الشيخ من قُرب عرَف أنه لم يكن شيخًا للأضواء ولا شيخًا يتغنَّى بعمل زائف، كان يعمل في أمكنةٍ لا يفطَنُ لها إلا من رُزقَ قلبًا يتفطَّر على شباب الأمَّة وبناتها. وكان حريصًا على متابعة أيِّ عمل من أعمال مؤسسات المجتمع المدني التي تمسُّ الدين وخصوصًا المتعلِّقة بجيل الشباب والمتعلِّقة بالمرأة، ويجهَدُ في تصحيح المسارات ما استطاع. ولا غرابةَ أنْ يمنحَ الله عز وجل الشيخ هيثم هذه الصفاتِ، فهو من أصل طيِّب، ونبتة رعَتها يدُ الشيخ المربِّي عبد الكريم الرفاعي ، ويدُ الشيخ محيي الدين الكُردي رضي الله عنهما. وهذان العالمان من بركة الدنيا، وقد نفع الله بجهودهما الأمَّة من مشارقها إلى مغاربها. وهما امتدادٌ للشيخ بدر الدين الحسني ، والشيخ علي الدَّقْر رحمهما الله. وهما وسائرُ علماء الشام تجلِّياتٌ لنور عمود الكتاب الذي وُضع في الشام، كما في الحديث الشريف. وفي يوم الاثنين 24 من ربيع الأنور 1445 الموافق 9 من تشرين الأول 2023 وفدَ الشيخ هيثم إلى رِحاب رحَمات الله عز وجل، وأسأل الله سبحانه أن يكونَ استجاب دعوته: (اللهم أوصلنا إلى دار السلام بسلام). اللهم تقبَّل منه صالحَ عمله، ولقِّنه حُجَّته، واغفر له، وأدخله الجنَّةَ مع النبيِّين والصدِّيقين والشهداء والصالحين، واجعل قبرَه روضةً من رياض الجنَّة، واجعل أولادَه وذُرِّيته وطلَّابه خيرَ خلَفٍ لخير سلف. رحم الله هذا الرجلَ الذي لم يعرفِ المَللَ ولا التعب، وأخلفَ على الأمَّة خيرًا. وصلَّى الله على سيِّدنا محمَّد وآله وصحبه وسلَّم. الشيخ هيثم إدلبي
التأقلم مع العولمة ظهرت محاولاتٌ عدَّة من منطلق ثقافي للتأقلمِ مع العولمة، تقوم على تلمُّسِ الموقف الشرعي من العولمة، وأُورِدت الآياتُ والأحاديث النبوية التي تدعم هذا التوجه نحو العولمة بالتعاون وترسيخ مفهوم التكامل الاقتصادي بين الدول الإسلامية [1] ، على اعتبار أنَّ العولمة "مصطلحٌ فَضفاض، ظاهرُه فيه الرحمة وباطنه من قِبَلِه العذاب" [2] . أدَّى هذا بدوره إلى اعتبار العولمة "أيديولوجية" جديدة، جاءت لتحلَّ محلَّ بقية الأيديولوجيات القائمة، مما يشكِّل خطرًا على هذه الأيديولوجيات القائمة، ومن ثَمَّ واجهت العولمةُ نفسُها أخطارًا، عدَّها بعض المهتمين على نوعين: أخطار داخلية، وأخطار خارجية؛ فالأخطارُ الداخلية كامنة في الخلافات بين أمريكا ودول الاتحاد الأوروبي، وتنبعث الأخطار الخارجية من الدول النامية [3] . في هذا تصنيف للعالم من حيث انبعاثُ العولمة وتلقِّيها، وكونها تُرسِّخ فكرةَ الصدام بين الحضارات، وأنه لتلافي هذا الصدام لا بد أن تطغى الحضارةُ الغربية فقط، ولقد وصل الأمر هنا إلى إطلاقِ تركيباتٍ قياسًا على تركيبات سابقة، فإذا قيل: صدام الحضارات، قال قائلون: صدام الهمجيات [4] ، وإذا قيل: نهاية التاريخ قال القائلون: نهاية الأيديولوجيات، وهكذا. يعلِّق (السيد ولد أباه) على هذا المَنحى بقوله: "إن الحاجة إلى الأيديولوجيا حاجةٌ حيوية لا انفكاكَ منها، ولا سبيل للتنكُّر لها أو التهوين من شأنها؛ ولذا فإن مقولة (نهاية الأيديولوجيات) تمثِّل مرتكزًا رئيسيًّا من مرتكزات الأيديولوجيا الليبرالية المتطرِّفة من حيث مضمون الخطاب الرائج حول العولمة" [5] . هذه النظراتُ مختلفةُ الأبعاد للعولمة تُظهِر النظرَ إليها من بُعدٍ واحد دون الأبعاد الأخرى، وهنا يرِدُ تشبيهٌ دقيق للنظر إلى العولمة من بُعدٍ واحد، يقول جلال أمين: "نحن إزاء العولمة كالعُميان إزاء الفيل في تلك القصة الشهيرة التي يلمس فيها كلٌّ من العميان جانبًا من الفيل، فيصفه على أنه الفيلُ بأكمله، دون أن يعرف أن للفيل جوانبَ أخرى كثيرة، كلٌّ منا في وصفه للعولمة على صواب تمامًا، لولا أن معظمَنا لا يريد أن يعترفَ أن بقية العميان على صواب أيضًا" [6] . منهجُنا في مثل هذه المواقف - ومنها الموقف من العولمة - أن كلامَنا (موقفنا) صوابٌ يحتمل الخطأَ، وكلامَ غيرِنا (موقف غيرنا) خطأٌ يحتمل الصواب، توظَّف هذه المقولة/ المنهج في مجال قَبول العولمة أو رفضها؛ ذلك أنه يتبين لها جوانب لم تكن بائنةً عند الخروج بحكم قطعي، والأحكام القطعية لا تتأتَّى في مثل هذه الموجة التي لمَّا تستقرَّ في أذهان متلقِّيها. التأقلم مع العولمة يأتي من هذا المنطلق، من حيث تغليب الإيجابيات منها على السلبيات، وهذا يعني أن للعولمة إيجابياتِها كما لها سلبياتها؛ فالإيجابيات يُؤخذ بها، والسلبيات تُتلافى، فلم يقُل أحدٌ في شأن العولمة: إنها إما أن تُقبل كلُّها أو تُرفض كلها، ومنظمة التجارة العالمية - وهي رمز العولمة - تركت - في سبيل الانضمام إليها - هامشًا للاستثناءات المعقولة ثقافيًّا أو حتى سياسيًّا، ولا تملِك أن "تُصهر" العالمَ في وجهةٍ بعينها على حساب مكنونات ثقافية راسخة. [1] انظر: بهاء شاهين، العولمة والتجارة الإلكترونية: رؤية إسلامية، القاهرة: المؤلف، 1421هـ/ 2000م، ص 41 - 46. [2] انظر: عبدالجواد محمد المحص، العولمة: ظاهرة العصر وموقف الإسلام منها، ص 59 - 67، في: العولمة وموقف الفكر الإسلامي منها، أعمال مؤتمر كلية الدراسات الإسلامية والعربية للبنات بالإسكندرية، جامعة الأزهر 29 - 30 نوفمبر 1999م، الإسكندرية: الدار المصرية، 2000م، ص 273. [3] انظر: وداد أحمد كسيكو، العولمة والتنمية الاقتصادية: نشأتها، تأثيرها، تطورها، بيروت: المؤسَّسة العربية للدراسات والنشر، 2002م، ص 149 - 159. [4] انظر: جلبير الأشقر، صدام الهمجيات: الإرهاب، الإرهاب المقابل والفوضى العالمية قبل 11 أيلول وبعده، بيروت: دار الطليعة، 2002م، ص 157. [5] انظر: السيد ولد أباه، اتجاهات العولمة: إشكالات الألفية الجديدة - مرجع سابق - ص 105 - 130، (الفصل الخامس: المرتكزات الأيديولوجية لخطاب العولمة). [6] انظر: جلال أمين، العولمة والهوية الثقافية والمجتمع التكنولوجي الحديث، ص 211 - 229، في: مركز دراسات الوحدة العربية، العولمة وتداعياتها على الوطن العربي، بيروت: المركز، 2003م، ص 258.
الشيخ هيثم إدلبي كما عرفته صَحِبتُ الشيخَ الداعيةَ هيثم إدلبي أستاذًا وجارًا ومربيًا ناصحًا، أكثرَ من ثلاثين سنةً ألخِّصُها الآن بهذه الكلمات التي تصفُ ما عايشته ولامسته شخصيًّا، وإن كانت لا تفي بمقام الشيخ رحمه الله. الشيخ هيثم جارًا: جاورتُ الشيخ هيثم منذ أن عاد من دَير عَطِيَّة إلى بيته في الزاهرة وعرفتُه من قربٍ، فوجدتُّه نِعمَ الجارُ خُلقًا وأحسنهم تعاملًا، يحفظ حقَّ جاره ويكرمه ويطعمه من طعامه ويستقبله في داره، مطبِّقًا سنَّة النبي صلى الله عليه وسلم. أذكر أن في حديقة بيت الشيخ مجموعةً من نباتات الزينة وشجرة ليمون، وكان يعتني بها بيده وينظفها ويسقيها كلَّ يوم في الصيف بعد صلاة الفجر، حتى إذا أثمرت طرق عليَّ البابَ وأعطاني ثمراتٍ منها. وفي رمضان كان يجيء بوعاءٍ من العِرقسوس كلَّ جمعة ويأتي به إلى بيتي بشخصه، وإذا امتنعتُ عن أخذه ألحَّ عليَّ وحدَّثني بكلماتٍ تدلُّ على تواضعه الجمِّ كأن يقول: (هذا ما أستطيع تقديمَه وهو لا يساوي شيئًا من أفضالكم)!. ومما عرفتُه عنه أنه كان يصنع الطعامَ بيديه ويطبخه، وعندما يُعِدُّ الطعامَ كان يأتي ويقول: (لقد اشتهيتكم بهذا الطعام). وكان يدعوني وأولادي إلى بيته ويُتحفنا بلطائفه الفريدة وذكرياته العذبة ونصائحه الثاقبة، ويقول لي: (أنت تطرق البابَ وتدخل البيتَ دون موعد). وكان يزورني في بيتي في كل مناسبة ويُضفي على المجلس حُسنًا ودُعابة ومعرفة، فكان في كل نجاح لأبنائي في الشهادة يأتي خصِّيصَى ويهنِّئهم ويقدِّم لهم كتابًا هديةً ويشجِّعهم على المضيِّ قدُمًا في طلب العلم والتحصيل. ومن فرائد الشيخ أنه كان في الأعياد يزورُ جيرانه في الحيِّ بيتًا بيتًا، حتى وإن كان أحدُهم ليس من روَّاد المساجد، ويُضفي السرورَ على أهل البيت فيجلس هُنَيهةً ويمضي دون أن يكلِّفَهم شيئًا. لازمتُ الشيخ في جامع زيد منذ أن عاد من دير عطية، كنت أصحَبُه في ذهابه إلى الجامع بالدرَّاجة الهوائية، فكان نِعمَ الصاحبُ والرفيق. وفي جامع الأشمر كنت أروح وأعود معه في صلاتَي الفجر والعشاء، كما صاحبته عدَّة مرَّات في زياراته لدير عطية في السنوات الأخيرة، لن أنسى تعاملَه الذي لا يوصَف في تلك الأثناء. وكان لي تواصلٌ مع بعض تجَّار دير عطية، وعندما علموا أني من طلَّاب الشيخ هيثم زادت ثقتُهم بي؛ إذ كانوا يُكِنُّون له كلَّ الاحترام والتقدير، ويُثنون عليه وعلى أعماله الدعوية المؤثِّرة في نفوسهم وصلاحهم وقربهم من الله عز وجل، وكنتُ إذا سمعتُ كلامهم شعرت أن الشيخ واحدٌ من أهلهم وأقربائهم لما تركَ في قلوبهم من محبَّة له. الشيخ هيثم داعيةً: كان الشيخ هيثم واسعَ الاطِّلاع، كثيرَ القراءة، لا ينتهي من مطالعة كتاب إلا ويبدأ بكتاب جديد. ويتابع آخرَ الرسائل والأبحاث العلمية، ويحدِّد على الكتب المواضيعَ المهمَّة ليسهلَ الرجوعُ إليها، ويدوِّن في أوراقٍ خاصةٍ أبياتَ الشعر واللطائفَ ليراجعها ويحفظها، وغدت مكتبتُه موسوعةً شاملة فيها من كل أصناف العلوم. ومن الجدير ذكرُه أن للشيخ ذاكرةً عجيبة، فهو يحفظ آلافَ أبيات الشعر، ولا يخلو مجلسٌ من مجالسه من ذكر قصائدَ للشيخ عبد القادر القصاب لما فيها من حكمة، وله في كل درس طُرَفٌ ظريفة ولفَتاتٌ لطيفة في اللغة العربية. وكان يحضُّ طلَبة العلم ألا يذهبوا إلى مكان إلا والقلمُ معهم حتى يدوِّنوا ما يرَونَه مفيدًا ونافعًا. وممَّا يميز الشيخَ علمُه الواسع بعلوم البلاغة والإعراب وعلم المنطق وعلم الفرائض والعقيدة وأصول الفقه، فكان يشرحها بطريقة تدخل العقلَ بسهولة. وممَّا حدثني به أنه كثيرًا ما كان يُعرَض عليه الظهورُ في الإعلام بحلَقاتٍ لبرنامجٍ خاصٍّ وبمقابلٍ مادِّي، ولكنَّه لم يرضَ بذلك؛ لأنه كان لا يحبُّ الشهرةَ ولا يحبِّذ الأضواءَ والكاميرات بل كان همُّه الدعوة إلى الله، والتواضع شيمته طَوالَ حياته، وقد أوصى تلامذتَه بنبذ الظهور وعدم نشر كل صغيرة وكبيرة تحدُث في المساجد، بل كان عملُ الشيخ خالصًا لوجه الله - نحسَبه كذلك ولا نزكِّيه - يرفض الأجرَ والمال {قُل لا أسألُكُم عليهِ أجرًا} وهذا ما يُبرز الورعَ الشديد الذي عُرف به رحمه الله. كان الشيخُ عند إقامة الصلاة يلتفت يَمْنةً ويَسْرةً ليكلِّفَ أحدَ طلَّابه بالإمامة؛ تواضُعًا منه وتشجيعًا لهم على ذلك. ويعرف كلُّ مَن لقيَ الشيخ هيثم أنه كان يرفض رفضًا قاطعًا أن يقبِّلَ أحدٌ يده أيًّا كان طفلًا أو شابًّا أو شيخًا، وكان يقول لمن يحاول ذلك: (تقبيل اليدَين يكون للوالدَين بِرًّا بهما). ومن عادة الشيخ هيثم أنه كان يُسند مهمَّة التدريس للشباب، ويعتني بهم عنايةً خاصَّة، ويشاركهم همومهم ويعمل على حلِّها. وكان يُولِي الأطفالَ أهميةً كبيرةً في المساجد ويشرف بنفسه على تلقينهم وتسميع القرآن لهم، كما كان في بداية كلِّ درسٍ يعلِّمهم دعاءً أو ذِكرًا مأثورًا ويكرِّره لهم ليحفَظُوه ويطبِّقُوه في كلِّ يوم. كان الشيخ هيثم ذا إدارةٍ حكيمةٍ حازمة، يعرف ذلك من عمل معه في معاهد تحفيظ القرآن، وكان يُلقي محاضراتٍ عديدةً عن فنِّ التدريس ومواصفات المدرِّس الناجح والطريقة المُثْلى للتعامل مع الطلَّاب. ومع تواضُعه الشديد كان قويَّ الشخصية مَهِيبًا في إدارته وإشرافه على المعاهد واللجان. وكان يذكُر إخوانه العلماء دومًا بخير، ويدعو لهم بالعودة إلى الشام عمَّا قريب، كما كان يبكي بحُرقة كلَّما ذَكَر أولئك المفكِّرين الكبار الذين أثَّروا فيه، ويرجو لهم الخيرَ والتوفيق. عندما أُصيبَ الشيخ هيثم بكورونا (كوفيد 19)، أخذَ بأسباب الشِّفاء، حتى إذا تحسَّنت صحَّتُه لم يذهب إلى المسجد مباشرةً؛ حِرصًا على ألا تنتقلَ العدوى إلى أحدٍ من المصلِّين، فمكَثَ في بيته إلى أن تماثلَ للشفاء التام. تشرَّفتُ بأن أسندَ إليَّ الشيخُ النيابةَ عنه بالخَطابة في جامع الأشمر، عندما ذهب لأداء فريضة الحجِّ في التسعينيات، وعند عودته قدَّم لي هديةً خاصَّة، ووكَّلَني بإمامة صلاة الفجر في جامع الأشمر عدَّة سنوات، فكان الشيخ ينصَحُني دائمًا بعدم إطالة الصلاة؛ رحمةً بالمصلِّين وروَّاد المسجد كبارًا وصغارًا. الشيخ هيثم مربِّيًا: تسلَّم الشيخ هيثم إمامةَ جامع الأشمر في أواخر حياة الشيخ عبد الرحمن الخطيب رحمه الله، ونهض به نهضةً مباركة، فأقام حلَقات العلم ودورات تحفيظ القرآن الكريم المكثَّفة والدورات الصيفية، حتى تخرَّج في الجامع خيرُ الشباب القارئين والمقرئين؛ أذكر منهم الأساتذة: صالح الأحمد، ود. أنس ناجي، ومعتز القيم (وهو صهر الشيخ)، ونور الدين صالحاني، وغيرهم الكثير. كان للشيخ طريقةٌ ساحرةٌ في جذب الشباب والدخول إلى قلوبهم، فكان يستمع إلى همومهم ويجيب عن تساؤلاتهم العقيدية المحيِّرة التي ينتقدها الكثيرون، ويجيبهم عنها بعلمٍ ومنطق؛ إذ كان عالمًا بالمنطق والفلسفة متعمِّقًا بهما، وكان يعامل كلَّ شابٍّ حسَب اختصاصه، فإذا كان طبيبًا جذبه بطريقة تناسبه، أو كان مهندسًا دعاه بطريقة أُخرى تناسبه، وهكذا مع كلِّ فئات المجتمع. وكان الشيخُ يقول للشباب: (أيها الشباب، نحن اليومَ في زمنٍ نحتاج فيه إلى دعوة المسلمين إلى الإسلام أكثرَ من دعوة الكفَّار إليه، فكونوا أهلًا لذلك). ومنذ نحو عشر سنين أعاد الشيخُ افتتاح الدورات القرآنية والتعليمية، واستقطب شبابَ الحيِّ بدروسٍ خاصَّة يقرأ فيها كتبًا في مختلِف الاختصاصات؛ كالدروس النحوية في اللغة العربية، والمعرفة في بيان عقيدة المسلم، والمقدِّمة الحضرمية وغيرها. فأعاد للجامع حيويته بعد انقطاعٍ طويل، كما أقام الشيخ كلَّ جمعة بعد صلاة الفجر جلسةَ الصفا يقرأ فيها الأوراد التي انتقاها الشيخُ عبد الكريم الرفاعي، ثم يشرح كتابَ (سيدنا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم) للشيخ عبد الله سراج الدين. أمَّا دروسُ حَلْقتنا القديمة فقد قرأنا فيها أخيرًا في غرفة الشيخ في جامع الأشمر كتبَ (الإتقان في علوم القرآن) للإمام السُّيوطي، و(جامع الدروس العربية) للشيخ مصطفى الغلاييني، و(رسالة المُسترشِدين) للإمام المُحاسِبي، وقد حالت وفاةُ الشيخ ويا للأسف دون أن نُتِمَّ قراءة (الإتقان) وقد وصلنا إلى منتصف المجلد الثاني تقريبًا، وجامع الدروس العربية، وكان هذا الدرس يُعقَد كلَّ اثنين بعد صلاة العشاء ويحضُره إخوةٌ أذكر منهم: معاذ الحريري، عصام موصللي، حسام زغلول، عبد الهادي القاوقجي، أحمد عبيد، محمد الشقيري، ياسين عجلوني. وفاته وجنازته: اتصل بي الشيخُ يوم الاثنين 24 ربيع الأول 1445هـ (9/ 10/ 2023م) في الساعة السابعة مساءً قُبَيل أذان العشاء، وأخبرني أن أعتذرَ إلى الشباب عن الدرس، ولم يكن من عادته أن يعتذرَ في نفس اليوم؛ إذ كان محضِّرًا لدرسه، ولم يظهر على حديثه أيُّ تعب أو ألم، وبعد نحو ساعةٍ علمنا أن الشيخ قد فارقَ الحياة، فكانت صدمةً كبيرةً عميقةً غيرَ متوقَّعة. صُلِّيَ على الشيخ هيثم ظهرَ اليوم التالي في جامع زيد بن ثابت الذي نشأ وتربَّى فيه، وغَصَّ الجامعُ بالمشيِّعين، وأمَّ الصلاةَ عليه رفيقُ دربه العلَّامة المحدِّث محمَّد نعيم العِرقسُوسي، وألقى كلمةً قصيرةً عن محاسن الشيخ. وكان في التشييع كبارُ العلماء كالشيخ نذير مكتبي، والشيخ أحمد رباح أبو فارس، والشيخ ياسر القضماني، والدكتور عبد الله الكتَّاني، والشيخ إسماعيل الزبيبي، والدكتور بديع السيِّد اللحَّام. وخرجت الجنازةُ وأغلقت الشوارعَ المؤدِّية إلى تُربة باب الصغير التي امتلأت بطلَّاب العلم وأحباب الشيخ، وصُلِّيَ عليه مرَّةً أُخرى في المقبرة بإمامة الشيخ ياسر القضماني، فرحمه الله تعالى وعوَّضه الجنَّة وجزاه عن المسلمين خيرَ الجزاء. الشيخ هيثم إدلبي رحمه الله
النصر الحاسم وعد الله نبيه بالنصر: ﴿ إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ ﴾ [آل عمران: 160]، كانت غزوة الخندق اختبارًا للمسلمين وابتلاء، وهي أشد عليهم من أحد؛ فالكفار في عشرة آلاف مقاتل وهم على أبواب المدينة لا يفصل بينهم وبينها سوى الخندق، وفي الوقت نفسه فإن المسلمين استعدوا للمواجهة وبذلوا أقصى ما عندهم لقتال العدو، متخذين الأسباب، غير متقاعسين ولا متواكلين. حفروا الخندق وبذلوا لذلك طاقة جبارة في حفره، وهو عمل شاق ومجهد في وقت كان فيه المال بين أيديهم قليلًا، فصبروا على الجوع والتعب لقاء مرضاة الله، ثم رابطوا على الخندق يمنعون قريشًا من اقتحامه والجو بارد والأكسية واهية حتى دخل البرد عظامهم، وزاد أن مد المنافقون رؤوسهم بلا خوف وهم يثيرون الإشاعات المغرضة المثبطة وكأنهم أيقنوا أن الهزيمة نازلة بالمسلمين لا محالة، فتارة يقولون: إن بيوتنا عورة، وتارة يبثون الخيبة والرعب في النفوس بقلة العدد وكثرة المشركين، والله تعالى مطلع على عباده الذين لجؤوا إليه بالدعاء والرجاء، وعلى نبيه الذي نادى ربه شاكيًا باكيًا يطلب عونه ونصره الذي وعده، وما يعلم جنود ربك إلا هو، فبعث الله ريحًا في ليالٍ شاتية شديدة البرد، فجعلت تزمجر وتصفر فقلبت القدور وأطفأت النيران وقطعت الحبال ومزقت الخيام. وفي هذه الأثناء، أرسل النبي صلى الله عليه وسلم حذيفة بن اليمان ليلًا ليأتيه بخبرهم، وأوصاه ألا يحدث شيئًا حتى يعود بالخبر، وورد عن حذيفة قال: "استقبلنا - بمعنى استعرضنا - رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلًا رجلًا حتى مر عليَّ وما عليَّ جنة من العدو ولا من البرد إلا مرط لامرأتي ما يجاوز ركبتي، فأتاني وأنا جاثٍ على ركبتي فقال: (( من هذا؟ ))، فقلت: حذيفة، قال: (( حذيفة! ))، فتقاصرت إلى الأرض، فقلت: بلى يا رسول الله، كراهية أن أقوم، قال: (( قم ))، فقمت، فقال: (( إنه كان في القوم خبر، فأتني بخبر القوم ))، قال: وأنا من أشد القوم فزعًا وأشدهم قرًّا، فخرجت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( اللهم احفظه من بين يديه ومن خلفه، وعن يمينه وعن شماله، ومن فوقه ومن تحته ))، قال: فوالله ما خلق الله فزعًا ولا قرًّا في جوفي إلا خرج من جوفي، فما أجد منه شيئًا، فلما وليت قال: (( يا حذيفة، لا تحدثن في القوم شيئًا حتى تأتيني ))، فخرج وهو يرتجف من البرد فعبر إليهم واندس بينهم، فقام أبو سفيان وقال: يا معشر قريش، لينظر الرجل أمر جليسه - وكأنه أحس بخبرته القيادية أن غريبًا قد اندس بينهم - ولكن هذا لم يفت على حذيفة الذكي، فسرعان ما أمسك بيد من كان قربه وقال له: من أنت؟ قال: أنا فلان، فبدا بهذا التصرف وكأنه هو من القوم، فقال أبو سفيان: لقد هلك الخف والحافر، وأخلفتنا قريظة، ولقينا من هذه الريح ما ترون، فارتحلوا فإني مرتحل، ثم قام إلى بعيره وهو معقول فجلس عليه وضربه فقام على ثلاثة قوائم - وهذا من الفزع حيث لم يحل عقاله قبل أن يركبه - قال حذيفة: ولولا عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إليَّ ألا أحدث شيئًا لقتلت أبا سفيان مستغلًّا هذه الفوضى، فرجعت إلى النبي صلى الله عليه وسلم لأخبره، وكان قائمًا يصلي في مرط - كساء اتقاء البرد - فأدخلني بين رجليه وطرح عليَّ طرف المرط، فلما سلم خبرته، وسمعَتْ غطفان بما فعلت قريش، فعادوا إلى ديارهم، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( (الآن نغزوهم ولا يغزوننا ))، ومن بعد الخندق كانت المبادرة للمسلمين إلى أن فتحت مكة.
الجندر (النوع الاجتماعي) وأثره على الواقع المعاصر مصطلح الجندر أو الجنوسة ينحدر من أصل لاتيني ( genus )، ومعناها عندهم يدل على النمط، أو الصنف، أو النوع، وحصل عندهم التباين الواضح في بيان المعنى الحقيقي لهذا المصطلح، فعرَّفته منظمة الصحة العالمية بأنه: المصطلح الذي يفيد استعماله وصف الخصائص التي يحملها الرجل والمرأة كصفات مركبة اجتماعية، لا علاقة لها بالاختلافات العضوية، وعرَّفته الموسوعة البريطانية: بأن الهُوِيَّة الجندرية ليست ثابتة بالولادة ذكرًا أو أنثى، بل تؤثر فيها العوامل النفسية والاجتماعية بتشكيل نواة الهوية الجندرية، وهي تتغير وتتوسع بتأثر العوامل الاجتماعية كلما نما الطفل، والملاحظ على التعريفين أنهما عمِلا على وحدة النوع البشري بطمس معالم الذكورة والأنوثة، ومسخ الكائن البشري عن طريق إلغاء كافة الفوارق البيولوجية بين الرجل والمرأة، وتغيير الأدوار بين الجنسين، فما يُسنَد للرجل من أدوار يكون بمثلها للمرأة باعتبارهما نوعًا واحدًا، فالجندر تعني تغييرًا اجتماعيًّا شاملًا يتناول تغيير القوانين، والمناهج التعليمية، وبنية الأسرة وحجمها، ووظيفتها بل تعريفها، وأدوار الجنسين وعلاقاتهما، وفلسفة الحكم ووظيفته، وفلسفة الاقتصاد وإعادة هيكلته، بناء على التعريف الجديد لكل من الرجل والمرأة؛ وهو الجندر. دخوله للمجتمعات الإسلامية: دخل مفهوم الجندر إلى المجتمعات الإسلامية والعربية مع وثيقة مؤتمر القاهرة سنة 1994م (المؤتمر الدولي الثالث المعنِيِّ بالسكان، تحت إشراف هيئة الأمم المتحدة)؛ حيث ذُكِرَ في هذه الوثيقة بـ51 موضعًا، منها ما جاء في الفقرة التاسعة عشرة، من المادة الرابعة التي تنص على تحطيم كل التفرقة الجندرية، ثم ظهر المفهوم مرة أخرى، ولكن بشكل أوضح في وثيقة بكين 1995م (المؤتمر الرابع المعني بالمرأة تحت شعار المساواة والتنمية والسلم)؛ حيث تكرر المصطلح 233 مرة، ومؤتمر الأمم المتحدة للمستوطنات البشرية في تركيا سنة 1996م، وجاء فيه الالتزام بإدماج الاعتبارات المتعلقة بنوع الجنس (الجندر) في التشريعات والسياسات، والبرامج والمشاريع المتصلة بالمستوطنات عن طريق التحليل الذي يراعي الجنس، ثم ظهرت خبايا بعض هذا المفهوم مع وثيقة روما حول إنشاء المحكمة الجنائية الدولية المنعقد في روما سنة 1998م؛ حيث أوردت نصًّا فيها؛ وهو: (إن كل تفرقة أو عقاب على أساس الجندر يشمل جريمة ضد الإنسانية)، وفي سنة 2000م، عُقِدت جلسة خاصة للجمعية العامة للأمم المتحدة بمقرها بنيويورك، الذي عرف بـ(بكين + 5) تحت مسمى (المساواة بين الجنسين والتنمية والسلام للقرن الواحد والعشرين)، وجاء في بندها العاشر : وضع السياسات وتنفيذ البرامج بشأن تغيير المواقف النمطية والسلوكيات فيما يتعلق بأدوار الجنسين، وبندها الحادي عشر : تعزيز حملات التوعية الجنسانية والتدريب على المساواة بين الجنسين، للقضاء على الأدوار النمطية الضارة، وتوالت تلك المؤتمرات والندوات والحملات إلى وقتنا الراهن. الجهات الراعية له: 1- الصهيونية. 2- العلمانية. 3- العولمة. 4- صندوق الأمم المتحدة للسكان. 5- منظمة ويدو ( wedo ) الأمريكية. 6- اللبيرالية والماركسية. 7- الوسائل الإعلامية (الصحف والمجلات والفضائيات) وغيرهم. أهم الأفكار والشعارات التي يدعو إليها الجندر: 1- إعادة صياغة اللغة؛ أي: المفاهيم التي تعرفها الشعوب، وخاصة المسلمة. 2- الدعوة إلى الحرية والمساواة في توزيع الأدوار بين الذكر والأنثى، على أساس تحقيق التماثل. 3- تحديد النسل وعدم الإكثار من الإنجاب. 4- التلقيح الصناعي الداخلي والخارجي. 5- إباحة الإجهاض. 6- الدعوة للإباحة الجنسية والشذوذ الجنسي. 7- إلغاء مفهوم الأسرة بحيث لا يبقى دور للأب في التربية والمسؤولية. 8- تحرر المرأة عن طريق السفور والتبرج، والتعري والاختلاط. 9- الدعوة للقضاء التام على الفوارق بين الرجل والمرأة، التي اقتضتها الفطرة، وحَمَتْها طبيعة المرأة وتكوينها، وعدم التمييز بينهم في الأدوار والوظائف الاجتماعية، فهم متحدون تمامًا، فبإمكان المرأة أن تقوم بأدوار الرجل الاجتماعية، والرجل بإمكانه أن يقوم بأدوار المرأة الاجتماعية. 10- الدعوة لفتح باب العلاقات الجنسية المحرمة شرعًا؛ مثل: السماح بحرية الجنس، والتنفير من الزواج المبكر، والعمل على نشر وسائل منع الحمل، والسماح بالإجهاض المبكر، والتركيز على تقديم الثقافة الجنسية للجنسين في وقت مبكر. آثاره على المجتمعات الإسلامية: 1. التشكيك بأصول الدين بأن مرجع الناس هو القرآن الكريم والسنة النبوية، بل القوانين الوضعية. 2. محاولة تشويه الفقه الإسلامي وأصوله، بأن أحكامه رجعية وتقود الناس للتخلف والجهل. 3. محاربة ركائز الثقافة الإسلامية، بكون مرجعها الكتاب والسنة. 4. نقد نظام الزواج والأسرة الإسلامية، والسعي لإلغاء مفهوم الزوج والزوجة. 5. محاربة الزواج المبكر، باعتباره تقييدًا للحريات وظلمًا للمرأة. 6. التضييق على تعدد الزوجات. 7. رفض قوامة الرجل على المرأة وجعل الطلاق بيد القضاء. 8. إعادة صياغة المناهج التربوية والمحاولة لإدخال التربية الجنسية فيها.
موسى عليه السلام (9) أشرتُ في ختام الفصل السابق إلى أن فرعونَ عندما رأى عصا موسى انقلبت حية وابتلعت ما قدمه السَّحَرة من السحر العظيم، وآمن السحرة بربِّ العالمين رب موسى وهارون ولم تؤثِّرْ فيهم تهديدات فرعون بقطع أيديهم وأرجلهم من خِلافٍ، وصَلْبِهم في جذوع النخل، وثباتهم على الحق وسؤالهم الله عز وجل أن يفرغ عليهم صبرًا؛ ليتحملوا كلَّ ألوان العذاب من فرعون في سبيل إيمانهم بالله - أيقن فرعون أن ما جاء به موسى عليه السلام حقٌّ لا مرية فيه، واستيقن هو وملؤه أن موسى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، وقد أثر ذلك في نفس فرعون خوفًا من أن يصيب موسى بأذى، واكتفى بتهديد موسى ووعيده، ويظهر ذلك جليًّا في قوله: ﴿ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ ﴾ [غافر: 26]، فهل كان مربوطًا بحبل لا يتمكَّن بسببه من قتل موسى؟ لكنه التهديد الأجوف الدالُّ على أنه يحس أن موسى رسول الله، غير أنه وقومه أصروا على تشديد العذاب على بني إسرائيل، وازدادوا في تقتيل أبنائهم واستحياء نسائهم، وصان الله موسى عليه السلام من أن تناله يدُ فرعون، كما صان محمدًا صلى الله عليه وسلم من أبي جهل ومَن معه من أن تنال أيديهم رسول الله محمدًا صلى الله عليه وسلم، وقد أوحى الله عز وجل إلى موسى وهارون أن يتبوَّأا لقومهما بمصر بيوتًا، وأن يجعلوا بيوتَهم قبلة، وأن يقيموا الصلاة، وأن يستمرَّ موسى عليه السلام في بشارة المؤمنين بنصر الله وتأييده، ولما أخذ فرعون يعلن عن تشديد العذاب المهين على بني إسرائيل وأنه لا بد من قهرهم، ﴿ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [الأعراف: 128]، وقال قوم موسى له: أوذينا من قبل مجيئك بالرسالة ومن بعد مجيئك بها، قال لهم: ﴿ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ ﴾ [الأعراف: 129]. ولقد بدأت بشائرُ نصر الله لموسى ومن معه مَن المؤمنين فسلَّط الله على آل فرعون الجَدْبَ والقحط ونقص الثَّمرات لعلهم يُفيقون من غَيِّهم وضلالهم، لكنهم بدل ذلك صاروا يزعمون أن هذا الذي أصابهم هو بسبب مجيء موسى لهم واطَّيروا به وبمن معه، وأجابهم موسى عليه السلام بأن سبب بلائهم هو كفرهم وتكذيبهم رسل الله، وزعموا مرة أخرى أن هذا الجَدْبَ والقحط من سحر موسى، وأنهم لن يؤمنوا به أبدًا، فسلَّط الله عليهم الطوفانَ، فغرقت مزارعهم وهلكت ثمارهم، ولما انتهى الطوفان وبدأت الأرض تؤتي ثمارها سلَّط عليهم الجراد، فأباد زروعهم وثمارهم، ثمَّ سلَّط عليهم القُمَّل وهو صغار الذر، والدَّبى الذي لا أجنحة له، أو شيء صغير بجناح أحمر، وشيء خبيث الرائحة، فصار هذا القُمَّلُ يخالطهم في جميع أحوالهم لا يلمسون شيئًا إلا وجدوه فيه، ثم سلط الله عليهم الضفادع، فملأت بيوتهم وطعامهم وشرابهم، ثم سلط الله عليهم الدم، فصاروا لا يتناولون شيئًا إلا وجدوه مغيَّرًا بالدم، وقد امتزجت به مياههم ومطاعمهم. وقد كان من آيات الله عز وجل أن صان بني إسرائيل من كلِّ هذه العقوبات، ولما اشتدَّ هذا البلاء بفرعون وملئه: ﴿ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ ﴾ [الأعراف: 134]، لكنهم كانوا كلما كشف الله عنهم الضرَّ إذا هم ينكثون، ومع يقينهم بأن هذه آيات مفصلات من الله عز وجل جحدوا بها وضحكوا منها. وقال فرعون لموسى: ﴿ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا ﴾ [الإسراء: 101]، فقال له موسى: لقد علمت أن هذه الآيات التسع؛ وهي العصا واليد وما جاء بعدهما من السنين ونقص الثمرات والطوفان والجراد والقمَّل والضفادع والدم كلها من الله عز وجل لعلكم تهتدون ﴿ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا ﴾ [الإسراء: 102]؛ أي: هالكًا بسبب كفرك وضلالك، ودعا موسى عليه السلام على فرعون وقومه فقال: ﴿ رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ ﴾ [يونس: 88]، فبدل أن يشكروك عليها استعملوها في الصدِّ عن سبيلك، ﴿ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ ﴾؛ أي: أهلكها، ﴿ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ ﴾؛ أي: اطبع عليها ﴿ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ ﴾ [يونس: 88]، وقد بلغ موسى عليه السلام هذه الحال في الوقت الذي رأى فرعون أنه لا بد من إعلان الحرب على موسى، وأرسل فرعون في المدائن حاشرين، يجمعون العُدَّة والسلاح والرجالَ للقضاء على موسى وهارون ومن معهما من بني إسرائيل من المؤمنين باذلًا كلَّ ألوان الإغراء بهم. وقد أوحى الله عز وجل إلى موسى أن يخرج من مصر ليلًا ببني إسرائيل مسرعين إلى سيناء، وأعلمه أن فرعون وجنوده سيتبعونهم، فسارع موسى عليه السلام إلى امتثال أمر ربه، فسرى ببني إسرائيل، ولما اجتمع جندُ فرعون سارعوا إلى اللحاق بموسى عليه السلام يقودهم فرعون عليه لعنة الله، فأتبعوهم مشرقين، أي: وقت شروق الشمس، وقد كان موسى عليه السلام ومن معه وصلوا إلى مكان عسير؛ فالبحر أمامهم والعدوُّ خلفهم والجبال عن يمينهم وشمالهم، ﴿ فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ ﴾ جَمْع موسى وجَمْع فرعون ﴿ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ ﴾ [الشعراء: 61]، أي: سيكون هلاكنا على يد فرعون وجنده هنا؛ لأنه لا مفرَّ لنا، فأجابهم موسى عليه السلام وقال لهم: كلا لن يدركونا، ولن يصلوا إلينا؛ لأن الله وعدني بذلك، وأراد موسى عليه السلام بذلك وعد الله له حيث أجابه عندما قال موسى: ﴿ رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى * قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى ﴾ [طه: 45، 46]؛ ولذلك لما قال له أصحابه: ﴿ إِنَّا لَمُدْرَكُونَ ﴾ [الشعراء: 61] أجابهم بقوله: ﴿ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ ﴾ [الشعراء: 62]. فأوحى الله عز وجل إلى موسى عليه السلام أن اضرب بعصاك البحر، فضربَ موسى البحر بعصاه فانفلقَ، فكان كلُّ فِرق كالطَّود العظيم، أي: كالجبل العظيم، فجعل الله لهم بذلك طريقًا في البحر يبسًا لا يخاف دركًا ولا يخشى، وصار موسى ومن معه يمشون على أرض صلبة يابسة، على كلِّ جانب من جوانب طريقهم جدار من الماء كأنه صخرٌ منحوت، وعندما خرج موسى ومن معه من البحر أمره الله عز وجل أن يترك البحر ساكنًا حتى يدخل فيه فرعون وجنوده، فلما صار فرعون وجنوده في اليَم غشيهم من اليمِّ ما غشيهم، وأضل فرعون قومه وما هدى، ولما أدركَه الغرق قال: ﴿ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ ﴾ [يونس: 90]، فلم ينفعْه هذا الإيمان، ولم يخلصه من عذاب الله، ورمى البحر بجثته ليراها من بقي من قومه؛ ليعرفوا قدرة الله عليه، وكان ذلك في يوم عاشوراء. وإلى الفصل القادم إن شاء الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
سلبيات العولمة إن من الذين عالجوا العولمةَ برؤية سلبية ناتجةٍ عن اختلافٍ في التوجه الفكري: صاحبي كتاب "فخ العولمة" هانز - بيتر مارت، وهارالد شومان، اللذين لم يَرَيَا فيها خيرًا للبشرية، بل إن عُنوان الكتاب "فخ العولمة" يوحي بالمضمون والمحتوى. من هذا المنطلق الفكري يستمرُّ النقاش في هذا التوجه؛ حيث يقول المؤلفان فيما يقولانه من تحليل طويل ومعقَّد غير سطحي: "وعلى ما يبدو فقد انطبقت مصيدةُ العولمة على فريستها على نحو لا مفرَّ منه؛ فها هي حكوماتُ أغنى وأكبرِ دول العالم تبدو كما لو كانت أسيرةَ سياسةٍ لم تعُدْ تسمح بأي توجه آخر، وليس هناك مكانٌ عانى فيه السكان من هذا التطور ما عاناه سكان الوطن الأم للثورة الرأسمالية المضادة على وجه الخصوص: الولايات المتحدة الأمريكية" [1] . على أن هناك من ينظر إلى هذا التوجه "المحموم" نحو العولمة على أنه توجه نحو الإرهاب والفتنة بالمفهوم الأعمِّ لهاتين الكلمتين، باصطلاحهما الشرعي، لا بالاصطلاح الإعلامي السريع، ويؤكد الشيخ صالح بن عبدالله بن عبدالرحمن العبود ذلك في ورقة قدَّمها للأمانة العامة لمجلس التعاون لدول الخليج العربية؛ حيث يناقش المفهومَ الشرعي للجماعة في مواجهتها للعولمة، وأن العولمة المرفوضة هي التي تأتي على حساب إثبات الهُوِيَّة الإسلامية [2] . من هنا، فإن الموقفَ العربي الإسلامي من العولمة لا يزال يخوضُ في جدلية القَبول والرفض، ولكلِّ فريقٍ مُسوِّغاتُه ومخاوفه من القبول أو الرفض [3] . لا ينصح (كامل الشريف) بمحاربة العولمة، أو التصدِّي لها ومقاطعتها، ويسوغ هذا التوجه المعتدل بالأسباب الآتية : 1- كونها ظاهرة عالمية، يصل تأثيرها عبر أقنية مفتوحة. 2- كون طبيعة النظام العالمي تقوم على التبادل والتعامل المشترك. 3- كون البلاد العربية والإسلامية لا تزال في أولى مراحل البناء الاجتماعي والاقتصادي؛ فهي بحاجة إلى رؤوس الأموال والأجهزة والخبرات المدرَّبة. 4- كون بعض البلاد العربية والإسلامية لا تزال تعيش نهايةَ مرحلة الاستعمار الأجنبي، وما تركه من آثار في الحدود والعداوات والخلافات، التي لا تزال جسورُها موصولةً بالمستعمِر أكثر من اتصالها بالجيران والإخوة. 5- عجز مؤسَّسات الوحدة والتضامن عن إثبات وجودها داخل المجتمع العربي والمسلم. 6- مع عجز كثيرٍ من الدول الأعضاء في هذه المؤسَّسات عن الوفاءِ بالتزاماتها المقرَّرة [4] . من هذا المنطلق نفسِه نجد أن (محمد أركون) يعالج موضوعَ العولمة برؤية تعوَّدناها منه، ويرمي إلى أن يجعلَ العولمةَ في مقابل التراث الإسلامي، وأن ظاهرةَ العولمة قد أخذت تقلِب جميع التراثات؛ الثقافية والدينية والفلسفية والسياسية والقانونية التي عرفتها البشرية حتى الآن، وفي هذا الصدد يؤكد المؤلف أن "ظاهرة العولمة تنشر على مستوى الكرة الأرضية بأسرها إستراتيجياتِ اكتساحِ الأسواق الاستهلاكية، وتدجينها وإلحاقها بها، ولا تبالي إطلاقًا بالمآسي الاجتماعية والفقر المُدْقِع الناتج عن ذلك في دول الجنوب" [5] . [1] انظر: هانز - بيتر مارتن وهارالد شومان، فخ العولمة - مرجع سابق - ص 209. [2] انظر: صالح بن عبدالله بن عبدالرحمن العبود، المراد الشرعي بالجماعة وأثر تحقيقه في إثبات الهوية الإسلامية أمام عولمة الإرهاب والفتنة، المدينة المنورة: دار المآثر، 1423هـ - ص 127. [3] انظر: صالح بن مبارك الدباس، العولمة والتربية، الرياض: المؤلف، 1423هـ - ص 29 - 35. [4] انظر: كامل الشريف، الشباب المسلم والعولمة، ص 10، في: المؤتمر العالمي الثامن للندوة العالمية للشباب الإسلامي، الشباب المسلم والتحديات المعاصرة، عمان 29 جمادى الآخرة - 3 رجب 1419هـ/ 20 - 23 تشرين الثاني/ أكتوبر 1999م، ص 16. [5] انظر: محمد أركون، قضايا في نقد العقل الديني: كيف نفهم الإسلام اليوم؟ ترجمه وعلَّق عليه: هاشم صالح، بيروت: دار الطليعة، 2000م، ص 158.
الخلاصة العلمية إصدار مركز المنهاج للإشراف والتدريب التربوي صدر حديثًا مكتبة "الخلاصة العلمية"، إصدار: "مركز المنهاج للإشراف والتدريب التربوي"، وهي مكتبة علمية شاملة ومحكمة ومختصرة، في 24 مجلدًا، أشرف على تنقيحها والتوليف بينها مجموعة من أساتذة الجامعة المختصين في كل علم من العلوم الشرعية والعصرية. وهذه المكتبة "الخلاصة العلمية" تتكون من (22) كتاب.. وتنقسم إلى قسمين: القسم الأول: خلاصة العلوم الشرعية ويحتوي على (17) كتاب. القسم الثاني: خلاصة العلوم العصرية الضرورية ويحتوي على (5) كتب. ومن مميزات مشروع "الخلاصة العلمية" أنه تم إضافة خدمات تعليمية متكاملة مستقلة يمكن الاستفادة منها كمناهج تعليمية محكمة للجامعات والمدارس، حيث تضاف للخلاصة العلمية عند الطلب. والهدف من مشروع إنشاء مكتبة الخلاصة العلمية هو توفير مادة علمية متكاملة، سعيًا لتحقيق المكون الثاني من المكونات الثلاثة لمنهج أهل السنة والجماعة المتمثل في بناء الأحكام التفصيلية. إلى جانب أنها هدفت إلى أن يكون في كل بيت مكتبة شاملة مختصرة هي بمثابة المرجع الثقافي والعلمي للأسرة خصوصًا أن سعرها في متناول الأسرة. ونجد أنه من الأهداف الرئيسة لمشروع الخلاصة في العلوم الشرعية: • تقديم المنهج الصحيح البديل عن البدع والخرافات والديانات المنحرفة. • تقريب الصور الصحيحة للتعبد المبنية على الدليل الصحيح. • التخفيف من التعصب المذهبي والاختلاف المذموم. • المساهمة في تيسير طلب العلم الشرعي ونشره. • تأليف مرجع في ما لا يسع الداعية جهله في العلوم العصرية الضرورية للدعوة. • تطوير طلبة العلم والدعاة في جانب العلوم العصرية الضرورية. • توفير المكتبات الضرورية للدعاة وطلبة العلم. وكتب هذه المكتبة العلمية على النحو التالي:- في علم أصول الفقه اختار لكم مركز المنهاج كتاب: "أصول الفقه الذي لا يسع الفقيه جهله". لمؤلفه أ.د/ عياض بن نامي السلمي. وهو من الكتب القليلة التي جمعت بين: • الشمولية. • الاختصار. • الوضوح. • الموافقة لاختيارات أهل السنة. في علم النحو اختار لكم مركز المنهاج كتاب: "التحفة السنية بشرح المقدمة الأجرومية". تحقيق/ مركز المنهاج للإشراف والتدريب التربوي. وهو كتاب مبارك لقي القبول منذ تأليفه حتى اليوم. في علم الإدارة اختار لكم مركز المنهاج كتاب: "الخلاصة في الإدارة". إعداد/ مركز بناء الطاقات. وهو كتاب اعتنى بتوضيح أهم المفاهيم الإدارية وبناء التصور الصحيح لشخصية المدير والصورة النموذجية للمنظمة الفاعلة. في الإعلام اختار لكم مركز المنهاج كتاب: "الخلاصة في الإعلام". لمؤلفه/ د. ياسر بن محمد عبد التواب. وهو كتاب شامل ومختصر في أهم المفاهيم والمتطلبات الإعلامية والوسائل الدعوية، مع توضيح أهم المهارات الإعلامية. في الاقتصاد اختار لكم مركز المنهاج كتاب: "الخلاصة في الاقتصاد". لمؤلفه/ د. محمد بن سعود العصيمي. وهو كتاب يجمع أهم المفاهيم الضرورية للتصور الصحيح في الاقتصاد والمعاملات المالية. في التربية اختار لكم مركز المنهاج كتاب: "الخلاصة في التربية". إعداد / مركز قمم المعرفة. وهو كتاب شامل في التربية تنظيرًا وتطبيقًا تميز بالإثراء والتنوع الموضوعي للمربي والمتربي. في الفتاوى اختار لكم مركز المنهاج كتاب: "الخلاصة في الأحكام الشرعية". جمع وإعداد / مركز المنهاج للإشراف والتدريب التربوي. وهو كتاب يجمع فتاوى مختارة ومتنوعة من المحققين من أهل العلم المعاصرين مصنفة تصنيفًا موضوعيًا. في السيرة اختار لكم مركز المنهاج كتاب: "صفوة السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية". تأليف أ.د / مهدي رزق الله أحمد. والكتاب عبارة عن دراسة توثيقية تحليلية تربوية. في الحديث النبوي اختار لكم مركز المنهاج كتاب: "خلاصة الكلام في شرح بلوغ المرام" و"زوائد عمدة الأحكام". إعداد / مركز المنهاج للإشراف والتدريب التربوي. جمع زوائد أحاديث كتاب "عمدة الأحكام" على أحاديث كتاب "بلوغ المرام" وهما أشهر كتابين في أحاديث الأحكام، مع إضافة مجموعة من الميزات؛ هي: ١. شرح مختصر للأحاديث مع تخريجها والحكم عليها. ٢. ترجمة لراوي الحديث. ٣. إضافة الآيات القرآنية المناسبة بداية كل باب. ٤. ذكر سبب ورود الحديث. ٥. توضيح غريب الكلمات. ٦. بيان دلالات الحديث الفقهية. ٧. بيان دلالات الحديث الإيمانية. ٨. بيان دلالات الحديث المقاصدية. ٩. بيان طرق الاستدلال بالحديث. في تخريج الحديث النبوي اختار لكم مركز المنهاج كتاب: "الخلاصة في علم التخريج". إعداد / مركز المنهاج للإشراف والتدريب التربوي. وهو كتاب اعتنى بالطرق المألوفة بالإضافة إلى طرق التقنية الحديثة لتخريج الحديث النبوي مع محاولة إكساب القارئ القدرة على الوصول إلى أحكام النقد على الأحاديث. في الخطب اختار لكم مركز المنهاج كتاب: "الخلاصة في الخطب المنبرية". إعداد / مركز المنهاج للإشراف والتدريب التربوي. وفي الكتاب مجموعة من الخطب المنتقاة روعي فيها الاحتياجات المعاصرة للأمة. في الحاسب الآلي والإنترنت اختار لكم مركز المنهاج كتاب: "الخلاصة في الحاسب الآلي والإنترنت". تأليف / هشام كامل أمين. ويعتبر الكتاب مرجع شامل ومختصر لأكثر من كتاب في مجال الحاسب الآلي. في الفقه اختار لكم مركز المنهاج كتاب: "الخلاصة في فقه الكتاب وصحيح السنة" تأليف / عادل بن يوسف العزازي. وهو كتاب فقهي شامل مبني على الدليل الصحيح يعتني بترجيحات المحققين مع ذكر قرارات الهيئات والمجامع الفقهية والحكم في النوازل المعاصرة. في التفسير اختار لكم مركز المنهاج كتاب "القرآن تفسير وتدبر وعمل". إعداد/ مركز المنهاج للإشراف والتدريب التربوي. وهو مصحف بهامشه كتاب يدرب القارئ على تدبر كتاب الله والعمل به بطريقة ميسرة، ومع الكتاب مختصر لتفسير ابن كثير اقتصر فيه على تفسير كل صفحة من القرآن بصفحة واحدة من ابن كثير. اخترنا لكم في مجموعة العلوم الأساسية: كتاب: "شرح تسهيل العقيدة الإسلامية". لـ أ.د. عبدالله الجبرين - رحمه الله -. كتاب شامل يتناول الموضوعات العقدية على وجه التفصيل، معضدًا بالأدلة الشرعية من الوحيين والإجماع، يمتاز بسهولة العبارة، ووضوح الأسلوب، والتوسع في الحواشي.
إطلالة على كتاب: قواعد تدبر القرآن وتطبيقات على قصار السور تدبر القرآن من الأهمية بمكان، وبين يدينا كتاب يسهل التدبر ويجعله في المتناول؛ وذلك بذكر بعض قواعده وشفعها بالتطبيقات العملية: اسم الكتاب : قواعد تدبر القرآن وتطبيقات على قصار السور. المؤلف : د. عقيل بن سالم الشمري. دار النشر : دار الحضارة للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى. ويقع الكتاب في 117 صفحة وهو جيد الإخراج وملوَّن. والمؤلف له عناية بالتدبر وله كتب فيه؛ مثل: تدبر سورة الكهف (111صفحة)، تدبر سورة مريم (103صفحة)، تدبر السور التي تقرأ يوم الجمعة (السجدة، الجمعة، المنافقون، الأعلى، الغاشية) وذلك في 138 صفحة. والآن نبدأ بعرض الكتاب مع التنبيه على أن هذا العرض لا يغني عن الكتاب؛ وإنما دليل عليه وحث على قراءته: بدأ المؤلف كتابه بمقدمة ذكر فيها بعض مزايا القرآن مع ذكر الشواهد على ذلك، ومن ضمنها أن الله (جعل القرآن ميسرًا فقال: ﴿ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ﴾ [القمر: 17] وأول ما يشمله التيسير تيسير تدبره وتفهمه) وأيضًا (أمر عباده سبحانه بالتدبر فقال: ﴿ كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ ﴾ [ص: 29]). بعد ذلك ذكر (السؤال الوارد كثيرًا: كيف أتدبر القرآن؟) والكتاب جواب عملي عن هذا السؤال. قسَّم المؤلف جزاه الله خيرًا كتابه إلى ثلاثة فصول: 1- التدبُّر: مفهومه ومبادئه، 2- قواعد التدبر الأمثل، 3- تطبيقات على قصار المفصل. في الفصل الأول المعنون بـ (التدبر: مفهومه ومبادئه) ذكر عدة أمور منها: تعريف التدبر، وأورد عدة تعريفات وفيها أن للتدبر ركنين: نظري يمثل الوقوف مع الآيات والتأمل فيها، ويدخل فيه: التفسير والاستنباط والتفكر والتأمل، والركن الآخر: عملي ، ويمثل التفاعل مع الآيات، وقصد الانتفاع والامتثال، ويدخل فيه: الاعتبار والاتعاظ والتذكر. ومما ذكره في هذا الفصل: فضل التدبر وأهميته، وجاء في سبع نقاط وهي باختصار: الامتثال لأمر الله ﴿ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ ﴾ [النساء: 82] جزء من تعلم القرآن (خيرُكم من تعلَّم القرآن وعلَّمَه)، دواء للقلب من أمراضه، طريق للعمل بالقرآن، وطريق لاستخراج العقائد والأحكام، يوقف المتدبِّر على مجامع الخير ومعاقد الشرور، وأخيرًا يعرف العبد على ربه وعلى صراطه المستقيم وعلى عدوه الشيطان الرجيم. أما عن الأسباب المعينة على التدبُّر فقد ذكر: حضور القلب، فهم معاني الآيات، فالتدبُّر فرع عن فهم المعنى ولا يمكن بدونه، سلامة طريقة التفكير، وتثوير القرآن؛ أي: إثارة الأسئلة التي تُعين على فهم القرآن وتدبره، وأخيرًا التفاعل مع الآيات، فقد كان صلى الله عليه وسلم (إذَا مَرَّ بآيَةٍ فِيهَا تَسْبِيحٌ سَبَّحَ، وإذَا مَرَّ بسُؤَالٍ سَأَلَ، وإذَا مَرَّ بتَعَوُّذٍ تَعَوَّذَ). بعدها عرَّج المؤلف -وفَّقَه الله- إلى موانع التدبر؛ وهي: الإصرار على الذنب، انشغال القلب وشرود الذهن، ضعف اللغة العربية. وختم الفصل الأول بمفاهيم خاطئة في التدبُّر؛ كالربط بين التدبر والبكاء، واعتقاد صعوبة التدبر، وربط التدبر بقوة الإيمان، حصر التدبر على الصلاة والقراءة الفردية. الفصل الثاني : قواعد التدبر الأمثل، حيث جمع المؤلف ثلاثين قاعدة يكثر استعمالها، وأتبع كل قاعدة بتوضيح وشرح مبسط ومثالين. وهاك نماذج مختصرة من القواعد التي ذكرها جزاه الله خيرًا: صيغة الفعل المضارع تدل على التكرار والمداومة، الجملة الاسمية تدل على الثبوت والدوام، التعبير عن المستقبل بصيغة الماضي يفيد تحقق الوقوع، عطف الخاص على العام يدل على أهمية الخاص ﴿ حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى ﴾ [البقرة: 238] زيادة المؤكدات في الآية تدل على عظم المؤكد وأهميته، كل ما أقسم الله به فهو معظم، حذف المعمول –كالمفعول به مثلًا- يفيد العموم ﴿ أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ ﴾ [التكاثر: 1]، تذييل الآية بالأسماء الحسنى له ارتباط ولا بُدَّ، التقديم إمَّا يكون لفائدة وغالبًا للاهتمام ﴿ وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ ﴾ [الذاريات: 22] إذا نفى الله شيئًا عن نفسه فهو إثبات لضده، ابتداء الآية بحرف (إذا) وأسماء الإشارة والاستفهام يفيد التشويق، (ناء) الدالة على الفاعلين و(نحن) تدل على تعظيم الله لنفسه ﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾ [الحجر: 9] وفي الكتاب بقية القواعد مع شرح وتفصيل وأمثلة لكل قاعدة فينبغي الرجوع إليه. بعد ذلك انتقل المؤلف إلى الفصل الثالث والأخير وفيه تطبيقات عملية للقواعد المذكورة في الفصل الثاني، وجعل التطبيقات على قصار المفصل (الضحى - الناس) حيث يذكر السورة متبوعة بتفسير لها اعتمادًا على التفسير المُيسَّر، ثم تدبُّرات السورة مع الإشارة للقاعدة التدبرية. ولنأخذ سورة الكوثر كنموذج للتطبيقات: ﴿ بسم الله الرحمن الرحيم إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ * إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ ﴾ [الكوثر: 1 - 3]. تفسير السورة: ﴿ إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ ﴾ أيها النبي الخير الكثير في الدنيا والآخرة، ومن ذلك نهر الكوثر في الجنة، فأخلِص لربك صلاتك كلها، واذبح ذبيحتك له، إن مبغضك هو المنقطع أثره المقطوع من كل خير. تدبرات السورة: 1) في قوله: ﴿ إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ ﴾ تعظيم الله لنفسه وهو أهل للتعظيم. فمن قواعد التدبر : أن (نا) الدالة على الفاعلين من صيغ التعظيم. 2) يدل قوله: ﴿ أَعْطَيْنَاكَ ﴾ على تحقُّق ذلك العطاء للنبي صلى الله عليه وسلم؛ حيث إنه جاء بصيغة الماضي مع كونه في المستقبل. فمن قواعد التدبُّر : أن التعبير عن المستقبل بصيغة الماضي يفيد تحقُّق الوقوع. 3) دل قوله: ﴿ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ ﴾ على شكر النعم بمقابلتها بالطاعات؛ كالصلاة والذبح. فمن قواعد التدبر : أن الفاء للتعقيب تفيد تفريع ما بعدها على ما قبلها. 4) في قوله: ﴿ لِرَبِّكَ ﴾ حثٌّ على تجريد الإخلاص لله. فمن قواعد التدبُّر : أن اللام تفيد التخصيص، فالمعنى: فصلِّ قاصدًا مخلصًا لربِّك لا لغيره. 5) قدَّم الأمر بالصلاة على النحر في قوله: ﴿ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ ﴾ يفيد أن الذبح يوم النحر بعد صلاة العيد. فمن قواعد التدبُّر : أن التقديم إنما يكون للترتيب أحيانًا. 6) يدل قوله: ﴿ إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ ﴾ على ذم مبغض النبي صلى الله عليه وسلم وانقطاع الخير عنه من خلال: • حرف التوكيد (إِنَّ). • ضمير الشأن (هُوَ) الذي يفيد القصر والتخصيص. فمن قواعد التدبر : أن حرف (إِنَّ) يفيد التوكيد، وضمير الشأن يفيد القصر. وبعد الإشارة إلى بعض محتويات الكتاب يأتي ذكر بعض المميزات والاقتراحات. فمن مميزات الكتاب: • أنه في جانب عظيم ألا وهو تدبر القرآن الذي يحتاج إليه كل أحد. • سهل العبارة، حسَن الإخراج. • حُسن تقسيم الكتاب، فبدأ بتعريف التدبر، وفضله وأهميته، والأسباب المعينة عليه، والموانع الصارفة عنه، ثم ثلاثين قاعدة مع الشرح والأمثلة، ثم تطبيقات على القواعد. • تقريب التدبر للناس في قواعد مع أمثلة عملية لفهم وتثبيت وتعميم القاعدة على كامل القرآن. أما عن المقترحات : • لم يذكر المؤلف تدبرات سورة الفاتحة، مع أهميتها وتكرارها كثيرًا في الصلاة ولو أنه توسَّع فيها لكان أفضل. • لو أضاف المؤلف تدبُّر سور وآيات يكثر تكرارها على مسامع الناس مثل: سورة الغاشية والأعلى، وآية الكرسي وآخر آيتين من سورة البقرة، لكان أفضل. • في فصل التطبيقات لو أنه ربط كل قاعدة برقمها لكان أفضل. • لو أُضِيف فصل رابع وجُعِل للتدريبات العملية مع أجوبتها ليختبر القارئ فهمه للقواعد، لكان أفضل. • لو أن كتابًا ضمَّ كل قواعد التدبر مع شرحها ثم تطبيقها على جميع سور القرآن بشكل مفصل، بحيث تعين قارئ القرآن على تدبُّر أيِّ آية، ليكتسب بعد ذلك ناصية التدبُّر، ويمكن أن يسمى التفسير التدبُّري، والمؤلف جزاه الله خيرًا أهل لهذا المشروع، فلماذا لا يفيد الأمة بذلك. • للمؤلف كتب أخرى عن التدبُّر، لكن لم أقف على تدبُّر المفصل، ولو أنه جعل تطبيقات كتابه على كل المفصل أو أفرد له كتابًا مستقلًّا لكان ذلك مفيدًا. • الكتاب يصلح لأن يكون دورة تدريبية عملية، فالكثير من المحاضن التربوية تهتم بالحفظ والتجويد، وتغفل تعليم الطلاب التدبُّر مع أهميته. • الكتاب يصلح لأن يكون مادة للمسابقات، فمثلًا تُذكَر القاعدة ويُطلَب من المتسابق الإتيان بأمثلة عليها، أو العكس تذكر الآية والطلب من المتسابق استخراج التدبرات مع الربط بالقواعد. • لم أجد الكتاب مع أهميته ضمن موقع الشاملة، فوجود الكتاب ضمن المكتبة الشاملة يسهل الوصول إليه والاقتباس منه وغيرها من الأمور التي توفرها المكتبة الشاملة. • أيضًا لو سجل الكتاب صوتيًّا، فقد انتشرت هذه الأيام الكتب الصوتية. وإلى اللقاء في إطلالة جديدة على كتاب آخر بإذن الله العلي القدير، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
خيول طائرة مَلِكٌ ليس كبقية الملوك، لم يكن قبله ولا بعده مثله، مُلْكُهُ لم يخضع للقوانين الأرضية، وسيرته شبيهة بالخيال، فجيوشُهُ أعدادها لا تُحصى، عيونه الطير تذهب، فتأتيه بالأخبار من أطراف الأرض، لا يُعِيقه أرضٌ قفرٌ أو جبل وَعْر، مخترقًا الزمن يطير بجيشه وكامل عتاده وأمتعته وخيوله في الهواء، متحكِّمًا في الهواء، وهي مع كونها عاصفة؛ أي قوية سريعة: ﴿ وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً ﴾ [الأنبياء: 81]، إلا أنها رُخاء لينة لطيفة، لا تؤذي راكبها ولا تزعجه، مؤتمرة بأمره حيث أراد: ﴿ فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ ﴾ [ص: 36]، ﴿ وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ ﴾ [سبأ: 12]. سرعة الريح في الغُدوة وهي المسير من الصباح حتى الزوال مسيرة شهر بالإبل، وفي الرَّوحة وهي المسير من بعد الزوال وحتى غروب الشمس مسيرة شهر بالإبل، آلاف الكيلومترات في اليوم الواحد. ينتظره أعداؤه على الأرض، فإذا به ينقض عليهم من السماء والأرض، ويُطبِق عليهم من كل حَدَبٍ وصَوْبٍ، في جيشه أجناس غريبة مختلفة؛ من إنس وجنٍّ وطير: ﴿ وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ ﴾ [النمل: 17]. سلطانه امتد إلى البحر، واستطاع أن يسخِّر الشياطين في البناء والغوص، يحبس من شاء، ويَمُنُّ على من يشاء، بتفويض مُطلَق من الله جل جلاله: ﴿ وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ * وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ * هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ * وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ ﴾ [ص: 37 - 40]. الجِفان وهي الصحون التي يُوضع فيه الطعام كبيرة، ﴿ كَالْجَوَابِ ﴾ [سبأ: 13]، ومفردها جابية؛ وهي البركة من الماء، أما القدور فراسيات لا تتحرك لعِظَمِ حجمها: ﴿ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ * يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ ﴾ [سبأ: 12، 13]. اجتمع لسليمان أعلى المراتب الشرعية؛ وهي النبوة، مع أعظم المراتب الدنيوية؛ وهي الملك، فهو النبي الْمَلِك، والعبد الصالح، سليمان عليه الصلاة والسلام. ولو اجتمع مُلْكُ ملوك الأرض في كِفَّة، ومُلْكُ سليمان في كِفة، لرَجَحَ بهم مُلْكُ سليمانَ. ليس من الكِبْرِ أن يرى المرء أنه أفضل من غيره بالعلم أو الصحة، أو القوة أو الذكاء، أو الغِنى أو الجمال، أو الأدب أو الشعر، أو غير ذلك من سائر النِّعَمِ، معترفًا بأن الهبات من الواهب سبحانه، والفضل من المتفضِّل عز شأنه، من غير كِبْرٍ يخالط النفوس، أو غَمْطٍ للآخرين باحتقار وترفُّع وعدم إنصاف، بل يعطي كل ذي حقٍّ حقَّه، ويعترف لكل ذي فضل بفضله. ها هو سليمان ووالده داود عليهما الصلاة والسلام، وعلى ملأ من الناس يعترفان بفضل الله عليهما، وأنه آتاهما من كل شيء دينًا ودُنيا، حامدَينِ ذاكرَينِ الأفضليةَ الدينية والدنيوية على غيرهما: ﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ * وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ ﴾ [النمل: 15، 16]. وزيادة على ما ورِثه سليمان من والده داود عليهما الصلاة والسلام، فقد تجاوز العطاء الرباني له كل وصف؛ ريح مسخَّرة، وجنٌّ مؤتمَرة، يسمع حديث النمل، ويعرف منطقَ الطير، وعندما علِم قدومَ بلقيسَ أراد أن يُظهِرَ لها قوته، ويبيِّن لها قدرته، لعلها تُسْلِم، فاختار رمز ملكها الذي يكون في القصور المحصنة، وعليه الحراسات المشددة، وفي لحظة رأى عرشها مستقرًّا عنده بطرفةِ عينٍ، في تلك اللحظة التي تتملك الإنسان فيها النشوة، وتتغشَّاه الغَفْلة، تحرك قلبه مدركًا أنه في دار العمل، معلنًا على الملأ أن هذه النعم إنما هي ابتلاء له: أأشكر أم أكفر؟! طريقان لا ثالث لهما؛ أأشكر، معترفًا لله بالفضل، حامدًا له على النعمة، أم أكفُر مدَّعيًا أن ما أوتيته إنما هو استحقاق أستحقُّه، أم أتوهَّم أن ما رُزقته إنما هو من فيض علمي ومعرفتي، فالفضل مني وإلي؟ ثم يختم موضحًا أن هذا الشكر ينتفع به العبد فقط، أما الله فهو غني عن الخَلْقِ، غني عن شكرهم، لا ينفعه سبحانه شكر الشاكرين، ولا يضره جحود الجاحدين: ﴿ قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ * قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ * قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ ﴾ [النمل: 38 - 40].
الشيخ الدمشقي هيثم إدلبي وجهوده الإصلاحية في دير عطية قضى الله قضاءه الحقَّ بوفاة الأخ الفاضل الشيخ هيثم بن محمود إدلبي ، مساء يوم الاثنين 24 من شهر ربيع الأوَّل 1445هـ الموافق 9/ 10/ 2023م. وإني أقول شهادةً لله: إنه أدَّى الأمانةَ وأخلص في الدعوة، وكان مثلًا رائعًا في تربية الأجيال. عرفتُ الشيخ هيثم وهو طالبٌ في السنة الثانية بكلِّية الشريعة بجامعة دمشق، وكنت أستاذَه فيها، وحين جدَّدنا مدرسةَ الشيخ عبد القادر القصَّاب الشرعية رحمه الله، في مدينتي دَيْر عَطِيَّة، بالتعاون مع شقيقي الشيخ الدكتور وهبة الزُّحَيلي، والأخ أبي عبد المجيد محمد رضا التجار، وأبي الحسن الحِمصي، عام 1972م، وقع الاختيارُ عليه لإدارتها والقيام على الدعوة والتعليم فيها. كانت أحوالُ المدينة سيئةً جدًّا يومئذٍ وخاصة للشباب؛ إذ الأفكارُ المنحرفة والباطلة والعَلمانية منتشرةً، وتسيطر سيطرةً شبه تامَّة، والمدينةُ تكاد تكون خاويةً من الدعوة والدعاة، وأردنا اختيارَ مدير للمدرسة، وبعد الاستشارة والرجوع إلى علماء دمشق، ولا سيَّما الشيخ المربي عبد الكريم الرفاعي، رشَّحوا لنا الشيخَ هيثم إدلبي، وكان في ريعان الشباب في الحادية والعشرين من عمره، فجاء إلى دير عطية وسكنَ فيها، ووَفَّرنا له سكنًا قريبًا من مدرسة الشيخ القصَّاب. كان عملُ الشيخ هيثم التدريسَ في المدرسة من بعد العصر إلى العشاء، وتركنا له الحرِّية المطلقة في التعليم والتوجيه بالأسلوب الذي يراه، ونجح نجاحًا كبيرًا في اجتذاب طلَّاب المدارس من أدنى المراحل مرحلة الروضة إلى أعلاها مرحلة الجامعة، لينضمُّوا إلى حلَقات المدرسة الشرعية، بل إنه جذبَ المسؤولين في المدينة وصاروا يحضُرون دروسَه وتوجيهاته؛ بما امتاز به من حكمة كبيرة، وحُسن تأثير في الناس؛ بالابتسامة والنكتة والأسلوب الجميل. حتى الأولادُ أثَّر فيهم بأسلوبه اللطيف، وكان يسألهم أن يُحضِروا آباءهم وأهاليهم إلى الدروس؛ فاهتدى بعضُ الآباء بسبب التزام أولادهم، والأمثلةُ على ذلك كثيرة. وكان أخي الدكتور وهبة معجبًا به وبأسلوبه. واستمرَّ الشيخ هيثم في عمله هذا بهمَّة عالية قرابةَ عشر سنين؛ علَّم الشبابَ القرآن والفقه، وأعاد حِفظَ القرآن كاملًا إلى المدينة بعد انقطاع، وكان أولَ من حفظ الأستاذُ محمود الرفاعي الذي لا يزال يقوم على الدعوة والخَطابة وتحفيظ القرآن إلى يومنا. ومع انقطاعه للدعوة في دير عطية كان حريصًا جدًّا على برِّ والدَيه ، وكان أبوه مريضًا فيذهب أسبوعيًّا لزيارته في دمشق، وكان هذا السببَ الرئيس لقراره تركَ العمل في مدرسة الشيخ القصَّاب، والرجوعَ إلى دمشق والاستقرار فيها. وفي دمشق كان له نشاطٌ دعوي كبير، وتولَّى أعمالًا علمية وتربوية بارزة، في المدارس والمعاهد الشرعية، ومعاهد تحفيظ القرآن، وأشرف على معهد الفرقان، وكان خطيبًا في جامع الأشمر قربَ بيت والدَيه، ثم صار خطيبًا في جامع زيد بن ثابت وهو من أهمِّ مراكز الدعوة بدمشق. أقول هذا الكلام وفاءً له وتقديرًا لجهوده، وقد كنت أحترمه وأقدِّره، وهو طالبٌ من طلَّابي في الجامعة. وله الفضلُ في دير عطية أكثر مني ومن شقيقي الدكتور وهبة الزحيلي؛ فقد كنَّا نزور بلدتنا يومًا واحدًا في الشهر وفي بعض المناسبات، أما هو فيقيم فيها ليلًا ونهارًا، وترك أثرًا واضحًا وصنع نهضةً دينية بعد ثلاثين عامًا من وفاة الشيخ عبد القادر القصَّاب (ت 1941م). وأعاد جيلَ الشباب إلى الإسلام والالتزام، وخرَّج الكثيرَ من الأطبَّاء والمهندسين والمعلِّمين والمثقَّفين، وكان يُحسن التعاونَ مع المسؤولين فلا يصطدم بالجهات الرسمية، ولذلك تولَّى تلك المناصبَ الكبيرة في دمشق. رحمه الله وجزاه خيرًا، وبارك في أولاده، وعوَّض الأمَّة خيرًا كثيرًا. ولا نقول إلا ما يُرضي ربَّنا: إنا لله وإنا إليه راجعون. وهنيئًا له أن أدَّى أمانةَ الدعوة في المدارس والمساجد وفي وِزارة الأوقاف، جمعَنا الله به تحت لواء سيِّدنا محمد، صلَّى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين. الداعية المربي الفاضل الشيخ هيثم إدلبي (1370- 1445هـ/ 1951- 2023م) رحمه الله تعالى
أول مصنف باللغة العربية في فن الإملاء جمع مسائله س: هل هناك كتابُ إملاء جَمَعَ مسائل فنِّ الإملاء فقط في العصور القديمة؟ ج: لا، لم يؤلِّف واحدٌ من نحاتنا القدامى كتابًا في فن الإملاء استقلالًا، وإنما حشدوا مسائل الفن في تضاعيف كتبهم، كما في " التسهيل " لابن مالك، و" الشافية " لابن الحاجب، و "أدب الكاتب" لابن قتيبة، وأول من صنف في فن الإملاء استقلالًا - فلم يتناول كتابه سوى مسائل الفن - أبو الوفا نصر الهوريني شيخ المصححين بالمطابع الأميرية، وقد عاش هذا الرجل في عصر محمد علي باشا، وهو لغوي أديب له بعض المصنَّفات المتينة في اللغة والأدب منها ما طُبع، ومنها ما هو مخطوط، وأشهر مصنفاته ذلك الكتاب الذي ألَّفه في فن الإملاء استقلالًا المسمى " المطالع النصرية للمطابع المصرية في الأصول الخطية ". ويُعَدُّ هذا الكتاب أفضلَ الكتب التي تناولت هذا الفن؛ نظرًا لسَعَةِ علم صاحبه، ومعرفته بمذاهب القوم، وامتلاكه مَلَكَةَ الاجتهاد في الترجيح بين الأقوال، وقد جرى الناس من بعده في هذا الصدد، فكثُرت الكتب التي اختصت بهذا الفن. هذا، والله أعلم. وصلِّ اللهم وسلم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
غزوة الرجيع في صفر من السنة الرابعة، وكان سببها قدوم وفد من عضل والقارة - قبيلتان - إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: إن فينا إسلامًا، فابعث لنا نفرًا يفقِّهونا في الدين ويقرئونا القُرْآن، فبعث معهم سبعة نفر وأمَّر عليهم عاصم بن ثابت، وقيل: مرثد بن أبي مرثد، والباقون هم: خالد بن أبي البكير وعبدالله بن طارق البلوي وأخوه لأمه معتب بن عبيد، وخبيب بن عدي، وزيد بن الدثنة، فلما كانوا بالهدأة عند ماء الرجيع - وهو لهذيل - غدروا بهم واستصرخوا عليهم حيًّا من هذيل يقال لهم: بنو لحيان - وكان بنو لحيان قد اتفقوا مع عضل والقارة وجعلوا لهم مالًا على أن يذهبوا لمحمد ويطلبوا منه نفرًا يفقههم في الدين فيأخذوا بثأر سفيان بن خالد الهذلي، فيقتلوا قاتله الذي قتله في أُحد، ويأخذوا من تبقى ليبيعوهم لأهل مكة - فطلع عليهم مائة رجل، فلجأ المسلمون إلى جبل، فأعطوهم العهد ألا يقتلوهم، فقال عاصم: والله لا أنزل على عهد كافر، اللهم خبِّرْ نبيك عنا، وقاتلهم هو ومرثد وخالد بن البكير فاستشهدوا، ونزل الآخرون على العهد، فغدروا بهم وقيدوهم، فقال عبدالله بن طارق: هذا أول الغدر، فقاتلهم فرمَوه بالحجارة حتى قتلوه، وقاتلهم معتب فقتلوه، وحملوا الآخرينِ: خبيب بن عدي، وابن الدثنة، وأخذوهما وباعوهما في مكة، فاشترى خبيبًا بنو الحارث بن نوفل ليقتلوه بالحارث؛ لأن خبيبًا قتله في أحد، وحملوه إلى التنعيم ليصلبوه، فطلب منهم أن يصلي ركعتين، وقال: لولا أن تقولوا: خشيت من الموت لأطلت، وهو أول مَن سن الركعتين عند القتل، ثم قال: ولستُ أبالي حين أقتل مسلمًا على أي جنبٍ كان في الله مصرعي ولستُ بمبدٍ للعدو تضرعًا ولا جزعًا إني إلى الله مرجعي وذلك في جنب الإله وإن يشَأْ يبارك على أوصال شِلْوٍ ممزَّع ثم قال: اللهم أحصهم عددًا، واقتلهم بددًا، ولا تغادر منهم أحدًا، ثم صلبوه، وقد روي فترة حجزه أنه كان يستحد - يحلق - قبل أن يصلب وبيده حديدة - شفرة حادة - ثم اقترب منه طفل، وهو ابن المرأة التي كان محجوزًا عندها، واسمها ماوية، فلما رأت طفلها ارتعات، فقال لها: أتخشين أن أقتله؟ إن الغدر ليس من شأننا، ولو كان غيره لأخذه رهينة لا يفلته حتى يخلوا سبيله، فقالت بعد أن أسلمت: ما رأيت أسيرًا خيرًا من خبيب، والله لقد اطلعت عليه من صير - شق - الباب وإنه لفي الحديد، لقد رأيته وما بمكة ثمرة وإن في يده لقطفًا من عنب يأكله، ما كان إلا رزقًا رزقه الله خبيبًا، وكان يتهجد بالقُرْآن، ورُوي أن معاوية بن أبي سفيان قال: لقد حضرت دعوته ولقد رأيتني وإن أبا سفيان ليُضجعني إلى الأرض فَرَقًا من دعوة خبيب، وذكر عدد ممن حضروا خبيبًا أنهم فروا من دعوته، فما بين جاثٍ على الأرض يوارى بالشجر خشية أن تصيبهم، وقد عيَّن عمر بن الخطاب سعيد بن عامر واليًا على حمص فكانت تأتيه نوبة من الغشية، فشكاه أهل حمص إلى عمر، فاستدعاه، فلما سأله عن هذه الغشية، قال: لقد شهدت قتل خبيب، فكلما ذكرته وأنا في مجلس، غشي عليَّ، فعذَره عمر. وأما ابن الدثنة، فإن صفوان بعث به إلى التنعيم ليقتل، وأوكل نسطاسًا بقتله، فقال له نسطاس: أنشدك الله، أتحب محمدًا الآن عندنا مكانك تضرب عنقه وأنك في أهلك؟ قال: ما أحب أن محمدًا الآن مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه وأنا جالس في أهلي، فقال أبو سفيان: ما رأيت من الناس أحدًا يحب أحدًا كحب أصحاب محمد محمدًا، ثم قتله نسطاس، وأما عاصم فقد حمى الله جثمانه بالدبر - وقيل: النحل - نهارًا، فلدغت كل من اقترب منه، واحتمله السيل ليلًا لئلا تشرب سلافة بنت سعد برأسه الخمر كما نذرت. وقد حزن المسلمون لما أصاب وفدهم ولما غرر بهذا الرهط حتى استدرجوهم إلى مصارعهم، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم عمرو بن أمية الضمري مع رجل من الأنصار إلى مكة لقتل أبي سفيان، فخرج عمرو والأنصاري على بعير له، وكان برِجل الأنصاري علة فكان عمرو يحمله حتى وصل إلى بطن يأجج، عقل بعيره في الشعب وقال للأنصاري: انطلق بنا إلى أبي سفيان لنقتله، فإن خشيت شيئًا فالحق بالبعير فاركبه والحق برسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبره الخبر، فدخل مكة ومعه خنجر، فقال صاحبه: هل لنا أن نطوف بالبيت ونصلي ركعتين؟ فقال عمرو: إن أهل مكة يجلسون بأفنيتهم - بمعنى خارج الغرف فيرون من يأتي - لكن شوق الأنصاري إلى الكعبة جعل عمروًا يستجيب لرغبته، فطافا وصليا، فلما خرجا مرا بمجلس لقريش، فعرفه بعضهم فصرخ: هذا عمرو الضمري ما جاء إلا لشر - وكان عمرو فاتكًا خطرًا - فثار أهل مكة إليهم، فقال عمرو لصاحبه: النجاءَ، هذا الذي كنت أحذر، أما أبو سفيان فليس إليه سبيل - بعد انكشاف أمرهما - فانجُ بنفسك، فخرجا والطلب في إثرهما، فصعدا جبلًا وكان عمرو خبير بشعاب مكة، فاختبأا في غار، فإذا بعثمان بن مالك التيمي بفرس له، فقام على باب الغار، فخرج إليه عمرو فطعنه بالخنجر، فصاح صيحة أسمع منها أهل مكة، فأقبلوا إليه فوجدوه وبه رمق فقال: طعنني عمرو الضمري، ومات ولم يخبرهم عن موضعه، وانشغلوا بمقتل عثمان التيمي عن ملاحقة عمرو، ومكث في الغار يومين، ثم خرج إلى التنعيم فوجد خبيبًا مصلوبًا، وفك قيوده فاحتمله مسافة، لكن الموكلون بحراسته تبعوه فألقى خبيبًا وهرب، فأما الأنصاري فانطلق نحو شعب يأجج فأخذ الراحلة ولحق بالمدينة، وعاد عمرو فمر بضنجان، ودخل غارًا، فأتى راعي غنم من بني الدئل، فدخل الغار، وبعد حديث بينهما تبين كفر الراعي، حيث تغنى بشعر فيه: ولستُ بمسلم ما دمت حيًّا ولستُ أدين دين المسلمينا فلما نام الراعي قام إليه عمرو فذبحه، وفي الطريق تعرف إلى رجلين بعثتهما قريش للتجسس على المسلمين، فرمى عمرو أحدهما بسهم، وأسر الآخر، فقاده أسيرًا إلى المدينة، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بما جرى له في رحلته، فضحك حتى بدت نواجذه، ودعا له بخير.
كلمات في رحيل الشيخ هيثم إدلبي (1370- 1445هـ/ 1951- 2023م) رحم الله أستاذنا الفاضل الداعيةَ المربِّي الشيخ هيثم بن محمود إدلبي ، الذي توفَّاه الله مساء الاثنين 24 من ربيع الأوَّل 1445هـ الموافق 9 تشرين الأول (أكتوبر) 2023م. أحسَبه كان من الدعاة الصادقين العاملين بهمَّة وحكمة. تبوَّأ مناصبَ رفيعةً وبقي بعيدًا عن أضواء الشُّهرة، نائيًا بنفسه عن التصدُّر والظهور. وهو بلا ريب ممَّن حمل رايةَ العمل الدَّعوي المسجدي في جامع سيِّدنا زيد بن ثابت بأمانة واقتدار، بعد رحيل شيخه العالم المربِّي المؤسِّس عبد الكريم الرفاعي عليه رحماتُ الله. وكان في عمله كالقلب النابض الذي يضُخُّ دماءَ الحياة في الجسد الشامخ. استقطبَ مئاتِ الشباب إلى مسجدَي زيد والأشمر، بأسلوبه الفريد الجامع بين النكتة الطريفة والعبارة البليغة، والنظرة المعبِّرة والبديهة الحاضرة. وأشرفَ على دروسهم وتعليمهم وتوجيههم، ليس في علوم العربية والشريعة فحسب، بل في موادِّهم العلمية والتخصُّصية، فكان المسجدُ على الحقيقة بيتًا كبيرًا وحِضنًا دافئًا وموئلًا أمينًا ومدرسةَ تعليم وتهذيب، وجدَ فيه أبناؤه الطُّمَأنينةَ والسَّكِينةَ قبل العلم والتربية، فاجتمعوا في رحابه إخوةً في الله متحابِّين؛ في حلَقاته ومجالسه ودروسه ومحاضراته ومكتبته ورحلاته ونشاطاته وحفَلاته. كان يُكرَّمُ في الحفل الختامي كلَّ عام حفَّاظُ القرآن الكريم إلى جانب الطلَّاب المتفوِّقين الحاصلين على المراتب العُليا في جامعاتهم؛ في كلِّيات الطبِّ والصيدلة والهندسة والعلوم والتِّقنية وغيرها من كلِّياتٍ علمية عملية، وإنسانية أدبية. والفضلُ في هذا بلا ريب بعد فضل الله تعالى، ثم فضل الشيخ عبد الكريم، لأساتذة المسجد الكبار الذين مضَوا على سَنن شيخهم، وعلى رأسهم ولداه الفاضلان أسامةُ وساريةُ والشيخ هيثم وسائرُ الأساتذة الأفاضل، جزاهم الله عنَّا خيرًا كثيرًا. وكان من قبلُ قادَ نهضةً دعوية إصلاحية رشيدة في مدرسة الشيخ عبد القادر القصَّاب في مدينة دَيْر عَطِيَّة، وخلَّف أثرًا عميقًا فيها استمرَّ بعده طويلًا. تولَّى الشيخ هيثم التعليمَ في المدارس الحكومية، وكان زميلًا لسيِّدي الوالد الفيزيائي المربِّي أحمد ذو الغنى رحمه الله في ثانوية ابن خَلدون زمنًا، ولم يكن في صفِّه دونَ ما هو عليه في مسجده وعلى مِنبَره، من حِرصٍ على الدعوة والأخذ بأيدي الشباب إلى دروب السلامة والسعادة. وعُرف عنه البِرُّ بأشياخه والبِرُّ بطلَّابه والبِرُّ بوالدَيه، وكان والدُه ابتُليَ بمرض عُضال أعجزَه وأقعدَه سنواتٍ طويلة، فحَدِبَ عليه ونهضَ بخدمته دون كَلال ولا مَلال، يأتيه الطلَّابُ يقرؤون عليه فيقطع الدرسَ ثم يرجع إليهم دون أن يُعلمَهم بسبب خروجه، وما أخرجَهُ إلا القيام على حاجة أبيه، لقَّاه ربي كِفاءَ بذله وصبره ما يحبُّ من رضًا ورضوان. كُلِّفَ إدارةَ معاهد تحفيظ القرآن الكريم في سورِيةَ كلِّها أكثر من عشر سنين، ورأَسَ لجنة شؤون القرآن ومراجعة المصاحف، وتولَّى إدارةَ معهد الفرقان الشرعي، ورَقِيَ مِنبرَ جامع زيد خطيبًا؛ فكان في كل ذلك القويَّ الأمين، ولم يُؤثَر عنه كُلَيمةُ محاباةٍ أو طأطأةٌ لباطل! رحم الله شيخنا أبا فاروق هيثم إدلبي. وأبدله دارًا خيرًا من داره، وأهلًا خيرًا من أهله، وجمعنا به في جنَّات النعيم. وأحسنَ الله عزاءنا وعزاء أسرته وطلَّابه وأحبابه فيه. لله ما أخذ وله ما أعطى وكلُّ شيءٍ عندَه بأجل، وإنَّا لله وإنَّا إليه راجعون. كتبه أبو أحمد المَيداني أيمن بن أحمد ذو الغنى الرياض 24 من ربيع الأول 1445هـ 9/ 10/ 2023م شيخنا هيثم إدلبي رحمه الله، وبجانبه أخونا إبراهيم قَرَهْ بَلا وفقه الله وفي الخلف أيمن ذو الغنى، في إحدى رحلات جامع زيد عام 1999م
بنية المادة في فيزياء الكوانطا ومآلاتها الإبستمولوجية ملخص المقال: في السابع من ديسمبر عام 1900 أعلن ماكس بلانك Max Planck (1858 – 1947) خلال جلسة الجمعية الفيزيائية التابعة لأكاديمية برلين عن فرضية الكوانطا، التي أدت لظهور بوادر فيزياء جديدة مختلفة عن فيزياء نيوتن الكلاسيكية، فبعدما ساد اعتقادٌ يقول بأن الضوء من طبيعته الاتصال، أثبت بلانك أن الطاقة مثلها مثل المادة والكهرباء، تظهر بصورة منفصلة ومتقطعة؛ أي: على شكل حبات ووحدات تسمى في الاصطلاح العلمي بـ(الكوانطم)، وهذه الدراسة هي قراءة في كتاب (الفيزياء والفلسفة) لفيرنر هايزنبرغ Werner Heisenberg (1901 – 1976)، الذي يُعَدُّ من بين العلماء الذين ساهموا في تقديم الصياغة الأولى لهذه النظرية، وتحديدًا لإشكال إبستمولوجي يخص بنية المادة في فيزياء الكوانطا ( La physique quantique )، التي يصعب وصفها اعتمادًا على اللغة العادية، مما سيفرض اعتماد صياغة رياضية تقوم على بِنًى رياضية مجردة، تتجاوز المفاهيم الهندسية التي اعتمدها آينشتاين، وسينتج عن هذا الوضع الجديد للعلم تحولات معرفية، تمثَّلت في إقرار هايزنبرغ لـ"مبدأ اللاحتمية"، أو ما يعرف بـ"مبدأ عدم التحديد"؛ مما سيؤدي إلى انهيار مبدأين أساسيين قامت عليهما الفيزياء الكلاسيكية: الموضوعية، والحتمية، بتعبير آخر سيتم تجاوز التصور الكلاسيكي للعلم الذي اعتقد أن قواعد العلم ثابتة وراسخة، ومفاهيمه واضحة يقينية؛ لكونها صادرة عن حدس مباشر، إلى تصوُّرٍ يقوم على عدم الثبات، والتعدد والكثرة، والتعقيد والاختلاف، مع الانفتاح على بعض إشكالات تخص طبيعة الممارسة العلمية على مستوى طبيعة العلاقة القائمة بين اللغة العلمية، والوقائع الطبيعية. الكلمات المفاتيح: فيزياء الكوانطا، المادة، القوة، اللاحتمية، الواقع، اللغة. تقديم: أسهمت الثورات العلمية في تطور الفَهم البشري للطبيعة وفي "تغير المفاهيم التي عليها يُبنى الموضوع" [1] ؛ إذ عرفت الفيزياء المعاصرة تطورًا هائلًا بفعل نظريتين أساسيتين: الأولى: نظرية النسبية بخصوص تصورها حول المكان والزمان والحركة، أما الثانية فهي نظرية ميكانيكا الكوانطا ، التي اهتمت بالبحث في طبيعة المادة، وطبيعة القُوى المشكِّلة لها؛ بحيث أدت كل من النظرية النسبية ونظرية الكوانطا إلى احتدام الجدل بفعل التحولات التي طالت أسس الفيزياء الحديثة، مما أدى إلى شعور أن أُسُسَ العلم ستنهار، ويُعَدُّ فيرنر هايزنبرغ [2] من العلماء الذين أسهموا في تقديم الصياغة الأولى لميكانيكا الكوانطا (1925)، التي كان لها آثار فلسفية جذرية، تتمثل في كشفه عن أحد المبادئ المشكِّلة للعالم الطبيعي، وهو مبدأ " عدم اليقين " أو مبدأ " اللاحتمية " (1927)؛ حيث أقر أن تعيين الجسيمات المشكِّلة للمادة الذرية لا تخضع لقوانين الفيزياء الكلاسيكية؛ أي إن المقادير الفيزيائية الخاضعة للملاحظة تعرف تحولات، لا يمكن التنبؤ بها، لتصير قيمها غير محددة تمامًا؛ من ثَمَّ صار العلم مع ميكانيكا الكوانطا بمثابة "برنامج رياضي إحصائي"؛ لذلك تتمثل أهمية تصوره في معرفته الدقيقة لفيزياء الكوانطا، وكذلك قدرته على استجلاء مضامينها الفلسفية الهائلة، و سنحاول من خلال هذا المقال أن نسلِّط الضوء على مفهوم المادة من خلال فيزياء الكوانطا، وكذلك بعض نتائجها الفلسفية. 1- مفهوم المادة من التصور الفلسفي إلى التصور العلمي: اتخذ مفهوم المادة معانيَ متعددة في تاريخ الفكر الإنساني بفعل اختلاف المذاهب الفلسفية، غير أن اللافت للنظر - حسب هايزنبرغ - أن لهذه المعاني حضورًا بمعنى ما في العلم المعاصر؛ مثال ذلك: أن نظرية النسبية تتصور "أن يكون الكون قد نشأ في لحظة محددة في الماضي، عندما بزغت المادة والطاقة فجأة في الوجود ومعهما الفضاء والزمن" [3] ، هذا التصور - كما بيَّن هايزنبرغ - سبق للقديس أوغسطين أن أشار إليه في القرن الخامس الميلادي؛ "فكرة أن الزمن لا يمتد إلى الوراء حتى الأبد، وإنما هو قد خُلِقَ مع الكون، هناك إذًا نظير علمي لتعاليم المسيحية عن الخلق من العدم" [4] . وقد بدأ الاهتمام فلسفيًّا بمفهوم المادة مع الفلسفة اليونانية، منذ طاليس إلى عهد الذرِّيين، ومدار بحثهم ودراساتهم هو العثور على المبدأ الموحَّد للتغير اللامتناهي للأشياء؛ إذ اعتقدوا في إمكان وجود مفهوم كوني للمادة انطلاقًا من المكونات الأربعة (الماء، الهواء، التراب، النار)، في حين منح أرسطو معنًى جديدًا لمفهوم المادة من خلال مقابلته مع مفهوم الصورة، فما نراه حسبه في عالم الظواهر ما هو إلا مادة مشكَّلة لا تمثل الواقع، بل هي مجرد إمكانية موجودة بالصورة والشكل، بمعنى أن الحادثة الطبيعية تنتقل من الإمكان عبر الصورة إلى ما هو واقعي وحقيقي؛ لذلك لم يحدِّد المادة من خلال المكونات الأربعة كما هو شأن الذريين، بل إنها تشمل كل ما له إمكانية للانتقال من الصورة والشكل إلى ما هو واقعي وحقيقي، وبيَّن هايزنبرغ ذلك من خلال مثالين – معتبرًا أن التصور الأرسطي له امتداد بمعنى من المعاني في الفيزياء المعاصرة – يوضحان هذا الانتقال؛ ففي العملية البيولوجية تتحول المادة إلى أحياء، وكذلك في مثال تكوين وتشكيل الأعمال الفنية، فالتمثال كان إمكانية قبل أن ينحته النحات، بينما استبدلت الفلسفة الديكارتية بالثنائية الأرسطية ثنائية المادة والروح، ليصير الوجود محددًا بمظهرين: الشيء الممتد، والشيء المفكِّر؛ فالمادة المشكَّلة يمكن تفسير عملية تشكُّلها بواسطة سِلْسَلة سببية لأفعال متبادلة ميكانيكيًّا، هكذا صار التصور الديكارتي للمادة حسب هايزنبرغ أكثر ملائمة للعلم الحديث، إلا أن التحول الجذري للتصور العلمي سيحصل في القرن التاسع عشر؛ إذ صار يُنظَر للمادة من خلال مفهوم القوة؛ أي: إن للقُوى تأثيرًا على المادة، وبإمكانها أن تُحدِث قوى، مثلًا: تُولِّد المادة قوة الجاذبية التي بدورها تؤثر في المادة: ومع توالي الأبحاث العلمية سينعدم التمييز الحاصل بين المادة والقوة؛ لأن مجال القوة يحتوي على طاقة، ويشكِّل كذلك جزءًا من المادة، هكذا ارتكزت الدراسات العلمية المعاصرة في مجال الفيزياء على تحليل بنية المادة، والقوى المسؤولة عنها، بعدما قطع العلم مع التصورات اللاهوتية والمفاهيم الميتافيزيقية، كمفهوم الجوهر واستبداله بمفهوم العنصر، خاصة في مجال الكيمياء، اعتمادًا على التجريب العلمي؛ لتشكِّل هذه الخطوة - حسب هايزنبرغ - الأساس لفَهم بنية المادة، من خلال ردِّ التنوع الهائل للمواد المشكِّلة للطبيعة إلى أقل عدد، مما نشأ عن ذلك بناء نظام محدد وسط مختلف ظواهر الكيمياء، فتمَّ اعتماد مفهوم الذرة كتعبير عن أصغر وحدات المادة، مثلًا ذرة الأوكسجين وذرتي الهيدروجين أصغر أجزاء مشكلة لعنصر الماء ( H 2 O ) ، كما كشفت الأبحاث العلمية المعاصرة عن إحدى خصائص المادة والمتمثلة في "حفظ الكتلة في تفاعلات كيميائية"، ومثال ذلك: أن احتراق عنصر الفحم ينتج عنه ثاني أوكسيد الكربون، فتساوي كتلة (CO 2 ) حاصل كتلتي الكربون والأوكسجين قبل بداية الاحتراق؛ من ثَمَّ نخلُص مع هايزنبرغ أن العلم المعاصر أضفى على مفهوم المادة معنًى كميًّا، إضافة إلى ذلك، تم اكتشاف أعداد كبيرة من العناصر الكيميائية – على الأقل عشرة عناصر – مكَّنت من تحديد العلاقة بينهما، فأصبح يُنظَر إلى الأوزان الذرية لعناصر كثيرة بأنها مضاعفات صحيحة لأصغر وحدة تتطابق تقريبًا مع الوزن الذري للهيدروجين؛ وبهذا تم إيجاد علاقة بين مختلف العناصر التي تمكِّن من فَهم وحدة المادة. وفي سنة 1896 تنبَّه الفيزيائيون إلى مثل هذه القُوى نتيجة اكتشاف التفَّتُّت الإشعاعي، كما أسهمت أبحاث كل من "كوري" و"رذرفورد" فيما يخص التحول الذي يطول العناصر في العملية ذات النشاط الإشعاعي، فأصبح بالإمكان استخدام هذه الجسيمات كأدوات جديدة لدراسة البنية الداخلية للذرة، بحيث أسهمت التجارب التي قدمها "رذرفورد" Ernest Rutherford 1911 الخاصة بانتشار أشعة ألفا في المادة من تحديد السمات الخاصة بالذرة؛ نواة الذرة، والطبقات الإلكترونية المحيطة بالنواة، فعَدَّ هايزنبرغ هذا التفسير مناسبًا للتأكيد على أن حقيقة العناصر الكيميائية بالذات هي آخر وحدات المادة بالنسبة للكيمياء، ولكي تتحول العناصر فيما بينها يجب حصول على أكبر قوى [5] ، كما تم تحديد الترابط الكيميائي بين ذرات متجاورة يُحدِثه فعل متبادل بين الطبقات الإلكترونية لفهم بنية المادة، علاوة على ذلك، تم رصد السلوك الكيميائي للذرة بواسطة شحنة النواة الكهربائية، مع أنه يقوم على سلوك طبقات الإلكترونات، وبيَّن هايزنبرغ أن النموذج النووي للذرة كنظام لا يمكن أن تُفسر قوانينه من خلال ميكانيكا نيوتن، خاصة مسألة استقرار الذرة، بل يمكن تفسيرها بواسطة نظرية الكوانطا التي تستحيل معها وصف الذرة موضوعيًّا، وبهذا قدمت أولى الأسس لفهم المادة؛ حيث اقترح هايزنبرغ تطبيق المخطط الرياضي لنظرية الكوانطا على طبقات الإلكترونات لتفسير خواص الذرة الكيميائية، فبأيِّ معنًى يتم اعتماد الرياضيات لتفسير بنية الذرة؟ تتميز الصياغة الرياضية لميكانيكا الكوانطا عن باقي الصياغات الرياضية السابقة في اعتمادها على بنى رياضية مجردة، مثل فضاءات هيلبرت، وما زال التكميم القانوني كصياغة لميكانيكا الكوانطا معتمَدًا حتى أيامنا الحالية، وما زال يشكِّل أساس الحسابات في الفيزياء الذرية، والجينية، وفيزياء الحالة الصلبة، وبيَّن هايزنبرغ حدودَ ما يمكن للملاحظ أن يقيسه أو يرصده تجريبيًّا، وهذه الحدود متضمنة داخل نظرية الكوانطا، فأقام حدودًا للاعتقاد في قدرة الرياضيات على الوصف الكامل، وقيامها بحسابات كافية للكميات التي يمكن قياسها تجريبيًّا، كما تم تجاوز المفاهيم الهندسية (الهندسة التفاضلية، والمعادلات التفاضلية)، خاصة مع نسبية آينشتاين. وقد مكَّنت ميكانيكا الكوانطا - حسب هايزنبرغ - من دراسة خصائص الذرة باعتماد مسارين مختلفين في الدراسة: • دراسة الفعل المتبادل للذرات، وعلاقتها بوحدات أكبر كالجزيئات والبلورات. • محاولة التعمق لدراسة النواة وأجزائها، إلى المكان الذي تصبح فيه وحدة المادة مفهومة. ويتمثل دور نظرية الكوانطا في كلا المسارين من خلال مبدأ أساسي؛ وهو اعتبار أن القوى الحاصلة بين الذرات المجاورة هي بصورة أولية قوى كهربائية، وهذه المسألة عبارة عن تجاذب شحنات متعاكسة، ومسألة تنافر شحنات متوافقة، تتطابق في الاسم، ومن ثَمَّ، فالإلكترونات تجذبها نواة الذرة وتبعدها إلكترونات أخرى، فالأساس الإبستمولوجي لهذا التصور يتمثل في أن قوانين المجال الذري لا تخضع لميكانيكا نيوتن، بل لقوانين الكوانطا، كما ميَّز هايزنبرغ في معرض تقديمه الإبستمولوجي والعلمي للكوانطا بين نوعين من الترابطات الحاصلة بين الذرات: الترابط القطبي : ينتقل بموجبه الإلكترون من ذرة إلى ذرة؛ لكي يملأ أو يشغل طبقة إلكترون معزولة، فينتج عن ذلك شحن للإلكترونين. الترابط التكافؤي : يتبع الإلكترون مسار كلتا الذرتين بطريقة معينة لا تكون ممكنة إلا في نظرية الكوانطا، فمن خلال صورة مدار الإلكترون يتبين أنه يدور حول كلتا الذرتين، ويمضي لحظة زمنية مهمة، سواء في إحدى الذرتين أو في الأخرى. يتحدد من خلال هذين النموذجين من الترابط كل التحولات الممكنة، كما ينتج من خلالهما كل أنواع الترتيبات في المجموعة الذرية، إضافة إلى أنهما يكونان مسؤولَينِ عن كل بنى المادة المعقَّدة التي يتم دراستها في الفيزياء والكيمياء، ويحافظان على ثنائية المادة والطاقة، "ذلك لأنه يمكن اعتبار النواة والإلكترون عناصر للمادة التي تتماسك عن طريق قوى كهرومغناطيسية" [6] . يُفضِي هذا الاعتبار إلى اندماج بين الفيزياء والكيمياء في علم موحَّدٍ، انطلاقًا من تشابههما في بنية المادة خلاف بنية المادة في البيولوجيا، فهي جدُّ معقدة ومتمايزة عن هذين المجالين، ولنظرية الكوانطا دور مهم في التفاعلات الكيميائية، فمثلًا القوى النوعية لنظرية الكوانطا لا يمكن وصفها إلا اعتمادًا على مفهوم التكافؤ الكيميائي؛ بحيث أن لها دورًا مهمًّا لفهم الجزيئات العضوية الكبيرة، وشتى أنواع ترتيباتها الهندسية، وكذلك مثال الطفرات البيولوجية التي يتبين من خلالها الطابع الإحصائي لقوانين نظرية الكوانطا. ويتأسس بحث هايزنبرغ على افتراضين داخلي وخارجي؛ الأول يبتدئ "من فيزياء الذرة إلى فيزياء الأجسام الصلبة إلى الكيمياء، وأخيرًا إلى البيولوجيا" [7] ، والاتجاه الثاني هو معاكس للأول؛ إذ يبتدأ بالبحث في الأجزاء الخارجية للذرة لينتهي إلى تحديد أجزائها الداخلية، وقد قاده هذا المنحى في البحث من دراسة النواة إلى تحديد عناصرها الدقيقة، غير أنه رجح الاتجاه الثاني (الخارجي) لحصول فهم دقيق لوحدة المادة، كما حدَّد المراحل التي تم قطعها في التحليل التجريبي للنواة: المرحلة الأولى: حصلت في العقود الأولى من القرن العشرين، فاعتمدت أدوات للإجراء تجارب على النواة، منها "دقائق ألفا" التي تتبعها أجسام إشعاعية، من بينها نموذج رذرفورد 1919؛ حيث استطاع من خلاله أن يقيم تحويل نوى عناصر خفيفة؛ مثال ذلك أنه استطاع أن يحول نواة نتروجين إلى نواة أوكسجين بإلصاق "دقيقة ألفا" بنواة النتروجين، وأطلق منها في الآن ذاته بروتونًا. المرحلة الثانية: تعد حاسمة على مستوى إحداثها لتسريع اصطناعي للبروتون بواسطة "آلات توتر عالٍ" لحد طاقات تكون كافية لتحويل النواة، من نماذج هذا العمل نموذج "كوك كروفت"، و"إرنست والتون"، اللذان استطاعا تحويل نوى عنصر اللينيوم إلى عنصر الهيليوم. لقد مكَّن هذا العمل من تحديد كيفي لبنية النواة، في غاية البساطة، تتألف من نوعين مختلفين من الجسيمات: البروتون والنيتروجين، وتتألف نواة الذرة من عدد من البروتونات والنيتروجينات؛ مثلًا الفحم يتألف من ستة بروتونات وستة نيتروجينات، ومن ثَمَّ صار من الممكن وصف المادة من خلال تحديد عناصرها الكيميائية إلى ثلاثة عناصر أساسية: البروتون، والنيتروجين، والإلكترون. 2- مبدأ اللاحتمية ومآلاته المعرفية: خلص هايزنبرغ من خلال ميكانيكا الكوانطا إلى عدة تحولات جذرية مسَّت أسس العلم الطبيعي والفكر الإنساني، بمعنى أن نتائج فيزياء المعاصرة طالت معرفتنا بالمادة، وأعادت النظر في "المطلقات"، مما نتج عنه "مراجعة أساسية للمفاهيم المتداولة، كمفهوم المادة والجسم والموقع والنقطة المادية" [8] ؛ من ذلك أن ميكانيكا الكوانطا فنَّدت مُسلَّمة اتصال المادة التي قامت عليها الفيزياء الكلاسيكية، عندما أثبت العالم الألماني ماكس بلانك سنة 1900 أن الطاقة مثلها مثل المادة والكهرباء تظهر بصورة منفصلة ومتقطعة؛ أي على شكل حبات ووحدات تسمى في الاصطلاح العلمي بـ( الكوانطم )، كما تمت مراجعة مبدأين أساسيين قامت عليهما الفيزياء الكلاسيكية: الموضوعية، والحتمية، للاعتقاد بأن "للأجسام خواصًّا ضمنية حقيقية، ذات وجود واقعي موضوعي" [9] ؛ أي إن الظواهر "توجد باستقلال عن العالم المجرِّب وعن منهجه وأدواته" [10] ، وكذلك للاعتقاد "أن ثمة اتساق بين نظام الأشياء، وأن جميع الظواهر تخضع لقوانين، وتتقيد بشروط معينة" [11] ، في حين أن الطبيعة - من وجهة نظر هايزنبرغ - ليست في مجملها حاصل منطق سببي، بل إن جزءًا مهمًّا منها محكومٌ بـ"مبدأ عدم اليقين" أو "اللاحتمية"، التي "تكمن في صلب الطبيعة، وأنها ليست مجرد نتيجة لقصور في تكنولوجيا القياس" [12] ، فلم تعد لقوانين الفيزياء الكلاسيكية صلاحية مطلقة، مفهوم السببية؛ إذ يستحيل التنبؤ بمسار الكوانطم، "عدم إمكانية التنبؤ في النظم الكمَّاتية لا يعني الفوضى، فما زالت ميكانيكا الكم تمكننا من أن نحدد بدقة الاحتمالات النسبية للبدائل" [13] . رغم الرفض الذي واجهته هذه الفكرة من قِبَل الأوساط العلمية، خاصة من قِبل آينشتاين حين أعلن قولته الشهيرة: "إن الإله لا يلعب النرد"، مع اعتقاده بإمكانية صحة نظرية الكوانطا، فإن هايزنبرغ أعلن تشبُّثه بتصوره، واعتبر المواقف الرافضة لمبدأ "عدم اليقين" ناتجة عن التشبث بمبادئ النظرية الكلاسيكية للعالم؛ أي الاعتقاد في تناغمه وانتظامه، من ثَمَّ فَقَدَ مفهوم الواقع بوصفه أحد أسس الفيزياء الكلاسيكية أهميته مع نظرية الكوانطا؛ أي لا وجود للواقع الموضوعي في عالم الكوانطم، ومثال ذلك، أن الإلكترون ليس شيئًا ماديًّا بقدر ما أنه ترميز تجريدي لمجموعة من الإمكانات أو النتائج المحتملة للقياسات؛ أي ليس للإلكترون موقع محدد تمامًا، وكمية حركة محددة تمامًا، في غياب ملاحظة فعلية لموقعه أو لحركته. وأثار هايزنبرغ في تأملاته الإبستمولوجية إشكالاتٍ ترتبط بالعلاقة القائمة بين اللغة والواقع، لغاية تبيان أن الواقع العلمي لا علاقة له بالمفاهيم والعبارات المعتمدة عند الجماعة العلمية؛ بحيث وضح أن مشاكل اللغة بشكل عام تكمن في استخدام مفاهيم تخص وقائع الحياة اليومية في مجال مختلف يتعلق بالظواهر الطبيعية؛ أي إن الحقائق التي نبني عليها عالم الخبرة تشير إلى أشياء عينية، في حين أن عالم الذرات أو الجسيمات ليس واقعيًّا، "إنها تشكِّل عالمًا من الإمكانات أو الاحتمالات لا عالمًا من الأشياء والحقائق" [14] ، ومثال ذلك، أن ميكانيكا الكوانطا تستخدم كلمات متداولة (الموجة أو الجسيم أو الموقع)، مع أن معانيها في غاية التعقيد، فقد " ورِثت الميكانيكا الكوانطية عن الفيزياء الكلاسيكية جميع المفاهيم التي استخدمتها هذه الأخيرة في تفسيرها لظواهر عالمنا الواقعي الاعتيادي، ثم نقلت هذه المفاهيم إلى عالم الميكروفيزياء" [15] ؛ لذلك نبه هايزنبرغ أنه في حال ما قادنا الاستعمال الغامض غير المنهجي للغة إلى مشاكل، فعلى الفيزيائي أن يتحول إلى البرنامج الرياضي، وعلاقاته الواضحة مع الوقائع التجريبية، فصار العلم مع ميكانيكا الكوانطا عبارة عن "برنامج رياضي يربط نتائج الملاحظات بطريقة إحصائية" [16] . لقد اعتمد العلماء في الفيزياء النظرية رموزًا رياضية لفهم الظواهر من خلال ربطها بالوقائع، أي بنتائج القياس، "وبهذه الطريقة تكون الرموز إذًا مرتبطة باللغة العادية، ومن ثم ترتبط بعض الرموز ببعض بواسطة نظام صارم من التعريفات والبديهيات" [17] ، فلا يمكن وصف الممارسة العلمية إلا اعتمادًا على اللغة المعتمَدة في الحياة اليومية، يعني أن قوانين العلم تستند على مفاهيم اللغة العادية، وما يتنج عن اتساع المعارف العلمية هو اتساع دائرة المفاهيم العلمية من خلال إدراج مفاهيم جديدة "على هذا النحو نطور لغة علمية يمكننا أن نعدها توسُّعًا طبيعيًّا للغة العادية، إنه توسع لا يتعارض مع المجالات العلمية التي تم التوصل إليها" [18] ، مثلًا المفاهيم المستحدثة في مجال الفيزياء كمفهوم المجال الكهرومغناطيسي ارتبط بالتحول الذي طال التصورات العلمية. خاتمة : هكذا، نتج عن التصور الكوانطي تحولات معرفية كانت بالأساس مراجعة أساسية للمفاهيم المتداولة، من ذلك مفهومي المادة والواقع؛ إذ تم تجاوز التصور الإبستمولوجي الديكارتي المؤسس للعلم الحديث، والقائم على مسلَّمات؛ منها: الاعتقاد في إمكانية تحديد المادة بالشكل والحركة، أي إمكانية وصف حركة الأجسام داخل الامتداد المكاني، لكون الظواهر الميكرفيزيائية يصعب وصفها بناء على معرفة الشكل؛ من ثَمَّ صرنا أمام إبستمولوجيا لاديكارتية تتجاوز فكرة وجود حدس أولي ناتج عن معرفة مباشرة للأشياء لتوفرها على طبائع بسيطة مطلقة، بل صار الحدس الأولي مسبوقًا بـ"دراسة استدلالية"، فلا وجود في العلم المعاصر لظواهر وأحداث بسيطة وبديهية؛ لأن كل ظاهرة هي نسيج علاقات، من ثَمَّ نزع الصيغة المادية الجوهرية عن الكون الفيزيائي، بالانتقال من الواقعية المادية إلى الواقعية الرياضية، علاوة على ذلك، إعادة مساءلة مجموعة من الإشكالات التي تمتد إلى كيفية تفكير الإنسان بغية التخلي عن الصورة الموثوقية للفكر، الخاضعة لمسلمات ناتجة عن هيمنة برادغيم الموضوعية. المراجع : • هايزنبرغ فرينر، الفيزياء والفلسفة، ترجمة صلاح حاتم، دار الحوار والنشر، 2011. • هايزنبرغ فرينر، الفيزياء والفلسفة، ترجمة أحمد مستجير، المكتبة الأكاديمية، 2011، (مقدمة بول دافيس 1989). • عبدالسلام بن عبدالعالي وسالم يافوت، درس الإبستمولوجيا، دار توبقال للنشر، الطبعة الثالثة، 2001. [1] بول دافيس، تقديم لكتاب الفيزياء والفلسفة لفيرنر هايزنبرغ، 1989، ترجمة أحمد مستجير، المكتبة الأكاديمية، ص: 9، [بول تشارلز وليام دافيس: ( Paul Charles William Davies )‏ (1946) عالم فيزياء بريطاني، مجال اهتماماته البحثية هو الفيزياء الكونية والنظرية الكمومية وعلم الفلك البيولوجي]. [2] فيرنر هايزنبرغ: Werner Heisenberg (1901 – 1976) فيزيائي ألماني يعد أحد مؤسسي ميكانيكا الكوانطا، حاز على جائزة نوبل للفيزياء سنة 1932، وأسهمت دراساته وأبحاثه في مجال ميكانيكا الكوانطا في تطوير مجموعة من التقنيات الحديثة المعتمدة في مجال البحث العلمي ( الميكروسكوب الإلكتروني وأشعة الليزر والترانزستور )، كما كان لها وقع على الفيزياء النووية والطاقة النووية . [3] نفس المرجع، ص: 10. [4] نفس المرجع، ص: 10 . [5] فيرنر هايزنبرغ، الفيزياء والفلسفة ، ترجمة صلاح حاتم، دار الحوار للنشر والتوزيع، 2011، ص: 167- 168. [6] نفس المرجع، ص: 174. [7] نفس المرجع، ص: 176. [8] عبدالسلام بن عبدالعالي وسالم يافوت، درس الإبستمولوجيا ، دار توبقال للنشر، الطبعة الثالثة، 2001، ص: 147. [9] نفس المرجع، ص: 111. [10] عبدالسلام بن عبدالعالي وسالم يافوت، درس الإبستمولوجيا ، ص: 111. [11] نفس المرجع، ص: 109. [12] نفس المرجع، ص: 11. [13] نفس المرجع، ص: 12. [14] نفس المرجع، ص: 14. [15] نفس المرجع، ص: 146. [16] بول دافيس، تقديم لكتاب الفيزياء والفلسفة ، لفيرنر هايزنبرغ، ص: 15. [17] فيرنر هيزنبرغ، الفيزياء والفلسفة ، ص: 199. [18] نفس المرجع، ص: 200.
العولمة الإيجابية إن أدبيَّاتِ هذا الموضوع (العولمة) مليئةٌ بصورة مذهلة بالطرح الإيجابي لهذا التوجُّه، كما أن هذه الأدبيات كذلك مليئة بالطرح السلبي لحركة العولمة [1] بالصورة المذهلة نفسها، ومَن يسعى إلى تعضيدِ أيٍّ من الرأيين لن يَعدمَ وجودَ الجدليات المقنعة [2] . لستُ أريد أن أكون من أولئك الذين ينهجون أحدَ النهجين؛ إذ إن هناك موقفًا ثالثًا نسمِّيه في ثقافتنا: "التوقُّف" حتى يتبيَّنَ الأمر، وتكونَ هناك قدرةٌ على الموازنة بين إيجابيات التوجه وسلبياته، مما يعني أنه توجه لا يخلو من الإيجابيات، كما أنه كذلك لا يخلو من السلبيات [3] ، لكن دون المبالغة المُفرِطة في هذا التوقف؛ إذ إن الأحداثَ المتتالية - بسرعة هذا الزمان - لا تسمح لمزيد من التردُّد بحجَّة التوقف. قد يتَّهم بعضُ المتابعين هذا الموقف المتمثِّل في "التوقف" أنه مدعاة إلى مُضيِّ القطار دون اللحاق به، ومع هذا فمن قال: إن العِبرة في ركوب هذا القطار؟ ذلك أنه قطار يمرُّ بعدد من الأنفاق، وقد يؤدي إلى نفق مظلم، يصعُب الخروجُ منه، وقد يكون عدمُ ركوب هذا القطار آمَنَ من ركوبه، لا سيما مع احتمال توقفه معطوبًا في أي لحظة. يصعب تتبُّعُ الوقفات السلبية إزاء العولمة الحديثة، كما يصعب في هذا المجال الضيق تحليلُ بواعثِ الوقفات السلبية، إلا أن التتبع لأدبيات العولمة ركز هذه النظرة السلبية، التي لا تقوم - بالضرورة - على منطلق التحفُّظ لدوافع ثقافية فحسب، بل إن من دوافعها عدمَ الرضا على المدِّ الغربي، الذي يُراد له أن يكون بديلًا لِما تنادي به بعضُ التيارات المحلية أو الإقليمية، إلى درجة الدعوة إلى "العولمة المضادة" من منطلَق فكري، يوحي بالرغبة في تسجيل مواقفَ ضد توجه فكري آخرَ قادمٍ من الآخر [4] . لقد أسهم خمسة عشر كاتبًا في ندوة العولمة والتحوُّلات المجتمعية في الوطن العربي، التي عقدها مركزُ البحوث العربية والجمعية العربية لعلم الاجتماع في القاهرة 1419هـ/ 1998م، ولقد جاءت إسهاماتُهم لتصبَّ في هذه النظرة السلبية تجاه العولمة، رغم ما ظهرت به بعض الأطروحات من أسلوب "جلد الذات" [5] . لعلَّ من المناسب هنا تبنِّي الدعوة التي أطلقها عبدالله بن يحيى المعلمي في ورقة له عن: الاقتصاد والثقافة في الوطن العربي: نظرة مستقبلية؛ إذ يعرِض لثلاثة مواقف من العولمة: الانغلاق الكامل، أو الاندفاع نحو الانفتاح، أو تقبُّل الانفتاح ومواجهة التحديات بالعمل "على بناء المؤسَّسات الوطنية، والفكر الذاتي القادر على التعامل مع معطيات العصر، والاستفادة من رياح العولمة والتأثير فيها..." [6] . لا يتنافى هذا الموقف مع ما ينادي به بعضُ كتَّابِنا ومفكِّرينا من ضرورة الحفاظ على "الخصوصية الثقافية" [7] بمفهومها المعياري، وليس بالضروري في جانبها الوصفي؛ إذ إن هذه الخصوصية هي التي تدعو إلى الموقف المتوازن. يركز (أرنولد سيميل) في مقالة له عن: الخصوصية، نُشرت في المجلَّد الثامن من الموسوعة الدولية للعلوم الاجتماعية 1968م - على الجانب المعياري للخصوصية أكثر من الجانب الوصفي؛ إذ يقول: "إن الخصوصية مفهومٌ يتعلَّق بالعُزلة، والسِّرية، والاستقلال الذاتي، ولكنها ليست مرادفة لهذه المصطلحات؛ فوق الجوانب الوصفية البحْتةِ للخصوصية؛ مثل: العزلة عن صحبة وفضول وتأثيرِ الآخرين - تنطوي الخصوصيةُ على عنصر معياري، هو: الحقُّ في التحكُّمِ المطلق في الوصول إلى العوالم الخاصَّة" [8] . السعيُ إلى اختراق أو خطف الخصوصية الثقافية بسبب العولمة - نتج عنه مقاومةُ العديد من الدول - خاصَّة النامية - للعولمة، "أو على الأقلِّ عدم الاستسلام لشروطها القاسية؛ انطلاقًا من الشعور لدى الكثيرين من أبناء الدول بأن العولمة تستهدف القضاءَ على خصوصياتهم الثقافية وتميزهم الحضاري، ولِما ترى لها من أثرٍ في تقليص السيادة الوطنية في مجال صنع السياسات الاقتصادية وغيرها، وخشية التعرُّض للصدمات الخَطِرة، كما حصل لبعض هذه الدول" [9] . يقول إبراهيم بن محمود حمدان: "تقتضي الحكمةُ ألَّا نحصرَ أنفسَنا بين رفض العولمة أو قَبولها؛ فهي ليست مشكلةً عابرةً يُجاب عنها بنعم أو لا، بل دعنا نتعامل معها بشفافية كبيرة، ووعي وكِياسة، ولغة لا تخلو من واقعية، تضمن هامشًا لخصوصيتنا الثقافية ومنظومتِنا القِيميَّة" [10] . هذه الدعوةُ إلى الخصوصية الثقافية ليست وليدةَ المجتمع العربي المسلم، بل إن اليابان والصين وفرنسا، بل وكندا قبل ذلك - تشبَّثت بما أسمَتْه "الاستثناء الثقافي" في ضوء هذا الزَّحف القادم من وراء البحار. [1] انظر: نعوم تشومسكي وآخرين، العولمة والإرهاب: حرب أمريكا على العالم؛ السياسة الخارجية الأمريكية وإسرائيل/ ترجمة حمزة بن قبلان المزيني، القاهرة: مكتبة مدبولي، 2003م - ص 276، وقد اشترك مع المؤلِّف في هذا الكتاب كلٌّ من نورمان فينكلشتاين، وتيم وايز، وسانتياجو أبلاريكو، وروبرت فيسك، وهاواردزن، ودينيس كوتشينيتش، وكان نصيب تشومسكي ثمانيَ مقالات. [2] انظر في نقاش البعد الثقافي للعولمة كلًّا من: سعيد بن سعد المرطان، البعد الثقافي لمنظمة التجارة العالمية - وعبدالله السيد ولد أباه، مستقبل الثقافة العربية بين تحديات العولمة وانفصام الهوية - وإحسان علي بوحليقة، تطورات اقتصادية مؤثرة على مستقبل الوطن العربي: الحالة السعودية - وعبدالله بن يحيى المعلمي، الاقتصاد والثقافة في الوطن العربي: نظرة مستقبلية - وحسن بن فهد الهويمل، الثقافة وتحديات العولمة، وقد وردت في: ندوة مستقبل الثقافة في العالم العربي، الرياض: مكتبة الملك عبدالعزيز العامة، 1423هـ/ 2002م - ص 415 - 560، وقد ضمَّن السيد ولد أباه هذا البحث في كتابه: اتجاهات العولمة: إشكالات الألفية الجديدة - مرجع سابق - ص 161 - 190 - (الفصل السابع). [3] انظر: موضوع الجدل المستمر حول سلبية العولمة أو إيجابياتها في: نجاح كاظم، العرب وعصر العولمة: المعلومات؛ البعد الخامس، الدار البيضاء، المركز الثقافي العربي، 2002م - ص 161 - 170. [4] انظر: عبدالسلام المسدي، العولمة والعولمة المضادة، القاهرة: مجلة سطور، 1999م - ص 338 - 356. [5] انظر: عبدالباسط عبدالمعطي (محرر): العولمة والتحولات المجتمعية في الوطن العربي، القاهرة: مكتبة مدبولي، 1999م - ص 392. [6] انظر: عبدالله بن يحيى المعلِّمي، الاقتصاد والثقافة في الوطن العربي: نظرة مستقبلية، ص 497 - 523. في: ندوة مستقبل الثقافة في الوطن العربي، مرجع سابق. [7] انظر: السيد ولد أباه، اتجاهات العولمة، الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، 2001م، ص 171 - 177. [8] نقلًا عن فريد هـ. كيت، الخصوصية في عصر المعلومات/ ترجمة محمد محمود شهاب، القاهرة: مركز الأهرام للترجمة والنشر، 1420هـ/ 1999م - ص 34. [9] انظر: إبراهيم الناصر، العولمة: مقاومة واستثمار، الرياض: مجلَّة البيان، 1426هـ - ص 41، (سلسلة كتاب البيان). [10] انظر: إبراهيم بن محمود حمدان، عولمة اللغة ولغة العولمة، ص 1401 - 1437، في جامعة الملك سعود، ندوة العولمة وأولويات التربية، 3 مج، الرياض: الجامعة، 1427هـ - ص 1714.
غزوة الخندق وسُميت الأحزاب لاشتراك عددٍ من القبائل في هذه الغزوة مع قريش، وسببها أن نفرًا من يهود من بني النضير منهم: عبدالله بن سلام بن أبي الحقيق، وحيي بن أخطب، وكنانة بن الربيع وغيرهم، حزَّبوا الأحزاب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقدم هؤلاء إلى مكة، وحرَّضوهم على حرب المسلمين واستئصالهم، وقالوا لهم: نكون معكم حتى نستأصله، فأجابوهم إلى ذلك ثم أتوا على غطفان فدعَوهم إلى حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخبروهم أن قريشًا معهم على ذلك، فأجابوهم، فخرجت قريش وقائدها أبو سفيان بن حرب، وخرجت غطفان وقائدها عيينة بن حصن في بني فزارة، والحارث بن عوف في مرة، ومسعر بن رخيلة في أشجع. فلما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بحفر الخندق الذي أشار به سلمان الفارسي، وعمل الجميع في حفر الخندق، بما فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد قسموا المسافة بين الصحابة عشرة عشرة، ولكل عشرة أربعون ذراعًا، وجدَّ الجميع في الحفر وتنافسوا في العمل، ما عدا المنافقين الذين اصطنعوا الأعذار وتسللوا هربًا من العمل، وخرجت على مجموعة سلمان صخرة مروة كسرت معاولهم، وما استطاعوا معالجتها ولا المحيد عنها، فشكوا أمرها إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فهبط إليها وأخذ المعول وضرب الصخرة ضربة فانصدعت وبرقت منها برقة أضاءت ما بين لابتي المدينة - اللابة: جبل صغير بركاني - فكبَّر رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون، ثم الثانية كذلك والثالثة، فانصدعت تمامًا وخرج من الخندق وقد بشرهم بشارات مفرحة، ففي البرقة الأولى أضاءت قصور الحيرة وبشَّرهم بفتحها، وفي الثانية أضاءت قصور الشام وبشرهم بفتحها، وفي الثالثة أضاءت قصور صنعاء وبشرهم بفتحها، وقد حصل كل ذلك فيما بعد، غير أن المنافقين كانوا يشككون في هذا ويثبطون عزيمة المسلمين بكلام فيه الشك والريبة، غير أن المسلمين واثقون من تحقق ما أخبرهم به رسولهم صلى الله عليه وسلم.
موسى عليه السلام (8) جَمَع فرعونُ مهرةَ السحرة من جميع مدائن مصر، وقد كان السِّحْر يومَها هو أهم أهداف التعليم في بلادهم، وقد كانوا بلغوا فيه مبلغًا لم يصِلْه أحدٌ من قبلهم، ولم يُعرف أنه وصل إليه أحدٌ من بعدهم، وقد جرَت السُّنَّة الإلهية في أن يبعث الله كلَّ نبيٍّ بمعجزة تفوق أعلى درجات العلم الذي برع فيه قومه؛ ليكون أظهر للحق، ويعرفوا أنه من عند الله، وأنه لا يقدر على مثله البشر؛ ولذلك أرسل محمدًا صلى الله عليه وسلم بالقرآن، وجعله معجزته الكبرى؛ لأنَّ قوم محمد صلى الله عليه وسلم قد برعوا في الفصاحة والبيان والبلاغة حتى أقاموا للخطباء والشعراء منابرَ في أسواق عكاظ ومجنة وذي المجاز. وكما أرسل عيسى عليه السلام بإبراءِ الأكمَه والأبرص وإحياء الموتى بإذن الله؛ لأن قومه قد بلغوا في الطبِّ شأوًا لم يسبقوا إليه، وقد وصف الله تبارك وتعالى ما كان من موسى والسحرة ومن فرعون وملئه، وكيف سارع السحرةُ إلى الإيمان بموسى عليه السلام عندما ألقوا حبالهم وعصيَّهم، وخُيِّل إلى موسى عليه السلام أنها تَسعى، وأنه أوجس وأحسَّ في نفسه بالخوف، فطمأنَه الله عز وجل وأمره أن يُلقي عصاه، فانقلبت حيَّةً هائلة، وابتلعت جميع ما صنعوا، فأيقن السحرة أنَّ هذا لا يقدر عليه إلا الذي خلق القُوى والقدرة، فخرُّوا لله ساجدين معلِنين إيمانهم بالله ورسله، صابرين على كل بلاء يصيبهم في مرضاة الله عز وجل، وفي ذلك يقول الله تبارك وتعالى في سورة الأعراف: ﴿ وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ * قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ * قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ * قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ * وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ * فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ * وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ * قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ * قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ * لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ * قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ * وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ ﴾ [الأعراف: 113 - 126]. وقال تعالى في سورة يونس: ﴿ فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ * فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ * وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ ﴾ [يونس: 80 - 82]. ويقول تعالى في سورة طه: ﴿ فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى * قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى * فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى * قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى * فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى * قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى * قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى * فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى * قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى * وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى * فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى * قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى * قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى ﴾ [طه: 60 - 73]. وقال تعالى في سورة الشعراء: ﴿ فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ * وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ * لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ * فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ * قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ * قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ * فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ * فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ * فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ * قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ * قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ * قَالُوا لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ * إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [الشعراء: 38 - 51]. وفي قوله تعالى في سورة الأعراف: ﴿ قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ ﴾ [الأعراف: 115]، وقوله تعالى في سورة طه: ﴿ قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى ﴾ [طه: 65]، إشعارٌ بأن الله إذا أراد إظهار حجته هيَّأ أسباب هذا الإظهار، ووفق موسى عليه السلام إلى أن يطلب منهم أن يكونوا هم البادئين بالإلقاء، حتى جاؤوا بهذا السِّحر العظيم الذي خوَّف الناس حتى موسى عليه السلام، ثم ألقى موسى عصاه وهي واحدة فانقلبت حيَّة هائلة تبتلع وتلقف جميعَ حبالهم وعصيهم التي انقلبت حيات تجري هنا وهناك، ليكون ذلك أتمَّ في باب إظهار هذه المعجزة القاضية على إفكهم وسحرهم وباطلهم. وفي قوله تعالى: ﴿ فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ ﴾ [الأعراف: 119] إشعارٌ بما لَحِق فرعون وقومه من المهانة والذِّلَّة والصَّغَار عند ظهور هذه المعجزة. وفي قوله تعالى: ﴿ وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ ﴾ [الشعراء: 46] إشعار بأنَّ هؤلاء السَّحرة قد سارعت إلى قلوبهم أنوارُ الحق، فلم يتردَّدوا في الانقياد لله، والإذعان لدينه والإيمان برسله، وقد خالطت بشاشةُ الحق شغافَ قلوبهم؛ لأنهم أعرف القوم بأن ما جاء به موسى ليس سحرًا. وفي قوله تعالى: ﴿ قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ ﴾ [الأعراف: 123] إشعار بأنَّ فرعون أيقن أن ما جاء به موسى هو الحق من عند الله، غير أن شقوته جعلته يحاول الإبقاءَ على بعض سلطانه حتى في إيمان من يشرح الله صدره للإسلام. وفي قوله تعالى: ﴿ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا ﴾ [الأعراف: 123]، وفي قوله: ﴿ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ ﴾ [طه: 71] إشعار بتخبُّط فرعون في إلصاقِ التُّهم بهؤلاء المؤمنين لتضليل قومه ومحاولة صرفهم عن هذا الحقِّ الأبلج، وما كيد فرعون إلَّا في ضلال.
العولمة والقوَّة هناك من ينظر إلى العولمة على أنها: "أفكار القوة، وهي نماذجُها الثقافية والحضارية، وهي لسوء حظِّنا وحظ أمثالنا تسير دائمًا في اتجاه واحد، ولم نرَ مطلقًا أنها سارت في الاتجاهين: الذهاب والإياب؛ لذا فإن العولمةَ بتعبير بسيط آخر هي: أُكذوبةُ القويِّ على الضعيف، وهي استدراجٌ له إلى ساحاتٍ معقَّدة من ساحات التعايش الممكن، في الوقت الذي يعلم فيه أنه لا يُدرِك من قوانين الساحات أيَّ شيء" [1] ، إنها الهيمنةُ أُلبست لباسَ العولمة، كما الحال مع الأفكار التي يُراد فرضُها، فيُعمد إلى تسميتِها بإطلاقات مقبولة، بل إنها تجد - لحداثتها - مَن يدعو لها من أولئك المستهدَفين بها. يُشير المنتدون في ندوة المنتدى العالمي حول العولمة والتجارة العالمية إلى أنَّه "قد تبيَّن بالممارسة أن منظمة التجارة العالمية جهة مضمونةٌ اتفاقياتُها، وجهة آلياتُ عملِها منحازة بالكامل لصالح الشركات الكبرى ورأس المال العالمي، وهي لا تولي أي أهمية لفكرة العدالة الدولية، ولمصالح البلدان النامية، ولمصالح شعوب بلدان الشمال نفسها، وهي تتناقض بشدَّة مع تحقيق التنمية، ومع حقِّ الشعوب فيها" [2] . يخرج المنتدون بعد ذلك بسبع توصياتٍ، كلُّها تصبُّ في التوكيد أن العولمة تسير في اتجاه واحد، ومع هذا فالعولمة ليست شرًّا كلها، مهما ظهر هذا التوجُّس في الطرح الرافض لفرضها من جهة خارجية مهيمنة، يؤيِّد هذا التوجُّه محمد الجوهري حمد الجوهري بقوله: "في الحقيقة، العولمةُ ليست نبتًا طبيعيًّا نشأ دون تدخل من أحد؛ فالدول الرأسمالية المتقدِّمة هي التي صنعت العولمة... فالعولمة - إذًا - نظام موضوع بواسطة أمريكا والدول المتقدمة، وكما أن له فوائدَ عظيمةً لأمريكا والدول المتقدمة، فإن له فوائدَ أيضًا للدول النامية التي تشارك في مِضمارِ المنافسة الاقتصادية، ونتيجة لاستعمال الإنترنت، وشبكة المعلومات، والحواسب، وتكنولوجيا المعلومات" [3] . تميَّز هذا الطرح بوجود فوائد من العولمة للدول النامية، بخلاف طروحاتٍ عديدة ترى أن العولمة كلَّها شرٌّ للدول غير المتقدمة. وجود فوائد ظاهرة، في مقابل وجود أضرار، جعل العولمةَ تسيح في هذا الميدان من الجدلِ بين القَبول المطلق والرفض المطلق. المهمُّ هنا هو التوكيد أنَّ ما في العولمة من أضرار أو سلبيات لا يقتصر على الدول النامية كما هي لهجةُ الرافضين للعولمة لأنها جاءت من الدول المتقدمة، أو من الغرب؛ أضرار العولمة وسلبياتها تنسحب على دول العالم كلها، متقدمة ونامية، كما هي الحال في فوائدها وإيجابياتها. الذين يتظاهرون ضد العولمة كلَّما عقدت منظمةُ التجارة العالمية لقاءً شاملًا - ليسوا من الدول النامية، ولكنهم في جملتهم من أولئك الذين يخشَون على المجتمع الإنساني من أن يتحوَّلَ إلى آلة إنتاجية، تتضاءل فيه الروح الإنسانية، وتختفي - إن أمكن - العواطفُ والأحاسيس والروحانيات، وقد يكون في هذا الفعل مبالغةٌ في مصادرة الفوائد والإيجابيات. الذي يبدو أن هذه المظاهرات والمؤتمرات المضادَّة لم تُغفِل الأبعادَ الإيجابية، ولكنها - ضمنًا - تُغلِّب القاعدةَ الأصولية: درءُ المفاسد مقدَّمٌ على جلب المصالح. قد لا تظهر هذه الفوائدُ أو تلك الإيجابيات في الدول النامية، كما تظهر لدى مَن صاغ العولمةَ فكرًا وصدَّرها، وربما يتدخَّل الحاجزُ النفسي وهاجس الرفض في غموض الفوائد والإيجابيات، ولا تملِك هذه الوقفات القدرةَ والتأهيل على وزنِ الفوائد والإيجابيات بالأضرار والسلبيات في كلا القطبين: الدول المتقدِّمة والدول النامية، إلا أنَّ القاعدة التي لا بد من استحضارها في توجُّهات العولمة هي أن تقومَ على مصالح الناس كافَّة، وأن تصبَّ أحكامها في هذه المصالح؛ تطبيقًا للقاعدة الأصولية الأخرى: مقاصد الأحكام مصالح الأنام، أما إذا أخفقت العولمةُ في تحقيق ذلك لم تعُدْ عولمة. [1] انظر: فهد العرابي الحارثي، موقعنا في الكونية الإعلامية الجديدة (العولمة والفضائيات العربية)، محاضرة - مرجع سابق - ص 41. [2] انظر: المستقبل العربي، تقرير عن ندوة المنتدى العالمي حول العولمة والتجارة العالمية: بيروت 5 - 8 تشرين الثاني/ نوفمبر 2001م - المستقبل العربي - ع 474 مج 24 (كانون الأول/ ديسمبر 2001م) - ص 183 - 186. [3] انظر: محمد الجوهري حمد الجوهري، العولمة والثقافة الإسلامية، القاهرة: دار الأمين، 1422هـ - 2002م - ص 90 - 91.
إلحاد الخوارج في الآيات قديما وحديثا ل خالد بن عبدالله المصلح صدر حديثًا كتاب "إلحاد الخوارج في الآيات قديمًا وحديثًا"، تأليف: أ.د. "خالد بن عبدالله المصلح"، نشر: "مكتبة الرشد للنشر والتوزيع". جمع الكاتب في هذه البحث ما تيسر من بيان إلحاد الخوارج في الآيات المتعلقة بالإمامة والولاية ونماذج ذلك، وسبل علاجه، فالخوارج لهم قدم راسخة في الإلحاد في آيات الله والجهل بمعانيها، فقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم" فحظهم منه قراءة ألفاظه بألسنتهم دون أن تصل معانيه إلى قلوبهم، وهذا من أعظم أسباب الإلحاد في آيات الكتاب. وتناول الكاتب هذا الموضوع من خلال المباحث التالية: المبحث الأول: الإلحاد في آيات الله: معناه وصوره وعقوبته. المبحث الثاني: إلحاد الخوارج في آيات الله ونماذجه. المبحث الثالث: سبل إبطال إلحاد الخوارج في آيات الله. خاتمة في أهم نتائج البحث. ونجد أنه لعظيم إلحاد الخوارج في آيات القرآن، وضلالهم في فهم معانيه وانطماس بصائرهم عن هداياته، وإدراك مقاصده، أوصى علي - رضي الله عنه - ابن عباس - رضي الله عنهما - لما أرسله ليناظر الخوارج، فقال له: "اذهب إليهم، فخاصمهم، ولا تحاجَّهُم بالقرآن، فإنه ذو وجوه، ولكن خاصمهم بالسنة". وجاء نظير ذلك في وصية الزبير لابنه، حيث قال: "لا تخاصم الخوارج بالقرآن، خاصمهم بالسنة"؛ وذلك أن السنة بيان القرآن وتفسيره وترجمانه. والخوارج ممن حذرنا منهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قوله: "إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه، فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم"، وذلك في قول الله تعالى: ﴿ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ﴾ [آل عمران: 7]. قال ابن عباس: هم الخوارج، وروي هذا مرفوعًا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - من حديث أبي أمامة - رضي الله عنه -، ونقل هذا عن قتادة والحسن. ومن نماذج إلحادهم: استدلالهم بقول الله تعالى: ﴿ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ ﴾ [يوسف: 67] على تكفير علي - رضي الله عنه - وبقية أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - في قضية التحكيم، وكانت هذه الآية أول كلمة خرجوا بها على أهل الإسلام، وقد انتزعوها من القرآن وحملوها على غير محملها. ومن نماذج إلحادهم: استدلالهم بقول الله تعالى: ﴿ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ﴾ [المائدة: 44]على كفر من حكم بغير الحق مطلقًا، فقالوا: إن عثمان وعليًا ومن والاهما قد حكموا بغير ما أنزل الله، وكفروهم بهذا، وقالوا في علي - رضي الله عنه -: إنه حكم الرجال في دين الله، ومن حكم الرجال في دين الله فقد حكم بغير ما أنزل الله فيكون كافرًا، ومن تولى الكافر فهو كافر؛ لقوله: ﴿ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ ﴾ [المائدة: 51]، وبذلك لم يفرقوا في الحكم بغير ما أنزل الله بين من حكم به هوىً ومعصيةً، وبين من بدل حكم الله أو جحده أو أدخل التحاكم إلى غيره عدولًا عنه أو تفضيلًا له. ومن نماذج إلحادهم: استدلالهم بقول الله: ﴿ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ ﴾ [الأنعام: 1] فقد قرنوها بقوله تعالى: ﴿ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ﴾ [المائدة: 44] فقالوا: من حكم بغير ما أنزل الله فقد كفر، ومن كفر فقد عدل بالله غيره، ومن عدل بالله غيره فقد أشرك. ومن نماذج إلحادهم: استدلالهم بقول الله: ﴿ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ ﴾ [الأنعام: 121] على أن طاعة الأمراء وولاة الأمور كفرٌ وشركٌ، فمن أطاع أميره فإنه داخل في هذه الآية. ومن نماذج إلحادهم: استدلالهم بنصوص تحريم موالاة الكفار نحو قول الله تعالى: ﴿ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ ﴾ [المائدة: 51] على التكفير بأي موالاة على أي وجه كانت، ومن ذلك تكفيرهم من تولى عليًا، فقالوا: من تولى عليًا فهو كافر! ومن نماذج إلحادهم: استدلالهم بقول الله تعالى: ﴿ بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ ﴾ [الزخرف: 58] في الامتناع من ابن عم رسول الله ابن عباس لما بعثه علي مناظرًا، فهذا ضرب من اتباع ما تشابه من الكتاب ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله. ومن نماذج إلحادهم: استدلالهم بقوله تعالى: ﴿ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا ﴾ [نوح: 26] على مشروعية قتل أطفال من كفروهم من المسلمين؛ حيث ألحقوهم بآبائهم، وقالوا: إن بقر بطون النساء عن الأجنة حلال، وكل هذا مما كان يقول به نافع بن الأزرق، وهو من كبار الخوارج في زمن الصحابة. ومن نماذج إلحادهم: استدلالهم بقوله تعالى: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ ﴾ [البقرة: 204] على كفر علي - رضي الله عنه - بسبب التحكيم، وأنها إنما نزلت فيه! ومن نماذج إلحادهم: تلاوة عبد الرحمن بن ملجم قوله تعالى: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ ﴾ [البقرة: 207] لما ضرب عليًا - رضي الله عنه - يتأولها على نفسه وقبيح صنعه. وبيَّن الكاتب في رسالته سبل إبطال إلحاد الخوارج في آيات الله، وإن كان قد وقع في إسقاط مسمى لفظ "الخوارج" على بعض الحركات المعاصرة الضالة، معينًا إياهم بالاسم! والمؤلف هو د. "خالد بن عبد الله بن محمد المصلح" (ولد في مدينة مكة سنة 1385 هـ / 1965 م) يعمل مفتيًا وأستاذًا للفقه بكلية الشريعة بجامعة القصيم في السعودية، وهو إمام وخطيب جامع العليا بمحافظة عنيزة - القصيم. ورئيس لجنة طلبة العلم في جامع الشيخ ابن عثيمين، وعضو اللجنتين العلمية والإعلامية في التوعية في الحج، وعضو رابطة العالم الإسلامي وغيرها من العضويات. ومفتيًا في برنامج "يستفونك" على قناة الرسالة. حصل على بكالوريوس في نظم المعلومات في كلية الإدارة الصناعية من جامعة الملك فهد للبترول والمعادن. بعد ذلك التحق بكلية الشريعة التابعة لجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية فرع القصيم وحصل منها على البكالوريوس. بعد ذلك حصل على الماجستير لرسالته بعنوان "الحوافز المرغبة في الشراء وأحكامها في الفقه الإسلامي"، ثم على الدكتوراه في الفقه عن رسالته بعنوان "أحكام التضخم النقدي في الفقه الإسلامي". حفظ القرآن على يد محمد بن سلمان السلمان، وفي سنة 1403 هـ بدأ دراسته لدى محمد بن صالح العثيمين وفي سنة 1408 هـ أصبح ملازمًا له، وقرأ عليه في التفسير والحديث وأصول الدين والفقه والأصول واللغة. قرأ الفقه على كل من الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن البسام والشيخ عبد العزيز بن علي المساعد. قرأ في النحو والأدب على الشيخ علي بن محمد الزامل، وقرأ في النحو على عبد الله بن صالح الفالح، كما تواصل مع الشيخين عبد العزيز بن باز ومحمد ناصر الدين الألباني. له العديد من الكتب والتحقيقات والشروح منها: 1. "الأطعمة المعدلة وراثيًا - رؤية شرعية". 2. "رؤية شرعية في تحديد سن ابتداء الزواج". 3. "هدايا العمال والموظفين ضوابطها وتطبيقاتها المعاصرة". 4. "إخبار الطبيب أحد الزوجين بنتائج الفحوص الطبية للآخر - رؤية شرعية". 5. "التسويق الشبكي رؤية شرعية". 6. "النوازل الفقهية عند الشيخ ابن عثيمين - دراسة تأصيلية تطبيقية". 7. "الحلول المقترحة لحل مشكلة الأراضي البيضاء - رؤية شرعية". 8. "أحكام الإحداد". 9. شرح "العقيدة الواسطية" من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية. 10. تحقيق: شرح منظومة "القواعد الفقهية" للشيخ السعدي. 11. "الأطعمة المعدلة وراثيًا - رؤية شرعية". 12. "رؤية شرعية في تحديد سن ابتداء الزواج". 13. "شرح العقيدة الطحاوي". 14. "شرح الورقات في أصول الفقه". 15. "حصاد المنابر".
الجمال ما معنى الجمال؟ تعريفه: هو صفة تلحَظ وتستحسنها النفوس السوِيَّةُ، والجمال ضد القبح؛ وهو الحسن والزينة؛ ومنه الحديث: ((إن الله جميل يحب الجمال))؛ أي: حسن الأفعال، كامل الأوصاف. واصطلاحًا: حسن الشيء ونضرته وكماله على وجهٍ يليق به، ومعنى ذلك: أن كل شيء جماله وحسنه كامن في كماله اللائق به، الممكن له، فإذا كان جميع كمالاته الممكنة حاضرة، فهو في غاية الجمال، وإن كان الحاضر بعضها، فله من الحسن والجمال بقدر ما حضر. قال تعالى: ﴿ وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ ﴾ [النحل: 5، 6]. ما هي مقومات الجمال؟ لكي يكون الشيء جميلًا، لا بد أن يتضمن الأمور الآتية: 1- السلامة من العيوب؛ قال تعالى: ﴿ أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ ﴾ [ق: 6]، فقد نصَّتِ الآية على جمال السماء وزينتها، وأنها سالمة من الشقوق، وما ذلك إلا نفيًا للعيوب عنها، وتأكيدًا على جمالها. 2- التناسق والتنظيم؛ قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ ﴾ [الانفطار: 6 - 8]. 3- النص والتعيين، فقد يخفى على الإنسان وجه الجمال في شيء من الأشياء، لا لخلل يرجع إلى الشيء نفسه، أو كونه فاقدًا للتناسق والتنظيم، ولكن لكون الإنسان عاجزًا عن إدراكه، وقاصرًا عن الإحاطة به، ولعل مجال الجمال المعنوي أكبر دليل على ذلك. ما هي أنواع الجمال؟ 1- جمال حسي: وهو الذي يُدرَك بالحس، كجمال الطبيعة، وجمال الإنسان. 2- جمال معنوي: ويتمثل في أمور كثيرة، لا تُدرَك بالحس والرؤية، ولكنها تُدرَك بالعقل الواعي، والبصيرة المفتوحة؛ مثل: الأقوال والألفاظ الطيبة؛ قال تعالى: ﴿ وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ﴾ [فصلت: 33]، والأفعال، والفعل قرين القول. ما هو الجمال الحقيقي؟ الجمال الحقيقي هو جمال الجوهر، وجمال النفس، وجمال الروح، وجمال الخُلُق، وجمال العقل، فإذا انضم إلى هذا الجمال جمال المظهر، فما أجمل الإنسان إذا سرَّك مظهره ومخبره معًا! غير أن جمال النفس ومظهرها وسموَّها هو المقدَّم، وهو الأعلى قيمة، والأبعد أثرًا، وعليه مدار التفاضل الحقيقي؛ حيث يقول نبينا صلى الله عليه وسلم: ((إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم)). هل ما يفعله بعض الناس من اللهث وراء البحث عن الجمال الخارجي إلى حدِّ الهوس وعمليات التجميل - فعلٌ صحيح؟ وما أسباب ذلك؟ بالطبع غير صحيح، وتعود معظم الأسباب إما إلى مرض نفسي؛ حيث يعتقد معظم الأشخاص بأنهم يمتلكون جسدًا غيرَ سَوِيٍّ، ينقصه بعض الجمال، أو حتى قبيحًا، أو لعدم الرضا من البعض بما كتبه الله له من جمال، وقد يكون وفرة المال ووقت الفراغ والتَّرف، والنظر في وسائل الإعلام والمواقع والتطبيقات هو السبب الأكبر وراء ذلك. يقول الشيخ ابن باز رحمه الله عند سؤاله عن عمليات التجميل: "إذا كانت الجراحة لا تغير شيئًا مما أمر الله ببقائه فلا بأس، وحصول الجمال من دون أن يخالف أمر الله في شيء من ذلك، فلا حرج في ذلك، والرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن الوشم، ونهى عن الوصل، ولم يَنْهَ عن التجمُّل، نعم، إن الله جميل يحب الجمال"؛ [بتصرف]. هل ورد النهيُ عن عمليات التجميل؟ نعم، ورد ذلك مثل: 1- وصل الشعر والوشم؛ جاء عن ابن عمر رضي الله عنه: ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن الواصلة والمستوصلة، والواشمة والمستوشمة))؛ [أخرجه البخاري]. 2- تفليج الأسنان. 3- النمص. قال صلى الله عليه وسلم: ((لعن الله الواشمات والمستوشمات، والنامصات والمتنمِّصات، والمتفلِّجات للحسن المغيِّرات خَلْقَ الله))؛ [رواه البخاري]. اعلم - أيها المسلم - أن الجمال الحقيقي هو جمال النفس، وسلامة الصدر، وراحة البال، وليس مقياس الناس بجمال ظواهرهم، بل بما أكنَّته قلوبهم، وهذا رسولنا صلى الله عليه وسلم يقول لبلال بن رباح رضي الله عنه: ((... فإني سمعت دَفَّ نعليك بين يدي في الجنة))، وهو عبد حبشي رضي الله عنه، وقال صلى الله عليه وسلم: ((لا يدخل الجنة مَن في قلبه مثقال ذرة من كِبْرٍ، فقال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنًا ونعله حسنةً، قال عليه الصلاة والسلام: إن الله جميل يحب الجمال، الكِبْرُ بَطَرُ الحق وغَمْطُ الناس)). نسأل الله الجميل أن يُجمِّلنا بستره وعفوه ومغفرته، والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد. المراجع: موقع ابن باز، موقع الدرر السنية.
العولمة: المفهوم المضطرب ينبغي أن نسعى إلى فَهم العولمة الفَهمَ الذي يخدمنا في منطقتنا، ولا يجرُّنا إلى التخلِّي عن عقيدتِنا وثقافتنا، وتقاليدنا وعاداتنا الحميدة المقبولة دينًا وعقلًا، ومع هذا كلِّه، فما المقصود بالعولمة؟ الملحوظ أن هناك تعريفاتٍ كثيرةً ومتعدِّدةً للعولمة؛ لأنَّ كُلًّا يدَّعِي وَصْلًا بِلَيلَى، وكُلًّا - كذلك - يغنِّي على لَيلَاه [1] ؛ إذ إن للعولمة صورًا مختلفة؛ منها: العولمة الثقافية، والعولمة الاتِّصالية، والعولمة الاقتصادية، والعولمة السياسية [2] . أخشى أن يكون هناك تداخُلٌ وخلط لدى بعض المهتمِّين بالعولمة دون التفريق بين صورها وتداعيات هذه الصور على مدى قَبول العولمة ورفضها؛ على أنه مع هذا التوجُّه لقبول العولمة على علاتها، فإن (عبدالجليل كاظم الوالي) يؤكد أنه فيما يتعلَّق بالقوى العاملة "ليست هناك عولمةٌ حقيقية على مستوى انتقال قوةِ العمل البشري؛ فالقيودُ التي تمارسها الدولُ الرأسمالية، والعراقيلُ التي تضعُها أمام انتقالِ أو هجرة قوة العمل البشري - توحي بأنه لم تكن هناك عولمة على صعيد قوة العمل" [3] . كذلك افتراضُ العولمة "وجود عمالة كاملةٍ، أو شبهِ كاملة في الاقتصاد، وسهولة انتقال القوى العاملة ضمن الدولة الواحدة من عمل لآخر، وسهولة تكيُّفِها مع العمل الجديد، فإذا حدثت بطالة في صناعة النسيج - بسبب تعرُّضها لمنافسة خارجية - يمكن للعاملين في هذه الصناعة أن يجدوا عملًا في زراعة القطن مثلًا، فافتراض العمالة الكاملة غير واقعي" [4] . يُعرِّف الاقتصاديون العولمةَ على أنَّها: "حركة تستهدف تحطيمَ الحدود الجغرافية والجمركية، وتسهيلَ نقل الرأسمالية عبر العالم كسوقٍ كونية" [5] . السياسيون يقولون عنها: إنها "التداخل الواضح لأمور الاقتصاد والاجتماع والسياسة والثقافة والسلوك، دون اعتدادٍ يُذكر بالحدود السياسية للدول ذاتِ السيادة، أو الانتماء إلى وطن محدَّد، أو دولة معيَّنة، ودون الحاجة إلى إجراءات حكومية" [6] . يعلِّق أحدُ المهتمِّين - من الميَّالين إلى البعد الثقافي للعولمة - على ذلك بقوله: "إن العولمةَ ليست مجرَّدَ آلية من آليات التطور الرأسمالي، بل هي أيضًا - وبالدرجة الأولى - أيديولوجيا تعكس إرادةَ الهيمنة على العالم" [7] . الهيمنةُ شكلٌ غيرُ واضح وغير معلن من أشكال العولمة، وهي تعني تلك الانفراديةَ ذات الاتِّجاه الواحد، تلك التي تعني فرضَ الأفكار بالقوة والتهديد بإيجاد النزاعات والقلاقل، بما في ذلك: زرعُ القابلية لهذه الهيمنة، وإيجاد الذَّرائع لبسط هذه الهيمنة/ العولمة، كما هي الحال في المنطقة العربية اليوم، لا سيَّما بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001م الموافق 22/ 6/ 1422هـ، التي فتحت الأبوابَ مُشْرَعةً أمام مقتضيات الهيمنة على مرأى من القُوى الأخرى التي صمتت بفعل إيجاد المسوِّغات للهيمنة. الهيمنة لا تعني تسريبَ العولمةِ بالإقناع والتمثُّل، مع الحفاظ على الثوابت، ودون المساس بالانتماءات [8] . من المهمِّ في هذه المعالجة التوكيدُ أن معظمَ مَن تطرَّقوا لها بالنقد الإيجابي أو السلبي، كانت انتقاداتُهم تنطلق من بُعدٍ، ولا بأس في هذا. أمَّا الذين دخلوا في "معمعة" العولمة من خلال الدخول في مفاوضات الانضمام لمنظَّمة التجارة العالمية، فإن لهم وجهةَ نظر أخرى قائمة على الاطِّلاع المباشر على متطلَّبات الانضمام، وظروفها، وتطويعها للخصوصيات الثقافية والاجتماعية؛ يقول فوَّاز عبدالستَّار العلمي الحسني: "ألا تشاركونني في أن العولمة تحتاج إلى نَخْبٍ بشري مترابطِ العزيمة، عميق الثقافة، عظيم الكفاءة، حاضر الذِّهن والمعرفة؟ وهل نرضى أن نكون غيرَ ذلك، ونحن مَن بدأت عقيدته بكلمة ﴿ اقْرَأْ ﴾ [العلق: 1]، وتوحَّدت شعوبُه تحت راية السلام، وأثْرَتْ عقول أجداده علوم الطب والجبر والضوء والهندسة؟ وهل سنفقد سيادتَنا إذا كانت هذه الاحتياجات أهم أهداف زعمائنا وشعوبنا؟" [9] . [1] انظر: هانز - بيتر مارتن، وهارالد شومان، فخ العولمة، الاعتداء على الديمقراطية والرفاهية/ ترجمة عدنان عباس علي، مراجعة وتقديم رمزي زكي، الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، 1419هـ - 1998م - ص 382. [2] انظر: عبدالجليل كاظم الوالي، جدلية العولمة بين الاختيار والرفض، المستقبل العربي - ع 275 مج 24 (كانون الثاني/ يناير 2002م) - ص 58 - 79. [3] انظر: عبدالجليل كاظم الوالي، جدلية العولمة بين الاختيار والرفض، المستقبل العربي، المرجع السابق - ص 77. [4] انظر: محمد الأطرش، حول تحدِّيات الاتِّجاه نحو العولمة الاقتصادية، ص 225 - 254، والنصُّ من ص 229، في: هموم اقتصادية عربية: التنمية - التكامُل - النفط - العولمة، بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2001م. [5] انظر: إبراهيم بن مبارك الجوير، العولمة وحوار الحضارات، القاهرة: جامعة عين شمس، ورقة، صفر 1423هـ/ أبريل 2002م. [6] انظر: إسماعيل صبري عبدالله، نقلًا عن إبراهيم بن مبارك الجوير، العولمة وحوار الحضارات - مرجع سابق - ص 2. [7] انظر: محمد العابد الجابري، نقلًا عن إبراهيم بن مبارك الجوير، العولمة وحوار الحضارات - مرجع سابق - ص 2. [8] انظر: فهد العرابي الحارثي، الولايات المتحدة الأمريكية والعالم: الهيمنة الخشنة، محاضرة أُلقيت في النادي الأدبي بالرياض الأحد 17/ 8/ 1424هـ - 18/ 5/ 2003م - 41 ص. [9] انظر: فوَّاز عبدالستَّار العلمي الحسني، مفهوم العولمة بلغة مفهومة: تجربة المملكة العربية السعودية في منظمة التجارة العالمية، الرياض: دار المؤيد، 1427هـ/ 2006م - ص 40.
هل التعري حضارة؟ قال تعالى: ﴿ يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا ﴾ [الأعراف: 26]. معنى كلمة تعر ِّي: العُرْي هو عدم ارتداء أي ملابس، وأحيانًا يستخدم للإشارة إلى ارتداء ملابس أقل بكثير مما يُتوقَّع. معنى اللباس: الجمع: ألْبِسَة، ولُبُس. اللِّباس: لُبْسُ ما يستر الجسم، أو ما يُلبَس من كسوة، إن كليهما يمنع الآخر عما لا يحل، فكما يمنع اللباس الحرَّ والبرد، فكذلك كل منهما يمنع الآخر، ويستره عن الفاحشة، ولباس كل شيء: غشاؤه، لباس النور: أكِمَّته، لباس التقوى: الإيمان، أو الحياء، أو العمل الصالح، لباس الجوع والخوف: الآلام. أما تعريف اللباس في الاصطلاح، فهو: ما يواري به الإنسان جسده، ويستر به سوأته، ويتزين ويتجمل به بين الناس، مما أباحت له الشريعة، ولم يتعارض مع آداب الإسلام وأوامره ونواهيه . ومن الحكمة في مشروعية اللباس: 1- لُبْسُ ما يقِي الإنسان من الضرر في الحر والبرد، وصيانة الأجسام من كل ما يؤذيها . 2- سترًا للعورات، وحماية للأخلاق، وحفظًا للأعراض، وصيانة للمجتمع من الانحلال والفساد، وتكريمًا للبشر . 3- إظهار نعمة الله، وشكره على اللباس . ولأننا أمة مسلمة فنحن مُتَّبِعون لشرعنا في جميع شؤون حياتنا، ومن ذلك ألبستنا، فيجب أن يكون ساترًا للعورة لكلا الجنسين، وإلا يكون فيه تشبُّه الرجال بالنساء، والنساء بالرجال؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((لعن الله المتشبِّهات من النساء بالرجال، والمتشبهين من الرجال بالنساء))؛ [رواه البخاري]، وأن يكون اللباس واسعًا فَضْفاضًا، لا يجسِّم الأعضاء، ولا شفافًا، ثم إن التعري ينافي الفطرة، فلما خلق الله آدم وحواء عليهما السلام وأسكنهما الجنة، وخاطب آدم؛ وقال عز وجل: ﴿ إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى ﴾ [طه: 118]، ولما أكَلَا من الشجرة بَدَتْ عوراتهم . فمباشرةً سعَوا إلى تغطية العورة، مما يدل على أن ستر العورات أمر فطري، مغروز في فطرة وصميم الإنسان، وأيضًا العري سمة حيوانية بهيمية . فالتحضُّر حقيقة هو بالاحتشام، وعلى العكس مما يُقال وينتشر بين الناس - وخاصةً النساء - بأن الاحتشام تخلُّف . إذًا من وراء انتشار ظاهرة التعري بين النساء خاصة؟ حتى صار في مفهوم بعضهن هداهن الله أن هذا هو التحضر والتقدم. إن العري المعاصر يقف وراءه شياطين من شياطين الإنس والجن؛ قال تعالى : ﴿ يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا ﴾ [الأعراف: 27]، والنفس الأمَّارة بالسوء، وفتن ومؤثرات خارجية؛ بسبب احتكاك الشعوب والأمم بغيرها، وانعكاس المفاهيم وانقلاب المقاييس، وأسباب أخرى كثيرة، نسأل الله أن يهدي كل مسلم لجادة الصواب. وهذه بعض الحلول والعلاج لهذه الظاهرة؛ فمن ذلك: 1- أن يقوم أولياء الأمور بمنع النساء، ومحارمهم من اللباس غير المحتشم. 2- التربية الإيمانية، وغرس الحياء في الجيل منذ الصغر . 3- أن نغرس في النفوس، ونقرر أن هذه القضية دين وفطرة، وليست مأخوذة من التقاليد . 4- أن نكثِّف التوعية والبرامج التي تثقف النساء خاصةً، والرجال بأمور دينهم وما يتعلق بلباسهم . وقد ورد في الحديث من حديث بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جده: ((أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لما سأله قال: عوراتنا ما نأتي منها وما نذر؟ قال له صلى الله عليه وسلم: احفظ عورتك إلا من زوجتك، أو ما ملكت يمينك )). وعن محمد بن جحش قال: ((مَرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على معمر وفخذاه مكشوفتان، فقال: يا معمر، غطِّ فخذيك؛ فإن الفخذين عورة))؛ [رواه أحمد والبخاري في "تاريخه "]. والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد. المراجع: • موقع ابن باز. • محاضرة للشيخ خالد السبت. • قاموس المعاني. • موقع الدرر السنية.
آثار الفكر الغربي في مزاج التفكير العربي إن تفكير الإنسان هو رأس ماله الحقيقي الذي ميَّزه الله به عن غيره من الحيوان، وهو مركز من مراكز الإبداع الفني والعلمي، كما أنه نقطة انطلاقِ التكليفِ والحساب أمام الله، أو أمام المحكمة، من خلال هذا التفكير يعبِّر المرء عن مقاصده وآرائه، بألفاظ شفوية، أو رموز كتابية أحيانًا، ليبيِّنَ لغيره ما صمت عنه شعوره، الذي يراه من زاوية معينة يسعى من خلالها إلى إقناع غيره بها بأدلة علمية منطقية يقبلها عقل الإنسان، وقد يعتري هذا التفكير عاملٌ خارجي يغيِّر مسيرة سعي المُفكر عن قصد، أو عن غير قصد؛ فينتج عن ذلك تبعية غير معتادة، فسرعان ما يتحول الفكر إلى طبيعة غير معتادة، تشمل جوانب الحياة برُمَّتِها. فالعالم العربي يعاني شيئًا من هذا القبيل كغيره من دول العالم الثالث، نتيجة تبعية غربية غير موروثة، لا عن ثقافتها، ولا عن بيئتها، فيتأثر الفكر بذلك، فيفتقد المُفكر سيطرة مِزاجه، وحرية تعبيره. هذه الحقيقة الواقعية المؤلمة باتت إشكالية كبيرة، ولَّدت عديدًا من الأسئلة؛ منها: أسئلة البحث: كيف أثَّر الفكر الغربي على مزاج التفكير العربي، رغم ضخامة الثقافة العربية العريقة، وامتلاك الثروة المالية الهائلة؟ ما هي الجوانب الأساسية التي أثَّر فيها الفكر الغربي على مزاج التفكير العربي؟ ما هي سُبُل الخروج من المأزِق؟ أهداف البحث : يهدف البحث إلى الوقوف على أهم الجوانب الأساسية التي أثَّر فيها الفكر الغربي، ووسائل الخروج منها. أهمية البحث : تكمن أهمية البحث في أنه يحاول إبراز الجوانب التي أهملها العالم العربي، وسبيل إصلاح ذلك. حدود البحث : يتناول البحث آثار الفكر الغربي في مزاج التفكير العربي. أما المنهج الذي يسير عليه البحث، فهو المنهج الاستقرائي الوصفي. وقسم البحث إلى ثلاثة مباحث: المبحث الأول: يتحدث عن العلاقة بين العالم العربي والغربي: • علاقة سياسية. • علاقة اقتصادية. • علاقة أمنية. المبحث الثاني: أصول التفكير العربي والغربي: • أصل الإنسان. • أصل الطبيعة. • أصل الدين. المبحث الثالث: أثر الفكر الغربي في التفكير العربي: • أثر على المستوى الدولي. • على المستوى الإقليمي. • على المستوى الشعبي. الدراسات السابقة: 1- كتاب ميتافيغية في السياسة. 2- العمل الإسلامي بين مرجعية وواقع منطلقاته، دراسة نقدية تحليلية، رسالة ماجستير. 3- عوامل ظهور التنظيمات الحزبية في الوطن العربي في الفترة بين الحربين الأولى والثانية لـ(د. مهدي امبيرش). 4- دراسة في علم الإنسان العربي لـ(د. مهدي امبيرش).
الإمام ابن قيم الجَوزِيَّة الحمد لله، الذي له ملك السماوات والأرض، يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، والصلاة والسلام على نبينا محمد، الذي أرسله ربه شاهدًا ومبشرًا ونذيرًا، وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا؛ أما بعد: فإن الإمام العالم ابن قيم الجَوزِيَّة هو أحد علماء المسلمين المشهورين، الذين يحب الكثير من طلاب العلم الكرام معرفة سيرته المباركة، فأقول وبالله تعالى التوفيق: الاسم والنسب: الإمام ابن الْقَيِّم: هو محمد بن أبي بكر بن أيوب الزرعي الدمشقي، أبو عبدالله، ابن قيم الجَوزِيَّة. فائدة مهمة: لُقِّب بابن قيم الجَوزِيَّة نسبة إلى والده الشيخ أبي بكر بن أيوب، الذي كان قيِّمًا مديرًا على المدرسة الجَوزِيَّة بدمشق، فاشتهرت ذريته وأحفاده بهذا اللقب، فصار الواحد منهم يُدعَى بابن قيم الجَوزِيَّة. • والجَوزِيَّة: هي المدرسة التي أنشأها يوسف بن عبدالرحمن بن علي الجوزي رحمه الله، المتوفى سنة 656 هجرية. ميلاد ابن الْقَيِّم: وُلِدَ ابن الْقَيِّم في اليوم السابع من شهر صفر سنة 691 للهجرة في قرية زرع من قرى حَوْرَان، تبعد عن دمشق 55 ميلًا، ثم ارتحل إلى دمشق، وتتلمذ فيها؛ [ذيل طبقات الحنابلة لابن رجب الحنبلي، ج: 2/ 170، البدر الطالع للشوكاني، ج: 2، ص: 143]. شيوخ الإمام ابن الْقَيِّم: سوف نذكر بعض شيوخ الإمام ابن الْقَيِّم: أولًا: شيوخه في الحديث: • الشهاب العابر: أحمد بن عبدالرحمن بن عبدالمنعم، الحنبلي، أبو العباس، عابر الرؤيا. • ابن مكتوم: إسماعيل بن يوسف بن مكتوم، الشافعي، المقرئ، المسنِد، المعمر. • أيوب بن نعمة بن محمد، زين الدين أبو العلاء، المقدسي، ثم الدمشقي، الكحَّال. • ابن عبدالدائم: أبو بكر بن أحمد بن عبدالدائم بن نعمة، المقدسي، المعمر، مسنِد الشام. • الحاكم: سليمان بن حمزة، أبو الفضل، المقدسي، الحنبلي، القاضي بدمشق. • علاء الدين الكندي الوداعي: علي بن مظفر بن إبراهيم، أبو الحسن، الكندي، الإسكندراني. • عيسى المطعم: شرف الدين، عيسى بن عبدالرحمن المقدسي، مسنِد الوقت. • البهاء بن عساكر: القاسم بن مظفر بن هبة الله بن عساكر، المعبِّر، الطبيب. • القاضي بدر الدين بن جماعة: محمد بن إبراهيم بن سعد الله بن جماعة. • محمد بن أبي الفتح بن أبي سهل البعلبكي، الحنبلي، شمس الدين، أبو عبدالله، الإمام، العلَّامة، المحدِّث. • ابن الشيرازي: محمد بن محمد بن محمد بن هبة الله بن محمد بن يحيى بن بندار. • المزي: يوسف بن عبدالرحمن بن يوسف، الدمشقي، الشافعي، الإمام، العلامة، الحافظ، محدث الشام. ثانيًا: شيوخه في اللغة العربية: • محمد بن أبي الفتح البعلبكي. • مجد الدين التونسي: أبو بكر بن القاسم، نزيل دمشق، شيخ القراءة والنحو. ثالثًا: شيوخه في الفقه: أخذ الإمام ابن الْقَيِّم الفقه عن جماعة من أجِلَّةِ عصره؛ منهم: • شيخ الإسلام أحمد بن عبدالحليم بن عبدالسلام بن تيمية. • المجد الحراني: إسماعيل بن محمد بن إسماعيل، أبو محمود، الحراني، الفراء، الحنبلي. • شرف الدين بن تيمية: عبدالله بن عبدالحليم بن تيمية، أخو شيخ الإسلام ابن تيمية. رابعًا: شيوخه في الفرائض: • والده: أبو بكر بن أيوب، قيِّم الجَوزِيَّة. خامسًا: شيوخه في أصول الفقه: • صفي الدين الهندي: محمد بن عبدالرحيم بن محمد، الشافعي، العلامة، الأصولي. • ابن سيد الناس: محمد بن محمد أحمد بن عبدالله بن يحيى. • ابن الزملكاني: كمال الدين بن علي بن عبدالواحد، شيخ الشافعية بالشام وغيرها. • ابن مفلح: محمد بن مفلح، المقدسي، الحنبلي، أبو عبدالله، أحد الأئمة. • فاطمة بنت إبراهيم بن محمود بن جوهر، البطائحي، البعلبكي، أم محمد؛ [ابن قيم الجَوزِيَّة، جمال محمد السيد، ج: 1، 174:146]. تلاميذ ابن الْقَيِّم: سوف نذكر بعض تلاميذ الإمام ابن الْقَيِّم: • ولده: إبراهيم بن محمد بن أبي بكر. • ولده: عبدالله بن محمد بن أبي بكر. • الحافظ ابن كثير: إسماعيل بن عمر بن كثير. • الصفدي: خليل بن أيبك بن عبدالله الصفدي. • ابن رجب الحنبلي: عبدالرحمن بن أحمد بن رجب الحنبلي. • علي بن الحسين بن علي بن عبدالله الكناني، المقرئ، الحنبلي. • السبكي: علي بن عبدالكافي بن علي بن تمام بن يوسف. • ابن عبدالهادي: محمد بن أحمد بن قدامة، المقدسي، الحنبلي. • محمد بن عبدالقادر بن محيي الدين بن عثمان، النابلسي. • محمد بن محمد بن محمد بن الخضر، الزبيري، الشافعي. • المقري: محمد بن محمد بن أبي بكر القرشي، المقري، التلمساني. • الفيروزآبادي: محمد بن يعقوب بن محمد، أبو الطاهر، الشافعي؛ [ابن قيم الجَوزِيَّة، جمال محمد السيد، ج: 1، 200:192]. عقيدة الإمام ابن الْقَيِّم في أسماء الله وصفاته: ذكر الإمام عقيدة وسطية أهل السنة في باب أسماء الله تعالى وصفاته؛ حيث قالوا: نَصِفُ الله بما وصف به نفسه، وبما وصفه به رسوله، من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تشبيه ولا تمثيل. ثم قال الإمام ابن الْقَيِّم: "طريقتنا إثبات حقائق الأسماء والصفات ونفي مشابهة المخلوقات؛ فلا نعطِّل، ولا نؤوِّل، ولا نمثِّل، ونقول له ذات حقيقة ليست كالذوات، وله صفات حقيقة لا مجازًا ليست كصفات المخلوقين، وكذلك قولنا في وجهه تبارك وتعالى ويديه وسمعه وبصره وكلامه واستوائه"؛ [الصواعق المرسلة لابن الْقَيِّم، ج: 2، ص: 426]. عقيدة ابن الْقَيِّم في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: قال الإمام ابن الْقَيِّم رحمه الله: "كان الصحابة أبرَّ الناس قلوبًا، وأعمق علمًا، وأقل تكلفًا، وأقرب إلى أن يوفَّقوا فيها لِما لم نوفَّق له نحن؛ لِما خصَّهم الله تعالى به من توقَّد الأذهان، وفصاحة اللسان، وسَعَةِ العلم، وسهولة الأخذ، وحسن الإدراك وسرعته، وقلة المعارض أو عدمه، وحسن القصد، وتقوى الرب تعالى؛ فالعربية طبيعتهم وسليقتهم، والمعاني الصحيحة مركوزة في فِطَرِهم وعقولهم، ولا حاجة بهم إلى النظر في الإسناد وأحوال الرواة، وعلل الحديث والجرح والتعديل، ولا إلى النظر في قواعد الأصول، وأوضاع الأصوليين، بل قد غنوا عن ذلك كله، فليس في حقهم إلا أمران: أحدهما: قال الله تعالى كذا، وقال رسوله كذا، والثاني: معناه كذا وكذا، وهم أسعد الناس بهاتين المقدمتين، وأحظى الأمة بهما، فقواهم متوفرة مجتمعة"؛ [إعلام الموقِّعين عن رب العالمين لابن الْقَيِّم، ج: 4، ص: 113]. ثناء العلماء على ابن الْقَيِّم: سوف نذكر بعض أقوال العلماء الكرام في الإمام ابن قيم الجَوزِيَّة: 1- قال الحافظ المزي: "ابن الْقَيِّم في هذا الزمان كابن خزيمة في زمانه"؛ [الرد الوافر لابن ناصر الدين الدمشقي، ص: 68]. 2- قال الإمام ابن رجب: "كان ابن الْقَيِّم شديد المحبة للعلم وكتابته، ومطالعته وتصنيفه، واقتناء الكتب، واقتنى من الكتب ما لم يحصل لغيره"؛ [ذيل طبقات الحنابلة لابن رجب الحنبلي، ج: 5/ 174]. 3- قال الإمام ابن كثير: "كان ابن الْقَيِّم حَسَنَ القراءة والخُلُق، كثير التودد، لا يحسُد أحدًا، ولا يؤذيه، ولا يستعيبه ولا يحقد على أحد، وكنت من أصحب الناس له وأحب إليه، ولا أعرف في هذا العالم في زماننا أكثر عبادةً منه، وكانت له طريقة في الصلاة يطليها جدًّا ويمُدَّ ركوعها وسجودها، ويلومه كثير من أصحابه في بعض الأحيان، فلا يرجع ولا ينزع عن ذلك رحمه الله، وله من التصانيف الكبار والصغار شيء كثير، وكتب بخطِّه الحسن شيئًا كثيرًا، واقتنى من الكتب ما لا يتهيأ لغيره تحصيل عُشره من كتب السلف والخلف"؛ [البداية والنهاية لابن كثير، ج: 18، ص: 523]. 4- قال القاضي برهان الدين الزرعي: "ما تحت أديم السماء أوسع علمًا من ابن الْقَيِّم"؛ [طبقات المفسرين للداودي، ج: 2، ص: 95]. 5- قال ابن ناصر الدين الدمشقي: "الشيخ الإمام العلامة شمس الدين أحد المحققين، عَلَم المصنفين، نادرة المفسرين، أبو عبدالله محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد بن حريز الزرعي الأصل، ثم الدمشقي، ابن قيم الجَوزِيَّة، وتلميذ الشيخ تقي الدين بن تيمية، له التصانيف الأنيقة والتآليف التي في علوم الشريعة"؛ [الرد الوافر لابن ناصر الدين الدمشقي، ص: 68، رقم: 28]. 6- قال صلاح الدين الصفدي: "ابن الْقَيِّم ناظَرَ واجتهد وأكبَّ على طلب العلم، وصنَّف وصار من الأئمة الكبار في علم التفسير والحديث والأصول فقهًا وكلامًا، والفروع والعربية، ولم يخلُفِ الشيخ العلامة تقي الدين بن تيمية مثله"؛ [الوافي بالوفيات، صلاح الدين الصفدي، ج: 2، ص: 196]. 7- قال أحمد بن علي المقريزي: "ابن قيم الجَوزِيَّة: برع في عدة علوم ما بين تفسير وفقه وعربية وغير ذلك، ولزِم شيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن تيمية بعد عَودِه من القاهرة، سنة اثنتي عشرة وسبعمائة، حتى مات، وأخذ عنه علمًا جمًّا، فصار أحد أفراد الدنيا وتصانيفه كثيرة"؛ [السلوك لمعرفة دول الملوك للمقريزي، ج: 4، ص: 132]. 8- قال يوسف بن تغري بردي: "كان ابن قيم الجَوزِيَّة بارعًا في عدة علوم، ما بين تفسير وفقه، وعربية ونحو، وحديث وأصول وفروع، ولزم شيخ الإسلام تقى الدين بن تيمية بعد عوده من القاهرة في سنة اثنتي عشرة وسبعمائة، وأخذ منه علمًا كثيرًا، حتى صار أحد أفراد زمانه، وتصدى للإقراء والإفتاء سنين، وانتفع به الناس قاطبة، وصنف وألف كتبًا"؛ [النجوم الزاهرة، ابن تغري بردي، ج: 11، ص: 249]. 9- قال السخاوي: "ابن الْقَيِّم: هو العلامة الحُجَّة، المتقدم في سَعَةِ العلم، ومعرفة الخلاف، وقوة الجَنان، ورئيس أصحاب ابن تيمية الإمام، بل هو حسنة من حسناته، والمجمَع عليه بين المخالف والموافق، وصاحب التصانيف السائرة، والمحاسن الجمة، انتفع به الأئمة"؛ [التاج المكلل، صديق حسن خان القنوجي، ص: 411]. 10- قال الإمام السيوطي: "ابن الْقَيِّم: صنَّف، وناظر، واجتهد، وصار من الأئمة الكبار في التفسير والحديث، والفروع والأصلَين، والعربية"؛ [بغية الوعاة للسيوطي، ج: 1، ص: 63]. 11- قال الإمام الشوكاني: "كان ابن الْقَيِّم متقيدًا بالأدلة الصحيحة، معجبًا بالعمل بها، غير معوِّل على الرأي، صادعًا بالحق، لا يحابي فيه أحدًا، ونعمتِ الجرأة"؛ [البدر الطالع للشوكاني، ج: 2، ص: 145:143]. محنة الإمام ابن الْقَيِّم: قال الإمام الذهبي: "حُبِس ابن الْقَيِّم مدةً وأُوذِي؛ لإنكاره شدَّ الرَّحْلِ إلى قبر الخليل"؛ [معجم المختص بالمحدثين للذهبي، ص: 269]. قال الإمام ابن حجر العسقلاني: "غلب على ابن الْقَيِّم حب ابن تيمية، حتى كان لا يخرج عن شيء من أقواله، بل ينتصر له في جميع ذلك، وهو الذي هذَّب كتبه، ونشر علمه، وكان له حظ عند الأمراء المصريين، واعتُقِل مع ابن تيمية بالقلعة، بعد أن أُهِين وطِيف به على جمل مضروبًا بالدِّرة - العصا - فلما مات ابن تيمية أُفْرِج عنه، وامتُحن مرة أخرى بسبب فتاوى ابن تيمية، وكان ينال من علماء عصره وينالون منه، وكانت مدة ملازمته لابن تيمية منذ عاد من مصر سنة 712 إلى أن مات"؛ [الدرر الكامنة لابن حجر، ج: 6، ص: 138]. • وقد امتُحن ابن الْقَيِّم مرة أخرى بسبب فتواه بأن الطلاق الثلاث بكلمة واحدة يقع طلقة واحدة؛ وهو اختيار شيخه ابن تيمية أيضًا. مكتبة ابن الْقَيِّم: قال الإمام الشوكاني: "كان ابن الْقَيِّم مغرمًا بجمع الكتب، فحصَّل منها ما لا تحصر، حتى كان أولاده يبيعون منها بعد موته دهرًا طويلًا سوى ما اصطفَوه لأنفسهم منها"؛ [البدر الطالع للشوكاني، ج: 2، ص: 145:143]. من أقوال الإمام ابن الْقَيِّم رحمه الله: 1- لا يجتمع الإخلاص في القلب، ومحبة المدح والثناء والطمع فيما عند الناس، إلا كما يجتمع الماء والنار؛ [الفوائد لابن الْقَيِّم، ص: 149]. 2- البدن إذا مرِض لم ينفع فيه الطعام والشراب، فكذلك القلب إذا مرِض بالشهوات لم تنفع فيه المواعظ؛ [الفوائد لابن الْقَيِّم، ص: 98]. 3- العالِم إذا مُنِح غناءً، فقد أُعِين على تنفيذ علمه، وإذا احتاج إلى الناس، فقد مات علمه وهو ينظر؛ [إعلام الموقعين لابن الْقَيِّم، ج: 4، ص: 157]. 4- الرجل الجليل الذي له في الإسلام قدم صالحة، وآثار حسنة، وهو من الإسلام وأهله بمكان، قد تكون منه الهفوة والزَّلَّة هو فيها معذور، بل ومأجور لاجتهاده؛ فلا يجوز أن يُتَّبع فيها، ولا يجوز أن تُهدَر مكانته وإمامته ومنزلته من قلوب المسلمين؛ [إعلام الموقعين لابن الْقَيِّم، ج: 3، ص: 220]. 5- إن الأعمال لا تتفاضل بصورها وعددها، وإنما تتفاضل بتفاضل ما في القلوب، فتكون صورة العملين واحدةً، وبينهما في التفاضل كما بين السماء والأرض، والرجلان يكون مقامهما في الصف واحدًا، وبين صلاتيهما كما بين السماء والأرض؛ [مدارج السالكين لابن الْقَيِّم، ج: 1، ص: 340]. 6- إن في دوام الذكر في الطريق والبيت، والحَضَر والسفر، والبقاع - تكثيرًا لشهود العبد يوم القيامة؛ فإن البقعة والدار والجبل والأرض تشهد للذاكر يوم القيامة؛ [الوابل الصيب لابن الْقَيِّم، ص: 111]. 7- إذا أصبح العبد وأمسى وليس همه إلا الله وحده، تحمَّل الله سبحانه حوائجه كلها، وحمل عنه كل ما أهمَّه، وفرَّغ قلبه لمحبته، ولسانه لذكره، وجوارحه لطاعته، وإن أصبح وأمسى والدنيا همه، حمَّله الله همومها وغمومها؛ [الفوائد لابن الْقَيِّم، ص: 84]. 8- إن العبد لَيأتي يوم القيامة بحسنات أمثال الجبال، فيجد لسانه قد هدمها عليه كلها، ويأتي بسيئات أمثال الجبال فيجد لسانه قد هدمها من كثرة ذكر الله وما اتصل به؛ [الجواب الكافي لابن الْقَيِّم، ص: 161]. 9- للعبد سِتْرٌ بينه وبين الله، وستر بينه وبين الناس، فمن هتك الستر الذي بينه وبين الله، هتك الستر الذي بينه وبين الناس؛ [الفوائد لابن الْقَيِّم، ص: 33]. 10- للعبد ربٌّ هو ملاقيه، وبيت هو ساكنه، فينبغي له أن يسترضِيَ ربَّه قبل لقائه، ويعمُرَ بيته قبل انتقاله إليه؛ [الفوائد لابن الْقَيِّم، ص: 33]. 11- محب الدنيا لا ينفك من ثلاث: همٌّ لازم، وتعب دائم، وحسرة لا تنقضي، وذلك أن مُحِبَّها لا ينال منها شيئًا إلا طمَحت نفسه إلى ما فوقه؛ [إغاثة اللهفان لابن الْقَيِّم، ج: 1، ص: 37]. مؤلفات الإمام ابن الْقَيِّم: الإمام ابن الْقَيِّم له أكثر من ستين كتابًا في مختلف علوم الشريعة الإسلامية، وسوف نذكر بعضًا منها مؤلفات: • اجتماع الجيوش الإسلامية على غزو المعطلة والجهمية. • أحكام أهل الذمة. • إعلام الموقعين عن رب العالمين. • إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان. • بدائع الفوائد. • تحفة المودود في أحكام المولود. • تهذيب مختصر سنن أبي داود. • الجواب الكافي. • جلاء الأفهام. • حادي الأرواح. • حكم تارك الصلاة. • الرسالة التبوكية. • روضة المحبين ونزهة المشتاقين. • الروح. • زاد المعاد في هدي خير العباد. • شفاء العليل. • الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة. • طريق الهجرتين وباب السعادتين. • الطرق الحكمية في السياسة الشرعية. • عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين. • الفروسية. • الفوائد. • قصيدة الكافية الشافية. • الكلام على مسألة السماع. • مدارج السالكين. • مفتاح دار السعادة. • المنار المنيف في الصحيح والضعيف. • هداية الحيارى. • الوابل الصيب في الكلم الطيب. • الأمثال في القرآن. • صفات المنافقين. • التبيان في أقسام القرآن؛ [ذيل طبقات الحنابلة لابن رجب الحنبلي، ج: 5/ 170]. وفاة الإمام ابن الْقَيِّم: تُوفِّيَ الإمام ابن الْقَيِّم رحمه الله في ليلة الخميس ثالث عشر رجب، وقت أذان العشاء، وصُلِّي عليه بعد صلاة الظهر من الغد بالجامع الأموي، وقد كانت جنازته حافلةً، شهدها القضاة، والأعيان، والصالحون من الخاصة والعامة، وتزاحم الناس على حمل نعشه، ودُفن عند والدته بمقابر الباب الصغير؛ [البداية والنهاية لابن كثير، ج: 18/ 523]. ختامًا: رحم الله تعالى الإمام ابن قيم الجَوزِيَّة رحمةً واسعةً، وجزاه الله عن الإسلام خير الجزاء، ونسأل الله تعالى أن يجمعنا به في الفردوس الأعلى من الجنة، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله، وأصحابه، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
غزوة ذات الرقاع أقام النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة بعد بني النضير شهري ربيع، ثم غزا نجدًا يريد بني محارب وبني ثعلبة من غطفان، وسُميت بهذا الاسم نسبة إلى جبلٍ هناك فيه سوادٌ وبياضٌ وحمرة، فلقي هنالك المشركين ولم يكن فيها قتال، وخاف الناس بعضهم بعضًا، وفيها نزلت صلاة الخوف، فصلاها النبي صلى الله عليه وسلم؛ قال الله تعالى: ﴿ وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا ﴾ [النساء: 102]، وفي هذه الغزوة جاء رجل من محارب إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فطلب منه أن ينظر إلى سيفه فأعطاه السيف، فلما أخذه وهزه قال: يا محمد، أما تخافني؟ قال: ((لا))، قال: أما تخافني وفي يدي السيف؟ قال: ((لا، يمنعني الله منك))، فرد السيف إليه، وفي الغزوة حدث أن قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((مَن يحرسنا هذه الليلة؟))، فانتدب رجل من المهاجرين ورجل من الأنصار، فأخذ الأنصاري النوبة الأولى ونام المهاجري، فقام الأنصاري يصلي، فأتى أحد المشركين فسدَّد له سهمًا فجاء فيه، فانتزعه الأنصاري وتابع صلاته، ثم سدَّد له سهمًا ثانيًا فجاء فيه، فانتزعه أيضًا وتابَع صلاته، ثم سدد سهمًا ثالثًا، ثم ركع وسجد وأيقظ صاحبه وأعلَمه، فوثب المهاجري، فلما رآهما المشرك هرب وقال المهاجري: ألا أيقظتني أول ما رماك؟ قال: كنت في سورة أقرؤها فما أحب أن أقطعها، ولولا خوفي أن أضيع ثغرًا أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظه، لقطع نفسي قبل أن أقطعها - أي أقطع الصلاة.