text
stringlengths
0
254k
يوسف الصديق عليه السلام (1) نتحدَّث في هذا الفصل عن الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف الصديق نبي الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وقد تقدم في الحديث عن آبائه إبراهيم وإسحاق ويعقوب عليهم الصلاة والسلام بعض الحديث عنه صلى الله عليه وسلم، وعامة النسَّابين على أنه وُلد ليعقوب من زوجته راحيل، وأكثر أهل العلم على أنها ماتت وهو صغير بعد أن تركت له شقيقًا أصغر منه هو بنيامين. وكان يعقوبُ عليه السلام قد أنجب من غير راحيل عشرة أولاد آخرين، وكانت زوجته الأخرى هي أخت راحيل الكبرى، وقد أعطى الله عز وجل يوسفَ عليه السلام من الحُسن والجمال ما جُعل مضربَ المثل في ذلك حتى وصفه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بأنه أُعطي شطرَ الحُسن؛ فقد روى مسلم في صحيحه في قصة الإسراء والمعراج من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في حديثه عن عروجه إلى السماوات العُلا: ((ثم عُرج بنا إلى السماء الثالثة، فاستفتح جبريل، فقيل: مَن أنت؟ قال: جبريل، قيل: ومَن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد بُعث إليه؟ قال: قد بُعث إليه، ففتح لنا، فإذا أنا بيوسف، فإذا هو قد أُعطي شطر الحُسن...))؛ إلخ الحديث. وقد ذكر الله تبارك وتعالى عن النسوة اللاتي لُمْنَ امرأةَ العزيز أنها لمَّا اختبرتهم فوضعت ﴿ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ ﴾ [يوسف: 31]. وقد أحبَّه أبوه يعقوب عليه السلام، لما منَّ الله عليه به من جمال الظاهر والباطن، ورأى إخوتُه أنَّ أباهم يحب يوسف وبنيامين أكثر منهم، وأبوهم أعرف بحالهم وحاله وسلوكهم وسلوكه. فحقدوا على يوسف عليه السلام، وإخوة يوسف ليسوا بمعصومين من المعاصي والسيئات؛ فهم ليسوا بأنبياء، وهم وإن كانوا من الأسباط لكنهم غير الأسباط الذين ذَكَر الله عز وجل أنه أَوحى إليهم في قوله تعالى: ﴿ إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ ﴾ [النساء: 163]؛ إذ السبط يطلق على ولد الولد مهما نزل، كما يُطلق على ولد البنت كذلك. وقد خصَّ الله تبارك وتعالى يوسف بسورة كاملة من القرآن قصَّ فيها قصته، وقد ختم سورة هود بقوله تعالى: ﴿ وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ ﴾ [هود: 120]، وقد ذكر في أنباء الرُّسل المذكورين في سورة هود ما لقي الأنبياء مِن قومهم من الأقارب والأباعد من الأذى، ذكر في سورة يوسف وهو أحد الرسل العظام ما لَقِي من أذى إخوته له؛ ليعلم ما لقيه الأنبياء من أذى الأقارب والأجانب؛ لما في ذلك من تثبيت فؤاد رسول الله صلى الله عليه وسلم وتثبيت قلوب المؤمنين. وقد اشتملت قصَّةُ يوسف عليه السلام على الجليل من الأحكام والحكم والآداب وقواعد السلوك وسير الملوك، وتفكير العلماء، وتدبير الخطط؛ للوصول إلى المقاصد الصالحة، ورسمِ الوسائل الجميلة لنيل الأهداف السامية، ومكر النساء، وعدم صبرهنَّ على ما قد يعرض لهن مِن الفتن، وبيان حُسن عاقبة المتقين الصابرين، وأن الأنبياء لا يعلمون الغيبَ إلا ما يطلعهم الله عليه منه. وقد بدأ الله تبارك وتعالى قصةَ يوسف برؤياه التي رأى عليه السلام وهو صغير السن، وختم قصته بأن ما آلَ إليه من العزَّةِ والكرامةِ كان تأويل رؤياه وتحقيقها، وفي رؤيا يوسف يقول الله عز وجل: ﴿ إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ ﴾ [يوسف: 4]، وقد فهم يعقوب عليه السلام أن رؤيا يوسف هذه تدل على أنه أُعدَّ لأمرٍ عظيم من تشريف الله له، وإعزاز جنابه، واصطفاء الله له، وأنه يتم نعمته عليه وعلى أبيه يعقوب كما أتمَّها على أبويه إبراهيم وإسحاق، وطلب مِن يوسف أن يكتمَ هذه الرؤيا عن إخوته لما يستشعره يعقوب مِن حقدهم عليه وبُغضهم له، وأنه لو أخبرهم بقصة هذه الرؤيا لازدادوا حِقدًا وكادوا له كيدًا. وفي ذلك يقول الله عز وجل: ﴿ قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾ [يوسف: 5، 6]، وقد فهم يعقوبُ من هذه الرؤيا كذلك أن ابنَه يوسفَ سيكون طويلَ الباع في تعبير الرؤيا والأحلام، مما ينبني على ذلك من رفعة شأنه وعلوِّ منزلته، وتمكينه في الأرض، وعامَّة المفسرين على أن الأحد عشر كوكبًا هم إخوة يوسف، وأن الشمس والقمر هما أبوه وخالته أو أبوه وأمه. وقد وصف الله عز وجل ما كان من شأن يوسف وإخوته بأنه آياتٌ للسائلين؛ حيث يقول: ﴿ لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ ﴾ [يوسف: 7]، أي: عِبرٌ وعِظات، وعجائب وحِكم للمستخبرين المستشرفين المعتبرين المتشوفين، وماذا يفعل الحسد بصاحبه، ونهاية حال الحاسدين، وآثار الصبر والعاقبة الحميدة للصابرين، وحنان الأب، وأنه مهما حرص الإنسان على حفظ ولده من السوء، فإنه لا يخلصه مِن قضاء الله، وأنَّ الأبَ الصالح قد يلدُ الابنَ غير البار، وأنَّ العفو عند المقدرة من شيم الكرام، وإثبات النبوَّة والرسالة لخاتم الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم، إلى غير ذلك من الدلالات والعِبر مما لا يحيط به إلا الله عز وجل. وكانت أول بادرة سوء مِن إخوة يوسف أن قالوا: ﴿ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ ﴾ [يوسف: 8] بنيامين ﴿ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا ﴾ [يوسف: 8]، فميله إليهما أكثر، وحنانه عليهما أعظم، وعطفه عليهما أشد مع أننا لقوَّتنا أعظم نفعًا لأبينا، ونحن مع كثرتنا يد واحدة، إنَّ أبانا لَمخطئ في هذا الحبِّ، بعيدٌ عن الرشد والصواب، قال بعضهم لبعض: لا بدَّ من صرفِ يوسف عن وجه أبيه، فاقترح بعضهم قتلَه، واقترح بعضهم رميَه في أرض بعيدة تفترسُه الوحوش أو يموت في تلك الأرض، ونكون صالحين بعد ذلك، واقترح بعضُهم إبعادَه عن أبيه مع محاولة المحافظة عليه من أسباب الهلاك بإلقائه في ﴿ غَيَابَتِ الْجُبِّ ﴾ [يوسف: 10]؛ وهي إحدى جوانب البئر المظلمة ليُلتقط، واستقرَّ رأيهم على أن يجعلوه في مكان مظلمٍ من بئر يَرِدُها المسافرون إلى مصر من فلسطين، ولما بدؤوا في تنفيذ هذه الخطة قالوا لأبيهم: يا أبانا ما لك لا تسمح لنا باستصحاب يوسف معنا إلى ملاعبنا ومراعينا مع أننا نحبه وننصح له ونخلص مودته؟! ابعثه معنا غدًا إلى الَّصحراء نتنعَّم ونأكل، ونلهو وننشط، ونتسابق ويتدرب على رعي الماشية، ونؤكد لك أننا سنحافظ عليه من كلِّ ما يسوء. فأجابهم يعقوب عليه السلام بأنه لا يطيق فراقَه، وأنه يحزنه بُعده عنه، ويخشى عليه من الذئب في حالة لهوهم وغفلتهم عنه، فاستبعدوا أن يأكله الذئب؛ لأنهم عُصبة، أي: جماعة أقوياء يشد بعضهم أزر بعض، فلن يصل إليه الذئبُ بحال؛ لأنه لو وصل إليه الذئب مع قوتنا وكثرتنا فإنه لا خيرَ فينا حينئذ، ونكون هالكين عاجزين ضعفاء، فأخذوه من أبيه مع حذر أبيهم؛ لأن الحذر لا ينجي مِن القدر وتركوا بنيامين، وذهبوا به إلى الجُبِّ، فلما ألقوه في غيابات الجُب - غيابة الجب شبيهة بـ "بيت الماكينة" في عصرنا الحاضر، يُجذَبُ بها الماء من البئر، ولو ألقوه في وسط البئر لمات - ألقى الله عز وجل في قلبه الطمأنينةَ، وأنه لن يهلك في هذه البئر، وأنه سيرى إخوانَه الحسدة هؤلاء مرَّةً أخرى، وأنه سيخبرُهم بهذا الذي فعلوه معه في وقت يكون فيه عزيزًا وهم أذلَّاء، وكانوا قد جرَّدوه مِن قميصه قبلَ إلقائه في الجُب، فوضعوا على قميصه دمًا كذبًا، أي: دمًا مكذوبًا مفتعلًا ليس بدم يوسف، ﴿ وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ ﴾ [يوسف: 16]، وقالوا لأبيهم: ﴿ إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ ﴾ وما أنت بمصدق ما نقول، ﴿ وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ ﴾ [يوسف: 17]، ولم يصدقهم يعقوب عليه السلام في أكل الذئب له ولا أنه قتل؛ ليقينه أنه سيكون ليوسف شأنٌ؛ ولذلك قال لهم: ﴿ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ ﴾ [يوسف: 18]. وإلى الفصل القادم إن شاء الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
شرح كتاب الإيمان للحافظ ابن أبي شيبة لسعد شايم العنزي صدر حديثًا كتاب "شرح كتاب الإيمان للحافظ أبي بكر بن أبي شيبة"، تأليف: "سعد بن شايم الحضيري العنزي" (ت 771 هـ)، نشر: "دار مدار الوطن للنشر والتوزيع". وهذا المؤلف ضم مجموعة من الدروس العقدية في شرح مصنف ابن أبي شيبة (ت 235 هـ) المسمى بكتاب الإيمان، قام بإلقائها صوتيًا الشيخ ضمن دوراته العلمية لتدريس مصنفات أهل السنة والجماعة في العقيدة، ثم قام بتجميعها والتوليف بينها، وتنقيح فصول الشرح، وإصداره في هذا السفر النفيس. وكتاب الإيمان هو كتاب جمعه ابن أبي شيبة - رحمه الله - على طريقة أهل الحديث في ذكر المرويات في أحاديث الإيمان وما يدخل في الإيمان من الأعمال، وحقيقة الإيمان، واقتصد فيه مؤلفه على المرويات الصحيحة في باب الإيمان، وهو أصل من أصول الدين جمع فيه كثير من علماء أهل السنة مؤلفات مستقلة، وفي كتاب ابن أبي شيبة ما اتفق عليه أهل السنة والجماعة في مباحث الإيمان، فهو من الكتب المتقدمة في تفصيل أقسام الإيمان وحقيقته، وقد أوردَ في كتابه الإيمان آثارًا في أن الإيمان قول وعمل، وآثارًا في الاستثناء في الإيمان، وأنه لا يكون على سبيل الشك، وآثارًا في ذم السلف للحَجَّاج، منها: قال: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ،: أَنَّهُ كَانَ إِذَا ذُكِرَ الْحَجَّاجُ قَالَ: ﴿ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ﴾ [هود: 18]، وروى آثار زيادة ونقصان الإيمان. ونجد أنه لم يكن هناك خلاف في مسائل أصول الدين كمسألة الإيمان وحقيقته بين السلف في أثناء المائة الثانية، حتى ظهرت الفرق والطوائف الضالة كالمرجئة والخوارج، وظهر الجدال واللجاج في مسألة الإيمان، مما استلزم من الأئمة كتابة مذهب الصحابة في عقيدة الإيمان، وفي هذا المصنف أراد ابن أبي شيبة إيراد أقوال الصحابة في مسائل الإيمان، لتثبيت الأدلة وتقرير النصوص في هذا الأصل في مواجهة الفرق الضالة. وابن أبي شيبة هو الإِمَامُ، العَلَمُ، سَيِّدُ الحُفَّاظِ عبد الله بن محمد بن القَاضِي أَبِي شَيْبَةَ إِبْرَاهِيْمَ بنِ عُثْمَانَ، المعروف بابن أبي شيبة، صَاحِبُ الكُتُبِ الكِبَارِ: "المُسْنَدِ" وَ"المُصَنَّفِ" وَ"التَّفْسِيْرِ". وهو أَخُو الحَافِظِ عُثْمَانَ بنِ أَبِي شَيْبَةَ. وابنه: إِبْرَاهِيْمُ بنُ أَبِي بَكْرٍ، أحد الحُفَّاظ، وابن أخيه أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بنُ عُثْمَانَ أح الحفاظ. قَالَ يَحْيَى بن عبد الحميد الحماني: أولاد بن أَبِي شَيْبَةَ مِنْ أَهْلِ العِلْمِ كَانُوا يُزَاحِمُونَنَا عِنْدَ كُلِّ مُحَدِّثٍ. وَهُوَ مِنْ أَقرَانِ: أَحْمَدَ بنِ حَنْبَلٍ، وَإِسْحَاقَ بنِ رَاهْوَيْه، وَعَلِيِّ بنِ المَدِيْنِيِّ فِي السِّنِّ وَالمَوْلِدِ وَالحِفْظِ. وَكَانَ بَحْرًا منْ بُحُوْرِ العِلْمِ وَبِهِ يُضرَبُ المَثَلُ فِي قُوَّةِ الحِفْظِ. ومن شيوخه: شَرِيْكُ بنُ عَبْدِ اللهِ القَاضِي، وَعَبْدِ السَّلاَمِ بنِ حَرْبٍ، وَعَبْدِ اللهِ بنِ المُبَارَكِ، وَسُفْيَانَ بن عيينة، وَوَكِيْعِ بنِ الجَرَّاحِ، وَيَحْيَى القَطَّانِ، وَإِسْمَاعِيْلَ بنِ عَيَّاشٍ، وإسماعيل ابن عُلَيَّةَ. أما عن تلاميذه فكثر منهم: البخاري، مسلم، وأبو داود، وابن ماجه، وَأَبُو زُرْعَةَ، وعبد الله بن أحمد، وَأَبُو بَكْرٍ بنُ أَبِي عَاصِمٍ، وَبَقِيُّ بنُ مَخْلَدٍ، وَمُحَمَّدُ بنُ وَضَّاحٍ، وَأَبُو يَعلَى المَوْصِلِيُّ، وَجَعْفَرٌ الفِرْيَابِيُّ، وَأَبُو القَاسِمِ البَغَوِيُّ. وهؤلاء أئمة كبار، وأخذ عنه خلق سراهم، وروى عنه الإمام أحمد. ومما قيل عنه قَول أَحْمَدُ بنُ عَبْدِ اللهِ العِجْلِيُّ: كَانَ أَبُو بَكْرٍ ثِقَةً حَافِظًا لِلْحَدِيْثِ. وَقَالَ الإِمَامُ أَبُو عُبَيْدٍ: انْتَهَى الحَدِيْثُ إِلَى أَرْبَعَةٍ فَأَبُو بَكْرٍ بنُ أَبِي شَيْبَةَ أَسْرَدَهُمْ لَهُ وَأَحْمَدُ بنُ حَنْبَلٍ أَفقَهُهُمْ فِيْهِ وَيَحْيَى بنُ مَعِيْنٍ أَجْمَعُهُمْ لَهُ وَعَلِيُّ بنُ المَدِيْنِيِّ أَعْلَمُهُمْ بِهِ. وَقَالَ صَالِحُ بنُ مُحَمَّدٍ الحَافِظُ جَزَرَةُ: أَعْلَمُ مَنْ أَدْرَكتُ بِالحَدِيْثِ وَعِلَلِهِ عَلِيُّ بنُ المَدِيْنِيِّ وَأَعْلَمُهُمْ بِتَصْحِيْفِ المَشَايِخِ يَحْيَى بنُ مَعِيْنٍ وَأَحْفَظُهُمْ عِنْدَ المُذَاكَرَةِ أَبُو بَكْرٍ بنُ أَبِي شَيْبَةَ. وقد تميز شرح الشيخ "سعد بن شايم العنزي" بالاختصار والإيجاز، وذكر الفوائد والفرائد المتعلقة بمسألة الإيمان في ثنايا شرحه، والتعليق بما يلزم على أعلام الكتاب، وتخريج لشواهده، وبيان كلام ابن أبي سيبة وعلاقته بأقوال السلف في مسائل الإيمان، ومبحث الاختلاف فيه وكيف تشعب عند الفرق والطوائف المختلفة. والمؤلف هو الشيخ "سعد بن شايم العنزي" له العديد من الدروس والدورات العلمية في شرح مصنفات السنة ومتونها، والعديد من الدروس الدعوية، ومن مؤلفاته: • "الوجيز في شرح كيفية صلاة النبي". • "الفصول الجامعة والقواعد النافعة في خطر التكفير وضوابطه". • "منظومة رسم العلوم والكتب". • "الانتصار للنبي المختار صلى الله عليه وسلم". • "أمير المؤمنين معاوية بن أبي سفيان". • "الأمن ضرورة شرعية". • "النصيحة المليحة لسلوك المحجة الصحيحة". • "تحفة الطلاب بملحة الأنساب والألقاب". • "تهذيب سياق حجة النبي -صلى الله عليه وسلم-". • "حقوق ولاة الأمور".
بيوت الحجر (مدائن صالح) المنحوتة في الجبال سكنية ومقابر في آنٍ واحد بسم الله الرحمن الرحيم، وبه نستعين؛ أما بعد: فعلى غرار الجدل القائم بين مؤيدي سكنية بيوت الحِجْر ( مدائن صالح )، وبين القائلين إنها مقابر نبطية، فإن المتأمل في تصاميم هيكلة هذه البيوت من الداخل والخارج يتضح له أنها صُمِّمت على أن تكون في البداية سكنية، ثم تكون لاحقًا مقابر لأصحابها، فتجد بها من الداخل دكات للجلوس، ورفوف متعددة الأحجام لوضع الحاجيات، وتلاحظ أيضًا أن حُلُوق الأبواب ومزاليج الأقفال من الداخل، وليست من الخارج، وتجد أيضًا لبعض هذه البيوت نوافذ للتهوية؛ مما يؤكد أنها مُعدَّة للسكن من هذه الناحية، ومن ناحية أخرى تجد في 30% منها مقابرَ، و70% منها بدون مقابر، وهذا يدل دلالة واضحة أنها معدة للسكن والقبور في آن واحد، فعندما يموت أحد أصحاب هذه البيوت يُنحت له قبرٌ داخل بيته، ويُحنَّط ويُوضَع فيه، إما لعقائد عندهم، أو لعادات اجتماعية، ويلحق به من يموت من أفراد عائلته فيما بعد، ثم يُغلَق هذا البيت يُكتَب على واجهته من الخارج في لوحة معدة مسبقًا ومبروزة: هذا قبر فلان بن فلان وعائلته، ولا يحق لأحد أن يدفن فيه من غيرهم، كما اتضح ذلك من خلال ترجمة هذه النقوش من قِبل المختصين، وكون 70% من هذه البيوت بدون قبور يؤكد أن أصحابها ماتوا فيها موتة جماعية، فلم يبقَ أحد ينحِت لهم قبورًا كعاداتهم، إما بهلاك جماعي أو بصيحة واحدة، كما ذكر الله سبحانه وتعالى ذلك في كتابه عنهم؛ فقال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ * وَآتَيْنَاهُمْ آيَاتِنَا فَكَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ * وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آمِنِينَ * فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ * فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾ [الحجر: 80 - 84]، وهم بلا شكٍّ الثموديون كما حددهم القرآن الكريم في الحجر بالذات، وكون الأنباط استوطنوا هذه المنطقة لاحقًا إن صحَّ ذلك، فلا علاقة لهم بهذه البيوت لا من قريب، ولا من بعيد، فنقشُ رقوش المكتوب على لافتة أحد هذه البيوت مؤرخٌ بسنة مائة وستين (160م)، وتاريخ نهاية تواجد الأنباط في هذه المنطقة كان سنة (109م) على يد الرومان؛ مما يؤكد أن تاريخ النقش ليس تاريخًا نبطيًّا؛ لعدم توافقه مع تاريخ عصر تواجدهم في هذه المنطقة، ولا تاريخًا ميلاديًّا أيضًا، بل هو تاريخ خاص بالثموديين قبل الميلاد بقرون، وكون لغة النقش وأسماء أشخاصه عربية، فإن الثموديين عرب قدماء جدًّا حسب كتب المؤرخين، ولهجة وحروف أبجديات الأنباط هي لهجة وأبجديات المتأخرين من الثموديين، هذا إذا ما كان الأنباط من سلالات الثموديين الناجين من الصيحة، والله تعالى أعلم.
القَعْنَبِيُّ عبدُالله بن مَسلمة عن محمد بن يحيى بن سعيد، قال: سألت أبي، قال: سألت شعبة وسفيان وابن عيينة ومالكًا عن الرجل يكون فيه تهمة، أو ضعف، أسكتُ أو أبيِّن؟ قالوا جميعًا: بيِّن أمرَه؛ [رواه مسلم بنحوه في مقدمة صحيحه، باب: بيان أن الإسناد من الدين، ورواه أحمد في العلل]. وروى مسلم في نفس الباب عن ابن سيرين، قال: "لم نكن نسأل عن الإسناد في الحديث، حتى وقع الفتنة، فلما وقعت الفتنة، سُئل عن الإسناد في الحديث؛ ليُنظَرَ أهلُ السُّنَّة فيُؤخَذ حديثُهم، ويُنظَر أهل البدعة فيُرَدُّ حديثهم". وروى أيضًا: قال عبدالله بن المبارك: "الإسناد من الدين، ولولا الإسناد لَقالَ مَن شاء ما شاء، فإذا قيل له: مَن حدَّثك؟ بقيَ متحيرًا، وكان يقول: بيننا وبين القوم القوائمُ"؛ يعني: الإسناد. وقال سفيان الثوري: "الإسناد سلاحُ المؤمن، إذا لم يكن معه سلاح، فبأي شيء يقاتل؟". وحذف الأسانيد خسارة كبيرة؛ إذ الإسناد من الدين، وما كان سلفنا رحمهم الله يقبلون من محدِّث حديثًا حتى يُسنِده، وينظروا في رجاله رجلًا رجلًا، كما هو معروف من سِيَرِهم رحمهم الله. وكانوا لا يقبلون حديثًا وَرَدَ إليهم، إلا إذا أسنده صاحبه، وتأكد لهم صحة هذا الإسناد، مهما كانت مكانة مَن رَوَاه؛ فقد روى مسلم في مقدمة الصحيح بسنده إلى أبي إسحاق إبراهيم بن عيسى الطالقاني، قال: قلت لعبدالله بن المبارك: "يا أبا عبدالرحمن، الحديث الذي جاء: ((إن من البر بعد البر أن تصليَ لأبويك مع صلاتك، وتصوم لهما مع صومك))، قال: فقال عبدالله: "يا أبا إسحاق، عمن هذا؟ قال: قلت له: هذا من حديث شهاب بن خراش، فقال: ثقة، عمن؟ قال: قلت: عن الحجاج بن دينار، قال: ثقة، عمن؟ قال: قلت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: يا أبا إسحاق، إن بين الحجاج بن دينار وبين النبي صلى الله عليه وسلم مفاوزَ تنقطع فيها أعناق الْمَطِيِّ". ومن رجال الإسناد الأبرار الشوامخ عبدالله بن مسلمة بن قعنب، الإمام الثبت القدوة، شيخ الإسلام، نزيل البصرة، ثم مكة. أحد فقهاء المالكية، بل أبرزهم، وأحد أوعية العلم، ومن الْمُكثرين من الرواية، حتى غدا عَلَمًا من الأعلام الفكرية في القرن الثاني، وبدايات القرن الثالث الهجري. مولده سنة ثلاثين ومائة (130هـ)، وتوفي (221هـ) خلال العصر العباسي، فبداية الدولة العباسية كان 130هـ، وكان عمره تسعين عامًا، وأدرك أول سبعة خلفاء في دولة بني العباس: أبو العباس السفاح، وجعفر المنصور، ومحمد المهدي، وموسى الهادي، والرشيد، والأمين، والمأمون، والمعتصم. سمع من: أفلح بن حميد أحد الثقات المشهورين، وابن أبي ذئب ؛ هشام بن ربيعة، أحد الفقهاء المشهورين، وشعبة بن الحجاج ، وأسامة بن زيد بن أسلم، وداود بن قيس الفراء، وسلمة بن وردان، ويزيد بن إبراهيم التستري، ومالك بن أنس ، ونافع بن عمر الجمحي، والليث بن سعد ، والدراوردي، وإبراهيم بن سعد، وإسحاق بن أبي بكر المدني، والحكم بن الصلت، وحماد بن سلمة ، وسليمان بن بلال، وعيسى بن حفص بن عاصم بن عمر، وسليمان بن المغيرة، وهشام بن سعد، وعدة. وروى عنه: البخاري، ومسلم ؛ وهو أكبر شيخ لمسلم، سمِع منه في أيام الموسم في ذي الحجة سنة عشرين، ولم يُكْثِر عنه، وأبو داود، والخريبي وهو من شيوخه، ومحمد بن سنجر الحافظ، ومحمد بن يحيى الذهلي، ومحمد بن عبدالله بن عبدالحكم، وأبو حاتم الرازي، وعبد بن حميد، وعمرو بن منصور النسائي، وأبو زرعة الرازي ، ومحمد بن غالب تمام، وإسماعيل القاضي، ومحمد بن أيوب بن الضريس، وعثمان بن سعيد الدارمي ، ومحمد بن معاذ دران، وإسحاق بن الحسن الحربي، ومعاذ بن المثنَّى، وأبو مسلم الكجي، وأبو خليفة الجمحي، وخلق كثير. ثناء العلماء عليه: ♦ قال أبو زرعة الرازي: "ما كتبت عن أحد أجلَّ في عيني من القَعْنَبِي". ♦ وعن عبدالصمد بن الفضل: "ما رَأَتْ عيناي مثل أربعة، فذكر منهم القَعْنَبِي". ♦ قال الذهبي: "حَدُّ الولي الرسوخ في العلم والعمل مثل القَعْنَبِي". ♦ قال يحيى بن معين: "ما رأيت رجلًا يُحدِّث لله إلا وكيعًا والقَعْنَبِي". ♦ قال عمرو بن علي الفلاس: "كان القَعْنَبِي مجاب الدعوة". قال أبو بكر الشيرازي في كتاب الألقاب له: "سمعت أبا إسحاق المستملي، سمعت أحمد بن منير البلخي، سمعت حمدان بن سهل البلخي الفقيه يقول: ما رأيت أحدًا إذا رُوئيَ ذُكر الله تعالى إلا القَعْنَبِي رحمه الله، فإنه كان إذا مرَّ بمجلس يقولون: لا إله إلا الله، وقيل: كان يسمى الراهب لعبادته وفضله". وروى عبدالله بن أحمد بن الهيثم، عن جده، قال: "كنا إذا أتينا القَعْنَبِي، خرج إلينا كأنه مشرف على جهنم". وقال إسماعيل القاضي: "كان القَعْنَبِي من المجتهدين في العبادة". القَعْنَبِي وشعبة: ♦ وعن القَعْنَبِي، حدثنا شعبة، حدثنا منصور، عن ربعي، عن أبي مسعود: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستحِ، فاصنع ما شئت)). ♦ قال الحافظ أبو عمرو أحمد بن محمد الحيري: سمعت أبي يقول: "قلت للقعنبي: ما لك لا تروي عن شعبة غير هذا الحديث؟ يعني حديث: ((إذا لم تستحِ فاصنع ما شئت))، قال: كان شعبة يستثقلني، فلا يحدثني... وفي الجملة لم يدرك القَعْنَبِي شعبةَ إلا في آخر أيامه، فلم يُكْثِر عنه". القَعْنَبِي ومالك: ♦ من أجلِّ تلامذة مالك، وكان مالك يكبُره بأربعين سنة، وكان يُجِلُّه ويجلسه بجواره، وإن غاب القَعْنَبِي، بقيَ مكانه خاليًا. ♦ عن الميموني: سمعت القَعْنَبِي يقول: "اختلفت إلى مالك ثلاثين سنة، ما من حديث في الموطأ إلا لو شئت قلت: سمعته مرارًا". ♦ قال إسماعيل القاضي: "كان القَعْنَبِي لا يرضى قراءة حبيب، فما زال حتى قرأ لنفسه الموطأ على مالك". ♦ وذكر العجلي أنه قرأ مالك على القَعْنَبِي نصف الموطأ، وقرأ القَعْنَبِي النصف الآخر. ♦ قال محمد بن سعد الكاتب: "كان القَعْنَبِي عابدًا فاضلًا، قرأ على مالك كتبه". ♦ قال محمد بن عبدالله الزهيري، عن الجنيني قال: "كنا عند مالك، فقدِم ابن قعنب من سفر، فقال مالك: قوموا بنا إلى خير أهل الأرض". ♦ قال عبدالله الخريبي وكان كبير القدر: "حدثني القَعْنَبِي، عن مالك، وهو والله عندي خير من مالك". ♦ وروى محمد بن علي بن المديني، عن أبيه قال: "لا يُقدَّم أحد من رواة الموطأ على القَعْنَبِي". ♦ وقال عثمان بن سعيد: سمعت علي بن المديني وذكر أصحاب مالك، فقيل له: مَعْن ثم القَعْنَبِي، قال: "لا، بل القَعْنَبِي ثم معن". ♦ وقال الإمام ابن خزيمة: سمعت نصر بن مرزوق يقول: "أثبت الناس في الموطأ القَعْنَبِي، وعبدالله بن يوسف بعده". ♦ قال ابن أبي حاتم: قلت لأبي: القَعْنَبِي أحب إليك في الموطأ أو إسماعيل بن أبي أويس؟ وهو ابن أخت مالك، والراوي عنه والملازم له، قال: "بل القَعْنَبِي، لم أرَ أخشع منه". ♦ وقال أبو حاتم: "ثقة حجة، لم أرَ أخشع منه، سألناه أن يقرأ علينا الموطأ فقال: تعالَوا بالغداة، فقلنا: لنا مجلس عند حجاج بن منهال، قال: فإذا فرغتم منه، قلنا: نأتي حينئذٍ مسلم بن إبراهيم، قال: فإذا فرغتم، قلنا: نأتي أبا حذيفة النهدي، قال: فبعد العصر، قلنا: نأتي عارمًا أبا النعمان، قال: فبعد المغرب، فكان يأتينا بالليل، فيخرج علينا، وعليه كَبلٌ ما تحته شيء في الصيف، فكان يقرأ علينا في الحر الشديد حينئذٍ". ♦ قال القَعْنَبِي: "دخلت على مالك فوجدته باكيًا، فقلت: يا أبا عبدالله، ما الذي يبكيك؟ قال: يا ابن قعنب، على ما فرط مني، ليتني جُلدت بكل كلمة تكلمت بها في هذا الأمر بسَوطٍ، ولم يكن فرط مني ما فرط من هذا الرأي وهذه المسائل، قد كان لي سَعَةٌ فيما سبقت إليه". ♦ وعن القَعْنَبِي أنه دخل على مالك في مرضه الذي توفي فيه، فسلم عليه وجلس إلى جانبه، فبكى مالك، فسأله القَعْنَبِي، فقال: "وكيف لا أبكي وقد أفتيت برأيي؟ وددت أني أُبرحت ضربًا بالسِّياط ولم أقدم على ما فعلت". ♦ ويُروى عن أبي سبرة المديني قال: "قلت للقعنبي: حدثت ولم تكن تحدث، قال: إني أُريتُ كأن القيامة قد قامت، فصِيح بأهل العلم، فقاموا، وقمت معهم، فنُوديَ بي: اجلس، فقلت: إلهي ألم أكن أطلب؟ قال: بلى، ولكنهم نشروا، وأخفيته، قال: فحدثت".
يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام (2) نتحدَّثُ في هذا الفصل عن يعقوب نبي الله بن إسحاق نبي الله بن إبراهيم نبي الله عليهم الصلاة والسلام، وقد تقدَّم في الفصل السابق أن الله تعالى بشَّر سارة بإسحاق، ومن وراء إسحاق يعقوب، وأشرتُ إلى أن القرآن قد نصَّ على أن يعقوب هو ابن إسحاق كما نصَّ على ذلك رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في الخبر الذي أخرجه البخاري في ذلك. ويعقوب هو إسرائيل، وإليه تنتمي جميع أسباطهم، ومعنى إسرائيل: عبدالله، فهو مركَّب تركيب الإضافة؛ فإن "إسرا" بالعبرانية هو: العبد، و"إيل" هو: الله، على أن العرب قد تصرَّفتْ في هذا الاسم بلغات كثيرة منها: إسرائين، بإبدال اللام نونًا، كما قالوا في إسماعيل: إسماعين؛ وهي لغة عربية فصيحة كذلك. وقد ساق الله تبارك وتعالى الكثيرَ من أخبار يعقوب عليه السلام في قصة ولده يوسف عليه السلام، وقد أشار القرآن العظيم إلى أنَّ يعقوب تزوَّج أكثر من زوجة، وأنه كان يحسُّ بحنانٍ وعاطفة قويَّة إلى يوسف عليه السلام، وأن إخوة يوسف من أبيه حقدوا عليه لحبِّ أبيه له، وأن يوسف كان له أخ شقيق بدليل قوله تعالى عن يوسف: ﴿ وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ ﴾ [يوسف: 59]. وأشارَ القرآنُ إلى أن يعقوب عليه السلام كان يسكن في بادية بفلسطين مع بنيه، وأن يوسف عليه السلام رأى وهو صغير رؤيا فقصَّها على يعقوب، قال: ﴿ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ ﴾ [يوسف: 4]، فنصحه أبوه بكتمان هذه الرؤيا عن إخوته مخافةَ أن تحملهم على الكيدِ له وإلحاق الأذى به، وأفاده أن هذه الرؤيا تدلُّ على أن الله عز وجل يصطفيك: ﴿ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ ﴾ [يوسف: 6]، وقد ازداد يعقوب بهذا حرصًا على يوسف عليه السلام، وكان لا يكاد يطيق فراقه أو بُعده عنه، وقد أشعل الشيطانُ نارَ الحقدِ على يوسف في قلوب إخوته، فتآمروا عليه أن يقتلوه أو يطرحوه أرضًا بعيدة عن أبيهم؛ ليخلوَ لهم وجهُ أبيهم. واستقرَّ رأيهم على عدم قتله، وأن يُلقوه في غيابة الجُبِّ ليلتقطه بعضُ السَّيَّارة، ويحملوه إلى أرض بعيدة، مُدَّعين لأبيهم أن الذئب أكله: ﴿ قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ * أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾ [يوسف: 11، 12]، فأظهر يعقوب عليه السلام تعلُّقَه بيوسف وأنه لا يحب أن يبتعدَ عنه ويخشى عليه من الذئبِ: ﴿ قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ * قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ * فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ * وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ * قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ * وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ ﴾ [يوسف: 13 - 18]. وقد ذكر اللهُ عز وجل قصةَ مجيء إخوة يوسف إليه في مصر يمتارون طعامًا وهم لا يعرفونه، وأنه طلب منهم إحضارَ أخٍ لهم من أبيهم: ﴿ فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ * قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ﴾ [يوسف: 63، 64]، وقال يعقوب عليه السلام: ﴿ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ * وَقَالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ * وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا ﴾ [يوسف: 66 - 68]، وأن يوسف عليه السلام عندما رأى شقيقَه عرَّفه بنفسه وقال: ﴿ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [يوسف: 69]، و﴿ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ﴾ [يوسف: 70]، لتكونَ سببًا ظاهرًا لحجزه عنده، وحاول إخوة يوسف أن يجعلوا أحد أشقائهم مكانه، لكنه رفض: ﴿ قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ * قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [يوسف: 77، 78]، فرفض يوسف عليه السلام: ﴿ فَلَمَّا اسْتَيْئَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ * ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ * وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ ﴾ [يوسف: 80 - 82]. قال يعقوب عليه السلام لما قال له أولاده ذلك: ﴿ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ ﴾ [يوسف: 83، 84]، فقال له بنوه: ﴿ تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا ﴾ [يوسف: 85]؛ أي: قريبًا من الموت لما يجلبه لك الحزنُ من الأسقام والأوجاع ﴿ أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ ﴾ [يوسف: 85]، أي: أو تموت، ﴿ قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ * يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ ﴾ [يوسف: 86، 87]. فلما دخلوا على يوسف، وشرحوا له ما أصاب أباهم من الهمِّ والحزن على فراق ولده، عرَّفهم يوسف بنفسه، وأمرهم أن يذهبوا بقميصِه؛ ليضعوه على وجه أبيه ليذهب حزنُه وليأتي بصيرًا، وأمرهم أن يأتوه بأهلهم أجمعين، ﴿ وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ ﴾؛ يعقوب عليه السلام لبنيه: ﴿ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ ﴾ [يوسف: 94]، ﴿ فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ ﴾ ألقى قميصَ يوسف على وجه أبيه ﴿ فَارْتَدَّ بَصِيرًا ﴾، وقال لبنيه: ﴿ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ * قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ * قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ ﴾ [يوسف: 96 - 99]؛ أي ضمَّ إليه أباه وخالته أم إخوانه لأبيه، والخالة أُم فهي أحد الأبوين، أو هي أمه: ﴿ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ * وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا ﴾ [يوسف: 99، 100]، وسجدوا لله شُكرًا. وقال يوسف: ﴿ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ﴾ [يوسف: 100].
المسلمون أرحم المحاربين في التاريخ ثبت في التاريخ بما لا يدع مجالًا للشكِّ أن حروب المسلمين كانت هي الأقَلَّ تكلفةً إنسانيةً وبشريةً وماديةً في تاريخ العالم كله والإنسانية كلها. لم يعرف التاريخُ كلُّه فاتحًا أرْحَمَ من رسول الإنسانية محمدٍ صلى الله عليه وسلم. لقد خاض المسلمون في حياة النبي صلى الله عليه وسلم أكثرَ من عشرين معركةً، كانت هي الأقَلَّ كُلْفةً في الخسائر على الإطلاق في تواريخ البَشَر وحياة الأُمَم؛ فقد كان مجموع القَتْلى في كل المعارك التي خاضَها المسلمون في حياةِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم 386 قتيلًا، نَعَم ثلاثمائة وستة وثمانين قتيلًا فقط من الجانبين: 203 من الكُفَّار، و183 من المسلمين، تخيَّلوا 386 قتيلًا فقط! في أكثر من عشرة أعوام، وفي أكثر من عشرين معركة؛ لتكون وقائع التاريخ هي الدليل الأقوى للعالم كله على أن المقصد الأهم للإسلام والمسلمين هو حماية النفس أي نفس من المسلمين أم من غير المسلمين. ولقد فتح عمر بن الخطاب رضي الله عنه القدس بلا قتيلٍ واحدٍ، واحتلَّها الصليبيُّون في عام 1099م، فقتلوا أكثر من سبعين ألف إنسان بريء بعد أن دخلوا المدينة المقدَّسة، وحرَّرها صلاح الدين الأيوبي في عام 1187م، فلم يقتُلْ إنسانًا واحدًا بعد دخول القدس. وغير ذلك الكثير والكثير من الوقائع والأدِلَّة الدامغة التي تثبت بما لا يدع مجالًا للشكِّ أنَّ الإسلام دينٌ يُحافِظ ويحمي دماء الأعداء والأولياء على السواء، وأن قتل غير المسلم حرامٌ كحُرْمة قَتْل المسلم تمامًا، انظر إلى قوله تعالى: ﴿ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا ﴾ [المائدة: 32]، فلقد حرَّم النصُّ القرآني قتل النفس الإنسانية كلها مسلمها وكافِرها، وجاء واقع المسلمين في القديم والحديث ليثبت جدارتهم بحماية النفس الإنسانية كلها في مشارق الأرض ومغاربها. واللهُ من وراء القصد. اللهُمَّ اجعل نيَّتنا خالصةً لك، وطهِّر مقصدنا، ونظِّف وجهتنا، وتقبَّل عملنا.
شرح الهمزية للشيخ شهاب الدين أحمد السنباطي صدر حديثًا كتاب "شرح الهمزية"، للعلامة الشيخ شهاب الدين أحمد بن أحمد بن عبد الحق السنباطي (ت 999 هـ)، سلسلة تراث الأزهريين، نشر: "دار كشيدة للنشر والتوزيع". والكتاب يتضمن شرح وتعليقات الشيخ "أحمد السنباطي" على قصيدة "الهمزية" للبوصيري. وتعد القصيدة الهمزية جنبًا إلى جنب مع البردة من أفضل ما قيل في مدح المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم شعرًا، على الرغم ما في البردة من شطط في بعض المواضع، وإلى جانب ما اتسمت به الهمزية من عذوبة في الألفاظ وجزالة في المعاني، مثلها في ذلك مثل البردة، إلا أن الهمزية - نظرًا لطولها - انفردت باشتمالها على أطراف من شمائل المصطفى وجوانب عدة من سيرته، حتى وجدنا كُتَّابَ السيرة بعد البوصيري يستأنسون بأبياتها في عرضهم لأحداث السيرة النبوية. ويعد شرح العلامة السنباطي للهمزية من الشروح المتقدمة لها، إذ لم يسبقه إلى شرحها إلا عدد قليل من العلماء، ومقارنة بغيره من الشروح المطولة يتسم شرح السنباطي للهمزية بالإيجاز والاختصار، مع الحرص على تقرير المقصود من كل بيت بصورة واضحة، وترجيح ما يراه صوابًا عند وجود اختلاف في فهم مراد البيت، دون الخوض في تفاصيل ذلك الاختلاف. والقصيدة الهمزية للبوصيري نالت اهتمامَ الشعراء والأدباء والباحثين، فأثنوا على قائلها، وقد عبّر عن عظمة الهمزيّة شارحُها الشيخ سُليمان بن عمر بن منصور المعروف بالجَمَل (ت 1240 هـ/ 1789م)، عبّر عن همزية البوصيري بقوله: قصيدته الهمزيّة المشهورة، العذبة الألفاظ، الجزلة المعاني، النجيبة الأوضاع، العديمة النظير، البديعة التحرير، إذْ لم يُنسجْ على مِنْوالها، ولا وَصَلَ إلى حُسنها وكمالها أَحَدٌ (انظر: مقدمة الفتوحات الأحمديّة بالمنح المحمديّة منشورات القاهرة سنة 1274 هـ/ 1857م). ولقد أصبحت الهمزيّة من عُمُدِ التراث الإسلامي في تأريخ السيرة النبوية الشريفة، ولذلك نجد استشهاد العلماء والباحثين بأبيات منها، كما هو الحال عند الكتّاني في التراتيب الإداريّة (التراتيب الاداريّة 1/478 و 2/364 و366 و403) والحلبي في السيرة الحلبية "إنسان العُيُون" والآلوسي في تفسيره (روح المعاني: ج: 19/141 و180، وج: 26/75). وعدد أبيات الهمزية 450 بيتًا يقول في مطلعها: كيف ترقَى رُقِيَّك الأَنبياءُ يا سماءً ما طاوَلَتْها سماءُ لَمْ يُساوُوك في عُلاكَ وَقَدْ حا لَ سنًا مِنك دونَهم وسَناءُ وصاحب الشرح هو "أحمد بن أحمد بن عبد الحق بن محمد بن عبد الحق السنباطي"، هو الشيخ الإمام المقرئ الكبير، العلامة المحقق، المحرر، العالم المشارك في أنواع من العلوم، شهاب الدين ابن عبد الحق الشافعي المصري شارح الشاطبية. اشتغل (السُّنباطي الابن) بدراسة العلوم الشرعية والأدبية وعلوم القرآن، وصنَّف في كثيرٍ من ذلك، وشرح بعض المنظومات، وكان شديدًا في أحكامه، موفقًا في نقضه وإبرامه، وافر الديانة، محسن للفقراء والصالحين، وكان بصيرًا بالفقه والأصول والكلام والأدب، وفيه صدق وتواضع وبهاء، والملاحظات التي عليه هي ميله ناحية مذهب الأشاعرة، والسير على منهج الصوفية. قال عنه الزركلي: "فاضل مصري، من أهل سنباط (في المحلة الكبرى بمصر)". وقال عنه تلميذه الغزي في الكواكب السائرة: "أحمد بن أحمد بن عبد الحق، الشيخ الإمام العلامة المحقق، المحرر". وأخذ العلم عن: 1. والده الشيخ: شهاب الدين أحمد بن عبد الحق بن محمَّد بن عبد الحق بن أحمد بن محمَّد بن محمَّد بن محمَّد بن عبد العال الشرف ابن الشمس السنباطي، الشافعي (ت950هـ). (والد شارح الشاطبية السلفي الاعتقاد والمنهج). 2. الشيخ: شيخ القراء والإقراء في زمانه الشيخ شحاذة اليمني الشافعي المصري (ت977هـ). 3. الشيخ: يوسف بن زكريا بن محمد بن أحمد بن زكريا الأنصاري الشافعي الأزهري، السنبكي (ت987هـ)‏. أما تلامذته فقد توسَّعت كتب التراجم في ذكر بعض تلامذته، وعرفنا مِن قبل أن (السُّنباطي الابن) ذاع صيتُه في علم القراءات والتجويد والإقراء، فاشتهر علمه، وعلا ذكره، وبُعد صيته، وقصده الناس من النواحي لعلمه ودينه، فانتفع على يديه جماعات، وجوَّدوا القرآن. وإذا كان (السُّنباطي الابن) قد ترك وراءه بعضًا من المؤلفات والكتب، فقد خلَّف لنا أيضًا عددًا من التلاميذ والعلماء الذين نقلوا علمه ونشروه بين الناس، ولم يكن العكوف على التأليف والكتابة ليصرف (السُّنباطي الابن) عن الإقراء والتدريس ونقل السند للجيل الذي بعده، كما أن الإقراء والتدريس لم يكن عائقًا له عن الكتابة والتصنيف. وأما عدد تلامذته فهم كثير وأوَّلهم: 1- الشيخ: أبو عبد الله محمد بن قاسم القصار الغرناطي الأصل الفاسي (ت1012هـ). روى عنه بالإجازة مكاتبة. 2- الشيخ: عبد القادر بن محمَّد بن أحمد بن زين الفيومي المصري الشافعي الإمام الكبير المعروف (ت1022هـ). 3- الشيخ: سيف الدين بن عطاء الله، أبو الفتوح الوفائي الفضالي: مقرئ شافعي، بصير. كان شيخ القراء بمصر (ت1020هـ). 4- الشيخ: أبو العباس أحمد بن محمد بن محمد بن أحمد بن علي بن أبي العافية المكناسي النجاري الفاسي الدار المعروف بابن القاضي (ت1025هـ). 5- الشيخ: محمد حجازي بن محمد بن عبد الله الشهير بالواعظ القلقشندي شارح الجزرية المعروف (ت1035هـ). 6- الشيخ: عمر بن إبراهيم بن علي بن أحمد بن علي السعدي الحموي الأصل الدمشقي المولد المعروف بابن كاسوحة (ت1017هـ). 7- الشيخ: عبد الرحمن بن شحاذة المعروف باليمنى الشافعي شيخ القراء وإمام المجودين في زمانه (ت1050هـ). 8- الشيخ: الغَزي محمد بن محمد بن محمد الغزي العامري القرشي الدمشقي، أبو المكارم، المؤرخ الباحث الأديب (ت1061هـ). ومن مؤلفاته: • "روضة الفهوم بنظم نقاية العلوم" للسيوطي. • "فتح الحي القيوم بشرح روضة الفهوم" المذكورة له. • "حاشية على شرح المحلي للورقات". • "شرح القصيدة الهمزية في المدائح النبوية" للبوصيري في مجلد. • "إظهار الأسرار الخطية في حل الرسالة الجيبية" أو شرح رسالة الجيب للشيخ بدر الدين المارديني وهي على مقدمة وعشرين بابًا شرحها أحمد بن عبد الحق السنباطي. • "توضيح على رسالة المارديني في العمل بالربع المجيب". • كتاب "شرح الشاطبية" في القراءات السبع المتواترة، قال المرصفي: "ومن وقف على هذا الشرح عرف مقدار الرجل وسعة اطلاعه وطول باعه في علم القراءات والتجويد". • كتاب "شرح مقدمة زكريا الأنصاري في الكلام على البسملة". • "حاشية على كتاب الورقات" للجويني.
الإنتاج العلمي للعلامة الفقيه أ.د نزيه كمال حماد جمعه: د. عبدالعزيز بن سعد الدغيثر في 29-5-1444هـ الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على مَنْ لا نبي بعده، أمَّا بعد: فيُعَدُّ شيخنا العلَّامة نزيه كمال حماد من أكثر فقهاء العصر دِقَّةً في البحث، وغزارةً في الاستدلال، وغوصًا في المقاصد الشرعية في بحوثه المتنوعة، كيف لا وهو الأصولي المحقِّق والفقيه المدقِّق؟! الذي عاصر كبار العلماء في سوريا ثم العراق ثم مصر، ودرس في مكة المكرمة حيث يجتمع العلماء في المواسم، وتتلاقح الأفكار عبر الحوار، كما شارك عضوًا مؤسسًا في المجامع الفقهية ولا زال، وفي هذه الورقات تعريف للجيل بهذا الفقيه النبيل والعالم الجليل ليفيدوا منه قبل الرحيل. وقد وُلِد شيخنا في مدينة حمص بالجمهورية العربية السورية، وحصل على بكالوريوس في الشريعة من جامعة دمشق سنة (1967)، وماجستير من جامعة بغداد، العراق (1970)، ودكتوراه مع مرتبة الشرف الأولى من جامعة القاهرة – كلية دار العلوم/ مصر (1973)، التخصص الدقيق: "العقود والمعاملات المالية في الفقه الإسلامي المقارن"، وكان عنوان رسالته: "أحكام القبض في العقود في الفقه الإسلامي". ثم رحل إلى المملكة العربية السعودية وعمل فيها سبعة عشر عامًا أستاذًا للفقه الإسلامي وأصوله بكلية الشريعة (جامعة أم القرى، مكة المكرمة) من عام 1973- 1990م، ثم غادر إلى كندا (فانكوفر) واستمرَّ في العطاء باحثًا مدققًا ومحاضرًا ومدرسًا، ثم استقرت به عصا الترحال في إسطنبول، أسأل الله له دوام العطاء والعافية. ألَّف شيخنا أكثر من 25 كتابًا، وأكثر من 50 بحثًا، وأشرف على أكثر من 25 رسالة ماجستير ودكتوراه في الفقه الإسلامي وأصوله والاقتصاد الإسلامي. وشيخنا عضو دائم بمجمع الفقه الإسلامي الدولي التابع لمنظمة التعاون الإسلامي في جدة، وعضو معين بمجمع الفقه الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي في مكة المكرمة، ومتحدِّث رئيسي في ندوات مستقبل العمل المصرف الإسلامي التي يُنظِّمها البنك الأهلي التجاري السعودي سنويًّا في جدة، المملكة العربية السعودية، ويُشارك في مؤتمرات شورى في الكويت ومؤتمرات في البحرين وغيرها. ويشارك شيخنا في الكثير من اللجان الشرعية؛ فهو رئيس الهيئة الشرعية لسيتي بنك الإسلامي الاستثماري في مملكة البحرين، وصندوق الاستثمار الإسلامي المحدود ( Credit Suisse/ Guernsey, Channel Ilands ( CSFB ) )، وشركة منهاج للاستشارات في دبي، دولة الإمارات العربية المتحدة، كما أنه عضو الهيئات الشرعية للعديد من المؤسسات مثل: شركة Takaful GmbH FWU في دبي، دولة الإمارات العربية المتحدة، وشركة Rating intelligence في المملكة المتحدة، وصندوق ( Citi Islamic Global Equity Fund ) من عام 1996م – 2008م ( Citi Group/ Luxembourg )، وصندوق "الواحة" الإسلامي من عام 1995م – 2007م ( Flemings / UK )، ومجموعة صناديق "الفنار" ( Permal Investment Management Ltd – UK )، وصندوق التأجير الإسلامي ( Australia & New Zeland Bank – UK ) من عام 1997م – 2006م. وأهم كتب شيخنا أ.د نزيه حماد – أدام الله عطاءه وإبداعه -: 1- معجم المصطلحات المالية والاقتصادية في لغة الفقهاء . 2- القواعد الشرعية وعلاقتها بفقه المصالح . 3- أحكام الجهاد وفضائله . 4- نظرية الولاية في الشريعة الإسلامية . 5- تغيرات النقود والأحكام المتعلقة بها في الفقه الإسلامي . 6- قضايا فقهية معاصرة في المال والاقتصاد . 7- دراسات فقهية [القنوت – اللقطة – الهجرة – الصلح – الوعد – القبض] . 8- في فقه المعاملات المالية والمصرفية المعاصرة -قراءة جديدة -. 9- المستجدات الفقهية في العمل المصرفي الإسلامي . 10- عيون المستجدات الفقهية: صناعة المصرفية الإسلامية . 11- الحيازة في العقود في الفقه الإسلامي . 12- عقود الإذعان في الفقه الإسلامي . 13- عقد السلم في الشريعة الإسلامية . 14- عقد القرض في الشريعة الإسلامية . 15- عقد الوديعة في الشريعة الإسلامية . 16- بيع الكالئ بالكالئ . 17- الأحكام الشرعية في العلاقات الجنسية . 18- المواد المحرمة والنجسة في الغذاء والدواء . 19- دراسات في أصول المداينات في الفقه الإسلامي . ولم يعد شيخنا نشره، لتغير رأيه في بعض مسائله كما نقله عنه الدكتور حامد ميرة - حفظه الله -. 20- نظرية الوعد الملزم في المعاملات المالية. وأصله بحوث مذكورة في قسم بحوثه – حفظه الله - 21- المعاوضة عن الالتزام في الفقه الإسلامي. وأصله بحوث مذكورة في قسم بحوثه – حفظه الله - 22- العقود المركبة في الفقه الإسلامي. وأهم تحقيقات شيخنا المحقق المدقق أ.د نزيه حماد – سلمه الله -: 23- شرح الكوكب المنير، تأليف: ابن النجار الفتوحي. تحقيق: محمد الزحيلي - نزيه حماد . 24- كتاب الحدود في الأصول، تأليف: أبي الوليد الباجي الأندلسي. تحقيق: نزيه حماد . 25- كتاب الجهاد، تأليف: عبد الله بن المبارك المروزي. تحقيق: نزيه حماد . 26- قواعد الأحكام في إصلاح الأنام (قواعد العزي بن عبدالسلام)، تحقيق: نزيه حماد - عثمان ضميرية . وأهم أبحاث ومقالات شيخنا أ.د نزيه حماد – أبقاه الله وعافاه -: 1- صناعة الهندسة المالية في المصارف الإسلامية . 2- مدى جواز أخذ الأجر على الكفالة في الفقه الإسلامي . 3- حكم الربط القياسي للأجرة في إجارة الأعيان بمؤشر سعر الفائدة . 4- تأجير العين المشتراة لمن باعها صراحةً وضمناً . 5- المؤيدات الشرعية لحمل المدين المماطل على الوفاء وبطلان الحكم بالتعويض المالي عن ضرر المماطلة . 6- المواطأة على إجراء العقود المتعددة في صفقة واحدة . 7- الإلزام القضائي بالوعد في فقه المعاملات المالية -تقعيد وتأصيل -. 8- الالتزام في المعاملات المالية حقيقته وموجباته . 9- التحوط في صرف العملات . 10- الوفاء بالوعد في الفقه الإسلامي تحرير النقول ومراعاة الاصطلاح . 11- التورق: حكمه وتطبيقاته المعاصرة . 12- أحكام التعامل بالربا بين المسلمين وغير المسلمين في ظل العلاقات الدولية المعاصرة . 13- التبعية . 14- إجارة العين لمن باعها. 15- تضمين المتضاربين و الوكلاء بالاستثمار بين النظرية والتطبيق . 16- تأملات في بحث "تداول أسهم الشركات ووحدات الصناديق المشتملة على ديون ونقود". 17- السلم بالسعر يوم التسليم ( البحث الأول – البحث الثاني – البحث الثالث ]. 18- مدى صحة تضمين يد الأمانة بالشرط في الفقه الإسلامي . 19- رهن الديون والسندات في الفقه الإسلامي . 20- المزايا المصرفية الممنوحة لعملاء الحساب الجاري . 21- تعقيبات د. نزيه حماد على بحث خطابات الضمان . 22- مبدأ "تغير الأحكام بتغير الأحوال" . 23- اجتماع العقود في صفقة واحدة في الفقه الإسلامي [بيت التمويل الكويتي]. 24- المقاصة بين الفوائد الدائنة والفوائد المدينة، والفرق بينها وبين تبادل القروض [حولية البركة العدد الرابع]. بحوث مؤتمرات المصرفية الإسلامية (شورى): 25- التعليق بالشرط في عقدي الهبة والبيع وأثره في تطوير منظومتي المرابحة للآمر بالشراء والإجارة المنتهية بالتمليك . 26- التكييف الفقهي للشركة التي تقوم عليها منظومة المشاركة المتناقصة، أهي شركة ملك أم شركة عقد . 27- التكييف الفقهي لأسهم شركات المساهمة . 28- أثر الاختلاف بين الشخصية الطبيعية والاعتبارية في الأحكام الفقهية لمستجدات المصرفية الإسلامية . 29- قلب الدين والأحكام الفقهية المتعلقة به في الفقه الإسلامي . 30- نقل عبء الإثبات في دعاوى التعدي والتفريط في المضاربة والوكالة بالاستثمار إلى الأمناء . 31- كيفية تحديد الأجور في عقود العمل والتأجير التقليدية والمستحدثة . 32- المواطأة على إبرام العقود والمواعدات المتعددة . كما أن له – حفظه الله بحوثا وتعقيبات في مؤتمرات المصرفية الإسلامية (البنك الأهلي) منها: 33- الوعد في الشريعة الإسلامية -تقعيد وتأصيل- [الندوة الخامسة]. 34- الالتزامات في الشريعة الإسلامية [الندوة السادسة]. 35- قضايا الصرف في الخزينة ونقل النقود بين الدول في الفقه الإسلامي [الندوة السابعة]. 36- تأجيل البدلين في المعاوضات المالية [الندوة التاسعة]. 37- المثلي والقيمي وعلاقتهما بالأسهم [الندوة العاشرة]. 38- حسابات الذهب غير المعين [الندوة الحادية عشرة]. 39- الحلول الشرعية لإشكالات عقد المضاربة المصرفية [الندوة الثانية عشرة]. 40- تعقيب على بحث مسائل التأمين [الندوة الثالثة عشرة]. 41- تعقيب على التعامل مع البنوك ذات النوافذ الإسلامية [الندوة الرابعة عشرة]. ولشيخنا بحوث في مجلة مجمع الفقه الإسلامي: 42- القبض الحقيقي والحكمي: قواعده وتطبيقاته من الفقه الإسلامي [العدد السادس]. 43- البيع بالتقسيط " توثيق الدين في الفقه الإسلامي" [العدد السابع]. 44- السلم وتطبيقاته المعاصرة [العدد التاسع]. 45- العقود المستجدة ضوابطها ونماذج منها [العدد العاشر]. 46- بيع الدين أحكامه – تطبيقاته المعاصرة [العدد الحادي عشر] . 47- بطاقات الائتمان غير المغطاة [العدد الثاني عشر]. 48- المشاركة المتناقصة وأحكامها في ضوء العقود المستجدة [العدد الثالث عشر]. كما أن لشيخنا عددا من البحوث المصرفية المتخصصة (مقدمة لبعض الجهات المصرفية ) منها: 49- إجارة العين المؤجرة. 50- مسألة أشركني أبيع لك. 51- مسألة أعتق عبدك عني وعلي ثمنه. 52- مسألة البيع مع خيار الاستبدال. 53- مسألة الصيغة العمرية في المغارسة. 54- مسائل في القبالة (بحثان). 55- مسألة المزارعة مع الأجر. 56- المضاربة لإنتاج السلع (بحثان). 57- مسائل في المغارسة. 58- إجارة العين لمن باعها. 59- تضمين المتضاربين و الوكلاء بالاستثمار بين النظرية والتطبيق. 60- مسألة بيع المزارع نصيبه. 61- تأجير الأسهم. 62- تداول أسهم الشركات. 63- السلم بالسعر يوم التسليم (بحوث وتعقيبات ). 64- شراء الوكيل من نفسه (بحثان). 65- شركة الوجوه. 66- مسألة ضع وتعجل. 67- ضمان الشريك في الشراء. 68- نفقة المضاربة (بحثان). ولا زال شيخنا مستمرا في العطاء، والمشاركة بعلمه العميق وفهمه الدقيق يكتب بقلمه الرشيق وخطه الجميل ويشارك في الإلقاء والتعقيب على البحوث، وحضوره في كل محفل نجاح ولذا يحرص المنظمون عليه حفظه الله.
إسحاق بن إبراهيم عليهما السلام (1) نتحدَّثُ في هذا الفصل عن نبي الله ورسوله إسحاق بن إبراهيم الخليل عليهما الصلاة والسلام، وإسحاق هو الابن الثاني لإبراهيم عليه السلام، وقد وُلد من زوجته الصالحة سارة رضي الله عنها، وهو أحدُ الآيات التي امتنَّ الله بها على خلقه، وإليه تنتمي جميعُ أسباط بني إسرائيل، قد ولدته أمه وهي عجوزٌ عقيمٌ، من إبراهيم عليه السلام وقد أشرف سِنُّه على مائة عام. وقد ذكر الله تبارك وتعالى البشارةَ بإسحاق في غير موضع من كتابه الكريم، حيث يقول في سورة الذاريات: ﴿ هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ * فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ * فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ * فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ * فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ * قَالُوا كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ ﴾ [الذاريات: 24 - 30]. ويقول عز وجل في سورة هود: ﴿ وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ * فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ * وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ * قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ * قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ * فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ * إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ ﴾ [هود: 69 - 75]. ويقول عز وجل في سورة الحجر: ﴿ وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ * قَالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ * قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ * قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ * قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ ﴾ [الحجر: 51 - 56]. وقال تعالى في سورة العنكبوت: ﴿ وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ * قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ ﴾ [العنكبوت: 31، 32]. وقال تعالى في سورة الصافات: ﴿ وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ * وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ ﴾ [الصافات: 112، 113]. وقد وصف اللهُ تبارك وتعالى سارةَ عند تلقيها البشارة بأوصافٍ منها: أنها عندما سمعت ضيفَ إبراهيم يبشِّرونه بإسحاق أقبلت عليهم في رنَّة عجيبة، مبدية استغرابها من أن يلد مثلُها في هذه السِّن المتقدمة، من هذا الزوج الشيخ الكبير، ولذلك صكَّت وجهها من شدة وقوع هذه البشارة على نفسها، وفي ذلك يقول الله عز وجل: ﴿ فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ ﴾ [الذاريات: 29]. وكما وصفها الله تبارك وتعالى بأنها كانت قائمة، وأنها ضحكت، وليس من سبب لضحكها هنا سوى فرحها بالأضياف، فجاءتها البشارة بإسحاق، ومن وراء إسحاق يعقوب، وقالت مستغربة متعجبة: ﴿ قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ ﴾ [هود: 72]. وفي قوله عز وجل: ﴿ رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ ﴾ [هود: 73] دليلٌ قاطعٌ على أن زوجة الرجل من أهل بيته، وفيه ردٌّ حاسم على بعض أهل الأهواء المنحرفين عن سُنة سول الله صلى الله عليه وسلم أولئك الذين لا يُدخلون زوجات النبي محمد صلى الله عليه وسلم في أهل بيته في قوله تعالى: ﴿ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ﴾ [الأحزاب: 33]؛ حقدًا منهم على الطيِّبات الطاهرات أمهات المؤمنين مع أن السياقَ جاء نصًّا في زوجات رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ حيث يقول عز وجل: ﴿ يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا * وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا * وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا ﴾ [الأحزاب: 32 - 34]. وفي قوله تعالى: ﴿ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ ﴾ [هود: 71] إشعارٌ بأنها تلد غلامًا عليمًا يعيش ويكون له نسلٌ، وأن الله تعالى هو الذي سمَّى ولدها إسحاق، وسمَّى ولدَ ولدِها يعقوبَ، ويمكن أن يكون فيه إشعار كذلك بأنها سيمتد بها العمر حتى ترى ولد ولدها، ولا شكَّ في أن يعقوب هو ولد إسحاق، وفي ذلك يقول الله عز وجل: ﴿ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ﴾ [البقرة: 133]. وإبراهيم جدٌّ وإسماعيل عمٌّ وإسحاق والدٌ، والكلُّ يسمى أبًا، وكما قال عز وجل: ﴿ وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾ [يوسف: 6]. وقد نصَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم على أن يعقوب هو ولد إسحاق بن إبراهيم عليه السلام؛ فقد روى البخاري من حديث عبدالله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم؛ يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم))، وقد وصف الله تبارك وتعالى يعقوبَ في البشارة بإسحاق بأنه نافلة؛ حيث يقول: ﴿ وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ * وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ ﴾ [الأنبياء: 72، 73]، وقال ابن عباس وقتادة والحكم بن عيينة: النافلة ولد الولد، ومن فَسَّر النافلة في الآية بأنها العطية أو الزيادة فإنه مقرٌّ بأنَّ يعقوب هو ولد إسحاق؛ لما جاء في نص القرآن العظيم والسنة النبوية بأن يعقوب هو ولد ولد إبراهيم عليه الصلاة والسلام. وقد أورد الله تبارك وتعالى ذكرَ إسحاق في مواضع من كتابه الكريم مع جملة من النبيين والمرسلين، وفي ذلك يقول في حقِّ إبراهيم عليه السلام: ﴿ فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا ﴾ [مريم: 49]. وكما قال عز وجل: ﴿ إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا * وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا * رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا ﴾ [النساء: 163 - 165].
ملامح القيم الحضارية في الإسلام هل ركبت البحر؟ كان محمد بن يزيد المبرِّد إذا أراد مريدٌ أن يقرأ عليه كتاب سيبويه يقول له: هل ركبت البحر ؟؛ تعظيمًا له – لكتاب سيبويه - وإكبارًا. هذا هو الشعور الذي يتملكني كلما فكرتُ في عرض هذا الكتاب الرائع وتقديمه للقارئ، قرأته وذاكرته أكثر من عشر مرات حتى حفِظت بعض فقراته، وقرأته مع بعض طلابي ثلاث مرات على الأقل، ورغم هذا لا تفارقني الْهَيبة من الكتابة عنه، وليس ذلك لصعوبة لغته وأفكاره؛ وإنما لِما يقدمه من بناء فكري متماسك يشد بعضه بعضًا، مما يجعل مهمة اختصاره من الصعوبة بمكان. على أنني قد قنعتُ في النهاية بمجرد الإشارة إلى أهمية الكتاب، وخطوطه العريضة، ودعوة القارئ إلى مطالعته والتفاعل معه، ولو أنني تركت القلم يجري بكل ما ترتضيه نفسي، لنقلتُ الكتاب كاملًا؛ لذا فكل ما تطمع فيه هذه القراءة هو تحريضُ القارئِ الكريم على الاطلاع على هذا المشروع الفكري الضخم، الذي يدل على جهد استثنائي، وإخلاص نادر. والحقُّ أن هذا الكتاب ليس مجردَ بحثٍ في الحضارة الإسلامية فحسب، بل لقد وضع فيه مؤلِّفُه الأستاذ الدكتور محمد عبدالفتاح الخطيب خلاصةَ فكره، وأصول مشروعه العلمي، ورؤيته الحضارية، وسوف يلُوحُ للقارئ على صفحات الكتاب وبين سطوره عِطْرُ الخطيب، بعقله الحيِّ، وروحه المتجددة الوثَّابة، المؤمنة بالتجديد، الساعية نحوه، فكتابه مقدِّمة لمدوَّنة مشروع حضاري متكامل، مرتبط بالأصل، ماضٍ بقوة وثقة في التجديد، في سعيٍ نحو بناء حداثة إنسانية جديدة . أدوات المفكر: وليست قيمة هذا السِّفْرِ النفيس فيما يقدمه للقارئ من معرفة جديدة، ورؤية ناضجة للواقع الإسلامي والغربي فحسب، بل في قدرته النادرة على تحليل النصوص الشرعية ، وتحويلها إلى مفاهيمَ أصيلة ضمن منظومة النموذج المعرفي الإسلامي ، بحيث تأخذ شكلًا أو نوعًا من النظرية التي لا تلبث أن تلتئم وتتلاحم، مكونة صورة لحقيقة متكاملة متماسكة، يشُد بعضها بعضًا. وفي تحليل هذا المشروع لا بد لك أن تقف مليًّا أمام مركزية المقاصد الشرعية في بنائه وفاعليته على السواء، وتمثل أطروحة الإمام الشاطبي في كتابه ( الموافقات ) مصدرًا أصيلًا لهذا المشروع العلمي المتميز. أما لغة الكتاب، فعربية الأَرُومة والمنبت، واضحة رَقْراقة صافية، لم يُصِبها الجفاف والتقعر الذي نراه في لغة المفكرين، هذا دون أن تتخلى عن ذرة واحدة من عمق الفكر وجدِّيَّته، التي يجدها قارئ الطاهر بن عاشور، وعلال الفاسي، ومالك بن نبي، وطه عبدالرحمن، وعبدالوهاب المسيري، ومحمد عمارة، وعبدالمجيد النجار، وهي الأسماء التي تشرق أفكارها بين صفحات الدراسة، فهؤلاء هم آباؤه وهم شجرة نسبه الممتدة، ومحمد الخطيب يقف بقوة إلى جوار هؤلاء ولا يقف خلفهم، فقد أفاد من جهودهم، وبخاصة طه عبدالرحمن والمسيري، لكنه تميز عنهما بعمق الاتصال بالتراث، والقدرة على فهم النصوص وتحليلها، ترفِدُه في ذلك مرجعيته التراثية، وثقافته اللغوية والأصولية العريقة. وكان عنصر المقارنة ورصد المفارقات من أهم الأدوات المعرفية التي اعتمدتها تلك الدراسة، من خلال مقارنة النسق المعرفي الإسلامي بقِيَمِه الكبرى في تحريك الحياة، بالنسق المعرفي للحداثة الغربية، وقد انتهت هذه المقارنة إلى كثير من النتائج المهمة. لماذا الحداثة؟ تنطلق هذه الدراسة - كما يرى صاحبها - من افتراضية مفادها : أنه إذا اعتبرنا أن الحداثة مشروع يحرك الحياة من خلال رؤية للكون والإنسان في تعامله مع عالم الأشياء، وأن هناك حداثة غير إسلامية، فلا بد من أن تكون هناك حداثة إسلامية، لها مقولاتها ومفاهيمها الخاصة بها في تحريك الحياة ، ونابعة من رؤية الإسلام المتميزة للإنسان والكون والحياة، بل يرى د. الخطيب أن وجود هذه الحداثة الإسلامية ، وكونها حداثة للإنسانية جميعًا أمرٌ ملازم للإسلام، مرتبط به أشدَّ الارتباط، باعتباره الدين الخاتم؛ ومن ثَمَّ فهو ليس مشروعَ ترقية للوجود الإسلامي فحسب، بل للإنسانية كلها على امتداد أزمانها، يعمل على ترقية وجودها ، والارتقاء بها في مدارج الكمال ؛ مادةً وروحًا، خَلقًا وخُلُقًا، حالًا ومآلًا؛ وهو مقتضى قوله تعالى: ﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ﴾ [البقرة: 143]، فالشهادة معنى يقتضي كون الأمة - من خلال إسلامها وأنساقه المعرفية وقِيَمِه في تحريك الحياة - هي المرجع والميزان، الذي تتطلع إليه البشرية، حينما تفقد المعنى ، وتضل المقصد ، وتبتعد عن المرجعية . والكتاب - كما يرى د. عمر عبيد حسنة - محاولة لاستدعاء القيم الحضارية في الإسلام، ومعايرة الواقع الإسلامي بها، وتقديم قراءة جديدة لهذه القيم، وكيفية إعادة تفعيلها وفاعليتها، وبيان دورها في التغيير والتجديد للواقع المتخلِّف، والإفادة من فشل قيم (الآخر) في تغيير واقع الأمة، وانتشالها من التخلف الذي تعاني منه، حتى ولو عايشت - من حيث الشكل - مظاهر حضارية من خلال استعمالها لأشياء (الآخر) ، التي تبقى مظاهر حضارية مغشوشة. ويؤكد الخطيب على أن الإسلام يرفض - في منهجيته لتحريك الحياة - أية قيمة تستلب إنسانية الإنسان باستعباده واستذلاله، أو لا تجسد إنسانيته، أو حتى لا تجسد كمال الإنسانية فيه؛ حيث الغاية في كمال الأخلاق بتزكية النفس مقصدًا وسلوكًا، كما يرفض الإسلام أية حركة تتم في غيبة المقاصد الإنسانية الكلية ، التي تقوم في الإسلام على مقصد التعبد وما يدعو إليه. الإبداع... في صناعة المصطلح: ومن أهم ما يميز هذه الدراسة صياغة صاحبها لبعض المصطلحات والمفاهيم، التي تعبر عن رؤية إسلامية واضحة في تحريك الحياة - وهي من أجمل وأدق وأبدع ما في هذا الكتاب - وقد جمعها صاحبنا وعرَّف بها في مقدمة كتابه، واستدل على صحة بنائها، وكلها مصطلحات نابعة من أصول الفكرة الإسلامية، والكاتب هنا مؤمن بأننا ما لم نهتدِ إلى إبداع مفاهيم تعبر عن رؤيتنا في تحريك الحياة، وتأصيل هذه المفاهيم استدلالًا بها وعليها، وما لم ننشِئ فضاء اصطلاحيًّا وفق نماذجنا وأنساقنا المعرفية، فإننا بلا شك، سنظل في هذا التيه ، وما يؤدي إليه من استلاب حضار ي . ومن تلك المصطلحات التي استخدمها: المثل الأعلى، والاستخلاف، والخلافة الاقتدائية، والسعي الحي، والتزكية، والاستعمار الإيماني للأرض، وتحصيل المعية الإلهية، وترسيخ الذات الإنسانية، والكدح الحضاري، والاستقامة الحضارية، والكلالة الحضارية، والتخلف الكوني، والحياة الطيبة، والائتمان الكوني، والقوامة الكونية، والبعد السُّنَني، والائتمان على المستقبل، وغيرها... عناصر المشروع الحضاري: ومن بين تلك المصطلحات أذكر تعريفه لثلاثة منها، هي المحاور الأساسية التي قام عليها البناء الفكري للكتاب: أولًا: (الاستخلاف) : وهو من أهم المفاهيم المحورية الثابتة في بنية النموذج المعرفي المستمد من الوحي، والذي يغلف حركة الإنسان، باعتباره خليفة في الحياة، فالمستخلِف هو الله تعالى، والمستخلَف هو الإنسان وأخوه الإنسان، والمستخلَف عليه هو الأرض وما عليها ومن عليها، والإنسان في مفهوم الاستخلاف عابد مسؤول، مستحضر على الدوام لإرادة الله وقدرته، وهو سيد في الكون بعمارته، لا سيد عليه بالاستعلاء والتسلط، والقهر والغزو . ثانيًا: (التزكية): وهي في البناء الحضاري الإسلامي مفهوم يستجمع معاني: النمو و الخيرية معًا؛ فالتزكية تخلية من الرذائل، وتحلية بالفضائل، بما يستوجب للنفس الصلاح في الدنيا، والفلاح في الآخرة، ويقابلها مفهوم التدسية القائم على الخفاء و الإغواء و الإفساد للنفس. وهناك عدة مفاهيم أخرى، تدل على مفهوم التزكية ، وتتعاور معه في الدلالة على التطهير و الترسيخ في المنظومة الإسلامية ، أشهرها اثنان؛ هما: الأول: المجاهدة أو الجهاد الأخلاقي بمعنى: استفراغ الوسع والجهد في ترقية الذات، تعاملًا مع النفس، وتعاملًا مع الغير، والصعود بها إلى مراتب الخير، والوقوف بها ضد نوازع الشر (فطمها عن المألوفات، وحملها على غير هواها). والثاني: سياسة النفس بمعنى: القيام على النفس بما يصلحها، ويهذب حركتها في الحياة، وبهذه السياسة يستحق الإنسان خلافة الله تعالى. وثالثًا: (الاستعمار الإيماني للأرض): وهو الحركة الحية في الأرض؛ لاستثمارها وتعميرها، واستغلال منافعها، وتسخير مرافقها، والتفاعل مع الكون، علمًا بقوانينه، واستثمارًا لخيراته، وارتفاقًا بمقدراته، في غير سرف ولا عبث ولا إخلال بنظامه الموزون، ووفقًا لمبدأ الإسلام: إن لكل خَلق حقًّا أو حقوقًا تخصه أوجبها الذي خَلَقَه، وسخر له هذا الكون بكل ما فيه. فالاستعمار بهذا المفهوم، هو الركن المكمل لعملية الاستخلاف ، والقيمة الحضارية الكبرى في الإسلام التي تؤطر حركة الاستثمار في الكون، والتعامل مع الأشياء، وفق منهج الله في أمره ونهيه؛ حيث المقصد العام للشريعة الإسلامية : إصلاح الأرض وعمارتها، وتزجية معاش الناس فيها، وتحقيق التمكين عليها، وتعبيد الفعل البشري لله سبحانه، بحيث تكون جميع فعاليات الكون متجهة إلى الله ( عبادة كما شرع، وعمارة الأرض كما أمر ). تجديد الخطاب: في خاتمة دراسته يدعو د. محمد الخطيب إلى أن نعيد الاعتبار إلى قيم الإسلام، وتفعيلها في حياتنا؛ تنـزيلًا ، وحراسة ، وتنمية ، وأن نصوغ في ضوء هذه القيم خطابًا إسلاميًّا جديدًا يكون على مستوى سؤالات الإنسان المعاصر، وذلك يتطلب تجديدًا في خطابنا: العقدي والفقهي والقيمي ، وما يقتضيه ذلك من فقه الواقع الحضاري للأمة، والاجتهاد في إبداع الآليات التي يتم من خلالها تفعيل هذه القيم في الواقع، أو رفعه إليها، والانخراط الواعي في قضايا الأمة الحضارية، بل في قضايا الإنسانية كلها، ولا بد كذلك أن نخوض معركة بناء المفاهيم الحضارية وفق رؤية ديننا في تحريك الحياة، من خلال قيم الاستخلاف ، و التزكية ، و الاستقامة في التعامل مع مفردات الكون، وتحويل هذه القيم إلى مفردات شرعية تحكم الواقع الإنساني، أفرادًا وجماعاتٍ. وبعدُ، فهذه هي الحداثة الجديدة التي يمكن أن يقدمها الإسلام للبشرية كلها، حداثة تهدف إلى ترقية الوجود ؛ إذ إنها تبلغ النهاية في وصل الإنسان بربه؛ تعبدًا وتعقلًا وتخلقًا، كما تبلغ الكمال في وصل الإنسان بأخيه الإنسان؛ تعارفًا وتراحمًا وإحسانًا، كما تبلغ المنتهى في التعامل مع مفردات الكون؛ انتفاعًا واستثمارًا وائتمانًا. فلا تتصارع مع الكون، ولا تتسلط عليه، وإنما تخاطبه، بل تتوادد معه وتراحمه، حتى يبوح لها بأخباره وأسراره وبذلك وحده تحقق الأمة ( شهودها الحضاري ( ، لا أن نترك قيمنا تعاني غربة الزمان والمكان، ثم نجعل الإشـكال فيها، والحقيقة أن هذا إشـكال المسلم، لا إشكال قيمه، وقديمًا قالت العرب في كلامها: " مَن رام التفلُّت، طال منه التلفُّت، ويوشك أن تُرهقه المتاهات، وتتلفه العوائق". هذا، ولا يزال القوس الذي فتحه أستاذي الكبير د. محمد الخطيب ينتظر منه ومن أمثاله من الباحثين الجادين مَن يضع لبناتٍ أخرى في صرح هذا المشروع؛ ترسيخًا لهذا المنظور الإسلامي في تحريك الحياة، وإبداعًا لآليات تفعيله، و تشغيل مفاهيمه إيمانًا بأن الاجتهاد العلمي رحم تتوالد، وسنة من سنن العلم النافع.
شرح الفرائض السراجية للشريف الجرجاني صدر حديثًا كتاب "شرح الفرائض السراجية"، للإمام سراج الدين محمد بن محمد السجاوندي الغزنوي (ت 560 هـ)، تأليف: "السيد الشريف أبي الحسن علي بن محمد الجرجاني" (ت 816 هـ)، تحقيق: "ذكوان إسماعيل غبيس"، محققًا على عدة نسخ خطية، نشر: "دار تحقيق الكتاب للنشر والتوزيع"- تركيا. وهذا الكتاب في علم الفرائض أو المواريث، وأصله كتاب "الفرائض السراجية" للإمام سراج الدين محمد بن محمد بن عبد الرشيد بن طيفور أبو طاهر السجاوندي الحنفي، وهي رسالة مختصرة ابتدأها بخطبة قصيرة، ثم معنى ما جاء في الحديث من أن الفرائض نصف العلم، ثم الحقوق الأربعة المتعلقة بِتَرِكَةِ الميّت مرتّبة: وهي التكفين والتجهيز ثم قضاء ديون الميت ثم تنفيذ وصاياه، وأخيرًا تقسيم المتبقى بين ورثته. ثم الفروض المقدرة في كتاب الله وهم ستة: النصف والربع والثمن والثلثان والثلث والسدس، واتبعها ببيان أصحاب هذه السهام الستة الذين هم أصحاب الفروض المقدرة بأنهم اثنا عشر نفرًا: أربعة من الرجال وهم الأب والجد (أب الأب) والأخ لأم والزوج، وثمان من النساء وهن: الزوجة والبنت وبنت الابن والأخت "لأب وأم" والأخت "لأب" والأخت "لأم" والأم والجدة. واستغرق في بيان الأحوال والمسائل المختلفة، وانتهى بفصل في الغرقى والحرقى والهدمى، واختلاف العلماء في ميراث كل واحد منهم ممن مات معهم، وأتبعه بأمثلة. ولأهمية هذا الكتاب فقد تناوله العلماء بالشرح والتعليقات من جانب كثير من العلماء، كان من أهم تلك الشروح شرح "الشريف الجرجاني"، والذي فرغ من تأليفه بسمرقند سنة 804 هـ. وهذا الشرح للجرجاني لسهولته وأهميته أيضًا تناوله العلماء بوضع الحواشي والتعليقات عليه، ومنهم المولى أحمد بن علي السعيدي القزويني، والمولى حسن الرومي، ومحيي الدين العجمي، ومحيي الدين محمد بن خطيب قاسم بن يعقوب. ويعد هذا الشرح من الشروح المحررة، مع صغر حجمه، صحيح المسائل، والنقول، والتعليلات، مقبول بين العلماء في علم الفرائض. وواضعه هو الشريف الجُرجاني (740- 816 هـ / 1339 -1413 م) علي بن محمد بن علي الشريف الحسني الجرجاني المعروف بسيد مير شريف، فلكي وفقيه وفيلسوف ولغوي. عاش في أواخر القرن الثامن الهجري وأوائل القرن التاسع الهجري (الرابع عشر الميلادي - الخامس عشر الميلادي). ولد الجرجاني في جرجان عام 740 هـ / 1339م، وقد تلقى العلم على شيوخ العربية، واهتم اهتمامًا خاصًا بتصنيف العلوم، وكذلك بعلم الفلك، وكان من أهم العلماء الذين تأثر بهم في علم الفلك الجغميني وقطب الدين الشيرازي والطوسي، وقد تناول رسائل هؤلاء العلماء بالشرح والتبسيط لإيمانه بأهمية هذه الرسائل ووجوب تداولها بين طلاب العلم. قدمه التفتازاني للشاه شجاع بن محمد بن مظفر فانتدبه للتدريس في شيراز عام 779هـ/1377م، وقد عاش معظم حياته في شيراز، وعندما استولى تيمورلنك على شيراز عام 789هـ /1387م انتقل الجرجاني إلى سمرقند وظل هناك حتى توفي تيمورلنك عام 807هـ/1404م فعاد إلى شيراز وتوفى بها عام 816 هـ / 1413م. ومن المعروف أن للجرجاني أكثر من خمسين مؤلفًا في علم الهيئة والفلك والفلسفة والفقه ولعل أهم هذه الكتب: • "كتاب التعريفات" وهو معجم يتضمن تحديد معاني المصطلحات المستخدمة في الفنون والعلوم حتى عصره، وهذا المعجم من أوائل المعاجم الاصطلاحية في التراث العربي، وقد حدد فيه الجرجاني معاني المصطلحات تبعا لمستخدميها وتبعا للعلوم والفنون التي تستخدم فيها، وجعل تلك المصطلحات مرتبة ترتيبا أبجديا مستفيدا في ذلك من المعاجم اللغوية حتى يسهل التعامل معه لكافة طالبيه، وهذا المعجم من المعاجم الهامة التي لا نستطيع الاستغناء عنها إلى الآن، وقد أشاد به المستشرقون كافةً لأهميته الدلالية والتاريخية. • "رسالة في تقسيم العلوم". • "خطب العلوم". • "شرح كتاب الجغميني في علم الهيئة". • "شرح الملخص في الهيئة للجغميني". • "شرح التذكرة النصيرية" وهي رسالة نصير الدين الطوسي. • "تحقيق الكليات". • متن مختصر مضبوط في علم النحو اسمه (نحو مير). والماتن أبو طاهر السَّجاوندي (توفي نحو 600 هـ / 1204 م) هو سراج الدين أبو طاهر محمد بن محمد بن عبد الرشيد ابن طيفور السجاوندي، رياضي حنفي فرضي. ذكر الزركلي أن له: • "السراجية" نسبة إلى كنيته "سراج الدين" في الفرائض والمواريث. • "شرح السراجية". • "الوقف والابتداء". • "الجبر والمقابلة" رسالة. • "ذخائر نثار في أخبار السيد المختار - صلى الله عليه وسلم -".
المبارزة قبل بدء المعركة قبل القتال أرادت قريش أن تعرف قوة النبي صلى الله عليه وسلم، فأرسلت عمير بن وهب فطاف بمعسكر النبي صلى الله عليه وسلم واستقل عددهم، فخاف أن يكون لهم كمين، فشرَّق وغرَّب، فلم يرَ شيئًا، فأخبر قريشًا بعددهم؛ ثلاثمائة أو يزيدون قليلًا، لكنه قال: يا معشر قريش، البلايا تحمل المنايا، نواضح - الإبل التي تسحب الماء من البئر - يثرب تحمل الموت الناقع، قوم ليست لهم منعة إلا سيوفهم، ألا ترونهم خرسًا لا يتكلمون، يتلمظون تلمظ الأفاعي، والله ما أرى أن يقتل منهم رجل حتى يقتل منا رجلًا، فإذا أصابوا منكم مثل عددهم، فما خير في العيش بعد ذلك، فارتؤووا رأيكم. ثم أرسلوا أبا أسامة الجشمي، ففعل مثل الأول، ورأى أن القوم مستعدون للموت، وقام بعد ذلك صاحب الجمل الأحمر، وهو عتبة بن ربيعة، ونادى بالناس من قريش: يا قوم، أطيعوني ولا تقاتلوا هذا الرجل وأصحابه، واعصبوا هذا الأمر برأسي، واجعلوا جبنها بي؛ فإن منهم رجالًا قرابتهم قريبة، ولا يزال الرجل منكم ينظر إلى قاتل أبيه وأخيه فيورث ذلك بينهم شحناء وأضغانًا، ولن تخلصوا إلى قتلهم حتى يصيبوا منكم عددهم، مع أني لا آمن أن تكون الدائرة عليكم، وأنتم لا تطلبون إلا دم هذا الرجل والعير التي أصاب، وأنا أحتمل ذلك، وهو عليَّ يا قوم.. لا تردوا نصيحتي، ولا تسفهوا رأيي، فانبرى له أبو جهل يسفِّه رأيه، ويتهمه بالجبن، وأنه يكره أن يقتل، أو يقتل ابنه الذي هو مع المسلمين - وابنه هو أبو حذيفة. وأصرَّ القوم على القتال؛ لأن أبا جهل يريد ذلك، ويعُدُّ نفسه سيدهم، ولم يدرِ أنه يسعى إلى حتفه، ثم تصافَّ الفريقان وأصبح القتال وشيكًا، وجاء الأمر من النبي صلى الله عليه وسلم - وهو في العريش يدعو ربه - لا تقاتلوا حتى أوذنكم، وإن كثبوكم - اقتربوا منكم - فارموهم، ولا تسلوا السيوف حتى يغشَوْكم - يختلطوا بكم - فقال أبو بكر: يا رسول الله، قد دنا القوم وقد نالوا منا، فاستيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أراه الله إياهم في منامه وهم قليل وهو يدعو الله أن ينصره، ولما تقاربوا أكثر خرج من بين المشركين الأسود بن عبدالأسد وأقسم أن يشرب من الحوض، وأن يهدمه، فاستقبله حمزة فضربه فأطار قدمه، فزحف حتى وقع في الحوض وشرب منه، ثم أجهز حمزة عليه وقتله، وهنا خرج عتبة وشيبة والوليد بن عتبة من بين صف المشركين لكي يرى أبو جهل بطولتهم وطلبوا المبارزة، فخرج لهم ثلاثة من الأنصار، قال عتبة: أخرجوا لنا أكفاءنا، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم حمزة بن عبدالمطلب وعلي بن أبي طالب وعبيدة بن الحارث، وبدأت المبارزة، فقتل حمزة عتبة، وقتل علي الوليد، واختلف كل من عبيدة وشيبة ضربتين، أصاب كل منهم الآخر، ثم أجهز حمزة وعلي على شيبة، واحتملا عبيدة جريحًا، حيث توفي فيما بعد، وكان بعد هذا الالتحامُ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((والذي نفسي بيده، لا يقاتلهم اليوم رجل فيقتل صابرًا محتسبًا مقبلًا غير مدبر إلا أدخله الله الجنة))، وصبر المسلمون في القتال، والتزموا بما عاهدوا الله ورسوله عليه، وأمد الله المسلمين بالملائكة، فثبتوا الذين آمنوا، وانجلت المعركة عن نصر مؤزَّر للمسلمين، وهزيمة منكرة للمشركين، فقُتل منهم سبعون، وأُسر سبعون، وكان معظم قتلى المشركين من رؤوس الضلال، وعلى رأسهم أبو جهل، وأمية بن خلف، وعتبة وشيبة ابنا ربيعة، وعقبة بن أبي معيط، وزمعة بن الأسود، ونوفل بن خويلد، واستشهد مِن المسلمين أربعة عشر.
إسماعيل عليه السلام نتحدَّث في هذا الفصل عن الابنِ البكر لخليل الرحمن، وهو إسماعيل عليه السلام، وقد ذكرتُ في أثناء حديثي عن إبراهيم عليه السلام قصَّة هاجر وأن ملك مصر أعطاها لسارة، وأنَّ سارة وهبتها لإبراهيم، وأنها ولدتْ له إسماعيلَ عليه السلام، وذكرتُ ما أورده البخاري في صحيحه من حديث ابن عباس رضي الله عنهما من قصة مجيء إبراهيم بهاجر وإسماعيل إلى مكة، وقصة زمزم ونشأة إسماعيل عليه السلام وتعلُّمه اللسانَ العربيَّ، وزواجه بامرأة من جرهم ثمَّ فراقها بأمر أبيه الخليل عليه السلام، وزواجه بامرأة أخرى صالحة من جرهم، وأمْر أبيه له بالمحافظة عليها وتثبيتها، وقصة مساعدة إسماعيل لإبراهيم عليه السلام في بناء البيت الحرام، وأقمتُ الحُجة الواضحة على أن إسماعيل هو الذبيح وليس إسحاق عليه السلام، وأن وصف إسماعيل في البشارة به بأنه غلام حليم بخلاف البشارة بإسحاق؛ فقد وُصفَ بأنه غلام عليم، وأن إسماعيل أكبر من إسحاق، وأن إبراهيم لم يُبشَّر بإسحاق إلا بعد أن بلغ إسماعيل السَّعيَ مع أبيه عليهم الصلاة والسلام، وقد بيَّنتُ كذلك أنَّ إسماعيل عليه السلام قد جعل الله مِن ذرِّيَّته خاتمَ الأنبياء، وسيد المرسلين، الجوهرة الباهرة، والدرَّة الزاهرة صاحب المقام المحمود والحوض المورود محمدًا صلى الله عليه وسلم. وقد ذكر الله تبارك وتعالى إسماعيل في كتابه الكريم في مواضعَ بأوصافٍ جليلةٍ؛ حيث يقول في سورة البقرة: ﴿ وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴾ [البقرة: 127، 128]. وقال عز وجل في سورة مريم: ﴿ وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا * وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا ﴾ [مريم: 54، 55]. وقرنه في سلسلة الأنبياء والمرسلين في مواضع؛ حيث يقول: ﴿ وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ * إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ * وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ * وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيَارِ ﴾ [ص: 45 - 48]. وقال تعالى في سورة الأنبياء: ﴿ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ * وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ ﴾ [الأنبياء: 85، 86]. وقال تعالى في سورة النساء: ﴿ إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا ﴾ [النساء: 163]. وقال تعالى في سورة البقرة: ﴿ قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ﴾ [البقرة: 136]. وقال تعالى في سورة آل عمران: ﴿ قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 84]. وبرَّأ إبراهيمَ وإسماعيلَ وإسحاقَ ويعقوبَ والأسباطَ من اليهوديَّة والنصرانيَّة؛ حيث يقول: ﴿ أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴾ [البقرة: 140]. وقد أوردَ الله تبارك وتعالى في كتابه الكريم مقامًا لإسماعيل عليه السلام تتقاصرُ دونه المقامات العالية؛ حيث أخبره أبوه الخليلُ عليه السلام بأنه رأى في المنامِ أنه يذبحه؛ ففطن إسماعيلُ في الحال إلى أن رؤيا الأنبياء وحيٌ تجب المسارعةُ في الإذعان له، والامتثال لأمره، ولو كان في ذلك ذبحه، فإنه يَجُود بنفسه امتثالًا لأمر الله، وطاعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم تعرف الإنسانيَّة كلها مثل هذا المقام. وفي ذلك يقول الله تبارك وتعالى في سورة الصافات: ﴿ وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ * إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ * أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ * فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ * فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ * فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ * فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ * مَا لَكُمْ لَا تَنْطِقُونَ * فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ * فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ * قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ * وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ * قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ * فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ * وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ * رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ * فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ * فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ * فَلَمَّا أَسْلَمَا ﴾؛ "أي انْقَادَا لأمر الله"، ﴿ وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ ﴾؛ "أي وصرعَه على جَبِينِه؛ لينفِّذَ فيه أمرَ الله عز وجل"، ﴿ وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا ﴾؛ "أي وفيت ما أمرك الله به"، ﴿ إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ﴾ [الصافات: 83 - 107]. هذا، ولا نزاعَ عند النسَّابين أن جميع القبائل العربية العدنانيَّة هم من ذرية إسماعيل عليه السلام، أما القحطانيُّون فأكثر أهل العلم على أنهم ليسوا من ذرية إسماعيل، وعامة أهل العلم على أن خزاعةَ من قحطان، وكذلك الأوس والخزرج. وقد جاء في صحيح البخاري من حديثِ سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال: مرَّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم على نفرٍ من أَسْلَم ينتضلون، أي: يترامون للسبق، فقال: ((ارموا بني إسماعيل، فإن أباكم كان راميًا وأنا مع ابن فلان)) قال: فأمسك أحد الفريقين بأيديهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما لكم لا ترمون؟))، فقالوا: يا رسولَ الله، نرمي وأنت معهم؟ قال: ((ارموا وأنا معكم كلِّكم)). وفي لفظ للبخاري من حديث سلمة رضي الله عنه قال: خرج رسولُ الله صلى الله عليه وسلم على قوم من أَسْلَم يتناضلون بالسوق، قال: ((ارموا بني إسماعيل، فإن أباكم كان راميًا وأنا مع بني فلان))؛ لأحد الفريقين، فأمسكوا بأيديهم، فقال: ((ما لهم؟))، قالوا: كيف نرمي وأنت مع بني فلان؟ قال: ((ارموا وأنا معكم كلكم)). وقبيلة أَسْلَم تنتمي إلى أسلم بن أفصى بن حارثة بن عمرو بن عامر من خزاعة، ولا إشكالَ في هذا على من زعم أن قحطانَ من ذريَّة إسماعيل، أما أكثر أهل العلم الذين يرون أن القحطانيين ليسوا من ذرية إسماعيل فإنهم يقولون: إن هذا الحديث قد يحمل على كون أسلم من ذرية إسماعيل من جهة الأمهات لا من جهة الآباء؛ لأن القحطانية والعدنانية قد اختلطوا بالمصاهرة، ولا مانعَ من مثل هذه النسبة كما انتسب جميع بني فاطمة الزهراء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. وإلى الفصل القادم إن شاء الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الإعلام بترجمة العلَّامة ابن هشام صاحب سيرة خير الأنام إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهدِهِ الله فلا مضلَّ له، ومن يضلل فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله؛ أما بعد: فإن التعريف بعلماء الأمة الإسلامية، والتنويه برجالاتها لَهُو من الأعمال الجليلة، والأفعال الحميدة التي تغري ذوي العزائم والْهِمَمِ؛ فلا شكَّ أنهم خيار هذه الأمة، فهم حماة دينها، ورعاة أخلاقها، بل هم سبب رفعتها وسموها بين الأمم، ومن هؤلاء الجهابذة الفحول العلَّامة أبو محمد عبدالملك بن هشام الحميري المتوفى رحمه الله سنة 218 ه؛ صاحب كتاب السيرة النبوية، على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى التسليم، وقد نوَّه جُلَّ من ترجم له بجهوده في خدمة هذا الكتاب الجليل، والسِّفر الجميل ، وهذه ترجمة وافية للتعريف بهذا العلم رحمه الله، وإبراز مكانته العلمية؛ من خلال الخطة الآتية: • اسمه ونسبه. • تلامذته. • مولده ونشأته. • مؤلَّفاته. • رحلته في طلب العلم. • أقوال العلماء فيه. • مشايخه. • وفاته. ونشرع في المقصود بإذن الله، راجين منه التوفيق والسداد، والحمد لله رب العالمين. 1- اسمه ونسبه: هو عبدالملك بن هشام بن أيوب، أبو محمد، جمال الدين [1] الذهلي [2] السدوسي [3] ، وقيل: الحميري المعافري [4] ، البصري نزيل مصر [5] ، والأصح أنه ذهلي، كما ذكره أبو سعيد بن يونس [6] . 2- مولده ونشأته: لم أجد من أشار إلى زمن مولده، وذكروا أنه وُلد ونشأ في البصرة [7] ، ثم رحل إلى مصر ولم يزل بها حتى تُوفِّي رحمه الله، وقد رأينا من ينسُبه إلى معافرَ، وحِمْيرَ، وسَدُوسٍ، وذُهْلٍ، وقد ذكر العلامة ابن خلِّكان رحمه الله أنه من مصر، وأصله من البصرة [8] . 3- رحلته في طلب العلم: يقول العلامة المؤرخ ابن يونس رحمه الله عن ابن هشام: "بصري، قدِم مصر، وحدَّث بها بالمغازي، وغيرها" [9] ، ولم أجد من ذكر رحلته في طلب العلم. 4- مشايخه: وبخصوص مشيخة ابن هشام رحمه الله، فقد تتبعت رواياته في كتابه (السيرة النبوية)، وجردت من ذكر سماعه منهم، إضافة إلى الذين جاء ذكرهم عند من ترجم له ؛ فوجدت أنهم: 1 - عبدالوارث بن سعيد (ت: 180ه) [10] . 2 - يونس بن حبيب الضبي النحوي (ت: 182ه). 3 - زياد بن عبدالله بن الطفيل البكائي العامري، أبو محمد، ويُقال: أبو يزيد الكوفي (ت: 183ه) [11] . 4 - الإمام محمد بن إدريس الشافعي (ت: 204ه) [12] . 5 - أبو عبيدة معمر بن المثنى (ت: 209ه) [13] . 6 - أسد بن موسى (ت: 212ه) [14] . 7 - أبو زيد الأنصاري (ت: 215ه). 5- تلامذته: أذكر هنا بعض تلامذته، ممن ذُكروا بالسماع منه أو بالرواية عنه: 1 - أبو بكر أحمد بن عبدالله البرقي، ثقة، سمع المغازي من عبدالملك بن هشام (ت: 270ه) [15] . 2 - الربيع بن سليمان المرادي (ت: 270ه) [16] . 3 - أبو عبدالله محمود بن حسان النحوي، نزيل مصر (ت: 272ه) [17] . 4 - أبو سعيد عبدالرحيم بن عبدالله بن عبدالرحيم بن سعية بن أبي زرعة البرقي (ت: 286ه) [18] . 5 - محمد بن حسن القطان [19] . 6- مؤلفاته: من خلال المصادر التي ترجمت للعلامة ابن هشام رحمه الله يظهر أنه ليس له كثيرُ تأليفٍ؛ وقد ذكروا من مؤلفاته: 1- سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم من "المغازي والسير" لابن إسحاق؛ هذبها ولخَّصها، وهي الموجودة بأيدي الناس المعروفة بسيرة ابن هشام [20] ، مطبوع؛ [الناشر: شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر، ط: 2، 1375هـ - 1955م ]. 2- كتاب في شرح ما وقع في أشعار السيرة من الغريب [21] . 3- التيجان في ملوك حمير [22] ، مطبوع؛ [الناشر: مركز الدراسات والأبحاث اليمنية، صنعاء، الجمهورية العربية اليمنية، ط: 1، 1347هـ]. 4- القصائد الحميرية في أخبار اليمن وملوكها في الجاهلية [23] . 7- أقوال العلماء فيه: مكانة العلَّامة ابن هشام رحمه الله في العلم، وخدمته لكتاب عظيم حوى سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، جعلته يحظى بكلمات مدح وثناء عطرة من أهل العلم على مر الزمان؛ أبانت عن إمامته في اللغة، والشعر، وعلم النحو، والأدب، والأنساب، والمغازي، وقد قيل: لا يعرف الفضل لأهل الفضل إلا ذووه. 1- أبو إبراهيم إسماعيل بن يحيى المزني (ت: 264ه): في المناقب للبيهقي؛ قال المزني رحمه الله: "قدِم علينا الشافعي وكان بمصر ابن هشام صاحب المغازي، وكان علَّامة أهل مصر في الغريب والشعر" [24] . 2- الربيع بن سليمان بن عبدالجبار بن كامل المرادي، مولاهم، أبو محمد المصري (ت: 270ه): وفي تاريخ دمشق لابن عساكر؛ قال الربيع بن سليمان رحمه الله: "سمعت عبدالملك بن هشام النحوي صاحب المغازي، وكان بصيرًا بالنحو والعربية" [25] ، وقال أيضًا كما في المناقب: "وكان ابن هشام بمصر كالأصمعي بالعراق" [26] . 3- أبو القاسم عبدالرحمن بن عبدالله بن الخطيب الخثعمي السهيلي (ت: 581ه): أورد ابن خلكان قول العلامة السهيلي رحمه الله في ابن هشام أنه: "مشهور بكمال العلم، متقدم في علم النسب والنحو والأدب" [27] . 4- الحافظ محيي الدين أبو زكريا يحيى بن شرف النووي (ت: 676ه): في تهذيب الأسماء واللغات؛ قال النووي رحمه الله: "إمام أهل مصر في عصره في اللغة والنحو" [28] ، وقال أيضًا: "كان علَّامة أهل عصره في العربية والشعر" [29] . 5- الحافظ شمس الدين أبو عبدالله محمد بن أحمد بن عثمان بن قايماز الذهبي (ت: 748ه): قال الذهبي رحمه الله في العِبر: "كان أديبًا أخباريًّا نسَّابةً" [30] . 6- الحافظ جلال الدين عبدالرحمن بن أبي بكر السيوطي ( ت: 911ه): وفي حسن المحاضرة؛ قال السيوطي رحمه الله: "كان إمامًا في اللغة والنحو والعربية، أديبًا أخباريًّا نسَّابة" [31] . 7- العلامة شمس الدين أبو المعالي محمد بن عبدالرحمن بن الغزي (ت: 1167ه): في ديوان الإسلام؛ قال ابن الغزي رحمه الله: "الشيخ الإمام المحدِّث الحافظ الأخباري النحوي" [32] . 8- وفاته: اختلف الناس في زمن وفاة العلامة ابن هشام رحمه الله على قولين: فأرَّخ وفاته أبو القاسم السهيلي في سنة 213ه ؛ وقال العلامة ابن يونس: "تُوفِّيَ لثلاث عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الآخر سنة ثماني عشرة ومائتين بمصر" [33] ، ورجح الحافظ الذهبي رحمه الله ما ذكره ابن يونس فقال: "وفي الروض الأنف: أن ابن هشام مات سنة ثلاث عشرة ومائتين، فهذا وهم فيه أبو القاسم السهيلي، بل الصواب ما تقدم" [34] . المصدر أو المرجع: 1- الأعلام؛ المؤلف: خير الدين بن محمود بن محمد بن علي بن فارس، الزركلي الدمشقي، ت: 1396هـ، الناشر: دار العلم للملايين، ط: 15، مايو 2002 م. 2- إكمال الإكمال (تكملة لكتاب الإكمال لابن ماكولا)؛ المؤلف: محمد بن عبدالغني بن أبي بكر بن شجاع، أبو بكر، معين الدين، ابن نقطة الحنبلي البغدادي، ت: 629هـ، المحقق: د. عبدالقيوم عبدرب النبي، الناشر: جامعة أم القرى، مكة المكرمة، ط1: 1410ه، عدد الأجزاء: 5. 3- بغية الوعاة في طبقات اللغويين والنحاة؛ المؤلف: عبدالرحمن بن أبي بكر، جلال الدين السيوطي، ت: 911هـ، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، الناشر: المكتبة العصرية، لبنان، صيدا، عدد الأجزاء: 2. 4- تاريخ ابن يونس المصري؛ المؤلف: عبدالرحمن بن أحمد بن يونس الصدفي، أبو سعيد، ت: 347هــ، الناشر: دار الكتب العلمية، بيروت، ط: 1، 1421هـ، عدد الأجزاء: 2. 5- تاريخ دمشق؛ المؤلف: أبو القاسم علي بن الحسن بن هبة الله، المعروف بابن عساكر، ت: 571ه، تحقيق: عمرو بن غرامة العمروي، الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، عام النشر: 1415هـ - 1995م، عدد الأجزاء: 80 (74 و6 مجلدات فهارس). 6- تهذيب الأسماء واللغات؛ المؤلف: أبو زكريا محيي الدين يحيى بن شرف النووي، ت: 676هـ، عنيت بنشره وتصحيحه والتعليق عليه ومقابلة أصوله: شركة العلماء بمساعدة إدارة الطباعة المنيرية، يُطلَب من: دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، عدد الأجزاء: 4. 7- تهذيب التهذيب؛ المؤلف: أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد بن أحمد بن حجر العسقلاني، ت: 852هـ، الناشر: مطبعة دائرة المعارف النظامية، الهند، ط: 1، 1326هـ، عدد الأجزاء: 12. 8- الثقات ممن لم يقع في الكتب الستة: يُنشر لأول مرة على نسخة خطية فريدة بخط الحافظ شمس الدين السخاوي ت: 902 هـ؛ وهو أبو الفداء زين الدين قاسم بن قطلوبغا السودوني (نسبة إلى معتق أبيه سودون الشيخوني)، الجمالي الحنفي، ت: 879هـ، دراسة وتحقيق: شادي بن محمد بن سالم آل نعمان، الناشر: مركز النعمان للبحوث والدراسات الإسلامية، وتحقيق التراث والترجمة، صنعاء، اليمن، ط: 1، 1432هـ - 2011م، عدد الأجزاء: 9. 9- حسن المحاضرة في تاريخ مصر والقاهرة: عبدالرحمن بن أبي بكر، جلال الدين السيوطي، ت: 911هـ، المحقق: محمد أبو الفضل إبراهيم، الناشر: دار إحياء الكتب العربية، عيسى البابي الحلبي وشركاه، مصر، ط: 1، 1387هـ - 1967م، عدد الأجزاء: 2. 10- ديوان الإسلام: شمس الدين أبو المعالي محمد بن عبدالرحمن بن الغزي، ت: 1167هـ، المحقق: سيد كسروي حسن، الناشر: دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، ط: 1، 1411هـ - 1990م، عدد الأجزاء: 4. 11- سير أعلام النبلاء؛ المؤلف: شمس الدين أبو عبدالله محمد بن أحمد بن عثمان بن قايماز الذهبي، ت: 748هـ، الناشر: دار الحديث، القاهرة، الطبعة: 1427هـ - 2006م، عدد الأجزاء: 18. 12- السيرة النبوية لابن هشام؛ المؤلف: أبو محمد عبدالملك بن هشام المعافري، ت: 218ه، تحقيق: وليد بن محمد بن سلامة، وخالد بن محمد بن عثمان، الناشر: مكتبة الصفا، ط: 1، 1422ه - 2001م. 13- شذرات الذهب في أخبار من ذهب؛ المؤلف: عبدالحي بن أحمد بن محمد بن العماد العكري الحنبلي، أبو الفلاح، ت: 1089هـ، حققه: محمود الأرنؤوط، خرج أحاديثه: عبدالقادر الأرنؤوط، الناشر: دار ابن كثير، دمشق، بيروت، ط: 1، 1406هـ - 1986م، عدد الأجزاء: 11. 14- شرح الشفا؛ المؤلف: علي بن (سلطان) محمد، أبو الحسن نور الدين الملا الهروي القاري، ت: 1014هـ، الناشر: دار الكتب العلمية، بيروت، ط: 1، 1421هـ، عدد الأجزاء: 2. 15- العِبر في خبر من غبر؛ المؤلف: شمس الدين أبو عبدالله محمد بن أحمد بن عثمان بن قايماز الذهبي ت: 748هـ، المحقق: أبو هاجر محمد السعيد بن بسيوني زغلول، الناشر: دار الكتب العلمية، بيروت، عدد الأجزاء: 4. 16- مناقب الشافعي للبيهقي؛ المؤلف: أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي، ت: 458هـ، المحقق: السيد أحمد صقر، الناشر: مكتبة دار التراث، القاهرة، ط: 1، 1390هـ - 1970م، عدد الأجزاء: 2. 17- نخب الأفكار في تنقيح مباني الأخبار في شرح معاني الآثار؛ المؤلف: أبو محمد محمود بن أحمد بن موسى بن أحمد بن حسين الغيتابي الحنفي، بدر الدين العيني، ت: 855هـ، المحقق: أبو تميم ياسر بن إبراهيم، الناشر: وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، قطر، ط: 1، 1429هـ - 2008م، عدد الأجزاء: 19 (16 و3 أجزاء فهارس). 18- الوافي بالوفيات؛ المؤلف: صلاح الدين خليل بن أيبك بن عبدالله الصفدي، ت: 764هـ، المحقق: أحمد الأرنؤوط وتركي مصطفى، الناشر: دار إحياء التراث، بيروت، عام النشر: 1420هـ، 2000م، عدد الأجزاء: 29. 19- وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان؛ المؤلف: أبو العباس شمس الدين أحمد بن محمد بن إبراهيم بن أبي بكر بن خلكان البرمكي الإربلي، ت: 681هـ، المحقق: إحسان عباس، الناشر: دار صادر، بيروت، الطبعة: الجزء: 1 - الطبعة: 0، 1900، الجزء: 2 - الطبعة: 0، 1900، الجزء: 3 - الطبعة: 0، 1900، الجزء: 4 - الطبعة: 1، 1971، الجزء: 5 - الطبعة: 1، 1994، الجزء: 6 - الطبعة: 0، 1900، الجزء: 7 - الطبعة: 1، 1994، عدد الأجزاء: 7. [1] الأعلام للزِّرْكلي: (4/ 166). [2] تاريخ ابن يونس المصري: ترجمة رقم 356، (2/ 137). الوافي بالوَفَيَات للصفدي: (19/ 142). [3] تهذيب التهذيب لابن حجر: ترجمة رقم: 685، (3/ 375). [4] المعافري: بفتح الميم والعين المهملة وبعد الألف فاء مكسورة ثم راء، هذه النسبة إلى المعافر بن يعفر؛ قبيل كبير يُنسَب إليه بشر كثير عامتهم بمصر؛ [وفيات الأعيان لابن خلكان: (3/ 177)]. [5] سير أعلام النبلاء للذهبي: (8/ 464)، كتاب الثِّقات ممِّن لم يقع في الكتب الستَّة للسَّخاوي: ترجمة رقم: 7264، (6/ 474)، بغية الوعاة للسيوطي: ترجمة رقم: 1580، (2/ 115). [6] سير أعلام النبلاء للذهبي: (8/ 464). [7] الأعلام للزركلي: (4/ 166). [8] وفيات الأعيان لابن خلكان: (3/ 177). [9] تاريخ ابن يونس المصري: ترجمة رقم: 356، (2/ 137)، كتاب الثقات ممن لم يقع في الكتب الستة: ترجمة رقم: 7264، (6/ 474). [10] سير أعلام النبلاء للذهبي: (8/ 464). [11] تهذيب التهذيب لابن حجر: ترجمة رقم: 685، (3/ 375). [12] كان عبدالملك بن هشام النحوي إذا شك في شيء من اللغة بعث إلى الشافعي فسأله عنه؛ [مناقب الشافعي للبيهقي: (2/ 43)]. [13] سير أعلام النبلاء الذهبي: (8/ 464). [14] التيجَان في ملوك حِميَر من رواية عبدالملك بن هشام عن أسد بن موسى عن أبي إدريس بن سنان عن وهب بن منبه رضي الله عنهم؛ [الأعلام للزركلي: 4/ 166]. [15] إكمال الإكمال لابن نقطة: (3/ 420). [16] تاريخ دمشق لابن عساكر: (51/ 373). [17] نخب الأفكار للعيني: (11/ 73). [18] إكمال الإكمال لابن نقطة: (3/ 420). [19] يقول الذهبي: "هذب السيرة النبوية، وسمعها من زياد البكائي صاحب ابن إسحاق، وخفف من أشعارها، وروى فيها مواضع عن عبدالوارث بن سعيد، وأبي عبيدة، رواها عن:محمد بن حسن القطان ..."؛ [سير أعلام النبلاء: (8/ 464)]. [20] وفيات الأعيان لابن خلكان: (3/ 177). [21] وفيات الأعيان لابن خلكان: (3/ 177)، بغية الوعاة: ترجمة رقم: 1580، (2/ 115). [22] سير أعلام النبلاء: (8/ 464)، بغية الوعاة للسيوطي: ترجمة رقم: 1580، (2/ 115). [23] الأعلام للزركلي: (4/ 166)، لم أقف عليه مخطوطًا ولا مطبوعًا. [24] كتاب مناقب الشافعي للبيهقي: (2/ 42). [25] تاريخ دمشق لابن عساكر: (51/ 373). [26] كتاب مناقب الشافعي للبيهقي: (2/ 43). [27] وفيات الأعيان لابن خلكان: (3/ 177)، شرح الشفا لعلي القاري: (1/ 653). [28] كتاب تهذيب الأسماء واللغات للنووي: (1/ 49). [29] تهذيب الأسماء واللغات للنووي: (1/ 62). [30] العبر للذهبي: (1/ 295). [31] حسن المحاضرة للسيوطي:(1/ 531). [32] ديوان الاسلام لابن الغزي: (4/ 361، 362). [33] تاريخ ابن يونس المصري: (2/ 137)، العبر: (1/ 295)، شذرات الذهب: (3/ 91)، ديوان الإسلام لابن الغزي: (4/ 362). [34] سير أعلام النبلاء: ترجمة رقم: 1668، (8/ 464).
لا ترهق نفسك بتفسير كل ما تراه في نومك أكثر الناس لا يتذكرون شيئًا من أحلامهم معظم الأوقات عند الاستيقاظ من النوم في الصباح، وقليل منهم ما قد يتذكر بعض المقاطع القصيرة منها في حالات محدودة؛ كحصول حدث مشابه أمام أعينهم لِما كان في الحُلْمِ، وتزداد فرص التذكر إن كنت من فئة الأشخاص الذين يتقطَّع نومهم عدة مرات بالليلة الواحدة لأسباب صحية؛ مثل: مرض السكري، والحاجة الملحة للذهاب للحمام، وأيضًا لأسباب أخرى كثيرة، أو عند الاستسلام لغفوة قصيرة في النهار. كما لا يخفى على أحد فعالم الأحلام بلا حدود زمانية أو مكانية، وأحيانًا لا يحكمه المنطق والقوانين السائدة في عالم الواقع؛ فقد تكون أحداث الحلم عادية مشابهة لِما يجري في عالمنا الحقيقي، وقد ترى في منامك العجب العُجاب مما يستحيل حدوثه في الواقع، وتقوم بأمور خارقة؛ كأن تجد نفسك قادرًا على أن تحلق في الفضاء، وعلى العكس من ذلك قد تشعر بأن أطرافك مشلولة وعاجزة عن التجاوب لإيقاف خطر داهم يحيق بك، حتى إنك تفقد القدرة على الكلام والصراخ لطلب العون دون سبب واضح، لكن الغريب أنه خلال الحلم حتى في هذه الأوضاع الخيالية تبدو الأحداث تسير بنسق منطقي مستساغ بالنسبة للنائم، مع أن الحلم أحيانًا يجتمع فيه الماضي بالحاضر، وتندمج الأماكن التي تفصلها المسافات الشاسعة، وقد يجتمع أشخاص لم يلتقوا قط في حياتهم في مكان وزمن محدد، أمواتًا كانوا أم أحياء يُرزَقون. وعادة ما يتفاعل جسد النائم مع ما يستشعره من أحداث؛ فقد يكتنفه الشعور بسعادة غامرة بما يراه ويحس به، إن كان الحلم مبهجًا، ويرتسم ذلك على ملامحه، أو خلاف ذلك إن كان واقعًا تحت تأثير كابوس. القاسم المشترك الذي يحوي كل هذه المتغيرات، القادر على افتعال مثل هذا السيناريو الخيالي الذي يتداخل فيه الزمان والمكان، وتتشابك الأحداث - هو العقل الباطن لصاحب الحلم الذي يختزن كمًّا هائلًا من المعلومات، تراكمت على مدى سنوات العمر، التي لا يتذكر العقل الواعي سوى جزء يسير للغاية منها، ويقوم الدماغ الواقع تحت سيطرة العقل الباطن أثناء النوم بتركيب ما نراه في أحلامنا من خطط عجيبة، ومسارات غريبة للأحداث التي يراها الشخص، وفقًا لعوامل وأسباب عديدة، أبرزها حالته النفسية، وما سبق تلك الليلة من أحداث ومقدار ونوعية ما تناوله من طعام قبيل ذهابه للفراش. والخلاصة : أن معظم ما نراه في نومنا من أحلام هي من هذا النوع الذي تتداخل فيه الأحداث، فلا تعدو كونها أضغاثَ أحلام، الواجب ألَّا نرهق أنفسنا، ونزعج غيرنا بالحديث عنها، ناهيك عن عناء البحث عن تفسير لها، كما يحلو للبعض أن يفعل لكل شاردة أو واردة يتذكرها من أحلامه.
لوط عليه السلام (2) سُقْتُ في الفصل السابق ما ذكره الله عز وجل عن لوط عليه السلام في سورتي الأعراف وهود وفي سورة الحجر، وقال تعالى في سورة الأنبياء عن إبراهيم ولوط: ﴿ وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ ﴾ [الأنبياء: 71]، ثم قال بعد ذلك: ﴿ وَلُوطًا آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ * وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ ﴾ [الأنبياء: 74، 75]. وقال تعالى في سورة الشعراء: ﴿ كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلَا تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ * أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ * وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ * قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ * قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ * رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ * فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ * ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ * وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ﴾ [الشعراء: 160 - 175]. وقال تعالى في سورة النمل: ﴿ وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ * أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ * فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ * فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ * وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ ﴾ [النمل: 54 - 58]. وقال تعالى في سورة العنكبوت: ﴿ وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ * أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ * وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ * قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ * وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالُوا لَا تَخَفْ وَلَا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ * إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ * وَلَقَدْ تَرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ﴾ [العنكبوت: 28 - 35]. وقال تعالى في سورة الصافات: ﴿ وَإِنَّ لُوطًا لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ نَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ * ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ * وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ * وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ﴾ [الصافات: 133 - 138]. وقال تعالى في سورة الذاريات بعد قصَّةَ ضيف إبراهيم وبشارتهم إياه بغلام عليم قال عز وجل: ﴿ قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ * قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ * لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ * مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ * فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ * وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ ﴾ [الذاريات: 31 - 37]. وقال تعالى في سورة النجم: ﴿ وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى * فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى ﴾ [النجم: 53، 54]. وقال تعالى في سورة القمر: ﴿ كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ * إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ * نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنَا كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ * وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ * وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ * وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ * فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ * وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ﴾ [القمر: 33 - 40]. وقد فهم بعض الناس خطأً أن قولَ لوطٍ: ﴿ أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ ﴾ [هود: 80]، يعني: أو آوي إلى قبيلة قوية تُدافِع عنِّي؛ وهذا فهم فاسِد؛ فقد جاء في صحيح البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((يغفرُ اللهُ للوط إن كان ليأوي إلى ركنٍ شديدٍ))، وهذا يدلُّ على أن الركن الشديد الذي كان يأوي إليه لوط موجود، وهو الله عز وجل، بخلاف مَن زعم أنه كان يتمنَّى عشيرة يأوي إليها وهي غير موجودة، فأهله في العراق، وقد هاجر عنهم، وقد جاء تأكيدُ وجود الركن الشديد الذي آوى إليه لوط فآواه فيما رواه البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ويرحم اللهُ لوطًا؛ لقد كان يأوي إلى ركن شديد)). وفيما ساقه ابنُ كثير في تفسير قوله تعالى: ﴿ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ ﴾ [هود: 80] من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((رحمة الله على لوط لقد كان يأوي إلى ركن شديد))، و﴿ أَوْ ﴾ في قوله تعالى: ﴿ أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ ﴾، بمعنى: بل؛ فهي للإضراب كأنه قال: "ليس لي بكم قوَّة بل آوي إلى ركن شديد"، فلمَّا آوى إلى اللهِ آوَاه اللهُ إليه؛ ولذلك قال الملائكة حينئذ: ﴿ يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ ﴾ [هود: 81]. هذا، وجريمة إتيان الذكران من العالمين تَأْباها الكثير من الحيوانات العجماوات، وقد قال عبدالملك بن مروان الخليفة الأموي: "لولا أن الله ذكر ذلك في القرآن ما ظننتُ أن ذكرًا يَنْزُو على ذكر". ومن غرائب الأمور وعجائبها إطلاقُ لفظ "لُوطِي" على مَن يأتي الذكران، وقد شاعت هذه اللفظة، واستعملها العلماءُ والعوام، وهو إطلاق غير صحيح، فلا يجوز أن تُنسب هذه الجريمة إلى لوط عليه السلام، فيقال لمرتكبها "لُوطِيٌّ"، كما لا يجوز أن يُقال في أبي جهل وأبي لهب: إنهما محمديَّان؛ لأنهما ضد محمد صلى الله عليه وسلم، كما أن مَن يأتي هذه الجريمة هو ضد لوط عليه السلام، وقد حكى الله تعالى عن لوط أنه قال: ﴿ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ ﴾ [الشعراء: 168]، ولا سبيل إلى صحة هذا الإطلاق بحال؛ لأنَّ كلمة لوط تدل على معنى الإصلاح، يقال: لَاطَ الحوضَ؛ إذا أصلحَه، وهؤلاء مفسدون في الأرض؛ ولذلك لم يَرِد خبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في تسمية أهل هذه الجريمة "لوطيين"، بل الآثار الواردة عنه صلى الله عليه وسلم تقول: ((من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط...))؛ إلخ الأثر، فيقال لِمن يرتكب هذه الجريمة: إنه عمِل عمَل قوم لوط، ولا يقال له: "لُوطِيٌّ" بحال؛ برَّأ الله لوطًا من هذه النسبة الرديئة. هذا، ومن مفتريات أهل الكتاب من اليهود والنصارى أن لوطًا بعد أن نجَّاه الله سكر وزنا بابنتيه؛ فقد جاء في الإصحاح التاسع عشر من سفر التكوين: 30 - وصعد لوط من صوغر، وسكن في الجبل وابنتاه معه؛ لأنه خاف أن يسكن في صوغر فسكن في المغارة هو وابنتاه. 31 - وقالت البكر للصغيرة: أبونا قد شاخ وليس في الأرض رجل ليدخل علينا كعادة كل الأرض. 32 - هلم نسقي أبانا خمرًا ونضطجع معه فنحيي من أبينا نسلًا. 33 - فسقتا أباهما خمرًا في تلك الليلة، ودخلت البكر واضطجعت مع أبيها ولم يعلم باضطجاعها ولا بقيامها. 34 - وحدث في الغد أن البكر قالت للصغيرة: إني قد اضطجعت البارحة مع أبي، هلم نسقيه خمرًا الليلة أيضًا فادخلي اضطجعي معه. 35 - فسقتا أباهما خمرًا في تلك الليلة أيضًا وقامت الصغيرة واضطجعت معه ولم يعلم باضطجاعها ولا بقيامها. 36 - فحبلت ابنتا لوط من أبيهما. هذه عبارة الإصحاح التاسع عشر من سفر التكوين من التوراة التي بيد اليهود والنصارى، برَّأ اللهُ لوطًا وابنتيه من هذه الفِرْيَةِ ونزَّه لوطًا من كل إثم، وسلام عليه في العالمين.
العالم الرباني الشيخ محمد الرابع الحسني الندوي في ذمة الله الرئیس العام لدار العلوم التابعة لندوة العلماء بلكناؤ خميس الواحد والعشرين من رمضان المبارك سنة 1444 ه استأثرتْ بأستاذنا سماحة الشيخ محمد الرابع الحسني الندوي رحمةُ الله، وقد ناهز التسعين من عمره المبارك. بذهابه في هذه الأوقات المدلهمَّة، والأمة الإسلامية الهندية في حاجة أكثر وأسرع إلى الاستنارة من آرائه للخلاص من مخالب المفترسين - ذهب رُوَاء الحياة، وأظلمت الدنيا، وخيَّم اليأس على بعض الأفكار التي تعمل لصالح الأمة؛ فبموت العالم الرباني تذهب البركات، وتضيق الأرض على أهلها بما رحُبتْ. الشيخ محمد الرابع الحسني الندوي رحمه الله عاش ومات بقية السلف؛ حيث جمع بين صورة العلم وحقيقته، وبين أصالة العلماء المتقدمين، وحاجات العصر المتطور، وبين التصلب في الأصول والمبادئ، والمرونة في الفروع والوسائل، وبين التعليم والتربية، وبين الدعوة والحركة، وبين رهبة بالليل وفروسية بالنهار، في تأدية الأمانة، وتبليغ الرسالة، ونصح الأمة؛ فالذي يحتذي فقيدَنا رحمه الله يصبح خيرَ خَلَفٍ لخير سلف. نشأ الشيخ في أسرة لحمُها وشحمُها عقيدة التوحيد النقيِّ، واتباع السُّنة، والجهاد في سبيل الله بالقلم واللسان والسنان، عبر العصور والدهور؛ فحياته كلها نموذج تطبيقي لهذا الصفات، يشهد لكلمتي هذه من كان له صلة بهذه الأسرة الكريمة وتاريخها وأبنائها الأماثل، وما قدمت من خدمتها في صورة حركة ندوة العلماء، وإنشاء دار العلوم التابعة لها. وفي تكوين شخصية الشيخ محمد الرابع الحسني الندوي رحمه الله أعطت يدُ التوفيق نصيبها الأوفر؛ حيث تجمعت لتربيته عواملُ قلما تجتمع للآخرين - وهذا من حكمة الله - ففي بيته أمها العالمة الفاضلة المثالية، والشيخ أبو الحسن الندوي رحمه الله خاله، الشيخ زكريا الكاندهلوي رحمه الله، وريحانة العصر الشيخ عبدالقادر الرائے بوري رحمه الله، والعالم المجاهد شيخ الإسلام والمسلمين حسين أحمد المدني رحمه الله، ثم تدريسه في ندوة العلماء، وتعيينه كمدير ورئيس لها، ثم كرئيس للهيئات والمنظمات والجمعيات، والقيام بالرحلات الدعوية والفكرية والعلمية؛ فقَادَ الأمة حقَّ القيادة، وراد ندوة العلماء حقَّ الريادة. فقراءة متأنية في مسيرة الشيخ محمد الرابع الحسني الندوي تنير لنا - نحن العاملين - في مختلف مجالات الدين والعلم، والدعوة والحركة - أساليبَ الوصول إلى الحصول على نتائج نشاطاتنا، وبالعكس من ذلك تذهب حياة الشيخ بين بكاء وعزاء. والله هو الموفق والمستعان. غفر الله لأستاذنا وبركة عصرنا، وتقبل منه جهاده وجهوده، آمين.
فوائد التمر والزيتون والبصل الحمد لله الذي أكمَلَ لنا الدين، وأتمَّ علينا النعمة، ورضِيَ لنا الإسلام دينًا، وجعلنا من خير أمةٍ أُخرجت للناس، تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وتؤمن بالله العزيز الحكيم، والصلاة والسلام على نبينا محمد، الذي أرسله ربه شاهدًا ومبشرًا ونذيرًا، وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا؛ أما بعد: فسوف أذكر بعض فوائد التمر والرطب والزيتون، والعود الهندي والبصل، فأقول وبالله تعالى التوفيق: فوائد التمر والرطب: قال ابن القيم رحمه الله: "التمر يدخل في الأغذية والأدوية والفاكهة، وهو يوافق أكثر الأبدان، مقوٍّ للحار الغريزي، ولا يتولد عنه من الفضلات الرديئة ما يتولد عن غيره من الأغذية والفاكهة، بل يمنع لمن اعتاده من تعفُّن الأخلاط وفسادها"؛ [ زاد المعاد، لابن القيم، ج: 4، ص: 90]. روى أبو داود عن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُفطِر على رُطَبات قبل أن يصلي، فإن لم تكن رطبات فعلى تمرات، فإن لم تكن، حَسَا حَسَوَات من ماء))؛ [ زاد المعاد، لابن القيم، ج: 4، ص: 90]. التمر والرطب من المواد المفيدة لجسم الإنسان، وكون رسول الله صلى الله عليه وسلم يختارهما للصائم؛ فذلك لِحِكَمٍ ومنافعَ في هذه المادة؛ لعل منها: أن التمر يحتوي على نسبة عالية من سكر الفواكه الفركتوز أو الليفيولوز، وسكر الفواكه هذا له تأثيرٌ منشِّط للحركة الدودية للأمعاء، وبذلك فإنه يكافح الإمساك، فالتمر يساعد على تليين الأمعاء، إضافة إلى هذا، فإن التمور تحتوي على مواد سكرية سهلة الامتصاص بنسبة عالية تتراوح من سبعين إلى ثمانين بالمائة، والكيلوغرام الواحد من التمور يعطي طاقة حرارية عالية تصل إلى حوالي ثلاثة آلاف من السعرات، وهو القدر الذي يحتاجه الإنسان العادي من الطاقة الحرارية، والسكريات الـموجودة في الرطب والتمور تُمتص بسرعة فائقة، وفي أقل من ساعة، وهو عبارة عن سكر العنب وسكر الفواكه، وكلاهما أحادي، يمتصان مباشرة من جدار الأمعاء الدقيقة وبسهولة. كما تحتوي التمور على سكر القصب، وهو ثنائي، وهو سهل الهضم أيضًا، فيتحول بواسطة خميرة السكراز الموجودة في العصارة المعوية إلى سكر العنب، وسكر الفواكه، فيمتص من جدار الأمعاء الدقيقة إلى الدم، ثم إلى الأنسجة، ليولد الطاقة الحرارية المطلوبة للجسم بعد تمثيله وتحويله إلى ماء وثاني أكسيد الكربون؛ فلهذا كان التمر أنسب الأغذية للصائم أول ما يبدأ به؛ لإمداده بالطاقة الحرارية، ولسهولة هضمه على المعدة والأمعاء؛ [ الإعجاز العلمي للدكتور صالح أحمد رضا، ج: 1، ص: 291]. فوائد الزيتون: روى الترمذي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كلوا الزيت وادَّهِنوا به؛ فإنه من شجرة مباركة))؛ [حديث صحيح، صحيح الترمذي، للألباني، حديث: 1508]. شجرة الزيتون من الأشجار المباركة، فيسهُل زراعتها ورعايتها، وهي دائمة الخضرة، وجميلة المنظر، كما أنها من الأشجار المعمرة، فقد يصل عمرها إلى نحو ستمائة عام تقريبًا، ونستطيع أن نوجز فوائد شجرة الزيتون في الأمور الآتية: 1- ثمرة الزيتون مادة غذائية جيدة للإنسان؛ حيث إنها تحتوي على نسبة جيدة من البروتين. 2- تتميز ثمرة الزيتون بوجود أملاح الكالسيوم والحديد والفوسفات، وهي مواد هامة أساسية في غذاء الإنسان، كما أنها تحتوي على فيتامينات أ، ب، ج، د. 3- يُستخرَج منها زيت الزيتون الذي يحتوي على نسبة عالية من الدهون السائلة، ويعتبر زيت الزيتون من أنقى أنواع الزيوت النباتية؛ لسهولة هضمه بواسطة الأمعاء؛ حيث يحتاج فقط إلى نصف الوقت الذي تحتاجه الزيوت الأخرى. 4- الزيتون الأخضر يعمل على تقوية المعدة. 5- استخلص العلماء من لِحاءِ شجرة الزيتون نوعًا من البكتيريا، ينتج مضادًّا حيويًّا، ثبت نجاحه في مقاومة أربعين نوعًا من الجراثيم. 6- زيت الزيتون مضاد للسموم، فإنَّ شُرْبَ فنجانٍ واحد منه يُحدِث في المعدة طبقة تَحُول دون امتصاص السموم. 7- زيت الزيتون مسكن للآلام وطارد للديدان، فإذا جاع الإنسان، وشرب زيت الزيتون، طُرِدت جميع الديدان من بطنه. 8- يُستعمَل زيت الزيتون ضد الإمساك، وضد تكاثر الحموضة. 9- زيت الزيتون يقوم بتقوية الأجهزة المناعية في جسم الإنسان. 10- دهان الشعر بزيت الزيتون يعمل على تقويته، ويُبْطِئ ظهور الشيب؛ [من عجائب الخلق في عالم النبات، محمد الجاويش، ص: 23 - 25]. فوائد العود الهندي: روى البخاري عن أم قيس بنت محصن رضي الله عنها، قالت: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((عليكم بهذا العود الهندي؛ فإن فيه سبعة أشفِيَة: يُسْتَعَطُ به من العُذْرة، ويُلَدُّ به من ذات الـجَنْبِ))؛ [البخاري، حديث: 5692]. • العُذرة: وجع في الـحلق، وهو الذي يسمى سقوط اللَّهَاة. • اللَّدُّ: صبُّ الدواء في أحد جانبي فم الـمريض؛ [فتح الباري، لابن حجر العسقلاني، ج: 10، ص: 176، 177]. • ذات الجَنب: ورم حار يعرِض في نواحي الجنب في الغشاء المستبطن للأضلاع؛ [زاد المعاد، ج: 4، ص: 81]. روى البخاري عن أنس رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن أمْثَل ما تداويتم به الـحجامة والقُسْط البحري]؛ [البخاري، حديث: 5696]. القسط: يُعرَف عند العطارين بعود القسط؛ وهو نوعان: هندي وهو أسود، وبحري وهو أبيض، والهندي أشدهما حرارة؛ [فتح الباري، لابن حجر العسقلاني، ج: 10، ص: 156]. قال الإمام ابن القيم رحمه الله: "عند الحديث عن العود البحري والهندي: هما حارَّان يابسان في الثالثة، ينشِّفان البلغم، قاطعان للزكام، وإذا شُرِبا نَفَعَا من ضُعف الكبد والمعدة، ومن بردهما، ومن حمَّى الدَّور والرِّبْعِ، وقَطَعَا وجع الجنب، ونَفَعَا من السموم، وإذا طُلِيَ به الوجه معجونًا بالماء والعسل، قلع الكَلَف"؛ [زاد المعاد، لابن القيم، ج: 4، ص: 354]. فوائد البصل: البصل من النباتات العجيبة؛ لأن فيه الكثيرَ من الفوائد التي نستطيع أن نوجزها في الأمور الآتية: 1- فائدة البصل تعادل فائدة الأنسولين؛ إذ إن تناول بصلة واحدة يوميًّا، يؤدي إلى خفض نسبة السكر في الدم، بما لا يحتاج المريض إلى علاج. 2- البصل مطهِّر للجراثيم؛ وذلك لأن الأبخرة المتصاعدة منه قادرة على قتل البكتيريا الضارة، خاصة في الجروح الملوثة. 3- ثبت أن مضغ البصل في الفم لمدة خمس دقائق يقضي على جميع الميكروبات الموجودة في الفم، خاصة دفتريا اللوز. 4- البصل يخفض نسبة الكولسترول في الدم، ويقلل نسبة الإصابة بتصلب الشرايين. 5- البصل مفيد في علاج تورم الساقين، وانتفاخ البطن. 6- تحتوي الأجزاء اللحمية للبصل على مواد زيتية متطايرة، واثنين وعشرين حمضًا أمينيًّا، لها تأثير مضاد للميكروبات، بجانب المركبات الكبريتية، والزيوت الدهنية. 7- البصل يساعد على تفتيت الحصى وإدرار البول. فائدة مهمة: لقد اخترع العلماء أقراصًا لكي تمتص رائحة البصل، تحتوي على خلاصة الكلوروفيل المركزة، قادرة على ذلك؛ لكي يستفيد الناس من القيمة الغذائية للبصل؛ [من عجائب الخلق في عالم النبات، محمد إسماعيل الجاويش، ص: 28 – 30]. ختامًا: أسأل الله تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلا أن يجعل هذا العملَ خالصًا لوجهه الكريم، وأن ينفع بهذا العمل طلابَ العلم الكِرام، وأرجو كل قارئ كريم أن يدعو الله سبحانه لي بالإخلاص، والتوفيق، والثبات على الحق، وحسن الخاتمة؛ فإن دعوة المسلم لأخيه المسلم بظهر الغيب مستجابة، وأختم بقول الله تعالى: ﴿ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ [الحشر: 10]. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وآله، وأصحابه، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
القِبلة والتحول عن بيت المقدس توحيدًا لقلوب المؤمنين واتجاههم، أقام الله لهم قِبلة يتجهون إليها، وهي - منذ عهد إبراهيم - الكعبة التي بناها بأمر الله، ثم أضحت بيت المقدس في عهد أنبياء بني إسرائيل، واتَّجه النصارى في قبلتهم إلى المشرق، وكان النبي صلى الله عليه وسلم في مكة يجمع في صلاته بين الاتجاه إلى الكعبة وبيت المقدس؛ حيث كان يصلي ما بين الركن اليماني والحجَر الأسود، ولما هاجر إلى المدينة لم يعُد بالإمكان جمع القبلتين معًا، فاتجه إلى بيت المقدس وهو في شوق إلى الكعبة والاتجاه إليها في صلاته، وهي أدعى إلى جمع العرب؛ حيث لها المكانة والتقديس وهم في جاهليتهم، وقد بيَّن الله تعالى حالة هذا الشوق عند نبيه صلى الله عليه وسلم، فقال: ﴿ قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ ﴾ [البقرة: 144]، فكان الأمر بتحويل القِبلة في شعبان من السنة الثانية للهجرة؛ أي: بعد ثمانية عشر شهرًا من مَقدم النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة.
إبراهيم عليه السلام (4) أشرتُ في الفصل السابق إلى أن الله تعالى أبقى مقام إبراهيم في البيت الحرام؛ ليكون شاهدًا على بناء إبراهيم لهذا البيت، لما يعلم من أن اليهود سيجحدون أن يكون إبراهيم هو الذي بنى الكعبة المشرَّفة بمكة المكرمة، وجعل في ذلك آيات بيِّنات حيث يقول: ﴿ فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ ﴾ [آل عمران: 97]، وكما قال عز وجل: ﴿ وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى ﴾ [البقرة: 125]، وأشرتُ إلى أن العرب لم يزالوا يتوارثون معرفة مقام إبراهيم جيلًا بعد جيل إلى أن بُعث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي ذلك يقول أبو طالب في لاميته المشهورة: وموطئُ إبراهيمَ في الصَّخرِ رطبة على قدميه حافيًا غيرَ ناعلِ ويؤثر أنَّ عبدالمطلب جدَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يوضع له فراش في ظلِّ الكعبة، فكان بنوه يجلسون حول فراشه ذلك حتى يخرج إليه لا يجلس عليه أحد من بنيه إجلالًا له، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتي وهو دون الخامسة من عمره صلى الله عليه وسلم فيأخذه عبدالمطلب ويُجلسه على فِراشه، فجاء جماعة من بني مدلج يطوفون حول الكعبة، فلما رأوا قدمَ رسول الله صلى الله عليه وسلم أمعنوا النظرَ فيها ثم أمعنوا النظر في مقام إبراهيم، ثمَّ قالوا لعبدالمطلب: لِمن هذا الغلام يا شيخ؟ قال: هذا محمد ولدي، قالوا: ما رأينا قدمًا شبيهةً بالتي في الصخر من قدم ولدك هذا. وقد ثبت أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وصف إبراهيمَ الخليل عليه السلام بأنه أشبه الناس بمحمد صلى الله عليه وسلم؛ فقد روى البخاري ومسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وهو يتحدَّث عن ليلة أُسري به: ((رأيتُ موسى وإذا هو رجل ضرب - أي خفيف اللحم - رَجِلٌ - أي دهين الشعر - كأنه من رجال أزد شَنُوءَة، ورأيتُ عيسى فإذا هو ربعة أحمر، كأنما خرج من ديماس - يعني الحمام - وأنا أشبه ولد إبراهيم به))، وكما جمع الله عز وجل بين محمد صلى الله عليه وسلم وأبيه إبراهيم في الشبه، جمعَ بينهما كذلك في صفة الخلَّة، فلم يتَّخذ الله خليلًا غير محمد وإبراهيم عليهما الصلاة والسلام، وجمع كذلك بينهما في الصلاة عليهما فنقول في التشهد: "اللهمَّ صلِّ على محمدٍ وعلى آل محمدٍ، كما صلَّيتَ على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وباركْ على محمدٍ وعلى آل محمدٍ، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميدٌ مجيدٌ". وقد حرَص اليهود على قطع كل صِلة للعرب بإسماعيل وإبراهيم، وحذفوا من التوراة كلَّ ما يتَّصل بإسماعيلَ بعد أن أخذه أبوه وتركه وأمه في برية فاران، وقطعوا كلَّ أخباره بعد ذلك، وقد جهلوا أو تجاهلوا أن برية فاران هي أرض مكة. وقد استقرَّ إبراهيم عليه السلام بالأرض المباركة بفلسطين، إلا أنه كان يتردَّد إلى مكة ليتعاهد تركته فيها ويطوف بالبيت العتيق، وقد دعا لمكة قبل بناء البيت فقال: ﴿ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا ﴾ [البقرة: 126]، وفي زورة من زوراته لمكة بعد بناء البيت وميلاد إسحاق قال: ﴿ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا ﴾ [إبراهيم: 35]. وقد كان لوط عليه السلام لقي مِن قومه عنتًا ومشقَّةً وكذبوه وكذبوا المرسلين، وكانوا يأتون الذُّكرانَ من العالَمين، فلما أراد الله عز وجل إهلاكَ قوم لوطٍ أرسل بعضَ الملائكة لإهلاكهم، وأمرهم أن يمروا بإبراهيم قبلَ تدمير قُرى قوم لوط ليبشِّروه بإسحاق، ومن وراء إسحاق يعقوب، وقد ساق الله عز وجل قصَّةَ البشارة بإسحاق في مواضع من كتابه الكريم حيث يقول: ﴿ وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ * فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ * وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ * قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ * قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ ﴾ [هود: 69 - 73]. وقال تعالى: ﴿ وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ * قَالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ * قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ * قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ * قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ ﴾ [الحجر: 51 - 56]، وقال تعالى: ﴿ فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا * وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا ﴾ [مريم: 49، 50]، وقال تعالى: ﴿ فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ﴾ [العنكبوت: 26، 27]، وقال تعالى: ﴿ فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ * هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ * فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ * فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ * فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ * فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ * قَالُوا كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ ﴾ [الذاريات: 24 - 30]. وقد نصَّ القرآن الكريم على أن يعقوب ولد إسحق حيث يقول الله عز وجل: ﴿ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ﴾ [البقرة: 133]، وإبراهيم جد، وإسماعيل عم، وإسحق والد، والكل يطلق عليه اسم الأب، وقد وصف الله تبارك وتعالى إبراهيم بصفات فقال: ﴿ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا ﴾ [النحل: 120]، وقال: ﴿ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ ﴾ [التوبة: 114]، وقال: ﴿ وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا ﴾ [النساء: 125]، وأما ما ساقه الله عز وجل عن إبراهيم عليه السلام في قوله: ﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ [البقرة: 260]، فهو صريح في أن إبراهيم كان عند سؤاله موقنًا بالبعث وبقدرة الله على إحياء الموتى، لكنه أحب أن يضيف إلى علمِ اليقين عينَ اليقين، وليكون أحدَ الأدلة المادية المحسوسة على قدرة الله على إحياء الموتى، وقد أورد الله تعالى في سورة البقرة مجموعةً من الأمثلة على ذلك؛ فذكر قصة قتيلِ بني إسرائيل، وضربه ببعض البقرة المذبوحة، فقال: ﴿ كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴾ [البقرة: 73]، وقال: ﴿ وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ * ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ [البقرة: 55، 56]، وقال: ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ ﴾ [البقرة: 243]، وقال: ﴿ أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [البقرة: 259]، ثم ساق بعد هذه القصة مباشرة قول إبراهيم: ﴿ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى ﴾ [البقرة: 260]. وأمَّا ما رواه البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((نحن أحقُّ بالشكِّ من إبراهيم؛ إذ قال: ﴿ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ﴾ [البقرة: 260]، ويرحم الله لوطًا لقد كان يأوي إلى ركن شديد، ولو لبثتُ في السجن طول ما لبث يوسف لأجبت الداعي)) - فإن المقصود من هذا هو الثناء على هؤلاء الأنبياء الثلاثة وبيان علوِّ منازلهم، وأن إبراهيم لو كان شاكًّا لكنتُ أولى بالشك منه، وما دام لم يخطر على بالِ أحدٍ أنَّ محمدًا صلى الله عليه وسلم يشكُّ في قدرة الله على إحياء الموتى فكذلك إبراهيم عليه السلام؛ فهو من الأساليب البلاغية المعروفة بتأكيد المدح بما يشبه الذم. والركن الشديد الذي آوى إليه لوط هو الله تبارك وتعالى، وقوله في الآية: ﴿ أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ ﴾ [هود: 80]، ﴿ أَوْ ﴾ فيها بمعنى بل، أي: بل آوي إلى الله عز وجل، ثمَّ الثناء على يوسف باعتصامه عن السوء مع ما لقي من الأذى والسجن، وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ولو لبثتُ في السجن طول ما لبث يوسف لأجبت الداعي))؛ أي لسارعت إلى ما دعاني إليه رسولُ الملك وخرجت من السجن، وقد أراد رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أن ينبِّه إلى المرتبة العُليا التي حازها يوسف الصديق عليه السلام. وإلى الفصل القادم إن شاء الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
لماذا يُحرقون القرآن؟ بين الفينة والأخرى يقوم الغرب باستفزاز مشاعر المسلمين، والسماح لهؤلاء المتطرفين بحرق القرآن الكريم، تحت حماية القانون ورجال الشرطة، أفعال مستفزة، وأعمال دنيئة حقيرة يقومون بها، تُبيِّن لنا حجم الحقد الذي يحملونه في صدورهم، والكراهية التي وصلوا إليها تجاه الإسلام. إن هذه الأعمال لا يمكن أن تُفسَّر إلا في إطار الحملة الشرسة التي يقوم بها الغرب ضد كل ما هو إسلامي أو ما يُعرف بالإسلاموفوبيا. وهذا الفعل هو امتداد لسلسلة من صور الكراهية والعداء للإسلام التي بدؤوها في الحجاب. فبعد حملتهم على الحجاب، وتجريم كل صوره وأشكاله في المجتمع، واعتباره لباسًا دخيلًا يتنافى مع قِيَمِ الغرب وحضارته، ومحاولة شيطنة المتحجبات، وربطهن بالإرهاب والقتل. وبعد أن فشلوا في نزع الحجاب من على المسلمات، وتجريمهن وحرمانهن من أبسط حقوقهن، وممارسة حريتهن في ارتداء ما يُرِدْنَ من لباس، فلم يزِدْهُنَّ إلا تمسكًا بالحجاب، وحرصًا على ارتدائه، فزادهم ذلك غيظًا وغمًّا في نفوسهم. فانتقلوا إلى الخطوة الأخرى من حربهم على الأسرة المسلمة التي هي منبع القيم، وأصل الفضيلة، وحائط الصد الأول ضد دعواتهم الشيطانية، وأعمالهم الإجرامية؛ حيث قاموا بنزع أطفال المسلمين بوحشية من والديهم، ودفعهم إلى أسر وعوائل نصرانية؛ لتربيتهم على النصرانية، وسلخهم من دينهم وعقيدتهم، بحجج واهية وأعذار ساقطة جدًّا، أمام نظر العالم الذي يتغنى بكفالة حقوق الأطفال، وعدم حرمانهم من والديهم بأي ظرف من الظروف، فلما فُضِحوا أمام العالم، وعرف الناس كَذِبَهم في ادعائهم حرية التعبير، واحترام حقوق الإنسان، وتسترهم خلف ادعاء حرية الرأي والديمقراطية، لجاؤوا إلى استفزاز مشاعر المسلمين بحرق المصحف، وتدنيس القرآن الكريم الذي هو أعظم كتاب عندهم، ويمثل دستور حياتهم والحبل الذي يجمع شملهم، ويؤلف بين قلوبهم، ورغم دعوات العقلاء بعدم الإقدام على هذا الفعل الذي ليس له إلا إذكاء الكراهية بين الشعوب، وزرع الأحقاد، وتقويض السلم العام، إلا أن كل تلك الدعوات لم تلقَ منهم أذان مصغية، بل سمحوا بهذا الفعل تحت مظلة القانون، وحماية رجال الأمن. وفي نظري: إن الذي دفعهم إلى هذا الفعل، وتجاهل دعوات المسلمين في بقاع العالم لهم بالعدول عنه، وعدم تنفيذه عدة أمور؛ أهمها: أولًا: علمهم بضعف المسلمين وتفرقهم، وذهاب شوكتهم؛ ومن ثَمَّ يعلمون يقينًا أنهم لن يحركوا ساكنًا، ولن يفعلوا أمرًا سوى الشجب والاستنكار الذي يجيدونه فقط، وقد تذكرت البيت السائر الذي حدث لعمر بن أبي ربيعة: تعدو الذئاب على من لا كلاب له وتتقي صولة الْمُسْتَأْسِدِ الضاري ولو كان لهم كلمة، لَما تجرأ الناس على إهانة الإسلام، والتنكيل بالمسلمين، والاعتداء على حرماتهم ومقدساتهم في كل بقعة من بقاع الأرض، ولو أن السويد فعلت ذلك مع طائفة غير مسلمة، لقامت عليها الدنيا، ولن تقعد حتى يثنوها عن فعلها، وما سفير إسرائيل عن ذلك ببعيدٍ؛ فقد منع حرق التوراة وإهانة كتابه المقدس الذي يدعيه. ونحن نطالب المسلمين في كل بقاع العالم بالوقوف ضد كل من يُهِين ديننا، ويدنِّس كتابنا الكريم، كل واحد بما يستطيع من جهد، وخصوصًا حكام المسلمين، والجمعيات الإسلامية العالمية العاملة، وكبار العلماء ومجمعاتهم العلمية؛ بالاستنكار ومخاطبة المعتدين، والتحذير من هذا الفعل، وعقد المؤتمرات، وإقامة الخطب؛ حتى لا يمر هذا الفعل وينقضي، وننسى، ثم يعودوا بعدها إلى الفعل مرة أخرى. ثانيًا: يبين لنا هذا الفعل مدى حقدهم وكراهيتهم للإسلام، وإن حاولوا إظهار غيره؛ وهذا كتاب ربنا يبين عداوتهم بقوله: ﴿ وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ ﴾ [البقرة: 120]، فبيَّن بخطاب قطعي لا يحتمل الشك أنهم لن يرضوا عنا إلا إذا أصبحنا مثلهم في الملة والدين. وهذا من نِعَمِ الله علينا؛ حتى لا ننخدع بهم، أو نغتر بشعاراتهم الكاذبة، ودعواتهم المضللة إلى الإنسانية والحرية، واحترام حقوق الإنسان، وإنما هي شعارات يُلوِّحون بها إذا كان المظلوم منهم، أما إذا كان المظلوم مسلمًا، فهذه الشعارات لا تعمل ولا تنطبق عليهم؛ لأنهم في نظرهم خارج تصنيف الإنسانية، ولا يستحقون الحياة أصلًا. ثالثًا: يريدون من هذا الفعل إهانة المسلمين وإذلالهم؛ فالقرآن الكريم هو الكتاب الجامع لكل المسلمين، ومن شكَّ في شيء منه خرج من الإسلام، ومن ثَمَّ فإن إهانة القرآن هو إهانة لكل المسلمين، وما علموا أن فعلهم هذا لا يزيد المسلمين إلا تمسكًا بكتابهم، وإقبالًا على تلاوته، وحفظه، والعمل به، فانقلب مكرهم بالنَّيل من القرآن والحط من قدره، زيادة في رفعته، وعلوًّا في منزلته، وارتفاعَ قدره بين المسلمين، وكثرة الإقبال على حفظه وتعلمه، فكيف تُهزَم أمة كتابُ الله محفوظ بين أظهرها، وحبل الله المتين ممدود إليها؛ يقول عليه الصلاة والسلام: (( تركت فيكم ما إن تضلوا بعدهم أبدًا: كتاب الله، وسنتي... )). رابعًا: إن هذا الفعل صفعة المنافقين والمنبهرين بالغرب وأهله من المسلمين الذين يتغنون في كل مجلس بقِيَمِ الغرب وسِلْمِيَّتِهِ، واحترامه لحقوق الإنسان، واحترام اختلاف الرأي، وكفالة حرية المعتقد والدين، ولكن هذه الأعمال تفضح تلك الدعوات، وتنسف تلك التصورات، وتبين حقيقتهم للناس، فماذا فعل بهم القرآن ليُحْرِقوه؟ وماذا نقموا عليه ليحاولوا إهانته؟ بينما لم يفعلوا مع بقية الكتب التي لها اتباع وملل وعقائد، فهذه ازدواجية غريبة ينتهجونها في حياتهم، وهذا تمييز عنصري واضح في معاملاتهم مع المسلمين وغيرهم. خامسًا: إنهم يريدون من هذا الفعل جسَّ نبض الأمة، هل ما زال القرآن يجري في دمائها، وتنبض به قلوبها، أم إنهم قد بعدوا عنه، ونسوا كثيرًا من أحكامه، وهجره كثير من أبنائه؟ فإذا رأوا دفاعنا واستنكارنا لهذا الفعل، ووقوفنا بحزم ضد حملاتهم المغرضة وأعمالهم الشانئة، ودافعنا عن كتابنا القرآن، فإن هذا يجعلهم يخافون من القيام به مرة أخرى، فلا يقدموا على أن يستهزؤوا بكتابنا، ويهينوا دستورنا، فرفعُ أعلام السلام وشعارات التسامح في هذا الوقت هو دليل على الجبن والضعف، فالتسامح لا يكون إلا مع من يحترم ديننا ويسالم ملتنا، لا مع من إذا رأى التسامح زاد في غيِّهِ وعدوانه، واستشرى ضرره وعظم خطره علينا، وظن أن هذا ضعفٌ بنا. سادسًا: حرقُهم للقرآن الكريم يدل دلالة واضحة أن مشكلتهم تكمن في هذا الكتاب، وأن هذا القرآن هو الذي يغيظهم وينقص عليهم معيشتهم، فكيف يَهْنَؤون والمسلمون لديهم كتاب منزَّل هو دستور حياتهم، وسبب فوزهم وسعادتهم؟ وكيف يَضِلُّوا ما دام هذا القرآن بين أيديهم وكلامه يُتلى عليهم ليلًا ونهارًا؟ فما دام القرآن موجودًا، فسوف يعودون يومًا إلى قوتهم وحضارتهم مهما بعدوا عنه؛ ولهذا سَعَوا جاهدين إلى إبعاد المسلمين عن هذا الكتاب، وحاربوه بكل الأساليب، فحاولوا تشويه صورته تارة؛ فمرة يصفونه بأنه كتاب دمويٌّ، ومرة أخرى يصفونه بأنه كتاب رجعِيٌّ متخلف، إلى غيرها من العبارات المغرضة، والأوصاف الكاذبة؛ يقول غلادستون: "ما دام هذا القرآن موجودًا، فلن تستطيع أوربا السيطرة على الشرق، ولا أن تكون هي نفسها في أمان"، وقد قامت فرنسا بمحاولة سلخ المسلمين في الجزائر من دينهم وعقيدتهم، ولكنها فشلت في ذلك؛ حتى قال وزير مستعمراتها يومًا: "وماذا أفعل إذا كان القرآن أكبر من فرنسا؟". وفي الختام نقول: إن دفاعنا عن قرآننا وعقيدتنا هو دليل على صدق الإيمان، ونصرة لله تعالى، وبهذا ننال النصر والتمكين في الأرض؛ قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ ﴾ [محمد: 7]، فالدفاع عن الدين سبب للثبات على الحق، والتخاذل عن نصرته، والوقوف أمام كل من يريد النَّيل منه هو سبب للهزيمة والخذلان.
حكايات العلماء لسعيد بن سعد آل حماد صدر حديثًا كتاب "حكايات العلماء مواقف لهم من خلال كتبهم"، تأليف: "سعيد بن سعد آل حماد"، تحقيق: "عبد الحفيظ بيضون"، نشر: "مؤسسة توطين العلم الوقفية" بأبها، توزيع "مدار القبس للنشر والتوزيع". وهذا الكتاب عبارة عن جمع لمواقف العلماء التي ذكروها عن أنفسِهم في كتبِهم، مع التعليقِ عليها. وهو مرتبٌ حسب وفيات العلماء. ويحكي فيه مؤلفه حكاية مئة عالمٍ من علماء الإسلام، مواقفهم وتجاربهم وأخبارهم، جمعها مؤلّفه من عشرات الكُتُب المطولّة، مشترطًا أن يكون فيها جانبًا تربويًا يفيد القارئ. حيث بدأَ من القرن الثاني الهجري ثم تدرج عبر القرون؛ ويذكر فيه الشيخ "سعيد بن سعد آل حماد" سيرة مختصرة مجملة للعالم ثم اقتباسات مميزة في أغلبها من تصانيفهم، وراعى في اختياره للعلماء التنويع بين الأقدمين فالمحدثين، إلى جانب تنوع اختصاصاتهم وعلومهم، فنجده يذكر مواقف للخليل بن أحمد الفراهيدي، وياقوت الحموي، وابن خلدون، وابن تيمية، وابن قيم الجوزية، وابن حجر الهيتمي، وابن رجب الحنبلي، والشاطبي، والرازي، وابن عثيمين، والسيد حسين الموسوي، وغيرهم. وقد ذكرها المؤلف في صورة فقرات معنونة، ليسهل استخلاص المقصد التربوي والعبرة العملية من كل موقف من تجارب هؤلاء العلماء، قال أبو حنيفة رحمه الله: "حكايات العلماء ومحاسنهم أحب إلي من كثير من الفقه لأنها آداب القوم". والمؤلف هو "سعيد بن سعد بن سعيد آل حمَّاد الشَّهرانيُّ"، ولد في عام 1385 هـ بحي المعزاب في خميس مشيط. درس المرحلة الجامعية في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، فرع الجنوب، تخصص: "محاسبة"، وتخرج فيها في 25/ 11/ 1410هـ، بتقدير: "جيد جدًا". وفي عام 1416هـ التحق بجامعة الملك خالد للدراسة في كلية الشريعة منتسبًا، وتخرج فيها عام: 1420 هـ، بتقدير: "جيد جدًا". ثم التحق بجامعة الملك خالد لدراسة مرحلة الماجستير في قسم أصول الفقه، ونال الدرجة في 7/ 1/ 1432هـ، بتقدير: "ممتاز"، وكانت الأطروحة تحقيق لكتاب: "الضياء اللَّامع شرح جمع الجوامع", من بداية باب: (مسالك العلَّة إلى نهاية كتاب الاجتهاد والتقليد). ثم التحق بالجامعة الإسلاميَّة بالمدينة النَّبويَّة لدراسة الدُّكتوراه في قسم أصول الفقه، ونال الدرجة في شهر شعبان من عام 1438هـ، بتقدير: "ممتاز"، وكانت الأطروحة بعنوان: "استدلال الأصوليين بآثار الصحابة رضي الله عنهم". والشيخ يعمل معلمًا للعلوم الشرعية في ثانوية الخميس الأولى بخميس مشيط. وخطيبًا لجامع: "التعاون" بخميس مشيط. وله العديد من الدورات العلمية في تدريس كتب المتون، استفاد منها الكثير من طلبة العلم. من مؤلفاته: 1. "حكم طواف الوداع والهدي في العمرة". 2. "ضرب الدف في الأفراح". 3. "ضبط التكفير بمراحل وقواعد التشبه بالكفار". 4. "العمل من أركان الإيمان". 5. "حكم تعدد الزوجات". 6. "المنهج التاريخي وتأثيره على أصول الفقه". 7. "الحوار التعليمي". 8. "عمل أهل المدينة". 9. "الرجعة". 10. شرح: "زاد المستقنع إلى باب النكاح". 11. "حكايات العلماء". 12. "شرح فروع الفقه" لابن المبرد.
حدق العيون شرح مختصر القدوري لعبد الله بن حسين بن حامد صدر حديثًا كتاب " حدق العيون شرح مختصر القدوري "، تصنيف العلامة: " عبد الله بن حسين بن حسن بن حامد " (ت حدود سنة 900 هـ)، تحقيق: " عبد الحميد هاشم العيساوي "، نشر: " دار الفتح للدراسات والنشر "، " أروقة للنشر والتوزيع ". وهذا الكتاب شرح ماتع على المتن المبارك في المذهب الحنفي، " متن القدوري "، والمعروف عند الحنفية بـ"الكتاب". وشارحه هو أحد فقهاء الحنفية في زمن السلطنة العثمانية، وهو الشيخ عبد الله بن حسين بن حسن بن حامد، المتوفى في حدود سنة ٩٠٠ هجرية. وقد وضع شرحه هذا في نوبة السلطان بايزيد ابن محمد الفاتح رحمهما الله تعالى. والكتاب يُنشَرُ لأول مرة، وهو من ضمن سلسلة "ذخائر العهد العثماني" التي أطلقتها الدار منذ ثلاثة أعوام، وتوالي فيها نشر بدائع نتاج الفقهاء إبان الدولة العثمانية في عصرها الزاهر. وقد جاء هذا الشرح بألفاظ مختصرة مجملة، وعبارات ظاهرة، تشتمل على كثير من المعاني والفوائد، وقد رتبه المصنف على الكتب والأبواب الفقهية، وذكر فيه الأقوال والآراء المختلف فيها داخل المذهب الحنفي، كما ذكر الراجح منها, مستدلًا على ذلك بالدليل من الكتاب والسنة وغيرهما. ومختصر القدوري أجمع علماء المذهب الحنفي على اعتباره من المصادر المعتبَرة، والمتون المعتمَدة، حتى قال فيه التميمي: " نفع الله به خلقًا لا يحصَون "، وقال عنه اللكنوي: " كتاب مبارك متداول بين أيدي الطلبة ". ونجد أن هذا المتن أحد أول وأهم الأعمال في هذا المجال، وقد ذاع صيته بين فقهاء المذهب الحنفي حتى أصبحوا يشيرون إليه ببساطة باسم الكتاب، وضعه الإمام القدوري، الذي كان شيخ الحنفية ورئيسًا لهم في زمانه، حيث أجمل في في هذا المختصر زبدة الفقه الحنفي وثمرته، وغالب رؤوس مسائله الفقهية، دون خوضٍ في الأدلة والمناقشات العلمية. ولذلك فإن هذا المختصر فيه غنية عظمى وكفاية كبرى لمن أراد العلم والعمل، ومعرفة الحكم بسهولة ويسر. وقد حوى هذا المختصر اثنتي عشرة ألف مسألة فقهية، تناولها الإمام القدوري بأوجز عبارة وأدق أسلوب. وقد قيل عن هذا المختصر: "لا غنية للمبتدي عن دراسته وقراءته. ولا مندوحة للمنتهي عن مراجعته ومطالعته". والقدوري (362 هـ - 428 هـ) هو أبو الحسين أحمد بن محمد بن أحمد بن جعفر بن حمدان الفقيه الحنفي المعروف بالقُدُوري، انتهت إليه رياسة الحنفية بالعراق، ونسبته بضم القاف والدال المهملة وسكون الواو وبعدها راء مهملة إلى القدور التي هي جمع قدر، ولا يعرف سبب نسبته إليها وهكذا ذكره السمعاني في كتاب الأنساب، وقد كان حسن العبارة في النظر وسمع الحديث وروى عنه أبو بكر الخطيب صاحب التاريخ. وصنف في مذهبه المختصر المشهور، وشرح "مختصر الكرخي"، و"التجريد" في مسائل الخلاف بين الحنفية والشافعية، و"التقريب الأول"، في المسائل الخلافية بين الإمام أبي حنيفة وأصحابه، و"التقريب الثاني"، مضمنًا فيه التقريب الأول ( مع الأدلة )، و"شرح أدب القاضي" لأبي يوسف يعقوب بن إبراهيم القاضي. وكان يناظر الشيخ أبا حامد الإسفراييني الفقيه الشافعي، والقاضي أبي الطيب الطبري الشافعي. وكانت ولادته سنة اثنتين وستين وثلثمائة وتوفي يوم الأحد الخامس من رجب سنة ثمان وعشرين وأربعمائة ببغداد، ودفن من يومه بداره في درب أبي خلف، ثم نقل إلى تربة في شارع المنصور، ودفن هناك بجنب أبي بكر الخوارزمي الفقيه الحنفي. وقد بلغت الشروح والأعمال العلمية على هذا المختصر مبلغًا عظيمًا، حتى بلغت 122 عملًا جمعها الأستاذ المحقق د. "سائد بكداش" في المجلد الأول من تحقيقه لكتاب "اللباب شرح الكتاب". ومن ضمن تلك الشروح ذلك الشرح من أجل تقريبه حيث ذَكَر المؤلف سبب تأليفه للكتاب في مقدمته، وذلك يعود إلى أهمية علم الفقه الإسلامي من بين العلوم الإسلامية، وأنه قد صنفت في هذا العلم كتب كثيرة ومن أهمها مختصر القدوري، فأراد أن يشرحه شرحًا مناسبًا متوسطًا؛ وذلك لخدمة طلبة العلم الراغبين في حفظ المتون الفقهية وللتسهيل عليهم، وأفاد الإمام أنه لم يؤلف الكتاب إلا لهذه الغاية طالبًا الأجر من الله عز وجل، وأهدى كتابه هذا للسلطان بايزيد الثاني بن محمد الفاتح. حيث قال في مقدمته: "وسميته بحَدَقِّ العيون، وكان ذلك في نَوبة السلطان الأعظم، مالك رقاب الأمم، الملكِّ المنصورِّ سيفِّ الدنيا والدِّين، سلطانِّ الإسلام والمسلمين، سيدِّ الملوك والسلاطين، قامعِّ الكفَرة والمتمردين، أبو الفتح بايزيد بن محمد الغازي في سبيل الله لإعلاء كلمة الله..". وقسم المؤلف الكتاب إلى مقدمة ، وثمانية وخمسين كتابًا، وجعل تحت بعض من الكتب أبوابًا. ونجد أن آراء المؤلِّفِّ العلمية ظاهرة في الكتاب مِّن تأييد، أو نقد، أو ترجيح، ويذكر المؤلف المذهبَ الشافعي في المسائل التي يخالف فيها المذهبَ الحنفي، ويبين ما إذا كان القول في القديم أو الجديد، ويذْكر الروايات عنه عند وجودها، أما عن المذهب المالكي فنادرًا ما كان يذكره، في حين أنه لم يذكر المذهب الحنبلي إطلاقًا، ويحَرِّر المؤلِّف محل النزاع إن استلزم الأمر ذلك. ويوضح الاختلاف بين المصادر إن وجد، ويحاول التوفيق بينها، كما يبين الصحيحَ المختارَ من الأقوال، وقد عَرض المؤلِّف أدلة على مسائلَ فقهية ولكنه لم يولِّ الاستدلال أهمية كبيرة، وذلك لأن كتابه شرح موجَز، وليس من الشروح المطولة. والسمَة العامة لمنهج المؤلف في الكتاب هي الإيجاز، كما قال حاجي خليفة عند كلامه عن مختصر القدوري: (( ومن شروحه "حدَق العيون" في مجلدين، أبدع فيه مؤلفه، وهو شرح مختَصَر ممزوج )). أما المؤلف فلا نعلم كثيرًا عن حياته، واسمه مختلف في صفته، وإن كان الأرجح أن اسمه عبد الأول بن حسين بن حسن بن حامد الرومي المعروف بابن أم ولد (ت. 950 هـ)، ولقِّب المولى عبد الأول بلقب: ابن أم ولد، وذلك نسبةً إلى والده المولى حسام الدين حسين فقد تزوج أم ولدِّ المولى فخر الدين العجمي؛ لذلك لقِّب بأم ولد، وقد لقِّبَ بهذا اللقب هو وولدها عبد الأول وعبد العزيز، وحفيده علي بن عبد العزيز. عاش المؤلف في ظِّل الدولة العثمانية، وكانت فترة حياته في عصر التوسع والقوة بين النصف الثاني من القرن التاسع، والنصف الأول من القرن العاشر الهجري، حيث تَتَابع على الحكم في هذه الفترة أربعة سلاطين من سلاطين بني عثمان. لم تَذكر كتب التراجم سنة ولادته ومكانها، إلا أنها ذكرت أنه توفي عن عمر يناهز المئة، وقد توفي سنة 950 هـ، وعلى هذا تكون ولادته بشكل تقريبي في الخمسينيات من القرن التاسع. نشأ الإمام عبد الأول في زمن السلطان محمد الفاتح في بيئة علمية تربوية دينية تحيط به تحت عناية والده حسام الدين حسين بن حسن بن حامد، العالم الفاضل الصالح التقي، فقد كان منقطعًا عن الخلائق يصرف وقته في العلم والعبادة، وقد تزوج الإمام عبد الأول من ابنة شيخه ملا خسرو. وقد تتلمذ الإمام عبد الأول على يد علماء عصره، إلا أن المصادر لم تَذكر إلا اسمين من أسمائهم: رئيس العلماء القاضي ملا خسرو، والمولى علاء الدين العربي. وقد تولى الإمام عبد الأول منصب القضاء في سيليفري، ناحية من نواحي القسْطَنْطينية (إسطنبول في زمن السلطان محمد الفاتح، ثم انتقل بعدها وصار قاضيًا في عدة بلاد، لم تذكر كتب التراجم أسماءها، وكان قاضي الحنفية بتبريز. كان للإمام عبد الأول مكانة علمية راقية في ذلك الوقت؛ إذ يقول المؤرخ طاشْ كبري زاده " وكانت له مشاركة في العلوم، وخاصة في الفقه والتفسير والحديث وعلوم القراءات واللغة والتصوف، وكانت أكثر المواضع من الكشاف محفوظة له، وكان في حفظه كثير من القصائد العربية، وله عليها حواش قيمة، مَن نظر فيها يعرف فضله في العلوم"، ووصفه بالتواضع. ومن مؤلفاته: " مختصر الكشاف " للإمام الزمخشري، و" حاشية على شرح الخبيصي للكافية "، و" فصول النجاة " في التصوف، و" كلمات على كتاب الدرر والغرر ". وقد أصابه الكبر واختل عقله نهايات عمره، فاعتزل الناسَ ولًزم بيتَه في القسْطَنْطِّينِّية وسِّنه إذ ذاك قد ناهز المئة، وتوفِّي وهو على تلك الحال سنة 950 هـ، وذكرت بعض المراجع أنه توفي سنة 915 هـ.
موارد العلوم الإسلامية (دراسة تطبيقية على علوم السيرة النبوية) موارد العلوم الإسلامية على أنواع: إما (موارد متقدمة) أو (موارد قنطرية) أو (موارد متأخرة) أو (موارد معاصرة) ، وهذا عام في كل علم من علوم الإسلام: ١ - الموارد المتقدمة: هي الموارد الأصيلة والأولية التي وقعت في (المئة الأولى والثانية والثالثة) في عصر المتقدمين. ٢ - الموارد القنطرية: هي تلك الموارد الأصيلة والأولية التي وقعت في (المئة الرابعة والخامسة) في عصر أصحاب القنطرة أو الواسطة بين المتقدمين والمتأخرين. ٣ - الموارد المتأخرة: هي تلك الموارد الأصيلة الجامعة لما سبق -عند المتقدمين وأصحاب القنطرة- والتي وقعت في (المئة السادسة إلى المئة العاشرة) . ٤ - الموارد المعاصرة: وهي تلك الموارد التي وقعت ما بعد المئة العاشرة إلى الآن. (دراسة تطبيقية على علوم السيرة النبوية) : موارد السيرة النبوية يُستقى منها حسب مادتها المعنية، وحسب العلم الذي تنتمي إليه المروية المعنية، وإليك ذكر تلك العلوم : ١ - علم المغازي: وهو المعني بغزوات النبي؛ فيُستقى من: (مغازي موسى، ومغازي الزهري، ومغازي ابن إسحاق، ومغازي الواقدي وكتابه كعبة هذا العلم) . ٢ - علم الدلائل: وهو المعني بدلائل ومعجزات النبي؛ فيُستقى من: ( أعلام الماوردي، ودلائل البيهقي، وتثبيت دلائل النبوَّة للهمذاني، ودلائل النبوَّة للأصبهاني) . ٣ - علم التاريخ النبوي: وهو المعني بتاريخ النبي من ولادة ووفاة وتواريخ المواقع والأحداث والهجرة والإسراء والمعراج ...إلخ؛ ويُستقى من (سيرة ابن إسحاق، وطبقات ابن سعد، ومعجم البلدان للبلاذري، وتاريخ خليفة، وتاريخ الطبري) . ٤ - علم الشمائل: وهو المعني بشمائل النبي صلى الله عليه وسلم من صفات خَلقية وخُلقية وآداب وصفات وأنساب؛ ويُستقى من: (طبقات ابن سعد، وأخلاق وآداب الأصبهاني، وأخلاق النبي للوراق، والشمائل للترمذي وهو الكتاب الجامع لشمائل النبي صلى الله عليه وسلم) . ٥ - علم الخصائص: وهو المختصُّ بسرد خصائص النبي؛ ويُستقى من: (شمائل الترمذي، ودلائل الماوردي، ودلائل البيهقي، وخصائص ابن الملقن، وخصائص السيوطي استئناسًا) . ٦ - علم الحقوق: وهو المعني بحقوق النبي وتُستقى مادتُه من: (كتب علوم السيرة من دلائل وشمائل وأعلام وكتب حديثية؛ فلقد فُرِّقت مرويات الخصائص عليها وجمع أغلبها وأفرد لها التصنيف القاضي عياض اليحصبي في كتابه الشفا بتعريف حقوق المصطفى) . ملحظ هام: الكُتُب المُتقدِّمة والقنطرية يُستدَل بما فيها، والكُتُب المُتأخِّرة يُستأنَس بما فيها.
حاشية الصاوي على شرح تحفة الإخوان في علم البيان صدر حديثًا كتاب "حاشية الصاوي على شرح تحفة الإخوان في علم البيان"، لأبي البركات أحمد الدردير (ت 1201 هـ)، تأليف: الشيخ "أبي العباس أحمد الصاوي" (ت 1241 هـ)، تحقيق: أحمد فريد المزيدي، نشر: "دار الكتب العلمية للنشر والتوزيع"، منشورات محمد علي بيضون، بيروت- لبنان. والكتاب يتضمن ثلاث رسائل في علم البيان: الأولى: متن "تحفة الإخوان في علم البيان" للشيخ أحمد الدردير، والثانية شرحها له أيضًا، حيث قال: "هذا شرح لطيف على الرسالة التي جعلتها في بيان المجاز والتشبيه والكناية يوضح معانيها ويحل مبانيها". ثم ألحق المحقق هذه الرسالة أخرى: وهي شرح على الشرح المتقدم لتلميذ العلامة الدرديري الشيخ أحمد الصاوي. وأصول هذا المجموع: نسخة شرح الصاوي على الدردير المطبوعة بالحجر قديمًا، ونسخة مكتبة جامعة الرياض تحت رقم 1234. ونسخة بها أيضًا تحت رقم 1793. ويرتبط علم البيان في نشأته بظهور كلّ من العلوم البلاغية وهي علم المعاني، وعلم البديع؛ حيث كان هناك تداخل كبير فيما بينها، وقد ظهرت أول عصورها منذ أيام الجاهلية، مرورًا بالعصر الإسلامي الذي طورها بفعل عوامل عديدة. يمكن وصف أهمية علم البيان على أنّه أهم ركائز فنون اللغة العربية وآدابها، حيث يساعد في شرح محاسن اللغة العربية وأشكال التعبير من خلالها، بالإضافة لتفسير الملامح الجمالية التي قد تتخلل أي قصيدةٍ، أو خطبةٍ، أو رسالةٍ معينةٍ، أو مقالةٍ لأي متكلم، ويمكن تعريف علم البيان بأنه "العلم الذي يُعرف به إيراد المعنى الواحد بطرق مختلفة في وضوح الدلالة عليه"، وذلك يعني أنّ هذا العلم يحتوي على مجموعة من القواعد المُستخدمة لإيصال المعنى الواحد بطرق وفنون مختلفة، مثل استخدام فنّ التشبيه أو الاستعارة، أو المجاز أو الكناية. وأهم الموضوعات التي تكلم عنها الشيخ أحمد الصاوي في كتابه: 1. البسملة. 2. تعريف البيان لغة واصطلاحًا. 3. الخلاف هل الحمد على الأنعام أو النعمة. 4. مباحث تسعة متعلقة ببعد، معناها وأحوال إعرابها. 5. حكم الإتيان بأما بعد. 6. تعريف القرآن لغة واصطلاحًا. 7. أقسام الاستعارة. 8. أقسام التصريحية والتخييلية على المذهب السكاكي. 9. أقسام المكنية. 10. تعريف علم البيان وموضوعه وواضعه وفائدته وغايته ومسائله واستمداده واسمه وحكمه ونسبته. 11. الفرق بين المجاز والكذب. 12. الفرق بين المجاز والكناية. 13. علاقات المجاز اللغوي وهي: أ‌- الآلية. ب‌- البدلية. ت‌- اللازمية. ث‌- الملزومية. ج‌- التضاد. ح‌- ا لإطلاق والتقييد. خ‌- العموم والخصوص. د‌- التعليق. 14. معنى التخييلية. 15. أركان التشبيه. 16. تعريف الكناية وتقسيمها. 17. قصص بعض الأمثال: في الصيف ضيعت اللبن، أتخلي يا أم عامر، الذي لا يعرف يقول عدس. 18. علم اليقين وحق اليقين وعين اليقين. 19. أصل الاستعارة. 20. قصة المأمون مع سيما التركي. 21. خاتمة. وقد قام المحقق بتحقيق هذا الكتاب، وضبطه وإيراد بعض التعليق عليه، والتقديم له والتعريف بالمصنفين. والمؤلف هو الشيخ أحمد بن محمد الصاوي المصري، المالكي الخلوتي، اشتهر بالصاوي؛ نسبته إلى صان الحجر في محافظة الغربية بمصر. ولد الشيخ أحمد الصاوي في صان الحجر على شاطئ النيل من إقليم الغربية بمصر سنة 1175هـ. كان والده من كبار الأولياء، حفظ القرآن في بلده ثم انتقل إلى الجامع الأزهر في طلب العلم وذلك سنة 1187هـ. ذكرتْ كتب التراجم الشيخ أحمد الصاوي أنه عالم مشارك، وذكرته أيضًا بأنه فقيه مالكي، وهذا يتضح لنا جليًا من خلال مؤلفاته. أما شيوخ الصاوي فقد صرح بأسماء بعض شيوخه في حاشيته على شرح رسالة تحفة الأخوان، وهم: 1. الشيخ أحمد بن محمد الدردير العدوي المالكي (ت 1201هـ)، حيث قال: (....شيخنا وملاذنا وقدوتنا وشيخ مشايخنا وأستاذهم وقدوتهم، أبي البركات شهاب الدين المنير، أحمد بن محمد الدردير العدوي المالكي الخلوتي...). 2. الشيخ محمد عبادة العدوي، حيث قال: (....التي كتبها عنه شيخنا الشيخ محمد عبادة العدوي...). 3. الشيخ محمد الأمير علي الملوي، حيث قال: (...ولحاشية شيخنا وقدوتنا إلى الله تعالى إمام عصره، الشيخ محمد الأمير علي الملوي...). وذكرت كتب التراجم أسماء أربعة فقط من تلاميذه وهم: 1. الفتح الوهبي (ت 1240هـ). 2. يوسف بن محمد البطاح الزبيدي المكي (ت 1246هـ)، علامة فقيه، محدث. 3. ابن السنوسي، الإمام العارف الداعي إلى السنة والعمل بها. 4. المشرفي، زين العابدين عبد القادر، علامة، محدث، راوية. أما تصانيفه فقد قاربت العشرة، هذا ما جاء ذكره في كتب التراجم: 1. الفرائد السنية. 2. الأسرار الربانية والفيوضات الرحمانية على الصلوات الدرديرية. 3. بلغة السالك لأقرب المسالك، وهي حاشية على الشرح الصغير لأقرب المسالك لأحمد الدردير (ت1201هـ) - فقه مالكي - في مجلدين، أوله: الحمد لله الذي استخلص العلماء بعنايته...الخ. 4. حاشية على أنوار التنزيل للبيضاوي. 5. حاشية على تفسير الجلالين، أولها (الحمد لله الذي أنزل الفرقان مصدقًا لما بين يديه هدى...). 6. حاشية على جوهرة التوحيد للقاني. 7. حاشية على شرح الخريدة البهية للدردير في الكلام. 8. حاشية الصاوي على شرح رسالة تحفة الإخوان في علم البيان للدردير، الذي نقوم بتحقيقه الآن. 9. شرح منظومة أسماء الله الحسنى للدردير. 10. شرح همزية البوصيري. وتوفي الشيخ أحمد الصاوي - رحمه الله تعالى - في المدينة المنورة سنة 1241هـ، وقد أجمعت كتب التراجم التي تناولت حياته على تأريخ وفاته.
دعاوى إحلال العامية محل الفصحى: هشاشة الأطروحات وخطورة المآلات تختلف اللُّغة العامية أو الدَّارِجة على ألْسُن الناس في أوجه عديدة عن اللُّغة الرسمية أو الفصحى كما في حالة اللُّغة العربية، بمعنى آخر، فاللغة العامية، أو بالأحرى اللهجة العامية، هي بمثابة ميل أو انحراف عن صحيح اللُّغة المكتوبة، هذا "الانحراف" ليس بالضرورة شيئًا سلبيًّا؛ ولكن التمادي فيه يحمل مخاطرَ جَمَّةً على اللُّغة العربية الفصحى أو الأصيلة التي شرَّفَها اللهُ بنزول الوحي، وتُستخْدَم اللهجة العامية كوسيلة تواصُل يومية مُبسَّطة وجامعة لعموم الناس؛ لكونها تخلو من التزامات لغوية صرفية ونحوية كثيرة في اللغة الفصحى؛ ولكن تكمن المشكلة الكبرى في محاولة إدخالها لحرم اللُّغة المكتوبة، وفي أن يكون لها قواعد إملائية وصرفية مُلزِمة وآداب وفنون متداولة... إلخ؛ مما سيترتب عليه تواري العربية الفصحى تدريجيًّا حتى تصبح لغةً متحفيةً أو دينيةً بحتةً يُقرأ بها القرآن فحسب على أمل أن تحدث القطيعة بين المسلم ودينه وتراثه الغني، تلك هي أمنيات سعى ويسعى لتحقيقها على أرض الواقع الاستعمار البريطاني والفرنسي، وقد تبنَّاها المستشرقون وتلامذتهم من العرب والمسلمين ممن لديهم تطبيع مع الاستعمار، كانت هذه الدعاوى خاصة في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. ولكِنْ هؤلاء المستشرقون وتلامذتهم استندوا في دعوتهم إلى دعاوى برَّاقة في ظاهرها وخبيثة في باطنها، سأوردها فيما يلي مع دحضها بالأدلة العلمية. 1- الدعوى الأولى: اللغة العربية الفصحى مُعقَّدة وجامدة ويصعب على العامة استيعاب قواعدها واستخدامها في حياتهم اليومية: مبدئيًّا، فإن اللغة العربية لغة إثراء وإمتاع وإلهام، والدعوى تنمُّ على فهم معيب للعلاقة بين العامية والفصحى ووظيفة كل منهما، وكما أسلفت، فالعامية أو المحكية لغة مبسطة وتتحرَّر قليلًا من قواعد النطق والصرف والنحو المُلزِمة في اللغة الفصحى، وهي ظاهرة طبيعية في لغات الأرض ومن ضمنها العربية، وكانت موجودة منذ القدم في اللِّسان العربي، فلكل من العامية والفصحى حدودها، ولا يليق أن تتغوَّل العامية على الفصحى فتتحوَّل من لهجة محكية إلى لغة مكتوبة بقواعد ثابتة مغايرة للغة العربية الفصحى، هذا باختصار تدمير لصحيح اللغة العربية؛ لغة القرآن الكريم. 2- الدعوى الثانية: اللغة العربية الفصحى مُعقَّدة وجامدة ويصعب على طلابها من الناطقين بها تعلُّمُها وإتقانها، ويتجلَّى ذلك في ضعف مستوى مُدرِّسيها وطُلَّابها في آنٍ واحدٍ: هذه الدعوى هي محاولة إلباس للحق بالباطل، ويضع اللغة العربية في موضع اتِّهام صريح, وهي بريئة منه، رغم حقيقة تدنِّي مستوى اللغة العربية لدى الطلاب الناطقين بها؛ ولكن الحقيقة الأخرى التي أخفاها أصحاب هذه الدعوى أن السبب الأساسي لهذا التدنِّي هو الغزو الفكري المتغلغل في المجتمعات العربية الذي يعتمد سياسة مزاحمة اللُّغات الأجنبية للعربية، بالإضافة إلى تعظيم العامية وتقزيم الفصحى وعدم وجود قوانين لحماية اللغة العربية وعدم تفعيلها - إن وجدت - وتدنِّي مستوى الخطاب اللُّغوي بالإعلام الرسمي والخاص والأعمال الفنية التي اعتادت تقديم صورة نمطية سلبية للغة العربية ومُدرِّسيها ودارسيها. 3- الدعوى الثالثة: الدعوة إلى الارتقاء باللهجة العامية تستهدف انحسار الهوَّة الكبيرة بينها وبين الفصحى: هذه الدعوى ربما الأكثر دهاء من بين كل دعاوى الاجتراء على لغة القرآن، ببساطة، فإن اللهجة العامية هي الفرع والأصل هو اللغة العربية الفصحى، أو أن العامية هي الاستثناء والفصحى هي القاعدة؛ لذلك فإن التقريب بين الفرع والأصل لا يمكن أن يتضمَّن تنكُّر الفرع للأصل أو تغوُّلًا عليه. 4- الدعوى الرابعة: السبب الرئيس في تخلُّف العرب والمسلمين هو عدم قدرة اللغة العربية الفصحى على مواكبة التطوُّر العلمي والتكنولوجي: دعوى أخرى تحمل في طيَّاتها تحيُّزًا ذهنيًّا ضد اللغة العربية، فحينما تسود الأمم وترتقي حضاريًّا ترتقي لغاتها بالتوازي، وحينما سادت الحضارة الإسلامية والعربية في الأندلس وغيرها قرونًا مديدة سادت لغة القرآن، إن خسوف نجم الحضارة العربية والإسلامية قد نتج عن التفريط في مقوِّمات الهوية الجامعة للمسلمين وفي القلب منها اللغة العربية، والعكس ليس صحيحًا. إن قضية ترقية اللهجات العربية إلى مستوى اللغة المكتوبة لتكون بديلًا للعربية الفصحى أو الأصيلة، هي في الأصل قضية سياسية ترتدي ثوبًا إصلاحيًّا وأكاديميًّا، ليس أدَل على ذلك من أن أوَّل المعاهد المعتمدة لتدريس اللهجات العامية ظهر في أوروبا في بدايات القرن الثامن عشر مثل مدرسة نابولي للدروس الشرقية بإيطاليا عام 1927م ومدرسة القناصل بالنمسا 1747م، وأن أقوى الأصوات المطالبة بذلك هي أصوات المستشرقين إبان الاستعمار الفرنسي والإنجليزي أمثال المستشرق الفرنسي لويس ماسينيون والألماني وولهلم سبيتا... إلخ، وتبعهم في ذلك تلامذتهم من العرب والمسلمين أمثال لطفي باشا السيد وعبدالعزيز باشا فهمي من مصر، وأنيس فريحة ومارون غصن من الشام، الذين بلغت ببعضهم الجرأة في المطالبة باستبدال الحروف العربية باللاتينية؛ بل وفرض العامية بديلًا عن الفصحى ولو بالقوة العسكرية إن اقتضى الأمر. ختامًا: فإن انتباه الأُمَّة إلى أن قضايا اللُّغة العربية عمومًا وقضية إحلال العامية محل الفصحى خاصة هي قضايا تمسُّ هوية وعقيدة وكيان الأمة الإسلامية واختزالها في الجانب الأكاديمي أو الفني هو سلاح قوي يستخدمه دُعاةُ الفتك بلغة القرآن.
إبراهيم عليه السلام (3) أشرْتُ في الفصل السابق إلى مجيء إبراهيم عليه السلام بابنه إسماعيل وهاجر إلى مكَّة، وذكرتُ ما أورده البخاريُّ في صحيحه عن هذه القصَّة، وعن نشأة إسماعيل عليه السلام، وما كان مِن شأنه مع قبيلة جرهم، وتعلُّمه اللسانَ العربيَّ ومساعدة أبيه إبراهيم عليه السلام في بِناء البيت الحرام، وقد ذكر اللهُ تبارك وتعالى قصَّةَ بناء الكعبة في كتابه الكريم؛ حيث يقول: ﴿ وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ * وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ * ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ ﴾ [الحج: 26 - 29]. وقال عز وجل: ﴿ وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ * وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ * وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ * وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [البقرة: 124 - 129]. كما أشار الله عز وجل إلى ما كان من إبراهيم في وضعه هاجرَ وإسماعيلَ عند مكان البيت حيث يقول: ﴿ رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ ﴾ [إبراهيم: 37]، وقد استجاب الله تعالى دعوةَ إبراهيم؛ فجعل هذا البيت آمنًا، يُجبى إليه ثمرات كلِّ شيء، كما قال عز وجل: ﴿ أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [القصص: 57]، وكما قال عز وجل: ﴿ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ ﴾ [العنكبوت: 67]. كما استجاب الله تبارك وتعالى إلى دعاء خليلِه إبراهيم، فأرسل محمدًا صلى الله عليه وسلم من ذرية إسماعيل أهل البيت الحرام، يتلو عليهم آياتِ اللهِ ويعلِّمهم الكتاب والحكمة ويزكِّيهم؛ ولذلك جاء في الحديث الحسن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((أنا دعوة أبي إبراهيم، وبشرى عيسى بي، ورأت أمي أنه خرج منها نور أضاءت له قصور الشام))، كما جاء في مسند الإمام أحمد رحمه الله، من حديث أبي أُمامة رضي الله عنه والعرباض بن سارية رضي الله عنه، واللفظ لأبي أُمامة رضي الله عنه. كما ذكر الله تبارك وتعالى قصة هجرة إبراهيم عليه السلام وبشارته بإسماعيل وقصة رؤياه بذبحه فقال: ﴿ وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ * إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ * أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ * فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ * فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ ﴾ [الصافات: 83 - 89]، وكأنه عليه السلام أراد أن يفرِّقهم ليبتعدوا عنه؛ حتى يتفرغ لتحطيم أصنامهم بإيهامهم أنه مريض حتى لا يلامسوه وبخاصة بعد نظرته في النجوم، ونظرته عليه السلام في النجوم لم يقصد بها أن يتعرَّف من النجوم عن حالته، كما أن قوله: ﴿ إِنِّي سَقِيمٌ ﴾ لم يرد بها أنه مريض بمرض مَعْدٍ، وإنما أراد في نفسه أنه ضعيفٌ، وكل ابن آدم ضعيف مهما كانت صحَّته، وقد خُلق الإنسان ضعيفًا، فهذا من المعاريض، وفي المعاريض مندوحةٌ عن الكذب، حاشاه عليه السلام أن يكذب، على أنه قد يطلق على المعاريض أنها كذب باعتبار حقيقة المراد، لكنه ليس الكذب المذموم؛ بل هو كإطلاق الحسد على الغبطة، في مثل قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيما رواه البخاري ومسلم من حديث ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا حسد إلا في اثنتين: رجلٌ آتاه الله مالًا فسلَّطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله حكمة فهو يقضي بها ويعلمها)). وقد فسَّر عامَّةُ العلماء الحسدَ في هذا الحديث، بأنه الغِبطة؛ إذ الحسد المذموم هو تمنِّي زوال النعمة عن الغير، ولا شك عند أهل العلم أن قول إبراهيم عليه السلام: ﴿ إِنِّي سَقِيمٌ ﴾ وكذلك قوله: ﴿ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا ﴾ [الأنبياء: 63] وكذلك لما سأله ملكُ مصرَ عن سارة فقال: "إنها أختي"، لا شك عند العلماء أن ذلك ليس من باب الكذب المذموم، وإنما هو من باب التورية والمعاريض. ثمَّ قال تعالى: ﴿ فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ * فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ ﴾ [الصافات: 90، 91]؛ "لأن الكفار قد جعلوا عند أصنامهم طعامًا" ﴿ مَا لَكُمْ لَا تَنْطِقُونَ * فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ * فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ * قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ * وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ * قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ * فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ * وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ ﴾ [الصافات: 92 - 99]؛ "أي: إني مهاجر إلى الله عز وجل من دار الكفر إلى الأرض التي بارك الله فيها للعالمين، وأمَلِي في الله عز وجل أن يرشدني إلى سبيل الخير وما فيه صلاح ديني ودنياي". ﴿ رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ * فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ * فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ * فَلَمَّا أَسْلَمَا ﴾ [الصافات: 100 - 103]؛ أي انْقادَا لأمر الله، ﴿ وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ * وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ * سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ * كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ * وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ * وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ ﴾ [الصافات: 103 - 113]. ولا شك في أن سياقَ هذه الآيات الكريمة يدل على أنَّ الذَّبيح هو إسماعيل لا إسحاق عليه السلام؛ لأنه ذكر البشارة بإسحاق بعد البشارة بإسماعيل الذي وصفه بأنه غلام حليم، وقد وصف إسحاق عند البشارة به بأنه غلام عليم، ومن الأدلَّة أيضًا على أن الذبيح هو إسماعيل لا إسحاق أنه عند البشارة بإسحاق قال: ﴿ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ ﴾ [هود: 71]، وهو يُفيد أن إسحاق سيعيش ويولد له في حياة أبيه، فكيف يؤمر بذبحه وهو غلام لم يُولد له بعد، مع يقينه بأنه لن يموت حتى يولد له يعقوب، وقد حدَّث ابن إسحاق عن محمد بن كعب القرظي أنه حدثهم فقال: "إن الذي أمر الله تعالى إبراهيم بذبحه من ابنيه إسماعيل، وإنا لنجد ذلك في كتاب الله تعالى؛ وذلك أن الله تعالى حين فرغ من قصة المذبوح من ابني إبراهيم قال تعالى: ﴿ وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ ﴾ [الصافات: 112]، ويقول الله تعالى: ﴿ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ ﴾ [هود: 71]، يقول بابن وابن ابن، فلم يكن ليأمره بذبح إسحاق وله فيه من الموعد بما وعده، وما الذي أمر بذبحه إلا إسماعيل"، قال ابن إسحاق: سمعته يقول ذلك كثيرًا، وقال ابن إسحاق عن محمد بن كعب القرظي أنه حدثهم أنه ذكر ذلك لعمر بن عبدالعزيز رضي الله عنه وهو خليفة إذ كان معه بالشام، فقال له عمر: إن هذا لشيء ما كنت أنظر فيه، وإني لأراه كما قلت، ثم أرسل إلى رجل كان عنده بالشام كان يهوديًّا فأسلم وحسن إسلامه، وكان يرى أنه من علمائهم، فسأله عمر بن عبدالعزيز رضي الله عنه عن ذلك، قال محمد بن كعب: وأنا عند عمر بن عبدالعزيز، فقال له عمر: أي ابني إبراهيم أمر بذبحه؟ فقال: إسماعيل واللهِ يا أمير المؤمنين، وإن يهود لتعلم ذلك، ولكنهم يحسدونكم معشرَ العرب على أن يكون أباكم، الذي كان مِن أمر الله فيه، والفضل الذي ذكر الله تعالى منه لصبره لما أمر به، فهم يجحدون ذلك، ويزعمون أنه إسحاق؛ لأنَّ إسحاق أبوهم؛ اهـ. كما ذكر ابن كثير رحمه الله، وليس هذا أول جحد من اليهود؛ فقد جحدوا أن يكون إبراهيم بنى الكعبة، ولعلم الله تعالى بما يكون من اليهود أبقى في البيت الحرام مقام إبراهيم ليكون شاهدًا عليهم إلى يوم القيامة يتوارث العلمَ به جيل بعد جيل، وفي ذلك يقول الله عز وجل: ﴿ إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ * فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ ﴾ [آل عمران: 96، 97]. وإلى الفصل القادم إن شاء الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
سرية عبدالله بن جحش وبعد عودته صلى الله عليه وسلم من سفوان بعث عبدالله بن جحش في سرية ومعه ثمانية رجال من المهاجرين، وكتب له كتابًا، وأمره ألا ينظر فيه حتى يسير يومين ثم ينظر فيه فيمضي لما أمره به، وألا يستكره من أصحابه أحدًا على المسير معه بعد أن يعرفوا الهدف المقصود، وهم: أبو حذيفة بن ربيعة، وعكاشة بن محصن، وعتبة بن غزوان، وسعد بن أبي وقاص، وعامر بن ربيعة، وواقد بن عبدالله، وخالد بن البكير، وسهيل بن بيضاء، فلما سار بهم مسيرة يومين نظر في الكتاب فإذا فيه: (( إذا نظرت في كتابي هذا فامضِ حتى تنزل نخلة بين مكة والطائف فترصد بها قريشًا وتعلم لنا أخبارهم ))، ثم أخبر أصحابه بوجهتهم وخيَّرهم كما أوصاه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال لأصحابه: أما أنا فسأمضي لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمضى ومضى معهم أصحابه لم يتخلف منهم أحد، حتى إذا كان بمنطقة بحران أضل سعد وعتبة بعيرًا لهما كانا يتناوبان ركوبه، فتخلفا عليه وهم في طلبه، ومضى عبدالله حتى نزل بنخلة، فمرت عير لقريش تحمل زبيبًا وأدمًا - جلود - وتجارة من تجارة قريش وكان فيها عمرو بن الحضرمي، فنزلوا قريبًا منهم، فتقدم إليهم عكاشة بن محصن وكان قد حلق رأسه، فلما رأوه أمنوا وقالوا: عُمَّار، لا بأس عليكم منهم، وتشاور عبدالله مع رهطه فيهم، وقالوا: إذا تأخرنا سيدخلون الحرم غدًا ويمتنعون منكم، ولئن قتلتموهم لتقتلنهم في الشهر الحرام، وقرروا مهاجمة القافلة والاستيلاء عليها، فرمى واقد بن عبدالله عمرو الحضرمي بسهم فقتله، واستأسر عثمان بن عبدالله والحكم بن كيسان، وأفلت منهم نوفل بن عبدالله، وقدم عبدالله بن جحش وأصحابه إلى المدينة ومعهم الأسيران والغنائم، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرا م))، وأبى أن يأخذ من الغنيمة شيئًا، وخاف عبدُالله ومجموعته الهلكة لهذه المخالفة، وعنَّفهم إخوانهم المسلمون لما صنعوا، وقالت قريش: قد استحل محمد وأصحابه الشهر الحرام، وسفكوا فيه الدم وأخذوا الأموال، وأسروا الرجال، وردَّ المسلمون في مكة أن الذي حدث كان في شعبان، وفرح اليهود بما حدث، وأنزل الله تعالى قُرْآنًا بهذه الحادثة: ﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا ﴾ [البقرة: 217]، والمعنى أنكم إذا قتلتم الكفار في الشهر الحرام فهم فعلوا أفظع من ذلك، لقد أخرجوكم من المسجد الحرام، وصدوكم عن الإيمان، وأكرهوكم على الكفر، وآذَوكم وعذبوكم وفتنوكم عن دينكم، والفتنة هذه أشد من القتل، وهم يدَّعون للشهر حرمته؛ ففِعلهم يكذب دعواهم، لقد خالفوا كل الأعراف والحرمات، ولا يزالون حتى الآن يعدون لقتالكم وإطفاء نور الإيمان في قلوبكم، ولو استطاعوا لنفذوا فيكم كل قبيح من القتل والصد والتنكيل. وقبِل النبيُّ صلى الله عليه وسلم أخذ الخُمس من الغنيمة وفادى الأسيرين؛ حيث بعثت قريش بالفداء، وانتظر النبي صلى الله عليه وسلم فلم يقبل الفداء حتى عاد كل من سعد بن أبي وقاص وعتبة بن غزوان، فقبض الفداء، هذا وقد أسلم أحد الأسيرين، وهو الحكم بن كيسان، وعاد الآخر وهو عثمان بن عبدالله، ومات مشركًا فيما بعد، وكانت هذه الغزوة باكورة الغزوات التي كان فيها من الكفار قتلٌ وأسرٌ وغنيمة.
مربِّي الأجيال الأسـتاذ الفيزيائي أحمـد ذو الغـنى [*] بقلم ولده: أيمـن بن أحمد ذو الغـنى. هو أحمد بن محمد علي ، بن الحسن، بن محمود، أبو أيمـن، (1347- 1437هـ/ 1928- 2016م): من أعلام المربِّين ومشاهير مدرِّسي الفيزياء والكيمياء وعباقرتهم [1] ، عصاميٌّ من الأذكياء [2] ، جمع بين الدراسة والعمل. انتسب إلى كلِّية العلوم بالجامعة السورية (جامعة دمشق حاليًّا) أولَ افتتاحها سنة 1946م، وتخرَّج الأوَّلَ على دفعته بتخصُّص الفيزياء والكيمياء والرياضيات سنة 1950م [3] ، ولم يكتفِ في دراسته بالمقرَّرات الجامعية بل اعتمد على أُمَّات المصادر العلمية الأجنبية [4] ، ونال شهادةَ الدبلوم في التربية والتعليم. تولَّى التدريسَ في ثانويات دمشقَ ومعاهدها، منها: ثانوية الميدان (عبد الرحمن الكواكبي)، وثانوية أمية، والثانوية الأهلية، وثانوية الشرق، وثانوية ابن العميد، وثانوية ابن خَلدون، وثانوية جَودة الهاشمي، وثانوية بور سعيد، والمعهد العربي الإسلامي، ومعهد بيت الحكمة، ومعهد دار الألسُن. وحاضر في كلِّية العلوم قسم الفيزياء، ودرَّس الكيمياء في كلِّية الصيدلة بجامعة دمشق سنوات، وفي الجامعة الأميركية ببيروت فصلًا صيفيًّا. كُلِّف رئاسةَ البعثة السورية إلى مصر للتهنئة بالوَحدة بين القطرين السوريِّ والمصريِّ سنة 1958م، وكان حينئذٍ ملازمًا أولَ في معامل الدفاع بالجيش السوري. وابتُعث سنة 1966م إلى الاتحاد السوفييتي لحضور دورة تدريبية في صُنع الوسائل التعليمية واستعمالها. وفي أواخر السنة نفسها انتُدبَ إلى المعهد التربويِّ الوطنيِّ بالجزائر للمشاركة في حركة التعريب، فصنَّف عددًا من كتب الفيزياء والكيمياء للمرحلة الثانوية وترجم عددًا آخرَ عن الفرنسية، وكانت كتبه أوَّلَ كتب علمية تُدرَّس هناك بالعربية، وأُنيطَ به التدريسُ في الجامعة الجزائرية. وعاد إلى دمشقَ سنة 1973م فشارك في وضع المناهج وتأليف الكتب المدرسية لمرحلتَي التعليم الإعداديِّ والثانويِّ وللمعاهد المتوسِّطة الصناعية والمدارس الفنية النِّسوية. وعُيِّن عضوًا في الهيئة العُليا لتطوير التعليم قبل الجامعي، وفي لجنة تقنيَّات التعليم بوِزارة التربية. امتازت كتبُه بالدقَّة العلمية، واعتماد أوثق المصادر الأجنبية الحديثة، وسلامة اللغة ورصانة العبارة وإشراق الأسلوب. واختيرَ سنة 1974م خبيرًا في منظَّمة اليونسكو، وسافر إلى باريس لمباشرة عمله، ولكن حالت دون ذلك ظروفٌ خارجة عن إرادته! وكان مَعنيًّا بتدريس الفيزياء والكيمياء تدريسًا عمليًّا، ومن ثَم سعى في تأسيس أكبر مختبَر علميٍّ في مدارس دمشق في ثانوية الميدان في وقت مبكِّر سنة 1953م [5] ، ثم أعدَّ مثله في ثانوية أميَّة، وأقام مع طلَّابه معارضَ للأجهزة الفيزيائية من صُنعهم، أشاد بها كبارُ المتخصِّصين [6] . وهو أوَّلُ من افتتح دورات تعليمية خاصَّة بدمشقَ في الثانوية الأهلية، ثم في ثانوية الشرق، وقد نالت دوراتُه شهرةً واسعة. تميَّز بعُلوِّ همَّته، ورفيع انضباطه، وإخلاصه الفريد في أداء رسالته، وتحرِّيه الصوابَ والدقَّة في عمله، وبشدَّته وصرامته على نفسه وعلى من حوله في طلب الإحكام والإتقان، وهذا ما حَدا بوِزارة التربية السورية إلى التعاقُد معه بصفة خبير حتى بلغ الخامسةَ والسبعين، ليمتدَّ عطاؤه أكثرَ من نصف قرن، من سنة 1950 حتى 2002م، لم يتغيَّب فيها عن عمله إلا مرَّات قليلة معدودة لظروفٍ قاهرة، ولم يتأخَّر عن درس أو اجتماع أو عمل دقيقةً واحدة! وبقيَ إلى آخر عمُره يدقِّقُ في الكتب المدرسية، ويعِدُّ جداولَ بتناقضاتها وأخطائها العلمية واللغوية والتربوية والمطبعية، يقدِّمها للوِزارة متبرِّعًا محتسبًا، ولم يقتصر على المقرَّرات السورية بل تتبَّع جُلَّ مقرَّرات الفيزياء والكيمياء الثانوية في الدول العربية. ومما اشتَهَر به جدًّا مضاءُ الذِّهن وسرعةُ البديهة وقوَّة الحافظة [7] ، واستعمالُ كلتا يدَيه في الكتابة، فكان يكتب على السَّبُّورة بيده اليمنى من أوَّل السطر إلى منتصفه ثم يكمل بيده اليسرى إلى آخر السطر، بسرعة وعفوية من غير أن يختلفَ خطُّه أدنى اختلاف [8] . تخرَّج به أجيالٌ من الطلَّاب في الشام والجزائر، منهم أعيانُ الأطبَّاء والصيادلة والمهندسين والمحامين والوزراء والعلماء وأساتذة الجامعات والإعلاميين. حضر في شبابه دروسَ الشيخ حسن حَبَنَّكة المَيداني، ودروسَ أخيه الشيخ صادق حَبَنَّكة وكان قويَّ الصِّلة به، ولازم زمنًا الشيخ زينَ العابدين التونُسي، واتصل بالشيخ المجاهد محمَّد الأشمر، وكان صفيًّا لأستاذه شاعر الشام محمَّد البِزِم، رحمهم الله جميعًا. رشَّح نفسَه لعضوية البرلمان السوري زمنَ الوَحدة سنة 1959م، وأتقن اللغتين الفرنسية والإنكليزية، وتعلَّم الروسية. وكانت له عنايةٌ كبيرة بالأدب، ويحفظ من روائع الشعر العربي وعيونه، ومن فصيح الخطب، وبديع المقامات. تزوَّج المربِّيةَ الحافظةَ ناديا بنت ياسين بن شكيب الدَّاودي سنة 1965م، وله منها ثلاثةُ أبناء وخمس بنات. توفِّي عِشاءَ يوم الجمعة 23 من جُمادى الآخرة 1437هـ (الأوَّل من نَيسان 2016م)، في مستشفى سنَد بمدينة الرياض، وصُلِّيَ عليه في جامع الملك خالد، ودُفنَ بمقبرة أمِّ الحمام. رحمه الله تعالى وغفر لنا وله، وبوَّأه مراتبَ الصدِّيقين في الفِردوس الأعلى. المربِّي الأستاذ أحمد ذو الغنى عام 1959م الأستاذ أحمد ذوالغنى في ثانوية الميدان (الكواكبي) عام 1955م الأستاذ أحمد ذوالغنى في ثانوية أمية بدمشق عام 1961م الأستاذ أحمد ذوالغنى في ثانوية عبد الحميد بن باديس في مدينة قسنطينة بالجزائر عام 1968م الأستاذ أحمد ذوالغنى في ثانوية ابن خلدون بدمشق نحو عام 1982م ♦      ♦      ♦ ♦ لمطالعة مقال (رسالة نادرة: بيان سامق ووفاء صادق) ، اضغط هنا . ♦ لمطالعة مقال ( من الذكريات المشرقة مع خدن الشباب الأستاذ أحمد ذوالغنى) ، للأستاذ عاصم بن محمد بهجة البيطار ، اضغط هنا. ♦ لمطالعة مقال ( ا لمربي الأستاذ درويش القصَّاص ) ، اضغط هنا. [*] هذه ترجمة موجَزة كنت كتبتُ أصلها لموسوعة الأسر الدمشقية، وسأخصُّ سيِّدي الوالد رحمه الله بترجمة ضافية تليق بعطائه وإنجازاته، إن شاء الله تعالى. [1] وَصَفَهُ بذلك أستاذاه في الجامعة د. مأمون الكناني، ود. أدهم السمَّان في شهادة خطيَّة محفوظة. [2] نَعَتَهُ بهذا عددٌ من قُدامى أصحابه وأبناء حيِّه منهم السادةُ العلماء الأفاضل: د. مصطفى الخن، وزهير الشاويش، ومحمد كريِّم راجح، ود. محمد بن لطفي الصبَّاغ، وسعدي أبو جيب، ومحمد سعيد المولوي، وقد سمعتُ ذلك منهم مرَّات، وسمعتُه أيضًا من شيخنا صادق حبنَّكة رحمه الله. [3] وقد ضمَّت دفعتُه أساطينَ الفيزيائيين فيما بعد، منهم: فاروق السَّلكا، وسيف الدين بغدادي، ومحمد سعيد الطنطاوي، ود. عبد الله واثق شهيد، وعدنان محاسب، وبديع السلاخ، ومحمد المصري، وأحمد رضا حتاحت، وزهير الفقير. وكان نظَمَ خليلُه الحميم الشيخ محمد سعيد الطنطاوي قصيدةً جمع فيها أسماءَ طلاب دفعتهم كافَّة، مطلعها: أنا امرُؤٌ سعيدُ لأنَّني بعيدُ عن معهدِ الآدابِ ومَرتَعِ الذِّئابِ لأنَّ في صفِّي معي كلَّ هُمامٍ ألمعي فرأسُ مَن في صفِّنا أحمد أفندي ذو الغنى [4] كان أستاذه في الجامعة د. مأمون الكناني - وهو أحدُ كبار الفيزيائيين في الشام - قد أولاه من عنايته واهتمامه وحَدَبه، وأتاح له العودةَ إلى مكتبته الغنيَّة بأهم المصادر العلميَّة الفرنسية وأحدثها متى شاء، بل أعطاه مفتاحَ مكتبته - وكانت مستقلَّة عن بيته - وأذن له بالانكباب على ما فيها في حُضوره وغيابه. [5] وقد جلبَ جميع أجهزته وأدواته من ألمانيا، وما كان ليتمَّ له ما أراد لولا دعمُ أهالي الحيِّ بحثٍّ وتشجيع من شيخهم المجاهد محمد الأشمر رحمه الله. [6] وممَّن زار مَعرِضَه سنة 1961م عميدُ كلية العلوم بالجامعة الألمانية، وكتب له وثيقةَ إعجاب وتقريظ لهذا الإنجاز المتميِّز، وحبَّر له مثل ذلك كبارُ أساتذة الفيزياء في جامعة دمشق. [7] وخطَّ في هذا صفيُّه وخِدنُ شبابه وزميلُه فيما بعد، أستاذنا المربِّي عاصم بن محمد بهجة البَيطار رحمه الله مقالةً بعنوان: (من الذكريات المشرقة). [8] ولا أعرف من امتلك هذه القدرةَ سوى أستاذ الرياضيات الكبير درويش القصَّاص رحمه الله تعالى.
سليمان بن عبدالملك يمكن اعتبار عصر سليمان بن عبدالملك مقدمةً لعصر عمر بن عبدالعزيز في التدين وتطبيق الشرع. • قال عنه السيوطي: "سليمان بن عبدالملك، أبو أيوب، كان من خيار ملوك بني أمية، وكان فصيحًا مفوَّهًا مؤثِرًا للعدل، محبًّا للغزو، ومن محاسنه: أن عمر بن عبدالعزيز كان له كالوزير؛ فكان يمتثل أوامره في الخير، فعزل عمال الحجاج، وأخرج من كان في سجن العراق، وأحيا الصلاة لأول مواقيتها، وكان بنو أمية أماتوها بالتأخير". • قال ابن سيرين: "يرحم الله سليمان؛ افتتح خلافته بإحيائه الصلاة لمواقيتها، واختتمها باستخلافه عمر بن عبدالعزيز". • كان سليمان محبًّا للحياة حبًّا جمًّا، مقبلًا عليها، مغرورًا بها ومغرورًا بنفسه، وكان فتى من فتيان قريش بل سُمِّي "فتى العرب"، وكان جميل الصورة يقف أمام المرآة ويقول: "أنا فتى بني أمية"، وكان في نفس الوقت متدينًا، وكان ينهى عن الغناء. • قال يحيى الغساني: "نظر سليمان في المرآة فأعجبه شبابه وجماله، فقال: "كان محمد صلى الله عليه وسلم نبيًّا، وكان أبو بكر صدِّيقًا، وكان عمر فاروقًا، وكان عثمان حييًّا، وكان معاوية حليمًا، وكان يزيد صبورًا، وكان عبدالملك سائسًا، وكان الوليد جبارًا، وأنا الملك الشاب... فما دار الشهر حتى مات". • وكان من الأكَلَةِ المذكورين، أكل في مجلس سبعين رمانة وخروفًا وست دجاجات، ومكوك زبيب طائفي. • ولفَهمِ عصره يجب أن نرى اتجاه الوليد في سياسته نحو الخصوم؛ فقد كان يتنازع الوليد في سياسته عاملان: سياسة الحجاج العنيفة التي تريد قهر الخصوم وإذلالهم والجبروت عليهم. وسياسة عمر بن عبدالعزيز التي كانت تريد ائتلاف الناس والعدل والسيرة الحسنة. وقد أرسل الوليدُ عمر بن عبدالعزيز واليًا على المدينة، فجمع عمر فقهاء المدينة العشرة، وجعلهم مجلس شوراه، وقال لهم: "الأمر لكم فأعينوني على ما أنا فيه"، فسُرُّوا به وساعدوه، وسارت الأمور سيرًا حسنًا، وساد العدل. • وكان يأتي من العراق هاربون من جَور الحجاج متوارون منه، يلجؤون إلى عمر بن عبدالعزيز وعدله، فكان يجيرهم ويتقون به شر الحجاج، فضاق به الحجاج ذرعًا، وشدد الطلب على الوليد بأن يقيله من المدينة، واحتجَّ بأنه يثير الناس على سياسته في العراق، وألحَّ حتى أجاب الوليد إجابة ظاهرها في صالح عمر بن عبدالعزيز، فقد استحضره إلى دمشق مستشارًا له، وكان المستشار في ذلك الوقت بمثابة وزير، وأرسل بدلًا منه خالد بن عبدالله القسري، فسار خالد على السياسة التي يتطلبها الحجاج، أما عمر بن عبدالعزيز فكان يجتمع بالخليفة الوليد، ويهدِّئ من جبروته، ويصلح من توجيهه، لكن الحجاج كان له بالمرصاد. • إن أثر الأشخاص في التاريخ لا يعادل أثر الجماعات، لكن الحجاج من الأفراد النادرين في التاريخ الذين كانوا ذوي أثر لا يقل كثيرًا عن أثر الجماعات، وإنا نستطيع أن نضعه في كِفَّة مقابلة لكفة عمر بن الخطاب، فعمر بعدله أسس للعرب ملكًا عضودًا، وجعل الأعاجم يقبلون على العروبة ويدخلون في قبائلها، أما الحجاج فبظلمه وضع قنبلة تحت البنيان العربي، أسهمت في إطاحته ونقضه. • ومن حسن حظ عمر بن عبدالعزيز أن الحجاج وقف ضد سليمان بن عبدالملك في عهد الوليد، وكان سليمان وليًّا للعهد، فحضَّ الحجاج الوليدَ على خلعه وتولية ابنه مكانه، وحفظها سليمان على الحجاج، ومات الوليد قبل أن تُنتزع الولاية من سليمان. وهكذا أفضت الخلافة إلى سليمان، ونفسه مضطرمة على الحجاج، فوجد عمر سندًا له في مخالفته لسياسة الحجاج، وزاد حقد سليمان على الحجاج أن يزيد بن المهلب بن أبي صفرة – وكان واليًا للحجاج على خراسان - على خلاف مع الحجاج؛ إذ عزله هذا عن ولايته وتتبَّعَه، فلجأ يزيد إلى سليمان، وأثاره أكثر فأكثر على الحجاج، فاضطرم الخلاف بين الاثنين، لكن الحجاج توفي قبل أن يتولى سليمان، وكان يدعو الله تعالى بذلك، فاستجاب دعاءه. • أقبل سليمان منذ أول يوم من خلافته على عمر بن عبدالعزيز وقال له: "يا أبا حفص، إنا قد وُلِّينا ما ترى، ولم يكن لنا بتدبيره علم، فما رأيت من مصلحة العامة فمُرْ به". • أُطلقت يد عمر بن عبدالعزيز؛ فقام بإصلاحات؛ منها أنه أطلق الأسرى في العراق، وأخلى السجون، وأعاد الصلاة إلى أوقاتها، وكان بنو أمية يؤخرونها بعض التأخير عن أوقاتها، وأحسن معاملة عامة الناس، وتتبع الفساق. حدث – إذًا - اتجاه جديد في السياسة الأموية مع سليمان بن عبدالملك بأثرٍ من عمر بن عبدالعزيز، ذلك الاتجاه الذي سيأخذ حده الأقصى مع عمر نفسه. • قال عبدالرحمن بن حسان الكناني: "مات سليمان غازيًا بدابق، فلما مرض، قال لرجاء بن حيوة: من لهذا الأمر بعدي؟ أستخلف ابني؟ قال: ابنك غائب، قال: فابني الآخر؟ قال: صغير، قال: فمن ترى؟ قال: أرى أن تستخلف عمر بن عبدالعزيز، قال: أتخوَّف إخوتي لا يرضَون، قال: تُولِّي عمر، ومن بعده يزيد بن عبدالملك، وتكتب كتابًا، وتختم عليه وتدعوهم إلى بيعته مختومًا، قال: لقد رأيت، فدعا بقِرطاس، فكتب فيه العهد ودفعه إلى رجاء، وقال: اخرج إلى الناس فليبايعوا على ما فيه مختومًا، فخرج، فقال: إن أمير المؤمنين يأمركم أن تبايعوا لمن في هذا الكتاب، قالوا: ومن فيه؟ قال: هو مختوم، لا تخبروا بمن فيه حتى يموت، قالوا: لا نبايع، فرجع إليه فأخبره، فقال: انطلق إلى صاحب الشُّرط والحرس، فاجمع الناس، ومُرْهم بالبيعة، فمن أبى، فاضرب عنقه، فبايعوا، قال رجاء: فبينما أنا راجع إذا هشام بن عبدالملك، فقال لي: يا رجاء، قد علمت موقعك منا، وأن أمير المؤمنين قد صنع شيئًا ما أدري ما هو، وإني تخوفت أن يكون قد أزالها عني، فإن يكن قد عدلها عني، فأعلمني، ما دام في الأمر نفس، حتى أنظر، فقلت: سبحان الله! يستكتمني أمير المؤمنين أمرًا أطلعك عليه؟ لا يكون ذلك أبدًا، ثم لقيت عمر بن عبدالعزيز، فقال لي: يا رجاء، إنه قد وقع في نفسي أمر كبير من هذا الرجل، أتخوَّف أن يكون قد جعلها إليَّ، ولست أقوم بهذا الشأن، فأعلمني ما دام في الأمر نفس؛ لعلي أتخلص منه ما دام حيًّا، قلت: سبحان الله! يستكتمني أمير المؤمنين أمرًا أطلعك عليه؟ ثم مات سليمان وفُتح الكتاب، فإذا فيه العهد لعمر بن عبدالعزيز، فتغيرت وجوه بني عبدالملك، فلما سمعوا: (وبعده يزيد بن عبدالملك)، تراجعوا، فأتوا عمر فسلموا عليه بالخلافة، فعُقر به، فلم يستطع النهوض حتى أخذوا بضبعيه، فدنَوا به إلى المنبر وأصعدوه، فجلس طويلًا لا يتكلم، فقال لهم رجاء: ألا تقومون إلى أمير المؤمنين فتبايعوه؟ فبايعوه ومد يده إليهم، ثم قام فحمِد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس، إني لست بفارض ولكني منفذ، ولست بمبتدع ولكني متبع، وإن من حولكم من الأمصار والمدن إن هم أطاعوا كما أطعتم، فأنا واليكم، وإن هم أبَوا فلست لكم بوالٍ، ثم نزل فأتاه صاحب المراكب فقال: ما هذا؟ قال: مركب الخليفة، قال: لا حاجة لي فيه، ائتوني بدابتي، فأتوه بدابته، وانطلق إلى منزله، ثم دعا بدواة وكتب بيده إلى عمال الأمصار، قال رجاء: كنت أظن أنه سيضعف، فلما رأيت صنعه في الكتاب علمت أنه سيقوى. • يُروى أن مروان بن عبدالملك وقع بينه وبين سليمان في خلافته كلام، فقال له سليمان: يا ابن اللخناء، ففتح مروان فاه ليجيبه، فأمسك عمر بن عبدالعزيز بفيه، وقال: أنشدك الله، إمامك وأخوك، وله السن، فسكت وقال: قتلتني والله، لقد زدت في جوفي أحر من النار، فما أمسى حتى مات. • وأخرج ابن أبي الدنيا عن زياد بن عثمان أنه دخل على سليمان بن عبدالملك لما مات ابنه أيوب، فقال: يا أمير المؤمنين، إن عبدالرحمن بن أبي بكر كان يقول: من أحب البقاء، فليوطِّن نفسه على المصائب. المصادر: • الدولة الأموية؛ يوسف العش. • تاريخ الخلفاء؛ للسيوطي.
من فرسان الأدب والنقد الدكتور أحمد خليفة (ت 2023م) بعد أيام من رحيل ابن سوهاج العالم الدكتور عبدالرحيم الكردي (2023م) فارس من فرسان الأدب والنقد في مصر والعالم العربي، رحل عن عالمنا فارس آخر من سوهاج يترجل؛ إنه الدكتور أحمد يوسف محمــد خليفة (فبراير 2023م) أستاذ الأدب والنقد المتفرِّغ بجامعة جنوب الوادي، كلية الآداب بسوهاج (رحمه الله وأسكنه فسيح جناته جزاءً بما قدم للعربية وأدبها)، وللدكتور أحمد خليفة عدة مؤلفات، منها رسالته للماجستير "محمد مصطفى المراغي والأدب الإسلامي"، ورسالته للدكتوراه بعنوان: "محمد الخضر حسين وأثره في النهضة الأدبية الحديثة"، وكتاب النقد الأدبي الحديث والمعاصر، مصادر الأدب والنقد، ديوان (قبل أثناء بعد) لمحمود صبيح شاعر المهجر الإسباني: دراسة وتحليل، نشأة النقد الأدبي حتى نهاية القرن الأول الهجري. وقد شارك رحمه الله في العديد من المؤتمرات والملتقيات واللقاءات الفكرية، منها على سبيل المثال: الملتقى الوطني الثالث: الخطاب الإشهاري: الأسس اللسانية والأُطُر المعرفية، ومهرجان سوهاج الدولي الأول (في حب النيل) لشعراء العمود والتفعيلة العرب بجامعة سوهاج. رحم الله الدكتور أحمد يوسف محمــد خليفة رحمةً واسعةً، وعزاؤنا لأهله وطلابه ومحبِّيه خاصة ولأبناء سوهاج عامة الذين ما عرفنا منهم إلا حُبَّ العلم وبروز العلماء النابهين منهم في كل مجال من مجالات العلم والمعرفة والثقافة والأدب والفن.
حاشية الباجوري على رسالة الاستعارات للسمرقندي صدر حديثًا كتاب " حاشية الباجوري على رسالة الاستعارات للسمرقندي "، لبرهان الدين إبراهيم بن محمد الباجوري (ت 1277 هـ)، سلسلة تراث الأزهريين، نشر: " دار كشيدة للنشر والتوزيع ". والكتاب يتضمن حاشية وتعليقات الإمام الباجوري على متن " الفريدة في الاستعارة والمجاز " للإمام السمرقندي. وقد استحوذت قضية " المجاز "، التي يعد مبحث " الاستعارات " محورها الأساسي- على اهتمام أئمة البلاغة على اختلاف مناهجهم، وكثرت لذلك موضوعاتها وتفريعاتها، حتى أصبحت الإحاطة بها في كثير من الأحيان عسيرة إلا على المتخصصين. وقام لذلك العلامة أبو القاسم السمرقندي بكتابة رسالة موجزة، تستهدف الإحاطة بمبحث "الاستعارات"، وجمع شتاته، وبيان الفرق بين المذاهب المختلفة في تقرير معانيه. اعتبرت لذلك رسالة السمرقندي بمثابة السجل الحاوي لمجمل الجهود البلاغية المعنية بقضية الاستعارات، واكتسبت لذلك أهمية كبيرة في حقل الدراسات البلاغية، فكتبت عليها الكثير من الشروح والحواشي، من أهمها حاشية الباجوري، التي تعد أيضا حاوية لمضمون ما سبقها من شروح وحواش على رسالة الاستعارات. لقد عمد المؤلف إلى كتابة رسالته في الاستعارات وأقسامها وقرائنها وقد جعلها في ثلاثة عقود؛ والتي قسمها بدوره إلى ست فرائد، أولها في المجاز الذم ضم فيه المجاز المفرد والذي يعرفه بقوله "الكلمة المستعملة في غير ما وضعت له لعلاقة مع قرينة مانعة عن إرادته"، مشيرًا إلى أنه إن كانت علاقته غير المشابهة فهو مجاز مرسل، وإن لم تكن كذلك عدَّ ذلك استعارة صريحة أو مصرحة على حد قوله. وتعريفه لا يختلف عن تعريف السكاكي الذي عرف المجاز بقوله: "فهو الكلمة المستعملة في غير ما هي موضوعة لو بالتحقيق استعمالًا في الغير بالنسبة على نوع حقيقتها مع قرينة مانعة عن إرادة معناها". إلا أن السكاكي الذي يعد أول من استعمل مصطلح المجاز المرسل موازانًا بينه وبين الاستعارة التي تندرج معه في ضرب المجاز اللغوي أو المجاز المفرد، كان قد فصٌل القول - الذي أجمله السمرقندي من بعده في رسالته - إذ قال: "وغير معناها في المجاز إما أن يقدر قائمًا مقام معناها بوساطة المبالغة في التشبيه أو لا يقدر، والأول هو الاستعارة والثاني هو المجاز المرسل". وقد تناول في الفريدة الثانية أقسام الاستعارة بحسب المستعار وهي عنده قسمان: 1- أصلية إن كان المستعار اسم جنس (غير مشتق). 2- وتبعية إن كان الاسم المستعار مشتقًا أو متعلقًا بمعنى الحرف، والذي يفسره بقوله "ما يعبر به عنه من المعاني المطلقة كالابتداء ونحوه" مشيرًا إلى أن السكاكي أنكر التبعية وعدها مع المكنية. وفي هذا يؤكد كلام السكاكي في "أن الاستعارة الأصلية هي أن يكون المستعار اسم جنس كرجل وأسد وكقيام وقعود، ووجه كونها أصلية هو ما عرفت أن الاستعارة مبناها على تشبيه المستعار له بالمستعار منه... الاستعارة التبعية هي ما تقع في غير أسماء الأجناس كالأفعال والصفات المشتقة منها وكالحروف".. على أن السمرقندي يجمل هنا ما فصله السكاكي لاسيما في حديثه عن معاني الحرف أو الحروف كما يسميها. ويعرض لنا في الفريدة الثالثة قول السكاكي مجملًا في الاستعارة التحقيقية من دون أي تحليل مكتفيًا بالإشارة إلى أنه سيكشف لنا حقيقتها. ثم يقسم في الفريدة الرابعة الاستعارة على ثلاثة أقسام: 1- مطلقة وهي التي لم تقترن بما يلائم شيئًا من المستعار منه والمستعار له نحو (رأيتُ أسدًا). 2- مرشحة وهي التي قرنت بما يلائم المستعار منه نحو (رأيتُ أسدًا له لبدٌ أظفاره لم تقلَّم). 3- مجردة وهي التي قرنت بما يلائم المستعار له نحو (رأيتُ أسدًا شاكي السلاح)؛ مؤكدًا أن الترشيح أبلغ الثلاث لاشتماله على تحقيق المبالغة في التشبيه والمطلقة أبلغ من المجردة منبهًا على عدم عدِّ القرينة في الاستعارة التصريحية تجريدًا وفي الاستعارة المكنية ترشيحًا. وهذا ما ذهب إليه السكاكي بعدما قسم الاستعارة الى أصلية وتبعية قائلًا: "والمراد بالأصلية أن يكون معنى التشبيه داخلًا في المستعار دخولًا أوليًا، والمراد بالتبعية أن لا يكون داخلًا دخولًا أوليًا وربما لحقها التجريد فسميت مجردة أو الترشيح فسميت مرشحة". وبعدما أفاض السكاكي في الحديث في الأصلية والتبعية أخذ بتلخيص قوله، وهو ما قدمه لنا السمرقندي في رسالته. أما الفريدة الخامسة فيتناول فيها الترشيح الذي يجوز عنده "أن يكون باقيًا على حقيقته تابعًا للاستعارة لا يقصد به إلا تقويتها ويجوز أن يكون مستعارًا من ملائم المستعار منه لملائم المستعار له ويحتمل الوجهين قوله تعالى ﴿ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ ﴾ [آل عمران: 103] حيث استعير الحبل للعهد، وذكر الاعتصام ترشيحًا أما باقيًا على معناه أو مستعارًا للوثوق بالعهد" وتعريفه لا يخرج بأي شكل من دائرة التعريف الذي جاء به السكاكي إذ قال: "قد عرفت أن الاستعارة لا بد لها من مستعار له ومستعار منه... ومتى عقبت بصفات أو تفريع كلام ملائم للمستعار منه سميت مرشحة... ومثالها في الترشيح أن تقول ساورت أسدًا هصورًا عظيم اللبدتين وافي البراثن منكر الزئير، وجاورت بحرًا زاخرًا لا يزال يتلاطم أمواجه ولا يغيض فيضه ولا يدرك قعره". وقد ذهب في فريدته السادسة التي آخر فرائد العقد الأول إلى تعريف المجاز المركب بقوله: هو "المستعمل في غير ما وضع له لعلاقة مع قرينة كالمفرد إن كانت علاقته غير المشابهة فلا يسمى استعارة وإلا سمي استعارة تمثيلية نحو إني أراك تقدم رجلًا وتؤخر أخرى؛ أي تتردد في الإقدام والإحجام لا تدري أيهما أحرى"، ولعله في مثاله هذا يوافق ما عرضه ابن سنان الخفاجي في حديثه عن الإيجاز بتمثيل المعنى وتوضيحه والذي استشهد بما كتبه الوليد ابن يزيد - لما بويع - إلى مروان ابن محمد: "أما بعد فإني أراك تقدم رجلًا وتؤخر أخرى...، فعبر عن مراده بمثال أوضحه وأوجزه". وهنا يبدو السمرقندي منفردًا عن السكاكي بهذه التسمية إذ لم يورد تسمية المجاز المركب بل تحدث عن المجاز اللغوي والعقلي، وقد عد الاستعارة التمثيلية من باب المجاز العقلي مستشهدًا بالشاهد نفسه الذي عرضه السمرقندي ضمن الاستعارة التمثيلية التي يفسرها بأن "تدخل صورة المشبه في جنس صورة المشبه به رومًا للمبالغة في التشبيه فتكسوها وصف المشبه به من غير تغيير فيه بوجه من الوجوه على سبيل الاستعارة قائلًا: أراك أيها المفتي تقدم رجلًا وتؤخر أخرى". أما العقد الثاني فجعله في تحقيق معنى الاستعارة بالكناية وتعريفها موضحًا ذلك عن طريق ثلاث فرائد ذيلها بفريدة أخرى لبيان أنه هل يجب أن يكون المشبه في الاستعارة بالكناية مذكورًا بلفظه الموضوع له أم لا؟ ومما عرضه في فريدته الأولى هو قول السلف على حد قوله في "إن المستعار بالكناية لفظ المشبه به المستعار للمشبه المرموز إليه بذكر لازمه من غير تقدير في نظم الكلام وذكر اللازم قرينة على قصده من عرض الكلام وحينئذ وجه تسميتها استعارة بالكناية ومكنية ظاهر وإليه ذهب صاحب الكشاف وهو المختار"، إلا أنه لم يحدد ممن أخذ من السلف كما أننا لم نجد من القدماء من تحدث عن الاستعارة بالكناية وذكرها كما ذكرها السمرقندي، حتى الزمخشري نفسه الذي خصه في حديثه وعد قوله هو المختار عنده. وهكذا يستمر السمرقندي في تقديم فرائده الواحدة تلو الأخرى فلا نجده إلا ناقلًا وملخصًا لمن سبقوه وتحديدًا السكاكي بالدرجة الأولى ومن بعده يأتي الخطيب البغدادي مع الأخذ برأي الزمخشري في أحد المواضع. إن الدراسة المتفحصة للرسالة تبين لنا أن السمرقندي حاول أن يقدم لطلبة علم البلاغة والاستعارة التي تمثل أبلغ فنون علم البيان وأجملها بما فيها من إيجاز لفظ، واتساع معنى، وإعمال فكر لتكون رسالته مفتاحًا لدخول باب هذا العلم الواسع، فرسالة الاستعارات للسمرقندي هي مفتاح للوصول إلى خاص الخاص وهي الاستعارة التي تمثل أحد مباحث علم البيان التي أولاها علماؤنا القدماء جل اهتمام، وهو إن كان مقصرًا في عرض شواهده إلا أنه كان محسنًا في عرض مادته وحسن تقديمه وتقسيمه بشكل موجز مكثف مبين من دون تقصير أو تجاهل لأي جزء أو ركن مما يتعلق بفن الاستعارة ومباحثها، فكانت رسالته كما وصفها ابن عاشور زبدة مستخلصة من تحقيقات المطول والمفتاح، وبها أفاد وأغنى طلاب هذا العلم بما قدمه عن فن الاستعارة. وشرح الباجوري على متن السمرقندي من أهم شروح الرسالة موضحًا غامضها، مبينًا ما فيها من مباحث وموضوعات. وصاحب المتن هو أبو القاسم بن أبي بكر الليثى السمرقندي (ت 888 هـ)، من أهل القرن التاسع الهجري، في العصر المملوكي، كان قارئًا وعالمًا بفقه الحنفية، وأديبًا، وله مؤلفات متعددة منها: 1- شرح الاستعارات السمرقندية. 2- بلوغ الأرب من تحقيق استعارات العرب. 3- حواش على شرح التلخيص للتفتازاني. 4- حاشية على الشرح المطول للتفتازاني. 5- حاشية على شرح مفتاح العلوم للسكاكي. 6- كتاب المجاز. 7- الرسالة الترشيحية، في البلاغة. 8- حاشية على المطول. 9- شرح أبي القاسم بن أبي بكر الليثي السمرقندي، في البلاغة. 10- حاشية السمرقندي على شرح المطول. 11- شرح رسالة في الوضع لعضد الدين الإيجي. 12- حاشية على مطالع الأنظار في شرح طوالع الأنوار، في علم الكلام. 13- مستخلص الحقائق شرح كنز الدقائق، في فقه الحنفية. 14- حاشية على تفسير البيضاوي. 15- الحاشية السمرقندية على تلخيص المفتاح. وغير ذلك. وصاحب الشرح هو إبراهيم بن محمد بن أحمد الباجوري (11 98- 1277 هـ) شيخ الجامع الأزهر من فقهاء الشافعية، ولد بالباجور من قرى المنوفية وإليها نسبته ونشأ فيها، وتعلم بالأزهر، وتقلد مشيخة الأزهر سنة 1263 هـ، واستمر إلى أن توفي بالقاهرة. أخذ العلم من: العلامة محمد الأمير الكبير المالكي، والشيخ عبد الله الشرقاوي، والشيخ داود القلعاوي، والشيخ محمد الفضالي، والشيخ حسن القويسني. من مؤلفاته: 1- حاشية على مختصر السنوسي في المنطق. 2- التحفة الخيرية حاشية على الشنشورية في الفرائض. 3- تحفة المريد على جوهرة التوحيد. 4- تحقيق المقام حاشية على كفاية العوام للفضالي في علم الكلام. 5- حاشية على أم البراهين. 6- حاشية العقائد للسنوسي توحيد. 7- المواهب اللدنية حاشية على شمائل الترمذي. 8- فتح الخبير اللطيف في الصرف. 9- الدرر الحسان فيما يحصل به الإسلام والإيمان. 10- تحفة البشر على مولد ابن حجر. وغير ذلك.
الآداب الشرعيَّة والأخلاق الإعلامية في تغطية الكوارث غالبًا ما تكشف لنا النوازل والحوادث عن قضايا مستجدَّة لم نَعْهَدْها من قبل، تسترعي وتستدعي اهتمامنا بالبحث والدراسة من زاوية شرعية وإعلامية وأخلاقية، وحادث الزلزال الذي ضرب شمال غرب الأراضي السورية وجنوب تركيا، تمخَّض عنه مسألة غاية في الحساسية؛ وهي آداب وأخلاقيات التعامل مع خصوصية الضعفاء تحت الأنقاض والهدم؛ إذ لا حول لهم ولا قوة في التعبير عن إرادتهم، والتحكم في تصرفاتهم وأفعالهم. ومن باب الواجب الأخلاقي، والتعاطف الإنساني مع أي مأساة تحدث جرَّاء الكوارث الطبيعية، يُهرَع الناس جميعًا - لا سيما الإعلاميون - إلى نقل مشاهد المتضررين والمنكوبين؛ لتوثيق عمليات الإنقاذ، سواء كانت ملتقطة أو حية، غافلين أو متغافلين خصوصياتهم وانكشاف عوراتهم، وعجزهم عن دفع الأذى النفسي الذي قد يصيبهم جراء تصويرهم بهيئات قد تسوؤهم لاحقًا، أو تجرح مشاعرهم، أو تهين كرامتهم، فضلًا عن عجزهم عن دفع ضرر ما أصابهم ماديًّا وحسيًّا، فيكون الاستسلام للأمر الواقع هو الحل لمن لا حيلة له، لكن لهذه النفوس والأجساد والأرواح حُرُمٌ وحرمة يجب ألَّا تُنتهك. في معنى الحَرَم وأنواعه: الحرام في اللغة هو الممنوع، وشرعًا هو أحد الأحكام التكليفية الفقهية الخمس؛ ويعني المحظور الذي يُعاقَب على فعله، ويُثاب على تركه، ومنه الحرم؛ وهو ما لا يحل انتهاكه، وما يحميه الرجل ويدافع عنه ويقاتل؛ مثل الزوجة والبيت والأسرة، والحرم الآمن يُقصَد به البيت الحرام الذي جعله الله آمنًا للناس؛ قال تعالى: ﴿ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ ﴾ [العنكبوت: 67]، أما حرمة النفس، فهي عدم جواز قتل المسلم لأخيه المسلم، دون وجه حق؛ قال تعالى: ﴿ وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا ﴾ [النساء: 93]، أما حرمة الأرواح، فهي حفظ مشاعر الناس وأحاسيسهم من أن تُجْرَح أو تُمَسَّ بسوء، ومراعاة أحوالهم النفسية، خاصة في الأزمات والظروف الحرجة؛ وذلك بفعل ما يحبون، واجتناب ما يكرهون وما يسبِّب لهم الأذى. في حرمة البيوت والنفوس: لقد جعل الله سبحانه وتعالى للبيوت المسلمة حرمة، وحفِظ لأهلها حقَّهم في أن يصونوها عن فضول أنظار الناس؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من اطَّلع في بيت قومٍ بغير إذنهم، فقد حل لهم أن يفقؤوا عينه))؛ [رواه البخاري ومسلم وأبو داود]، ورُوي أن حذيفة جاءه رجل فنظر إلى ما في البيت، ثم قال: السلام عليكم، أأدخل؟ فقال له حذيفة: "أما بعينك، فقد دخلت، وأما بجسمك، فلم تدخل"، وحديث رسولنا الكريم يقرر حكمًا شرعيًّا مهمًّا؛ وهو أن كشف عورات البيوت بغير إذن يُبيح فقأ العين، وتشريع فقأ العين يعني منع القصاص بالضرورة. وقد أفتى بعض العلماء أنه لا يجوز تصوير الشخص من دون علمه، إن لم يعلم مسبقًا سماحه بذلك، ويتأكد الأمر في حق النائم؛ لأنه قد يكون في حالة لا يحب أن يراه الناس عليها، ويكون في تصويره ونشر صورته إساءةٌ إليه. في حفظ خصوصيات الناس: راعى الشارع الحكيم خصوصيات الناس كأفراد وكمجتمعات إنسانية، وأرشد إلى اعتبارها؛ حفظًا لكرامتهم، وما يخفونه عن أعين البشر؛ قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾ [النور: 27]، فالآداب الإسلامية تُحَتِّم على المؤمنين الامتناع عن دخول بيوت غير بيوتهم حتى يستأذنوا أهلها بالدخول، ومن يخالف، فقد انتهك خصوصية وحرمة البيوت وأهلها، ووقع في الإثم والمعصية؛ قال تعالى: ﴿ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ﴾ [النور: 28]، وتشير هذه الآية إلى عدم جواز دخول البيوت الخالية كذلك؛ لاحتمال التصرف في ملك الغير بغير إذنه، وهذا غير جائز؛ وقال تعالى في الآية 29 من نفس السورة: ﴿ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ ﴾ [النور: 29]، إذًا؛ هذه الآيات الثلاث وضحت آداب وضوابط دخول البيوت؛ حيث راعت خصوصيات الناس، وإذا كان كل هذا التشديد مع البيوت المحصنة بقوة الأحجار، ومتانة الأبنية، وصلابة الأبواب والنوافذ، المسيَّجة بالأسوار والأسلاك؛ فما بالنا بمن كُشفت عوراتهم، وباتوا في أشد حالات ضعفهم، وأصبحوا عاجزين تمامًا ليس فقط عن حفظ خصوصية بيوتهم، إنما عن ستر عوراتهم الجسدية والروحية؟! حرمة من هم تحت الرُّكام: ويُقاس على هذا من هُمْ تحت الركام؛ إذ لا نسلم أن عوراتهم مستورة أو غير مكشوفة، بل هم من باب أولى؛ لأن النائم لا ينام غالبًا إلا مستورًا، أما هؤلاء فهم مسلوبو الإرادة والحرية والتصرف، فوجب الحرص أشد الحرص في التعامل معهم؛ بعدم تصويرهم أثناء استخراجهم، خاصة لو كانوا من النساء، وهنا نؤكد على أننا نتحدث عن التصوير خاصة في غير حاجة، ولا نقصد عمليات الإنقاذ والبحث؛ حيث يُسمح فيها للضرورة ولحفظ الأنفس كل محظور. هل يتعارض نقل الأخبار مع الحفاظ على الخصوصيات؟ لا شك أن وضع المنكوبين حال الدمار يستلزم الإسراع في عمليات الإنقاذ، ويفرض على الإعلامي نقل المأساة للعالم، وتوثيقها بالصور والمقاطع المرئية لحثِّ الناس على المساعدة والمساندة، لكن هذا لا يتعارض أبدًا مع احترام خصوصية المنكوبين، ولا يبرر أبدًا نقل صور ومشاهد أعيان الناس وأوضاعهم عن قرب في حالات ضعفهم، ولربما لو خُيِّروا لاحقًا بين نشرها وعدم نشرها، لاختاروا عدم النشر. الأخلاق الإسلامية والمهنية أم الأسباق الصحفية! لو قلنا: إن الشرع كفل للناس حقَّهم في تلك الخصوصية، ودَرْءَ مفاسد أعين الناس في حال القوة، فيكون من باب أولى تطبيق هذه الآداب في حال ضعف الناس، خاصة النساء والأطفال؛ منعًا لاستغلالهم. وهنا نؤكد على وجوب التعامل بحساسية مفرطة خلال نقل هذه الصور، وانتقاء المشاهد التي لا تجرح مشاعر المنكوبين، وتنزعهم كرامتَهم، فنقل الأحداث والصور يحتاج إلى كثير من الأمانة الذاتية، والأخلاق الإعلامية، والبراعة المهنية، فضلًا عن التقوى والورع والاحتياط، فالعمل الإعلامي واجب ديني، والتزام أخلاقي ومهني، قبل أن يكون سبقًا صحفيًّا، وموادَّ استهلاكيةً لزيادة الكسب والرواج والشهرة. إذًا؛ للنفوس والأرواح حرمة في التعامل معها، وآداب يستوجب مراعاتها في فترة الأزمات الحرجة، فالتصوير يكون لضرورة وبحدود نقل الخبر، دون انتهاك حرمات البشر.
جواهر الفتاوى في الفقه الحنفي لمحمد بن عبدالرشيد الكرماني صدر حديثًا كتاب "جواهر الفتاوى"، تأليف: الإمام "محمد بن عبدالرشيد الكرماني" (ت 565 هـ)، دراسة وتحقيق: د. "أحمد بن حكمت الحنفي الرفاعي"، نشر: "دار المعراج للنشر والتوزيع". وكتاب " جواهر الفتاوى " من كتب الفتاوى المهمة في المذهب الحنفي، والتي لم تحقق بصورة علمية كاملًا من قبل، حيث بيَّن فيه الإمام " محمد بن عبد الرشيد الكرمان ي" بعض الأسئلة المتفرقة التي حصل عليها من فتاوى الإمام " أبي الفضل عبد الرحمن بن محمد الكرمان ي"، كما أضاف إليه ما سأل فيه الإمام " اليزدي " وما أجابه على أسئلته فيه، وبعدها أخذ فتاوى أئمة بخارى، وما وراء النهر، وخراسان، وكرمان.. وغيرها، ودونها جميعها في كتابه " الفتاوى " بأسلوبه وعباراته التي تنُم على سعة علمه وبراعته بالعلوم الشرعية؛ وكانت رحى كتاب " الفتاوى " تدور في الفقه وأصوله وأصول الدين، لذا يعد هذا الكتاب ثروة غنية بآراء الحنفية حول هذه المسائل والمباحث الأصولية. قال الكرماني: "اتفق لي أن سألت من الشيخ الإمام الأجل قاضي القضاة جمال الدين، مفتي العصر المطهر بن حسين بن سعد بن علي بن بنداري اليزدي، مسائل كثيرة في كل باب، وأفاد لي بفوائد شريفة في بيان أحكامها، والتنبيه على عللها ودلائلها بالتماس ذلك منه، فإنه إمام بهذا العصر، في العلم والفقه...". وقد جعل كل كتاب فقهي من كتب فتاويه ستة أبواب: الأول: من فتاوى ركن الدين، أبي الفضل الكرماني. والثاني: من فتاوى جمال الدين اليزدي. والثالث: من فتاوى الإمام: عطاء بن حمزة السعدي. والرابع: من فتاوى النجم عمر النسفي. والخامس: من فتاوى مجد الشريعة، أبي محمد: سليمان بن الحسن الكرماني. والسادس: من فتاوى أئمة المتأخرين بأسمائهم. ولم يغفل " محمد بن عبد الرشيد الكرمان ي" بيان رأيه في المسائل التي تناولها في فتاويه، مرجحًا بين الآراء المختلفة موافقًا بينها، مبينًا المعتمد والمعول عليه في الفتوى عند الحنفية. وللكتاب عدة نسخ خطية من أهمها نسخة في مكتبة السليمانية في تركيا، رقم المخطوط (1427)، ناسخها " حسن حسين عمر القراهاري " سنة 881 هـ، وعدد لوحاتها 166 لوحة، وكل ورقة صفحتان، وخطها خط التعليق. ونسخة أخرى بمكتبة السليمانية بتركيا، رقم المخطوط (1684)، سنة 978 هـ، وناسخها " عبد المولى أفندي بن مصلح الدين المول ى"، وعدد لوحاتها 231 لوحة، وكل ورقة صفحتان، بخط تعليق. وهناك نسخة ثالثة محفوظة بمكتبة جامعة الملك سعود بالمملكة، رقم المخطوط (1437)، ناسخها " كنعان بن يونس البراوي " فرغ من نسخها 982 هـ، وعدد الألواح 340 لوحة، وكل ورقة صفحتان، ونوع الخط خط تعليق. وقد قام المحقق بمقابلة المتن على نسخه الخطية، محققًا بينها، مترجمًا لأغلب أعلام المذهب الحنفي في تحقيقه، مع بيان معاني الكلمات الغريبة التي أبهمها المؤلف، والتقدمة للكتاب بمقدمات نافعة في بيان منهج الدراسة، مع إثراء التحقيق بوضع فهارس علمية للكتاب لمزيد من الفائدة. وصاحب المتن هو الإمام ركن الدين أبو بكر، محمد بن أبي المفاخر، بن عبد الرشيد بن نصر بن محمد بن إبراهيم بن إسحاق الكرماني، نسبةً إلى مدينة "كرمان" التي نشأ فيها المؤلف، وهي ولاية مشهورة بين فارس ومكران وسجستان وخراسان. فقيه حنفي من العلماء بالحديث، أخذ العلم على يد " ركن الدَّين عبد الرحمن بن محمد بن إبراهيم الكرماني " إمام أصحاب أبي حنيفة بخراسان، والشيخ " جمال الدين اليزدي " فقيه من كبار علماء الحنفية، ويلقب بجلال الدين، القاضي شيخ الإسلام. له من المصنفات: • "جواهر الفتاوى". • "زهرة الأنوار" في الحديث. • "غرر المعاني في فتاوى أبي الفضل الكرماني". • "حيرة الفقهاء". توفي عن عمر ناهز ستًا وثمانين عامًا سنة 565 هـ.
من قلب الزمن الجميل ذكرياتي مع أستاذي الجليل مهما حاولنا النسيان، إلا أن الذكريات تبقى محفورةً داخلنا، تذهب بنا إلى عالم جميل، نتذكر فيه أجمل اللحظات، حتى وإن كانت مؤلمة، يبقى لها رونق خاص بالقلب، فقد تجمعنا الدنيا بأشخاص، أو قد نمر بأماكن لم نعتبرها في بداية الأمر مهمةً، ولكن عند الابتعاد والفراق نشعر بقيمتها، ومدى تأثيرها. ذكريات حفرناها داخل أعماقنا، وصور حفِظناها في عيوننا، وحنين حبسناه داخلنا، وأشواق باتت فينا متلألئة، ودٌّ مُفعم بالحب لا يمكن أن نخفيه فينا، لا يستطيع إنسان أو أي قوة في الوجود أن تمحو هذه الذكريات تمامًا. أعود بأفكاري للزمن الجميل، وأرجع بإحساسي إلى الماضي الجليل، أُفتش بين ثنايا الضحكات عن سعادتنا، وتأخذني المشاعر الدافئة إلى أحلامنا، وأرى الثواني تمضي من أمامنا، ولا تزال نفس المشاعر فينا، دفاترنا ما زالت مملوءة برسم طفولتنا، ومقاعدنا ما زالت تحوي دفء حكاياتنا. الذكريات هي التي تفرض نفسها وقتما تشاء، وتنشط داخل القلب حيث تريد، نسير في دروبنا التي مشيناها أيام صبانا، ونتساءل: متى نعود لأفراحنا؟ ومتى نتخلى عن أتراحنا؟ ومتى نحقق أحلامنا؟ ومتى نسمع صدى ضحكاتنا؟ أستاذي الجليل، كنت أحب أن أسمعه وهو على المنبر، كنت أمشي ثلاثة كيلومترات حتى أصل إلى المسجد الذي يخطب فيه، واليوم الذي لا أجده كنت أصاب بالإحباط، كنت أستمتع بأسلوبه الراقي، وإلقائه الرائع، وعلمه الغزير. أستاذي الكبير: في عام ستة وثمانين وتسعمائة وألف كان مديرًا لمدرسة بسنتواي، وكان أول تعييني مدرسًا هناك، في نفس العام حرر لي خطابًا أن أكون مسؤولًا بدلًا منه على المدرسة، كان ينتدب عددًا من القدامى، إلا أنه في هذا اليوم انتدبني رغم حداثة عملي بالمهنة، كم كانت سعادتي رغم أنه لا تربطني به أي صلة! ومن فخري واعتزازي لا زلت أحتفظ بهذا الخطاب حتى الآن. معلمي الغالي: ذهبت إليه أستشيره في مسألة تخصني، كان أول لقاء به في بيته، كان ذلك في الثمانينيات، وكنت متوترًا قلِقًا، إلا أنه أراحني وطمأنني بمشورته؛ حيث قال: ربما أصابك شيء من الظلم، لكنه أفضل من أن تكون ظالمًا، ارضَ بالأمر وسيعوضك الله، بعد أن سرد لي الآيات والأحاديث، وسمعت له ورضيت بمشورته، وقبِلت نصيحته، فكانت أفضل نصيحة لي في حياتي، وعوضني الله تعالى بالكثير والكثير، فالحمد لله والفضل لله، ثم له. أستاذي الفاضل: في أول التسعينيات أرسلت له أطلب يد ابنته، رد عليَّ الذي أرسلته قائلًا: كان أول ما قال لما عرضنا عليه الأمر: "(( إذا جاءكم من ترضَون دينه وخُلُقه، فزوِّجوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض ))، ونحن رضينا به نسبًا وحسبًا ليتفضل". وكانت هذه الكلمات بمثابة النور الذي أضاء حياتي، والفرحة التي غمرتني إلى أخمص قدمي. تقدمت وقبلت وكان الأمر سهلًا بسيطًا، لم يستغرق إلا شهرًا وثلث الشهر، وكانت ابنته أم عمرو زوجتي في بيتها الجديد. كان يحب التيسير والبساطة، وكان يتصف بالشهامة والشجاعة، وكان الكرم كله والإيثار، تشرفت بنسبه أي شرف، وفرحت معه أي فرح. حماي العزيز: من أجمل الأيام وأحلى الأوقات لما كان ينتدبني لأكون مكانه على المنبر، كان يشجعني ويقيمني، ويعلمني ويرشدني، وكان هذا مصدر فخر لي مدى حياتي، ثم كان الأجمل عندما نعود إلى البيت بعد الانتهاء ونجلس على المائدة بعيدًا عن مثلث الشر؛ حيث خيرات الله مما يحبه هو، وبالتبعية مما أحبه معه، كنت مشتركًا معه بالفطرة في كثير من الأشياء الرائعة. والد زوجتي الكريم: لما سافرت أنا وابنته زوجتي الغالية، وابننا البكر، عام أربعة وتسعين وتسعمائة وألف، كان يخصص لنا ورد يدعو لنا بالحفظ والتوفيق والبركة، وفعلًا استجاب ربي لكل دعواته، حفظنا ووفقنا، وبارك لنا في أرزاقنا، فلله الحمد والشكر، وله العفو والمغفرة والرحمة، ولما رجعنا من السفر، ذهبت لأبي وأمي وإخوتي، وفي اليوم نفسه بعد أقل من ساعة، ذهبت إليه في بيته؛ لأعانقه وأُطَمْئِنه، وكنت أقصد أن أبرَّه كما أبر والدي تمامًا، وأُجِلَّه كما أُجِلُّ والدي كذلك، وأقدره كما كنت أقدر أبي، أسأل الله أن يتقبله وأبي في الصالحين. والدي الغالي: استدعاني في يوم ليقول لي بعض الأمور الخاصة، وفي طيات الكلام استشعرت أنه لا يحب ألَّا يُغضب أحدًا، كان حريصًا أن يكون متسامحًا مع كل من حوله، متوددًا لكل من يعرفه، لطيفًا مع الكبير والصغير. حبيبي الغالي: زُرْتُه في آخر عهده بهذه الدنيا؛ الأربعاء، قال لي: اجلس يا أبا عمرو بجواري، جلست وقرأت بعض آيات القرآن، وبعض آيات الشفاء، إلا أنني شعرت بالقلق، وما كان لي إلا أن أتمسك بالأمل، وأدعو الله له بالشفاء. آخر يوم له في الدنيا ٨/٢/٢٠٢٣: كان في المشفى، أجرى تحاليل لم تكن إيجابية إلا في هذا اليوم، وكان في أحسن حالاته، قرأ آية الكرسي، وقرأ الفاتحة ثلاث مرات، ثم قال: اللهم آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار، ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، ثم أسلم روحه لباريها، واسترد الباري أمانته، وإنا لله وإنا إليه راجعون، وإنا لفراقك يا غالي لمحزونون. إننا لا نعرف القيمة الحقيقية للحظات العمر إلا بعد أن تغيب في أعماق الذاكرة، قد نغيب كالغروب، وقد يلهينا الزمن، ولكن لا تزول منا ذكريات عشناها بكل مشاعرنا. وهكذا؛ فإن ذكرياتنا الجميلة نور نستضيء به في القادم من أيامنا؛ لذلك لا بد أن نكتبها في مفكرتنا حتى لا ننساها، أما الذكريات الصامتة بين القلب والعقل، والتي تكسر القلب وتضني العقل، قد تأخذنا بعيدًا، وإلى حيث لا نعلم في زحمة الحياة، ولكن رغم هذا وذاك، تبقى الذكرى الطيبة بالنفس، وتبقى اللحظات الجميلة بالروح؛ لذلك لا نندم على ذكرى عشناها، حتى لو صارت ذكرى تؤلمنا، فإن كانت الزهور قد جفت، وضاع عبيرها، ولم يبقَ منها غير الأشواك، لا تنسى أنها منحتنا يومًا ما عطرًا جميلًا. والدي العزيز: الحاج عبدالعظيم الأنصاري: كنت تحب التعاون على البر لا على الشر، والتناصح بالهدى لا بالضلال، والتناصر بالحق لا بالباطل، فلك مني عهد مهما طال الزمن أو قصر، مهما صدق الوافي أو نكر، مهما قل الحزن أو كثر، مهما اشتد الألم أو قهر، ستظل يا أستاذي للدنيا نورًا، ستظل يا شيخي في قلبي حياة، و يبقى - كذلك - نبض القلب لا ينسى الأحبة، نتذكر ونسترجع تلك الذكريات الجميلة؛ لكي نعرف قدر من نحب، ومكانة من نصاحب، ويتضح لدينا بصورة أكثر مما كنا نتوقع. إنها لحظة وفاء وزهرة ثناء. رحمك الله يا أستاذي رحمة واسعة، أسكنك الله الفردوس الأعلى من الجنة مع النبيين والصديقين، والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقًا.
المجاهد خالد بن الوليد الحمد لله رَبِّ العَالَمِيْنَ، والصَّلاةُ والسَّلامُ عَلَى نَبِيِّنَا مُـحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وأصْحَابِهِ والتَّابِعِيْنَ لَـهُمْ بإحْسَانٍ إلى يَوْمِ الدِّينِ، أمَّا بَعْدُ: فإن المجاهد خالد بن الوليد هو أحد الصحابة المجاهدين في سبيل الله تعالى، فأقول وبالله تعالى التوفيق: النسب: هو خالد بن الوليد بن المغيرة بن عبدالله بن عمرو بن مخزوم القرشي المخزومي، وهو ابنُ خال عمر بن الخطاب. كنيته: أبو سليمان. أُمُّه: لُبابة الصغرى بنت الحارث بن حرب الهلالية، وهي أخت لُبابة الكبرى زوج العباس بن عبد المطلب، وهما أختا ميمونة بنت الحارث، زوج النبي صلى الله عليه وسلم؛ (الإصابة لابن حجر العسقلاني، جـ1، صـ412). كان خالد أحَدَ أشراف قريش في الجاهلية، وإليه كانت القُبة والأَعِنَّة في الجاهلية؛ فأمَّا القُبَّة فإنهم كانوا يضربونها، ثم يجمعون إليها ما يجهزون به الجيش، وأمَّا الأَعِنَّة فإنه كان يكون المقدم على خيول قريش في الحروب؛ (الاستيعاب لابن عبدالبر، جـ 2، صـ 11). إسلام خالد: أَسْلَمَ خالد وهاجر إلى النبي صلى الله عليه وسلم في صفر سنة ثمانٍ من الهجرة. قال خالد بن الوليد رضي الله عنه: لما أراد الله بي ما أراد من الخير قذف في قلبي حُبَّ الإسلام، وحضرني رشدي، وقلت: قد شهدت هذه المواطن كلها على محمد، فليس موطن أشهده إلا انصرفت وأنا أرى في نفسي أني موضع في غير شيء، وأن محمدًا سيظهر، ودافعته قريش بالراح يوم الحديبية، فقلت: أين المذهب؟ وقلت: أخرج إلى هرقل؟ ثم قلت: أخرج من ديني إلى نصرانية أو يهودية فأقيم مع عجم تابعًا لها مع عيب ذلك عَليَّ؟ ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة عام القضية، فتغيبت فكتب إليَّ أخي: لم أر أعجب مِن ذهاب رأيك (انصرافك) عن الإسلام، ومثل الإسلام لا يجهله أحدٌ، وقد سألني رسول الله صلى الله عليه وسلم عنك، فقال: أين خالد؟ فقلت: يأتي الله به، فقال: ما مثل خالد يجهل الإسلام، فاستدرك يا أخي ما فاتك، فلما أتاني كتابه نشطت للخروج، وزادني رغبة في الإسلام، وسرتني مقالة النبي صلى الله عليه وسلم، فأرى في المنام كأني في بلاد ضيِّقة جدبة، فخرجت إلى بلد أخضر واسع، فقلت: إن هذه لرؤيا، فذكرتها بعد لأبي بكر، فقال: هو مخرجك الذي هداك الله فيه للإسلام، والضيق الشرك، فأجمعت الخروج إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وطلبت مَن أُصاحِب، فلقيت عثمان بن طلحة، فذكرتُ له الذي أريد، فأسرع الإجابة، وخرجنا جميعًا، فلمَّا كُنَّا بالهدة (اسم مكان) إذا عمرو بن العاص، فقال: مرحبًا بالقوم، فقلنا: وبك، فقال: أين مسيركم؟ فأخبرناه وأخبرنا أنه يريد أيضًا النبي صلى الله عليه وسلم، فاصطحبنا حتى قدمنا المدينة على رسول الله صلى الله عليه وسلم أول يوم من صفر سنة ثمانٍ، فلما طلعت على رسول الله صلى الله عليه وسلم سلمت عليه بالنبوَّة، فرَدَّ عليَّ السلام بوجه طَلْق فأسلمتُ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد كنت أرى لك عقلًا، رجوت ألا يسلمك إلَّا إلى خير، وبايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقلت: استغفر لي كل ما أوضعتُ فيه من صَدٍّ عن سبيل الله، فقال: إن الإسلام يَجُبُّ ما قبله، ثم استغفر لي، وتقدَّم عمرو وعثمان بن طلحة فأسلما، فوالله، ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم من يوم أسلمت يعدل بي أحدًا من أصحابه فيما يُحزِبه؛ (صفة الصفوة لابن الجوزي، جـ1، صـ 652:650). خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ من سيوف الله تعالى: روى الترمذيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: نَزَلْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْزِلًا، فَجَعَلَ النَّاسُ يَمُرُّونَ فَيَقُولُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَنْ هَذَا يَا أَبَا هُرَيْرَةَ؟))، فَأَقُولُ: فُلَانٌ، فَيَقُولُ: ((نِعْمَ عَبْدُ اللَّهِ هَذَا))، وَيَقُولُ: ((مَنْ هَذَا؟))، فَأَقُولُ: فُلَانٌ، فَيَقُولُ: بِئْسَ عَبْدُ اللَّهِ هَذَا حَتَّى مَرَّ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ، فَقَالَ: مَنْ هَذَا؟ فَقُلْتُ: هَذَا خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ، فَقَالَ: ((نِعْمَ عَبْدُ اللَّهِ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ سَيْفٌ مِنْ سُيُوفِ اللَّهِ))؛ (حديث صحيح) (صحيح سنن الترمذي للألباني، حديث: 3021). شهادة نبيِّنا صلى الله عليه وسلم لخالد: روى البخاريُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالصَّدَقَةِ، فَقِيلَ: مَنَعَ ابْنُ جَمِيلٍ وَخَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ وَعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَا يَنْقِمُ ابْنُ جَمِيلٍ إِلَّا أَنَّهُ كَانَ فَقِيرًا، فَأَغْنَاهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَأَمَّا خَالِدٌ فَإِنَّكُمْ تَظْلِمُونَ خَالِدًا، قَدْ احْتَبَسَ أَدْرَاعَهُ وَأَعْتُدَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَأَمَّا الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَعَمُّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَهِيَ عَلَيْهِ صَدَقَةٌ وَمِثْلُهَا مَعَهَا))؛ (البخاري، حديث: 1468). أحاديث خالد بن الوليد: روى خالد إحدى وسبعين حديثًا، وله في الصحيحين حديثان فقط؛ (سير أعلام النبلاء للذهبي، جـ 1، صـ 384). جهاده في سبيل الله: شهد خالدُ بن الوليد مع النبي صلى الله عليه وسلم غزوة فتح مكة وحنين وتبوك، وشارك في معركة مؤتة، وبعث النبي صلى الله عليه وسلم خالدًا إلى دَومة الجندل، فأسر حاكمها، أُكَيْدَر، وأتى به النبي صلى الله عليه وسلم، فحقن دمَه وصالحَه على الجزية، وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خالدًا إلى العُزَّى - وكانت لهوازن – فكسرها، وجعل يقول: يا عُزى كفرانك لا سبحانك إني رأيت الله قد أهانك وأرسله أبو بكر الصديق إلى قتال أهل الرِّدة، فأبلى في قتالهم بلاءً عظيمًا، ثم ولَّاه حرب فارس والروم، فأثَّر فيهم تأثيرًا شديدًا وفتح دمشق. قال الإمام ابن كثير(رحمه الله): خالد بن الوليد سيفُ الله،أحدُ الشجعان المشهورين،لم يُقهر (وهو قائد للجيش) في جاهلية ولا إسلام؛ (البداية والنهاية لابن كثير، جـ 7، صـ116) (الإصابة لابن حجر العسقلاني، جـ1، صـ413). روى البخاريُّ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَعَى زَيْدًا وَجَعْفَرًا وَابْنَ رَوَاحَةَ لِلنَّاسِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَهُمْ خَبَرُهُمْ، فَقَالَ: أَخَذَ الرَّايَةَ زَيْدٌ فَأُصِيبَ، ثُمَّ أَخَذَ جَعْفَرٌ فَأُصِيبَ، ثُمَّ أَخَذَ ابْنُ رَوَاحَةَ فَأُصِيبَ وَعَيْنَاهُ تَذْرِفَانِ حَتَّى أَخَذَ سَيْفٌ مِنْ سُيُوفِ اللَّهِ حَتَّى فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ؛ (البخاري، حديث: 3757). روى البخاريُّ عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ، قَالَ: سَمِعْتُ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ يَقُولُ: لَقَدْ انْقَطَعَتْ فِي يَدِي يَوْمَ مُؤْتَةَ تِسْعَةُ أَسْيَافٍ، فَمَا بَقِيَ فِي يَدِي إِلَّا صَفِيحَةٌ يَمَانِيَةٌ؛ (البخاري، حديث: 4265). قال خالد بن الوليد: لقد شغلني الجهاد عن تَعَلُّمِ كثير من القرآن؛ (الإصابة لابن حجر العسقلاني، جـ1، صـ 414). قيادة خالد لمعركة اليرموك ضد الرُّوم: أرسل أبو بكر الصديق الجيش الإسلامي بقيادة أبي عُبيدة بن الجرَّاح نحو الشام، فأفزع ذلك الروم، وخافوا خوفًا شديدًا، وكتبوا إلى هرقل يُعْلِمونه بما كان من الأمر، فقال لهم: إن هؤلاء أهل دين جديد، وإنهم لا قِبَلَ لأحدٍ بهم، فأطيعوني وصالحوهم على نصف خراج الشام، ويبقى لكم جبال الروم، وإن أنتم أبيتم ذلك أخذوا منكم الشام، وضيَّقوا عليكم جبال الروم، فرفضوا، فأعَدَّ الروم جيشًا كبيرًا، يتكوَّن من أربعين ومائتي ألف مقاتل، لملاقاة المسلمين. بعث أبو عبيدة بن الجرَّاح إلى أبي بكر الصديق يُعْلِمه بما اجتمع من جيش الروم باليرموك، ويطلب منه المزيد من المجاهدين. ثقة أبي بكر بقدرة خالد العسكرية: قال أبو بكر الصديق: والله، لأشغلن النصارى عن وساوس الشيطان بخالد بن الوليد. فكتب الصِّدِّيق عند ذلك إلى خالد بن الوليد أن يستنيب على العراق، وأن يذهب بمَنْ معه إلى الشام، فإذا وصل إليهم فهو الأمير عليهم، فإذا فرغ من أمر الروم، عاد إلى عمله بالعراق، فاستناب خالد المثنى بن حارثة على العراق، وسار مسرعًا في تسعة آلاف وخمسمائة من المجاهدين، وقطع المسافة في خمسة أيام فقط. وصية خالد للمجاهدين: لما وصل خالدٌ إلى الشام وجدَ الجيوش مُتفرِّقةً؛ فجيشُ أبي عبيدة وعمرو بن العاص ناحية، وجيش يزيد بن أبي سفيان وشرحبيل بن حسنة في ناحية، فأمرهم بالاجتماع، ونهاهم عن التَّفَرُّق والاختلاف. قام خالد في الناس خطيبًا، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: إن هذا يومٌ من أيام الله، لا ينبغي فيه الفخر ولا البغي، أَخْلِصوا جهادكم وأريدوا الله بعملكم، وإن هذا يوم له ما بعده لو رددناهم اليوم إلى خندقهم فلا نزال نردهم، وإن هزمونا لا نفلح بعدها أبدًا، فتعالوا نتبادل الإمارة، فليكن عليها بعضنا اليوم، والآخر غدًا، والآخر بعد غد، حتى يصبح كل منا أمير على الجيش، ودعوني اليوم إليكم، فأمَّرُوه عليهم، وهم يظنون أن الأمر يطول جدًّا، فخرجت الروم في تعبئة لم يُر مثلها قبلها قط، وخرج خالد في تعبئة لم تعبئها العرب قبل ذلك، فكان جيش المسلمين حوالي أربعين ألف مجاهد، منهم ألف من الصحابة، ومن هؤلاء الصحابة مائة من أهل غزوة بدر. تنظيم خالد لجيش المسلمين: قسَّم خالد الجيش الإسلامي إلى مجموعات، كل مجموعة تتكوَّن من ألف رجل عليهم أمير، وجعل أبا عبيدة في القلب، وعلى الميمنة عمرو بن العاص ومعه شرحبيل بن حسنة، وعلى الميسرة يزيد بن أبي سفيان، ووعظ المجاهدين عدد من الصحابة؛ منهم: أبو سفيان بن حرب، والمقداد بن الأسود، وعمرو بن العاص، وأبو هريرة، والزبير بن العوام، وسعيد بن زيد وغيرهم رضي الله عنهم أجمعين. مناظرة بين خالد وأحد قادة الرُّوم: طلب ماهان (أحد قادة الرُّوم) خالدًا ليبرز إليه فيما بين الصفين فيجتمعان في مصلحة لهم، فقال ماهان: إنا قد علمنا أن ما أخرجكم من بلادكم الجهد والجوع، فهلمُّوا إليَّ أُعْطِ كل رجل منكم عشرة دنانير وكسوة وطعامًا، وترجعون إلى بلادكم، فإذا كان من العام المقبل بعثنا لكم بمثلها، فقال خالد: إنه لم يخرجنا من بلادنا ما ذكرت، غير أنا قوم نشرب الدماء، وأنه بلغنا أنه لا دم أطيب من دم الروم، فجئنا لذلك. فقال أصحاب ماهان: هذا والله ما كنا نُحدِّث به عن العرب، وبدأت المعركة، واشتدَّ القتال، ثم حمل خالد بمن معه من المجاهدين على ميسرة جيش الروم التي حملت على ميمنة جيش المسلمين فأزالوهم إلى القلب، فقُتلَ من الروم في حملته هذه ستة آلاف، ثم قال خالد: والذي نفسي بيده، لم يبْقَ عندهم من الصبر والجَلَد غير ما رأيتم، وإني لأرجو أن يمنحكم الله أكتافهم، ثم اعترضهم فحمل بمائة فارس معه على نحو من مائة ألف، فما وصل إليهم حتى انفضَّ جمعهم، وحمل المسلمون عليهم حملة رجل واحد، فانكشفوا وتبعهم المسلمون لا يمتنعون منهم. خالد بن الوليد رجل المواقف: بينما كان المسلمون يقاتلون الروم، إذ قدم البريد من المدينة فدفع إلى خالد بن الوليد، فقال له: ما الخبر؟ فقال له - فيما بينه وبينه -: إن الصِّدِّيق رضي الله عنه قد توفي واستخلف عمر، واستناب على الجيوش أبا عبيدة عامر بن الجراح، فأسرها خالد ولم يُبْدِ ذلك للناس؛ لئلا يحصل ضعف ووهن في تلك الحال، وقال له والناس يسمعون: أحسنت، وأخذ منه الكتاب، فوضعه في كنانته، واشتغل بما كان فيه من تدبير الحرب والمقاتلة. إسلام أحد قادة الروم على يد خالد: خرج جرجه بن بوذيها ( أحدُ كبار أمراء الروم) من الصَّفِّ واستدعى خالد بن الوليد، فجاء إليه حتى اختلفت أعناق فرسيهما، فقال جرجه: يا خالد، أخبرني فاصدقني ولا تكذبني، فإن الحُرَّ لا يكذب، ولا تخادعني فإن الكريم لا يخادع المسترسل بالله، هل أنزل الله على نبيِّكم سيفًا من السماء، فأعطاكه، فلا تسلَّه على أحدٍ إلا هزمتهم؟ قال: لا! قال: فبم سميت سيف الله؟ قال: إن الله بعث فينا نبيَّه فدعانا فنفرنا منه ونأينا عنه جميعًا، ثم إن بعضنا صدَّقَه وتابَعَه، وبعضنا كذبه وباعده، فكنت فيمن كذَّبه وباعدَه، ثم إن الله أخذ بقلوبنا ونواصينا فهدانا به وبايعناه، فقال لي: ((أنت سيف من سيوف الله سَلَّه الله على المشركين)) ودعا لي بالنصر، فسُميت سيف الله بذلك، فأنا من أشدِّ المسلمين على المشركين، فقال جرجه: يا خالد، إلامَ تدعون؟ قال: إلى شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا عبده، قال: فمن لم يجِبْكم؟ قال: فالجزية ونمنعهم (نحميهم من أعدائهم)، قال: فإن لم يعطها، قال: نؤذنه بالحرب ثم نقاتله، قال: فما منزلة من يجيبكم ويدخل في هذا الأمر اليوم؟ قال منزلتنا واحدة فيما افترض الله علينا، شريفنا ووضيعنا وأولنا وآخرنا، قال جرجه: فلمن دخل فيكم اليوم من الأجر مثل ما لكم من الأجر والذخر؟ قال: نعم وأفضل، قال: وكيف يساويكم وقد سبقتموه؟ فقال خالد: إنا قبلنا هذا الأمر عنوة (بالقوة)، وبايعنا نبيَّنا وهو حي بين أظهرنا تأتيه أخبار السماء، ويخبرنا بالكتاب ويرينا الآيات، وحق لمن رأى ما رأينا، وسمع ما سمعنا أن يسلم ويُبايع، وإنكم أنتم لم تروا ما رأينا، ولم تسمعوا ما سمعنا من العجائب والحجج، فمن دخل في هذا الأمر منكم بحقيقة ونية كان أفضل منا (هذا تواضُع من خالد؛ لأنه ليس هناك أحدٌ في هذه الأُمَّة أفضل من أصحاب نبيِّنا صلى الله عليه وسلم)، فقال جرجه: بالله، لقد صدقتني ولم تخادعني؟ قال: تالله، لقد صدقتك، وإن الله ولي ما سألت عنه، فعند ذلك قلب جرجه التُّرْس ومال مع خالد، وقال: علِّمني الإسلام، فمال به خالد إلى فسطاطه (خيمته)، ثم صلَّى به ركعتين. وحملت الرُّوم مع انقلابه إلى خالد وهم يرون أنها منه حملة، فأزالوا المسلمين عن مواقفهم إلا المحامية عليهم عكرمة بن أبي جهل، والحارث بن هشام، فركب خالد وجرجه معه والرُّوم خلال المسلمين، فتنادى الناس وثابوا، وتراجعت الروم إلى مواقفهم، وزحف خالد بالمسلمين حتى تصافحوا بالسيوف، فضرب فيهم خالد وجرجه من لدن ارتفاع النهار إلى جنوح الشمس للغروب. وصلى المسلمون صلاة الظهر وصلاة العصر إيماءً، واستشهد جرجه (رحمه الله) ولم يُصَلِّ لله إلا تلك الركعتين مع خالد رضي الله عنهما. أكمل خالد ليلته في خيمة تدارق (أخو هرقل وقائد جيوش الروم)، وباتت الخيول تجول نحو خيمة خالد يقتلون مَنْ مَرَّ بهم من الرُّوم حتى أصبحوا، وقُتل تدارق بعد ذلك، وغنم المسلمون الكثير من الغنائم. وما فرح المسلمون بما وجدوا من الغنائم بقدر حزنهم على موت الصِّدِّيق حين أعلمهم خالد بذلك؛ ولكن عوَّضهم الله بالفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه. طارد خالد من انهزم من الروم حتى وصل إلى دمشق، فخرج إليه أهلها، فقالوا: نحن على عهدنا وصلحنا؟ قال: نعم. ثم اتبعهم إلى ثنية العقاب، فقتل منهم خلقًا كثيرًا، ثم ساق وراءهم إلى حمص، فخرج إليه أهلها فصالحهم كما صالح أهل دمشق. وقتل من الرُّوم في هذه المعركة أكثر من مائة ألف وعشرين ألفًا، واستشهد من المسلمين ثلاثة آلاف. تقوى المسلمين سبب انتصارِهم: قال هرقل (ملك الروم) وهو على إنطاكية لما قدمت منهزمة الروم: ويلكم! أخبروني عن هؤلاء القوم الذين يقاتلونكم أليسوا بشرًا مثلكم؟ قالوا: بلى، قال: فأنتم أكثر أم هم؟ قالوا: بل نحن أكثر منهم أضعافًا في كل موطن، قال: فما بالكم تنهزمون؟ فقال شيخ من عظمائهم: من أجل أنهم يقومون الليل ويصومون النهار، ويوفون بالعهد، ويأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، ويتناصفون بينهم، من أجل أنا نشرب الخمر، ونزني، ونركب الحرام، وننقض العهد، ونغضب الله، ونظلم ونأمر بالسخط، وننهى عما يرضي الله ونفسد في الأرض. فقال له هرقل: أنت صدقتني؛ (تاريخ الطبري، جـ 2، صـ342:335) (البداية والنهاية لابن كثير، جـ7، صـ16:4). حجة عمر بن الخطاب في عزل خالد: قال عمر بن الخطاب: حين عزل خالد بن الوليد عن الشام، والمثنى بن حارثة عن العراق: إنما عزلتهما ليعلم الناس أن الله نَصَرَ الدين، لا بنصرهما وأن القوة لله جميعًا؛ (البداية والنهاية لابن كثير، جـ7، صـ118). شبهات ورد عليها: (1) قتل خالد لبني جذيمة: روى البخاريُّ عَنْ عبدِالله بْنِ عُمَرَ، قَالَ: بَعَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ إِلَى بَنِي جَذِيمَةَ، فَدَعَاهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ فَلَمْ يُحْسِنُوا أَنْ يَقُولُوا: أَسْلَمْنَا، فَجَعَلُوا يَقُولُونَ: صَبَأْنَا صَبَأْنَا (أي: خرجنا من دين إلى دين) فَجَعَلَ خَالِدٌ يَقْتُلُ مِنْهُمْ وَيَأْسِرُ، وَدَفَعَ إِلَى كُلِّ رَجُلٍ مِنَّا أَسِيرَهُ حَتَّى إِذَا كَانَ يَوْمٌ أَمَرَ خَالِدٌ أَنْ يَقْتُلَ كُلُّ رَجُلٍ مِنَّا أَسِيرَهُ، فَقُلْتُ: وَاللَّهِ، لَا أَقْتُلُ أَسِيرِي وَلَا يَقْتُلُ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِي أَسِيرَهُ حَتَّى قَدِمْنَا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَذَكَرْنَاهُ فَرَفَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَهُ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَبْرَأُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ خَالِدٌ مَرَّتَيْنِ؛ (البخاري، حديث:4339). قال ابنُ سعد بعثَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم إِلَى بَنِي جَذِيمَةَ خالدَ بن الوليد في ثلاثمائة وخمسين من المهاجرين والأنصار داعيًا إلى الإسلام لا مقاتلًا؛ (فتح الباري لابن حجر العسقلاني، جـ7، صـ 654). قوله: (فَلَمْ يُحْسِنُوا أَنْ يَقُولُوا: أَسْلَمْنَا، فَجَعَلُوا يَقُولُونَ: صَبَأْنَا صَبَأْنَا). قال الخطابي: يُحتمل أن يكون خالد نقم عليهم العدول عن لفظ الإسلام؛ لأنه فهم عنهم أن ذلك وقع منهم على سبيل الأَنَفَة، ولم ينقادوا إلى الدين، فقتلهم متأولًا؛ (فتح الباري لابن حجر العسقلاني، جـ7، صـ 654). قوله: ((اللَّهُمَّ إِنِّي أَبْرَأُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ خَالِدٌ)) مَرَّتَيْنِ. قال الخطابي: أنكر النبي صلى الله عليه وسلم على خالد العجلة وترك التثبت في أمرهم قبل أن يعلم المراد من قولهم: صبأنا؛ (فتح الباري لابن حجر العسقلاني، جـ7، صـ 655). (2) قتل خالد لمالك بن نويرة: قدم خالد بن الوليد البطاح (اسم مكان) وبث السرايا، وأمرهم بداعية الإسلام أن يأتوه بكل من لم يجب، وإن امتنع أن يقتلوه، وكان ممَّا أوصى به أبو بكر إذا نزلتم منزلًا، فأذِّنوا وأقيموا، فإن أذَّن القوم وأقاموا، فكفوا عنهم، وإن لم يفعلوا فلا شيء إلا الغارة، ثُمَّ اقتلوهم، وإن أجابوكم إلى داعية الإسلام فسائلوهم، فإن أقرُّوا بالزكاة فاقبلوا منهم، وإن أبوها فلا شيء إلا الغارة ولا كلمة، فجاء الجنود بمالك بن نُويرة في نفر معه من بني ثعلبة بن يربوع، فاختلفت السرية فيهم وفيهم أبو قتادة، فكان فيمن شهد أنهم قد أذنوا وأقاموا وصلوا، فلما اختلفوا فيهم أمر خالد بهم فحبسوا في ليلة باردة لا يقوم لها شيء، وجعلت تزداد بردًا، فأمر خالد مناديًا فنادى: أدفئوا أسراكم، وكانت في لغة كنانة إذ قالوا: دثروا الرجل فأدفئوه، دِفْئُهُ قَتْلُهُ، وفي لغة غيرهم: أَدْفِهِ فَاقْتُلْهُ، فظن القوم- وهي في لغتهم القتل- أنه أراد القتل، فقتلوهم، فقتل ضرار بن الأزور مالك بن نويرة، وسمع خالد نساء يبكين، فخرج وقد فرغوا منهم، فقال: إذا أراد الله أمرًا أصابه، وقد اختلف القوم فيهم، فقال أبو قتادة: هذا عملك فنهره خالد، فغضب أبو قتادة، ومضى حتى أتى أبا بكر الصِّدِّيق، فأخبره فغضب عليه أبو بكر حتى كلمه عمر فيه، فلم يرضَ إلا أن يرجع إليه، فرجع إليه حتى قدم معه المدينة، وتزوَّج خالد زوجة مالك بن نويرة، وتركها لينقضي طُهْرها، وكانت العرب تكره النساء في الحرب وتُعايره، فكتب أبو بكر الصديق إلى خالد أن يقدم عليه ففعل، فأخبره خالد بما حدث، واعتذر له عن ذلك الخطأ، فقبل أبو بكر منه عذره؛ ولكنه عاتبه في زواجه من امرأة مالك؛ لأن هذا الأمر كانت العرب تعتبره عيبًا في الحرب؛ (تاريخ الطبري، جـ 2، صـ 273:272). وصية خالد بن الوليد: دخل أبو الدرداء عائدًا خالد بن الوليد، فقال خالد: إن خيلي وسلاحي على ما جعلته في سبيل الله عز وجل، وداري بالمدينة صدقة، قد كنت أشهدت عليها عمر بن الخطاب، ونعم العون هو على الإسلام، وقد جعلت وصيتي وإنفاذ عهدي إلى عمر، فقدم أبو الدرداء بالوصية على عمر، فقبلها وترحَّم عليه؛ (صفة الصفوة لابن الجوزي، جـ1، صـ 654). وفاة خالد بن الوليد: قال أبو وائل: لما حضرت خالدًا الوفاة، قال: لقد طلبت القتل في مظانِّه، فلم يُقَدر لي إلا أن أموت على فراشي، وما من عملي شيء أرجى عندي بعد أن لا إله إلا الله من ليلة بِتُّها وأنا متترِّس والسماء تهلني تمطر إلى صُبْحٍ حتى نُغِيرَ على الكُفَّار؛ (الإصابة لابن حجر العسقلاني، جـ1، صـ415)). قال أبو الزناد: لما حضرت خالدَ بن الوليد الوفاةُ بكى، وقال: لقد لقيت كذا وكذا زحفًا (مائة معركة) وما في جسدي شبر إلا وفيه ضربة بسيف أو رمية بسهم أو طعنة برمح، وها أنا أموت على فراشي حتف أنفي كما يموت البعير، فلا نامَتْ أعيُنُ الجبناء، وما من عمل أرجى من "لا إله إلا الله" وأنا متترِّس (متمسِّكٌ) بها؛ (أسد الغابة لابن الأثير، جـ 1، صـ 671) (صفة الصفوة لابن الجوزي، جـ1، صـ 654). تُوفي خالد بن الوليد بمدينة حِمْص بسورية، سنة إحدى وعشرين، وكان عمره ستين سنة؛ (سير أعلام النبلاء للذهبي، جـ1، صـ 367). خِتَامًا: أَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى بِأَسْمَائِهِ الْـحُسْنَى وَصِفَاتِهِ الْعُلا أَنْ يَجْعَلَ هَذَا الْعَمَلَ خَالِصًا لِوَجْهِهِ الْكَرِيمِ، كما أسألهُ سُبْحَانَهُ أن ينفعَ به طلابَ العِلْمِ الكِرَامِ، وأرجو كُل قارئ كريم أن يدعوَ اللهَ سُبْحَانَهُ لي بالإخلاصِ، والتوفيقِ، والثباتِ على الحق، وحُسْنِ الخاتمة، فإن دعوةَ المسلمِ الكريم لأخيه المسلمِ بظَهْرِ الغَيْبِ مُسْتجَابةٌ، وأختِمُ بقولِ الله تعالى: ﴿ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ [الحشر: 10]. وآخِرُ دَعْوَانَا أَنِ الْـحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَصَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ عَلَى نبيِّنا مُـحَمَّدٍ وَآلهِ وَأَصْحَابِهِ وَالتَّابِعِينَ لَـهُمْ بِإِحْسَانٍ إلَى يَوْمِ الدِّينِ.
وظائف غبَّر عليها الذكاء الاصطناعي ودور البشر حِيالَها في المستقبل لم أجد تعبيرًا واقعيًّا دقيقًا أصف به حال كثير من الوظائف التي أثر -أو سيؤثر- عليها الذكاء الاصطناعي أفضل من فعل "التغبير"، وما ذلك إلا من باب اجتناب السوداويَّة والتشاؤم من المستقبل من جانب، والنظر إلى مآلات الذكاء الاصطناعي بعين العقل البشري -الذي لن يُغلَب أبدًا- من جانبٍ آخر، ورغم وصف أغلب الخبراء حال بعض هذه الوظائف بأن الذكاء الاصطناعي قد محاها من الوجود، فإن الشواهد في الواقع تشير إلى أن ثمة وظائفَ عديدةً تكاد توشك على الاختفاء بالفعل، ووظائف أخرى في طريقها للنسيان وعدم الحاجة إليها في بعض البلاد دون بلادٍ أخرى، ويعود السبب في ذلك إلى ثقافة البلد من جهة، وإلى الاستغراق في استخدام وسائل التكنولوجيا من جهة أخرى، وكلا السببين يؤثر كلاهما في الآخر؛ فالثقافة قد تقف عائقًا أمام استخدام التكنولوجيا أحيانًا، كما أن التكنولوجيا قد تغير في الثقافة الكثير، وبين كل ذلك تتأثر الوظائف، ويقل الاهتمام ببعض المهارات، وتُستحدَث وظائف جديدة، ويتركَّز الاهتمام على مهارات حديثة. ليس هناك ما يؤكد -في الحقيقة- أن وظائف معينة ستختفي في ظل استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي؛ ولكن قد تصبح بعض الوظائف أقل شيوعًا من غيرها، أو تتطلب عمالة يدوية بقدر قليل مع تقدُّم تقنيات الذكاء الاصطناعي والأتمتة. وتتمثل هذه الوظائف في بعض الأعمال اليدوية أو المهام المتكررة؛ مثل: إدخال البيانات، ومسك الدفاتر، والتسجيل اليومي التفصيلي للمعاملات المالية، وتدوين الحركات الحسابية، وتسجيل عمليات البيع والشراء... إلخ، بالإضافة إلى بعض الوظائف التي يُطلَق على شاغليها المصطلح الغربي "ذوو الياقات البيضاء" White-collar worker، والتي في الغالب تكون أعمال مكتبية؛ مثل: خدمة العملاء، وبعض المهام الإدارية، ووظائف أخرى. ينبغي ملاحظة أن الذكاء الاصطناعي -رغم كل ذلك- قد يوفر فُرَصَ عملٍ جديدةً في مجالات متنوِّعة، مثل تحليل البيانات، وهندسة وتطوير البرمجيات، والتعلم الآلي، ووظائف الأمن السيبراني. وسيستند التأثير الدقيق للذكاء الاصطناعي على وظائف محددة إلى مجموعة متنوعة من العوامل، منها: سرعة التقدُّم التكنولوجي، واستعداد الشركات لاعتماد الذكاء الاصطناعي في عملها، والبيئة التنظيمية لكل ذلك في حين لا بُدَّ للبشر من التحلِّي ببعض القيم والمهارات من أجل مواكبة هذه التغيرات، ومن أهم هذه القيم: الاستباقية، والإبداع، والأصالة، والواقعية (ويقصد بها متابعة الواقع، ومراقبة ما يحدث فيه خارج عالم الأجهزة الإلكترونية)، وأن يتابعوا بوجه مستمر تأثير الذكاء الاصطناعي على الصناعات المختلفة، وأن يكونوا على استعداد للتكيُّف والتطوُّر مع استمرار التكنولوجيا في تغيير سوق العمل. وقد أصبحت تقنيات الذكاء الاصطناعي أكثر قدرة على أداء كثير من المهام والأعمال في بعض الوظائف، وقد يمكن أتمتة العديد منها؛ مما يُقلِّل من أعداد هذه الوظائف، ويجعل شاغليها زائدين عن الحاجة، وقد يؤدي ذلك إلى انحصار دورهم في بعض المهارات والمهام الدقيقة التي تعجز تقنيات الذكاء الاصطناعي –حتى الآن- عن تنفيذها، ومن أهم هذه المهارات: الإبداع، والأصالة، والتواصل، وتكوين العلاقات، والتعاطف، ومهارات تفسير الأحداث، واللمسات الشخصية، ومن هذه الوظائف التي تأثرت -أو ستتأثر- بالذكاء الاصطناعي ما يأتي: 1.  مدير التسويق Marketing Manager : بإمكان تطبيقات الذكاء الاصطناعي الآن تحليل اتجاهات الأسواق وسلوكات المستهلكين؛ وذلك لتطوير استراتيجيات تسويقية فعَّالة، وغالبًا ما تتضمن الوظائف في التسويق إجراء مكالمات مبيعات متكررة للعملاء المحتملين عبر الهاتف، ومع تقدُّم روبوتات الدردشة chatbot المدعومة بالذكاء الاصطناعي، قد يصبح من الممكن أتمتة العديد من هذه المهام؛ مما يُقلِّل من عدد وظائف مديري التسويق البشريين، ويجعلهم زائدين عن الحاجة، ويمكن أن ينحصر دورهم فقط فيما يتعلق بمشاعر التعاطف، والتواصل الشخصي، وتكوين العلاقات العامة، والتنبؤ بتغيرات السوق وتقلُّباته، والقدرة على بناء بيئة تعليمية داعمة للعمل التسويقي. 2. الصِّحافي Journalist : يمكن للذكاء الاصطناعي كتابة مقالات وقصص إخبارية بحيادية، ودقة، وسرعة بالغة، وفي ظل تمتع الذكاء الاصطناعي بتقنيات متعددة أهلته لإنشاء محتوى مكتوب، فيمكنه إتمام العديد من هذه المهام؛ مما يقلل من أعداد الوظائف في مجال الصحافة، ويجعل الكثير من الصحافيين البشر زائدين عن الحاجة، وقد ينحصر دورهم فقط فيما يتعلق بمشاعر التعاطف، ومهارات تفسير الأحداث، والمقارنة بينها بالتماشي مع الوقائع الراهنة، أو السوابق التاريخية المماثلة لها. 3.صانع المحتوى Content Creator : يمكن لتطبيقات الذكاء الاصطناعي إنشاء محتوى مصمَّم جيدًا، ومنمَّق، ومرتب، ومنسَّق إلى درجة تجعل الكثير لا يصدقون أن تطبيقًا قد كتبه؛ مما يجعل صانعي المحتوى البشريين زائدين عن الحاجة، وقد ينحصر دورهم فقط فيما يتعلق بمهارات الإبداع، والأصالة، واللمسة الشخصية. 4.محلل البيانات Data Analyst : يمكن للذكاء الاصطناعي معالجة وتحليل كميات كبيرة من البيانات، بصورة أسرع وأكثر دقة من البشر؛ مما أدى (أو سيؤدي) إلى فقدان كثير من وظائف محللي البيانات، وقد ينحصر دور البشر حيال هذه الوظيفة مستقبلًا في القدرة على فهم أنماط البيانات المعقدة، واتخاذ قرارات مستنيرة بناءً على المعلومات، بعقلٍ واعٍ ومدرك للأبعاد الخارجية التي لا تشملها هذه البيانات؛ مثل ظروف المجتمع، والبيئة المحيطة، وحالة الثقافة، والأوضاع الاجتماعية الراهنة. 5.ممثل خدمة العملاء Customer Service Representative : يمكن للذكاء الاصطناعي التعامل مع استفسارات العملاء والشكاوى بسرعة وكفاءة، من خلال قنوات أو اتصالات صوتية، أو روبوتات الدردشة chatbot المدعومة بالذكاء الاصطناعي، والتي أصبحت أكثر تقدمًا؛ مما قد يقلل من أعداد وظائف ممثلي خدمة العملاء البشريين، وانحصار دورهم، إلا فيما يتعلق بمشاعر التعاطف، والقدرة على فهم أنماط السلوكات البشرية والتعامل معها بإنسانية، لا سيَّما سلوكات الغضب، وكذلك مهارات الإبداع في التسويق وسرد العروض. 6.محلل الماليات Financial Analyst : يمكن للذكاء الاصطناعي تحليل البيانات المالية واتخاذ قرارات بناءً عليها؛ مما يجعل المحللين الماليين البشريين زائدين عن الحاجة، إلا فيما يتعلق بمشاعر التعاطف، والقدرة على فهم احتياجات الأفراد والاستجابة لها. 7.مدير الإنتاج Product Manager : يمكن للذكاء الاصطناعي تحليل اتجاهات السوق وسلوك المستهلك؛ وذلك لتطوير استراتيجيات فعَّالة لخطوط الإنتاج، وتقليل الهدر والإنفاق؛ مما يجعل كثيرًا من مديري الإنتاج البشريين زائدين عن الحاجة، وكذلك في مهام العمل اليدوية في التصنيع، مثل تجميع المنتجات، وتشغيل الآلات، وتعبئة البضائع. ونظرًا لأن الروبوتات، وأنظمة التشغيل الآلي أصبحت أكثر تقدُّمًا واعتمادًا على نطاق واسع، فقد يصبح من الممكن أتمتة العديد من هذه المهام؛ مما قد يقلل من عدد وظائف العمل اليدوي في قطاع التصنيع والإنتاج كذلك، إلا فيما يتعلق بالقدرة على فهم الأفكار المالية المعقدة، وتفسير البيانات بطريقة هادفة، والواقعية في إصدار القرارات بناءً على الوضع الراهن في المصانع، وفيما يتعلق بخطط الأسعار غير المؤكدة للخامات. 8.مدير الموارد البشرية HR Manager : يمكن لتقنيات الذكاء الاصطناعي التعامل مع مهام وظيفة مدير الموارد البشرية، مثل: التوظيف، وتقييم أداء الموظفين، ومعالجة كشوف المرتبات؛ مما يجعل مديري الموارد البشرية -من البشر- زائدين عن الحاجة، إلا فيما يتعلق بالقدرة على فهم أنماط السلوكات البشرية، والتعاطف، والإبداع في تطوير العمل. 9.مدير التواصل الاجتماعي Social Media Manager : بإمكان تطبيقات الذكاء الاصطناعي إدارة وتحليل تفاعلات الجمهور على منصات التواصل الاجتماعي؛ مما يجعل شاغلي هذه الوظيفة من البشر زائدين عن الحاجة، إلا فيما يتعلق بمشاعر التعاطف، والقدرة على فهم بعض المحادثات والتعليقات معقدة الصياغة بين الأفراد نظرًا للتنوع الثقافي، وكذلك القدرة على فهم احتياجات الأفراد والاستجابة لها. 10. السكرتير القانوني Legal Secretary : كما يمكن لتطبيقات الذكاء الاصطناعي التعامل مع الأوراق والبحوث القانونية؛ مما يجعل شاغلي وظيفة السكرتارية القانونية البشريين زائدين عن الحاجة، إلا فيما يتعلق بمشاعر التعاطف، والقدرة على فهم احتياجات الفرد والاستجابة لها. 11.   موظف الاستقبال الطبي Medical Receptionist : ويمكن لتطبيقات الذكاء الاصطناعي التعامل مع المهام الإدارية في المكاتب والعيادات الطبية؛ مما يجعل موظفي الاستقبال الطبي البشريين زائدين عن الحاجة، إلا فيما يتعلق بالقدرة على فهم اللوائح القانونية والتنظيمية للمؤسسة، وتفسير البيانات. 12.   مصمم الجرافيك Graphic Designer : يمكن للذكاء الاصطناعي إنشاء تصميمات جذابة بصريًّا، وبجودة عالية جدًّا، وبأساليب متنوعة حسب طلب المستخدم؛ بل يمكن لأدوات الذكاء الاصطناعي المتخصصة في توليد التصميمات أن تفهم وتترجم النصوص إلى صور مصممة باحترافية عالية؛ مما يجعل مصممي الجرافيك البشريين زائدين عن الحاجة، إلا فيما يتعلق بمشاعر التعاطف، والقدرة على فهم احتياجات الأفراد والاستجابة لها. 13.   مؤلف الإعلانات Copywriter : يمكن لأدوات الذكاء الاصطناعي أن تكتب قصص لإعلانات ذات حجج وشواهد دامغة بدرجة كبيرة، وبأفكار حيوية ومقنعة في أحيان كثيرة؛ مما يجعل مؤلفي الإعلانات البشريين زائدين عن الحاجة، إلا فيما يتعلق بمهارات الإبداع، والأصالة، والواقعية، واللمسة الشخصية. 14.   مطور الويب Web Developer : يمكن لأدوات الذكاء الاصطناعي تطوير، وصيانة مواقع الويب؛ مما يجعل مطوري الويب البشريين زائدين عن الحاجة، إلا فيما يتعلق بمشاعر التعاطف، وتفسير السياق الاجتماعي والثقافي، والقدرة على سرد محتوى ترويجي مقنع للموقع، يتماشى مع أهدافه ومحتواه. 15.   أمين المكتبة Librarian : يمكن للذكاء الاصطناعي إدارة موارد المكتبة، ومساعدة روَّادها في البحث عن الكتب، كما يمكن لأدوات الذكاء الاصطناعي أن تُصنِّف الكُتُب وَفْق بنود كثيرة ومتنوعة قد يمل الإنسان إذا أراد تنفيذها؛ بل يمكنها أن تتعمَّق في محتوى الكتب لتسرد ملخصًا لكل كتاب؛ ممَّا يُسهِّل عملية انتقاء الكتب على روَّاد المكتبة وَفْق حاجتهم، وقد يجعل أمناء المكتبات البشريين زائدين عن الحاجة، إلا فيما يتعلَّق بمهارات الإبداع، والأصالة، واللمسة الشخصية، والقدرة على نقل الكتب، وترصيصها، وترتيبها يدويًّا، والاهتمام والعناية بها. 16.   المترجم Translator : يمكن لأبسط أدوات الذكاء الاصطناعي ترجمة النصوص المكتوبة في التوِّ واللحظة؛ بل يمكن لبعض هذه الأدوات أن تترجم الكلام المسموع كذلك، مما قد يجعل المترجمين البشريين زائدين عن الحاجة، إلا فيما يتعلق بالقدرة على فهم الجُمَل والمصطلحات المعقَّدة، وتفسير البيانات والمعلومات الملتبسة، وتفكيك حبائل الاستعارات والكنايات البلاغية في بعض النصوص. 17.   مصمم الديكور الداخلي Interior Designer : يمكن لتطبيقات الذكاء الاصطناعي إنشاء تصميمات داخلية لغرف وشقق ومنازل ومبانٍ متنوعة، بأساليب جذَّابة بصريًّا، وقابلة للتنفيذ بسهولة؛ مما يجعل مصممي الديكور البشريين زائدين عن الحاجة، إلا فيما يتعلق بالقدرة على فهم السياق الثقافي، وتمثيل المعاني والمشاعر والعواطف في التصميم النهائي. 18.   مسؤول الحسابات Bookkeeper : يمكن لأدوات الذكاء الاصطناعي إدارة السجلات المالية، وأداء المهام المحاسبية الأساسية، وتسجيل عمليات البيع والشراء إلكترونيًّا، وإنشاء القيود الحسابية اليومية، كما تنطوي الوظائف في القطاع المالي والمحاسبي على مهام متكررة؛ مثل: مسك الدفاتر، ومعالجة المطالبات، وتسوية الحسابات، ومع تقدُّم الذكاء الاصطناعي، وخوارزميات التعلُّم الآلي، قد يصبح من الممكن أتمتة العديد من هذه المهام؛ مما يُقلِّل من عدد الوظائف المالية والمحاسبية التي تتطلب عملًا يدويًّا متكررًا، ويجعل كثيرًا من مسؤولي الحسابات البشريين زائدين عن الحاجة، إلا فيما يتعلق بالإبداع، والأصالة، واللمسات الشخصية. 19.   موظف الاستقبال Receptionist : يمكن للذكاء الاصطناعي التعامل مع المهام الإدارية في الفنادق والمؤسسات، مثل الرد على الهاتف، والإجابة عن الاستفسارات والاستعلامات؛ مما يجعل موظفي الاستقبال البشريين زائدين عن الحاجة، إلا فيما يتعلق بالقدرة على فهم المعاملات المالية المعقَّدة، وتفسير البيانات بصورة هادفة، وكذلك مشاعر التعاطف، والقدرة على فهم احتياجات الأفراد والاستجابة لها. 20.   المعلم Teacher : يمكن لتطبيقات الذكاء الاصطناعي أن توفر خبرات تعليمية عديدة للطلاب، مثل المحتوى الذكي، والروبوتات التعليمية الذكية، وأنظمة التدريس الخصوصي الذكي، والواقع الافتراضي، وأتمته المهام الإدارية، كما يمكن للذكاء الاصطناعي توصيف المتعلمين وتصنيفهم، والتنبُّؤ بأدائهم، وتقييمهم وتقويمهم؛ مما قد يجعل بعض المعلمين البشريين زائدين عن الحاجة في بعض المدارس، إلا فيما يتعلق بفهم السياق الاجتماعي والثقافي، والقدرة على إيصال المعلومة بأسلوب يتماشى مع حالة الطلاب في الواقع، ومراعاة المشاعر والعاطفة لديهم. 21. مدخل البيانات Data Entry : تتضمن الوظائف في هذا المجال مهام متنوعة؛ مثل: نسخ المعلومات ومعالجتها من المستندات المادية أو الرقمية إلى أنظمة الكمبيوتر، أو معالجة كميات كبيرة من البيانات، أو التحقق من دقتها، ومع تقدُّم الذكاء الاصطناعي، وخوارزميات التعلُّم الآلي، فقد يصبح من الممكن أتمتة العديد من هذه المهام؛ مما يؤدي إلى فرص عمل أقل للعاملين في إدخال البيانات والمعالجة.
جهود العلماء المصريين في علم الوقف والابتداء لهادي حسين الحرباوي صدر حديثًا كتاب " جهود العلماء المصريين في علم الوقف والابتداء "، تأليف: د. " هادي حسين عبد الله الحرباوي "، نشر: " دار خَيْرِ زَادٍ للنشر والتوزيع ". وهذا الكتاب يضم تعريفًا وترجمة لجهود العلماء المصريين في علوم القراءات، وخاصةً في علم الوقف والابتداء، "فقد اقتضت حكمة الباري جل وعلا أن تكون علوم العربية، وعلوم القرآن الكريم، بل علوم الشريعة الغراء كلها متلاحمة، تنبثق عنها وحدة عضوية متكاملة لا انفصام لأحدها عن الآخر، ولا غنى له عنه، ويمثل علم الوقف والابتداء حلقة من هذه السلسلة المباركة العجيبة، فهو يرتبط ارتباطًا وثيقًا بكثير من العلوم وفي مقدمتها علوم اللغة العربية والتفسير والقراءات... وغيرها". وهو ما أشار إليه الإمام ابن مجاهد بقوله: "لا يقوم بالتمام في الوقف إلا نحوي عالم بالقراءات، عالم بالتفسير والقصص، وتلخيص بعضها من بعض، عالم باللغة التي نزل بها القرآن". وعلم الوقف والابتداء هو علم يختص بدراسة الكلمات القرآنية يعرف به ما يوقف عليه وما يبتدأ به من حيث ما يجوز أو ما يمنع أو ما يحسن أو ما يقبح الوقف عليه، وباب الوقف والابتداء له أهمية كبرى لأن الوقف الخطأ قد يغير المعنى ويحرف ما أراده الله عز وجل. قال الإمام ابن الجزري: وَبَعْدَ تَجْوِيدِكَ لِلْحُرُوفِ لاَبُدَّ مِنْ مَعْرِفَةِ الْوُقُوفِ وَالاِبْتِدَاءِ، وَهْيَ تُقْسَمُ إِذَنْ ثَلاَثَةً: تَامٌ، وَكَافٍ، وَحَسَنْ ويأتي هذا البحث ليجيب عن الأسئلة التالية: 1- ما المراد بالوقف والابتداء وما أقسامهما؟ 2- من أول من ألف في هذا العلم من العلماء المصريين، وما هي أول المؤلفات التي خرجت إلى النور؟ 3- هل تأثر علماء الوقف والابتداء بما كتبه العلماء المصريون في هذا المجال؟ 4- هل هناك مباحث أو أبواب متعلقة بالوقف والابتداء في كتب القراءات والتجويد وعلوم القرآن؟ 5- ما هو دور العلماء المصريين في وضع علامات الوقف في المصحف الشريف؟ 6- هل اقتصرت جهود العلماء المصريين على الكتابة والتأليف فقط؟ ويهدف هذا البحث إلى: 1- إبراز جهود علماء مصر في التأليف في علم الوقف والابتداء. 2- بيان المؤلفات المستقلة والضمنية لعلماء مصر في هذا العلم. 3- تأصيل تاريخي لعلماء مصر في هذا العلم. 4- أن التأليف في هذا العلم لم يقتصر على علماء القراءات فقط وإنما كان لعلماء اللغة والتجويد وعلوم القرآن مشاركة إيجابية وفاعلة في هذا العلم. 5- تكمن أهمية هذا البحث في أنه يبرز دور علماء مصر في وضع علامات الوقف الموجودة في أكثر المصاحف الآن. واتبع الكاتب في دراسته المنهج الاستقرائي التاريخي الوصفي التحليلي، الذي يقوم على تتبع مؤلفات علماء مصر في علم الوقف والابتداء حسب التسلسل الزمني مع وصف وتحليل لهذه المؤلفات على قدر الإمكان. وقد اقتضت طبيعة هذا البحث أن يتكون من مقدمة وتمهيد وأربعة فصول وخاتمة: أما المقدمة: تناول فيها الكاتب أهمية الموضوع، وأسئلة البحث، وأهدافه، ومنهج البحث، والدراسات السابقة. وأما التمهيد: فتحدث فيه الكاتب عن تعريف الوقف والابتداء وأقسامهما. وأما الفصل الأول: فيتضمن التأليف الاستقلالي للعلماء المصريين في الوقف والابتداء. ويشتمل على خمسة مباحث: المبحث الأول: كتاب "القطع والائتناف" لأبي جعفر النحاس (ت 338 هـ). المبحث الثاني: كتاب "المقصد لتلخيص ما في المرشد" للشيخ زكريا الأنصاري (ت 926 هـ). المبحث الثالث: كتاب "منار الهدى في بيان الوقف والاهتداء" للأشموني من علماء القرن الحادي عشر الهجري. المبحث الرابع: كتاب "معالم الاهتداء إلى معرفة الوقوف والابتداء" للشيخ الحصري (ت 1400 هـ). المبحث الخامس: كتاب "الوقف والابتداء وصلتهما بالمعنى في القرآن الكريم" د/ عبد الكريم صالح. وأما الفصل الثاني: فجعله الكاتب تحت عنوان: "التأليف الضمني لعلماء مصر في علم الوقف والابتداء" ويشتمل على ثلاثة مباحث: المبحث الأول: كتب القراءات. وفيه مطلبان: المطلب الأول: كتاب "شرح طيبة النشر" للإمام النويري (ت 857 هـ). المطلب الثاني: كتاب "لطائف الإشارات لفنون القراءات" للإمام القسطلاني (ت 923 هـ). والمبحث الثاني: كتب علوم القرآن، وفيه أربعة مطالب: المطلب الأول: كتاب "البرهان في علوم القرآن" للحوفي (ت 430 هـ). المطلب الثاني: كتاب "جمال القراء وكمال الإقراء" للسخاوي (ت 643 هـ). المطلب الثالث: كتاب "البرهان في علوم القرآن" للزركشي (ت 794 هـ). المطلب الرابع: كتاب "الإتقان في علوم القرآن" للسيوطي (ت 911 هـ). وأما الفصل الثالث: فتناول: جهود العلماء المصريين في وضع علامات الوقف في المصحف الشريف. وأما الفصل الرابع: فتناول المؤلف فيه جهودًا أخرى غير التأليف. وأما الخاتمة: فتضمنت أهم نتائج البحث وتوصياته. ثم ذُيِّلَ البحث بالفهارس العلمية التي تخدم البحث كفهرس المصادر والمراجع وفهرس الموضوعات. والمؤلف هو د. "هادي حسين عبد الله الحرباوي"، أستاذ القراءات وعلومها المساعد، ووكيل كلية القرآن الكريم للدراسات العليا والبحوث بجامعة الأزهر الشريف، له من المؤلفات: 1- كتاب "معايير الاختيار عند الإمام أبي بكر أحمد بن عبيد الله بن إدريس من خلال كتابه (المختار في معاني قراءات أهل الأمصار)". 2- كتاب "توجيه القراءات للإمام ابن الجزري.. جمع ودراسة". 3- كتاب "اختيارات الإمام الداني في الوقف والابتداء". 4- كتاب "جهود العلماء المصريين في علم الوقف والابتداء". 5- كتاب "القراءات بين الإهمال والإعجام وأثرها في المعنى".
ترجمة الفاضل العلامة أبي نصر محمد أعظم البُرناآبادي إن التاريخ الإسلامي مليء بالعلماء الأعلام، والفطاحل العِظام، ولا بد في مجال تطوير الذات والوصول إلى الأهداف السامية من معالمَ يقتدي الإنسان بنورها، ومن تُخوم ينجو الإنسان من أوحال الطريق بضوئها، ومن نحاريرَ تنفخ في قلب السالك روحَ التضحية لخدمة الناس ورضا ربها، وهذه الترجمة على وجازتها، وصل إليَّ معظم أجزائها عن طريق ابن العلامة الشيخ الفاضل مولوي فضل أحمد أبي الفتح حفظه الله، وسمعت بعضها من أبي ومرشدي الشيخ العلامة محمد معصوم حفظه الله، عن أبيه الشيخ الزاهد واللبيب الفاضل شيخ عبدالكريم رحمه الله؛ الذي كان صديقًا للعلامة البُرناآبادي، وفي هذه الترجمة الموجزة أذكر ما يأتي: أولًا: اسمه ونسبه وولادته: هو الإمام العلامة أبو نصر محمد أعظم بن كداي محمد بن عبدالرحمن بن عبدالبقا بن محمد حسين بن درويش بن عبدالواحد بن صالح. تشير التقارير إلى أن العلامة مولانا محمد أعظم وُلد في قرية بُرناآباد [1] عام 1313 هـ أو 1314 هـ، ونشأ وترعرع في قرية بُرناآباد؛ حيث كانت بُرناآباد - مسقط رأس العلامة - تُعَدُّ من أعظم قرى هراة في ذلك الوقت، وفي ذلك الأوان وقبله كان هناك علماء ونبلاء في هذه القرية، وبقيت أماكن مباركة وتاريخية منها حتى الآن. ثانيًا: حياته العلمية ورحلاته: يحكي العلامة الفاضل عن نفسه ويقول: "في السابعة من عمري، أرسلني والداي غفر الله لهما إلى المسجد؛ لتعليم الدروس الابتدائية، فقرأت القرآن الكريم بالطريقة التقليدية مع بعض الكتب الفارسية، ومختصرات من الكتب الفقهية عند بعض رجال الدين في قرية بُرناآباد، ثم أدركني الفتور والكسل عندما كنت مراهقًا؛ لأجل الصِّبا واشتغال الأقران بالدنيا، وإعراضهم عن تحصيل العلوم الدينية". وهذا الأمر يحدث لطالب العلم كثيرًا، حين يشاهد الناس يُقْبِلون على الحِرَف والصنعة والتجارة فيُساوره الفتور والكسل، وتتناقص رغبته في تعليم العلوم الدينية والإقبال عليها بجدٍّ واجتهاد، لا سيما إذا كان الطالب في المرحلة الابتدائية، ولم يستكمل خبرته وتجاربه، ولهذا يوصي علماء النفس كثيرًا الأولياء والمربين بالاعتناء بشأن الأولاد، وتحفيزهم إلى الإقبال على التعليم، وإزالة العراقل الموجودة أمام الدروس. "وعندما بلغت الخامسة عشرة من عمري عام 1329 هـ، منَّ الله عليَّ فوجدت في نفسي شوقًا إلى طلب العلم، وخرجت بحثًا في سبيل العلم، لكن منع حب أبي وأمي الشديد من السماح لي بالذهاب إلى القرى البعيدة لأجل طلب العلم، فخرجت إلى مديرية غوريان القريبة من بُرناآباد، وبدأت بتعلم الكتب الفقهية، فقرأت مجلدات من الكتب الفقية عند الشيخ ملا محمد الخوافي غفر الله له، ومجلدين من شرح الوقاية والهداية إلى كتاب الشفعة، وشيئًا من المستخلص، وأتممت عين العلم وشيئًا من كتاب الطريقة المحمدية عند الشيخ ملا محمد أسلم آخوند صاحب الغنجاني". لا ينكر شفقة الوالدين لأولادهم، وحبهم الشديد لهم، فالأولاد أكبادهم يمشون على الأرض، ولكن هذا الشغف وذلك الحب لا ينبغي أن يقف أمام الدرس والتعليم والمكابدة لأجله، وهذا لا يعني معاملة الأودلاد بالقسوة وترك الرحمة باسم التضحية لأجل الدرس والتعليم، فكل شيء يحسن استخدامه في إطاره. "بعد ذلك ذهبت إلى هراة، وقدَّر الله أن أستقر في قرية (نوين سفلى) مسجد قاضي أفضل، فقرأت أصولَ الشاشي في علم أصول الفقه، وكتبًا في علم الصرف، عند العالم الفاضل ملا قادر في قرية گرازان، ثم قرأت كتب النحو إلى كتاب الفوائد الضيائية للشيخ عبدالرحمن الجامي عند الشيخ الصوفي مولانا ميرزا ​​محمد أعظم بن ميرزا ​​محمد أسلم خان؛ الذي كان في عصره عالمًا متبحرًا في العلوم الدينية، وعَلَمًا يُقتدَى به في الأخلاق والآداب الإسلامية، وكان مع ذلك رحيمًا رفيقًا رحمه الله، وتقبل مساعيه وخدماته". كم يشتاق طالب العلم الذي أصابته مصيبة الغربة، وأحاطت به هموم العزلة إلى أنيس يزيل عنه الدهشة، وجليس يدخل في قلبه السرور والفرحة! ولا يذوق هذه المعاني إلا من لمس عذاب الغربة، وأضنى قلبه السفر والرحلة، فالأستاذ الشفيق هو أفضل دواء يجده الإنسان في السفر، وهو الذي يبقى ذكره الحلو في قلب الإنسان في الحضر. "بعد ذلك انتقلت إلى مدينة هراة، وسكنت في مسجد قاضي جنوب (چهار باغ)، فقرأت (مير إيساغوجي) و(بديع الميزان) عند بعض العلماء، وقرأت (القطبي في شرح الشمسية) عند مولانا فقير محمد قلعه كاهي رحمه الله، ثم منَّ الله عليَّ ووفقني لمزيد من البحث في طلب العلم فخرجت إلى قندهار، ووصلت إليها في التاسع من محرم عام 1336هـ". وهكذا العلماء الأعلام لا تُثْقلهم الدنيا ومتاعها عن طلب العلم والمعرفة، ولا تجلسهم القناعة عن السفر في سبيل العلم، مهما اجتمع عندهم العلوم والمعارف، وأجهدهم مشقة الابتعاد عن الوطن والديار، فيسافرون من قرية إلى أخرى، ومن بلد إلى آخر، طالبًا رضا الله، والخدمة للمجتمع. "في بداية وصولي كنت مترددًا جدًّا بشأن الأستاذ ومكان إقامتي حتى شرفني الله بخدمة العالم الرباني والفاضل الصمداني ومولانا ومرشدنا دامت بركات العالية المولوي دين محمد صاحب الكاكري، كان الشيخ في الأصل من قندهار وقد ذهب إلى مدينة رامبور في الهند، وشرفه الله بخدمة المولوي فضل الحق الرامبوري [2] ، فأكمل كتب العلوم المعقولة وغيرها، ثم ذهب بعده إلى دهلي، وقرأ العلوم المنقولة عند المحدثين وعلماء الرياضيات بالسند، وصفات هذا الشيخ تفوق الوصف بالكلمات، درست عنده العلوم الرائجة في الهند ما يقرب من ست سنوات، مثل: علم المنطق، والفلسفة، والرياضيات، والمناظرة، والطب، والعقائد، والمعاني، والبيان، والعروض، وأصول الحديث وغيرها". وعلى هذه السيرة الحميدة وجدنا العلماء الربانيين؛ حيث إن الطالب مهما اشتهر، وذاع صيته في الآفاق، وحصل له القبول عند العامة والخاصة، لا يُنكِر فضل أستاذه عليه، ولا يتطاول عليه، بل يذكر دائمًا تبحُّر أستاذه في العلوم، ومكانته المرموقة في الفَهم والاجتهاد والمعرفة. "ثم شرفني الله بخدمة مولانا ومرشد حياتنا الروحية أبي الوفاء الأفغاني، الذي جاء مع المهاجرين الهنود إلى قندهار، وقد أسهبت في وصف هذا العلامة الأوحد في شرح كتابه (دليل القاري) المسمى بـ(فيض الباري في شرح دليل القاري)، فقرأت عنده بعض كتب التجويد والشاطبية، وتلوت القرآن الكريم من البداية إلى النهاية عنده، وأجاز لي رواية معظم كتب الحديث بسنده المتصل، وبعد الدراسة بدأت بالتدريس في مدينة قندهار لمدة عام تقريبًا، ودخلت مدينة هراة في 9 ذي القعدة سنة 1342 هـ وسكنت في قرية بُرناآباد". وهكذا طالب العلم لا يشعر بالملل في سبيل العلم، ولا يكل في سهر الليالي في تحصيله، بل يحس بالشغف والحب تجاهه، وحينما أهَّله الله للإفادة، وتولي مسند التدريس، فما هو على العلم بضنين، بل إن سألته لتسألن منه البحر الكريم. وعندما بلغ الشيخ من العمر نحو 28 سنة، الموافق لعام 1342هـ، تولى مسند التدريس والفتوى بقرية بُرناآباد في هراة، وفي نهاية شهر جمادى الأولى من سنة 1355هـ عزم على الذهاب إلى كابول، ومكث فيها عشرة أيام، والتقى خلال هذه الأيام بمولانا سيف الرحمن في العديد من المجالس العلمية والروحانية، فقرأ عليه أوائل الصحاح وحصل على إجازة رواية الحديث عنه، وبعد ذلك رجع إلى قرية بُرناآباد، رحمه الله وأسكنه فردوسه الأعلى؛ فقد كرس جهوده لتعليم الفنون والعلوم المختلفة، وتلاوة القرآن. ثالثًا: شيوخه: قد تتلمذ أبو نصر البُرناآبادي على شيوخ كثير، سبق ذكر اسم بعضها خلال عرض رحلاته العلمية؛ ومن أشهرهم: العلامة المحقق الفقيه الأصولي المحدث الناقد المقرئ السيد محمود شاه القادري الحنفي ابن السيد مبارك شاه القادري الحنفي، المشهور بأبي الوفاء الأفغاني، ذو المآثر الباقية والمناقب العالية، وُلد في يوم النحر من سنة 1310هـ في بلدة قندهار من مدن أفغانستان، ونشأ تحت رعاية والده، ثم سافر إلى الهند في صغره طالبًا للعلم، فتلقى العلوم من العلماء الكبار الذين أدركهم في بلدة رامبور، ثم سافر إلى ناحية كجرات وتلقى المعقول والمنقول من علمائها البارزين، ثم قدم إلى مدينة حيدر آباد الدكن سنة 1330هـ، وتخرج بها، وحصل الإجازات من شيوخها في الحديث والتفسير والفقه والقراءات، بعد أن حفظ القرآن الكريم، وفور تخرجه أُسند إليه التدريس والتعليم، في المدرسة النظامية نفسها، فزامل شيوخه، ودرس الآداب العربية والفقه والحديث الشريف، وعلم وأفاد الطلاب والمستفيدين سنين طوالًا وأجيالًا متتابعة، ثم رأى أن يؤسس هناك لجنة إحياء المعارف النعمانية، لينشر تحت إشرافها آثار سلفنا المتقدمين من الفقهاء والمحدثين، وقامت بطبع كثير من الكتب النفيسة، وكان هو رئيس اللجنة، ومن تلك الكتب: كتاب الآثار للإمام القاضي أبي يوسف، وكتاب الرد على سير الأوزاعي، وكتاب اختلاف أبي حنيفة وابن أبي ليلى، وكتاب الأصل للإمام محمد، وكتاب الجامع الكبير له أيضًا، وشرح كتاب الآثار للإمام محمد، وغيرها، وعاش عَزَبًا فريدًا، متبتلًا متعبدًا، زاهدًا وَرِعًا، قائمَ الليل، محافظًا على السنن النبوية كل الحفاظ [3] . والشيخ الفاضل والعارف الكامل مولانا دين محمد الأفغاني القندهاري، وكان هذا الشيخ رجلًا متواضعًا قانعًا ومجاهدًا في سبيل الله، ولا مجال هنا في عرض صفاته بالإسهاب، بل أكتفي بما قاله مولانا البُرناآبادي عنه بالفارسية: خالصًا لله ندیدم من کسی مثل او در درس وبحث وکار وبار جمله اخلاقش پسند شرع بود شرح فضلش می شود از سِفر بار همچو او زاهد ندیدم در جهان في سبیل الله مجاهد استوار والعالم الفاضل، والزاهد العارف، مولانا سيف الرحمن، ولا شك أن شهرة تأثير السيف تفوق التعبير والبيان، وقد تتلمذ مولانا أبو نصر على شيوخ كثر، لا مجال هنا لذكر جميعهم، والإفاضة في وصفهم وعرض صفاتهم. رابعًا: خدماته العلمية: قدم الشيخ العلامة خِدماتٍ طيبة للأمة الإسلامية ولا سيما للمجتمع الأفغاني، فقد ألَّف كتبًا كثيرة، وقام بتربية الجيل، وأسس مدرسة، وأحيا علم تجويد القرآن وتحسينه في المجتمع الأفغاني، ولا سيما في هراة، ونشير هنا إلى بعض تلك الخدمات بصورة وجيزة ومختصرة. منها: المؤلفات: بلغ عدد الكتب التي ألفها مولانا أبو نصر ثمانية وثلاثين كتابًا، يحتوي كل منها على عبارات بديعة، وكنوز ثمينة، ودرر يتيمة، ویحق لها أن تُکتب بماء الذهب، فلله دره؛ فمن مؤلفات الشيخ في التجويد والقراءات: 1- "هداية الصبيان"، باللغة الفارسية - مطبوع. 2- "إرشاد الصبيان"، باللغة الفارسية - مطبوع. 3- "مصباح التجويد"، باللغة الفارسية - مطبوع. 4- "العطرية الفاتحة في تجويد الفاتحة"، باللغة الفارسية - مطبوع. 5- "المنحة العطرية شرح المقدمة الجزرية"، باللغة العربية - مطبوع. 6- "دليل عاصم" في الاختلاف بين روايتي حفص وشعبة، باللغة العربية - مطبوع. 7- "لمحة في تحقيق الصوت والحرف"، باللغة العربية - مخطوط. 8- "فيض الباري شرح دليل القاري"، باللغة العربية - مخطوط. 9- "هداية الرشاد إلى الضاد"، باللغة العربية - مخطوط. 10- "سبيل الرشاد إلى الضاد"، باللغة الفارسية - مخطوط. 11- "قالون" في بيان رواية قالون، باللغة العربية - مخطوط. وفي الفقه: 1- "الأربعين في الحديث"، باللغة العربية - مطبوع. 2- "هداية المبتدي"، باللغة العربية - مطبوع. 3- "غض البصر عما انحجر" في فرضية الحجاب، باللغة العربية - مخطوط. 4- "إرشاد العباد إلى الأعياد" في الأعياد المشروعة وغير المشروعة، باللغة العربية - مخطوط. 5- "الدرة البهية في تفضيل السنة الشمسية والقمرية"، باللغة الفارسية - مخطوط. وفي المنطق: 1- "الساهوجي"، باللغة العربية - مطبوع. 2- "رسالة في الجوهر والعرض"، باللغة العربية - مطبوع. 3- "الجوهر والرسالة". وفي العقيدة: 1- "شرح العالم والمتعلم"، باللغة العربية - مخطوط. وفي الأدب العربي: 1- "المقدمة النصرية شرح القصيدة الترجعية"، باللغة العربية - مخطوط. 2- "نفحة الأدب"، باللغة العربية- مطبوع. 3- "شرح قصيدة بانت سعاد"، باللغة العربية - مخطوط. 4- "شرح قصيدة منفرجة"، باللغة الفارسية - مخطوط. وفي رد الشبهات: 1- "فتح الحميد"، باللغة العربية - مخطوط. 2- "دفع العذل عن أصحاب الرأي والحيل"، باللغة العربية - مخطوط. 3- "السهم الأوحدي"، باللغة العربية - مخطوط. ومن مؤلفاته أيضًا: 1- "رفع الاستعار عن كشف الإسراء"، باللغة العربية - مخطوط. 2- "سيف الواعظين"، باللغة الفارسية - مخطوط. 3- "حجة الواعظين"، باللغة العربية - مخطوط. 4- "هدية الطالب"، باللغة العربية - مخطوط. ومنها: تأسيس مدرسة العروة الوثقى: تقع مدرسة مولانا أبي نصر في الجهة الشرقية من بُرناآباد، وقد قام الشيخ بتأسيسها بنفسه عام 1371 هـ، وفي عام 1387 هـ أُعِيد بناؤها، ثم وُسِّعت على يد أبنائه، والذي يدخل تلك المدرسة يشعر بالبركات المعنوية والفيوضات الروحانية، والآثار الربانية حتى الآن؛ لكثرة تلاوة القرآن، والقيام بتحسين قراءاته، وضبط رواياته. ومنها: تربية الأجيال: قد وضع العلامة البُرناآبدي تعليم قراءات القرآن في بؤرة اهتمامه من ريعان شبابه إلى آخر حياته، وتلامذته لا تعد ولا تحصر، فقد انتشرت قراءته في جميع أنحاء العالم، شرقًا وغربًا، وشمالًا وجنوبًا، وقام تلاميذه بنشر القراءة من طريقه في الدول الإسلامية الأخرى غير أفغانستان، مثل: إيران والمملكة السعودية وباكستان، وغيرها، وكان الشيخ يقرأ بالقراءات الأربعة عشرة بالسند المتصل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، ولم يتميز العلامة بعلو السند في القراءات فقط، بل في التفسير، والفقه، والقصائد، والوظائف أيضًا، وكان العلامة يدرس روايتي شعبة وحفص عن عاصم، ورواية قالون عن نافع المدني بجهد بالغ، واهتمام كبير. ونذكر هنا على سبيل المثال واحدًا من تلاميذ العلامة البُرناآبادي؛ ألا وهو الشيخ المقرئ المفسر النحوي، عبيدالله بن عطاء محمد الأفغاني مولدًا، السعودي موطنًا وتجنُّسًا، ويكنى بأبي عبدالله، وُلد في أفغانستان بمنطقة كوهستان، شمال كابول عام: 1351هـ، اتجه منذ صغره إلى طلب العلم؛ حيث كان عمره عشر سنوات، وذلك في بلاد الأفغان، فأخذ فيها علم القراءات، والتجويد ومبادئ في علم النقد، والصرف، والنحو، ومكث عند العلامة البُرناآبادي مدة سنتين، تعلم فيهما علومًا جمة، ثم سافر إلى السعودية فصار في أبها مدرسًا للتحفيظ في حلقات القرآن الكريم، فاستقر بها لأكثر من ربع قرن، وقام بتدريس الأجيال القرآن الكريم في عدد من المحافظات والقرى، وكرم الشيخ بجائزة الوفاء في فرع "وفاء العلم"، وانتقل إلى المدينة المنورة لتدريس القرآن والسنة النبوية واللغة العربية بالمسجد النبوي من الصباح حتى المساء، دون كلل أو مَلَلٍ، حتى وافته المنية سنة 1433هـ [4] . وقد خلف العلامة البُرناآبادي من بعده خمسة أبناء، أكبرهم الشيخ الفاضل عبدالرحمن الذي تخرج في مدرسة فخر المدارس في هراة، وقرأ شيئًا من الكتب عند والده رحمه الله، وهو الآن مسؤول مدرسة في قرية بُرناآباد، وقد ناهز عمره ثمانين عامًا. ثم الشيخ الفاضل مولوي عبدالرحيم أبو فلاح الذي قرأ الكتب الدينية، ومهر في علم التجويد والقراءة، وكان يدرس طلاب العلوم الدينية، ويخدم المجتمع الأفغاني، فاستُشهد في حرب أهل هراة الشهيرة بـ"جنگ بيست وچهار حوت" ضد الحكومة الشيوعية العميلة. ثم الشيخ الفاضل مولوي فقير الله أبو نجاح الذي تخرج على والده العلامة رحمه الله، ونال شهادة إكمال الكتب الدراسية، وأُسند إليه تدريس العلوم وإقراء القرآن في حياة الشيخ والده رحمه الله، وبعد أن توفي والده عُيِّن نائبًا عنه في أعماله، ولم تسمح له الظروف بالإقامة في أفغانستان، فهاجر من بلده ومضى آخر عمره في دولة الإمارات العربية المتحدة. ثم الشيخ الفاضل سراج الدين، وقد تخرج من جامعة هراة، وقرأ بعض الكتب الدينية، ودرس علم القراءة عند والده العلامة، وهو الآن إمام المسجد الجامع في إمارة الشارقة. ثم الشيخ الفاضل مولوي فضل أحمد أبو الفتح الذي تعلم علم القراءة والتجويد عند والده العلامة رحمه الله، وقرأ بعض الكتب عند أخيه مولوي الراحل فقير الله، ثم تخرج من "دار العلوم كراتشي"، ورجع إلى بلده، فقام بتدريس الطلاب، وخدمة الشعب الأفغاني، وأوقد بفضل الله سراج المدرسة المضيء التي أسسها والده العلامة، راجيًا رحمة الله المنَّان، وآملًا مغفرة الحي الرحمن، فأحيا آثار أبيه، ونوَّر معالم هديه، رحمهم الله وحفظ من منهم على قيد الحياة، ووفقهم أن يتبعوا آثار أبيهم قصصًا، ويبذلوا بمثل جهوده مددًا. خامسًا: مناقبه: إن العلامة أبا نصر كان متصفًا بصفات عديدة يصعب حصرها وعدُّها، فنوجز هنا بعضها، فقد كان رحمه الله فقيهًا، ومحدِّثًا، وعارفًا بالقرءات السبعة، وجامعًا للعلوم العقلية والنقلية، وأستاذًا في العلوم الإسلامية بشهادة علماء عصره، وحافظًا لكتاب الله، وعالمًا ربانيًّا، وخبيرًا بالعلوم الرائجة آنذاك، وقد طار صيته في الأعصار، وانتشرت تآليفه في الأمصار، وتربى على يديه تلاميذ جمة في هذه الديار، وسائر الأقطار، يدرسون ويجتهدون في خدمة القرآن وعلومه، فهو كالبحر الزاخر، والقمر الباهر، كثير الأفضال والإحسان، كثير الصمت، قليل الكلام، وكان يجلس لتعليم القرآن وعلومه في حجرته من الصباح إلى المساء، ولا يشعر بالملل والكلل، فعندما حج وعاد إلى البلد، دخل المسجد والناس جلوس، فقال لهم: من أراد أن يزورني ليسألني عن مناسك الحج وأعماله، فليدرك أني - بفضل الله وتوفيقه - أتممت جميعها، وعدت من السفر سالمًا غانمًا، فلا داعيَ لتساؤلات تشغلني عن التدريس وخدمة القرآن، وكان إذا سأل عن المسائل الشرعية يتدفق كالبحر في إجاباتهم وإقناعهم. وقد جمع بعض الناس خصاله فانتهى إلى عشرين خَصلة؛ وهي: الورع، والصدق، والسخاء، والفقه، والمروءة الصادقة، والرفق بالناس، والإقبال على ما ينفع، والإصابة بالقول، وإعانة الضعفاء، ومحبة طاعة الله، والرغبة إلى أهل الله والزهد في الدنيا، ودوام الفكر، والغناء عما في أيدي الناس، ومجانبة الاغتياب، والحرص على العلم، والجهاد في سبيل الله، وإطاعة الله والرسول، وهذا طرف من مناقبه، وقد جمع ابنه الراحل مناقبه في كتاب سماه بـ"المقدمة العطرية في مناقب النصرية". سادسًا: وفاته: توفي العلامة يوم الجمعة في 6 جمادى الآخرة عام 1393 هـ عن عمر ناهز الثمانين عامًا، وما إن أشيع النبأ حتى عم الحزن والأسى قرى هراة، وتقاطرت الوفود من كل الجهات لتشييع جنازته، التي كانت جنازة ضخمة مشى فيها مئات من محبي العلامة وطلابه وعارفيه، وصُلي عليه في مقبرة خواجة محمد الأصفهاني، ثم دُفن فيها، تغمد الله العلامة حسنًا بواسع رحمته، ورفع مقامه في عليين، وجزاه عن جهاده ودعوته وتعليمه أفضل ما يُجازى العاملون، وجمعنا به مع أشياخنا وأحبابنا في مستقر رحمته، تحت لواء الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم. [1] بُرناآباد: قرية ذات أشجار كثيرة وهواء طلق بجانب بوشنج، ويقع نهر عظيم شمالها ومنه يتشعب جداول كثيرة وقنوات عديدة، وعمرت زمن تيمور الجرجاني؛ [انظر: آريانا، من قِبل جامعة كاليفورنيا، عام النشر: 1967م، 25/ 85]. [2] هو الشيخ الفاضل الكبير، فضل حق بن عبدالحق الحنفي الرامبوري، أحد العلماء المبرزين في العلوم الحكمية، وُلد بمدينة رامبور سنة 1278هـ، وحفظ القرآن في صغر سنه، ثم قرأ النحو والصرف على المولوي عبدالرحمن القندهاري، وأسند الحديث عن شيخنا المحدث حسين بن محسن السبعي اليماني، وولي التدريس في المدرسة العالية برامبور زمانًا، وفي المدرسة السليمانية ببهوبال زمانًا، وفي المدرسة العالية بكلكته زمانًا، وقد أخذ عنه خلق كثير من العلماء وانتهت إليه الرياسة العلمية بمدينة رامبور، وله حواشي ومصنفات عديدة؛ [انظر: نثر الجواهر والدرر في علماء القرن الرابع عشر للمرعشلي، يوسف بن عبدالرحمن، ص: 971]. [3] انظر: العلماء العزاب الذين آثروا العلم على الزواج لعبدالفتاح أبي غدة، الناشر: إسلاميك كتب، ص: 124. [4] انظر: الرسالة الأولى الضياء في العلاقة بين الضاد والظاء لعبيدالله بن عطاء الأفغاني، الطبعة الأولى: 1424هـ، ص: 85.
من سرايا النبي وغزواته غزوة الأبواء (ودان): هي أول غزوة خرج فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد قريشًا وبني ضمرة، فوادعته بنو ضمرة، وكان الذي وادعه مخشي بن عمرو الضمري - وورد مجدي - وكان سيدهم، ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ولم يلقَ حربًا، وكان خروجه في صفر؛ أي: بعد سنة تقريبًا من استقراره بالمدينة، فأقام في الأبواء قريبًا من شهر؛ أي: إلى أن دخل شهر ربيع الأول، والأبواء قرية تقع جنوبي المدينة قريبًا من ينبع، وبها قبر آمنة أم النبي صلى الله عليه وسلم، وقد استعمل النبي صلى الله عليه وسلم على المدينة سعد بن عبادة، وأما ودان فمكان قرب الأبواء، بينهما ستة أميال، فهي على هذا غزوة واحدة باسم ودان أو الأبواء. سرية عبيدة بن الحارث: أول راية عقدها النبي صلى الله عليه وسلم لعبيدة بن الحارث، ثم أرسله في ستين أو ثمانين مقاتلًا من المهاجرين فقط إلى بطن رابغ، فسار حتى بلغ ماء بالحجاز بأسفل ثنية المرة، وهي بناحية الجحفة، فلقي جمعًا عظيمًا من قريش، ولم يكن بينهم قتال، لكن سعد بن أبي وقاص قد رمى يومئذ بسهم، فكان أول سهم رُمي في الإسلام، وانضم إلى المسلمين في تلك الواقعة المقداد بن عمرو وعتبة بن غزوان وكانا مسلمين فخرجا مع الكفار وقد أضمرا اللحاق بالمسلمين عندما تسنح لهما فرصة الهرب من إسار قريش. سرية حمزة بن عبدالمطلب: وفيها عقد الراية لحمزة بن عبدالمطلب وأرسله في ثلاثين مقاتلًا من المهاجرين إلى سِيف البحر - ساحل البحر - من ناحية العيص عند ذي المروة؛ ليرصدوا طريق تجارة قريش إلى الشام، والتقوا بركب لقريش عليهم أبو جهل في ثلاثمائة راكب، وكاد ينشب القتال، لكن مجدي بن عمرو حجز بين الفريقين، فانصرفوا ولم يقع بينهم قتال. قال الواقدي: سرية حمزة في رمضان؛ أي: بعد سبعة أشهر من الهجرة، وسرية عبيدة في شوال؛ أي: بعدها بشهر، وعلى هذا يكون أول لواء عقده رسول الله صلى الله عليه وسلم هو لحمزة، وأهل السير قالوا: الأول أثبت، والله أعلم. غزوة بواط: خرج النبي صلى الله عليه وسلم في شهر ربيع الأول من السنة الثانية يريد قريشًا، واستعمل السائب بن عثمان بن مظعون، وسار النبي صلى الله عليه وسلم حتى بلغ بواط، وهو جبل على أربعة برد من المدينة قريبًا من ينبع، وكان في مائتي مقاتل، ولواؤه مع سعد بن أبي وقاص، وكان المقصد التعرض لتجارة قريش العائدة من الشام يقودها أمية بن خلف ومعه مائة رجل وألف وخمسمائة بعير، ولبث النبي صلى الله عليه وسلم في بواط بقية شهر ربيع الثاني وبعضًا من جمادى الأولى، ولم يلقَ فيها أحدًا، فعاد إلى المدينة. غزوة العشيرة: قصد فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم - كسابقتها - قطع الطريق على تجارة قريش، فاستعمل على المدينة أبا سلمة بن عبدالأسد، ثم انطلق بالمجاهدين إلى منطقة العشيرة، مارًّا على نقب بني دينار، ثم على فيفاء الخبار، فنزل تحت شجرة ببطحاء ابن زهر، يقال لها: ذات الساق، فصلى عندها - فبُنِي مسجد هناك - وصُنع له عندها طعام فأكل منه وأكل الناس معه، فموضع أثافي القدر موجود هناك، واستقي له من ماء به يقال له: المشترب، ثم ارتحل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فترك الخلائق - الآبار الجافة - بيسار، وسلك شعبة يقال لها: شعبة عبدالله، وهبط بليل، ثم نزل مجتمع الضبوعة واستقى من بئرها، ثم فرش ملل، ثم صخيرات اليمام، ثم العشيرة من بطن ينبع، فأقام بها شهر جمادى الأولى وليالي من جمادى الثانية، وفي هذه الغزوة وادع فيها بني مدلج وحلفاءهم من بني ضمرة، ثم رجع إلى المدينة، ولم يلقَ عدوًّا. وقد ورد في هذه الغزوة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعلي بن أبي طالب - وهو أحد أفراد هذه الغزوة -: ((ما لك يا أبا تراب؟!))، لما رأى عليه أثر التراب، ويروي علي رضي الله عنه: أنه كان مع عمار بن ياسر وقد رأيا أنفارًا من بني مذحج وهم يعملون في الحقل، فقال علي: يا أبا اليقظان، هل لك أن نأتي هؤلاء القوم فننظر كيف يعملون؟ قال: إن شئت، فأتيا ونظرا في عملهم ساعة ثم ضرب الله عليهما النوم فناما وما شعرا إلا برسول الله صلى الله عليه وسلم يوقظهما، وورد أنه قال لهما أيضًا: ((ألا أحدثكما بأشقى الناس رجلين))، قلنا: بلى يا رسول الله، قال: ((أحيمر ثمود الذي عقر الناقة، والذي يضربك يا علي على هذه - ووضع يده على قرنه - حتى يبلَّ منها هذه))، وأخذ بلحية عليٍّ. وقد ورد في الصحيحين: أن النبي صلى الله عليه وسلم أطلق كنية "أبو تراب" على علي في غير هذه الواقعة، وذلك لما خرج من بيته بعد خلاف مع فاطمة رضي الله عنها ونام في المسجد، فذهب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأيقظه وقد رأى على جنبه أثر التراب، فقال له: ((قم يا أبا تراب)) وهذا أثبتُ، إلا إذا تعدد الموقف. سرية سعد بن أبي وقاص: سرية صغيرة، أرسلها رسول الله صلى الله عليه وسلم بقيادة سعد بن أبي وقاص في ثمانية أفراد من المهاجرين، كانت وجهتها إلى الخرار، فمكث مدة، لكنه لم يواجه ما يمكن أن يتعرض له من قريش فعاد. غزوة سفوان: بعد عودة النبي صلى الله عليه وسلم من غزوة العشيرة مكث في المدينة أيامًا دون العشرة، وإذا بكرز بن جابر الفهري يغير على سرح المدينة - مكان ترعى فيه الإبل والمواشي والأغنام - وهو مكان ببطن وادي العقيق، فجاء الصريخ إلى المدينة، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في طلبه، واستعمل على المدينة زيد بن حارثة، فبلغ وادي سفوان قرب بدر ولم يدرك كرزًا، وهي غزوة بدر الأولى، ثم رجع النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، فأقام بقية جمادى الآخرة ورجب وشعبان.
إبراهيم عليه السلام (2) تحدَّثتُ في الفصل السابق عن صور مشرِقة مِن دعوة إبراهيم عليه السلام، وذكرتُ في آخرها ما كان مِن المُناظرة بين الخليل عليه السلام وبين ملك الكلدانيين الذي حاجَّ إبراهيم في ربِّه، وكيف أقام إبراهيم عليه السلام الحُجة الدَّامغة، فبُهت الذي كفر، ولم يزل إبراهيم عليه السلام يوالي دعوة قومه إلى الله، ويحاولُ إخراجَهم من الظلمات إلى النور، وفي ذلك يقولُ الله عز وجل: ﴿ وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ * أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ * وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ * وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ * فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [العنكبوت: 16 - 26]. وقد هاجر إبراهيمُ عليه السلام ومعه زوجتُه سارة ولوط إلى الشام، وفي ذلك يقولُ الله عز وجل: ﴿ قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ * قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ * وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ * وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ ﴾ [الأنبياء: 68 - 71]. وقد أشار رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلى تعاونِ الوزغ مع قوم إبراهيم في محاولة إحراقه، وأنَّ الوزغ كان ينفخ على إبراهيم؛ فقد روى البخاري ومسلم من حديث أم شريك رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بقتل الوزغ، وفي لفظ البخاري: ((كان يَنفخ على إبراهيم)). وقد ثبت في الصحيحين أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((اختتن إبراهيم النبي عليه السلام وهو ابن ثمانين سنة بالقدوم)). وقد نزل إبراهيم عليه السلام بالشَّام - وهي بلاد الكنعانيين - ومعه زوجته سارة ولوط، فأرسل الله عز وجل لوطًا إلى أهل سدوم وعمورة ونواحيها من دائرة الأردن، وسار إبراهيم وسارة إلى مصر، فأُخبر ملكُ مصر بَجمال زوجة إبراهيم، وأُغري بها فنجَّاها الله منه، وأَخْدَمَها هاجرَ، فوهبتها لإبراهيم، فرزقه الله منها إسماعيلَ عليه السلام، ورجع إبراهيم بأهله إلى الأرض المقدَّسة بفلسطين، وصار بين سارة وهاجر بعض الشيء لما قضاه الله عز وجل أن يعمِّرَ ولدُها إسماعيل مع أبيه البيتَ الحرام بمكة، فهربتْ هاجرُ من سارة، وأمر الله عزَّ وجل إبراهيم أن يحمل هاجرَ وإسماعيل لمكة. واتَّخذتْ هاجرُ منطقًا تشدُّ به وسطها وترسلُ طرفه كذيل خلفها يُعفي آثارها على سارة؛ فقد روى البخاري في صحيحه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ((أوَّل ما اتَّخذ النِّساء المنطق مِن قِبل أم إسماعيل، اتَّخذتْ منطقًا لتعفي أثرَها على سارة، ثمَّ جاء بها إبراهيم وبابنها إسماعيل وهي ترضعه حتى وضعهما عند البيت عند دوحة فوق زمزم في أعلى المسجد وليس بمكة يومئذٍ أحَدٌ، وليس بها ماءٌ، فوضعهما هنالك، ووضع عندهما جرابًا فيه تمرٌ وسقاءٌ فيه ماء، ثم قَفَى إبراهيم منطلِقًا، فتبعته أمُّ إسماعيل، فقالت: يا إبراهيم، أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه أنيس ولا شيء؟ فقالت له ذلك مرارًا، وجعل لا يلتفت إليها، فقالت له: آلله الذي أمرك بهذا؟ قال: نعم، قالت: إذًا لا يُضيِّعنا، ثم رجعت. فانطلق إبراهيم حتى إذا كان عند الثَّنيَّة - حيث لا يرونه - استقبل بوجهه البيتَ ثمَّ دعا بهؤلاء الدعوات ورفع يديه فقال: ﴿ رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ ﴾، حتى بلغ ﴿ يَشْكُرُونَ ﴾ [إبراهيم: 37]، وجعلَتْ أمُّ إسماعيل ترضع إسماعيل وتشرب مِن ذلك الماء؛ حتى إذا نفد ما في السِّقاء عطشت وعطشَ ابنُها، وجعلت تَنظر إليه يتلوَّى أو قال: يتلبَّط، فانطلقتْ، كراهيةَ أن تَنظر إليه، فوجدت الصَّفا أقربَ جبل في الأرض يليها، فقامت عليه ثمَّ استقبلت الوادي تنظر، هل ترى أحدًا، فلم ترَ أحدًا، فهبطت من الصفا حتى إذا بلغت الوادي رفعت طرف درعها ثم سعت سعيَ الإنسان المجهود حتى جاوزت الوادي، ثمَّ أتت المروة فقامت عليها ونظرت هل ترى أحدًا، فلم ترَ أحدًا، ففعلت ذلك سبعَ مرات، قال ابن عباس: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((فذلك سَعي النَّاس بينهما))، فلما أشرفَتْ على المروة سمعَتْ صوتًا فقالت: صه! تريد نفسَها، ثم تسمَّعتْ فسمعت أيضًا، فقالت: "قد أسمعت إن كان عندك غِواثٌ"، فإذا هي بالملَك عند موضع زمزم، فبحث بعقبه، أو قال: بجناحه حتى ظهر الماء فجعلت تحوضه، وتقول بيدها هكذا، وجعلت تغرف مِن الماء في سقائها وهو يفور بعدما تغرف، قال ابن عباس: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((يرحم الله أمَّ إسماعيل لو تركت زمزم))، أو قال: ((لو لم تغرف مِن زمزم لكانت زمزم عينًا معينًا))، قال: فشربَتْ وأرضعت ولدَها، فقال لها الملك: "لا تخافوا الضيعة؛ فإن هاهنا بيتًا لله يبنيه هذا الغلام وأبوه، وإنَّ الله لا يضيع أهله"، وكان البيت مرتفعًا مِن الأرض كالرابية، تأتيه السيولُ فتأخذ عن يمينه وشماله، فكانت كذلك حتى مرَّت بهم رفقةٌ من جُرْهُم، أو أهل بيت مِن جرهم مقبلين من طريق كداء، فنزلوا في أسفل مكة، فرأوا طائرًا عائفًا، فقالوا: "إن هذا الطائر ليدور على ماء، لَعَهْدنا بهذا الوادي وما فيه ماء، فأرسلوا جَرِيًّا أو جريَّين - "أي: رسولًا أو رسولين" - فإذا هم بالماء، فرجعوا فأخبروهم فأقبلوا، وأم إسماعيل عند الماء، فقالوا: أتأذنين لنا أن ننزلَ عندك؟ قالت: نعم، ولكن لا حقَّ لكم في الماء، قالوا: نعم. قال ابن عباس: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((فألفى ذلك أم إسماعيل وهي تحبُّ الأنس))، فنزلوا فأرسلوا إلى أهلهم، فنزلوا معهم حتى إذا كانوا بها أهل أبيات وشبَّ الغلام وتعلَّم العربية منهم وأنفسهم وأعجبهم حين شبَّ، فلمَّا أدرك زوَّجوه امرأةً منهم، وماتت أم إسماعيل، فجاء إبراهيم بعدما تزوَّج إسماعيل يُطالِع تركتَه، فلم يجد إسماعيلَ، فسأل امرأتَه عنه فقالت: خرج يبتغي لنا، وفي رواية: يصيدُ لنا، ثمَّ سألها عن عيشهم وهيئتهم، فقالت: نحن بِشَرٍّ، نحن في ضِيقٍ وشدَّةٍ، وشكت إليه، قال: فإذا جاء زوجُك اقرئي عليه السلام وقولي له يغيِّر عتبة بابه، فلما جاء إسماعيل كأنَّه آنس شيئًا، فقال: هل جاءكم مِن أحد؟ قالت: نعم، جاءنا شيخ كذا وكذا، فسألنا عنك فأخبرته، فسألني: كيف عيشنا، فأخبرته أنَّا في جهدٍ وشدَّةٍ، قال: فهل أوصاك بشيء؟ قالت: نعم، أمرني أن أقرأ عليك السلام، ويقول: غيِّرْ عتبةَ بابِك، قال: ذاك أبي، وقد أمرني أن أفارقك، الْحَقِي بأهلك، فطلَّقها وتزوَّج منهم أخرى، فلبث عنهم إبراهيم ما شاء الله، ثمَّ أتاهم بعدُ فلم يجده، فدخل على امرأته فسأل عنه قالت: خرج يبتغي لنا، قال: كيف أنتم؟ وسألها عن عيشهم وهيئتهم، فقالت: نحن بخيرٍ وسعةٍ، وأثنَتْ على الله، فقال: ما طعامكم؟ قالت: اللحم، قال: فما شرابكم؟ قالت: الماء، قال: اللهمَّ بارك لهم في اللحم والماء، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((ولم يكن لهم يومئذ حَبٌّ، ولو كان لهم دعا لهم فيه))، قال: فهما لا يَخلو عليهما أحد بغير مكة إلا لم يوافقاه، قال: فإذا جاء زوجك فاقرئي عليه السَّلام، ومريه يُثبت عتبةَ بابه، فلما جاء إسماعيل قال: هل أتاكم من أحد؟ قالت: نعم، أتانا شيخ حسَن الهيئة وأثنت عليه، فسألني عنك فأخبرته، فسألني: كيف عيشنا؟ فأخبرته أنَّا بخير، قال: فأوصاك بشيء؟ قالت: نعم، يقرأ عليك السلام ويأمرك أن تُثبت عتبة بابك، قال: ذاك أبي، وأنت العتبة، أمرني أن أمسكك. ثمَّ لبث عنهم ما شاء الله، ثمَّ جاء بعد ذلك وإسماعيل يبري نبلًا له تحت دوحة قريبًا مِن زمزم، فلمَّا رآه قام إليه فصنع كما يصنع الوالد بالولد والولد بالوالد، قال: يا إسماعيل، إنَّ الله أمرني بأمرٍ، قال: فاصنع ما أمرك ربك، قال: وتعينني؟ قال: وأعينك، قال: فإنَّ الله أمرني أن أبني بيتًا هاهنا، وأشار إلى أَكَمَةٍ مرتفعة على ما حولها، فعند ذلك رفع القواعد مِن البيت، فجعل إسماعيل يأتي بالحجارة وإبراهيم يبني، حتى إذا ارتفع البناء جاء بهذا الحجر ووضعه له، فقام عليه وهو يبني وإسماعيل يناوله الحجارة، وهما يقولان: ﴿ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾ [البقرة: 127]. وإلى الفصل القادم إن شاء الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
جزء من مسند أبي أمية الطرسوسي تحقيق حسين سليم أسد الداراني صدر حديثًا كتاب " جزء من مسند أبي أمية الطرسوسي روى فيه أحاديث عن أبي هريرة رضي الله عنه "، للإمام الحافظ أبي أمية محمد بن إبراهيم بن مسلم البغدادي الطرسوسي (ت 273 هـ)، تحقيق: " حسين سليم أسد الداراني " و" مرهف حسين أسد "، نشر: " دار المعراج للنشر والتوزيع ". وهذا الجزء من المسند يطبع لأول مرة عن نسخ خطية عزيزة، تخريج أبي أمية محمد بن إبراهيم الطرسوسي في علوم الحديث، وهو أحد المساند التي لم تطبع من قبل في مادته. والطرسوسي هو محمد بن إبراهيم بن مسلم البغدادي ثم الطرسوسي، أبو أمية: من حفاظ الحديث. له " مسند " حديثي نادر. قال الذهبي: " وقع لنا جزآن من حديثه "، وهما مسندا " عبد الله بن عمر " و" أبو هريرة "، وقد تم طبع مسند " عبد الله بن عمر " رواية الطرسوسي - من قبل - بتحقيق " الأستاذ أحمد راتب عرموش "، صدر عن دار النفائس - بيروت، سنة 1407 هـ. أما هذا المسند: 1- روي الكتابُ بسند فيه راوٍ ضعيفٌ، لكن أحاديث الكتاب مشتهرة ومخرَّجة في الكتب المعتمدة المشهورة عند أهل العلم، وقد توبع المصنف على كثير منها. 2- وقد ذكر الحافظ ابن حجر الكتاب ضمن مسموعاته في المعجم المفهرس (531)، ونسبه إليه الذهبي في السير (1391)، وابن العماد في شذرات الذهب (164)، والكتاني في الرسالة المستطرفة (164)، وسزگين في تاريخ التراث العربي (181). 3- أورد المؤلف في الكتاب الأحاديث التي تروى من طريق أبو هريرة - رضي الله عنه -، عن النبي صلى الله عليه وسلم. 2- لم يستوعب كل الأحاديث التي رواها أبو هريرة. 3- اشتمل الكتاب على 63 حديثًا، وكلها مرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم. أما المسانيد من حيث هي، فمفردها وطريقة ترتيب الأحاديث فيها طريقة خاصة تختلف عن كل ما سبق، وهي تقوم على أن يذكر صاحب المسند "أي مصنفه" الصحابي أو عدة صحابة، ويذكر في ترجمة الصحابي الأحاديث التي يرويها عن شيوخه من طريق ذلك الصحابي، مثال ذلك: يأخذ المصنف عليًا بن أبي طالب، ويذكر في ترجمته الأحاديث التي يرويها عن أشياخه منتهيًا سندها إلى علي بن أبي طالب، وقد يقتصر المسند على صحابي واحد، وقد يحوي عدة صحابة، فإذا انتهى المصنف من سرد الأحاديث التي يرويها عن الصحابي الأول، انتقل إلى الصحابي الثاني وهكذا، وقد ترد أسماء الصحابة مرتبة على الحروف الهجائية، وقد تأتي دون أي ترتيب، ولاشك أن طريقة تصنيف المسانيد لا تخلو من الصعوبة في المراجعة، لأن الصحابي قد يروي عددًا كبيرًا من الأحاديث، ومن يريد الرجوع إلى حديث معين عليه مراجعة جميع الأحاديث. وقد بلغت المسانيد عددًا كبيرًا اشتهر منها أكثر ما اشتهر (مسند أحمد بن حنبل)، وهو مطبوع ومتداول، كما طبع عدد لا بأس به من المسانيد، وما زال عدد أكبر لم يطبع حتى الآن، ومنها أيضًا هذا المسند (مسند أبو هريرة) هو تخريج أبي أمية محمد بن إبراهيم الطرسوسي رحمه الله، وهو أحد المسانيد التي لم تطبع قبلًا، وظهر للنور بإخراج سهل المتناول وتصنيف حسن. وهذا الجزء فيه من مسند أبو هريرة رضي الله عنه. • تخريج أبي أمية محمد بن إبراهيم الطرسوسي رحمه الله. رِوَايَةُ أَبِي عَمْرٍو أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ حَكِيمٍ الْمَدِينِيِّ، عَنْهُ. رِوَايَةُ أَبِي مُحَمَّدٍ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ جُولَةَ الأَبْهَرِيِّ، عَنْهُ. رِوَايَةُ الرَّئِيسِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْقَاسِمِ بْنِ الْفَضْلِ بْنِ أَحْمَدَ الثَّقَفِيِّ، عَنْهُ. رِوَايَةُ الإِمَامِ الْحَافِظِ أَبِي طَاهِرٍ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ السِّلَفِيِّ، عَنْهُ. رِوَايَةُ أَبِي الْحَسَنِ عَلِيِّ بْنِ مَحْمُودِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ عَلِيٍّ الصَّابُونِيِّ، عَنْهُ. ونجد أن المحققان قد قاما بتحقيق النص حيث نقلا نصوص الأحاديث مع العودة إلى كتب الحديث المختلفة ومقابلة الأحاديث، وتخريجها. مع مراجعة أسماء الرواية على كتب التراجم وضبطها، ويعتمد التخريج ذكر أسماء الرواة المشار إليهم بكناهم أو ألقابهم كاملة في الحواشي، وضبط النص بالشكل وشرح بعض الكلمات، وعلقا على الأحاديث بما يوضح النص، ولا يخرج بالتحقيق عن غايته. كما وأنشأا فهرسًا خاصًا بأوائل الأحاديث، ورقم الأحاديث برقم متسلسل من أول المسند إلى آخره. وصاحب المسند أبو أمية محمد بن إبراهيم بن مسلم بن سالم الثغري الطَرَسوسي. (حوالي 180 هـ - 273 هـ) أحد العلماء ومن رواة الحديث عند أهل السنة والجماعة. أصله من بغداد، نزل طرسوس وسكن بها، فقيل له الطرسوسي، ويقله له أيضًا الثغري، نسبة إلى الثغر وهو المواضع القريبة من الكفار يرابط المسلمون بها. وله مُسند جليل. حدث عن: عبد الوهاب بن عطاء، وعمر بن يونس اليمامي، وروح بن عبادة، وجعفر بن عون، وعبد الله بن بكر السهمي، وعثمان بن عمر بن فارس، وعبيد الله بن موسى، والحسن بن موسى الأشيب، ويعقوب الحضرمي، وشبابة بن سوار، وأبي مسهر، وطبقتهم. حدث عنه: أبو حاتم الرازي، وابن صاعد، وأبو عوانة، وابن جوصا، وأبو الدحداح، وأبو بكر بن زياد، وأبو الطيب بن عبادل، وعثمان بن محمد السمرقندي، وأبو علي الحضائري، وحفيده محمد بن إبراهيم بن أبي أمية، وخلق كثير. قال فيه السمعاني: "من ثقات البغداديين المكثرين". وقال ابن يونس المصري: "كان من أهل الرحلة، فهمًا بالحديث. وكان حسن الحديث". وقال النووي: "كان إمامًا في الحديث، رفيع القدر، مقدمًا، فهمًا، رحالاً". وقال أبو داود السجستاني: "ثقة". وقال أبو بكر الخلال: "أبو أمية محمد بن إبراهيم رجل رفيع القدر جدًا، كان إمامًا في الحديث مقدمًا في زمانه". وقال الذهبي: "الإمام، الحافظ، المجود، الرحال". وتوفي بطرسوس في جمادى الآخرة سنة 273 هـ.
الكريمة الطاهرة: عائشة بنت أبي بكر زوجة نبينا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الحمد لله، الذي وسع كل شيء رحمةً وعلمـًا، وأسبغ على عباده نعمـًا لا تُعَدُّ ولا تُحصى، والصلاة والسلام على نبينا محمد، الذي أرسله ربه شاهدًا ومبشرًا ونذيرًا، وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا؛ أما بعد: فأمُّ المؤمنين عائشة بنت أبي بكر الصديق لها منزلة عالية في الإسلام، فأحببت أن أتحدث عن سيرتها المباركة لكي يستفيد منها المسلمون، فأقول وبالله تعالى التوفيق: التعريف بالنسب: قال الإمام الذهبي رحمه الله: هي: عائشة بنت الإمام الصديق الأكبر، خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم أبي بكر، عبدالله بن أبي قحافة عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة بن كعب بن لؤي، أم المؤمنين، زوجة النبي صلى الله عليه وسلم؛ [سير أعلام النبلاء للذهبي، ج: 2، ص: 135] . أم عائشة: هي أم رومان بنت عامر بن عويمر بن عبدشمس بن عتاب بن أذينة الكنانية؛ [سير أعلام النبلاء للذهبي، ج: 2، ص: 135] . كنية أم المؤمنين عائشة: كانت عائشة رضي الله عنها تُكنى بأم عبدالله (ابن أختها أسماء؛ عبدالله بن الزبير بن العوام)؛ [الطبقات الكبرى لابن سعد، ج: 8، ص: 52] . تاريخ ميلاد عائشة: وُلدت عائشة بعد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم بأربع سنين، أو خمس، قالت عائشة: ((ما عقلت أبويَّ إلا وهما يدينان الدين، وما مرَّ علينا يوم قط إلا ورسول الله يأتينا فيه بكرةً وعشيةً))، وعائشة أصغر من فاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم بثماني سنين؛ [الطبقات الكبرى لابن سعد، ج: 3، ص: 128، الإصابة لابن حجر العسقلاني، ج: 4، ص: 348]. زواج نبينا صلى الله عليه وسلم بعائشة: [1] روى البخاري عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أُرِيتُكِ قبل أن أتزوجكِ مرتين: رأيت الْمَلَكَ يحملكِ في سَرَقَةٍ من حرير، فقلت له: اكشف فكشف، فإذا هي أنتِ، فقلت: إن يكن هذا من عند الله يُمْضِه، ثم أريتكِ يحملكِ في سرقة من حرير، فقلت: اكشف فكشف، فإذا هي أنتِ، فقلت: إن يك هذا من عند الله يمضه))؛ [البخاري حديث: 7012]. [2] روى الترمذي عن عائشة: ((أن جبريل جاء بصورتها في خرقة حرير خضراءَ إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن هذه زوجتك في الدنيا والآخرة))؛ [حديث صحيح، صحيح سنن الترمذي للألباني، حديث: 3041]. [3] روى البخاري عن عروة بن الزبير قال: ((تُوفِّيت خديجة قبل مخرج النبي إلى المدينة بثلاث سنين، فلبث سنتين أو قريبًا من ذلك، ونكح عائشة وهي بنت ست سنين ثم بنى بها، وهي بنت تسع سنين))؛ [البخاري حديث: 3896]. [4] روى أحمد عن أبي سلمة ويحيى قالا: ((لما هلكت خديجة جاءت خولة بنت حكيم امرأة عثمان بن مظعون، قالت: يا رسول الله ألا تزوج؟ قال: مَن؟ قالت: إن شئتَ بكرًا، وإن شئت ثيبًا، قال: فمَنِ البكر؟ قالت: ابنة أحب خلق الله عز وجل إليك؛ عائشة بنت أبي بكر، قال: ومن الثيب؟ قالت: سودة بنة زمعة، قد آمنت بك، واتبعتك على ما تقول، قال: فاذهبي فاذكريهما عليَّ، فدخلت بيت أبي بكر، فقالت: يا أم رومان، ماذا أدخل الله عز وجل عليكم من الخير والبركة؟ قالت: وما ذاك؟ قالت: أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم أخطب عليه عائشة، قالت: انتظري أبا بكر حتى يأتي، فجاء أبو بكر، فقالت: يا أبا بكر، ماذا أدخل الله عليكم من الخير والبركة؟ قال: وما ذاك؟ قالت: أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم أخطب عليه عائشة، قال: وهل تصلح له، إنما هي ابنة أخيه؟ فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت له ذلك، قال: ارجعي إليه، فقولي له: أنا أخوك وأنت أخي في الإسلام، وابنتك تصلح لي، فرجعت فذكرت ذلك له، قال: انتظري، وخرج، قالت أم رومان: إن مطعم بن عدي قد كان ذكرها على ابنه، فوالله ما وعد موعدًا قط فأخلفه لأبي بكر، فدخل أبو بكر الصديق على مطعم بن عدي وعنده امرأته أم الفتى، فقالت: يا ابن أبي قحافة لعلك مصبئ صاحبنا مدخله في دينك الذي أنت عليه إن تزوج إليك، قال أبو بكر للمطعم بن عدي: أقول هذه تقول؟ قال: إنها تقول ذلك، فخرج من عنده وقد أذهب الله عز وجل ما كان في نفسه من عدته التي وعده، فرجع، فقال لخولة: ادعي لي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعتْه، فزوجها إياه، وعائشة يومئذٍ بنت ست سنين، ثم خرجت فدخلت على سودة بنت زمعة، فقالت: ماذا أدخل الله عز وجل عليك من الخير والبركة؟ قالت: ما ذاك؟ قالت: أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم أخطبكِ عليه، قالت: وددت ادخلي إلى أبي فاذكري ذاك له، وكان شيخًا كبيرًا قد أدركه السن قد تخلف عن الحج، فدخلت عليه فحيته بتحية الجاهلية، فقال: من هذه؟ فقالت: خولة بنت حكيم، قال: فما شأنكِ؟ قالت: أرسلني محمد بن عبدالله أخطب عليه سودة، قال: كفء كريم، ماذا تقول صاحبتك؟ قالت تحب ذاك، قال: ادعيها لي فدعتها، قال: أي بنية، إن هذه تزعم أن محمد بن عبدالله بن عبدالمطلب قد أرسل يخطبكِ وهو كفء كريم، أتحبين أن أزوجكِ به؟ قالت: نعم، قال: ادعيه لي، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه فزوجها إياه، فجاءها أخوها عبد بن زمعة من الحج فجعل يحثي في رأسه التراب، فقال بعد أن أسلم: لَعمرك إني لسفيه يوم أحثي في رأسي التراب أنْ تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم سودة بنت زمعة، قالت عائشة: فقدِمنا المدينة فنزلنا في بني الحارث بن الخزرج في السنح، قالت: فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل بيتنا واجتمع إليه رجال من الأنصار ونساء، فجاءتني أمي، وإني لَفي أُرْجُوحة بين عِذْقَين ترجُحُ بي، فأنزلتني من الأرجوحة ولي جُمَيْمَة ففَرَقَتْها ومسحت وجهي بشيء من ماء، ثم أقبلت تقودني حتى وقفت بي عند الباب، وإني لأنهج حتى سكن من نفسي، ثم دخلت بي، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس على سرير في بيتنا، وعنده رجال ونساء من الأنصار، فأجلستني في حجره ثم قالت: هؤلاء أهلكِ فبارك الله لك فيهم وبارك لهم فيكِ، فوثب الرجال والنساء فخرجوا وبنى بي رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتنا، ما نُحرت عليَّ جزور، ولا ذُبحت عليَّ شاة، حتى أرسل إلينا سعد بن عبادة بجفنة كان يرسل بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دار إلى نسائه، وأنا يومئذٍ بنت تسع سنين))؛ [إسناده حسن، مسند أحمد ج: 42، ص: 501، حديث: 25769]. وقد بنى النبي صلى الله عليه وسلم بعائشة في شهر شوال على رأس ثمانية عشر شهرًا من هجرته صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، بعد عودته من غزوة بدر عام اثنين من الهجرة، ومات عنها النبي وهي ابنة ثماني عشرة سنة، وعاشت بعد النبي صلى الله عليه وسلم ستًّا وأربعين سنة؛ [إسناده صحيح، مسند أحمد، ج: 40، ص: 183، حديث: 24152] . مناقب أم المؤمنين عائشة: سوف نذكر بعضًا من فضائل أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها. [1] روى الشيخان عن أبي عثمان: ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث عمرو بن العاص على جيش ذات السلاسل قال: فأتيته، فقلت: أي الناس أحب إليك؟ قال: عائشة، قلت: من الرجال؟ قال: أبوها، قلت: ثم من؟ قال: عمر، فعدَّ رجالًا فسكتُّ مخافة أن يجعلني في آخرهم))؛ [البخاري حديث: 4359، مسلم حديث: 2384]. [2] روى الشيخان عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا: ((يا عائش، هذا جبريل يقرِئك السلام، فقلت: وعليه السلام ورحمة الله وبركاته، ترى ما لا أرى؛ تريد رسول الله صلى الله عليه وسلم))؛ [البخاري حديث: 3768، مسلم حديث:2447]. [3] روى البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((فضل عائشة على النساء كفضل الثَّرِيد على سائر الطعام))؛ [البخاري حديث: 3770]. [4] روى مسلم عن عائشة قالت: ((كنت أشرب وأنا حائض، ثم أناوله النبي صلى الله عليه وسلم فيضع فاه على موضع فيَّ، فيشرب وأتعرق العرق – اللحم - وأنا حائض ثم أناوله النبي صلى الله عليه وسلم فيضع فاه على موضع في))؛ [مسلم حديث: 300]. [5] روى الشيخان عن عروة بن الزبير: ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما كان في مرضه جعل يدور في نسائه، ويقول: أين أنا غدًا؟ أين أنا غدًا؟ حرصًا على بيت عائشة، قالت عائشة: فلما كان يومي سكن))؛ [البخاري حديث: 3774، مسلم حديث: 2443] . [6] روى الشيخان عن عائشة رضي الله عنها ((أن الناس كانوا يتحرَّون بهداياهم يوم عائشة؛ يبتغون بها أو يبتغون بذلك مرضاة رسول الله صلى الله عليه وسلم)) [البخاري حديث: 2574، مسلم حديث: 2441]. [7] روى البخاري عن عائشة قالت: ((كان يوم عيد يلعب السُّودانُ بالدَّرَقِ والحِراب، فإما سألت النبي صلى الله عليه وسلم، وإما قال تشتهين تنظرين، فقلت: نعم، فأقامني وراءه، خدي على خده وهو يقول: دونكم يا بني أرْفِدَةَ، حتى إذا ملِلتُ، قال: حسبك؟ قلت: نعم، قال: فاذهبي))؛ [البخاري حديث: 950]. المكانة العلمية لأم المؤمنين عائشة: تبوأت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها مكانة علمية رفيعة جعلتها من علماء عصرها، والمرجع العلمي الذي يرجعون إليه فيما يغمض عليهم من مسائل القرآن والحديث والفقه، فيجدون عندها الجواب الشافي لجميع تساؤلاتهم واستفساراتهم. روت عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم ألفين ومائتين وعشرة أحاديث، اتفق لها البخاري ومسلم على مائة وأربعة وسبعين حديثًا، وانفرد البخاري بأربعة وخمسين، وانفرد مسلم بتسعة وستين؛ [سير أعلام النبلاء للذهبي، ج: 2، ص: 139]. [1] روى الترمذي عن أبي موسى قال: ((ما أشكل علينا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثٌ قط، فسألنا عائشة، إلا وجدنا عندها منه علمًا))؛ [حديث صحيح، صحيح سنن الترمذي للألباني، حديث: 3044]. [2] روى الترمذي عن موسى بن طلحة قال: ((ما رأيت أحدًا أفصح من عائشة))؛ [حديث صحيح، صحيح سنن الترمذي للألباني، حديث: 3044]. [3] روى ابن أبي شيبة عن عروة بن الزبير، قال: ((ما رأيت أحدًا أعلم بفريضة، ولا أعلم بفقه ولا بشعر من عائشة))؛ [إسناده صحيح، مصنف ابن أبي شيبة، ج: 10، ص: 248]. [4] قال عطاء بن أبي رباح: "كانت عائشة أفقه الناس، وأعلم الناس ، وأحسن الناس رأيًا في العامة؛ [سير أعلام النبلاء للذهبي، ج: 2، ص: 185] . [5] قال الزهري: "لو جُمع علم عائشة إلى علم جميع أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، وعلم جميع النساء، لكان علم عائشة أفضل "؛ [صفة الصفوة لابن الجوزي، ج: 2، ص: 33]. [6] روى ابن أبي شيبة عن مسروق: ((أنه قيل له: هل كانت عائشة تحسن الفرائض؟ فقال: إي والذي نفسي بيده، لقد رأيت مشيخة أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم الأكابر يسألونها عن الفرائض))؛ [إسناده صحيح، مصنف ابن أبي شيبة، ج: 10، ص: 248]. وكان مسروق إذا حدَّث عن عائشة قال: "حدثتني الصديقة بنت الصديق، حبيبة حبيب الله، المبرأة من فوق سبع سماوات"؛ [البداية والنهاية لابن كثير، ج: 8، ص: 96]. [7] روى ابن أبي شيبة عن عمرو بن ميمون، قال: ((كانوا إذا اختلفوا في فريضة أتوا عائشة فأخبرتهم بها))؛ [إسناده صحيح، مصنف ابن أبي شيبة، ج: 10، ص: 249]. [8] قال الأحنف بن قيس: قال: "سمعت خطبة أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب، فما سمعت الكلام من في مخلوق أحسن، ولا أفخم من في عائشة رحمة الله عليهم أجمعين"؛ [صفة الصفوة لابن الجوزي، ج: 2، ص: 36]. [9] قال ابن كثير: "لم يكن في النساء أعلم من تلميذاتها؛ عمرة بنت عبدالرحمن، وحفصة بنت سيرين، وعائشة بنت طلحة، وقد تفردت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، بمسائل من بين الصحابة لم توجد إلا عندها"؛ [البداية والنهاية لابن كثير، ج: 8، ص: 96]. اجتهاد أم المؤمنين عائشة في العبادات: قال القاسم بن محمد: "كانت عائشة أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها تصوم حتى يضعفها الصوم"؛ [حلية الأولياء لأبي نعيم الأصبهاني، ج: 2، ص: 47]. وقال القاسم بن محمد أيضًا: "كنت إذا غدوت أبدأ ببيت عائشة أسلم عليها، فغدوت يومًا فإذا هي قائمة تسبح وتقرأ: ﴿ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ ﴾ [الطور: 27]، وتدعو وتبكي وترددها، فقمت حتى مللت القيام، فذهبت إلى السوق لحاجتي ثم رجعت، فإذا هي قائمة كما هي تصلي وتبكي" ؛ [صفة الصفوة لابن الجوزي، ج: 2، ص: 31] . اجتهاد أم المؤمنين عائشة في الطب: قال الشعبي: "قيل لعائشة: يا أم المؤمنين، هذا القرآن تلقيته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك الحلال والحرام، وهذا الشعر والنسب والأخبار سمعتها من أبيك وغيره، فما بال الطب؟ قالت: كانت الوفود تأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا يزال الرجل يشكو علةً، فيسأله عن دوائها، فيخبره بذلك، فحفظت ما كان يصفه لهم، وفهمته))؛ [سير أعلام النبلاء، للذهبي، ج: 2، ص: 197]. من بركات أم المؤمنين عائشة: روى البخاري عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم ، قالت: ((خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره، حتى إذا كنا بالبيداء أو بذات الجيش، انقطع عقد لي فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم على التماسه، وأقام الناس معه، وليسوا على ماء، فأتى الناس إلى أبي بكر الصديق، فقالوا: ألا ترى ما صنعت عائشة؛ أقامت برسول الله صلى الله عليه وسلم والناس، وليسوا على ماء، وليس معهم ماء؟ فجاء أبو بكر ورسول الله صلى الله عليه وسلم واضع رأسه على فخذي قد نام، فقال: حبستِ رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس وليسوا على ماء وليس معهم ماء، فقالت عائشة: فعاتبني أبو بكر، وقال ما شاء الله أن يقول، وجعل يطعنني بيده في خاصرتي، فلا يمنعني من التحرك إلا مكان رسول الله صلى الله عليه وسلم على فخذي، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أصبح على غير ماء، فأنزل الله آية التيمم، فتيمموا، فقال أسيد بن الحضير: ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر، قالت: فبعثنا البعير الذي كنت عليه فأصبنا العقد تحته))؛ [البخاري حديث: 334]. كيفية رضا أم المؤمنين عائشة عن نبينا صلى الله عليه وسلم: روى الشيخان عن عائشة رضي الله عنها قالت: ((قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني لأعلم إذا كنتِ عني راضيةً، وإذا كنتِ عليَّ غضبى، قالت: فقلت: من أين تعرف ذلك؟ فقال: أما إذا كنتِ عني راضيةً، فإنك تقولين: لا ورب محمد، وإذا كنتِ عليَّ غضبى، قلتِ: لا ورب إبراهيم، قالت: قلت: أجل والله يا رسول الله، ما أهجر إلا اسمك))؛ [البخاري حديث: 5228، مسلم حديث: 2439]. قول عائشة: ((ما أهجر إلا اسمك))؛ قال ابن المنير رحمه الله: "مرادها أنها كانت تترك التسمية اللفظية، ولا يترك قلبها التعلق بذاته الكريمة مودةً ومحبةً"؛ [فتح الباري لابن حجر العسقلاني، ج: 9، ص: 326]. أزواج نبينا صلى الله عليه وسلم يغارون من عائشة: روى البخاري عن عروة بن الزبير قال: ((كان الناس يتحرون بهداياهم يوم عائشة، قالت عائشة: فاجتمع صواحبي إلى أم سلمة، فقلْنَ: يا أم سلمة، والله إن الناس يتحرون بهداياهم يوم عائشة، وإنا نريد الخير كما تريده عائشة، فمُرِي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأمر الناس أن يهدوا إليه حيثما كان أو حيثما دار، قالت: فذكرت ذلك أم سلمة للنبي صلى الله عليه وسلم، قالت: فأعرض عني، فلما عاد إليَّ ذكرت له ذاك، فأعرض عني، فلما كان في الثالثة ذكرت له فقال: يا أم سلمة، لا تؤذيني في عائشة؛ فإنه والله ما نزل عليَّ الوحي وأنا في لحاف امرأة منكن غيرها))؛ [البخاري حديث: 3775]. • قال الإمام الذهبي رحمه الله: "هذا الجواب منه دالٌّ على أن فضل عائشة على سائر أمهات المؤمنين بأمر إلهي وراء حبه لها، وأن ذلك الأمر من أسباب حبه لها"؛ [سير أعلام النبلاء، ج: 2، ص: 143]. روى مسلم عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: ((أرسل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستأذنت عليه وهو مضطجع معي في مرطي، فأذِن لها، فقالت: يا رسول الله، إن أزواجك أرسلْنَنِي إليك يسألْنَك العدل في ابنة أبي قحافة، وأنا ساكتة، قالت: فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي بنية، ألستِ تحبين ما أحب؟ فقالت: بلى، قال: فأحبي هذه، قالت: فقامت فاطمة حين سمعت ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرجعت إلى أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرتهن بالذي قالت وبالذي قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلن لها: ما نراكِ أغنيتِ عنا من شيء، فارجعي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقولي له: إن أزواجك ينشدنك العدل في ابنة أبي قحافة، فقالت فاطمة: والله لا أكلمه فيها أبدًا، قالت عائشة: فأرسل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش زوج النبي صلى الله عليه وسلم وهي التي كانت تساميني منهن في المنزلة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم أرَ امرأةً قط خيرًا في الدين من زينب، وأتقى لله، وأصدق حديثًا، وأوصل للرحم، وأعظم صدقةً، وأشد ابتذالًا لنفسها في العمل الذي تصدق به وتقرب به إلى الله تعالى، ما عدا سَورةً من حِدَّة كانت فيها، تُسرع منها الفَيئة، قالت: فاستأذنت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم مع عائشة في مرطها على الحالة التي دخلت فاطمة عليها وهو بها، فأذِن لها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله، إن أزواجك أرسلنني إليك يسألنك العدل في ابنة أبي قحافة، قالت: ثم وقعت بي، فاستطالت عليَّ، وأنا أرقُب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأرقب طرفه، هل يأذن لي فيها؟ قالت: فلم تبرح زينب حتى عرفت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يكره أن أنتصر، قالت: فلما وقعت بها لم أنشبها حتى أنحيت عليها، قالت: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وتبسم: إنها ابنة أبي بكر))؛ [مسلم حديث: 2442]. عائشة تغار على نبينا صلى الله عليه وسلم: [1] روى الشيخان عن عائشة رضي الله عنها، قالت: ((ما غِرْتُ على أحد من نساء النبي صلى الله عليه وسلم ما غرت على خديجة، وما رأيتها، ولكن كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر ذكرها، وربما ذبح الشاة ثم يقطعها أعضاءً ثم يبعثها في صدائق خديجة، فربما قلت له: كأنه لم يكن في الدنيا امرأة إلا خديجة، فيقول: إنها كانت وكانت وكان لي منها ولد))؛ [البخاري حديث: 3818، مسلم حديث: 2435]. [2] روى النسائي عن أبي المتوكل عن أم سلمة رضي الله عنها، (( أنها أتت بطعام في صَحْفَةٍ – وعاء - لها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فجاءت عائشة رضي الله عنها متزرةً بكساء ومعها فِهْر – حجر - ففلقت به الصحفة، فجمع النبي صلى الله عليه وسلم بين فلقتي الصحفة، ويقول: كلوا غارت أمكم مرتين، ثم أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم صحفة عائشة فبعث بها إلى أم سلمة، وأعطى صحفة أم سلمة عائشة))؛ [حديث صحيح، صحيح سنن النسائي للألباني، ج: 2، ص: 62 ]. قال الإمام ابن حجر العسقلاني رحمه الله: "هذا الحديث وقالوا فيه إشارة إلى عدم مؤاخذة الغيراء بما يصدر منها؛ لأنها في تلك الحالة يكون عقلها محجوبًا بشدة الغضب الذي أثارته الغيرة"؛ [فتح الباري لابن حجر العسقلاني، ج:9، ص: 236] . [3] روى الشيخان عن القاسم عن عائشة: ((أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا خرج أقرع بين نسائه، فطارت القرعة لعائشةَ وحفصةَ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان بالليل سار مع عائشة يتحدث، فقالت حفصة: ألا تركبين الليلة بعيري وأركب بعيركِ تنظرين وأنظر؟ فقالت: بلى، فركبت فجاء النبي صلى الله عليه وسلم إلى جمل عائشة وعليه حفصة، فسلم عليها، ثم سار حتى نزلوا، وافتقدته عائشة، فلما نزلوا جعلت رجليها بين الإذْخِرِ، وتقول: يا رب سلِّط عليَّ عقربًا أو حيةً تلدغني، ولا أستطيع أن أقول له شيئًا))؛ [البخاري حديث: 5211، مسلم حديث: 2445]. شدة خوف أم المؤمنين عائشة من الله تعالى: [1] روى البخاري عن عوف بن مالك بن الطفيل هو ابن الحارث، وهو ابن أخي عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم لأمها: ((أن عائشة حُدِّثت أن عبدالله بن الزبير قال في بيع أو عطاء أعطته عائشة: والله لتنتهينَّ عائشة أو لأحجرن عليها، فقالت: أهو قال هذا؟ قالوا: نعم، قالت: هو لله عليَّ نذر ألَّا أكلم ابن الزبير أبدًا، فاستشفع ابن الزبير إليها حين طالت الهجرة، فقالت: لا والله لا أُشَفِّع فيه أبدًا، ولا أتحنث إلى نذري، فلما طال ذلك على ابن الزبير، كلَّم المسور بن مخرمة، وعبدالرحمن بن الأسود بن عبديغوث؛ وهما من بني زهرة، وقال لهما: أنشدكما بالله لما أدخلتماني على عائشة، فإنها لا يحل لها أن تنذر قطيعتي، فأقبل به المسور وعبدالرحمن مشتملين بأرديتهما حتى استأذنا على عائشة، فقالا: السلام عليكِ ورحمة الله وبركاته، أندخل؟ قالت عائشة: ادخلوا، قالوا: كلنا، قالت: نعم ادخلوا كلكم، ولا تعلم أن معهما ابن الزبير، فلما دخلوا دخل ابن الزبير الحجاب، فاعتنق عائشة وطفق يناشدها ويبكي، وطفق المسور وعبدالرحمن يناشدانها إلا ما كلمته وقبلت منه، ويقولان: إن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عما قد علمت من الهجرة، فإنه لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليالٍ، فلما أكثروا على عائشة من التذكرة والتحريج، طفقت تذكرهما نذرها وتبكي، وتقول: إني نذرت والنذر شديد، فلم يزالا بها حتى كلمت ابن الزبير، وأعتقت في نذرها ذلك أربعين رقبةً، وكانت تذكر نذرها بعد ذلك، فتبكي حتى تبل دموعها خمارها))؛ [البخاري حديث: 6073]. [2] روى ابن سعد عن محمد بن المنكدر عن عائشة قالت: "يا ليتني كنت نباتًا من نبات الأرض ولم أكن شيئًا مذكورًا"؛ [الطبقات الكبرى لابن سعد، ج: 8، ص: 60]. [3] روى ابن سعد عن عمرو بن سلمة أن عائشة قالت: "والله لوددت أني كنت شجرةً، والله لوددت أني كنت مَدَرَةً، والله لوددت أن الله لم يكن خلقني شيئًا قط"؛ [الطبقات الكبرى لابن سعد، ج: 8، ص: 59]. [4] روى ابن سعد عن عائشة أنها قالت حين حضرتها الوفاة: "يا ليتني لم أُخْلَق، يا ليتني كنت شجرةً أسبِّح وأقضي ما عليَّ"؛ [الطبقات الكبرى لابن سعد، ج: 8، ص: 59]. كرم عائشة وزهدها في الدنيا: [1] قال عروة بن الزبير: "بعث معاوية مرةً إلى عائشة بمائة ألف درهم، فوالله ما أمست حتى فرقتها، فقالت لها مولاتها: لو اشتريت لنا منها بدرهم لحمًا؟ فقالت عائشة: ألا قلت لي"؛ [سير أعلام النبلاء للذهبي، ج: 2، ص: 186]. [2] روى ابن سعد عن عروة بن الزبير أن عائشة تصدقت بسبعين ألفًا، وإنها لترقع جانب درعها رضي الله عنها؛ [الطبقات الكبرى لابن سعد، ج: 8، ص: 53]. [3] بعث معاوية إلى عائشة بقلادة بمائة ألف، فقسمتها بين أمهات المؤمنين ؛ [سير أعلام النبلاء للذهبي، ج: 2، ص: 187]. [4] روى ابن سعد عن أم ذرة، قالت: "بعث ابن الزبير إلى عائشة بمال في غرارتين - كيس من القماش - يكون مائة ألف فدعت بطبق، وهي يومئذٍ صائمة، فجعلت تقسم في الناس، قال: فلما أمست، قالت: يا جارية هاتي فطري، فقالت أم ذرة: يا أم المؤمنين، أما استطعتِ فيما أنفقتِ أن تشتري بدرهم لحمًا تفطرين عليه؟ فقالت: لا تعنفيني، لو كنتِ أذكرتِني لفعلت"؛ [الطبقات الكبرى لابن سعد، ج: 8، ص: 53]. براءة الله تعالى لعائشة من حادث الإفك: قال الإمام الذهبي رحمه الله: "حادث الإفك – الكذب - كان في غزوة المريسيع - وتسمى غزوة بني المصطلق - سنة خمس من الهجرة،وعمر عائشة رضي الله عنها يومئذٍ اثنتا عشرة سنةً"؛ [سير أعلام النبلاء للذهبي، ج: 2، ص: 153]. قال الله تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ * لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ * لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ * وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ * إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ * وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ * يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ * وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ [النور: 11 - 20]. قال الإمام ابن كثير رحمه الله: "لما تكلم فيها أهل الإفك بالزور والبهتان غار الله لها، فأنزل لها براءتها في عشر آيات من القرآن تُتلى على تعاقب الأزمان، وقد أجمع العلماء على تكفير من قذفها بعد براءتها، واختلفوا في بقية أمهات المؤمنين، هل يكفر من قذفهن أم لا؟ على قولين، وأصحهما أنه يكفر؛ لأن المقذوفة زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله تعالى إنما غضب لها؛ لأنها زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهي وغيرها منهن سواء"؛ [البداية والنهاية لابن كثير، ج: 8، ص: 95]. الخصائص الكريمة لعائشة: من خصائص عائشة رضي الله عنها: أنها كان لها في القسم يومان؛ يومها ويوم سَودة حين وهبتها ذلك؛ تقربًا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولم يتزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم بكرًا غيرها، وهي أفقه نساء الأمة على الإطلاق؛ [البداية والنهاية لابن كثير، ج: 8، ص: 95]. روى أحمد عن عائشة قالت: ((مات رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتي ويومي وبين سحري – الرئة – ونحري - أعلى الصدر - فدخل عبدالرحمن بن أبي بكر، ومعه سواك رطب، فنظر إليه، فظننت أن له فيه حاجةً، قالت: فأخذته فمضغته، ونفضته وطيبته، ثم دفعته إليه فاستنَّ كأحسن ما رأيته مستنًّا قط، ثم ذهب يرفعه إليَّ فسقط من يده، فأخذت أدعو الله عز وجل بدعاء كان يدعو له به جبريل عليه السلام، وكان هو يدعو به إذا مرِض فلم يدعُ به في مرضه ذلك، فرفع بصره إلى السماء، وقال: الرفيق الأعلى، الرفيق الأعلى، وفاضت نفسه، فالحمد لله الذي جمع بين ريقي وريقه في آخر يوم من أيام الدنيا))؛ [إسناده صحيح، مسند أحمد، ج:6، ص: 48]. مرض أم المؤمنين عائشة: روى البخاري عن القاسم بن محمد: ((أن عائشة اشتكت - أي مرضت - فجاء ابن عباس فقال: يا أم المؤمنين، تقدمين على فَرَط صدق؛ على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى أبي بكر))؛ [البخاري حديث: 3771]. وروى أحمد عن ذكوان مولى عائشة أنه استأذن لابن عباس على عائشة وهي تموت، وعندها ابن أخيها عبدالله بن عبدالرحمن، فقال: هذا ابن عباس يستأذن عليكِ، وهو من خير بنيكِ، فقالت: دعني من ابن عباس ومن تزكيته، فقال لها عبدالله بن عبدالرحمن: إنه قارئ لكتاب الله، فقيه في دين الله، فأذني له، فليسلم عليكِ، وليودعكِ قالت: فأذن له إن شئت، قال: فأذِن له، فدخل ابن عباس ثم سلم وجلس، وقال: أبشري يا أم المؤمنين، فوالله ما بينكِ وبين أن يذهب عنكِ كل أذًى ونصب - أو قال: وصب - وتلقي الأحبة محمدًا وحزبه - أو قال أصحابه - إلا أن تفارق روحُكِ جسدَكِ، فقالت: وأيضًا؟ فقال ابن عباس: كنتِ أحب أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه، ولم يكن يحب إلا طيبًا، وأنزل الله عز وجل براءتكِ من فوق سبع سماوات، فليس في الأرض مسجد إلا وهو يُتلى فيه آناء الليل وآناء النهار، وسقطت قلادتكِ بالأبواء فاحتبس النبي صلى الله عليه وسلم في المنزل والناس معه في ابتغائها - أو قال في طلبها - حتى أصبح القوم على غير ماء فأنزل الله عز وجل: ﴿ فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا ﴾ [النساء: 43]؛ الآية، فكان في ذلك رخصة للناس عامةً في سببك، فوالله إنكِ لَمباركة، فقالت: دعني يا ابن عباس من هذا، فوالله لوددت أني كنتُ نسيًا منسيًّا))؛ [إسناده جيد، مسند أحمد، ج: 5، ص: 308، حديث: 3262]. وفاة أم المؤمنين عائشة: توفيت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها سنة سبع وخمسين، ليلة الثلاثاء، لسبع عشرة ليلة مضت من رمضان، وأوصت أن تدفن بالبقيع ليلًا، دُفنت عائشة رضي الله عنها وصلى عليها أبو هريرة، ونزل في قبرها خمسة: عبدالله وعروة ابنا الزبير، والقاسم بن محمد بن أبي بكر، وعبدالله بن محمد بن أبي بكر، وعبدالله بن عبدالرحمن بن أبي بكر. وكان عمر عائشة حين توفيت ثلاثًا وستين سنة وعدة أشهر؛ [أسد الغابة لابن الأثير، ج: 6، ص: 195، سير أعلام النبلاء للذهبي، ج: 2، ص: 193:192]. رحم الله تعالى أم المؤمنين عائشة بنت أبي بكر الصديق رحمة واسعة، وجزاها عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء. ختامًا: أسأل الله تعالى بأسمائه الـحسنى وصفاته العلا أن يجعل هذا العمل خالصًا لوجهه الكريم، وأن ينفع به طلاب العلم الكرام، وأرجو كل قارئ كريم أن يدعو الله سبحانه لي بالإخلاص، والتوفيق، والثبات على الحق، وحسن الخاتمة؛ فإن دعوة المسلم لأخيه المسلم بظهر الغيب مستجابة؛ وأختم بقول الله تعالى: ﴿ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ [الحشر: 10]. وآخر دعوانا أن الـحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا مـحمد، وآله، وأصحابه، والتابعين لـهم بإحسان إلى يوم الدين.
جدلية إعجاز النص القرآني لغويا وفكريا اعتراضات ومعالجات صدر حديثًا كتاب "جدلية إعجاز النص القرآني لغويًا وفكريًا- اعتراضات ومعالجات"، تأليف: د. "محمد ذن ون يونس الفتحي" ود. " آماد كاظم البرواري "، نشر: "دار الرياحين للنشر والتوزيع". ويتناول هذا الكتاب قضايا إشكالية حول مفهوم إعجاز القرآن، من الجانب اللغوي والفكري، حيث يتعقب فيه أغلب الاعتراضات حول مصطلح "الإعجاز" ومباحثه قديمًا وحديثًا، ويرد عليها مفندًا أغلب تلك الشبهات ومعالجًا لعدد من تلك القضايا التي هي مدار حديث الباحثين حول إعجاز النص القرآني. وقد قسم الكتاب على أربعة فصول، إذ بين الباحثان في الفصل التمهيدي الإطار العام لمفهوم المعجزة ومصداقها، وبرهنا على إعجاز لغة القرآن ونظمه بالحجاج اللغوي والعقلي، كما سردا المصنفات في علم الإعجاز، وأهمية علم الإعجاز، وأوجه الإعجاز في القرآن الكريم. أما في الفصل التنظيري فبدأ بمبحث عن أحوال العرب قبل الإسلام، ثم عرج منه لتناول خصائص المفردة القرآنية، وخصائص الترتيب القرآني، من حيث البلاغة والاتساق اللفظي والإيقاع الداخلي المتناغم مع المعنى، كما تناول الباحثان قضية معارضة القرآن وكشفا عن منهجية المعترضين في الطعن وأثبتا تهافتها في ذاتها؛ كونها قائمة على مغالطات لغوية ومعرفية ومنطقية. وقد خُصِّصَ ( الفصل التطبيقي الأول ) لعرض اعتراضات ( أحمد القبانجي ) حول بلاغة القرآن الكريم وإعجازه، وبعد أنْ تحرَّى الكاتبان اعتراضاته وجداها مجرَّد مغالطات بنيت على تصورات خاطئة منه، وقد اعتمدا المنهج الوصفي الأكاديمي في عرض اعتراضاته، في حين اعتمدا منهج الحجاج اللغوي والمنطقي والعقلي في تحليل اعتراضاته والردِّ عليها. وفي ( الفصل التطبيقي الثاني ) تناولا الاعتراضات التي أثيرت في برنامج ( آية وتعليق )، الذي اشترك في تقديمه المدعو الأخ رشيد ( المتنصّر ) وحامد عبد الصمد ( الملحد )، وقد برهنا بالحجاج العقلي تهافت شبهاتهم من الناحية المنطقية وقصورها من الناحية المعرفية، وقيامها على النقد الانطباعي والتعليق المرتجل، من دون منهجية في الطرح، أو رؤية علمية في النقاش، بل تقرب من التهريج والفوضى والمغالطات التي تلقى جزافًا هنا وهناك. ومن ضمن تلك الاعتراضات المغلوطة التي فنداها بالدليل والحجة: • اعتراضات على ( التقليد الأعمى عند المسلمين ). • اعتراضات على ( لغة التهديد في القرآن الكريم ). • اعتراضات على ( آيات العذاب في القرآن الكريم ). • اعتراضات على ( آيات الإرادة والمشيئة في القرآن الكريم ). • اعتراضات على ما يسمى بـ( آيات الغواية في القرآن الكريم ). • اعتراضات على ادعاء وجود ( السب والشتم في الخطاب القرآني ). • اعتراضات على ( آيات التحدي في القرآن الكريم ). • اعتراضات على ( صلاحية القرآن لكل زمان ومكان ). وقد ناقشا ما يقرب من ثمانية عشر اعتراضًا وادعاءًا من افتراءات هؤلاء العلمانيين بالحجة والبرهان، وبينا موضع المغالطة في كل افتراء. والمؤلف د. "محمد ذنون يونس الفتحي" من علماء الموصل متخصص في اللغة العربية وبلاغتها، له من المؤلفات: • "النظرية النقدية في دراسة المصطلح النحوي: حواشي شرح القطر أنموذجًا (الفيشي، السجاعي، الآلوسيان)"- رسالة ماجستير. • "ظاهرة لزوم الدور في النحو العربي مشكلاتها و طرائق دفعها". • "علم آداب البحث والمناظرة". • "محاكمات في الفكر النحوي العربي- مواقف وحقائق". • "قراءات في علم الوضع". • تحقيق "شرح الرسالة العضدية في علم الوضع" لأبي القاسم بن أبي بكر الليثي السمرقندي. ود. "آماد كاظم البرواري" متخصص في العقيدة وعلم الحجاج، من علماء الكرد، له من المؤلفات: • "المحاججة الفكرية والفلسفية في برهنة حقائق القرآن"- رسالة دكتوراه.
سعد بن أبي وقاص الحمد لله ناصر أوليائه الصادقين، ومذل أعدائه الكاذبين، والصلاة والسلام على نبينا محمد الصادق الأمين، وعلى إخوانه من الأنبياء والمرسلين، وأصحابه الغُرِّ الميامين، وأزواجه أمهات المؤمنين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين. الصحابي الجليل سعد بن أبي وقاص، هو أحد العشرة الذين بشَّرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة، فأقول وبالله تعالى التوفيق: النسب: سعد بن أبي وقاص، واسم أبي وقاص مالك بن وهيب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب بن مرة. كنية سعد: أبو إسحاق. أم سعد: هي حمنة بنت سفيان بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي؛ (الطبقات الكبرى لابن سعد، جـ3، صـ 101). إسلام سعد بن أبي وقاص: أسلم سعد بن أبي وقاص وهو ابن سبع عشرة سنة، وهاجر إلى المدينة وآخى النبي صلى الله عليه وسلم بينه وبين سعد بن معاذ؛ (صفة الصفوة لابن الجوزي، جـ 1، صـ 356). روى البخاري عن سعد بن أبي وقاص، قال: ما أسلم أحد إلا في اليوم الذي أسلمت فيه، ولقد مكثت سبعة أيام وإني لثلث الإسلام؛ (البخاري، حديث 3727 ). أولاد سعد بن أبي وقاص: رزق الله تعالى سعد بن أبي وقاص سبع عشرة ذكرًا، وثماني عشر أنثى؛ (الطبقات الكبرى لابن سعد، جـ 3، صـ 102). ابتلاء سعد في سبيل الله: (1) قال سعد بن أبي وقاص: أُنزِلَتْ فيَّ هذه الآية: ﴿ وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا ﴾ [لقمان: 15]، وكنت رجلًا برًّا بأمِّي، فلما أسلمت، قالت: يا سعد، ما هذا الذي أراك قد أحدثت؟ لتدعن دينك هذا أو لا آكل ولا أشرب حتى أموت، فتُعيَّر بي، فيقال: "يا قاتل أمِّه"، فقلت: لا تفعلي يا أمه، فإني لا أدع ديني هذا لشيء، فمكثَتْ يومًا وليلةً لم تأكل فأصبحت قد جهدت، فمكثَتْ يومًا آخر وليلةً أخرى لا تأكل، فأصبحت قد اشتدَّ جهدها، فلما رأيت ذلك، قلت: يا أمه، تعلمين والله لو كانت لك مائة نفس، فخرجت نفسًا نفسًا، ما تركت ديني هذا لشيء، فإن شئت فكُلِي، وإن شئت لا تأكلي، فأكلت؛ (تفسير ابن كثير، جـ 11، صـ 54). (2) روى أبو نعيم عن سعد بن أبي وقاص، قال: كنا قومًا يُصيبنا ظلف العيش بمكة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وشدَّته، فلمَّا أصابنا البلاء اعترفنا لذلك ومرنا عليه، وصبرنا له، ولقد رأيتني مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة خرجت من الليل أبول وإذا أنا أسمع بقعقعة شيء تحت بولي، فإذا قطعة جلد بعير، فأخذتها فغسلتها، ثم أحرقتها فوضعتها بين حجرين، ثم استففتها وشربت عليها من الماء، فقويت عليها ثلاثًا؛ (حلية الأولياء لأبي نعيم الأصفهاني، جـ 1، صـ 93). أحاديث سعد بن أبي وقاص: روى سعد مئتين وسبعين حديثًا، فمن ذاك في الصحيح ثمانية وثلاثون حديثًا؛ (سير أعلام النبلاء للذهبي، جـ 3، صـ 124). روى البخاري عن عبدالله بن عمر، عن سعد بن أبي وقاص، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه مسح على الخُفَّينِ، وأن عبدالله بن عمر سأل عمر عن ذلك، فقال: نعم، إذا حدَّثك شيئًا سعد عن النبي صلى الله عليه وسلم فلا تسأل عنه غيره؛ (البخاري، حديث 202). مناقب سعد بن أبي وقَّاص: (1) روى الترمذي عن عبدالرحمن بن عوف، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أبو بكر في الجنة، وعمر في الجنة، وعثمان في الجنة، وعليٌّ في الجنة، وطلحة في الجنة، والزبير في الجنة، وعبدالرحمن بن عوف في الجنة، وسعد في الجنة، وسعيد في الجنة، وأبو عبيدة بن الجراح في الجنة))؛ (حديث صحيح) (صحيح سنن الترمذي للألباني، حديث 2946). (2) روى مسلم عن سعد، قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ستة نفر، فقال المشركون للنبي صلى الله عليه وسلم: اطرُدْ هؤلاء، لا يجترئون علينا، قال: وكنت أنا وابن مسعود ورجل من هذيل وبلال ورجلان لست أُسَمِّيهما، فوقع في نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شاء الله أن يقع، فحدَّث نفسه، فأنزل الله عز وجل: ﴿ وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ﴾ [الأنعام: 52]؛ (مسلم، حديث: 2413). (3) روى البخاري عن سعد بن أبي وقاص، قال: عادني النبي صلى الله عليه وسلم عام حجة الوداع من مرض أشفيت منه على الموت، فقلت: يا رسول الله، بلغ بي من الوجع ما ترى، وأنا ذو مال، ولا يرثني إلا ابنة لي واحدة، أفأتصدَّق بثلثي مالي، قال: ((لا))، قال: فأتصدَّق بشطره، قال: ((الثُّلُث يا سعد، والثُّلُث كثيرٌ؛ إنك إنْ تَذَر ذُريَّتَك أغنياء خيرٌ مِنْ أنْ تذَرَهم عالةً يتكفَّفُون الناس، ولست بنافق نفقةً تبتغي بها وجه الله إلا آجرك الله بها حتى اللقمة تجعلها في فِي امرأتِك))، قلت: يا رسول الله، أُخَلَّفُ بعد أصحابي، قال: ((إنك لن تُخَلَّفَ فتعمل عملًا تبتغي به وَجْه الله، إلَّا ازددت به درجةً ورفعةً، ولعلَّك تُخَلَّف حتى ينتفع بك أقوام ويُضَرُّ بك آخرون، اللهم أمْضِ لأصحابي هجرتهم، ولا ترُدَّهم على أعقابهم))؛ (البخاري، حديث: 3936). (4) روى الترمذي عن جابر بن عبدالله، قال: أقبل سعد بن أبي وقَّاص، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((هذا خالي فليُرني امرؤ خاله))؛ (حديث صحيح) (صحيح سنن الترمذي للألباني، حديث 2951). قال الترمذي: كان سعد بن أبي وقَّاص من بني زهرة، وكانت أم النبي صلى الله عليه وسلم من بني زهرة؛ فلذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((هذا خالي))؛ (سنن الترمذي، جـ 5، صـ 607). 5) قال أبو المنهال: سأل عمر بن الخطاب عمرو بن معد يكرب، عن سعد بن أبي وقاص، فقال: "متواضِع في خبائه، عربي في نمرته (عباءته)، أسد في تاموره (عرين الأسد، وهو بيته الذي يأوي إليه)، يعدل في القضية، ويقسم بالسويَّة، ويبعد في السرية، ويعطف علينا عطف الأم البرة، وينقل إلينا حقنا نقل الذرة (النملة الحمراء)؛ (أسد الغابة، لابن الأثير، جـ 2، صـ 235). 6) قال عمر بن الخطاب: والله، لوددت أني خرجت منها كفافًا؛ لا عليَّ، ولا لي، وأن صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم سلمت لي، ولو أن لي طلاع الأرض ذهبًا لافتديت به من هول المطلع، وقد جعلتها شورى في عثمان وعلي وطلحة والزبير وعبدالرحمن بن عوف وسعد؛ (تاريخ الخلفاء للسيوطي، صـ 126). 7) قال عمرو بن ميمون: لما أصيب عمر بن الخطاب، جعل الأمر شورى في السِّتَّة، وقال: من استخلفوه فهو الخليفة بعدي، وإن أصابت سعدًا، وإلَّا فليستعن به الخليفة بعدي، فإنني لم أنزعه- يعني عن الكوفة- من ضعف ولا خيانة؛ (سير أعلام النبلاء للذهبي، جـ 1، صـ 118). حب سعد للأنصار: قال عامر بن سعد بن أبي وقاص: قلت لأبي: يا أبت، إني أراك تصنع بهذا الحي من الأنصار شيئًا ما تصنعه بغيرهم، فقال: أي بني، هل تجد في نفسك من ذلك شيئًا؟ قال: لا، ولكن أعجب من صنيعك! قال: إني سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((الأنصارُ لا يُحِبُّهم إلَّا مؤمنٌ، ولا يُبغِضُهم إلا منافق))؛ (أسد الغابة لابن الأثير، جـ 2، صـ 235). زهد سعد في الدنيا: روى الشيخان عن سعد بن أبي وقاص، قال: ردَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على عثمان بن مظعون التبتُّل، ولو أذن له لاختصينا؛ (البخاري، حديث: 5073/مسلم، حديث: 1402). ورع سعد بن أبي وقاص: قال طارق بن شهاب: كان بين خالد بن الوليد وسعد كلام (خلافات)، فذهب رجل يقع في خالد (يغتابه) عند سعد، فقال: مه، إن ما بيننا لم يبلغ ديننا؛ (حلية الأولياء لأبي نعيم الأصفهاني، جـ 1، صـ 95:94). جهاد سعد بن أبي وقاص: شهد سعد بَدْرًا وأُحُدًا، وثبت يوم أحد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين ولي الناس، وشهد الخندق والحديبية وخيبر وفتح مكة، وكانت معه يومئذٍ إحدى رايات المهاجرين الثلاث، وشهد المشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان من الرُّماة المشهورين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ (الطبقات الكبرى لابن سعد، جـ3، صـ 105). (1) روى البخاري عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: إني لأول العرب رمى بسهمٍ في سبيل الله، وكنَّا نغزو مع النبي صلى الله عليه وسلم وما لنا طعام إلا ورق الشجر؛ (البخاري، حديث: 3728). (2) روى مسلم عن سعد بن أبي وقاص أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع له أبويه يوم أُحُد، قال: كان رجل من المشركين قد أحرق المسلمين، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ((ارْمِ فِداكَ أبي وأُمِّي))، قال: فنزعت له بسهم ليس فيه نَصْل، فأصبت جَنْبَه فسقط، فانكشفت عورتُه، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى نظرتُ إلى نواجِذِه؛ (مسلم، حديث: 4212). (3) روى الشيخان عن عائشة رضي الله عنها، قالت: سهر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم مقدمه المدينة ليلةً، فقال: ((ليت رجلًا صالحًا من أصحابي يحرسني الليلة))، قالت: فبينا نحن كذلك سمعنا خشخشة سلاح، فقال: ((من هذا؟))، قال: سعد بن أبي وقاص، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما جاء بك؟))، قال: وقع في نفسي خوفٌ على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجئت أحرسُه، فدعا له رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، ثمَّ نام؛ (البخاري، حديث: 2885/مسلم، حديث:2410). 4) قال ابن إسحاق: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلوا، ذهبوا في الشِّعاب، فاستخفُّوا بصلاتِهم من قومهم، فبينا سعد بن أبي وقاص في نفر من أصحاب رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، في شعب من شعاب مكة؛ إذ ظهر عليهم نفرٌ من المشركين وهم يصلُّون، فناكروهم، وعابوا عليهم ما يصنعون حتى قاتلوهم، فضرب سعد بن أبي وقاص يومئذٍ رجلًا من المشركين بلحي (عظم) بعيرٍ فشجَّه، فكان أول دمٍ أهريق في الإسلام؛ سيرة ابن هشام، جـ 1، صـ 263). سعد قائد معركة القادسية: تولى سعد بن أبي وقاص قيادة جيوش المسلمين في معركة القادسية، فجعل أمر الحرب إلى خالد بن عرفطة، وجعل على الميمنة جرير بن عبدالله البجلي، وعلى الميسرة قيس بن مكشوح، وكان قيس والمغيرة بن شعبة قد قدما على سعد مددًا من عند أبي عبيدة من الشام بعد ما شهدا وقعة اليرموك. كان المسلمون ما بين السبعة آلاف إلى الثمانية آلاف، وكان رستم (قائد الفرس) كان في ستين ألفًا، فصلَّى سعد بالناس الظهر، ثم خطب الناس فوعظهم وحثَّهم، وتلا قوله تعالى: ﴿ وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ ﴾ [الأنبياء: 105]، وقرأ القُرَّاء آيات الجهاد وسوره، ثم كبَّرَ سعد أربعًا، ثم حملوا بعد الرابعة، فاقتتلوا حتى كان الليل فتحاجزوا، وقد قتل من الفريقين بشر كثير، ثم أصبحوا إلى مواقفهم فاقتتلوا يومهم ذلك وعامة ليلتهم، ثم أصبحوا كما أمسوا على مواقفهم، فاقتتلوا حتى أمسوا، ثم اقتتلوا في اليوم الثالث كذلك، وأمست هذه الليلة تُسمَّى ليلة الهرير، فلما أصبح اليوم الرابع اقتتلوا قِتالًا شديدًا، وقد قاسوا من الفيلة بالنسبة إلى الخيول العربية بسبب نفرتها منها أمرًا بليغًا، وقد أباد الصحابة الفيلة ومَنْ عليها، وقلعوا عيونها، وأبلى جماعةً من الشجعان في هذه الأيام مثل طليحة الأسدي، وعمرو بن معدي كرب، والقعقاع بن عمرو، وجرير بن عبدالله البجلي، وضرار بن الخطاب، وخالد بن عرفطة، وأشكالهم وأضرابهم، فلما كان وقت الزوال من هذا اليوم ويُسمَّى يوم القادسية، وكان يوم الاثنين من المحرم سنة أربع عشرة من الهجرة، وهبَّت ريح شديدة فرفعت خيام الفرس عن أماكنها، وألقت سرير رستم (قائد جيوش الفرس) الذي هو منصوب له، فبادر فركب بغلته، وهرب فأدركه المسلمون فقتلوه، وانهزم الفرس، وقتل من الفرس في هذه المعركة نحو من أربعين ألفًا، واستشهد من المسلمين نحو من ألفين وخمس مئة، ودخل المسلمون المدائن، عاصمة الدولة الفارسية. وقد غنم المسلمون الكثير من الأموال والسلاح، وبعث سعد بن أبي وقَّاص بالخمس والبشارة إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقد كان عمر رضي الله عنه، يستخبر عن أمر القادسية كُلَّ مَن لقيه من الركبان، ويخرج من المدينة إلى ناحية العراق يستنشق الخبر، فبينما هو ذات يوم من الأيام إذا هو براكبٍ يلوح من بعد، فاستقبله عمر فاستخبره، فقال له: فتح الله على المسلمين بالقادسية، وغنموا غنائم كثيرة، وجعل يُحدِّثه، وهو لا يعرف عمر وعمر ماشٍ تحت راحلته، فلمَّا اقتربا من المدينة جعل الناس يحيُّون عُمَرَ بالإمارة، فعرف الرجل عمر، فقال: يرحمك الله يا أمير المؤمنين، هلا أعلمتني أنك الخليفة؟ فقال: لا حرج عليك يا أخي؛ (البداية والنهاية لابن كثير، جـ 9، صـ 45:44). دعاء سعد بن أبي وقاص مستجاب: روى الترمذي عن سعد بن أبي وقاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ((اللهم استجِبْ لسعدٍ إذا دعاك))؛ (حديث صحيح) (صحيح سنن الترمذي للألباني، حديث 2950). روى البخاري عن جابر بن سمرة، قال: شكا أهل الكوفة سعدًا إلى عمر رضي الله عنه، فعزله واستعمل عليهم عمَّارًا، فشكوا حتى ذكروا أنه لا يُحسِن يُصلِّي، فأرسل إليه، فقال: يا أبا إسحاق، إن هؤلاء يزعمون أنك لا تحسن تصلي، قال أبو إسحاق: أما أنا والله فإني كنت أصلي بهم صلاةَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما أخرم عنها، أصلي صلاة العشاء فأركد في الأوليين وأخف في الأخريين، قال: ذاك الظن بك يا أبا إسحاق، فأرسل معه رجلًا أو رجالًا إلى الكوفة، فسأل عنه أهل الكوفة ولم يدع مسجدًا إلا سأل عنه ويثنون معروفًا حتى دخل مسجدًا لبني عبس، فقام رجل منهم يُقال له أسامة بن قتادة، يكنى أبا سعدة، قال: أما إذ نشدتنا فإن سعدًا كان لا يسير بالسريَّة، ولا يُقْسِم بالسويَّة، ولا يعدِل في القضية، قال سعد: أما والله، لأدعونَّ بثلاث: اللهُمَّ إن كان عبدك هذا كاذبًا قام رياءً وسمعةً، فأطل عمره، وأطل فقره، وعرِّضه بالفتن، وكان بعد إذا سئل يقول: شيخ كبير مفتون أصابتني دعوة سعد. قال عبدالملك (أحد رواة الحديث): فأنا رأيته بعد قد سقط حاجباه على عينيه من الكبر، وإنه ليتعرَّض للجواري في الطُّرُق يغمزهن؛ (البخاري، حديث: 755). سعد في حروب الفتنة: اعتزل سعد الفتنة، فلم يحضر موقعة الجمل ولا صفين ولا التحكيم. (1) قال أيوب السختياني: اجتمع سعد بن أبي وقاص وابن مسعود وابن عمر وعمار بن ياسر، فذكروا الفتنة، فقال سعد: أما أنا فأجلس في بيتي ولا أدخل فيها؛ (حلية الأولياء لأبي نعيم الأصفهاني، جـ 1، صـ 94). (2) قال محمد بن سيرين: قيل لسعد بن أبي وقاص: ألا تقاتل، فإنك من أهل الشورى، وأنت أحق بهذا الأمر من غيرك؟ فقال: لا أقاتل حتى تأتوني بسيف له عينان ولسان وشفتان، يعرف المؤمن من الكافر، فقد جاهدت وأنا أعرف الجهاد؛ (حلية الأولياء لأبي نعيم الأصفهاني، جـ 1، صـ 94). (3) جاء هاشم بن عتبة بن أبي وقاص إلى عمِّه سعد، فقال: ههنا مائة ألف سيف يرونك أحق بهذا الأمر (أي: بالخلافة)، فقال: أريد منها سيفًا واحدًا، إذا ضربت به المؤمن لم يصنع شيئًا، وإذا ضربت به الكافر قطع؛ (الإصابة لابن حجر العسقلاني، جـ2، صـ 31). وفاة سعد بن أبي وقاص: مات سعد في قصره بالعقيق على عشرة أميال من المدينة، فحمل على رقاب الرجال إلى المدينة وصلَّى عليه مروان بن الحكم وهو يومئذٍ والي المدينة، ثم صلَّى عليه أزواج النبي صلى الله عليه وسلم في حجرهن ودفن بالبقيع، وكان أوصى أن يكفن في جبة صوف له، كان لقي المشركين فيها يوم بَدْر، فكفن فيها، وذلك في سنة خمس وخمسين، وهو ابن اثنتين وثمانين عامًا؛ (صفة الصفوة، جـ 1، صـ 361:360) (البداية والنهاية، جـ 9، صـ 45:44). ختامًا: أسأل الله تعالى بأسمائه الـحسنى وصفاته العُلا أن يجعل هذا العمل خالصًا لوجهه الكريم، كما أسأله سبحانه أن ينفع به طلاب العلم الكِرام، وأرجو كل قارئ كريم أن يدعو الله سبحانه لي بالإخلاص، والتوفيق، والثبات على الحق، وحُسْن الخاتمة، فإن دعوة المسلم الكريم لأخيه المسلم بظهر الغيب مستجابة، وأختم بقول الله تعالى: ﴿ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ [الحشر: 10]، وآخر دعوانا أن الـحمد لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله وسلم على نبيِّنا مـحمد، وآله وأصحابه، والتابعين لـهم بإحسان إلى يوم الدين.
دروس مستفادة من إسلام أبي بكر الصديق كلما ذُكر أبو بكر أمامي تنتابني مشاعر من الفخر والعزة، وتأملات في شخصيته وسيرته الزكية العَطِرة، ورُحتُ أتأمل التاريخ، تاريخ حياته وتاريخ أمة الإسلام في صدر الإسلام، وما أحوجنا في هذه الأوقات إلى العودة إلى تاريخنا؛ لنأخذ من فَيضِه ما يساعدنا على تخطِّي العقبات التي نواجهها! وتاريخ الإسلام ليس مجرَّد أحداث مُدَوَّنة، ووقائع مسجَّلة، ولكنَّه عقيدة الأمة ودينها، ومقياسها وميزانها، وعِظَتها واعتبارها ، إنه صاحبُ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، بل أعظم الصحابة، وأفضلهم، وأحبُّهم إلى الحبيب المصطفى، إنه ثاني اثنين إذ هما في الغار، إنه الرجل الذي وُزِن إيمانه بإيمان الأُمة، إنه أوَّل الخلفاء الراشدين، وأوَّل العَشَرة المبَشَّرين، وأوَّل مَن آمَنَ من الرجال. أبو بكر قبل الإسلام: اسمه عبدالله، ويكنى بأبي بكر، وهي من "البكر"؛ وهو الفَتِيُّ من الإبل، وُلد أبو بكر رضي الله عنه في عام 573 م في مكة المكرمة، بعد مولد النبي صلى الله عليه وسلم بعامين وأشهر، والده يكنى بأبي قحافة وأسلم يوم الفتح، وأمه اسمها سلمى بنت صخر بن عامر بن كعب، وهي ابنة عم أبيه، وتكنى بأم الخير، وقد أسلمت مبكرًا. وورد في صفة وجهه على لسان ابنته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنه رجل أبيض نحيف، خفيف العارضين، وكان بارزَ عروقِ الوجه، وغائر العينين، بارز الجبين، ودقيق الساقين، ومائل الظهر، وكان يخضب لحيته ويكتم؛ أي: يُحَنِّي الشيب. كان أبو بكر رجل له معروف في كل قبائل قريش، وكانت له عدد من الوظائف التي توضح صفاته القيادية: 1- العقل: فقد كان يحضر نقاشات قومه. 2- العلم: فهو أعلمهم بالأنساب. 3- التفاوض والإقناع: فقد كان يعمل بالتجارة. 4- الرياسة: فقد كان يحضر نقاشات قريش في دار الندوة. 5- اجتماعي: فقد كان يتولى الديات والمغارم. 6- النسب: فقد كان يلتقي مع النبي في جدة السادس مُرَّة. أصحاب أبي بكر وسمتُهم: رجل بمثل الصفات التي ذكرناها لا بد أن يكون المجتمع المحيط به أشخاصًا في مثل صفاته؛ فالشبيه يقع على شبيهه، فكان له أصحاب من التجارة، وكان له أصحاب من مجلس قومه، فالأصحاب هم عثمان بن عفان، وعبدالرحمن بن عوف، والزبير بن العوام، وسعد بن أبي وقاص، وطلحة بن عبيدالله، فكان هؤلاء هم أصحاب أبي بكر، ولو نظرت فيهم، لوجدت صفات مشتركة؛ فعثمان والزبير وعبدالرحمن بن عوف كانوا تجارًا، وسعد بن أبي وقاص كانوا أصحابه ضمن دائرته الاجتماعية، وأما طلحة، فقد كان قريبَ النسب لأبي بكر. علاقة أبي بكر بالنبي قبل الإسلام: كلا الرجلين كانا يعملان بالتجارة، وكلاهما كانت له من صفات القيادة ما اتضح بعضه في الجزء السابق، ولكن الصلة بينهما كانت أعمقَ من مجرد أصحاب كانت أقرب إلى التوءمة، فكان كلا الرجلين يجد في الآخر ضالَّتَه، فقد كانا يجتمعان على التجارة وعلى العلم بأحوال قريش، فكانا صديقين صدوقين، يعرف كل منهما أحوال الآخر، ويلتقيان يتبادلان الأحاديث في كل شؤونهما، سواء ما يخص شؤون قريش أو شؤون التجارة، فمما لا بد منه في أي صداقة أن تكون هناك اهتمامات مشتركة، تقرب بين هؤلاء الأصدقاء، وهذا ما نجده بين النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه أبي بكر، وهؤلاء لم يكونا صديقين بشكل عادي، بل صديقين صلتهما كبيرة، تجعل حديث أيٍّ منهما مصدَّقًا لدى الآخر. سرعة إسلام أبي بكر: ليس لدينا تفاصيل عن كيف أسلم أبو بكر، أو ما هو الحوار الذي حدث بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم، فأدى إلى إسلام أبي بكر، فنتخيل حوارًا بينهما كالآتي: النبي صلى الله عليه وسلم: يا أبا بكر، إني محدثك حديثًا فإن قبلتَه مني، فنعم، وإن لم تقبله، فاكتمه عني. أبو بكر: والله ما تأتمنني على شيء إلا أن يكون أمرًا عظيمًا، نعم، سأكتمه. النبي صلى الله عليه وسلم: هل جربت عليَّ كذبًا قط؟ هل رأيت مني ما يسؤوني قط؟ أبو بكر: لا والله، بل أنت الصادق الأمين، يشهد بذلك القاصي والداني، وصفاتك معروفة للجميع. النبي صلى الله عليه وسلم: إذًا فاعلم أني قد نزل عليَّ الوحي من عند الله لأكون نبيًّا للعالمين، فأرسلني الله برسالة الإسلام للناس كافة. أبو بكر الصديق: امْدُد يدك أبايعك. النبي صلى الله عليه وسلم: قل: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله. أبو بكر: أشهد أن لا إله الإ الله وأنك رسول الله. يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((ما عرضتُ هذا الأمرَ على أحدٍ، إلا كانت منه كبوة وتردُّد، إلا ما كان من أبي بكر، ما إن عرضت عليه الأمر، حتى صدقني وآمن بي))، ولم يكن إيمانه إيمانًا تقليديًّا، بل إيمانًا يدفعه للتحرك لخدمة هذا الدين الجديد بكل جوارحه. دعوة أقرب أصحابه: بمجرد ما دخل الإسلام في قلب أبي بكر بدأ مباشرة كيف يساهم في تبليغ غيره من الناس ويعرفهم بهذا الدين، لم يَرِدْ ما يوضح هل كان هذا التحرك ذاتيًّا من أبي بكر، أو هو بتوجيه من النبي صلى الله عليه وسلم، وإن كنت أرجِّح أنه كان تفردًا من أبي بكر؛ فبمجرد إيمانه بدأ يبلغ هذا الدين الجديد لغيره من أصحابه وأصدقائه؛ فبدأ بأهل بيته فأسلمت زوجته وأولاده جميعًا، فكان ثاني بيت يدخل في الإسلام بعد بيت النبي صلى الله عليه وسلم، ثم انطلق أبو بكر إلى أصحابه يبلغهم هذا الدين، فأسلموا جميعًا عثمان بن عفان، وعبدالرحمن بن عوف، والزبير بن العوام، وسعد بن أبي وقاص، وطلحة بن عبيدالله؛ فكانوا أول مجموعة تدخل الإسلام، وكانت بداية عظيمة لهذا الدين، فصفات هذه المجموعة وسماتهم الشخصية كلها قريبة الشبه بصفات أبي بكر، وهو أكثر الناس شبهًا برسول الله، فليست العبرة هنا بعدد من دخلوا الإسلام، ولكن بكفاءتهم وقدراتهم التي ساهمت بعد ذلك في نصرة هذا الدين، فهم لم يكونوا أشخاصًا مجهولين أو ليست لديهم خبرات أو صفات قيادية، بل كان اختيار أبي بكر لهم موفقًا جدًّا، وهذا ما يتضح في أعمالهم وأدوارهم في الإسلام بعد ذلك، ثم جاء أبو بكر بعثمان بن مظعون، وأبي عبيدة بن الجراح - وهو من العشرة المبشرين بالجنة أيضًا - وأبي سلمة بن عبدالأسد، والأرقم بن أبي الأرقم، فأسلموا. الدروس المستفادة من حياة الصديق: 1- قوة الإيمان التي تصنع من البشر رجالًا، إن رجلًا كأبي بكر ارتقى بالإيمان في نفسه من أول لحظة آمن فيها، ليضع نفسه وماله وكل ما يمتلك من ملكاتٍ وصفاتٍ تحت تصرف الرسول صلى الله عليه وسلم في خدمة هذا الدين، وهذا المعنى خاصةً هو ما يرتقي من مجرد الرجولة - على عظم مكانتها - إلى أثر الرجولة في صنع الرجال، ليصير أبو بكر - الرجل الثاني في الإسلام - نموذجًا حيًّا للتدريب على صناعة الرجولة في مدرسة محمد صلى الله عليه وسلم. 2- نصرة الدين والمعتقد بكل الوسائل، سواء الإنفاق من المال أو من الصحة أو الوقت أو العلم. 3- السعي للوصول إلى أعلى المنازل، كان أبو بكر الأول في كل شيء، ويجب على كل ساعي نحو التميز من الاقتداء بأبي بكر. 4- أفضل الرجال أحاسنهم أخلاقًا، كان أبو بكر من أفضل الإنسان أخلاقًا، وكان مشهورًا قبل الإسلام وبعده، بحسن خلقه، وبشدة شبهه في هذا بالنبي صلى الله عليه وسلم. 5- دراسة سير العظماء والتأسي بهم يساعد الإنسان على الارتقاء في منازل الدنيا والآخرة. المراجع: سيرة ابن هشام.
جُهُودُ الشَّيْخ/ عَبْد الْحَمِيدِ عَنْتَر اللُّغَوِيِّ اَلأَزْهَرِيِّ الثَّائِر الحمد لله جل جلاله، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله؛ أما بعد: فالشيخ عبدالحميد عنتر لُغَويٌّ أزهريٌّ، فَرَضَ عليَّ الكلامَ عنه فَرْضًا بدقته في التأليف، وبراعته في قواعد العربية والذب عنها، فبحثتُ عن نسبه وسيرته بحثًا حثيثًا في الجامعة وخارجها؛ لأصِلَ إلى اسمه الثلاثي أو الرباعي، ومولدِه ودراستِهِ وسنةِ تخرجه، لعل ذلك يكشف لي بعض جوانب شخصيته، فلم أَنَلْ ذلك، مع طول انتظار، وكثرة سؤال لمن أدركوا عصره، ومن يهتمون بجمع الوثائق التاريخية، والوقوف على حياة مَنْ كان لهم شأنٌ. • الْتَحَقَ بالأزهر الشريف دارسًا، ولم يزَلْ من علمه ناهلًا حتى نال شهادة "العالِمِيَّة"، ثم عُيِّنَ مُدرِّسًا في معهد الإسكندرية الديني في الثالث والعشرين (23) من شهر فبراير، عام 1918م، ثم انتقل للتدريس في كلية اللغة العربية بالقاهرة، وعُيِّنَ أستاذًا للنحو والصرف بها [1] . فكان أحد علماء كلية اللغة العربية بالقاهرة في مجال النحو والصرف، فترة الثلاثينيات والأربعينيات والخمسينيات، وكان خطيبَ المنبر الصرفي بها. عاش في عصر أعلام اللغة والنحو والصرف والأدب والبلاغة في العصر الحديث، ودخل مع بعضهم في حوارات علمية خالصة دارت حول العربية وقضاياها الشائكة؛ ومن هؤلاء الذين عاصرهم: 1- الشيخ إبراهيم حُمْرُوش شيخ كلية اللغة العربية بالقاهرة. 2- يوسف الدِّجْوِيُّ. 3- أحمد شريت. 4- عبدالمتعال الصعيدي. 5- محمد محمدين الفحام. 6- محمد علي النجار. 7- محمد عبدالخالق عضيمة. 8- محمد أحمد عرفة. 9- عبدالسلام أبو النجا سرحان، وكل هؤلاء من أساتذة هذه الكلية العريقة. 10- أحمد حسن الزيات. 11- عباس محمود العقاد. 12- زكي مبارك. 13- الأب أنستاس ماري الكرملي. وفاته: رأيت للشيخ مقالات في أعداد من مجلتي الرسالة والأزهر فترة الثلاثينيات والأربعينيات، وأوائل الخمسينيات حتى عام 1952م، ولم أجد له شيئًا بعد ذلك، فلعلَّ الشيخ توقف بعده لعارضٍ من أعراض الحياة؛ من مرضٍ أو ضعفٍ أو سياسةٍ أو غير ذلك، أو لعله ألقى عصاه فيما بعد هذا العام، ليسلم النفس إلى خالقها، بعد حياة تنبئ بعلم غزير، وكفاح شيخ جليل عن لغة القرآن الكريم. وعُدَّ الشيخ الجليل رحمه الله تعالى في (جمهرة أعلام الأزهر) من وَفَيَات سنة 1879هـ، الموافقة سنة 1959م، وقد نَصَّ مؤلفها على أنَّهُ لم يتعين عنده تاريخ وفاته [2] . جهوده: لقد خاض الشيخُ معاركَ علميةً خالصةً على صفحات مجلتي (الرسالة، والأزهر الشريف)، ودخل في محاورات مع آخرين، وكان هَدَفُهُ هَدَفَ الرِّجالِ، يدخلون في الحوار من أجل الوصول إلى الحقيقة لا الجدال، وقد تميَّز في محاوراته ومناقشاته بمميزات؛ أهمها: 1- أدب المحاورة، وثراء المناقشة؛ فالمحاورةُ لها أهدافٌ منشودةٌ من ورائها، وأخلاقٌ ينبغي الالتزام بها، والمناقشةُ لها مستندات ومنطلقات؛ فليس هدفُ العلماء الأثبات من المحاورةِ المحاورةَ، بل هي وسيلتهم التي قامت على أسسٍ علميةٍ، وضوابطَ أخلاقيةٍ؛ ليترتب عليها نتائجُ مرضيَّةٌ، فلا غاية لهم سوى الوصول إلى الحقيقة العلمية، ورفع راية الصواب. 2- سعةُ اطلاعِ الشيخ، وحُبُّهُ للمعرفة، وتَنَسُّكُهُ في مِحْرَاب العربية، وهكذا يكون الأزهريُّ الذي لم تُغَيِّره دنيا، ولم يُفْسِده هوًى؛ فثقافتُهُ الأزهرية الواسعةُ جعلته يتابعُ ما يُطرَح على الساحة اللغوية والأدبية من مقترحاتٍ ودعواتٍ، وينظر إليها بعين الناقد المنصف. وقد تنوعت جهود الشيخ عبدالحميد عنتر على النحو الآتي: أولًا: الدفاع عن الأزهر الشريف: ونَشْدُ الخيرِ له ولجميع العاملين فيه، ليس على سبيل التفرد بأشياءَ ليست لغيرهم، ولكن على سبيل التساوي مع الآخرين في الجامعات والمدارس العامة الذين أعطتهم الحكوماتُ فوق نظائرهم من الأزهريين، مع أنَّ فضل الأزهر الشريف على مصر المحروسة - بل على العالم الإسلامي كله – عظيمٌ؛ صان الدين، وتسامح مع الآخرين، وحارب التطرف، وقاوم المحتلَّ، ونشر الوسطية، وأنار العقول، وأعلى شأن الحوار، ورسم الصورة الصحيحة للإسلام على النحو الذي شاءه اللهُ عز وجل، ورآه الرسولُ الكريم صلى الله عليه وسلم؛ فليس من اللائق أَن يُهْمَل رجالُ الأزهر وهذه رسالتُهم، وأن تُنْقَصَ حقوقُهم وهم الكرام البررة بدينهم وأمَّتِهم. لقد أخذ الشيخُ على عاتقه مهمةَ تحديد أولويات إصلاح مؤسسته وتطويرها، حين ظهرت بوادرُها، وأعلنت الحكومة في (خطاب العرش عام 1942م) اهتمامَها بالأزهر، وحرصَها على إصلاحه، تَلَقَّفَ الشيخُ إعلانَها شاكرًا لها، ثمَّ بيَّن لها السبيل إلى إصلاحه، وأنَّ الإصلاح المنشود لتلك المؤسسة العريقة الفريدة عماده المال، فكان عنوانُ مقالِه في مجلة الرسالة، العدد (509): (الإصلاح الذي أنشُده للأزهر عماده المال)، فكان الشيخ وفيًّا لمؤسسته العريقة. ثانيًا: دفاعه عن النحو والنحويين: لقد حَمَلَ الشيخُ رايةَ الدفاع عن النحاة واللغويين أمام من رماهم بالعبث، ونسب إليهم الخطأ. فحين نشرت مجلة (الرسالة) في العدد (503) مقالًا ضافيًا للأستاذ (الأب أنستاس ماري الكرملي)، تحت عنوان: (لماذا لا أثق بأقوال النحاة ولا اللغويين؟) عدَّد فيه بعض مآخذ عليهم، توجب عدم ثقته – دائمًا - بأقوالهم، ولو كانوا أدلَّاء أجلَّاء. رد الشيخ عليه ردًّا علميًّا دقيقًا في مقال كبير تحت عنوان: إلى الأب أنستاس ماري الكرملي لا... بل النحاة واللغويون ثقات وقد نُشر في عددين من مجلة (الرسالة): العدد (506)، والعدد (507). وحين رمى الأستاذ (كمال بسيوني) في عدد الرسالة (881) النحاة بالعبث والتضليل والتجهيل، وأنه لم يَرَهُم ضلوا في باب من أبواب النحو ضلالَهم في باب التعجب، إلى أن قال: إنَّ واحدًا منهم لم يفهم من قريب أو بعيد صيغتي التعجب. رد الشيخ عليه بمقالة تحت عنوان: نفي العبث عن النحاة في التعجب مهداة إلى من يعترف بالفضل لأهله نُشرت في العدد (883) من مجلة (الرسالة). ثالثًا: دفاعه عن الفصحى: كان الشيخ منافحًا عن العربية الفصحى، وَمَرْصَدًا للأفكار المطروحة التي تروج للعامية، وتحاول إلصاقها بالفصحى. حين تقدم بعض أهل العلم بمقترح إلى المجمع اللغوي جاء في البريد الأدبي بمجلة الرسالة، العدد (511)، يريد ضبط الخلاف بين العربية والعامية، وإرجاعه إلى أصول ثابتة، وقواعد مضبوطة. رد عليه الشيخ بمقال عنوانه: ضبط الخلاف بين العربية والعامية مستحيل واستمرَّ مقدمُ الطلب في جدال الشيخ عبدالحميد عنتر غير مُصَرَّح باسمه في خمسة أعداد من (الرسالة)، إلى أن ألقى الشيخ عنتر قلمَه؛ لِما لمسه في محاوره من إصرارٍ على موقفه، وعدم استجابة لثمرة المحاورة. ورد على د/ زكي مبارك في مقال عنوانه: (إلى الدكتور زكي مبارك)، نُشر بالعدد (523) من مجلة (الرسالة)، بأسلوب علمي راقٍ، ومما جاء فيه: "أخالفك كل المخالفة في قولك: إنَّ (شاف) بمعنى (رأى) يستعمل في اللغة، بدليل (تشوف) بمعنى نظر، وأنَّ العرب في جميع الأقطار يقولون (شافه) بمعنى (رآه)، وقد (شفتهم) بعينك". فرد عليه د/ زكي مبارك في مقال، عنوانه: (مصادر الثروة اللغوية) نُشر بالعدد (524) من مجلة (الرسالة)؛ ومما جاء فيه قوله: "إنَّ مصادر الثروة اللغوية عندنا هي ما نطق به العرب في جميع العصور وفي جميع البلاد، ولو كان فيه دخيل". ومن عادة الشيخ أن يستمر في الحوار، وإن طال، ما دامت الغايةُ هي الوصولَ إلى الصواب، لكنَّ ردَّ د/ زكي مبارك افتقد أدب الحوار؛ فأعرض الشيخ عن إتمام الحوار معه؛ لأنَّ مثل هذا الحوار لا تُجنى منه ثمرة، ولا يأتي بنتيجة، وهو أقرب ما يكون إلى الجدال أو المراء الذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يليق بالأزهريِّ الذي تعلم منذ نعومة أظافره أن يكون هواه تبعًا لما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، لا يليق به أن يستمر في مثل هذا الحوار. ورد على العقاد استعماله لفظ (الأُمويَّة) نسبة إلى الأم في عدد الرسالة (559)، وجاء ردُّه في البريد الأدبي من (مجلة الرسالة)، تحت عنوان (النسب إلى أم وأمهة)، منشورًا بالعدد (561). فرد العقاد بمقال، عنوانه: (بين التخطئة والتصويب في اللغة وغيرها)، منشور بالعدد (563) من مجلة (الرسالة)، وقال في آخره: "لكنَّ الخطرَ على اللغة في هذه الكلمة هينٌ إلى الخطر الأكبر الذي نحن متهمون بتعريض الإسلام له في كتابنا (الصديقة بنت الصديق)...". وجاء له في البريد الأدبي ردود على أحكام لغوية؛ منها: ردُّه في العدد (839) من مجلة (الرسالة)؛ الذي جاء تحت عنوان: (بويضة وانسجام)، وقد قال فيه: "جاء في (الأهرام) تحت عنوان (بعض أوهام الكُتَّاب) أن تصغير بيضة على (بويضة) خطأ في اللغة، وأنه من أوهام الكتَّاب، وأن الصواب: (بييضة) بيائين متعاقبين، كما جاء مع هذا أن (بينهم انسجام)؛ أي وفاق من أوهام الكتاب أيضًا، وأقول: إن تصغير بيضة على بويضة ليس بخطأ ولا وهم، بل هو وارد ومسموع عن العرب الخُلَّص. أما (بينهم انسجام) فهو صحيح، وهذا من تشبيه توافق الناس وانتظامهم في مشاربهم بتوالي انسجام الدمع مع العين، أو الماء النازل من السماء على نمط واحد بدون اختلال، ومن هذا يُعلَم صحة قول الأطباء: بويضات جمع بويضة، ووجاهة قول من قال: هؤلاء بينهم أو ليس بينهم انسجام". وجاء له ردٌّ في البريد الأدبي بالعدد (842) من مجلة (الرسالة)، تحت عنوان: تصويب (أبحاث). كتب الأستاذ رياض عباس كلمة في بريد الرسالة الأدبي عدد (837) تحت عنوان (من صميم العربية) جاء من عناصرها قوله: "إن من الأخطاء الشائعة على ألسنة الكتاب جمع بحث على أبحاث"، ثم قال: "وهو خطأ لا يجيزه القياس، وكتب اللغة لم تذكره، اللهم إلا (أقرب الموارد)". وإجابة عن هذا أذكر له قاعدة النحاة الكوفيين العامة، ومنهجهم في القياس على المسموع من كلام العرب؛ وهي تتلخص في جواز القياس على ما ثبت ورود نوعه عن العرب، ولو كان هذا الوارد قليلًا. وقد ثبت أن العرب جمعت وزن (فَعْل) المفتوح الفاء الساكن العين الصحيحها على (أفعال)، من ذلك: حَمْل وأحمال، فَرْخ وأفراخ، وزَنْد وأزناد. رابعًا: الإفتاء في قضايا العربية: قام الشيخ بمهمة الإفتاء في قضايا العربية الشائكة، يستفتيه قراءُ مجلة الرسالة في أمورهم اللغوية فيفتيهم في بريدها الأدبي، معتزًّا بانتمائه إلى اللغة العربية، فيذكر إثر اسمه عبارة "الأستاذ بكلية اللغة العربية". يَستفتيه القراء في العربية، فيُفتيهم على النحو الذي جاءت به صفحة البريد الأدبي؛ ومن ذلك: • مقال: (باكستان لا غير) منشور بالعدد (1017) من مجلة (الرسالة)، 29 ديسمبر 1952م. قال: "قرأت في عدد الرسالة (1015) كلمة قيمة للأديب الباكستاني محمد كاظم سباق، يذكر فيها أن الأدباء والكاتبين ليسوا على رأي واحد في جواز تحلية كلمة (باكستان) بالألف واللام فيقال: (الباكستان)، أو امتناع هذه التحلية، فيُقال: باكستان لا غير. 2 - مقال: (بين الرجولة والرجولية)، منشور بالعدد (503) من مجلة (الرسالة) 22 فبراير 1943م، ص 158، 159. يسأل الأديب (علي محمود الشيخ) في العدد (500) من الرسالة، عن نحو (الرجولة والرجولية) الواردين في كتب اللغة، هل معناهما واحد كما يقول بعض الناس، أو الثاني مصدر صناعي كما يقول آخرون؟ وأجيب: أنَّهما مختلفان، فالرجولة مصدر سماعي لا فعل له، ومعناه ضد الأنوثة، ومثله الرُّجْلة. و(الرجوليَّة وكذا الرُّجْلِيَّة) كل منهما سماعي صناعي بزيادة ياء النسبة (الأول من الرُّجُولة، والثاني من الرُّجْلة)، وهما يزيدان زيادة على المصدر العام كمال هذه الصفة في الشخص المحدث عنه، والمعاني اللازمة لهذا الكمال، مثل الشجاعة والإقدام وإباء الضيم. خامسًا: مقالات في مجلة الأزهر الشريف: تنوعت مقالات الشيخ في مجلة الأزهر على النحو الآتي: 1- مقال (التجني على النحاة)، المجلد الخامس عشر، الجزء الثاني، ذو القعدة 1363هـ 1944م، صفحتان، هما: 107، 108. 2- رد على مقال (الإسلام وحرية البحث)، المجلد الثامن عشر، الجزء الثالث، ربيع الأول 1366هـ، تسع صفحات، هي: 232 - 240. 3- موقف المسلمين من القرآن الكريم، السنة التاسعة عشرة، العدد الأول، محرم 1367هـ، خمس صفحات، هي: 421- 425. 4- أسباب تأخر المسلمين، السنة الثامنة عشرة، في الأعداد الآتية: 1- عدد صفر 1366هـ... 2- عدد جمادى الآخرة 1366هـ، ست صفحات، هي: 506- 511. 3- عدد رجب 1366هـ، سبع صفحات ، هي: 595- 601. وقد تعقبه الشيخ محمد علي النجار في بعض الأمور فيه، في مقال (حول مقال أسباب تأخر المسلمين)، وجاء تعقبه في صفحتين، هما: 617، 618. فرد الشيح عليه في مقال، عنوانه: (كعب الأحبار ووهب بن منبه وزياد بن أبيه بين الجرح والتعديل)، في عدد شعبان 1366هـ، وجاء في ثلاث صفحات، هي: 735- 737. 4- عدد رمضان 1366هـ، سبع صفحات ، هي: 794- 800. 5- القياس النحوي، السنة التاسعة عشرة، وقد نُشر في عددين: عدد جمادى الآخرة 1366هـ. عدد رجب 1366هـ. 6- (سيد الأنبياء في شعر أمير الشعراء)، نُشر بالعدد الخامس عشر، من مجلة (الأزهر)، سنة 1363هـ 1944م، من ص 207 - 214. سادسًا: ما وصلنا من كتبه: 1- تصريف الأفعال، الطبعة الخامسة، دار الكتاب العربي بمصر، الطبعة الثانية، 1371 هـ 1952م، عدد الصفحات: 203. 2- علم الوضع، مقرر السنة الثالثة، الطبعة الثانية 1367هـ 1948م، دار الكتاب العربي بمصر. عدد الصفحات: 64. 3- القول الفصل في التصغير والنسب والوقف والإمالة وهمزة الوصل، دار الكتاب العربي بمصر، الطبعة الثانية، 1371 هـ 1952م، عدد الصفحات: 175. وما التزمه الشيخ في مستهل كل كتاب منها، تنادي به هيئات جودة التعليم في العالم العربي في عصرنا، فقد كان يُرفق قبل المقدمة صورة طبق الأصل من المحتوى التفصيلي لموضوعات المقرر، المنصوص عليه في الخطة الدراسية للكلية. وهو في مؤلفاته ذو شخصية، يناقش آراء العلماء ويُحلل أقوالهم تحليلًا دقيقًا، وله آراءُ سديدةٌ، ونقداتٌ صرفيةٌ لبعض السابقين. ولعلَّ باحثًا نبيهًا يتصدى لآثار هذا العالم الجليل في رسالة علمية متخصصة داخل الكلية التي كان يعمل بها الشيخ أو خارجها، فمن الوفاء أن نُبرز جهودَ أعلامِنا وشيوخِنا الكبار الذين كانوا أوفياء لدينهم، وللغتهم، ولوطنهم، ولمؤسستهم العريقة. ﴿ رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا ﴾ [الكهف: 10] [1] ينظر: جمهرة أعلام الأزهر الشريف في القرنين الرابع عشر والخامس عشر الهجريين 5/323. [2] ينظر: جمهرة أعلام الأزهر الشريف في القرنين الرابع عشر والخامس عشر الهجريين 5/323.
تهديم الأركان من ليس في الإمكان أبدع مما كان لبرهان الدين البقاعي صدر حديثًا كتاب: "تهديم الأركان من ليس في الإمكان أبدع مما كان"، تأليف: "برهان الدين إبراهيم بن عمر بن حسن البقاعي الشافعي" (ت 885)، تحقيق: د. "عبد الواحد جهداني"، نشر: "دار الفتح للنشر والتوزيع". وهذه الرسالة للإمام البقاعي يرد بها على مقولة "ليس بالإمكان أبدع مما كان" المنسوبة لأبي حامد الغزالي رحمه الله، حيث وردت نصوصًا في كتبه تثبت هذه المقولة التي تعني أن الله تعالى لا يمكنه أن يبدع أو يخلق أبدع من هذا الكون؛ لأنه قد أبدعه على أكمل صورة، إذ لو لم يبدعه على أكمل صورة فإن ذلك يعتبر بخلًا يناقض الجود الإلهي وعجزًا يناقض الإلهية. وقد ألف الإمام "إبراهيم بن عمر البقاعي" هذه الرسالة للرد على فساد هذه العبارة، ولينقض هذه المقولة ويفندها، ويبرئ الإمام الغزالي من هذه المقولة التي حكم بأنها قد تكون مدسوسة عليه، أو أنها لو صحت عنه فإنها زلة منه. ونجد أن هذه العبارة قد وردت في كثير من مؤلفات الإمام الغزالي، حيث سبق أن كررها في كتابه "جواهر القرآن"، و"الإحياء"، وفي هذه الرسالة يعتذر البقاعي للإمام الغزالي عن هذه العبارة الموهمة والمشكلة مبينًا بطلانها من أكثر من وجه. وقد أورد البقاعي في مؤلفه الأدلة على بطلان هذه المقولة، وعلى بطلان نسبتها للغزالي، من خلال إيراد نصوص من كتب الغزالي تخالف هذه المقولة، فضلًا عن سيرة وحال الغزالي - رحمه الله. ويرى البقاعي أن عنوان هذه العبارة أخذت من كلام بعض الفلاسفة القائلين بوحدة الوجود أو الوحدة المطلقة، والفلاسفة القائلين بقدم العالم، وكذلك القائلين بالصلاح والأصلح كما هو لدى المعتزلة. وقد ألف البقاعي كتابه المذكور بقصد "الانتصار للواحد القهار" لأن في هذه المقالة في زعمه تحتجن عقائد فاسدة، مناقضة لأصول الشريعة، فهي تشبه قول من يقول أن الله يفعل بالذات لا بالاختيار، أو أن الله لا يعلم الجزئيات. والقائلين بوحدة الوجود يرون أن الله تعالى لا يقدر أن يوجد أبدع من هذا الكون؛ لانصراف الإرادة عنه تعالى، ولعدم تعلق القدرة به؛ لأنها لا تتعلق بالمحال، وهو ما لا يجوز أن يكون عقيدة الإمام الغزالي رحمه الله، وأن موهم عبارته يلتقي مع هؤلاء الزنادقة في هذه الإشكالية. يقول "البقاعي" في (نظم الدرر: 20/ 177):- " وإيَّاك أن تَلْتَفِتَ إِلى منْ قالَ: إنَّه ليسَ فِي الإمْكانِ أبْدَعَ من هذا العالمِ؛ فإنّه مذهبٌ فلسفيّ خبيثٌ، والآيةُ نصّ في إبطاله، وإن نسبه بعضُ الملحدين إلى "الغزاليّ" فإنّي لا أشك في أنّه مدسوسٌ عليه!!!، فإنَّه مذهبٌ فلسفيّ خبيثٌ بشهادة "الغزالىّ" كما بينت في كتابي: "تهديم الأركان من ليس في الإمكان أبدع مما كان" وكتابي: "دلالة البرهان على أنّ في الإمكان أبدع مما كان" وكتابي: "إطباق الأغلال في أعناق الضلال". ومع كونه مذهب الفلاسفة أخذه أكفر المارقين "ابن عربي" وأودعه "فصوصه" وغير ذلك من كتبه، واستند فيه في بعضها إلى "الغزاليّ" إتقانًا لمكره - أعاذنا الله من شره - و"الغزاليّ" بريءٌ منه بشهادة ما وجد من عقائده في "الإحياء" وغيره". وتبين هذه الرسالة باع البقاعي في رده على حجج الفرق الضالة الأخرى، ونقض أدلتها بنفس المنطق العقلي الذي اتبعه أصحابها في مناقشة هذه المزاعم، حيث يتعقب كلام الغزالي وما يمكن أن يؤدي إليه من تهويمات حسب ادعاء كل فرقة من تلك الفرق الكلامية الضالة. وهذا الكتاب سبق نشره من قبل في "دار الكتب العلمية" ومعه كتاب "تثبيت قواعد الأركان في الرد على البقاعي" لِتقي الدين محمد بن محمد البلاطنسي (ت ٩٣٦ هـ) في الرد عليه، وذلك بتحقيق د. "يونس عبد الغني القنتي" عام 2019 م، وكذلك حقق في رسالة علمية في كلية دار العلوم بجامعة القاهرة بواسطة الباحث "حسام عاشور فهمي" وذلك عام 2010 م، كما تم تناول جهود الإمام البقاعي ضمن مقال منشور بمجلة الشريعة والدراسات الإسلامية بجامعة الكويت بعنوان "مسألة ليس في الإمكان أبدع مما كان ( المنسوبة إلى حجة الإسلام أبي حامد الغزالي رحمه الله ) بين الغزالي والبقاعي" وذلك عام 2007 م. والإمام البقاعي هو أبو الحسن برهان الدين إبراهيم بن عمر بن حسن الرُّبَاط - بضم الراء وتخفيف الباء - بن علي بن أبي بكر البقاعي، المولد سنة 809 من الهجرة في سهل البقاع في لبنان اليوم، وكانت البقاع من سورية يوم ولد بها. وقد سكن دمشق، ورحل إلى بيت المقدس والقاهرة، ثم عاد إلى دمشق وتوفي بها عام 885 هـ. وقرأ ودرس في الفقه والنحو، وفي القراءات، وبرع في جميع العلوم وفاق الأقران، وأصبح من الأئمة المتقنين المتبحرين في جميع المعارف، وله كتبٌ مناظراتٌ وردودٌ مع كثير من علماء عصره تدلُّ على سعة معارفه، وشدة حذقه، وكثرة جلده. وهو مفسر مؤرخ أديب، من شيوخه: "التاج بن بهادر"، و"العلاء القلقشندي"، و"الشرف السبكي" والتقي الحصني" و"ابن حجر العسقلاني" و"القاياني". ومن مصنفاته: • "إشعار الواعي بأشعار البقاعي". • "شرح جمع الجوامع" في أصول الفقه للسبكي وهو من مشهورات المختصرات. • "سر الروح" مختصر كتاب "الروح" لابن قيم الجوزية. • "إظهار العصر لأسرار أهل العصر" ذيّل به على كتاب "إنباء الغمر في أبناء العمر" لابن حجر العسقلاني، بلغ فيه البقاعي إلى سنة 870هـ. • "الإباحة في علمي الحساب والمساحة" وهي أرجوزة مشروحة بقلمه. • "جواهر البحار في نظم سيرة النبي المختار" أرجوزة شرحها في مجلدين. • "رفع اللثام عن عرائس النظام" مختصر في العروض والقوافي. • "عظم وسيلة الإصابة في صناعة الكتابة" منظومة في صناعة الخط والشكل والنقط استدرك بها على منظومة ابن خطيب الدهشة الحموي. • "رسالة في اختلاف علماء الحنفية في الديار المصرية". • "مختصر سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وثلاثة من الخلفاء الراشدين". • "عنوان الزمان في تراجم الشيوخ والأقران" جمَعَ فيه شيوخه وأخبارهم، ثم اختصره، وهو من مخطوطات خزائن كوبرلي في الأستانة، انتقده زميلُه ومعاصرُه شمسُ الدين السخاوي لمنافسةٍ بينهما. ومختصره "عنوان العنوان". • "الإسفار عن أشرف الأسفار" ألفه سنة 844هـ لمّا خرج إلى غزوة قبرص ورودس من البحر ولم يفتحوا سوى قلعة الميش. • "فصول القرآن، وأصول الفرقان". • "ما لا يستغني عنه الإنسان من مُلح اللسان" في النحو. • أمّا كتابه "نظم الدرر في تناسب الآي والسور" فيُعدُّ مِنْ أهم مؤلفاته طبع في سبعة مجلدات تقريبًا أو أكثر، يعرف بمناسبات البقاعي أو تفسير البقاعي. • "مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور" طبع في ثلاثة مجلدات.
من منطلقات العلاقات الشرق والغرب (حوار التجار) يقرر بعض المستشرقين أن الإسلام قد انتشر بالسيف [1] ، ويرد عليهم بعض المسلمين أن الإسلام لم ينتشر بالسيف [2] ، ولكلٍّ أدلته، إلا أن معظم المستشرقين يهمهم التعميم في إطلاق الأحكام السلبية ما دامت تخدم الغرض،والذي نعرفه نحن المسلمين أن الإسلام يضع المدعوين أمام ثلاثة خيارات؛ الإسلام أو الجزية أو القتال،والقتال هو الخيار الأخير، وهو كرهٌ، وليس غاية، كما أنه ليس مطلبًا [3] ،كما أن الذي نعرفه نحن المسلمين أن الجهاد ذروة سنام الإسلام، ذلك الجهاد الذي فهمه المجاهدون الأوائل، وأن القتال جزء من ثلاثة عشر جزءًا من الجهاد، وليس الجهاد كله قتالًا [4] ، وأنه ماضٍ إلى يوم القيامة [5] ، ونحن لا نعتذر في ذلك لأحد؛ إذ إن هذا من معتقدنا. إلا أن هذا المصطلح "الجهاد" قد أخضع لقدر من سوء الاستخدام، بحيث أصبح يطلق على عمليات ليست بالضرورة داخلة في مفهوم الجهاد كما فهمه سلف هذه الأمة، مما أدى إلى تشويه هذا المفهوم ومحاولة التملص والتخلص منه من قبل بعض الاعتذاريين - كما مرت الإشارة إليه من قبل. تشير التقارير الأخيرة الواردة من الولايات المتحدة الأمريكية إلى أن الإسلام هو أسرع الأديان انتشارًا في تلك البلاد، وأنه الآن الدين الثاني من حيث الأتباع [6] ، ويبرر المحللون ذلك بأسباب عديدة، منها تزايد التضامن بين المسلمين في هذه القارة، وكذا الحال في أوروبا، وانفتاحهم على المجتمع الذي يعيشون فيه، عندما فاز مسجد مانهايم بألمانيا بجائزة معتبرة لاتباعه سياسة المسجد المفتوح [7] . الذين درسوا انتشار الإسلام يدركون أنه انتشر بالجهاد كما انتشر بوسائل أخرى غير الجهاد، وأن الإسلام قد انتشر في شرق آسيا وجنوبها الشرقي عن طريق التجار، وانتشر في إفريقيا عن طريق الدعوة،ولا تزال العائلات العربية تقطن تلك البقاع. كما انتشر الإسلامُ شَمالَ آسيا وآسيا الوسطى عن طريق التجار، والذي يقرأ رحلة ابن فضلان وغيره كابن جبير والعياشي وابن بطوطة وسليمان التاجر، سيدرك ذلك الحوار الذي تبناه التجار المسلمون مع علماء تلك البقاع وقادتها السياسيين والاقتصاديين الذين قَبلوا الإسلام في مجملهم، ولم يقبله بعضهم؛ لأن الإسلام يدعو إلى التوحيد، ويحرم الخمر ولحم الخنزير، مثلًا، وقد تكون الأسباب سياسية أكثر منها دينية في العقيدة والعبادات [8] . يظهر أن هذه فرصة للذين يدرسون الدعوة وانتشار الإسلام في أن يغوصوا في كتب الرحلات، لا سيما رحلات المسلمين، ليتخذوها مصدرًا مهمًّا من مصادر المعلومات عن انتشار الإسلام على مدى العصور، ففي هذه الكتب، التي تمثل ما نسميه بأدب الرحلات، مادةٌ علميةٌ جيدةٌ في مجال الحوار بين المسلمين وغيرهم من أصحاب الأديان الأخرى. يبدو أن تأثير التجار المسلمين في حوارهم مع غيرهم لا يزال قائمًا، وإن لم يكن بذلك الوضوح الذي كان لدى السلف من التجار؛ لأن أولئك ذهبوا بروحين؛ روح التجارة وروح الدعوة. بعض تجارنا اليوم يذهبون بروحين؛ روح التجارة وروح تقمص شخصية الآخر، فتخفت الحاجة إلى الحوار، ويخفت بالتالي التأثير، ويبرز التأثر،وما ذلك إلا نتيجة لعدم الاقتناع بدمج الدعوة بالتجارة، الأمر الذي يحتاج معه التجار المسلمون إلى أن يجلسوا في القاعات الثقافية يستمعون إلى محاضرات حول انتشار الإسلام عن طريق التجار، ولتكن هذه القاعات في مقرات الغرف التجارية الصناعية والاتحادات التجارية الصناعية المنتشرة في أرجاء العالم الإسلامي، ليعود للتجار المسلمين تأثيرهم على الآخر تأثيرًا إيجابيًّا، فيجيدوا الحوار مع أقرانهم التجار الآخرين وغيرهم ممن يختلطون بهم، وهذا جزء من مسؤولياتهم تجاه هذا الدين العظيم. [1] وهذه من افتراءات بعض المستشرقين التي فندها بعض الكتاب المسلمين الذين تولوا الرد على الشبهات التي أثارها المستشرقون. [2] انظر مثلًا: أحمد شلبي ، الاستشراق: تاريخه وأهدافه، شبهات المستشرقين: مناقشتها وردها - القاهرة: مكتبة النهضة المصرية، د.ت - ص 212. [3] قال الله تعالى: ﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ ﴾ [البقرة: 216]. [4] انظر: ابن قيم الجوزية، الإمام المحدث شمس الدين أبو عبدالله محمد بن أبي بكر الزرعي الدمشقي ، زاد المعاد في هدي خير العباد - مرجع سابق - 3: 9 - 11. [5] من منطوق حديث المصطفى محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم "باب الجهاد ماضٍ مع البر والفاجر؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((الخيل معقودٌ في نواصيها الخير إلى يوم القيامة ))؛ رواه البخاري وأبو داود وأحمد في المسند . [6] انظر مثلًا الصفحة الأخيرة من العدد 16989 من صحيفة الحياة (الجمعة 20/ 10 / 1430هـ الموافق 9/ 10/ 2009م) ، ويبلغ عدد المسلمين اليوم مليارًا وخمسمائة وسبعين مليون (1،570،0000،000) نسمة، ويمثل هذا الرقم ربع سكان العالم . [7] انظر المقابلة مع د . نديم عطا إلياس حول فكرة المسجد المفتوح بعنوان: يوم المسجد المفتوح في ألمانيا: حوار مع د . نديم إلياس - في مجلة الرائد - ع 194 (11/ 1418هـ - 11/ 1997م) - ص 1 - 5 ، وانظر إلى موقع المجلة: www.dfi-aglraid.de ، 19/ 11/ 1430هـ - 7/ 11/ 2009م . [8] انظر في الفرق بين الرحالة العرب المسلمين في الماضي، وبين الرحالين العرب المسلمين في الحاضر: نازك سابا يارد ، الرحالون العرب وحضارة الغرب في النهضة العربية الحديثة - ط 2 - د. م: نوفل، 1992م - ص 512.
الجمع البهي لمنظومات الفقه الحنبلي لعامر بهجت صدر حديثًا كتاب "الجمع البهيّ لمنظومات الفقه الحنبليّ"، تقديم وإشراف: د. "عامر بن محمد فداء بهجت"، نشر: "دار طيبة الخضراء للنشر والتوزيع". وهذا المؤلف ضم تسع منظومات في العلوم الفقهية، دبج بعضها فضيلة الدكتور "عامر محمد بهجت" بيراعه، أخرى انتقاها لناظمين آخرين، وقام بخدمتها وشرح مفرداتها، لتسهيل علوم الفقه على طلبته، والمبتدئين فيه، وهذه المنظومات هي: 1- منظومة "النظم البَيِّن في الفقه المتَعَيِّن": وهي منظومة فقهية في خمسين بيتًا في أبواب الفقه من فروض العين وأغلبها في العبادات، وشيء منها في البيوع والنكاح، يقول فيها: وبعد فالفقه على قسمين: فرض كفاية وفرض عين فهاك في ثانيهما منظومه وجيزة واضحة مفهومه 2- منظومة "النظم الجلي في الفقه الحنبلي مع الاحمرار": ومنظومة "النظم الجلي" لناظمها فضيلة الشيخ/ أنور الفضفري، وهي أرجوزة في معظم الفوائد الفقهية اعتنت بالمهمات في كل باب مع صغر حجمها وحسن ترتيبها، ومناسبتها لجميع طبقات المتعلمين، حيث أتى على معظم أبواب "زاد المستقنع" وشرحه "الروض المربع" فنظم أكثر ما فيها من تعريفات وشروط وأركان وواجبات وغيرها، ومنظومته ذات ثمانية وثمانين وثمانمائة بيتًا، تعين على ضبط المذهب الحنبلي، وقد اقتصرت على ذكر التعريفات، والأركان، والشروط، والواجبات، والسنن، والمكروهات، والأقسام والتقديرات، وبعض المسائل التي تُرى كأمهات، مما هو الراجح في مذهب الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى، معرضًا عن ذكر الأقوال والتفاصيل، وذلك بعبارات واضحة، موجزة. وقام الشيخ "عامر بهجت" بإضافة زيادات قصد بها تتميم هذا النظم بالمسائل الضرورية المهمة التي لا يستغنى عنها والتي غفل عنها الناظم في منظومته الرئيسة، ومنظومة الشيخ أنور الفضفري يقول فيها: بحمد ربي أبدأ الكلاما مصليًا مسلمًا دواما على النبي سيد الأنامِ وآله وصحبه الكرام وهذه أرجوزة محويَّه في معظم الفوائد الفقهيّه مثلَ حدود وفروض سننِ وواجبات وشروط فاعتنِ وذكر أقسام وتقديرات وبعض أحكام كأمهات مقتصرا بما يُرى معتمدَا في مذهب الحبر الإمام أحمدا من دون تطويل ولا إخلال أو عرض تفصيل من الأقوال واللهَ أدعو أن تكون نافعة لطالبي الفقه فصوصًا لامعة 3- منظومة "نظم المقادير الشرعية بالوحدات العصرية": ومنظومة "المقادير الشرعية" لناظمها الشيخ "عامر بهجت" بحثت الأوزان والمكاييل والمقاييس الشرعية، التي وردت في كتب الفقه والحديث والتي كان يستخدمها المسلمون قديمًا، ومطلعها: أحمد ربي منزل الميزان مصليًا على النبي العدناني وبعد: ذي منظومة الأكيال كذا الموازين مع الأطوال ضمنتها المشهور في ذا الباب ولم أخالف مذهب الأصحاب وبعضها يورد بالتقريب من دون أن يجزم بالتصويب فالجل لم يسلم من الخلاف عند المعاصرين والأسلافِ 4- منظومة "زبدة القواعد من نظم الفرائد": ومنظومة "زبدة القواعد" لناظمها الشيخ "عامر بهجت" منتخب من نظم "الفرائد البهية في القواعد الفقهية" للشيخ/ أبو بكر الأهدل رحمه الله، والتي يبين فيها القواعد الخمس الكلية الكبرى التي ترجع إليها جميع المسائل الفقهية، والتي يتخرج عليها ما لا ينحصر من الصور الجزئية، يقول الشيخ "عامر بهجت" في مطلعها: بحمد ربي أبتدئ نظامي مصليًا على هدي الأنام وبعد: هاك زبدة القواعد باللفظ من منظومة الفرائد أعني البهية التي للأهدلِ قصدت فيها ما يهم الحنبلي وربما زدت قليلًا فيها ما ينفع الطالب والفقيها 5- منظومة "النظم الصغير من مختصر التحرير": وهو نظم مختصر في الفقه على مذهب الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله، انتقاه من مباحث كتاب "مختصر التحرير" أو "الكوكب المنير" لابن النجار (توفي ٩٧٢ هـ)، وهو اختصار لكتاب "التحرير" للمرداوي (توفي ٨٨٥ هـ)، ويقع في (90) بيتًا، ذكر فيه رؤوس المسائل الأصولية بطريقة مختصرة وجامعة بحيث يصلح أن يجعل مدخلًا لعموم الطلبة الذين يدرسون أصول الفقه على طريقة الجمهور. ومنظومة الشيخ "عامر بهجت" يقول فيها: أحمد ربي واهب العقول وصل يا رب على الرسول واكتب قبول نظمي الصغير كأصله مختصر التحرير إذ منه لخصت بلا تبويب رتبته بنمط قريب علم الأصول أربع: أحكامُ أدلة، دلالة، حُكَّام 6- منظومة "نظم القواعد والأصول الجامعة": وهو نظم وضعه الشيخ "سعيد البديوي المري" على كتاب الشيخ العلامة ابن سعدي حيث نظمَ قواعد العلامة ابن السعدي المنثورة في سبعين بيتًا، وهي ستون قاعدة، سماها "القواعد الجامعة"، وقام بشرح مفرداته الشيخ "عامر بهجت"، ومطلع منظومة الشيخ "سعيد المري": يقوله سعيد المري كان حفيظًا له الولي وأستمد الله وهو قصدي نظم قواعدٍ لنجل السعدي لابن عقيل شيخنا أهديه ومبتغي الحفظ به أهديه 7- منظومة "المنظومة الرحبية مع الزيادات الحنبلية": وهي زيادات وضعها الشيخ "عامر بهجت" على متن المنظومة الرحبية، وهو متن منظوم في علم الفرائض - المواريث - عدد أبياته (175) بيتًا من بحر الرجز، وهي من أنفع ما صنف في هذا العلم للمبتدئ، لناظمها: محمد بن علي الرحبي - رحمه الله تعالى - ويقول الرحبي في مقدمتها: أَوَّلُ مَا نَسْتَفْتِحُ الْمَقَالا بِذِكْرِ حَمْدِ رَبِّنا تَعالى فَالْحَمْدُ للهِ عَلَى ما أَنْعَمَا حَمْداً بِهِ يَجْلو عَنِ القَلْبِ العَمى ثُمَّ الصَّلاةُ بَعْدُ والسَّلامُ عَلى نَبِيٍّ دينُهُ الإِسْلامُ مُحَمَّدٌ خَاتَمِ رُسْلِ رَبِّهْ وَآلِهِ مِنْ بَعْدِهِ وَصَحْبِهْ ونَسأَلُ اللهَ لَنا الإِعانَهْ فِيما تَوخَّيْنا مِنَ الإِبانَهْ ٦عَن مَذْهَبِ الإِمامِ زَيْدِ الفَرَضِي إِذْ كانَ ذاكَ مِنْ أهمِّ الغَرَضِ عِلْماً بِأَنَّ العِلْمَ خَيْرُ ما سُعِي فيهِ وَأَوْلَى مالَهُ العَبْدُ دُعِي وَأَنَّ هَذا العِلْمَ مَخْصوصٌ بِما قَدْ شاعَ فيهِ عِندَ كُلِّ العُلَما بأَنَّهُ أوَّلُ عِلْمٍ يُفْقَدُ فِي الأرْضِ حَتى لا يَكادُ يُوجَدُ وأنَّ زَيْداً خُصَّ لا مَحالَهْ بَما حَباهُ خاتَمُ الرِّسالَهْ مِنْ قَوْلِهِ فِي فَضْلِهِ مُنَبِّها ((أَفْرَضُكُمْ زَيْدٌ)) وَنَاهِيكَ بِها 8- منظومة "فقه النوازل": وهي منظومة وضعها الشيخ "عامر بهجت" في "النوازل المعاصرة" وهي المسائل المستجدة في أبواب الفقه والتي لم ينص عليها الأقدمون في كتبهم ومصنفاتهم لحداثة عهدنا بها، يقول فيها: أقول بادئًا بحمد ربي مصليًا على النبي والصحب لما رأيت الفقه في النوازل عن أهله قد خلت المنازل رأيت أن أنظم فيه رجزًا يسهل الحفظ على من عجزا ضمنته المسائل الجوامع وجل ما أفتت به المجامع فخذ بمنطوقي وبالمفهوم في كل ما ذكرت في المنظوم 9- منظومة "رسم المفتي الحنبلي": وهي منظومة منهجية وضعها الشيخ "عامر بهجت" في الشروط والقواعد والأدوات التي تكتمل بها صفة المفتي وأهليته للفتوى عند الحنابلة، نظمها الكاتب من القواعد التي وضعها من متون الفقه الحنبلي ككتاب "الإقناع" و"التحرير" و"الإنصاف" و"التحبير"، يقول في مطلعها: وبعد: ذي قواعد مهمة للحنبلي المفتي تبين رسمه نظمتها من صفة المفتي ومن كل كتاب اعتماد قمنْ كالمنتهى، الإقناع، والتحرير وآخر الإنصاف والتحبير وأسألُ الله القبول فيها ونفعها الطالب والفقيها والشيخ الدكتور "عامر بهجت" أستاذ مساعد بجامعة طيبة بالمملكة العربية السعودية، حاصل على شهادة الماجستير في الفقه المقارن بتقدير ممتاز من قسم الفقه المقارن- المعهد العالي للقضاء- جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض، ودرجة الدكتوراه من قسم الفقه بكلية الشريعة بالجامعة الإسلامية بالمدينة، بتقدير ممتاز مع مرتبة الشرف الأولى. له من المؤلفات: • الأحكام الفقهية المتعلقة بالتسجيلات الصوتية. • حكم الإيقاعات المشابهة للموسيقى - أول بحث فقهي يُكتب في هذه النازلة. • نازلة المسعى الجديد، دراسة وتلخيص. • تحريك اليد في خطبة الجمعة دراسة فقهية. • فقه خطبة الجمعة [مذكرة تدريبية - عرض تقديمي]. • فقه العبادات [حقيبة تدريبية – عرض تقديمي]، وهي الحقيبة التدريبية المعتمدة في دورات المعهد العالي للأئمة والخطباء. • الاختلاط بين الجنسين في ضوء الكتاب والسنة من خلال أصول الفقه ومقاصد الشريعة. • مسألة محاذاة المواقيت معناها الفقهي، وأثرها على مسألة الإحرام من جدة، التنظير الفقهي والتنزيل على الخرائط. • الطريق إلى علم أصول الفقه [كتاب منهجي يشمل جميع أبواب الأصول بطريقة التشجير مع تمارين تطبيقية في كل باب]. • مهارات اختيار الموضوع وإعداد خطة البحث في الفقه الإسلامي وفقه القضايا المعاصرة [حقيبة تدريبية]. • تنبيه الفقيه وتفقيه النبيه [كتاب فقهي يقدّم جميع الأبواب الفقهية في صور وجداول وخرائط ذهنية]. • الأخطاء المنهجية في دراسة القضايا الفقهية المعاصرة [بحث محكّم مقدّم لمؤتمر "نحو منهج علمي أصيل في دراسة القضايا الفقهية المعاصرة"]. • مقررات الفقه في الجامعات السعودية بين الواقع والمأمول [بحث محكّم مقدّم لمؤتمر "تدريس فقه القضايا المعاصرة في الجامعات السعودية" بجامعة الإمام]. • تعامل الأئمة والخطباء مع فقه النوازل [بحث مقدّم إلى الملتقى العلمي الأول للأئمة والخطباء]. • معايير تحديد المسائل المستحدثة [ورقة عمل مقدّمة لوزارة الأوقاف الكويتية لورشة عمل "نحو منهجية علمية أصيلة للمسائل المستحدثة" المنعقدة بالكويت للتأسيس العلمي لمشروع الموسوعة الفقهية الكويتية للمسائل المستحدثة]. • مهارات تدريس الفقه وأصوله [حقيبة تدريبية لمدرسي الثقافة الإسلامية بوزارة الدفاع]. • أحكام صلاة المرأة في الجماعة [ضمن بحث "التخلف عن صلاة الجماعة" المقدّم لكرسي الأمير نايف للحسبة]. • الطريق إلى الفقيه المنشود، ورقة عمل لمنهجية إعداد الفقيه المعاصر. • أحكام العشرة الزوجية. • تحقيق مخطوط "مسائل حرب الكرماني عن الإمامين أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه". • التدريبات على مسائل الورقات. • مدى انطباق وصف الخمر على الكحول والمنتجات الكحولية، والأحكام المترتبة على ذلك. • التمارين الأصولية على مفتاح الوصول للتلمساني. • التقاسيم الفقهية على زاد المستقنع.
حاجات الإنسان في تصور النفسيين ودمار البشرية انتشر في العصر الحالي تصور لحرية الجنس بكل ما تعبر عنه الحيوانية بل أضل؛ ﴿ وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ ﴾ [الأعراف: 179]، بل إن الحيوانات أكثر سموًّا من هذا التصور الذي ينادي به مجتمع الميم كما يسمونه، ويشرعون له الحقوق، ويُلزمون بها الآخرين، ومن يرفض ذلك يعتبر عدوًّا للإنسانية كما يدَّعون، ويُسخَّر لهذا الفكر كل وسائل النشر والإمكانات. لقد عبَّر كلٌّ من فرويد وماسلو عن هذا الفكر منذ قرن من الزمان في الفكر الماسوني لتدمير البشرية، وهو يدرَّس كعلم في الجامعات والمدارس، تحت ما يسمى علم النفس، وللأسف إن هذا يدرس في العالم الإسلامي بنفس الفكر، دون رويَّة ولا تدبر لِما يُحاك للبشرية. أيها المسلم، انظر كيف جعل ربك لنفسك حاجاتٍ لتعبِّدَها لله لا لتعبدها. لقد شاءت إرادة الله أن يخلق الإنسان ويجعل له حاجات، يحتاج إليها لبقاء حياته، ولذلك فَقَدْ زيَّنها له في نفسه حتى يُقبِلَ عليها ويُشبِعها؛ وقد عبر عنها القرآن الكريم بأنها شهوة: ﴿ زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ ﴾ [آل عمران: 14]. فالحاجة شهوة تتولد داخل الإنسان، تزول بمجرد إشباعها؛ لذلك يعرفها علماء النفس بأنها حالة من النقص أو الاضطراب الجسمي والنفسي، إن لم تلقَ من الفرد إشباعًا بدرجة معينة، فإنها تثير لديه نوعًا من الألم أو التوتر أو اختلال التوازن، سرعان ما يزول بمجرد إشباع الحاجة. فالإنسان في فطرته هذه الشهوات، وهي جزء من تكوينه الأصيل وهي ضرورية لحياته؛ كي تنمو وتطرد، فهي شهوات مستحبة مستلذة، ليست مستقذرة، ولا كريهة، والآية الكريمة السابقة تؤكد ذلك، وهنا يمتاز الإسلام بمراعاته للفطرة البشرية وقبولها بواقعها؛ لأن هذه الشهوات عبارة عن دوافع عميقة في الفطرة لا تُغلب، وهي ذات وظيفة أصيلة في كيان الحياة البشرية، لا تتم إلا بها، ولم يخلقها الله في الفطرة عبثًا. فعلى الإنسان أن يعرف أن لبدنه عليه حقًّا، وعليه أن يمتع نفسه بطيبات الحياة، وألَّا يحرم ما أحله الله، وما أحله الله يشمل كل ما تتطلبه البنية الصحيحة السوية من لذة ومتاع: ﴿ يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ * قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ﴾ [الأعراف: 31، 32]. تتنوع الحاجات وتتعدد لدى الإنسان؛ فمنها الحاجات الفسيولوجية؛ كالحاجة إلى الطعام والشراب: ﴿ إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى * وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى ﴾ [طه: 118، 119]. والحاجة إلى الأمن: ﴿ فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ ﴾ [قريش: 3، 4]. والحاجة إلى الانتماء إلى جماعة: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ﴾ [الحجرات: 13]. ولقد حاول علماء النفس التعرف على حاجة الإنسان وتصنيفها ومعرفة العلاقة بينها، وكان من أشهر ما تدفقت عقولهم به ما توصل إليه ماسلو؛ حيث رتب الحاجات الإنسانية تصاعديًّا على أساس أنها تنمو تتابعيًّا كما يلي: الحاجات الفسيولوجية، حاجات الأمن، الحاجة إلى الانتماء، الحاجة إلى تحقيق الذات. ويرى ماسلو في هذا الترتيب التصاعدي للحاجات أن المستويات المتتالية للحاجات تظهر تباعًا، وتحتل مكانها كلما تقدم الفرد في النمو والنضج، فالمستوى الأول من الحاجات الفسيولوجية يظهر مع بداية الحياة، ويحتل مكانة الصدارة في الدافعية، ثم ما تلبث المستويات التالية من الحاجات في الظهور على التوالي، وتكتسب الصدارة واحدة بعد الأخرى حتى تصل إلى مستوى تحقيق الذات لدى الفرد الناضج، متصدرًا دوافعه، بينما تكون المستويات السابقة على التوالي أقل تأثيرًا في دافعية الفرد. إلا أن هذا ليس صحيحًا، فكثيرًا ما يحدث اختلال في هذا التنظيم الهرمي للحاجات، فقد يحدث لدى بعض الأفراد أن تنتقل الدافعية في نضجها لديهم من المستوى الأدنى إلى الأعلى، دون المرور على المستوى الأوسط بينهما. وهكذا ندرك أن هناك خللًا في هذا التصور للحاجات عند علماء النفس، ولو أن علماء المسلمين رجعوا إلى كتاب ربهم الذي فيه الهدى كل الهدى، لوجدوا فيه ضالتهم، فهذا التصور الذي وضعه ماسلو قد اقتصر على الحاجات البهيمية فقط، ولم يتعدَّها إلى ما هو أسمى منها لدى الإنسان، فإذا كان ماسلو يتصور أن أعلى وأسمى الحاجات هي تحقيق الذات، فإن الثَّور في الغابة أيضًا يحقق ذاته؛ حيث يصارع باقي الثيران حتى يحقق لنفسه الغلبة والفوز، ويكون هو سيد القطيع، ولا ينازعه في ذلك باقي الثيران. لقد كان تصور ماسلو نابعًا من النظرة الدارونية للإنسان التي تعتبر الإنسان في نشأته حيوانًا (قردًا)؛ ومن هنا جاءت تصورات ماسلو، كما جاءت تصورات فرويد التي فسرت كل سلوكيات الإنسان بأنه حيوان غارق في اللذة الجنسية. ولكن الإنسان له تكوين خاص متفرد، يزيد على مجرد التركيب العضوي الحيوي، الذي يشترك فيه مع بقية الأحياء بخاصية الروح الإلهي المودَع فيه، وهي الخاصية التي تجعل من هذا الإنسان إنسانًا، له حاجاته الأساسية التي تختلف وتزيد عن حاجات الحيوان الأساسية؛ لذلك فهناك حاجات أخرى للإنسان أسمى من الحاجات التي حددها ماسلو سابقًا، حاجات تخص الإنسان وتميزه عن الحيوان؛ وهذه الحاجات تتمثل فيما يلي: أ- حاجة الإنسان إلى حرية التفكير والاعتقاد والاختيار والإرادة: فالحرية هي صدى الفطرة التي فطر الله الناس عليها وهي معنى الحياة؛ حيث يشب الإنسان من طفولته وهو يحس بأن كل ذرة من كيانه تنشدها وتهفو إليها، فكما خُلقت العين للبصر والأذن للسمع، وكما خُلق لكل جارحة أو حاسة وظيفتها التي تعتبر امتدادًا لوجودها واعترافًا بعملها، كذلك خلق الله الإنسان ليعز لا ليذل، وليكرم لا ليهون، وليفكر بعقله، ويهوى بقلبه، ويسعى بقدمه ويكدح بيده، لا يشعر وهو يباشر ذلك كله بسلطان أعلى يتحكم في حركاته وسكناته إلا الله عز وجل. لقد وهب الله عز وجل الإنسان الحريةَ، ولم يجبره على شيء، وترك حرية الاختيار حتى في العقيدة؛ حيث قال في كتابه الكريم: ﴿ لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 256]، ﴿ وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ ﴾ [الكهف: 29]. إن الحرية في الإسلام حق فطري للإنسان يتمتع به الفرد بحكم ولادته، وقد عبر عن ذلك عمر بن الخطاب بقوله لعمرو بن العاص معاتبًا: "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا"، وعلى النقيض من هذا نرى الطواغيت ينتهكون هذه الحرية؛ فها هو الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن يهدد كل البشرية ويقول: "من ليس معنا فهو ضدنا"، ويعلن الحرب على كل من ليس مع أمريكا. ب– حاجة الإنسان إلى الشعور بالرضا: فإلى جانب مستوى حرية الفكر والاعتقاد، والاختيار والإرادة، فهناك مستوى أعلى من الحاجات الإنسانية يتمثل في مستوى الرضا، والذي يشعر فيه الإنسان بحاجته إلى رضا ربه عليه، وهي غاية ما بعدها غاية، هذا الرضا من الله هو أعلى وأندى من كل نعيم، وأكبر من كل متاع: ﴿ قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ﴾ [آل عمران: 15]، ﴿ وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾ [التوبة: 72]. هذا الرضا هو الذي يغمر النفس بالهدوء والطمأنينة والفرح الخالص العميق: ﴿ يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً ﴾ [الفجر: 27، 28]؛ النفس المطمئنة إلى ربها، المطمئنة إلى طريقها، المطمئنة إلى قدر الله بها، المطمئنة في السراء والضراء، وفي البسط والقبض، وفي المنع والعطاء، المطمئنة فلا تنحرف، والمطمئنة فلا تتلجلج في الطريق، والمطمئنة فلا ترتاع يوم الهول الرعيب. وهذا المستوى فيه من اللذة ما ليس في سواه من المستويات السابقة؛ ويتضح ذلك في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( ذاق طعم الإيمان من رضِيَ بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمدٍ رسولًا ))؛ [ رواه مسلم ]، وفي قوله: (( ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة طعم الإيمان: من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يرجع إلى الكفر بعد أن أنقذه الله منه، كما يكره أن يُلقى في النار))؛ [ البخاري ]. لذلك فإن هذا المستوى من الحاجات هو الذى يضبط باقي الحاجات في المستويات الأقل، فيكون لدى الإنسان الاستعداد لضبط النفس ووقوفها عند الحد السليم من مزاولة هذه الحاجات؛ لأن هذا المستوى هو الذي يتعلق بروح الإنسان، التي جاءت من النفخة العلوية من الله في خلق الإنسان؛ لذلك فهي التي تربط القلب البشرى بالملأ الأعلى والدار الآخرة ورضوان الله، ومن ثَمَّ تعمل على تنقية الحاجات في المستويات الأدنى من الشوائب، وتجعلها في الحدود المأمونة التي لا يطغى فيها جانب اللذة الحسية ونزعتها القريبة، على الروح الإنسانية وأشواقها البعيدة والاتجاه إلى الله وتقواه. وهنا يمتاز الإسلام بمراعاته للفطرة البشرية، وقبولها بواقعها، ومحاولة تهذيبها، لا كبتها وقمعها؛ لذلك فقد ضمن الإسلام سلامة الإنسان من الصراع بين شطري النفس البشرية، بين نوازع الشهوة واللذة الحسية، وأشواق الارتفاع والتسامي، وحقق لهذه وتلك نشاطها المستمر في حدود التوسط والاعتدال. وبذلك لا يكون هناك خلل في هذه المستويات، كما هو الحال في تصورات علماء النفس عن الحاجات الإنسانية الذين استخدموا عقولهم فقط في وضع تصوراتهم دون الرجوع إلى هدى الله الذي يهدينا إلى سواء السبيل؛ ولذلك ندعو الله عز وجل أن يهدي علماء المسلمين في علم النفس والتربية أن يُعمِلوا عقولهم في ضوء هدى الله ليصلوا إلى الهدى. اقرأ المقال: ﴿ زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ ﴾ والسعادة الزوجية
آدم عليه السلام (3) أشرتُ في المقال السابق إلى احتجاج موسى وآدم بالقدَر؛ فقد روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (( حاجَّ موسى آدم عليه السلام فقال له: أنت الذي أخرجتَ الناس بذنبك من الجنة وأشقيتهم؟ قال آدم: يا موسى، أنت الذي اصطفاك الله برسالاته وبكلامه، أتلومُني على أمرٍ قد كتبه الله عليَّ قبل أن يَخلقني، أو قدَّره عليَّ قبل أن يخلقني، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فحجَّ آدمُ موسى ))؛ أي: فغلب آدمُ موسى في هذه المحاجَّة. أيها القراء الكرام، إنَّ الاحتجاجَ بالقدَر ينبغي أن يلاحَظ فيه أمران؛ فالقدر إمَّا أن يقترن بمصائب وإما أن يقترن بمَعايب؛ إذ قد يرتكب الإنسانُ جريمةً - كالزنا أو السرقة أو شرب الخمر أو القتل أو غير ذلك من المعاصي - فإذا قيل له: لم فعلتَ ذلك؟ قال: قَدَر الله، أو قدَّر الله، أو قضاء الله، ونسَب عملَه إلى القدر، وهذا خطأ؛ فإنه لا يحقُّ الاحتجاج بالقدَر على ارتكاب المعايب؛ لأنَّ الله لم يبيِّن له القدَر قبل ارتكاب الجريمة وأنه سيرتكبها، ولم يأذَنْ له في ارتكاب هذه الجريمة، أما إذا أُصيب إنسان بمصيبة من المصائب التي لم يقع فيها بإرادته واختياره كالمرض أو الفقر أو انقلب مثلًا وهو نائم على شخص فقتله، أو انفلتت منه حصاة أو نحوها على شخص فأصابته من غير قصدٍ منه، أو غلبَتْه عينه رغم أنفه فنام عن الصلاة حتى طلعتِ الشمس فله أن يحتجَّ في كل هذه المصائب بالقدر؛ لأنَّ هذا الذي وقع منه خارج عن إرادته، وله أن يقول: قدر الله وما شاء فعل. وقد أشار إلى هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقد روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (( المؤمنُ القويُّ خيرٌ وأحبُّ إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كلٍّ خيرٌ، احرص على ما يَنفعك، واستعِن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كان كذا وكذا، ولكن قل: قدَّر الله وما شاء فعل؛ فإنَّ لو تفتح عمل الشيطان ))، فهذا الحديث يضعُ أوضحَ قواعدِ السلوك فيما يحتجُّ به مِن القدر، وما لا يحتجُّ به، فما أصاب الإنسان مِن شرٍّ لا إرادة له فيه فإن له أن يحتجَّ بالقدر، وما فعله بإرادته من المعايب فلا يجوز أن يحتجَّ فيها بالقدر؛ لأن المأذون له في عمله هو الخير وما ينفعه في عاجلته أو آجلته؛ ولذلك صدَّر رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الحديث بقوله: (( احرِصْ على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز ))، وآدم عليه السلام لم يُهبطِ العبادَ إلى الأرض، ولم يكن إخراجُهم من الجنة بيده، وأكله من الشجرة وإن كان سببًا لهبوطه إلى الأرض، لكنه فعلَ بغير قصدٍ كما أسلفت، فلا دَخْل لآدم في إخراج الناس من الجنَّة وإهباط العباد إلى الأرض، وإن ذلك كله لله وحده؛ فاحتجاج موسى عليه السلام على آدم لعله كان نوعًا من المداعبةِ منه لأبيه آدم عليه السلام، وموسى لا يخفى عليه مثل ذلك، وهو عندما وكز القبطيَّ فقضى عليه قال: ﴿ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ ﴾ [القصص: 15]، وموسى عليه السلام لا يؤاخذُ بذلك؛ لأنه لم يقصد قتلَ الرجل، كما أن آدم عليه السلام قد وَصف الله أكلَه من الشجرة بأنه عن نسيان؛ حيث يقول: ﴿ وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا ﴾ [طه: 115]، ولا شكَّ في أن القلم مرفوع عن الناسي كما أنه مرفوع عن النائم، فما فعله الإنسانُ عن نسيان أو في نومه فإن الله تعالى لا يؤاخذه عليه، وكأنَّ آدم عليه السلام قال لموسى عليه السلام: "أنا لم أخرجكم مِن الجنة، وإنما أخرجكم اللهُ الذي رتَّبَ الإخراج على أكلي مِن الشجرة، وقد أكلتُ منها عن نسيان، وقد قدَّر الله عليَّ ذلك قبل أن أُخلق، فأنت تلومني على أمرٍ ليس له نسبة إليَّ أكثر من أني نُهيتُ عن الأكل من الشجرة فأكلتُ منها، وكون الإخراج مترتبًا على ذلك ليس من فعلي، فأنا لم أُخرج نفسي ولم أخرجكم من الجنة، وإنما كان هذا مِن قدَر الله وقضائه، وله الحكمة في ذلك"؛ فلذلك غلب آدمُ موسى في الاحتجاج. أمَّا ما جاء في حديث الشفاعة لاستفتاح الجنَّة يومَ القيامة وتأخُّر آدم عن ذلك بقوله: (( وهل أخرجكم من الجنة إلَّا خطيئة أبيكم آدم ))؛ فلأنَّ صورة ما حدَث هو صورة الخطيئة، كما أن ما حدث من موسى عليه السلام في قتل القبطي هو صورة الخطيئة، لكن الله لا يؤاخذ أحدًا منهما بما فعل؛ لأنَّه لم يكن عن قصد، وحديث الشفاعة هذا قد أخرجه مسلم في صحيحه من طريق أبي مالك الأشجعي عن أبي حازم عن أبي هريرة، ومن طريق أبي مالك الأشجعي عن ربعي عن حذيفة قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يجمع الله تبارك وتعالى الناسَ، فيقوم المؤمنون حتى تُزلف لهم الجنة، فيأتون آدمَ فيقولون: يا أبانا، استفتح لنا الجنة، فيقول: وهل أخرجكم من الجنة إلَّا خطيئة أبيكم آدم، لستُ بصاحب ذلك، اذهبوا إلى ابني إبراهيم خليل الله، قال: فيقول إبراهيم: لستُ بصاحب ذلك إنما كنت خليلًا من وراء وراء، اعمدوا إلى موسى صلى الله عليه وسلم الذي كلَّمه الله تكليمًا، فيأتون موسى صلى الله عليه وسلم فيقول: لستُ بصاحب ذلك، اذهبوا إلى عيسى كلمة الله وروحه، فيقول عيسى صلى الله عليه وسلم: لستُ بصاحب ذلك، فيأتون محمدًا صلى الله عليه وسلم فيقوم فيؤذَن له، وتُرْسلُ الأمانة والرَّحِم فتقومان جنبتي الصراط يمينًا وشمالًا، فيمرُّ أولُكم كالبرق، قال: قلت: بأبي أنت وأمي، أي شيء كمرِّ البرق؟ قال: ألم تروا إلى البرق كيف يمر ويرجع في طرفة عين، ثم كمرِّ الريح، ثم كمرِّ الطير وشدِّ الرجال، تجري بهم أعمالهم، ونبيكم قائم على الصِّراط يقول: رب سلِّم سلِّم، حتى تعجز أعمالُ العباد، حتى يجيء الرجل فلا يستطيع السير إلا زحفًا، قال: وفي حافتي الصراط كلاليب معلَّقة مأمورة بأخذ من أُمرت به، فمخدوشٌ ناجٍ ومكدوسٌ في النار))، والذي نفس أبي هريرة بيده، إنَّ قعر جهنم لَسبعون خريفًا، وقوله في الحديث: (( وشد الرجال ))؛ أي عَدْوِ الرجال وسعيهم وسرعتهم في المشي. وإلى فصل قادم إن شاء الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
عمر بن الخطاب وعياش بن ربيعة حدَّث عبدالله بن عمر عن أبيه قال: لما أردت الهجرة إلى المدينة، اتَّعَدْنا أنا وعياش بن أبي ربيعة وهشام بن العاص، التناضب من إضاءة بني غفار فوق سرف، وقلنا: أينا لم يصبح عندها فقد حبس، فليمض صاحباه، قال: فأصبحت أنا وعياش عند التناضب وحبس هشام، وفتن فافتتن - أي طاوعهم على ترك الإسلام - فلما قدمنا المدينة نزلنا في بني عمرو بن عوف بقباء، وخرج أبو جهل بن هشام والحارث بن هشام إلى عياش - وهو ابن عمهما وأخوهما لأمهما - حتى قدما المدينة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة، فكلماه وقالا له: إن أمك قد نذرت ألا يمس رأسها مُشطٌ حتى تراك، ولا تستظل من شمس حتى تراك، فرقَّ لها، فقال له عمر: إنه والله إن يريدك القوم إلا ليفتنوك عن دينك، فاحذرهم؛ فوالله لو آذى أمَّك القَملُ لامتشطت، ولو قد اشتد عليها حر مكة لاستظلت، لكنه صمم على بر أمه والذهاب معهما، وقال: لي مالٌ أعود به، قال عمر: أعطيك نصف مالي ولا تذهب معهما، فأبى، فقال له عمر: إن لي ناقة نجيبة ذلولًا فخذها والزم ظهرها، فإن رابك منهما ريب فانجُ عليها، فخرج عليها معهما، فلما كان معهما ببعض الطريق قال له أبو جهل: يا أخي، والله لقد استغلظت بعيري هذا، أفلا تعقبني على ناقتك هذه؟ قال عياش: بلى، فأناخ راحلته وأناخا ليتحول عليها، فلما استويا بالأرض عدَوَا عليه فأوثقاه رباطًا، ثم دخلا به مكة، ففتناه فافتتن، قال عمر: فكنا نقول: لا يقبل الله ممن افتتن توبة، وكانوا يقولون ذلك لأنفسهم، حتى قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، وأنزل الله: ﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ * وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ ﴾ [الزمر: 53 - 55]، قال عمر: كتبتها وبعثت بها إلى هشام بن العاص، قال هشام: فلما أتتني جعلت أقرؤها بذي طوى أصعد فيها وأصوب ولا أفهمها حتى قلت: اللهم فهمنيها، فألقى الله في قلبي أنها إنما أنزلت فينا وفيما كنا نقول في أنفسنا، ويقال فينا، قال: فرجعت إلى بعيري فجلست عليه، فلحقت برسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة. وأورد ابن إسحاق: أن الوليد بن الوليد بن المغيرة قام بعملية جريئة في مكة لإنقاذهما من قبضة قريش، قال ابن هشام: حدثني من أثق به: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وهو بالمدينة: ((مَن لي بعياش بن ربيعة وهشام بن العاص؟))، فقال الوليد بن الوليد بن المغيرة: أنا لك يا رسول الله بهما، فخرج إلى مكة فقدمها مستخفيًا، فلقي امرأة تحمل طعامًا، فقال: أين تريدين يا أمَة الله؟ قالت: أريد هذين المحبوسين، تعنيهما، فتبعها حتى عرَف موضعهما، وكانا محبوسين في بيت لا سقف له، فلما أمسى تسور عليهما، ثم أخذ مروة - حجرًا - فوضَعها تحت قيديهما فضربهما بالسيف فقطعهما، ثم حملهما على بعيره وساق بهما، فعثر، فدميت إصبعه، فقال: "هل أنت إلا إصبع دميت، وفي سبيل الله ما لقيت؟". وورَد أن عمر بن الخطاب هاجر جهرًا؛ حيث حمل سيفه وتنكب قوسه وأمسك بخطام ناقته ووقف أمام الملأ في قريش وقال: من أراد أن تثكله أمه، وأن ييتِّم أولاده وأن تترمل زوجه، فليتبعني وراء هذا الوادي، وخرج من بينهم فلم يتبعه أحد.
بستان السالك في مناقب أنس بن مالك هذا أنس بن مالك رضي الله تعالى، تلميذ مدرسة نبينا محمد صلى الله وسلم، وخادمه، وحين آلتْ أمه، وإلا أن يكون للنبي خادمًا؛ ولينال شرف الصحبة، والخدمة معًا، ويكأنه، وحين كان ذلك كذلك، وإنما قد تنشَّأ تنشئة صحابي كريم، ولما كان مضرب المثل في القدوة الحسنة، وحين ألفيناه حاسمًا، ومن معاركه وجهاده، وكما كان إلفًا، ومن خدمته، تاريخًا أبيض، ناصعًا، شفافًا، رقراقًا، مجيدًا. وأعالجه في أربع عشرة مسألة. المسألة الأولى: اللهم أكْثِرْ ماله وولده، وأطِلْ عمره، وأدخله الجنة: هذا دعاء نبينا محمد صلى الله عليه وسلم لأنس بن مالك رضي الله تعالى عنه، وحين كان قد خدمه عشر سنين، وحين لم يعنفه يومًا، ولما لم يوبخه يومًا، وحين قد أكرمه يومه وغده، ولما أن كان هذا النبي صلى الله عليه وسلم ألينَ الناس، وأرأف الناس، وأحلم الناس، وأعف الناس، وأرحم الناس، ولا سيما على أولاء مكسوري الخواطر، من الإماء والجواري والرقيق والخدم أيضًا. وقد مرَّ في غير مناسبة ومن هذه السيرة النبوية المباركة، ذكر أنس بن مالك هذا عن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وأنه قال: ((خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين، والله ما قال لي: أفًّا قط، ولا قال لي لشيء: لم فعلت كذا؟ وهلا فعلت كذا؟ زاد أبو الربيع: ليس مما يصنعه الخادم، ولم يذكر قوله: والله)) [1] . المسألة الثانية: إن أنسًا غلام كَيِّسٌ وهذه شهادة أبي طلحة، ولأخيه أنس بن مالك، وإنه كيس، فطن، ألمعي، عبقري، وإذ ليس يفري فريه، وإلا مَن كان مِن شاكلة عمر الفاروق رضي الله تعالى عنهم أجمعين. وهذا شأن الأمة الوسط، وحين كان من وسطيتها، وكذا كان شأنها شهداء على الناس، شهادة الحق، والعدل، والقسط، والنصفة؛ وكما قال الله تعالى: ﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ [البقرة: 143]. وهذا حق الإخاء، وهذا موجب الولاء، وهذا معين الوفاء، وهذا مورد النقاء، وحين يتجشم أخٌ مِدحةَ أخيه؛ شهادة الحق الذي كانوا به يعدلون، أمة كان هذا شأنها، ترقى بأُخوَّتها عنان السماء، وتعلو بوحدتها الآفاق والأنحاء، وتسمق بألفتها كافة الأرجاء، يزكون بعضهم بعضًا، وإلا عن صدق، ويستروحون بعضهم بعضًا، وإلا من نصفة، وإخلاص، ومحبة، وولاء، وإذ كان يصدق فيهم قرآن تنزَّل؛ ولما كان من قوله تعالى: ﴿ وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ [التوبة: 71]. فعن أنس بن مالك: ((قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ليس له خادم، فأخذ أبو طلحة بيدي، فانطلق بي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، إن أنسًا غلام كيِّس، فليخدمك، قال: فخدمته في السفر والحضر، ما قال لي لشيء صنعته: لم صنعت هذا هكذا؟ ولا لشيء لم أصنعه: لِمَ لَمْ تصنع هذا هكذا؟)) [2] . وهذه دعوات ثلاث، وحين كان مدار سعادة العبد عليها، من دنياه، ومن أخراه معًا، ولما كان هذا النبي محمد صلى الله عليه وسلم مستجاب الدعاء؛ ولأنه نبي، ولأنه مطعمه حلال، ولأنه مشربه حلال، ومنه فلا ثمة مانع من إجابته، ولا ثمة حائل من قبول دعوته، ومن لدن ربٍّ رحيم، رؤوف، كريم، تواب، حليم، سبحانه أيضًا. وهذه الثلاث، وحين نقول: إن عليها مدار السعادة الأبدية، وكما أن فيها السعادة الدنيوية؛ ولأنه تعالى قال: ﴿ الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا ﴾ [الكهف: 46]، وهذه سعادة الدنيا، وحين كانت زينة العبيد، ولما تحلوا بمرضاة ربهم الحق المجيد، ولما كان منه إغداقه عليهم من نعمائه، ولما كان منه إهلاله عليهم من عطاياه، ومنحه، ومِنَنِهِ، وأفضاله. المسألة الثالثة: علم نبوة ضافٍ: وهاتان هما اللتان رآهما أنس، ومن دنياه، ومن حين رُزق من الذرية مائة وستًّا، أو مائة وعشرين، وعلى قولين في هذا، وحين كان كَرْمُهُ – أي: حديقة عنبه - تحمل ثمرها، وفي العام مرتين، وهذا علم ضافٍ آخر، ومن أعلام نبوة هذا النبي محمد صلى الله عليه وسلم؛ ولأنه ليس ومن كمثله كَرْمٌ يثمر في العام مرتين اثنتين! وحين كان أنس ينتظر الثالثة؛ وهي دخول الجنة، ونعيمها، وغراسها، وترابها، ومسكها، وعودها، وطيبها، ورحيقها، ونسيمها، وحورها، وأعنابها، ولا كعنب حديقته، ولا غير حديقته، وإذ ليس يجمعهما، وإلا جامع الأسماء وحسبنا؛ وكما قال عبدالله بن عباس رضي الله تعالى عنه يومًا: "ليس في الجنة شيء مما في الدنيا إلا الأسماء" [3] . المسألة الرابعة: أترون هذه طارحةً ولدها في النار؟! وهذه عاطفة أمٍّ نحو ولدها، وما أعظم عواطف الأمهات نحو أولاء الفلذات! وإذ ليس من وصفها بقادر واصف، وإذ ليس من نعتها بمطيق ناعت، وحين تضمه، وترعاه، وتلفه، وبخمارها لفًّا، ومن برد أو طقس غير ملائم، رسالة إلى الأولاد والبنين، وأن برًّا بآبائكم، وهم أولاء الذين ليسوا يقلون، وعن أم أنس شيئًا، ومن رعاية، ومن محبة، ومن حنان، ومن شفقة، ومن رحمة، ألا فارعوا حقوقهم، وألا فآتوهم نصيبهم، ومن برهم غير منقوص! وقال أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه: ((جاءت بي أمي أم أنس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أزرتني بنصف خمارها، وردتني بنصفه، فقالت: يا رسول الله، هذا أنيس ابني، أتيتك به يخدمك فادعُ الله له، فقال: اللهم أكْثِرْ ماله وولده، قال أنس: فوالله إن مالي لكثير، وإن ولدي وولد ولدي ليتعادُّون على نحو المائة اليوم)) [4] . وعن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: ((قدم على النبي صلى الله عليه وسلم سبيٌ، فإذا امرأة من السبي قد تحلب ثديها تسقي، إذا وجدت صبيًّا في السبي أخذته، فألصقته ببطنها وأرضعته، فقال لنا النبي صلى الله عليه وسلم: أترون هذه طارحة ولدها في النار؟ قلنا: لا، وهي تقدر على ألا تطرحه، فقال: لله أرحم بعباده من هذه بولدها)) [5] . وهذا مثال تقريبي، وهذا بلاغ نبوي، وحين كان من ضرب المثل التقريب، والتفهيم، والتدريب، وربط العلائق، وتبيين الحقائق، وضبط الوشائج، وهذا سَنَن دعوي كريم، قَمِنٌ بأصحاب الدعوات أن يعملوه، وبأهل الصلاح والهدى أن يفعلوه. المسألة الخامسة: يا رسول الله، إن لي خويصة: وانظر كيف كانت الأم، وانظر كيف رحمتها، وبولدها، ولربما كان ومن أكثر من نفسها، وحين طلبت الأم ومن هذا النبي محمد صلى الله عليه وسلم أن يخصه بدعائه، ودون أمه وها هي قد شملها وولدها الدعاء، ومن قبل وفي رسالة ضافية إلينا - معاشر الناس- أن للوالدين حقوقهما، ومن بيان إلينا - معاشر الناس - أن نقف؛ ومن إجلال أمامهما، مطأطئي هامات، وإذ ليس عندهما ومن هامات، ومنحني قامات، وإذ ليس أمامهما ومن قامات. فعن أنس رضي الله عنه: ((دخل النبي صلى الله عليه وسلم، على أم سليم، فأتته بتمر وسمن، قال: أعيدوا سمنكم في سقائه، وتمركم في وعائه، فإني صائم ثم قام إلى ناحية من البيت، فصلى غير المكتوبة، فدعا لأم سليم وأهل بيتها، فقالت أم سليم: يا رسول الله، إن لي خويصة، قال: ما هي؟ قالت: خادمك أنس، فما ترك خير آخرة ولا دنيا إلا دعا لي به، قال: اللهم ارزقه مالًا وولدًا، وبارك له فيه، فإني لمن أكثر الأنصار مالًا، وحدثتني ابنتي أمينة: أنه دفن لصلبي مقدم حجاج البصرة بضع وعشرون ومائة)) [6] . وقوله: ((فإني لَمِن أكثر الأنصار مالًا))؛ الفاء فيها معنى التفسير فإنها تفسر معنى البركة في ماله، واللام في: لمن، للتأكيد ومالًا، نُصب على التمييز، فإن قلت: وقع عند أحمد من رواية ابن أبي عدي أنه لا يملك ذهبًا ولا فضة غير خاتمه، وفي رواية ثابت عند أحمد: ((قال أنس: وما أصبح رجل من الأنصار أكثر مني مالًا، قال: يا ثابت وما أملك صفرًا ولا بيضًا إلا خاتمي؟))، قلت: مراده أن ماله كان من غير النقدين، وفي جامع الترمذي، قال أبو العالية: "كان لأنس بستان يحمل في السنة مرتين، وكان فيه ريحان يجيء منه رائحة المسك"، وفي الحلية لأبي نعيم من طريق حفصة بنت سيرين عن أنس، قال: "وإن أرضي لتثمر في السنة مرتين، وما في البلد شيء يثمر مرتين غيرها" [7] . المسألة السادسة: مسألة دخوله صلى الله عليه وسلم على أم سليم: ويكأن هذا النبي محمدًا صلى الله عليه وسلم، ولما كان معصومًا، ولما كان نبيًّا رسولًا، ولما كان ليس يمنعه من الزواج مانع، ولما كان هذا الحدث، وفي السنة الرابعة من هجرته صلى الله وسلم، وإذ كان في كنفه وبيوتاته نساؤه ومن أزواجه وجواريه، ومن بعد غزوات شتى وإذ ليس فيه ومن بعد قول لقائل، أو افتراء لمفترٍ، أو مخادعة لمخادع، أو وثبة لواثب، أو صولة لصائل. وإذ كيف ينظر الناس، ومن منظارهم هذا الضيق، وقد كان الأفق واسعًا جد سَعة وحين كان من موجب دخوله صلى الله عليه وسلم عليها رحمتها، وهذا الذي كان يُنتظر أن يُوقف عنده، ويُمدح به، ويُثنى عليه، وفي عالم هكذا رأيته هائجًا، ماجنًا، ولينقِّب عن ثغرة، وما هو بواجد منها شيئًا وها هو يلوك، ويروغ، ويلغ، وفيما حرم الله تعالى ليلَ نهار، وقد كان من تجرده أن يبحث عن هكذا الأسوة، وأن ينقب عن هكذا القدوة، وإذ ليس بواجد أفضل من هذا النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وإذ ليس من مثال عفة ضافية، وإلا عفة هذا النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وإذ ليس من معين رحمة عالية، سامقة، رفيعة، راقية، وإلا عند هذا النبي محمد صلى الله عليه وسلم، ولنخلص، وإلى ما مفاده أن الصيد في ماء عكر، وإنما يصيب عكره صاحبه، وإنما يلزم كدره كادره. وفي الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم: ((كان لا يدحل على أحد من النساء إلا على أزواجه إلا على أم سليم، فقيل له في ذلك، قال: أرحمها؛ قُتل أخوها حرام معي))، فبيَّن تخصيصها بذلك، فلو كان ثمة علة أخرى لذكرها؛ لأن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز، وهذه العلة مشتركة بينها وبين أختها أم حرام، قال: وليس في الحديث ما يدل على الخلوة بها، فلعله كان ذلك مع ولد أو خادم أو زوج أو تابع، وأيضًا فإن قتل حرام كان يوم بئر معونة في صفر سنة أربع، ونزول الحجاب سنة خمس، فلعل دخوله عليها كان قبل ذلك، وقال القرطبي: "يمكن أن يقال: إنه صلى الله عليه وسلم كان لا تستتر منه النساء؛ لأنه كان معصومًا، بخلاف غيره" [8] . المسألة السابعة: التملح والتلطف من بلاغة التصغير: وهذه أم سليم، وهذا شأنها مع ولدها، وحين قدَّمته إلى هذا النبي محمد صلى الله عليه وسلم خويصًا، وخويدمًا وهكذا بتصغير المفردة (خاصة)، وكذا المفردة (خادم)؛ وهكذا تملحًا، وتلطفًا، لا تحقيرًا ولا ذمًّا، وحين كان ذلك، ومن بعد، بل وإحالة على عواطف أم شجية، حنية، ندية، وعلى ولدها وحين كان ومن أدبها، ويكأنها تقول ذلك؛ تملحًا، وتلطفًا، وأمام هذا النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وإذ لو كانت الأخرى، وإن مقام النبوة ليتأبَّاه، وإذ إن عواطف الأمومة لتنكره، وتأنفه، وتبغضه، وتكرهه، وتمقته، وتتحاشاه. وهذا إلف نبينا صلى الله عليه وسلم ومع خادمه وإذ أخذه صافًّا، عن يمينه، إلفًا، وقربًا، وقربة، وحنانًا، ومودة، ورحمة، وهذا الذي ليس يُنتظر منه صلى الله عليه وسلم سواه، وحين كان من خُلُقه، هي تلكم المودة، ولما كان من نعته، هو هذه الرأفة، ولما كان من سمته، هي تلكم الرحمة، وحين أنزل الله تعالى فيه قرآنًا يُتلى، وبهكذا كان وصفه ونعته؛ وحين قال الله تعالى: ﴿ لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ [التوبة: 128]. وهذا فضل أنس بن مالك، وحين يصفه هذا النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وعن يمينه؛ قربة، وتقريبًا، وهذا من حسن عشرته، وطيب صحبته. المسألة الثامنة: هذه قيمة الموالي في ديننا: وهذا شأن الموالي في هذا الدين، وحين الفضل، وإن وُجد، وإنما وحسبه أن فرقًا واحدًا بين المؤمنين، وهو ذلكم الذي قال عنه هذا النبي محمد صلى الله عليه وسلم يومًا، وفي إعلان عام للعالمين، وأن ليس من ديننا فوارق، ولا أنه ليس من ديننا طبقية، وإنما لَفارق واحد؛ وهو ذلكم التقوى والعمل الصالح؛ وحين قال الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ﴾ [الحجرات: 13]، وحين قال هذا النبي محمد صلى الله عليه وسلم: ((يا أيها الناس، إن ربكم واحد، ألا لا فضلَ لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود، ولا لأسود على أحمر، إلا بالتقوى؛ إن أكرمكم عند الله أتقاكم)) [9] . فعن أنس بن مالك: ((دخل النبي صلى الله عليه وسلم علينا، وما هو إلا أنا، وأمي، وأم حرام خالتي، فقال: قوموا فلأصلي بكم، في غير وقت صلاة، فصلى بنا، فقال رجل لثابت: أين جعل أنسًا منه؟ قال: جعله على يمينه، ثم دعا لنا - أهل البيت - بكل خير من خير الدنيا والآخرة، فقالت أمي: يا رسول الله، خويدمك، ادعُ الله له، قال: فدعا لي بكل خير، وكان في آخر ما دعا لي به أن قال: اللهم أكْثِرْ ماله وولده، وبارك له فيه)) [10] . وعن أنس، قال: ((دعا لي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: اللهم أكثر ماله وولده، وأطِلْ حياته، فالله أكْثَرَ مالي حتى إن كَرْمًا لي لَتحمل في السنة مرتين، ووُلد لصلبي مائة وستة)) [11] . المسألة التاسعة: هذه بلاغة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم: وقف البلغاء عند قول النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وذُهل الفصحاء عن حديثه صلى الله عليه وسلم، وحين دعا لأنس بن مالك، ومن تنكير خير الدنيا، ومن تنكير خير الآخرة أيضًا، وحين كان ذلكم لكل خير شاملًا، عامًّا، سحًّا، غدقًا، مجللًا؛ ولأنه من جوامع كلم هذا النبي، الأمي، العربي، القرشي، نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وحين أُوتي جوامع الكلم، ومن حيث كان، ومن جوامعه اشتماله على التلخيص، وعلى البيان، وبلاغته، ومن مقتضى الحال وإفادته، وحين قال نبينا محمد صلى الله عليه وسلم: ((بُعثت بجوامع الكلم، ونُصرت بالرعب، وبينا أنا نائم رأيتني أُتيت بمفاتيح خزائن الأرض فوُضعت في يدي، قال أبو هريرة: فقد ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنتم تلغثونها، أو ترغثونها، أو كلمة تشبهها)) [12] . فعن أنس بن مالك: ((دخل النبي صلى الله عليه وسلم على أم سليم، فأتته بتمر وسمن، قال: أعيدوا سمنكم في سقائه، وتمركم في وعائه؛ فإني صائم، ثم قام إلى ناحية من البيت، فصلى غير المكتوبة، فدعا لأم سليم وأهل بيتها، فقالت أم سليم: يا رسول الله، إن لي خويصة، قال: ما هي؟ قالت: خادمك أنس، فما ترك خير آخرة ولا دنيا إلا دعا لي به؛ قال: اللهم ارزقه مالًا وولدًا، وبارك له فيه؛ فإني لمن أكثر الأنصار مالًا، وحدثتني ابنتي أمينة أنه دُفن لصلبي مقدم حجاج البصرة بضع وعشرون ومائة)) [13] . قال الإمام الزمخشري رحمه الله تعالى في قوله سبحانه: ﴿ إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ ﴾ [طه: 69]: "فإن قلت: لم وحَّد ساحر ولم يجمع؟ قلت: لأن القصد في هذا الكلام إلى معنى الجنسية لا إلى معنى العدد، فلو جُمع لخُيل أن المقصود هو العدد، ألا ترى إلى قوله: ﴿ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ ﴾ [طه: 69]؛ أي هذا الجنس، فإن قلت: فلم نكَّر أولًا وعرَّف ثانيًا؟ قلت: إنما نكَّر من أجل تنكير المضاف لا من أجل تنكيره في نفسه؛ كقول العجاج: في سعي دنا طالما قد مدت، وفي حديث عمر رضي الله عنه: ((لا في أمر دنيا ولا في أمر آخرة))؛ المراد تنكير الأمر كأنه قيل: إنما صنعوا كيد سحريٌّ، وفي سعي دنيوي، وأمر دنيوي وآخري" [14] . وقال الإمام الفخر الرازي رحمه الله تعالى: "لم نكَّر أولًا ثم عرَّف ثانيًا، الجواب: كأنه قال: هذا الذي أتوا به قسم واحد من أقسام السحر، وجميع أقسام السحر لا فائدة فيه، ولا شك أن هذا الكلام على هذا الوجه أبلغ" [15] . المسألة العاشرة: طرفة وملاحة: وحين كان من أنس بن مالك هذا، وقد كان صغيرًا، وحين كان بدء خدمته لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وفي العاشرة من عمره رضي الله تعالى عنه، وإلا أنه كان نحريرًا، عبقريًّا، ألمعيًّا، ولما كان من أمره أن تبدع، وحين كان من خلقه أن تنكت، ومن ابتكاره موقفًا مضحكًا، وحين أضحك منه النبي صلى الله عليه وسلم، وأضحك سِنه وفاه معه أيضًا، ولندعه يروي لنا روايته، ونقف بأنفسنا عن طرفته، ونكتته، وملاحته، وفكاهته. وهذا درس في التربية العملية، وحين يتابع الولي مولاه، وحين يرأف به، ويمنحه من عطفه، ومودته، ولطفه، وحنانه، ما يجعله وسامًا على صدور العارفين، وما يستكنهه ذلك، ومن قاموس المحبين، والسالكين. فعن أنس بن مالك: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحسن الناس خُلُقًا، فأرسلني يومًا لحاجة، فقلت: والله لا أذهب، وفي نفسي أن أذهب لما أمرني به نبي الله صلى الله عليه وسلم، فخرجت حتى أمرَّ على صبيان وهم يلعبون في السوق، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قبض بقفاي من ورائي، قال: فنظرت إليه وهو يضحك، فقال: يا أُنيس، أذهبت حيث أمرتك؟ قال: قلت: نعم، أنا أذهب يا رسول الله)) [16] . وعلى أن هذا خلق نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وحين لم ينادِ أنسًا لا بالخادم صفة ولا بالخويدم نعتًا وتصغيرًا، وإنما وبتصغير اسمه، وحسب أدب نبي، وحلم رسول، وخُلُق أمين الله تعالى في أرضه. المسألة الحادية عشرة: لماذا بكى أنس بن مالك؟ وهذا قول أنس بن مالك وهو صحابي كريم، ولئن كان شأن الصلاة عظيمًا، وحيث كانت ركن ديننا الثاني، وعموده، ولما كان الحفاظ عليها دينًا، يدين به العبد أولًا، ولما كان من موجبها أنها مكفرات، ماحيات للذنوب، والآثام، ومميطات لأذى المعاصي، والخطايا، والرزايا، وبه كان العبيد، وحين يتلمسون بها رضا ربهم سبحانه، وإنما كان عود ذلك إليهم، وخيره عامًّا عليهم. وإلا أن ترك هذه الصلاة، أو حتى تأخيرها عن وقتها، وهو الذي آلم أنسًا، وحين لم يجد منها ما كان عليه الأولون، ومن إقامتها، وعلى وجهها، ركوعًا، وسجودًا، وقيامًا، وقعودًا، وقراءة، وتلاوة، واستفتاحًا، وفي رسالة وإلى أمثالنا الضعفاء، أن نرعاها، حق رعايتها، وأن نوليها صدق ولايتها، ومن وقتها، ومن إحسانها، ومن إتقانها؛ وحين كانت هي صلة العبد بربه، وأنسه، وأمنه، ورخاؤه، وسعادته، وفوزه، وسماحته، وطمأنينته، وسلمه، وراحته، وإلفه وانسجامه، وهداه، وسناه، وضياه، ووقاره، وهيبته، وفلاحه، وسماحته. عن الزهري: "دخلت على أنس بن مالك بدمشق وهو يبكي، فقلت: ما يبكيك؟ فقال: لا أعرف شيئًا مما أدركتُ إلا هذه الصلاة، وهذه الصلاة قد ضُيِّعت" [17] . المسألة الثانية عشرة: شهوده الوقائع: وعلى أن أنس بن مالك رضي الله تعالى؛ ولاعتبار صغر سنه، ومنه لم يكن ليتمكن من شهود كل من غزوتي بدر وأحد، وإن كان قد شارك في غزوات أخر، ولما بلغ من العمر ما يسمح له بذلك، ومن شاكلة عبدالله بن عمر رضي الله تعالى عنهما، وحين رده النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد، ولما كان قد قبله وأجازه يوم الخندق، وحين بلغ من العمر خمسة عشر عامًا، وعلى ما أنف ذكره، ومن هذه السيرة النبوية المباركة في حينه. ويكأن أنسًا شارك في حروب الردة أيضًا، وإذ كان سيفًا من سيوف الله تعالى، مصلتًا، ومشرعًا عليهم، في وقت حاجة الصف، وإلى أمثال تربية مائدة النبي محمد صلى الله عليه وسلم. والمشهور: أنه لم يشهد بدرًا لصغره، ولم يشهد أُحدًا أيضًا لذلك، وشهد الحديبية، وخيبر، وعمرة القضاء، والفتح، وحنينًا، والطائف، وما بعد ذلك [18] . المسألة الثالثة عشرة: ما رأيت أحدًا أشبه صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم من ابن أم سليم: وعلى أن هذا هو التتبع، وعلى أن هذا هو الاستنان والاقتداء، وحين كانت الصلاة دينًا، ونظامًا، وعهدًا، وعقدا لهذا الصحابي الكريم، أنس بن مالك، رضي الله تعالى عنه، وحين يلتقي قوله ومع عمله، ولما كانت هذه هي شهادات الناس عنه، وعن صلاته، وكيف أنها كانت أشبه بصلاة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، ومن حضره، ومن سفره أيضًا. وعلى أن هذا أنس بن مالك نفسه، وحين شهد شهادة الحق، وفي حق عمر بن عبدالعزيز، رضي الله تعالى عنه، وحين كان أشبه صلاة بصلاة نبي الله محمد صلى الله عليه وسلم، وها هو عمر بن عبدالعزيز لم يَرَهُ، ويكأن هذا السنن قد تواتر، ولا سيما ونحن أمام مثل أنس بن مالك، وحين قد كبر سنه، ليشيع الخير، والسنن، والهدي، والاقتداء بين الناس، وليكونوا على مثله هدي نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم. ولكن هذا، ومن جانب آخر، وإنما ينظر إليه، وكيف كان الناس، وهكذا كانت قلوبهم، أخوة في الله تعالى، سامية، عالية، سامقة، وحين يكون العبد، وهكذا من الإلف، والسماحة. وأولاء قوم قد نزع الله تعالى ما في قلوبهم من غلٍّ، وأولاء أناس كانوا على طراز آخر، ويكأن الأمل معقود على معاشر الأتباع، أن يحذووا حذوهم، وأن يسارعوا خطوهم. وأنت خبير، وكيف كان مسلك الأنصار، الأطهار، الأخيار، الأبرار، وحين قد تنزل القرآن الحكيم، ومن قولهم، وعلى أثرهم، ومن عقدهم، وعلى نص دعائهم؛ وحين قال الله تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ [الحشر: 10]. فعن أنس بن مالك: "ما رأيت أحدًا أشبه صلاة بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم من عمر بن عبدالعزيز" [19] . وأما عن هذا الشبه، فلم يتركوه، بل بينوه، وفصلوه، وأيضًا سننًا حسنًا، واقتداء، واهتداء. فعن أبي هريرة: "ما صليت وراء أحد أشبه صلاة برسول الله من فلان، فصلينا وراء ذلك الإنسان وكان يطيل الأوليين من الظهر، ويخفف في الأخريين، ويخفف في العصر، ويقرأ في المغرب بقصار المفصل، ويقرأ في العشاء بالشمس وضحاها وأشباهها، ويقرأ في الصبح، بسورتين طويلتين" [20] . وعن أنس بن مالك: "ما رأيت أحدًا أشبه صلاة بصلاة رسول الله من هذا الفتى – يعني: عمر بن عبدالعزيز – فحزرنا في ركوعه عشر تسبيحات، وفي سجوده عشر تسبيحات" [21] . وعن أبي الدرداء قال: "ما رأيت أحدًا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أشبه صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم من أميركم هذا - يعني معاوية" [22] . المسألة الرابعة عشرة: مرويات أنس بن مالك: وهذا باب واسع ويكفينا فيه أن الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى قد بوَّب في مسنده مسندًا آخر لأنس رضي الله تعالى، وحين بلغت تسعة وسبعين حديثًا، رواها هذا الكريم، الخويدم، والخويص أنس هذا، وفيه من الأحاديث ما يعد مسندًا وحده وبحق، وهو جدير بالعناية، والدراسة، والتحقيق، والشرح، والبيان، والتخريج، عملًا مستقلًّا خالصًا. قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى: "مسند أنس بن مالك (الحديث 13121 - 13200)" [23] . [1] صحيح مسلم: 2309. [2] صحيح البخاري: 2768. [3] صحيح الترغيب، الألباني: 3769. [4] صحيح مسلم: 2481. [5] صحيح البخاري: 5999. [6] صحيح البخاري: 1902. [7] عمدة القاري، العيني: ج 11/ 99. [8] عمدة القاري، العيني: ج 11/ 99. [9] غاية المرام، الألباني: 313، خلاصة حكم المحدث: صحيح. [10] صحيح مسلم: 660. [11] سير أعلام النبلاء، الذهبي: ج 3/ 399، وأخرجه ابن عساكر 3/ 80ب، وأخرجه بنحوه البخاري في الأدب المفرد (653)، وابن سعد 7/ 19 من طريقين عن سنان بن ربيعة، عن أنس، وسنده حسن. [12] صحيح البخاري: 7273. [13] صحيح البخاري: 1982. [14] الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل، الزمخشري: ج 2/ 545. [15] تفسير الرازي، الرازي: ج 22/ 85. [16] صحيح مسلم: 2310. [17] صحيح البخاري: 530. [18] البداية والنهاية، ابن كثير: ج 5/ 353. [19] إتحاف الخيرة المهرة، البوصيري: 7 /297، خلاصة حكم المحدث: رواته ثقات. [20] صحيح النسائي، الألباني: 982. [21] ضعيف النسائي، الألباني: 1134. [22] جمع المفقود الكثير من معجم الطبراني الكبير، البيروتي: حديث رقم: 132. [23] مسند أحمد بن حنبل: المجلد الثالث.
الجزء الأول من كتاب الصيام لجعفر الفريابي صدر حديثًا كتاب: "الجزء الأول من كتاب الصيام"، لأبي بكر جعفر بن محمد بن المستفاض الفريابي (ت 301 هـ)، تحقيق: د. "رضا بوشامة"، نشر: "دار الميراث النبوي للنشر والتوزيع". وهذا الجزء الحديثي يطبع لأول مرة، حيث طبع منه الجزء الرابع والخامس منه من قبل، ولم يسبق أن طبع الجزء الأول، وذكر فيه المصنف أحاديث وآثارًا تتعلق بالصيام وثوابه، ورتبه على الأبواب، وتضمن هذا الجزء أربعة أبواب، وهي: • باب ما روي من الكراهية للمسلم والنهي عن الجهالة والرفث والسباب إذا كان صائمًا. • باب ما روي في فضل الصيام. • باب ما روي في الاثنين والخميس. • باب ما روي في صوم شهر رمضان وفضل الصيام والقيام فيه. وأسند في هذه الأبواب الأحاديث والآثار، حيث بلغت مائة نص، و(85) حديثًا مرفوعًا، و(15) أثرًا عن الصحابة والتابعين. ونجد أن أسانيد الفريابي من أعلى الأسانيد، فقد شارك أصحاب الكتب الستة في بعض شيوخهم، وروى عن جمع كبير من كبار المحدثين، وقد بلغ عدد شيوخه في هذا الجزء (37) شيخًا. كما حفظ لنا هذا الجزء أيضًا بعض الطرق التي يحتاجها الحديثي إما لتقوية طريق أو ترجيح طريق على آخر، وبعض الطرق لا توجد إلا عند الفريابي، وقد رواها من طريقه بعض الأئمة كأبي نعيم في "مستخرجه على صحيح مسلم" وغيره. وقد قام المحقق بإخراج هذا الجزء بمقابلته على مخطوطته وتخريج أحاديثه وآثاره تخريجًا مختصرًا، مبتدئًا بمن أخرجه من الأئمة من طريق الفريابي أو راوي هذا الجزء عنه، ثم ذكر من خرَّجه من أصحاب الكتب المشهورة، مع بعض الفوائد الحديثية والإسنادية، وقام بوضع بعض الفهارس له تسهيلًا للرجوع إلى مادة الجزء. وصاحب الجزء هو أبو بكر جعفر بن محمد بن الحسن بن المستفاض الفريابي (207 - 301 هـ / 822 - 913 م) أحد علماء السنة في القرن الثالث الهجري، تركي الأصل، من أهل فرياب من ضواحي بلخ. ارتحل من فرياب وهي مدينة من بلاد الترك إلى بلاد ما وراء النهر، وخراسان، والعراق، والحجاز، والشام، ومصر، والجزيرة، ولقي الأعلام وتميز في العلم. وولي القضاء بالدينور مدة. ولما دخل بغداد استقبل فيها بالطبول، وكان يحضر مجلسه بها نحو عشرة آلاف. طوَّفَ شرقًا وغربًا، ولقي أعلام المحدثين فِي كل بلد، وسمع بخراسان، وما وراء النهر، والعراق، والحجاز، ومصر، والشام، والجزيرة، ثم استوطن بغداد. وَحَدَّثَ بها عَنْ هدبة بْن خَالِد، ومحمد بن عبيد بن حساب، وعبد الأعلى بن حماد، وأبي كامل الجحدري، وعُبَيْد اللَّهِ بن معاذ، وعلي بن المديني، ومُحَمَّد بن بشار بندار، ومُحَمَّد بن المثنى، وعمرو بن عَلِيّ البصريين، وعن منجاب بن الحارث، وأبي بكر وعثمان ابني أَبِي شيبة وأبي كريب مُحَمَّد بن العلاء الكوفيين، وعن الهيثم بن أيوب الطالقاني، وأبي قدامة السرخسي، وقتيبة بن سعيد، ومحمد بن الْحَسَن البلخيين وعن إِبْرَاهِيم بن عَبْد اللَّهِ الخلال، ومزاحم بن سعيد، وإسحاق بن راهويه المروزيين، وعن مُحَمَّد بن حميد، وأحمد بن الفرات الرازيين، ويونس بن حبيب الأصبهاني، وعبد الرحيم بن حبيب الفريابي، وعُبَيْد اللَّهِ بن عُمَر القواريري، ومحمد بن عبد الملك بن زنجويه، ويعقوب وأحمد ابني إِبْرَاهِيم الدورقي، وعَبْد اللَّهِ بْن مُحَمَّد النفيلي وحكيم بن سيف الرقي، وسليمان ابن عَبْد الرَّحْمَنِ، وعَبْد الرَّحْمَنِ بن إِبْرَاهِيم وهشام بن عمار الدمشقيين، ويزيد بن موهب الرملي، وإبراهيم بن العلاء الحمصي وأحمد بن عِيسَى المصري، وإسحاق بن مُوسَى الأنصاري، وأبي مصعب المديني ومحمد بن أَبِي عُمَر العدني، ووهب بن بقيّة الواسطي، ومحمّد بن عزيز الأبلّيّ، وغير هؤلاء ممن فِي طبقتهم وبعدهم. روى عنه مُحَمَّد بن مخلد الدوري، وأَبُو الْحُسَيْنِ بن المنادي، وعبد الصمد بْن عَلِيّ الطستي، وأَحْمَد بْن سلمان النجاد، وأبو بكر الشافعي، وأبو علي بن الصواف، وأحمد بن جعفر بن مالك القطيعي، وخلق يطول ذكرهم، وكان ثقة أمينًا حجة. حدث عنه: أبو بكر النجاد، وأبو بكر الشافعي، وأبي علي بن الصواف، وأبو القاسم الطبراني، وأبو الطاهر الذهلي، وأبو بكر القطيعي، وأبو أحمد بن عدي الجرجاني، وأبو بكر الإسماعيلي، وأبو بكر الجعابي، وأبو القاسم علي بن أبي العقب، وأبو علي بن هارون، وأبو حفص عمر بن الزيات، وأبو بكر الآجري، وعبد الباقي بن قانع، وأبو الحسين محمد بن عبد الله والد تمام الرازي، والحسن بن عبد الرحمن الرامهرمزي، وأبو الفضل عبيد الله بن عبد الرحمن الزهري. قال أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّد العتيقي قَالَ: بلغني عَنْ شيخنا أَبِي حفص عمر بن محمّد ابن عَلِيّ الزيات أَنَّهُ قَالَ: لما ورد أَبُو بَكْرٍ جَعْفَر بن مُحَمَّد الفريابي إِلَى بغداد، واستقبل بالطيارات والدبادب وعد لَهُ الناس إِلَى شارع المنار بباب الكوفة ليسمعوا منه، فاجتمع الناس، فحزر من حضر مجلسه لسماع الحديث، فقيل نحو ثلاثين ألفًا! وكان المستملون ثلاثمائة وستة عشر. قَالَ لنا العتيقي: وسمعت شيخنا أبا الفضل الزهري يقول: لما سمعت من جعفر الفريابي كان في مجلسه من أصحاب المحابر ممن يكتب حدود عشرة آلاف إنسان، ما بقي منهم غيري! سوى من لا يكتب. عن الْحَسَن بن أَبِي بكر عن أحمد ابن كامل الْقَاضِي قَالَ: كان جَعْفَر الفريابي مكثرًا فِي الحديث، مأمونًا موثوقًا به. ومن مؤلفاته: • صفة النفاق وذم المنافقين. • أحكام العيدين. • فضائل القرآن. • القدر. • الصيام. • الفوائد. • القدر. • دلائل النبوة. وعن عُبَيْد اللَّهِ بن عمر بن أحمد الواعظ عَنْ أبيه قَالَ: سمعت أبا الْحَسَن محمّد ابن جَعْفَر بن مُحَمَّد الفريابي يقول: ولد أَبِي سنة سبع ومائتين، وتوفي ليلة الأربعاء فِي المحرم سنة إحدى وثلاثمائة. وهو ابن أربع وتسعين. وكان قد حفر لنفسه قبرًا فِي مقابر أَبِي أيوب قبل موته بخمس سنين، وكان يمر إليه فيقف عنده، ولم يقض أن يدفن فيه، دفناه فِي الزمشية. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ رزق حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيل بْن عَلِيّ الْخُطبي قَالَ: مات أَبُو بَكْرٍ الفريابي جَعْفَر بن مُحَمَّد فِي المحرم لخمس خلون منه سنة إحدى وثلاثمائة.
التمثيل والمحاضرة بالأبيات المفردة النادرة لقطب الدين النهروالي صدر حديثًا كتاب " التمثيل والمحاضرة بالأبيات المفردة النادرة "، للأديب المؤرخ " قطب الدين النهروالي " (ت 990 هـ)، تحقيق: د. " علي عبد القادر الطويل "، نشر: " دار اللباب للنشر والتوزيع ". والذي يُطبَع أول مرة محققًا عن نسختين خطيتين، وقد حوى الكتاب بين دفتيه 3491 بيتًا شعريًا من درر الشعر العربي وحكمه الفريدة، ألفه القطب النهروالي لسلطان المغرب الأقصى في زمنه: "الغالب بأمر الله". وجمع فيه من الأبيات المفردة ما يتمثل به في المحاضر، ورتبه على حروف المعجم معتبرًا أوائل الأبيات، وسماه أيضًا (تمثال الأمثال). وكان النهروالي من كبار رجال التاريخ والأدب في القرن العاشر الهجري، له مؤلفات باللغات الثلاث: العربية والفارسية والتركية. وهو واحد من أصحاب المكتبات الشهيرة في التاريخ، استمر قضاء مكة وفتواها في أسرته زهاء مائة عام. مولده سنة 917هـ ووفاته يوم 26 ربيع الثاني  990 هـ. له ترجمة موسعة في أماكن متفرقة من المجلد الأول من "مجلة العرب". اسمه "محمد بن أحمد بن محمد بن قاضي خان محمود النهروالي"، قطب الدين الحَنَفي: وهو من أهل مكة. تعلم بمصر، ونصب مفتيًا بمكة. له (الإعلام بأعلام بلد الله الحرام)، و(البرق اليماني في الفتح العثماني)، و(منتخب التاريخ) في التراجم، و(ابتهاج الإنسان والزمن في الإحسان الواصل إلى الحرمين من اليمن لمولانا الباشا حسن) في تاريخ مكة والمدينة وحسن باشا، و(التمثيل والمحاضرة بالأبيات المفردة النادرة)، و(التذكرة) بخطه، و(الفوائد السنية في الرحلة المدنية والروميّة) بخطه أيضًا، و(الكنز الأسمى في فنّ المعمى)، وله شعر رقيق في الغزل والحكم. ونجد أن هذا الكتاب بشواهده وأمثاله إضافة هامة للمكتبة التراثية، ويساهم في التعرف على ما راج من الأمثال الشعرية في زمن المؤلف وما سبقه، وإضافة أمثال شعرية جديدة، من خلال الأمثال التي لم تظهر بمراجع أخرى. وقد قام المحقق بتحقيق الكتاب على نسخه الخطية المتاحة، مثريًا الحواشي بترجمة الأعلام وشرح غريب الألفاظ.
من منطلقات العلاقات الشرق والغرب (الجدل) نوقشت رسالة نال بها صاحبها عبدالله بن عبدالعزيز الشعيبي درجة الدكتوراه في الثقافة الإسلامية، وكانت حول الجدل بين المسلمين والنصارى في العصر الحديث [1] ،والجدل نوع من أنواع الحوار المباشر [2] ، من منطلق قوله تعالى في سورة آل عمران: ﴿ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 64]. تبنى الداعية الشيخ أحمد ديدات - رحمه الله تعالى - هذه الآية في دعوته للحوار مع غير المسلمين عندما يحاضر بين المسلمين [3] ،وكان يقول: إننا نردد هذه الآية الكريمة في الصلاة، وعند قراءة القرآن الكريم،فهل طبقناها في حياتنا اليومية؟! [4] ، وكذلك من منطلق الآية الكريمة: ﴿ ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ﴾ [النحل: 125]. للحوار أشكالٌ وأساليب كثيرة، منها المناظرات التي تزعمها الشيخ الداعية أحمد ديدات، وبعده الداعية ذاكر حسين نايك صاحب قناة السلام الفضائية، ومنها الجدل المباشر الذي يدخل في مفهوم المناظرة، ومنها المؤلفات والردود والمؤتمرات والمراكز الدينية والعلمية التي تقوم في المجتمعات غير المسلمة. وجود المراكز الدينية والعلمية غير المسلمة في المجتمعات المسلمة يُعَد نوعًا من أنواع الحوار، الذي يفضل البعض تسميته بحوار الحضارات والثقافات، ابتعادًا خجولًا عن لفظة الدين؛ لما فيها من الحساسية لدى البعض من غير المتدينين من أبناء المسلمين وغير المسلمين من أبناء الديانات الأخرى. يظهر أن الحوار الحضاري والثقافي لا يمكن أن يخلو من المسحة الدينية؛ ذلك أن الحضارات والثقافات القائمة الآن إنما قامت على الدين، وتفوح رائحتها بالخلفية الدينية التي انطلقت منها، رغم تجاهل الدين ظاهرًا على الأقل،واستعراض الأسماء، سواء أسماء الأشخاص أم المدن أم المرافق الحضارية والثقافية أم المنتجات التجارية والطبية، يظهر أنه تكاد لا تخلو من خلفية دينية. عليه، فإن الحوار قائم بأشكاله المختلفة،والمزعج هنا ألا يدرك المسلمون كُنْهَ هذا الحوار، فيكون حوارًا من طرف واحد هو المنتج أو المرسل أو مصدر المعلومة، ويكتفي الطرف الثاني، وهم المسلمون هنا، بدور المستهلك أو المستخدم أو المستقبل لتلك المعلومات،ويبدو أن خروج مجتمع ما من المجتمعات، وليكن هنا مجتمعًا مسلمًا، عن أطواره في تقاليده وعاداته وسلوكياته، إنما هو أثر من آثار الحوار. يتضح هذا الموقف أكثر عندما يخرج المجتمع من طورٍ عاشه قرونًا من الزمان إلى طور جديد عليه، مطبق في مجتمع آخر يدين بثقافة أخرى ويتبنى حضارة مختلفة،وهذا ما نسميه أحيانًا بالتغريب الذي يعاني منه المجتمع المسلم، حينما يعمِد إلى تبني ثقافة الآخر في كل سلوكياته الخاصة والعامة أو في معظمها - كما مر بيانه في المحدد ذي العلاقة بالتغريب. من منطلق هذه النتيجة من نتائج الحوار، وهي التغريب، نجد أن الحوار قد يقتصر على أبناء الأمة الواحدة الذين يفترقون على فرقتين؛ فرقة تدعو إلى الأصالة ونبذ الضار من المستورد، وفرقة تدعو إلى تبني أفكار الآخر وثقافته وحضارته؛ بحجة أن هذه الأفكار والثقافة والحضارة هي التي أوصلته إلى ما وصل إليه، في الوقت الذي يدعي فيه هؤلاء أن هذا التخلف الذي وصل إليه المجتمع المسلم والمجتمع غير المسلم من العالم الثالث هو نتيجة لتبنيه الثقافة التي يتبناها الآن،ويظهر أن في هذا غلوًّا يقود إلى غلو في رفض كل ما هو أجنبي،وهذا ما حدا برابطة العالم الإسلامي بالدعوة إلى عقد لقاء بين العلماء والمفكرين المسلمين سنة 1430هـ/ 2009م لتحديد إستراتيجية للحوار مع الآخر. إزاء هذه الأفكار المنثورة حول الحوار صار لزامًا على المسلمين أن يخطوا خطوات إيجابية في هذا المضمار قبل أن يسبق السيف العذل. [1] انظر: عبدالله بن عبدالعزيز الشعيبي ، الجدل بين المسلمين والنصارى في العصر الحديث: دراسة نقدية - الرياض: المؤلف، 1412هـ/ 1992م - ص 567 . [2] انظر: خالد عبدالعظيم عبدالرحيم السيوطي ، الجدل الديني بين المسلمين وأهل الكتاب بالأندلس: ابن حزم - الخزرجي - القاهرة: دار قباء، 2001م - ص 296 . [3] توفي الداعية الإسلامي أحمد ديدات - رحمه الله تعالى - يوم الأحد 2/ 7/ 1426هـ الموافق 7/ 7/ 2005م . [4] انظر: عبدالله بن حمد الشبانة ، يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء - الرياض: دار الهدى، 1407هـ - ص 261 ، وانظر أيضًا: رؤوف شلبي ، يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء - ط 2 - القاهرة: دار الاعتصام، 1400هـ/ 1980م - ص 335.
التكامل المعرفي بين النحو العربي واللسانيات الغربية لعبد الله جاد الكريم صدر حديثًا كتاب "التكامل المعرفي بين النحو العربي واللسانيات الغربية"، تأليف: د. "عبد الله جاد الكريم"، نشر: "دار النابغة للنشر والتوزيع". ويتناول الكتاب أوجه العلاقة والتأثر بين التراث النحوي العربي واللسانيات الغربية، فالمطلع بدقة على أوجه التكامل المعرفي بين العلوم يلحظ وجود إرهاصات ومظاهر كثيرة للتكامل المعرفي فيما بينهما. ونجد سبق كثير من أعلامنا النحويين لإنجازات المدرسة اللسانية البنيوية الحديثة وروادها ممن يطلق عليهم البنيويين التحويليين الجدد في الغرب، و قد اعترف بعض المُنصفين بسبق اللغويين العرب - ومنهم ابن جني - ومن هؤلاء "ديفد بترسون"، في المجال النحوي التفكيكي، وتعدُّ أبحاثه من أوائل الأبحاث الحديثة المتأثرة بالفكر اللساني لتشومسكي حيث كتب مقالًا بعنوان (بعض الوسائل التفسيرية عند النحويين العرب) يُناقش فيه لجوء النحويين العرب إلى التأويل والتجريد، ويختمه بقوله: "يجب أن يكون واضحًا من النِّقاش الذي تقدَّم؛ أنَّ النحويين العرب لم يكونوا وصفيين لا يهتمون إلا بالظَّاهر في أية حال. بل هم بنيويون بالمعنى نفسه الذي يصنَّف به أكثر الدرس اللساني في القرن العشرين، ومن ضِمنه النحو التوليدي التحويلي بأنَّه بنيوي - لقد كان النحويون العرب مُهتمِّين بالتَّحليل البنيوي الذي يصل الأشكال بعضها ببعض، وذلك ما يؤدي إلى تفسيرها. ومن اللافت للنظر أن تكون بعض تحليلاتهم مُجرَّدة، ومصوغة بمصطلحات تُشبه ما يستعمله اللِّسانيون اليوم". بل إن هناك بعض الأبحاث الحديثة أكدت إلى أن عبد القاهر الجرجاني أشار إلى مفهومي البنية العميقة والبنية السطحية قبل "نعوم تشومسكي"، حيث عني كل من الجرجاني وتشومسكي عناية فائقة بالقواعد اللغوية التي تركز على الجوانب الإبداعية، إذ بحثا في النحو عن الطاقة البيانية التي تسهم في خلق المعاني الفنية والخصائص البلاغية، وقد أدركت هذه الأبحاث وجه المفارقة والتشابه بين نظرية النظم وبعض سمات القواعد التوليدية والتحويلية، فوجدت أن القوانين التحويلية التي تنقل بنية الجملة العميقة إلى بنيتها السطحية تشبه الخيارات النظمية التي تتفرع من أصل واحد. ويقول اللغوي "جوناثان أوينز" في كتابه "مقدمة للنظرية العربية النحوية في القرون الوسطى"، أن النظرية العربية النحوية في تلك الفترة تتشابه مع النظرية اللسانية المعاصرة، في عدد من الأمور الأساسية، وهو ما يجعل مناقشتها أسهل للقارئ الغربي. ويشير كذلك إلى أنه يمكن البرهنة على أن أحد الأسباب التي أدت إلى عدم تقدير النظرية العربية حين اكتشفها الغربيون في القرن التاسع عشر إبان تكون التقاليد الاستشراقية، أنه لم يكن في الحضارة الأوروبية في تلك الفترة ما يماثلها. ولم توضع هذه النظرية فـي منظور أفضل إلا مع التقاليد البنيوية التي أتى بها "دي سوسور"، و"بلومفيلد"، و"تشومسكي". ويعرض في المقدمة إلى المعالم البارزة في تاريخ النحو العربي بدءًا من سيبويه؛ ويشير إلى مصادر هذا النحو التي تتكون من كتب النحو الوصفية؛ مثل: كتاب سيبويه، وخصائص ابن جني. ويقول: إنه على العكس من النظرية اللسانية المعاصرة التي تكون فيها مبادئ الوصف والتفسير معلنةً واضحةً، لم تكن هذه المبادئ في النحو العربي تذكر علنًا في كل حال. لكن هذا لا يمنع الباحث المدقق من العثور عليها؛ لأنها وإن لم تكن معلنة فإنها منفذة فعلًا، وهي ليست أقل من حيث الدقة. وسعيًا إلى رصد تلك العلاقات الجذرية بين النحو العربي وعلوم اللسانيات الغربية الحديث جاءت هذه الدراسة في أربعة فصول على النحو التالي: الفصل الأول: النحو العربي واللسانيات البنيوية. الفصل الثاني: النحو العربي واللسانيات التوليدية التحويلية. الفصل الثالث: النحو العربي واللسانيات التداولية. الفصل الرابع: النحو العربي واللسانيات الإدراكية. وساق الكاتب طوال هذه الفصول الأربعة الشواهد والأدلة على التكامل المعرفي وأوجه التأثير والتأثر بين النحو العربي واللسانيات الغربية. والباحث د. "عبد الله جادالكريم" أستاذ جامعي بقسم اللغة العربية‏ لدى ‏جامعة جازان - السعودية، حاصل على درجة ‏الدكتوراه‏ في ‏كلية دار العلوم بجامعة القاهرة، له من المؤلفات: • "الفكر التداولي في الحديث النبوي". • "العربية لغة العقل والفطرة والعبقرية". • "الدلالات الإدراكية في الدراسات النحوية". • "الوافي في الصرف العربي". • "عبقرية العربية والذكاء الاصطناعي: آفاق وطموحات". • "النحو منطق العربية: دراسة في طرائق البرهنة والاستنباط في النحو العربي".
ترجمة العلامة محمد صديق حسن خان القِنَّوجي رحمه الله تعالى المطلب الأول: التعريف بشخصه : أولًا: اسمه: هو محمد صديقُ بنُ أولاد حسن بنِ أولاد لطف الله بن عبدالعزيز علي بنِ لطفِ الله بن عبدالعزيز بن لطف الله بن علي أصغر بن كبير بن تاج الدين بن جلال رابع بن راجو شهيد بن جلال ثالث بن ركن الدين أبو الفتح بن حامد كبير بن ناصر الدين بن محمود بن جلال الدين قطب عالم بن أحمد كبير بن جلال أعظم بن علي مؤيد بن جعفر بن محمد بن أحمد بن محمد بن عبدالله بن علي أشقر بن جعفر بن ذكي بن علي تقي بن محمد تقي بن إمام علي رضا بن الإمام موسى الكاظم بن الإمام جعفر الصادق بن الإمام محمد الباقر بن الإمام علي زين العابدين بن الإمام الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه [1] [2] . ونُسِب إلى بلدة: قِنَّوج الهندية فعُرِف بالقِنَّوجيِّ [3] ونسب إلى بلدة بُخارى فقيل: البُخاريُّ [4] . ثانيًا: نسبه: نسبه نسب شريف ينتهي إلى الإمام الشهيد الحسين السِّبط الأصغرِ بنِ عليِّ بن أبي طالب رضي الله عنهما [5] . ثالثًا: مولده: ولد الإمام القِنَّوجي في يوم الأحد التاسع عشر من جُمادى الأولى سنة ثمانٍ وأربعين ومائتين وألف هجرية ببلدة قِنَّوج بالهند [6] . رابعًا: لقبه وكنيته: بسبب توليه الإمارة لُقِّب بعدة ألقاب، منها: الأمير، والنواب، وخان، وبهادر، وهي ألقاب تدل على الشرف والمكانة والرفعة [7] ، وكان يُكنَّى بأبي الطيب [8] . خامسًا: وفاته: تُوفي الإمام القِنَّوجي رحمه الله في ليلة التاسع والعشرين من جُمادى الآخرة سنة سبع وثلاثمائة وألف، وكان قبل وفاته قد اشتدَّ به المرض وأعياه العلاج واعتراه الذهول والإغماء، وكانت أناملُه تتحرك كأنه مشغولٌ بالكتابة، ولما كان سلخ جمادى الآخرة في سنة سبع وثلاثمائة وألف أفاق قليلًا، فسأل عن كتابة "مقالات الإحسان" وهو تأليفه الأخير الذي ترجم فيه فتوح الغيب هل صدر من المطبعة؟ فقيل له: إنه على وشك الصدور، ولعله يصل في يوم وليلة، فحمد الله على ذلك، وقال: إنه آخر يوم من الشهر، وهو آخر كتاب من مؤلفاتنا، فلما كان نصف الليل فاضت على لسانه كلمة أحب لقاء الله قالها مرة أو مرتين، وطلب الماء واحتضر وفاضت نفسه، وكان ذلك في ليلة التاسع والعشرين من جُمادى الآخرة سنة سبع وثلاثمائة وألف، وله من العمر (59 سنة و3 أشهر و6 أيام)، وشُيِّعت جنازته في جمع حاشد، وصُلِّي عليه ثلاث مرات، وقد صدر الأمر من الحكومة الإنجليزية أن يُشيَّع ويُدفَن بتشريف لائق بالأمراء وأعيان الدولة كما كان لو بقيت له الألقاب الملوكية والمراسيم الأميرية؛ ولكنه كان قد أوصى بأن يُدفَن على طريقة السُّنَّة، فنُفِّذَت وصيتُه [9] . الم طل ب الثاني: حياته العلمية: أولًا: نشأته وطلبه للعلم: نشأ القِنَّوجي رحمه الله يتيمًا في حجر أُمِّه في بلدة قِنَّوج بعد أن مات والده [10] ، وهو في السادسة من عمره - وكان والده من أهل العلم والفضل، ومن المجاهدين في سبيل الله - ثم قرأ القرآن على أخيه الأكبر العلامة الأديب السيد أحمد حسن العرشي [11] [12] ، وتعلَّم منه اللغة الفارسية ومبادئ اللغة العربية ومبادئ العلوم الدينية ومختصرات الصرف والنحو والبلاغة والمنطق، وقرأ على غيره من أشياخ وطنه، وأتقن نبذة من المسائل استطاع بها أن يُميِّز الغث من السمين. ومن توفيق الله له أنه ورث من أبيه العلامة مكتبة زاخرة بالعلم، ثم ارتحل إلى دلهي عاصمة الهند سنة (1269ه) فقرأ على الشيخ صدر الدين خان [13] ، مفتي بلدة دلهي قراءة منتظمة، وقرأ الكتب الآلية درسًا درسًا، فقرأ مختصر المعاني، وشرح الوقاية، وهداية الفقه، والتوضيح والتلويح، وسلم العلوم وشروحه، والشمس البازغة، ومير زاهد وحواشيه، وشرح المواقف، وأربعة أجزاء من الجامع الصحيح للبخاري قراءة، والباقي سماعًا، وسورة البقرة من تفسير البيضاوي [14] ، والعقائد النسفية [15] ، وديوان المتنبي [16] ، ومقامات الحريري [17] ، وغير ذلك من الكتب في علوم المنطق والفلسفة والهيئة والعلوم الرياضية وهو في العشرين من عمره، وأجازه المفتي صدر الدين إجازة خاصة، وكتب له شهادة بالتحصيل مكث نحو سنتين [18] . وقرأ القرآن الكريم على الشيخ التقي الصالح محمد يعقوب المهاجر بمكة المشرفة وأعطاه سند القرآن الكريم وكتب الحديث وغير ذلك في دلهي، ثم رجع إلى وطنه قِنَّوج؛ ولكنه بعد ذلك بمدة يسيرة اضطر إلى السفر لابتغاء الرزق، فوصل بلدة بهوبال سنة (1276ه) ونزل ضيفًا على مدار المهام للرياسة الوزير جمال الدين خان الصديقي الدهلوي، وكان يعرف أسرته فأكرمه غاية الإكرام وزوجه بابنته التي هي أم أولاد المترجم، وهي الزوجة الأولى، وعينه في ديوان الإمارة، وأطلق عليه لقب (خان) ومعناها الوزير أو الأمير، فقام بوظيفته خير قيام. وفي أثناء إقامته في بلدة (بهوبال) في الهند أخذ الحديث عن المحدث الكبير القاضي حسين بن محسن السبيعي الأنصاري اليمني الحديدي، تلميذ تلميذ الإمام الشوكاني [19] ، واجتهد في إتقان معارف القرآن والسُّنَّة واجتهد في تدوين علومهما، وقرأ سائر الفنون من العقليات والنقليات والأدب والعربية والمنطق والفلسفة والهيئة والعلوم الرياضية على القاضي زين العابدين الأنصاري اليماني، وأجازاه إجازة عامة، كذلك أجازه الشيخ المعمر المولوي عبدالحق [20] تلميذ الشاه إسماعيل الدهلوي والمجاز من الإمام الشوكاني شفهيًّا في اليمن وأجازه مشايخ آخرون ذكرهم في ثبته الذي ألَّفه باللغة الفارسية وسمَّاه "سلسلة العسجد في مشايخ السند"، ثم سافر إلى بلدة بهوبال ثم إلى الحجاز وحج وأخذ عن العلماء واستغرقت رحلته ثمانية أشهر مَرَّ فيها باليمن والتقى فيها ثُلَّةً من علماء أهل السُّنَّة في اليمن ومكة والمدينة واشترى ونسخ بعض الكتب، منها بعض كتب شيخ الإسلام ابن تيمية [21] وابن القيم [22] رحمهما الله. ثم عاد إلى مدينة بهوبال طلبًا للمعيشة وتزوَّج مَلِكةَ بهوبال (إقليم الدكن) وهي (جهان بيكم) [23] . وأصبح حاكمًا للإمارة نيابة عنها ففاز بثروة وافرة، وأصبح أمير بلدة (بهوبال) ولقب بالنواب ومعناها الأمير، واستوطن واستقر هناك [24] . ثانيًا: شيوخه : من أبرز شيوخ القِنَّوجي رحمه الله الذين ذكرهم في مصنفاته: • الشيخ المفتي محمد صدر الدين خان [25] . • الشيخ القاضي حسين بن محسن السبعي الأنصاري تلميذ الشيخ الماهر : محمد بن ناصر الحازمي تلميذ القاضي الإمام المجتهد: محمد بن علي بن محمد اليمني الشوكاني. • الشيخ المعمر الصالح عبدالحق بن فضل الله الهندي [26] . • الشيخ التقي محمد يعقوب [27] . • كلهم أجازوه مشافهة وكتابة إجازة مأثورة عامة تامة في كتب الصحاح والمسانيد ودواوين الإسلام. وممن قرأ عليهم مبادئ العلوم الدينية واللغة العربية والفارسية أخوه الأكبر السيد أحمد حسن العرشي [28] . ثالثًا: تلاميذه : من تلاميذه الذين استجازوه: 1- المحدث الفاضل الشيخ: يحيى بن محمد بن أحمد بن حسن الحازمي قاضي عدن [29] . 2- الشيخ العلامة السيد: نعمان خير الدين ألوسي [30] زاده مفتي بغداد [31] . رابعًا: جهوده العلمية ومؤلفاته : من خلال ترجمة الإمام صديق حسن خان القِنَّوجي والاطلاع على مؤلفاته، وثناء العلماء عليه، وعلى جهوده ندرك مكانته الشامخة ومنزلته العالية ورسوخه في العلم وتبحُّره في الفنون، فقد برع في علوم شتى، ففي التفسير نبغ واشتهر وتفسيره (فتح البيان في مقاصد القرآن) يظهر معرفته بالتفسير وتبحُّره في أسباب التنزيل، وفي الفقه تفقَّه وتعمَّق فيه حتى صار إمامًا فيه له اجتهاداته وترجيحاته لا يُقيِّده مذهب، ينظر في الأدلة ويُرجِّح ما يراه موافقًا للدليل، وإذا نظرنا إلى علم الحديث وجدنا أن الشيخ قد برع فيه وأدلى بدلوه فيه، فله ستة عشر مؤلفًا في الحديث، وفي العقيدة كان لديه اطلاع بالفرق والمذاهب، ومن أعظم ما ألف في ذلك كتاب: الدين الخالص، وقطف الثمر، وكذلك في اللغة كان له حظ وافر من العلم والمعرفة كما يلاحظ في مصنفاته؛ ككتابه الإنشاء العربي، وربيع الأدب، وله باع في غير هذه العلوم [32] . كيف لا وقد نشأ على طلب العلم منذ نعومة أظفاره وعاش شغوفًا به، فقد كان رحمه الله ذا همة عالية في طلبه ثم نشره والتصنيف، لم تشغله الإمارة بل سخَّرها في خدمة العلم ونشره والتيسير على العلماء، وخدم السُّنَّة خدمة عظيمة وحارب البدع والشركيات والخرافات، وقد قال متحدثًا عن نفسه في كتابه أبجد العلوم: «... ثم طالع بفرط شوقه وصحيح ذوقه: كتبًا كثيرة ودواوين شتى في العلوم المتعددة والفنون المتنوعة، ومرَّ عليها مرورًا بالغًا على اختلاف أنحائها، وأتى عليها بصميم همته وعظيم نهمته بأكمل ما يكون حتى حصل منها على فوائد كثيرة وعوائد أثيرة أغنته عن الاستفادة عن أبناء الزمان وأقنعته عن مذاكرة فضلاء البلدان، وجمع بعونه تعالى وحسن توفيقه ولطف تيسيره من نفائس العلوم والكتب ومواد التفسير والحديث وأسبابها ما يعسُر عدُّه ويطول حدُّه، وأوعى من ضروب الفضائل العلمية والتحقيقات النفيسة ما قصرت عنه أيدي أبناء الزمان ويعجز دون بيانه ترجمان اليراع عن إبراز هذا الشأن، ولله الحمد على ما يكون وعلى ما كان» [33] . كان له في التأليف مَلكةٌ عجيبة، بحيث يكتب عدة كراريس في يوم واحد، ويصنف الكتب الفخمة في أيام قليلة، وقد شاعت كتبه وانتشرت في أقطار العالم الإسلامي، وكتب له كثير من العلماء رسائل فيها الثناء على كتبه والدعاء له، وعُد من رجال النهضة الإسلامية المجدِّدين [34] . بدأ في التأليف مبكرًا منذ أن كان عمره عشرين سنه، فقد كان شغوفًا بالتأليف، ألف العديد من الكتب النافعة التي ذاع صيتُها في الأمصار، وأشاد بها العلماء والأخيار، وسارت بها الركبان إلى أقاصي البلدان في زمنه كما قال متحدثًا عن كتبه: "انتشرت تلك الدفاتر بعد الطبع الجميل، والتشكيل الجليل، في بلاد الهند وبهوبال المحمية، ومصر القاهرة، وقسطنطينية، إلى الحرمين الشريفين - زاد الله شرفهما - وإلى البلاد الحجازية كلِّها من أبي عريش، وصنعاء اليمن، وزَبيد، وبيت الفقيه، وحُديدة، وعدن، ومراوعة، وبغداد، ومصر، والشام، والإسكندرية، وتونس، وبيروت، وإسلامبول، والقدس، والجزائر، وبلغار، وقازان، وجميع بلاد الترك، والفرس؛ كأصفهان، وطهران، وإيران، وغير ذلك، وأخذها الملوك والأمراء والرؤساء والوزراء، والعلماء الموجودون الآن في حدود تلك البلدان على أيدي العظمة والإجلال والقبول والإقبال" [35] . بلغت مؤلفاته (222) كتابًا منها (56) كتابًا باللغة العربية وما عداها كانت بالفارسية والهندية (الأوردو) [36] . وهذه نبذة من أشهر كتبه، ذكرها مَن ترجموا للإمام، وهي مرتبة على أحرف الهجاء [37] : 1- الاحتواء في مسألة الاستواء. 2- الإدراك في تخريج أحاديث رد الإشراك. 3- الإذاعة لما كان ويكون بين يدي الساعة. 4- أربعون حديثًا في فضائل الحج والعمرة. 5- إكليل الكرامة في تبيان مقاصد الإمامة مطبوع بالهند. 6- الانتقاد الرجيح في شرح الاعتقاد الصحيح، شرح فيه كتاب الإمام ولي الله الدهلوي شرحًا مفيدًا على طريقة السلف وانتقد على الدهلوي استعماله لاصطلاحات المتكلمين في بيان التنزيه مثل نفي الجوهر والعرض، طبع قديمًا بمصر على هامش كتاب جلاء العينين. 7- البلغة في أصول اللغة. 8- بلوغ السول في أقضية الرسول. 9- تميمة الصبي في ترجمة الأربعين من أحاديث النبي. 10- التاج المكلل من جواهر مآثر الطراز الآخر والأول، طبع على نفقة علي بن ثاني. 11- ثمار التنكيت في شرح أحاديث التثبيت. 12- الجنة في الأسوة الحسنة بالسنة. 13- الحرز المكنون في لفظ المعصوم المكنون. 14- حصول المأمول من علم الأصول - كتاب مفيد في أصول الفقه لخَّصَه من "إرشاد الفحول" للشوكاني مع زيادات مفيدة مطبوع في إستانبول ومصر. 15- الحطة في ذكر الصحاح الستة، ذكر فيه كل ما يتعلق بالكتب الستة ومؤلفيها من المعلومات والفوائد مطبوع بالهند. 16- حل المسألة المشكلة. 17- خبيئة الأكوان في افتراق الأمم على المذاهب والأديان. 18- الدين الخالص مجلدين، طبع قديمًا في الهند وأخيرًا بمصر على نفقة آل ثاني. 19- رحلة الصديق إلى البيت العتيق، ذكر فيه رحلته للحج سنة (1285هـ) وبين فيه المناسك على طريقة المحدثين "مطبوع بالهند". 20- الروضة الندية شرح الدراري المضيئة للشوكاني، مطبوع بمصر. 21- رياض الجنة في تراجم أهل السنة. 22- السحاب المركوم في بيان أنواع الفنون وأسماء العلوم. 23- السراج الوهاج شرح مختصر مسلم بن الحجاج [38] ، وهو شرح مختصر صحيح مسلم للمنذري. 24- الوشي المرقوم في بيان أحوال العلوم المنثور منها والمنظوم. 25- ضالة الناشد الكئيب في شرح النظم المسمى بتأنيس القريب. 26- ظفر اللاظي بما يجب في القضاء على القاضي، كتاب مفيد في بيان أصول القضاء مطبوع بالهند. 27- غنية القاري، في ترجمة ثلاثيات البخاري [39] . 28- فتح البيان في مقاصد القرآن، في ثمانية مجلدات طبع بمصر وبهامشه تفسير ابن كثير [40] ، وهو محل البحث في هذه الرسالة. 29- القائد إلى العقائد، مخطوطة من اثنتي عشرة صفحة، مكتبة الأوقاف الكويتية، رقم المخطوطة (341). خامسًا: مكانته العلمية وثناء العلماء عليه. أثنى عليه كثير من العلماء منهم: شيخه الشيخ المفتي العلامة محمد صدر الدين خان ؛ حيث قال عنه: الْمولى السَّيِّد صديق حسن القِنَّوجي، لَهُ ذهن سليم، وَقُوَّة الحافظة، وَفهم ثاقب، ومناسبة تَامَّة بِالْكتاب، ومطالعة صَحِيحه، واستعداد كَامِل، قد اكْتسب مني كتب الْمَعْقُول الرسمية منطقها وحكمتها، وَمن علم الدِّين كثيرًا من البُخَارِيِّ وقليلًا من تَفْسِير الْبَيْضَاوِيِّ، وَهُوَ مَعَ ذَلِك ممتاز بَين أماثله والأقران، فائق عَلَيْهِم فِي الْحيَاء والرشد والسعادة وَالصَّلَاح وَطيب النَّفس وصفاء الطينة والغربة والأهلية وكل الشَّأْن [41] . وقال عنه شيخه الشَّيْخ زين العابدين الْأنْصَارِيُّ الحديدي نزيل بهوبال ومفتيها: السَّيِّد الْجَلِيل، والعالم النَّبِيل، علم المآثر والمفاخر، سلالة السَّادة الأكابر [42] . وقال عنه شيخه الشَّيْخ حُسَيْن الْأنْصَارِيُّ: العلامة الأكمل والفهامة المبجل صاحب الفضائل المشهورة ومحط السيادة المأثورة روح جثمان الأَدب شريف النسب والحسب جامع الشرفين السَّامِي على الفرقدين السيد الأَجل والشريف المبجل المتفرِّع من دوحة الفضل والعلوم، المترعرع من شنشنة صاحب السِّر المكتوم صديق حسن ابْن السَّيد أَولاد حسن بن عليّ بن لطف الله الْحسني البخاري القنوجي [43] . وقال عنه الزركلي [44] : من رجال النهضة الإسلامية المجددين [45] . [1] أبو الطيب صديق حسن خان القِنَّوجي، التاج المكلل من جواهر مآثر الطراز الآخر والأول، (قطر، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، ط1، 1428ه-2007م)، (1/ 535)، ويُنظَر: أبا الطيب صديق حسن خان القِنَّوجي، أبجد العلوم، (دار ابن حزم، ط1، 1423ه-2002)، ص725. ويُنظَر: محمد مهدي الحمودي، القِنَّوجي وآراؤه التفسيرية على ضوء أقوال أئمة التفسير، ص4. [2] يُنظَر: محمد مهدي الحمودي، القِنَّوجي وآراؤه التفسيرية على ضوء أقوال أئمة التفسير، ص4. [3] نسبة إلى بلدة قَنُّوج بفتح أوَّله، وتشديد ثانيه، وآخره جيم، موضع في بلاد الهند، وقيل: بكسر القاف وفتح النون المشددة والواو ثم جيم، وهي البلدة التي نشأ وترعرع فيها؛ يُنظَر: شهاب الدين أبا عبدالله ياقوت بن عبدالله الحموي، معجم البلدان، بيروت، دار صادر، الطبعة السابعة، (1995م)، (4/ 409)، ويُنظَر: أحمد بن علي بن أحمد الفزاري القلقشندي ثم القاهري، صبح الأعشى في صناعة الإنشا، (دار الكتب العلمية، بيروت، د.ط، د.ت) (5/ 270). [4] نسبة إلى بلدة بُخارى بالضم، وهي من أعظم مدن ما وراء النهر، ويُنظَر: ياقوت الحموي، معجم البلدان، (1/ 353). [5] أبو الطيب صديق حسن خان القنوجي، التاج المكلل من جواهر مآثر الطراز الآخر والأول، (1/ 535). [6] القنوجي، أبجد العلوم، (725)، ويُنظَر: عبدالرزاق البيطار الدمشقي، حلية البشر في تاريخ القرن الثالث عشر، حلية البشر في تاريخ القرن الثالث عشر، (دار صادر، بيروت، ط2، 1413ه-1993م)، ص739. [7] محمد مهدي الحمودي، القنوجي وآراؤه التفسيرية على ضوء أقوال أئمة التفسير، ص4. [8] القنوجي، أبجد العلوم، دار ابن حزم، ط1، (1423- 2002)، ص725. [9] عبدالحي الحسني، الإعلام بمن في تاريخ الهند من الأعلام (8/ 1248). [10] الشيخ الفاضل أولاد حسن بن أولاد علي بن لطف الله الحسيني البخاري القنوجي، ولد سنة (1210ه) له مؤلفات باللغات الثلاث: العربية، والفارسية، والهندية، توفي سنة (1253)؛ يُنظَر: عبدالحي الحسني، الإعلام بمن في تاريخ الهند من الأعلام، (دار ابن حزم، بيروت، ط1، د.ت)، (7/ 931). [11] هو: أحمد بن حسن بن علي القنوجي، الأديب الفقيه الأصولي، يكبر أخاه الإمام صديق حسن بسنتين، لقي العلماء، وصحب المشايخ، وأخذ عنهم العلوم، وألَّف في رد التقليد رسائل ومسائل باللغة العربية، وكان له باعٌ في الشعر العربي والفارسي، ارتحل في آخر عمره إلى الحرمين الشريفين، فتُوفي في الطريق، سنة (1277ه)؛ صديق حسن خان، التاج المكلل، (1/ 286). [12] يُنظَر: صديق حسن خان، التاج المكلل، (535). [13] هو: صدر الدين بن لطف الله الكشميري ثم الدهلوي، الشيخ العالم الكبير العلامة المفتي، أحد العلماء المشهورين في الهند، ولد سنة (1204هـ) بدهلي، من مصنفاته الدر المنضود في حكم امرأة المفقود، توفي في دهلي سنة (1285هـ)؛ يُنظَر: عبدالحي الحسني، الإعلام بمن في تاريخ الهند من الأعلام (1/ 992). [14] هو: عبدالله بن عمر بن محمد بن علي أبو الخير قاضي القضاة ناصر الدين البيضاويّ ، كان إمامًا علامة، صالحًا متعبِّدًا زاهدًا شافعيًّا، عارفًا بالفقه والتفسير والعربية، والمنطق، من مؤلفاته: أنوار التنزيل وأسرار التأويل، وتحفة الأبرار شرح مصابيح السنة، ومنهاج الوصول إلى علم الأصول، وغير ذلك، توفي سنة خمس وثمانين وستمائة بتبريز، يُنظَر: طبقات المفسِّرين للداودي، دار الكتب، بيروت،–1/ 249، ويُنظَر: أحمد بن محمد الأدنه، طبقات المفسرين، مكتبة العلوم والحكم السعودية ط1،–1417 هـ -1997م، (254). [15] العقائد النسفية: نسبة إلى النسفي، العلامة، المحدِّث، أبو حفص عمر بن محمد بن أحمد بن لقمان النسفي، الحنفي، من أهل سمرقند، وهو مصنف (تاريخها) ونظم (الجامع الصغير "2") وكان صاحب فنون، ألَّف في الحديث، والتفسير، والشروط، وله نحو من مائة مصنف، ولد سنة 461هـ، وتوفي سنة 537هـ؛ يُنظَر: سير أعلام النبلاء للذهبي، 20/ 126. [16] هو: أبو الطيب أحمد بن حسين بن حسن، شاعر الزمان، أبو الطيب أحمد بن حسين بن حسن الجعفي الكوفي الأديب، الشهير بالمتنبي، ولد سنة ثلاث وثلاثمائة، وأقام بالبادية، يقتبس اللغة والأخبار، وكان من أذكياء عصره، تُوفي سنة أربع وخمسين وثلاثمائة؛ يُنظَر: السير للذهبي 16/ 201. [17] هو: أبو محمد القاسم بن علي بن محمد بن عثمان البصري، الحرامي، الحريري، العلامة، البارع، ذو البلاغتين، صاحب (المقامات)، ولد بقرية المشان، من عمل البصرة، وتُوفي في سادس رجب، سنة ست عشرة وخمسمائة بالبصرة؛ يُنظَر: السير للذهبي 19/ 460. [18] أبو الطيب صديق حسن خان القِنَّوجي، الحطة في ذكر الصحاح الستة (1/ 264)، ويُنظَر: عبدالحي بن فخر الدين بن عبد العلي الحسني، الإعلام بمن في تاريخ الهند من الأعلام، (8/ 1247). [19] هو: محمد بن علي بن محمد الشوكاني، فقيه مجتهد من كبار علماء اليمن، من أهل صنعاء، ولد بهجرة شوكان (من بلاد خولان، باليمن) ونشأ بصنعاء، وولي قضاءها سنة 1229، ومات حاكمًا بها، وكان يرى تحريم التقليد، له 114 مؤلفًا، منها (نيل الأوطار من أسرار منتقى الأخبار)، و(البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع) توفي سنة (1250هـ)، (خير الدين الزركلي الأعلام)، (6/ 298). [20] هو: عبدالحق بن فضل الله العثماني النيوتيني ثم البنارسي، الشيخ العالم المحدث المعمر، أحد العلماء المشهورين، ولد بقرية نيوتيني من أعمال موهان سنة 1206هـ، وقرأ العلم على أبيه وعلى غيره من العلماء وتوفي بمنى محرمًا في سنة 1276هـ ثاني ذي الحجة ودفن على باب مسجد الخيف ليلة الجمعة، وكان ارتحل إلى اليمن وسمع وأدرك من العلماء: السيد عبدالله بن الأمير والشيخ محمد بن علي الشوكاني وغيرهم؛ يُنظَر: نزهة الخواطر للقنوجي (7/ 1001). [21] هو: أحمد بن عبدالحليم بن عبدالسلام بن تيمية بن عبدالله بن أبي القاسم بن تيمية، الإمام العلامة الحافظ الحجة, فريد العصر, بحر العلوم, تقي الدين, أبو العباس الحراني ثم الدمشقي, كان إمامًا متبحرًا في علوم الديانة, صحيح الذهن, سريع الإدراك, سيَّال الفهم, كثير المحاسن, موصوفًا بفرط الشجاعة والكرم, فارغًا عن شهوات المأكل والملبس والجماع, لا لذة له في غير نشر العلم وتدوينه والعمل بمقتضاه, تُوفي وهو مسجون بسجن القلعة بدمشق ليلة الاثنين 20 من شهر ذي القعدة سنة (728ه)؛ انظُر: معجم المحدثين:1/ 25، سِيَر أعلام النبلاء: 4/ 321. [22] هو: محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد الزُّرَعي، ثم الدمشقي، الحنبلي، المعروف بابن قَيِّم الجَوْزِيَّة، شمس الدين، أبو عبدالله، فقيه، أصولي، مجتهد، مفسر، مُحَدِّث، لازم ابن تيمية، وسجن معه في دمشق، وتوفي في 13 رجب، ودفن في سفح قاسيون بدمشق، سنة: 751هـ؛ انظُر: معجم المؤلفين، (3/ 164). [23] أصلها من الأفغان، من نسل العمالقة، ولدت في قلعة إسلام نكر، موضع بقرب بهوبال سنة (1254)، ترجم لها الإمام صديق حسن القِنَّوجي وذكر أنها كانت امرأة فاضلة ذات خُلُقٍ حسن، كثيرة الصيام محبة للعلم والعلماء، لها مآثر حسنة كبناء المساجد والمدارس والآبار، قرأت عليه القرآن، وبعض الكتب، توفيت سنة (1319ه)، صديق حسن خان، التاج المكلل، (1/ 532). [24] زكي محمد مجاهد، الأعلام الشرقية في المائة الرابعة عشرة هجرية، (دار الغرب الإسلامي، بيروت، ط2، 1994م) ص385، وانظر: عبدالرحيم عبداللطيف آل الشيخ، مشاهير علماء نجد وغيرهم، (1/ 274). [25] لم أعثر على ترجمة له في كتب التراجم. [26] لم أجد من ترجم له. [27] لم أجد من ترجم له . [28] أبو الطيب صديق حسن خان القنوجي، أبجد العلوم، (725). [29] لم أجد من ترجم له. [30] هو: نعمان خير الدين أفندي الألوسي البغدادي، الشيخ العلامة الإمام المحدث، ولد سنة 1252هـ، لم يبلغ سن العشرين، إلا وصار من الأساتذة المعتبرين، أخذ العلم عن والده المبرور، وعن أجلة تلامذته ممن كان بالفضل مشهورًا، وقد أجازه العلماء الأعلام، والمشايخ العظام بجميع العلوم، ألف كتبًا عديدة؛ منها :كتاب الشقائق، والآيات البينات، وجلاء العينين، توفي سنة 1317هـ، يُنظَر: المعجم الجامع في تراجم العلماء وطلبة العلم المعاصرين، تأليف أعضاء ملتقى أهل الحديث، ص363. [31] أبو الطيب صديق حسن خان القنوجي، أبجد العلوم، (726). [32] أبو الطيب صديق حسن خان القنوجي، الحطة في ذكر الصحاح الستة، (1/ 264). [33] أبو الطيب صديق حسن خان القنوجي، أبجد العلوم، (1/ 726). [34] أبو الطيب صديق حسن خان القنوجي، الدرر البهية والروضة الندية والتعليقات الرضية، تعليق العلامة المحدِّث الشيخ محمَّد نَاصِر الدّين الألبَاني، تحقيق علي بن حسَن بن علي بن عَبد الحميد الحَلبيُّ الأثريّ، (دار ابن القيم، المملكة العربية السعودية، ط1، 1423ه-2003م)، (01/ 20). [35] صديق حسن خان، التاج المكلل، (1/ 537). [36] أبو الحسن علي الحسني الندوي، المسلمون في الهند، بيروت، دار ابن كثير، ط1 (1420ه1999م) (ص53- 54). [37] عبدالرحيم عبداللطيف آل الشيخ، مشاهير علماء نجد وغيرهم، (1/ 276). [38] هو: مسلم بن الحجاج بن مسلم القشيري النيسابوري، أبو الحسين: حافظ، من أئمة المحدثين، ولد بنيسابور سنة (204هـ)، ورحل إلى الحجاز ومصر والشام والعراق، وتُوفي بظاهر نيسابور سنة (261هـ)، أشهر كتبه: صحيح مسلم ط، جمع فيه اثني عشر ألف حديث، كتبها في خمس عشرة سنة، وهو أحد الصحيحين المعول عليهما عند أهل السنة في الحديث، وقد شرحه كثيرون؛ يُنظَر: معجم المؤلفين (12/ 232). [39] هو: محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة البخاري، ولد عام 194هـ، وتوفي عام 256هـ، حافظ، فقيه، مؤرخ، أبو عبدالله: حبر الإسلام، والحافظ لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، صاحب الجامع الصحيح (المعروف بصحيح البخاري)، معجم المؤلفين (9/ 52). [40] هو: عماد الدين، أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير بن ضوء بن كثير القيسي البصروي، الإمام المحدث الحافظ ذو الفضائل، ولد سنة سبعمائة, له التفسير الذي لم يؤلف على نمطه مثله, والتاريخ, وتخريج أدلة التنبيه, وغير ذلك, مات في شعبان سنة أربع وسبعين وسبعمائة؛ انظر: طبقات الحفاظ: (1/ 543). [41] أبو الطيب صديق حسن خان القنوجي ، الحطة في ذكر الصحاح الستة (1/ 264). [42] المصدر السابق (1/ 264). [43] أبو الطيب صديق حسن خان القنوجي، الحطة في ذكر الصحاح الستة، (1/ 265). [44] هو: خير الدين بن محمود بن محمد بن علي بن فارس الزركلي الدمشقي، ولد في بيروت في 25 حزيران 1893م، نشأ الزركلي في دمشق، وتعلم في مدارسها الأهلية، وأخذ عن معلميها الكثير من العلوم خاصة الأدبية منها، كان مولعًا في صغره بكتب الأدب، وقال الشعر في صباه، كان شاعرًا، ومؤرخًا، ويكفيه أنه صاحب الأعلام، من مؤلفاته: كتاب (الأعلام)، وكتاب (عامان في عمّان)؛ يُنظَر: المعجم الجامع في تراجم العلماء وطلبة العلم المعاصرين، تأليف أعضاء ملتقى أهل الحديث، ص71. [45] يُنظَر: خير الدين بن محمود بن محمد بن علي بن فارس، الزركلي الأعلام، (دار العلم للملايين، ط15، أيار/ مايو 2002م)، (6/ 167).
آدم عليه السلام (2) قد ذكرت في ختام المقال السابق أن الله تبارك وتعالى ذكر في سورة الأعراف قوله: ﴿ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ * فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ * أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ ﴾ [الأعراف: 189 - 191]، وقلت: إنه قد دُسَّ في بعض الأخبار المنسوبة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنَّ حوَّاء لم يكن يعيش لها ولد في أول الأمر؛ فوسوس لها الشيطان إذا أرادت أن يعيش لها ولد أن تسمِّيه عبدالحارث ليدخل الشِّرك على الناس؛ وهذا عجيب، إنَّها خُلِقتْ لعمارة الأرض فكيف لا يعيش لها ولد؟ قال ابن كثير رحمه الله في تاريخه: فالله تعالى إنَّما خلَق آدم وحواء ليكونا أصل البشَر وليبثَّ منهما رجالًا كثيرًا ونساء، فكيف كانت حواء لا يعيش لها ولد؟ اهـ. وقوله تعالى: ﴿ حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ ﴾؛ أي: نطفة لا ثقل لها في البطن، فصارت المرأة تذهب وتجيء لخفَّة حملها وسهولته، وقوله: ﴿ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ ﴾؛ أي: كبر بطنُها، وثقل عليها حملها واقترب وقتُ الولادة، وقوله: ﴿ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ ﴾؛ أي: سألا الله عز وجل وتضرَّعا إليه أن يرزقهما ولدًا صالحًا ليشكراه، ﴿ فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا ﴾؛ أي: ولدًا صالحًا ﴿ جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا ﴾؛ أي: لم يقوما بشكر نعمة الله، بل جعلا لله شركاء فيما أنعم به عليهما، وهذان الزوجان المشركان لم يقصد بهما آدم وحواء قطعًا، وإنما هو توبيخٌ لمن يشرك بالله من جنس بني آدم؛ ولذلك قال: ﴿ فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾، ولو كان المراد به آدم وحواء - عصمهما الله من ذلك - لقال: "فتعالى الله عما يُشركان"، والآية ظاهرة في أن المرادَ بالشرك هنا ما يعمُّ الشرك الأصغر والأكبر؛ ولذلك زاد في توبيخهم والتنديد بهم؛ حيث قال: ﴿ أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ * وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ ﴾ [الأعراف: 191، 192]، وأهل العلم متَّفقون على أن قوله: ﴿ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا ﴾، هما آدم وحواء، وانتهى الكلام هنا في ذكر الأصل - آدم وحواء - ثم استطرد إلى الجنس، وهذا أسلوب بلاغي كما ذكرت في الفصل السابق، فقوله: ﴿ جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا ﴾؛ أي: الوالد والوالدة من جنس بني آدم وحواء، وقد أشار في صلب الآية إلى أنه ليس آدم وحواء بقوله: ﴿ فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾. وأما قصةُ هِبَتِهِ مِن عُمره لِدَاودَ؛ فقد رواها أحمد والطبراني من طريق علي بن زيد، عن يوسف بن مهران، عن ابن عباس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((أولُ من جحدَ آدمُ - قالها ثلاثَ مرات - إن الله عز وجل لمَّا خلقه مسح ظهره فأخرج ذريَّته فعرضهم عليه، فرأى فيهم رجلًا يُزهر، فقال: أي رب، من هذا؟! فقال: هذا ابنك داود، قال: يا رب، كم عمره؟ قال: ستون عامًا، قال: أي رب، فزِد في عمره، قال: لا، إلا أن تزيده أنت من عمرك، فزاده أربعين سنة من عمره، فكتب الله تعالى عليه كتابًا وأشهد عليه الملائكة، فلمَّا أراد أن يقبض روحه قال: إنه بقي من أَجَلِي أربعون سنة، فقيل له: إنك قد جعلتها لابنك داود، قال: فجحد، فأخرج الله الكتاب وأقام عليه البينة، فأتمَّها لداود مائة سنة، وأتم لآدم عمره ألف سنة))؛ فهذا الخبر لا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بحال؛ لأنه يدور على علي بن زيد وفي حديثه نكارة، وقد أخرج نحوه الترمذي بسندٍ فيه هشام بن سعد، وقد وُصف بأنه له أوهام وقد رُمي بالتشيع، والظاهر أن هذا من أوهامه، كما رواه ابن أبي حاتم من طريق عبدالرحمن بن زيد بن أسلم، وهو ضعيف عند المحدِّثين، ولا يجوز أن يوصم أبو البشر نبي الله آدم عليه السلام بالجحود بمثل هذه الأخبار؛ إذ الجحود من الأمور المذمومة التي لا يرتضيها عوام المسلمين لأنفسهم، فكيف يوصف بها نبي من أنبياء الله؟! أما ما ذكر من شعره لما قتل قابيلُ أخاه هابيلَ فلا ينبغي لمن ينتسب للعلم أن ينسب مثله لآدم عليه السلام؛ لأنه لم ينقل عن خبر معصوم ولا يدَّعي أحد صحَّةَ سند فيه، وهذا الشعر المزعوم هو: تغيَّرتِ البلادُ ومَنْ عليها فوجهُ الأرضِ مغبرٌّ قبيح تغيَّر كلُّ ذي لونٍ وطعمٍ وقلَّ بشاشَةُ الوجهِ المليح أما ما ذكر مِن توسُّله بمحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فهو لا يصحُّ كذلك، وقد رواه الحاكم والبيهقي وابن عساكر من طريق عبدالرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه عن جده عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لما اقترف آدمُ الخطيئةَ قال: أي رب، أسألك بحقِّ محمدٍ إلَّا غفرت لي، فقال الله: كيف عرفت محمدًا ولم أخلقه بعد؟ فقال: يا رب، لأنك لما خلقتني بيدك ونفختَ فيَّ من روحك رفعتُ رأسي فرأيتُ على قوائم العرش مكتوبًا: لا إله إلا الله محمد رسول الله، فعلمتُ أنك لم تضف إلى اسمك إلا أحب الخلق إليك، فقال الله: صدقت يا آدم إنه لأحب الخلق إليَّ، وإذْ سألتني بحقه فقد غفرت لك، ولولا محمدٌ ما خلقتك))، قال البيهقي: تفرد به عبدالرحمن بن زيد بن أسلم من هذا الوجه وهو ضعيف. أمَّا رؤية رسول الله صلى الله عليه وسلم آدم ليلة الإسراء والمعراج؛ فقد رواها البخاري ومسلم من حديث أنس بن مالك عن مالك بن صعصعة في خبر الإسراء والمعراج، وفيه: ((فانطلق بي جبريلُ حتى أتى بي إلى السماء الدنيا، فاستفتح فقيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: أوقد أُرسل إليه؟ قال: نعم، فقيل: مرحبًا به، ولنعم المجيء جاء، ففتح لنا، فلما خلصت فإذا فيها آدم، قال: هذا أبوك آدم فسلم عليه، فسلمتُ عليه، فرد السلام ثمَّ قال: مرحبًا بالابن الصالح والنبي الصالح... إلخ))، وفي رواية للبخاري ومسلم من حديث أنس بن مالك عن أبي ذرٍّ رضي الله عنه: ((فعُرج بي إلى السماء الدنيا، فلما جئتُ إلى السماء قال جبريل لخازن السماء: افتح، قال: من هذا؟ قال: جبريل، قال: هل معك أحدٌ؟ قال: معي محمد صلى الله عليه وسلم، فقال: أُرسل إليه؟ قال: نعم، فلما فتح علونا السماء الدنيا، فإذا رجل قاعد، على يمينه أسودة، وعلى يساره أسودة، إذا نظر قِبل يمينه ضحك، وإذا نظر قِبل شماله بكى، فقال: مرحبًا بالنبي الصالح والابن الصالح، قال: قلت لجبريل: من هذا؟ قال: هذا آدم، وهذه الأسودة عن يمينه وعن شماله نسم بنيه، فأهل اليمين منهم أهل الجنة، والأسودة التي عن شماله أهل النار، فإذا نظر عن يمينه ضحك، وإذا نظر عن شماله بكى...))؛ إلخ الحديث. وقد أقرَّ آدم لرسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث الإسراء بالنبوَّة والبنوَّة لآدم عليه السلام، فصلوات الله وسلامه عليهما وعلى النبيين أجمعين. أما عمرُ آدم عند وفاته ومكان دفنه، فلم يَرِد في ذلك خبر صحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يُثبت أين مات آدم عليه السلام وأين دُفن، فالعلم في ذلك عند الله عز وجل. وإلى الفصل القادم إن شاء الله تعالى، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
مهاجرون لهم قصة: أبو سلمة وزوجه أم سلمة عن عائشة رضي الله عنها، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - وهو يومئذ بمكة - للمسلمين: (( قد أُريتُ دار هجرتكم، أريت سبخة ذات نخل بين لابتَيْنِ ))، فهاجر مَن هاجر قِبَل المدينة حين ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك، وفي الحديث الصحيح: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (( رأيت في المنام أني أهاجر من مكة إلى أرض بها نخل، فذهب وهلي إلى أنها اليمامة أو هجر، فإذا هي المدينة يثرب )). ذكر ابن إسحاق: أن أم سلمة رضي الله عنها ذكرت قصة أبي سلمة وهجرته إلى المدينة، فقالت: لما أجمع أبو سلمة الخروج إلى المدينة رحل لي بعيرًا ثم حملني عليه وجعل معي ابني سلمة، ثم خرج يقود بي بعيره، فلما رآه رجال من بني المغيرة قاموا إليه فقالوا: هذه نفسك غلبتنا عليها، أرأيت صاحبتنا هذه علامَ نتركك تسير بها في البلاد؟ فنزعوا خطام البعير من يده وأخذوني منه، عند ذلك غضب بنو عبدالأسد رهط أبي سلمة، وقالوا: والله عندها إذ نزعتموها من صاحبنا، فتجاذبوا ابني سلمة بينهم حتى خلعوا يده، وانطلق به بنو عبدالأسد، وحبسني بنو المغيرة عندهم، وانطلق أبو سلمة إلى المدينة، وهكذا تفرقت الأسرة الصغيرة، الزوجة عند قومها، والولد عند قوم أبيه، والزوج هاجر إلى المدينة، قالت: فكنت أخرج كل يوم فأجلس في الأبطح فما أزال أبكي حتى أمسي، سنة أو قريبًا منها، حتى مر بي رجل من بني عمي فرأى ما بي فرحِمني، فقال: ألا تخرجون من هذه المسكينة؟ فرقتم بينها وبين زوجها وبين ولدها، فقالوا لي: الحقي إن شئت، قالت: فرد بنو عبدالأسد عن ذلك ابني، فارتحلت على بعيري، فلما بلغت التنعيم لقيني عثمان بن أبي طلحة، فقال: إلى أين يا ابنة أبي أمية؟ قالت: أريد زوجي بالمدينة، قال: أوما معك أحد؟ قالت: ما معي أحد إلا الله وبني هذا، فقال: والله ما لك من مترك، فأخذ بخطام البعير فانطلق معي يهوي بي؛ فوالله ما صحبت من العرب قط رجلًا أنه كان أكرم منه، كان إذا بلغ المنزل أناخ بي، ثم استأخر عني، حتى إذا نزلت أخذ بعيري فحط عنه ثم قيده في الشجر، ثم تنحى إلى شجرة فاضطجع تحتها، فإذا دنا الرواح قام إلى بعيري فقدمه فرحله ثم استأخر عني وقال: اركبي، فإذا ركبت واستويت أتى فأخذ بخطامه فقادني حتى ينزل بي، فما زال يصنع ذلك بي حتى أقدمني المدينة، فلما نظر إلى قرية بني عمرو بن عوف بقباء، قال: زوجك في هذه القرية، وكان أبو سلمة نازلًا فيها.
وانكسفت (شمسٌ) في سماء التراث! بعد عِشاء أمسِ التقيتُ أخي الشيخَ عبد الله آل غيهب، الذي اضْطلَع بإخراج بعض ما لم يُخرَج من تراث شيخِ الإسلام رحمه الله، سَيرًا على سَنن شيخِنا المحقِّق الثَّبْت محمد عُزَير بن شمس الحقِّ السَّلفي الهندي، الخِرِّيت في تراث ابن تيميَّة وقراءة خطِّه! ولمَّا أطلَعتُ أخانا عبد الله على رسالتي للماجستير التي قدَّم لها شيخُنا محمد عُزير شمس وعلَّق على مواطنَ يسيرةٍ أثبتُّها باسمه، سُرَّ كثيرًا. وبعد دقائقَ من هذا اللقاء نُعِيَ إلينا شيخُنا محمد عُزير رحمه الله؛ فانكسَفَت شمسٌ كانت مشرقةً في سماء التحقيق، وانهدَّ جبلٌ كان شامخًا في العلم والتراث والتدقيق؛ فإنا لله وإنا إليه راجعون. ولي وقَفاتٌ عَجْلَى مع شخصية شيخِنا، فقد أسرَني بسَمْتِه وأدبه في أولِ زيارةٍ له في بيتِه بمكَّة المكرَّمة سنة ١٤٣٤ برفقة أخي الطَّاهر المَحَسِي، ولمَّا حدَّثتُه عن إحدى رسائل العلَّامة محمد حياة السِّندي التي صوَّرتُها بنفسي من دار الكتب المصرية بالقاهرة ولم يقِف عليها قبلُ، تبدَّى شَغفُه بها؛ فبادرتُ إلى تقديم النسخة الخطيَّة هدية منِّي إليه، فتهلَّل وجهُه وطابت نفسُه، ثم شرَّفني بأن أهدى إليَّ عِلقَين نفيسَين من تراث الإمام ابن القيِّم رحمه الله بتحقيقه، الأول: «الكلام على مسألة السَّماع» وقال عنه: أوسَعُ كتابٍ في الردِّ على الصُّوفية. والثاني: «إغاثة اللَّهفان في مصايد الشَّيطان»، ودوَّن لي بخطِّه الجميل الإهداء، وهمَّ بإلحاق السِّلسلة كاملةً، فاعتذَرتُ لأجل وزن الطائرة المحدود! ورغِبتُ إليه في اليوم التالي أن يكتبَ لي ترجمةً موجزةً لوالده العلَّامة شمس الحقِّ رحمه الله؛ ففَعَل جزاه الله خيرًا، وكانتا جلستَين علميَّتَين تشعُر وكأنهما مع أحدِ لِداتِك! ثمَّ لمَّا همَمتُ بالانصراف أصرَّ على إيصالي إلى الفندق بكرمٍ وأريحيَّة. وهنالك التقى شيخَنا فؤاد أبو سْعِيد، وكلاهما تخرَّج في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنوَّرة قبل قُرابة أربعة عقود، فلا تسَل عن جمال اللقاء وأُنسِ الحديث مع شيخَينا. ولمَّا سنَّى اللهُ الكريم لي العُمرةَ في العام التالي ١٤٣٥ دعاني أخي الكريم الشيخُ نضال داود الدمشقيُّ إلى مَأدُبة عَشاء، فلمَّا وصَلتُ فإذا بالشيخ نضال قد دعا شيخَنا عُزيرًا؛ فاجتمع غذاءُ العقول مع غذاء الأبدان، وكانت أُمسيَّةً من أجمل الأمسيَّات، عرَضتُ فيها على شيخنا عملًا تراثيًّا طالبًا النصيحةَ فما كان منه إلا البذل والتوجيه. ثم بعد سنوات فرَغتُ من مناقشة الماجستير، فأرسلتُ إلى شيخنا بوساطة الأخوَين لؤي السُّوداني ونضال داود الرسالةَ، وهي تحقيقي لكتابِ العلَّامة محمد حياة السِّندي «رَكْضَة، في ظهر الرَّفَضَة» فقرأها الشيخُ بتمامها وقدَّم لها وعلَّق عليها، وما زال حبلُ التواصُل ممدودًا والشيخ يستحثُّني على إخراج الكتاب؛ لعنايته بتراث الشيخ محمد حياة، الذي جمعَ تراثه فبلَغ قرابة أربعين رسالة، انتسَخَ منها بنفسِه ٣٠ عنوانًا، وكان يهمُّ بإخراجها في مجموعٍ واحد، وكنتُ عازمًا على زيارته في أقرب فرصةٍ للمشروع ذاته، لكنْ سبقَت إليه المنيَّةُ، فرحمه الله وطيَّب ثَراه. وبعدُ، فإنَّ من الشَّمائل التي طُبِعَ عليها شيخُنا وتراءت لي دون تأمُّل: أنَّه مِن أعجبِ مَن رأيتُ في التواضُع، مع رسوخِ قدمِه في العلم، ومن أشدِّ الناس هَضمًا للنفس مع علوِّ كعبِه ورفيع منزلته، ومن أكثر الشيوخ بُعدًا عن الأضواء وقد كانت على طرَف الثُّمَام منه. وأنَّ العلم هِجِّيرَه في جلَساته، ورفيقَه في سفَراته، وأنيسَه في مقامه. وكان ينفرُ ممَّا يَشغَلُ عنه من الخصومات والقيل والقال. وأنه مع رُسوخِه في العلوم ولا سيَّما علمِ الحديث، واقتدارِه في تحقيق النُّصوص ولا سيَّما ذاتِ الخطوط الوَعرة= علَّامةٌ في العربية، خِرِّيتٌ في علومِها، ولا غَرْوَ فقد تخصَّص في البكالوريوس والماجستير والدكتوراه (التي لم يُتمَّها) في الأدب، فضلًا عن أنَّ دراستَه في بلده الهند للعربية كانت قويةً متينة؛ إذ درَسَ أصولًا منها؛ كأدب الكاتب لابن قتيبة وغيره، وكذا العَروض وبحور الشِّعر، والعربيُّ مَن عرَّبه اللسان. وحدَّثني أخي الشيخُ نضال داود الدارسُ في كلِّية الآداب قسم اللغة العربية بجامعة دمشق، والمُدقِّقُ اللغوي على مدار سنوات: أنه كان يرجع إلى شيخنا عُزَير في عَويص المسائل، ولا يتقدَّم بين يدَيه في العربية. ومن جَليلِ خِصالِه: جَلَدُه في العمل؛ ليحفظَ نفسه عن السؤال، فقد كان يعمل صباحًا في مشروع "السلام عليك أيها النبي صلى الله عليه وسلم"، ومساءً في دار عالم الفوائد. ودَع عنكَ عِفَّةَ نفسِه وزهدَه فيما عند الناس، فممَّا خَبَرتُه أنه حين انتهى عملُه مع دار عالم الفوائد طَفِقَ يبحث عن سبيلٍ لنقل كفالته؛ ليبقى مجاورًا في مكَّة المكرَّمة، فارًّا بدِينه من لظى نار الهندوس، فوقعَت بين يدَيَّ ورقةٌ كتَبها الشيخُ في ذلك، فأرسلتُها إلى فاضلٍ ذي مكانة؛ بِرًّا بشيخي، فاستعدَّ هذا الفاضلُ -لمكانةِ الشيخ، ورغبته في تفريغه للتأليف والتحقيق- لكفايته مادِّيًّا، فلمَّا أخبَرتُ الشيخَ بذلك اعتذر بلُطفٍ وعفَّة نفس، وبشَّرَني بنقل الكفالة: وما كانَ قَيسٌ هُلْكُهُ هُلْكُ واحِدٍ ولكِنَّهُ بُنيانُ قومٍ تَهَدَّما فرحمة الله وبركاته على شيخنا عُزَير، والحمد لله على كلِّ حال. وكتب: محمود بن محمد حمدان الرياض ١٩ ربيع الأول ١٤٤٤ إهداء بخطِّ الشيخ رحمه الله لكاتب المقالة
التجديد الفقهي دراسة تأصيلية تطبيقية لسعيد بن حسن الزهراني صدر حديثًا كتاب: "التجديد الفقهي دراسة تأصيلية تطبيقية"، تأليف: د. "سعيد بن حسن آل يحيى الزهراني"، سلسلة الرسائل العلمية (39)، نشر: "دار الأوراق للنشر والتوزيع". وأصل هذه الدراسة أطروحة علمية لنيل درجة الدكتوراه في الفقه الإسلامي من كلية الشريعة والدراسات الإسلامية بجامعة أم القرى عام 1436 هـ / 2014 م، تحت إشراف د. "محمد بن عبد الله الصواط". وتتناول هذه الدراسة مصطلح التجديد الفقهي، وطرقه في الاهتداء للمنهج الوسط في دين الإسلام، حيث أراد الكاتب بيان طريق التجديد الفقهي واختصاصه ليكون الممارس له مرتبطًا بالأصل متصلًا بالعصر. ويرى الكاتب أن التجديد الفقهي لا ينحصر داخل الفقه فحسب، بل يشمل أصوله وأدواته وحامله ومتلقيه. كما أن التجديد الفقهي يختلف باختلاف الزمن الذي يحصل فيه بما يناسبه، وهو مبحث موضوع معاصر يتضح من خلاله استيعاب الفقه للمستجدات. كما أن الداعي له كثرة وتنوع دعاوى التجدد الفقهي من المتخصصين وغيرهم، التي تحتاج إلى بيان الحكم الفقهي، حيث يرى الكاتب أن التجديد مطلب في كل زمن بما يوائمه وفق الظروف والأحوال. لكن الحاجة ماسة إلى بيان التجديد الفقهي المراد وفق الشريعة الإسلامية، دون التأثر بالدعوات المنحرفة. إلى جانب التقليل من حدة الحلاف بين الغالي والجافي حيال دعوات التجديد الفقهي، دون التنازل عن المسلمات الشرعية. وحاول الكاتب التأصيل لأبعاد مسألة التجديد الفقهي، مع التدليل بأمثلة تطبيقية، مستخدمًا الأسلوب الاستقرائي الوصفي التحليلي بحسب الحاجة. وبمكن بيان منهج الدراسة في النقاط التالية: • الاستقراء لمصادر المسألة ومراجعها المتقدمة والمتأخرة. • تصوير المسألة المراد بحثها قبل بيان حكمها ليتضح المقصود من دراستها. • ذكر التطبيقات المناسبة إن وجدت. • إذا كانت المسألة الفقهية من مواضع الاتفاق فيذكر حكمها بدليله مع توثيق الاتفاق من مظانه المعتبرة. • إذا كانت المسألة الفقهية من مسائل الخلاف تبحث حسب المنهج العلمي المتعارف عليه. وجاءت الدراسة في تمهيد، وستة أبواب تندرج تحتها عدة فصول ومباحث ومطالب وفروع، وخاتمة في نتائج الدراسة؛ وذلك على النحو التالي: تمهيد: في نشأة الفقه الإسلامي وخصائصه وأطواره. المبحث الأول: نشأة الفقه الإسلامي. المطلب الأول: نشأة علم الفقه. المطلب الثاني: نشأة علم أصول الفقه. المبحث الثاني: خصائص الفقه الإسلامي. المبحث الثالث: أطوار الفقه الإسلامي. المطلب الأول: مدارس الفقه الإسلامي. المطلب الثاني: مذاهب الفقه الإسلامي. المطلب الثالث: أدوار الفقه الإسلامي. الباب الأول: حقيقة التجديد الفقهي، وفيه ثلاثة فصول: الفصل الأول: تعريف التجديد الفقهي. المبحث الأول: التعريف بمفردات العنوان (التجديد، الفقهي). المطلب الأول: التعريف اللغوي. الفرع الأول: التعريف اللغوي للتجديد. الفرع الثاني: التعريف اللغوي للفقهي. المطلب الثاني: التعريف الاصطلاحي. الفرع الأول: التعريف الاصطلاحي للتجديد. الفرع الثاني: التعريف الاصطلاحي للفقهي. المبحث الثاني: التعريف اللقبي (الإضافي) لمصطلح التجديد الفقهي. المطلب الأول: تعريفات التجديد الفقهي، وما يؤخذ عليها. الفرع الأول: من تعريفات المنهح المجوز للتجديد الفقهي. الفرع الثاني: من تعريفات المنهح غير المجوز للتجديد الفقهي. المطلب الثاني: التعريف المختار وشرحه. الفصل الثاني: أهمية التجديد الفقهي. المبحث الأول: أهمية التجديد الفقهي باعتبار مكانته ومصدره. المطلب الأول: أهمية التجديد الفقهي باعتبار مكانته. الفرع الأول: أهمية التجديد الفقهي باعتبار مكانته الشرعية. الفرع الثاني: أهمية التجديد الفقهي باعتبار مكانته الواقعية. المطلب الثاني: أهمية التجديد الفقهي باعتبار مصدره. الفرع الأول: أهمية التجديد الفقهي باعتبار مصدره النقلي. الفرع الثاني: أهمية التجديد الفقهي باعتبار مصدره العقلي. المبحث الثاني: أهمية التجديد الفقهي باعتبار دواعيه وأسبابه. المطلب الأول: أهمية التجديد الفقهي باعتبار دواعيه. الفرع الأول: أهمية التجديد الفقهي باعتبار المتغيرات الداخلية. الفرع الثاني: أهمية التجديد الفقهي باعتبار المتغيرات الخارجية. المطلب الثاني: أهمية التجديد الفقهي باعتبار أسبابه. الفرع الأول: أهمية التجديد الفقهي باعتبار أسبابه الثابتة. الفرع الثاني: أهمية التجديد الفقهي باعتبار أسبابه المتغيرة. الفصل الثالث: حكم التجديد الفقهي. المبحث الأول: تحرير محل النزاع وسرد الآراء. المطلب الأول: تحرير محل النزاع. المطلب الثاني: سرد الآراء. المبحث الثاني: الأدلة ومناقشتها مع الترجيح. المطلب الأول: الأدلة من العقل ومناقشتها. المطلب الثاني: الأدلة من النقل ومناقشتها. المبحث الثالث: الترجيح وأسبابه. الباب الثاني: مقومات التجديد الفقهي واتجاهاته، وفيه ثلاثة فصول: الفصل الأول: أركان التجديد الفقهي. المبحث الأول: المجدِّد الفقهي. المطلب الأول: المراد بالمجدد الفقهي. الفرع الأول: تعريف المجدد الفقهي. الفرع الثاني: صفات المجدد الفقهي. المطلب الثاني: أقسام المجدد الفقهي. المبحث الثاني: موضوع التجديد الفقهي. المطلب الأول: المراد بموضوع التجديد الفقهي. المطلب الثاني: تنوع موضوع التجديد الفقهي. المبحث الثالث: أدوات التجديد الفقهي وآلياته. المطلب الأول: أدوات التجديد الفقهي. الفرع الأول: المراد بأدوات التجديد الفقهي. الفرع الثاني: تفصيل أدوات التجديد الفقهي. المطلب الثاني: آلية التجديد الفقهي. الفرع الأول: المراد بآلية التجديد الفقهي. الفرع الثاني: مراحل آلية التجديد الفقهي. الفصل الثاني: شروط التجديد الفقهي. المبحث الأول: أن يقوم به المتخصص. المطلب الأول: المراد بالمتخصص. الفرع الأول: تعريف المتخصص لغة واصطلاحًا. الفرع الثاني: المراد بالمتخصص الذي يقوم بالتجديد الفقهي. المطلب الثاني: ضوابط المتخصص. الفرع الأول: ضوابط المتخصص الذاتية. الفرع الثاني: ضوابط المتخصص المكتسبة. المبحث الثاني: ألا يكون التجديد الفقهي في القطعيات. المطلب الأول: المراد بالقطعيات وما يقابلها. المطلب الثاني: أقسام القطعيات. المطلب الثالث: التجديد في وسائل القطعيات. المبحث الثالث: أن يكون وفق قواعد الاستنباط المعروفة. المطلب الأول: المراد بقواعد الاستنباط المعروفة. المطلب الثاني: طرق التجديد الفقهي. المبحث الرابع: أن يكون المنهح مضطردًا غير متناقض. المطلب الأول: المراد بالمنهج المضطرد غير المتناقض. الفرع الأول: المراد باضطراد المنهج. الفرع الثاني: أمثلة على تناقض المنهج. المطلب الثاني: ضوابط المنهج المضطرد غير المتناقض. الفرع الأول: تجديد مصدر منهج التجديد الفقهي. الفرع الثاني: إعمال القواعد الشرعية في التجديد الفقهي. الفرع الثالث: الدقة في سياق النصوص والاستشهاد بها حال التجديد الفقهي. الفرع الرابع: الجودة في عرض التجديد الفقهي. المبحث الخامس: أن ينتفي المانع. المطلب الأول: المراد بانتفاء مانع التجديد الفقهي. الفرع الأول: المراد بمانع التجديد الفقهي. الفرع الثاني: المراد بانتفاء المانع. المطلب الثاني: موانع التجديد الفقهي. الفرع الأول: أنواع الموانع. الفرع الثاني: أمثلة الموانع. الفصل الثالث: اتجاهات التجديد الفقهي. المبحث الأول: اتجاهات قديمة. المطلب الأول: اتجاهات مقبولة. الفرع الأول: اتجاه أهل الحديث. الفرع الثاني: اتجاه أهل الرأي. الفرع الثالث: اتجاه أهل الظاهر. المطلب الثاني: اتجاهات مرفوضة. الفرع الأول: اتجاه الاعتزال. الفرع الثاني: اتجاه الإرجاء. الفرع الثالث: اتجاه الخوارج. الفرع الثاني: اتجاه أهل المنطق. المبحث الثاني: اتجاهات حديثة. المطلب الأول: اتجاهات مقبولة. الفرع الأول: التيار الإحيائي السلفي. الفرع الثاني: الاتجاه الإصلاحي التجديدي. المطلب الثاني: اتجاهات مرفوضة. الفرع الأول: الاتجاه الحداثي. الفرع الثاني: الاتجاه الليبرالي. الفرع الثالث: الاتجاه الاشتراكي. الفرع الرابع: الاتجاه الاستشراقي. الباب الثالث: علاقة التجديد الفقهي بالأصول الشرعية، وفيه أربعة فصول: الفصل الأول: علاقة التجديد الفقهي بالنقل. المبحث الأول: من خلال القرآن الكريم. المطلب الأول: المراد بالقرآن الكريم. المطلب الثاني: علاقة التجديد الفقهي بالقرآن. المبحث الثاني: من خلال السنة. المطلب الأول: المراد بالسنة. المطلب الثاني: علاقة التجديد الفقهي بالسنة. المبحث الثالث: من خلال الإجماع. المطلب الأول: المراد بالإجماع. المطلب الثاني: علاقة التجديد الفقهي بالإجماع. الفصل الثاني: علاقة التجديد الفقهي بالعقل. المبحث الأول: علاقة التجديد الفقهي بالعقل من خلال الاجتهاد. المطلب الأول: المراد بالاجتهاد. المطلب الثاني: علاقة التجديد الفقهي بالاجتهاد. المبحث الثاني: علاقة التجديد الفقهي بالعقل من خلال القياس. المطلب الأول: المراد بالقياس. المطلب الثاني: علاقة التجديد الفقهي بالقياس. المبحث الثالث: علاقة التجديد الفقهي بالعقل من خلال العرف. المطلب الأول: المراد بالعرف. المطلب الثاني: علاقة التجديد الفقهي بالعرف. المبحث الرابع: علاقة التجديد الفقهي بالعقل من خلال الاستصحاب. المطلب الأول: المراد بالاستصحاب. المطلب الثاني: علاقة التجديد الفقهي بالاستصحاب. المبحث الخامس: علاقة التجديد الفقهي بالعقل من خلال الاستصلاح. المطلب الأول: المراد بالاستصلاح. المطلب الثاني: علاقة التجديد الفقهي بالاستصلاح. المبحث السادس: علاقة التجديد الفقهي بالعقل من خلال الاستحسان. المطلب الأول: المراد بالاستحسان. المطلب الثاني: علاقة التجديد الفقهي بالاستحسان. المبحث السابع: علاقة التجديد الفقهي بالعقل من خلال الذرائع. المطلب الأول: سد الذرائع. المطلب الثاني: فتح الذرائع. الفصل الثالث: علاقة التجديد الفقهي بالقواعد الفقهية. المبحث الأول: تعريف القاعدة الفقهية ومقوماتها. المطلب الأول: تعريف القاعدة الفقهية. المطلب الثاني: مقومات القاعدة الفقهية. المبحث الثاني: حجية القاعدة الفقهية. المبحث الثالث: علاقة التجديد الفقهي بالقاعدة الفقهية. الفصل الرابع: علاقة التجديد الفقهي بمقاصد الشريعة. المبحث الأول: تعريف مقاصد الشريعة وأنواعها. المطلب الأول: تعريف مقاصد الشريعة. المطلب الثاني: أنواع مقاصد الشريعة. المبحث الثاني: حجية مقاصد الشريعة. المبحث الثالث: علاقة التجديد الفقهي بمقاصد الشريعة. الباب الرابع: مظاهر التجديد الفقهي، وفيه فصلان: الفصل الأول: مظاهر التجديد الفقهي القديمة. المبحث الأول: مظاهره في عصر الصحابة والتابعين. المطلب الأول: عصر الصحابة رضي الله عنهم. المطلب الثاني: عصر التابعين رحمهم الله. المبحث الثاني: مظاهره في عصر المذاهب الفقهية. الفصل الثاني: مظاهر التجديد الفقهي المعاصرة. المبحث الأول: النظريات الفقهية. المطلب الأول: المراد بالنظريات الفقهية. المطلب الثاني: حكم النظريات الفقهية. المطلب الثالث: التجديد الفقهي في النظريات الفقهية. المبحث الثاني: مقارنة الفقه بالقانون. المطلب الأول: المراد بمقارنة الفقه بالقانون. المطلب الثاني: حكم مقارنة الفقه بالقانون. المبحث الثالث: تقنين الفقه. المطلب الأول: المراد بالتقنين الفقهي. المطلب الثاني: حكم التقنين الفقهي. المطلب الثالث: التجديد الفقهي في التقنين الفقهي. المبحث الرابع: المجامع والجمعيات الفقهية وهيئات الفتوى. المطلب الأول: المجامع الفقهية. المطلب الثاني: الجمعيات الفقهية. المطلب الثالث: هيئات الفتوى. المبحث الخامس: المراكز البحثية المتخصصة والمؤتمرات الفقهية. المطلب الأول: المراكز البحثية المتخصصة. المطلب الثاني: انعقاد المؤتمرات الفقهية. المبحث السادس: البحوث العلمية المتخصصة. المطلب الأول: الرسائل الجامعية. المطلب الثاني: البحوث المحكمة. المبحث السابع: الموسوعات الفقهية. المبحث الثامن: تحقيق المخطوطات الفقهية. الباب الخامس: آثار التجديد الفقهي ومعوقاته، وفيه فصلان: الفصل الأول: آثار التجديد الفقهي. المبحث الأول: فتح باب الاجتهاد. المطلب الأول: المراد بفتح باب الاجتهاد وأمثلته. الفرع الأول: المراد بفتح باب الاجتهاد. الفرع الثاني: أمثلة فتح باب الاجتهاد. المطلب الثاني: حكم إغلاق باب الاجتهاد. الفرع الأول: تحرير محل النزاع وسرد الآراء. الفرع الثاني: الأدلة ومناقشتها مع الترجيح. المبحث الثاني: حل المستجدات المعاصرة. المطلب الأول: المراد بحل المستجدات المعاصرة وأمثلته. الفرع الأول: المراد بحل المستجدات المعاصرة. الفرع الثاني: أمثلة حل المستجدات المعاصرة. المطلب الثاني: حكم حل المستجدات المعاصرة. الفرع الأول: تحرير محل النزاع وسرد الآراء. الفرع الثاني: الأدلة ومناقشتها مع الترجيح. المبحث الثالث: تفعيل دور العلماء والمتخصصين. المطلب الأول: المراد بتفعيل دور العلماء والمتخصصين وأمثلته. الفرع الأول: المراد بتفعيل دور العلماء والمتخصصين. الفرع الثاني: أمثلة تفعيل دور العلماء والمتخصصين. المطلب الثاني: حكم تفعيل دور العلماء والمتخصصين. الفرع الأول: تحرير محل النزاع وسرد الآراء. الفرع الثاني: الأدلة ومناقشتها مع الترجيح. الفصل الثاني: معوقات التجديد الفقهي. المبحث الأول: المعوقات الداخلية. المطلب الأول: المراد بالمعوقات الداخلية. الفرع الأول: تعريف المعوقات الداخلية لغة. الفرع الثاني: تعريف المعوقات الداخلية اصطلاحًا. المطلب الثاني: أمثلة المعوقات الداخلية. الفرع الأول: أمثلة حقيقية للمعوقات الداخلية. الفرع الثاني: أمثلة وهمية للمعوقات الداخلية. المبحث الثاني: المعوقات الخارجية. المطلب الأول: المراد بالمعوقات الخارجية. الفرع الأول: تعريف المعوقات الخارجية لغة. الفرع الثاني: تعريف المعوقات الخارجية اصطلاحًا. المطلب الثاني: أمثلة المعوقات الخارجية. الفرع الأول: أمثلة حقيقية للمعوقات الخارجية. الفرع الثاني: أمثلة وهمية للمعوقات الخارجية. الباب السادس: دراسة تطبيقية على بعض المسائل المعاصرة، وفيه أربعة فصول: الفصل الأول: مثال التجديد الفقهي في فقه العبادات. المبحث الأول: طهورية الماء. المبحث الثاني: تجديد القبلة. المبحث الثالث: إثبات رؤية الهلال. المبحث الرابع: الطواف والسعي راكبًا الفصل الثاني: مثال التجديد الفقهي في فقه المعاملات. المبحث الأول: العقد الحكمي. المبحث الثاني: ضبط المكيل بغيره. المبحث الثالث: التورق. الفصل الثالث: مثال التجديد الفقهي في فقه الأسرة. المبحث الأول: انتظار المفقود. المبحث الثاني: الموت الدماغي. المبحث الثالث: التلقيح الصناعي. المبحث الرابع: البصمة الوراثية. الفصل الرابع: مثال التجديد الفقهي في فقه الجنايات. المبحث الأول: الجناية على الجنين. المبحث الثاني: تنفيذ عقوبة القتل بغير السيف. ومن أهم النتائج التي توصل إليها الباحث: أن التجديد الفقهي هو: إعادة العلم والعمل بمجموعة الأحكام الشرعية العملية المستفادة من أدلتها التفصيلية في الواقع إلى ما كان على عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - وصحابته رضي الله عنهم أو قريبًا منه. وأن التجديد الفقهي يقوم على أركان هي: المجدِّد الفقهي، وموضوع التجديد الفقهي، وأدوات التجديد الفقهي وآلياته. كما أ ن من أهم شروط التجديد الفقهي التي ينبغي مراعاتها: أن يقوم به المتخصص، وألا يكون التجديد الفقهي في القطعيات، وأن يكون وفق قواعد الاستنباط المعروفة، وأن يكون المنهج مضطردًا؛ غير متناقض، وأن ينتفي المانع. وأن للتجديد الفقهي اتجاهات قديمة وحديثة مقبولة ومرفوضة، كما أن علاقة التجديد الفقهي بالأصول الشرعية علاقة أصلية من خلال النقل والعقل والقواعد الفقهية ومقاصد الشريعة. كما أن للتجديد الفقهي مظاهر قديمة وجدت في عصر الصحابة والتابعين وفي عصر المذاهب الفقهية؛ تدل على مشروعية التجديد الفقهي. وأن للتجديد الفقهي مظاهر معاصرة منها: النظريات الفقهية، ومقارنة الفقه بالقانون، وتقنين الفقه، والمجامع والجمعيات الفقهية وهيئات غيراالفتوى، والمراكز البحثية المتخصصة والمؤتمرات الفقهية، والبحوث العلمية المتخصصة، والموسوعات الفقهية، وتحقيق المخطوطات الفقهية. كما أن للتجديد الفقهي آثارًا حسنة منها: فتح باب الاجتهاد، وحل المستجدات المعاصرة، وتفعيل دور العلماء والمتخصصين. كما أن للتجديد الفقهي معوقات داخلية، وخارجية، حقيقية وغير حقيقية. وبين الكاتب أن القصد من الدراسة التطبيقية على بعض المسائل المعاصرة هو إبراز مظاهر التجديد الفقهي المعاصر في فقه العبادات والمعاملات والأسرة والجنايات.
العقل العربي وصناعة التفاهة ماذا عرى العقل العربي في زمن الرقمنة؟ هل أصابه الخبل، أم يا تُراه جُن جنونًا لا سبيل إلى رده، أم هو حب المحاكاة لِما يجري هناك وراء البحار؟ لا إخال أن الرائي إذا أبصر، والسامع إذا سمع، ينكر درجات الإسفاف والانحطاط التي بلغها العقل العربي في زمن مُجِّدت فيه التفاهة، وأُسقط فيه الجدُّ، وحُط فيه من قدر الفكر والعلم، فترى الكثير الكثير من أبنائنا متهافتين وراء من لا قدرَ لهم إلا حظ من غناء تافه، ولا منزلة لهم غير حظ صنعوه لهم في عوالم الفيديو التافهة، تجد العيون متطلعة والأعناق مشرئبة نحو ما يصنعون؛ بحثًا عن متعة زائفة ضلَّت طريقها نحوهم، شباب غفل يلهث متحلب الأرياق وراء تفاهات التافهين، مكَّن لهم الإعلام في الأرض، فَهَفَتْ نحوهم مكبرات الصوت تستجدي كلمات منهم لتدوِّنها الأقلام في صفحات ومواقع غدت مطلوبة للقراءة، وسط هذا الزخم من التفاهة المصنوعة والمتهافت نحوها، ضاع العقل العربي في متاهة لا سبيل إلى الخروج منها؛ فغرِق في بحرها اللجي الذي تركب فيه الظلمة بعضها بعضًا، فامَّحت أوراق الكتاب، وانتحرت القراءة الجادة، وأُقبر الفكر في أجداثٍ كانت قد جهزتها أيادٍ خفيَّة من قبل، إلا ما استطاع أن يظل على قيد الحياة وهو يخوض غمار حربٍ ضروس، خرج منها منتصرًا، فأوجد لفكره مكانًا ضيقًا في أرض التفاهة يحاول أن يغالبها فتغالبه، كالأسد يصارع بهيبة الملوك وحوشَ الغاب، لكنه لن يستطيع إليهم سبيلًا؛ لأن الكثرة تغلب الشجاعة. هكذا حال الفكر المسكين ينوح كالثكلى، وينتحب على وضعٍ آلَ إليه في زمن الرقميات التي كان من المفروض أن تشجع الفكر، وتنهض به من عقاله، وتحيي العقل العربي بدل أن تميته وتسير به إلى مقبرة التاريخ، لينتظر أياديَ أخرى تبعثه من رقاده، بعد أن شهِد عالمنا العربي موتَ الكثير من المفكرين الذين سينتهي برحيلهم رحيلُ الفكر في زمن المعرفة الجاهزة القاتلة للتفكير والإبداع، والنقد والتنقيح، والتعديل والتحديث، في زمن متسارع التحولات محتاج إلى من يأخذ بالفكر إلى طريق حداثي مستجيب للإيقاعات التاريخية المتحولة، لكن العقل العربي للأسف لا يزال خائضًا في لهوه وعبثه، مع ما يجده من التحفيز والتشجيع المباشر وغير المباشر من شبابنا، الذي توسمنا فيه زرع بذور التغيير نحو التحديث والعصرنة، لا نحو الإسفاف والتدني الفكري القاتل للحضارة. إن ما نشهده اليوم من منطق غريب للحضارة أمر يَندى له الجبين ويرفَضُّ له الجسد عرقًا، فأنت ترى الإقبال الكثيف على عوالم الفيديو من أصناف "الروتين اليومي"، والأغاني الساقطة الملأى بكلمات خادشة للحياء، وما شابه ذلك مما يجري في العالم الرقمي؛ من إثارات وفتنة ظاهرة وباطنة أبطالها نسوة هَتَكْنَ الأعراض، وفضحن المستور، وأخْلَلْنَ بالحياء، لا حظَّ لهن من خُلُق إلا التهتك والعربدة؛ بحثًا عن جني المال، والطامة الكبرى أن شبابنا من أشباه الرجال بدؤوا يحذون حذوهن، كما تحذو القذةُ القذةَ، ويحذو النعلُ النعلَ، فتهافتت العيون إليهم وغدَوا حديث الناس في المجالس وموضوع أسمارهم، فمُنحوا بذلك التمجيد الذي لا يليق بهم، وأُعطوا حظًّا في حياتهم لا يستحقون منه قِيد أنملة، ولا مقدار قطمير في نواة، هكذا صنعتهم ثقافة بناها الجهل والبعد عن قيم الإسلام الراقية، التي ما التفتت يومًا في تاريخها إلى انحلال مجده، أو تفسخ منزله، كما صرنا نشهد الآن على مرأى ومسمع من الكل، حتى بات المشهد مألوفًا، والغريب هو كل صورة معاكسة للفحش والتهتك يتلو فيها قارئ آي الله، أو عالم مبجل يشرح مسألة من مسائل الدين، أو رجل في مكان عام يمسك بكتابٍ يتصفحه بدل الإمساك بهاتف يقلب المواقع فيه، دون أن يرفع بصره عنه أو يزيغ عنه، على هذه الحال صار واقعنا مقلوبًا رأسًا على عقب، مُجِّد فيه أهل البضاعة البخسة الرعناء، وحُط فيه من قدر أهل العلم والفكر، فلم تعد ترى لهم أثرًا في محافل إعلامية، كانت في الماضي مشوقة توَّاقة إلى استضافة النخب المفكرة وصناع الإبداع، فتُعَرِّفُ النشء بهم؛ ليقتدوا بهم ويسلكوا مسلكهم، عدا بعض المحافل الكبرى التي تلتفت بين الفينة والأخرى إلى هؤلاء؛ إرضاء لذوق جماهيري لا يزال العقل العربي يحفِل به، وفي هذا مؤشر خير على أن الفكر مهما صُنع به، فإنه ماضٍ في طريق الانبعاث، ولن تخمد جذوته إلا مع فناء الإنسان، غير أننا نود أن يسود ويطغى على غيره، كما كان في سالف عهودنا؛ ذلك أن طبع الثقافة أن تتأثر بالعناصر من داخلها وخارجها، فتتلون بتلاوين يصنعها توجه الإنسان ذي الأفكار والميولات المتباينة، فبينما تجد فكرًا جادًّا يتشرب من القيم والأخلاق، ويستجيب لمنهج الدين تُلفي آخر تتجاذبه قيمٌ تنأى عن ثقافة الإسلام، مشحونة بالميوعة والتحلل كما كان في عصر بني العباس، ففي الوقت الذي ترجمنا فيه مظانَّ الكتب وأمهاتها وأرسلنا في طلبها من الإفرنجة مقابل الهدايا، فأُنفق لأجلها الكثير من المال حتى فجرنا ينابيع العلوم والفنون، فأدهشنا العالم بعبقرياتنا زمن المنصور وهارون والمأمون، يومها كنا قد بنينا بيت الحكمة، لكننا في الآن نفسه كنا نتصارع مع الملل والنِّحَل المختلفة المفسدة للإسلام؛ كالمانوية والمزدكية وغيرهما من ديانات الأقوام الذين امتزجنا معهم، يومها كنا نعاقب الزنادقة الذين انتشروا كالنار في الهشيم، وفي نفس التاريخ انتشر المجون والانحلال، وفشا الغناء واللهو والعبث، وظهر ذلك في الأشعار؛ فكان شعر الخمر، والتغزل بالغلمان، في مقابل شعر الزهد والتصوف، فهذا النوع من الصراع بين الخير والشر يظل سنة كونية في الأرض، لا سبيل إلى الفرار منه، وإنما المقصد طغيان الخير على الشر؛ لأن هذا مراد النفس السوية الخيرة، فإذا بلغنا هذا المبلغ، فهو جهاد كبير تكبح فيه جماح النفس الأمارة بالسوء، فيعود شبابنا إلى جادة الصواب، ويَدَعُوا سفاسف الأمور تعبث وحدها لتدرك أن لا جمهور لديها، فتكف عن عبثها وترتدع، ولربما كان ذلك سبيلًا إلى عودتها إلى الله وإنابتها. إن العقل العربي ملزم بتصحيح المسار الذي يسير فيه اليوم قبل فوات الأوان، فينأى عن صناعة التفاهة والتفاخر بها؛ إذ يكفي ما صنعناه منذ سنوات خلت من تباهٍ بأكبر ألوان المآدب، ومنذ أيام مضت بأكبر مزهرية؛ لأن في مثل هذا هدرًا للمال الذي نحتاجه في أمور أكثر إلحاحًا؛ كإصلاح الحفر في طرقاتنا، وترميم مدارس قد تنهار فوق رؤوس الطلاب ومعلميهم، وبناء جسور قد تنقذ أرواح أطفال سيعبرون عليها جيئة وذهابًا، فلا يكونون عرضة لسيل جارف يأتي على حين غرة يخطف أرواحهم الطاهرة، وهلم جرًّا... ولينظر العقل العربي إلى أولئك الذين يتباهون بأسرع طائرة، وأذكى هاتف نقَّال، وأدق رجل آلي، وأفتك سلاح جوي أو بري أو مائي... لينظر إلى مثل هذا وذاك، وليتخذ منه نموذجًا للتنافس، مستجيبًا لنداء رباني جميل، وإن كان في معرض الحديث عن السباق نحو الجنة؛ قال تعالى: ﴿ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ ﴾ [المطففين: 26]، ها هنا مكمن القوة ومربط الفرس، أيها العقل العربي، فما خُلقتَ للعبث واللهو والتفاهة التي طفح كيلها، وبلغ سيلها الزُّبى، وإنما وُجدت لتقود الحضارة، وتمضي قدمًا نحو السناء، كما كنت في الماضي التليد قائدًا رائعًا محنكًا، تهابك الملوك، وتخشى ركابك، وخيلك المطهمة الحضاراتُ، فتحسب لمقدِمِك ألف حساب. إن صناعة التفاهة مشهودة من أولي النُّهى، ولا يستطيع عاقل أن يجحد وجودها إلا إذا كان من أهل الدناءة، وأصحاب الدعوة إلى الحرية المطلقة المتجاوزة للحدود والخطوط الحمراء، والإبقاء عليها وتشجيعها صناعة للتافهين في مجتمعاتنا، في الوقت الذي تجِدُّ فيه الحضارات الكبرى، وتتحكم في دواليب العالم، وتُسيِّره وفق منظورها ومصالحها، سننتج جيلًا تافهًا يستمرئ التفاهة، ويجعلها جزءًا من ثقافته الاجتماعية، جيلًا يعيش مع عوالم الفيديو التافهة ليلَ نهارَ، يتتبع كل إصدار جديد، همه الأكبر مشاهدة العري والفسق والمجون، وسماع موضات الغناء، منصرفًا عن أمور الدين التي سيجدها ثقيلة على محمله، ممقوتة في مسمعه، فيظل قلبه مغلقًا عليه الأقفال، وفي أذنيه وقر، يظل على هذه الحال شهورًا وسنين، وهو مستجيب للهوى، لا ضمير يحركه، ولا تفكير يململ خاطره؛ علَّه يستشعر ما آلت إليه حاله من بُعْدٍ عن الله، وعن فكر متَّقِدٍ ينير له الطريق، أو إبداع جميل يمتع عقله، ويحرك وجدانه، فيرى الفروق واضحة المعالم بين مسفٍّ منحط كان قد انغمس فيه دهرًا، وطاهر نقي كان قد شطَّ عنه النوى في غفلة منه، وجميل نير كان يصرف عنه النظر يوم جذبته العوالم التافهة بكل مغرياتها الساقطة، فاليوم خمر وغدًا أمر، لتنقلب الدائرة ويعود الجيل إلى جادة الصواب؛ فنضع الموازين في مواضعها الصحيحة، رافعين من درجات أهل العلم والفكر والإبداع الجميل الراقي، وحاطِّين من مراتب أهل الإسفاف بعدما عثَوا في الأرض فسادًا؛ لنطهرها من الأدران التي تركوها على أديمها، ونشرع بحول الله في صناعة عقل عربي جديد سيأخذ منا وقتًا ليس باليسير، لكن الثمار ستكون يانعة متى تعهدناه بالسقيِ، وشذَّبنا أفنانه؛ لأننا سنكون قوة ضاربة في سلم الحضارة بعون الله وتوفيقه.
البهاء في تاريخ حضرموت أقدم تاريخ حضرمي مرتب صدر حديثًا كتاب "البهاء في تاريخ حضرموت"، تصنيف العلامة الفقيه المؤرخ: "عبد الرحمن بن علي بن حسان" (ت سنة 818 هـ)، تحقيق: د. "عبد الله محمد الحبشي"، نشر: "دار الفتح للدراسات والنشر". وهذا الكتاب ينشر لأول مرة حيث كان في عداد الآثار المفقودة، وهو أقدم تاريخ حضرمي مرتب على الحوادث والسنين، ونجد أن تاريخ حضرموت الوسيط يظل كله تقريبًا مجهول الحقيقة لانعدام المصادر التاريخية المعتبرة، حتى إذا أطل القرن الميلادي العشرون ظهرت كتابات تاريخية حضرمية معاصرة تحاول سبر غور ذلك المجهول، غير أنّ تلك الكتابات المعاصرة ما كان لها إلا أنْ تعاني ذلك المأزق الحضرمي العنيد، ألا وهو غياب المصادر، لهذا نجدها وهي تتحدث عن ذلك العصر تأتي بالأقوال دون مصدرية وتصدر الأحكام دون تسبيب تاريخي وعلمي معقول. ولقد لخص المؤرخ سعيد عوض باوزير (ت 1978م) مأزق ذلك التاريخ الحضرمي بقوله: "إن كل متتبع لتاريخ حضرموت يصطدم بثلاث حقائق هي: 1) نقص خطير في المصادر سواءً فيما يتعلق بالتاريخ الجاهلي أو عهود ما بعد الإسلام. 2) صعوبة انتقاء الحقائق التاريخية من بين أكداس المعلومات التي لا تدعو إلى الاطمئنان، حيث كتبت تحت عدة مؤثرات عاطفية أو عنصرية أو مذهبية أو سجلت عن غفلة أو سذاجة أو حسن نية. 3) وجود فجوات واسعة في مجرى الأحداث التاريخية لم تتعرض لها المصادر الموجودة، أو تعرضت له بشيء من التحريف والتشويه يزيد من غموضها والتباسها. ويضيف "باوزير" قائلًا: "وهكذا يجد المؤرخ لحضرموت نفسه بالإضافة إلى قلة المصادر وعدم تكامل عناصر الاعتماد عليها، أمام عهود تاريخية بكاملها، لا يجد لها مصادر، وأمام عهود أخرى لا تتحدث مصادرها إلا عن وفيات الأعيان ومواليدهم ونواحي حياتهم الشخصية وما أشبه ذلك من الحوادث الشخصية التي لا تعني شيئًا في تصوير النواحي السياسية والاقتصادية والاجتماعية وتحديد الاتجاهات الفكرية والثقافية الأمر الذي يضطر الباحث الحريص على الحقيقة أن يكتفي بالتدوين والتسجيل للحوادث وترتيبها دون أن يجرؤ على إصدار أحكام لم تتوفر لها حيثياتها ومقدماتها". يقول الدكتور صلاح الدين المنجد في تقديمه لكتاب المؤرخ الحامد (تاريخ حضرموت): "إن تاريخ حضرموت أغمض شأنًا، بل إن تاريخها غير معروف بالتفصيل والتسلسل المتصل حتى عند خواص أبنائها... وان مدارس حضرموت لا يمكنها أن تدرس تاريخ حضرموت وسكانها لعدم وجود المصدر لذلك، وإن كتب تاريخ حضرموت لا تعطي صورة واضحة عن كل عصر، بل أن تحقيق ذلك يحتاج لشيء من الدرس والتهذيب، وإن ما ألف عنها اليوم لم يؤت الدقة وأعوزته أحيانًا الصحة وشابه الخبط والتلفيق". لذلك تأتي أهمية هذا الكتاب من جهات عدة، منها: قلة المؤلفات التي وضعت في تاريخ حضرموت عبر الأدوار التاريخية، ومنها: قلة المؤرخين الحضارمة خصوصًا واليمنيين عمومًا، ومنها: أنه كُتب في حقبة مبكرة في نهاية القرن الثامن الهجري وأول التاسع، فمؤلفه هو المؤرخ العلامة عبد الرحمن بن علي بن حسان الشبامي (ت 818 هـ)، الذي يكاد يكون الوحيد في عصره الذي تصدى لكتابة تاريخ إقليمه، ولم يسبقه إلى ذلك أحد فيما نعلم. ويختلف تاريخ ابن حسان اختلافًا تامًا عن نمط التواريخ المنقبية التي جاءت بعده، إذ تميز بكون مادته تأريخية بحق، ترصد الوقائع والأحداث والتراجم والوفيات. ولم يكن لابن حسان غالبًا سلف من مؤرخي الحضارم يستقي مادته منهم، والمرجح أنه استمد من مدونات محلية توفرت له، كما استمد بعض وفياته من شواهد قبور أصحابها، بالإضافة إلى مصادر تاريخية عامة وأخرى نجهلها. وفي كل هذه الجوانب من الفرادة ما تجعل هذا التاريخ أهم وأقدم تاريخ حضرمي ينشر حتى يومنا هذا. وصاحب هذا التأريخ الإمام المؤرخ العلامة "عبد الرحمن بن علي بن حسان" قاضي المشقاص ودفينها سنة 818هـ، اشتهر تاريخه عند مؤرخي حضرموت ونقلوا عنه في تواريخهم منهم: المؤرخ أحمد بن عبد الله شنبل في "التاريخ الأكمل"، والمؤرخ الطيب بن عبد الله بامخرمة في "قلادة النحر"، ينقل عنه صفحات ويكتب أعلاه (منقول من تاريخ ابن حسان)، ومن المتأخرين النسابة المؤرخ سالم بن أحمد باجندان في كتابه (الدر والياقوت في معرفة بيوتات عرب المهجر وحضرموت)، قال عنه شنبل في تاريخه: وهو الإمام واحد عصره في العلم، كان كريمًا معطيًا سخيًا جوادًا، له تصانيف منها شرح جامع المختصرات ونكت على المهذب، وله تاريخ مشهور، وله نبذ في أدلة التنبيه، وله قصائد عظيمة، وكتاب مناقب الفقيه محمد بن علي باعلوي وغيره. وقال عنه العلامة علوي بن طاهر الحداد: الفقيه الإمام العالم المتقن القاضي، الساكن بريدة المشقاص. له ثلاثة تواريخ في وفيات أعيان اليمنيين وموالديهم، وقد وقفت على الصغير منها في خزانة سيدي أحمد بن حسن العطاس، وناولني شيخنا هذا التاريخ فتصفحته. وله كتاب خاص في مناقب الأستاذ الأعظم، كما وقفت على نسخة منه بمكتبة السيد سالم بن علي المحضار ببلدة حبان سنة 1322 هـ، وله تاريخ البهاء، موضع بالمشقاص.
الإيماء إلى طرق التحمل والأداء لمحمد زايد العتيبي صدر حديثًا كتاب "الإيماء إلى طرق التحمل والأداء"، تأليف: د. "محمد زايد العتيبي"، نشر: "دار الفتح للدراسات والنشر". ويتناول هذا الكتاب تلخيصًا مفيدًا لمبحث مهم في علم مصطلح الحديث؛ وهو طرق التحمل والأداء عند المحدّثين وصيغها. وهذا المبحث من علوم الحديث دالٌّ على ما كان عليه أسلافنا الصالحون من دقة عالية في نقل الحديث النبوي الشريف طبقة عن طبقة. وقد شملت مباحث الكتاب طرق التحمل والأداء الثمانية: السماع من لفظ الشيخ، القراءة عليه، المناولة، الكتابة، الإجازة، الإعلام، الوصية بالكتب، الوجادة. مستعرضًا أقوال علماء الحديث القدماء والمحدَثين في تلك الطرق بما يجلّي دلالاتها الاصطلاحية وتطبيقاتها. ونجد أن السماع من لفظ الشيخ: أ) صورته: أن يقرأ الشيخ، ويسمع الطالب، سواء قرأ الشيخ من حفظه أو كتابه، وسواء سمع الطالب وكتب ما سمعه، أو سمع فقط ولم يكتب. وهو أعلى أقسام طرق التحمل عن الجماهير. 2- القراءة على الشيخ: ويسميها أكثر المحدثين " عَرْضًا " صورتها: أن يقرأ الطالب والشيخ يسمع، سواء قرأ الطالب، أو قرأ غيره وهو يسمع، وسواء كانت القراءة من حفظ أو من كتاب، وسواء كان الشيخ يُتَبِّعُ للقارئ من حفظه أو أمسك كتابه هو، أو ثقة غيره. 3- الإجازة: أ) تعريفها: الأذن بالرواية لفظًا أو كتابة. ب) صورتها: أن يقول الشيخ لأحد طلابه: "أَجَزْتُ لك أن تروي عني هذا الحديث أو هذا الجزء الحديثي". 4- المناولة: أ) أنواعها: المناولة نوعان. 1- مقرونة بالإجازة: وهي أعلي أنواع الإجازة مطلقًا. ومن صورها أن يدفع الشيخ إلى الطالب كتابه ويقول له: هذا روايتي عن فلان فاروه عني، ثم يبقيه معه تمليكًا أو إعارة لينسخه. 2- مُجَرَّدة عن الإجازة: وصورتها أن يدفع الشيخ إلى الطالب كتابه مقتصرًا على قوله هذا سماعي. 5- الكتابة: أ) صورتها: أن يكتب الشيخ مَسْمُوعَهُ لحاضر أو غائب بخطه أو أمره. ب) أنواعها: وهي نوعان: 1- مقرونة بالإجازة: كأجزتك ما كتبت لك أو إليك ونحو ذلك. 2- مُجَرَّدة عن الإجازة: كأن يكتب له بعض الأحاديث ويرسلها له، ولا يجيزه بروايتها. 6- الإعلام: أ) صورته: أن يخبر الشيخ الطالب أن هذا الحديث أو هذا الكتاب سماعه. 7- الوصية: أ) صورتها: أن يوصي الشيخ عند موته أو سفره لشخص بكتاب من كتبه التي يرويها. 8- الوِجَادَة: بكسر الواو، مصدر " وَجَدَ " وهذا المصدر مولد غير مسموع من العرب. صورتها: أن يجد الطالب أحاديث بخط شيخ يرويها، يعرفه الطالب، وليس له سماع منه ولا إجازة. حكم الرواية بها: الرواية بالوجادة من باب المنقطع، لكن فيها نوع اتصال. وقد بين الباحث في هذا البحث هذه الطرق، وحكمها، وصورها، وألفاظ الأداء المتنوعة في كل طريقة، بأسلوب مختصر لطالب العلم المبتدئ، مع ضرب الأمثلة والشواهد. والمؤلف هو د. "محمد زايد فلاح العتيبي"، عضو هيئة التدريس بقسم التفسير والحديث بكلية الشريعة- جامعة الكويت. له من المؤلفات: • "التثبت فى تحمل الحديث و أدائه: دراسة حديثية". • "أحوال الرواة في تغيير صيغ الأداء". • "كناشة البحوث: بحوث حديثية محكمة". • "الدر المنثور في التفسير بالمأثور: دراسة وتحقيق"- رسالة ماجستير.
السمنة الثقافية (التُّخَمة الفكرية) أظنني لا أحتاج كثيرًا إلى أن أشرح معنى السمنة، فهي الداءُ الأسرعُ انتشارًا في العالم، والأكثرُ سطوةً وتأثيرًا في حياةِ كثيرٍ من البشر، وهي الوزنُ الزائدُ الذي يحمله الإنسانُ طول حياته، وهي ناتجة عن حياة صحيَّة خاطئة متراكبة من الأكل الزائد عن الحاجة (يُعبَّر عنه علميًّا بالاستمرار في تناوُل سعراتٍ حراريةٍ زائدةٍ) وضعف الحركة أو ندرتها، وينتج عنه تراكم الدهون في جسم الإنسان. أما تعريف الثقافة فهي ذلك الكُلُّ المركَّب والمُعقَّد، الذي يشتمل على المعرفة والعقائد والفنون والقيم والقانون والعادات، التي يكتسبها الإنسان كعضوٍ في المجتمع، وتتركَّز أهمية الثقافة في أنها تدخل في الفكر والشعور والأفعال. ومن كلا التعريفين نستنتج تعريف السمنة المعرفية: هي المعارف والمعلومات المتفرِّقة والمجزَّأة وغير الضرورية، التي لا يحتاج إليها الإنسان في حياته، وتستهلك جزءًا كبيرًا من تفكيره، ولها التأثير البالغ في فكره وسلوكه، ولا يشعر بخطورتها. وحتى تدرك خطورتها تخيَّل أنَّ بَنَّاءً يريد أن يبني بيتًا، فهل يستطيع أن يبني البيت من حجارة متفرِّقة وغير متناسقة، أَمِن الخزف المتناثر والرمل المبعثر؟! وما ذلك إلا لأنه وجد نفسه أمام كومةٍ هائلةٍ من الحجارة والأتربة والرمال! يقول برتراند رسل: عقل منفتح على الدوام هو عقلٌ فارغٌ على الدوام. أم هل يصنع شيئًا بدون خطة يسير عليها؟! فعمل بدون مرجعية هو عمل تائه لا يُوصِل صاحبَه إلى هدفه، أم تُراه يُضيِّع عمره من غير نتيجة يصل إليها سوى أن يستغرب منه مَنْ يراه ويتعجَّب من صنيعه، ثم لك أن تتصوَّر منتوجه وبيته المشوَّه الذي سيصل إليه بعد العناء والوقت والتعب! بل عليك أن تتصوَّر وجود طبيب ومهندس ومدرِّس ومحامٍ ووزيرٍ، كُلُّهم تخرجوا من صفحات وسائل التواصُل الاجتماعي، ولم يرتقوا في سُلَّم الدراسات الأكاديمية وعلى مقاعد الجامعات. ومن معاني السمنة الثقافية "السفه المعرفي"، السفه: ﴿ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ ﴾ [البقرة: 13]؛ أي: الجَهَلة، ومنه يقال: سَفِهَ فلان رأيه؛ إذا جهِلَه، ومنه قيل للبذاء سَفَه؛ لأنه جَهْل، وفي اللسان: جهِلَه وكان رأيُه مضطربًا لا استقامة له. وقال الزجاج في قوله تعالى: ﴿ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ ﴾ [البقرة: 130]: القول الجيد عندي في هذا: أنَّ سَفِه في موضع جَهِل، والمعنى والله أعلم: إلا مَن جَهِل نفسَه؛ أي: لم يفكِّر في نفسه، فوضع سَفِه في مَوْضِع جَهِل، وعُدِّي كما عُدِّي [1] . أسباب السمنة الثقافية: • سلطة الثقافة الغالبة، والمقصود أثر الثقافة الغالبة في المجتمعات، وأن لها سلطة على توجُّهات الناس وآرائهم وعاداتهم، وبما أن وسائل التواصُل الاجتماعي امتزجت بعقول الناس وأفئدتهم، وخالطت عقولهم وأفهامهم، فمنها يستقون آراءهم، وهي مورد علومهم وثقافتهم، وغالب بضاعتها من الكمِّ الثقافي غير المنظم- هذا في أحسن أحوالها- أو من المعرفة التي لا فائدة منها، صار لها سطوة على عاداتهم وأفكارهم؛ ولكنها سلطة تدخل من غير استئذان، وبدون وقت محدد، وتجلس حيث شاءَتْ، تمارس بعثرة المكان وبثَّ الفوضى في العقل والوجدان. • حب التصدُّر في المجالس، من خلال التكلُّم عن أي موضوع يشغل الساحة المعرفية الحالية (الترند العالمي والمحلي)؛ مما يدفع صاحبه إلى تلقُّف الأخبار ومعرفة المنتشر من الأحداث حتى يحافظ على مواصلته الحديث في مجالسه. • سطوة وسائل التواصُل الاجتماعي في حياتنا، التي تساهم في حشو أدمغتنا بالكثير من المعلومات المتشعِّبة التي تتناول كمًّا هائلًا من الموضوعات المتفرقة، فلك أن تتخيَّل حسابًا في الفيس بوك مشتركًا في صفحات متنوعة (الأخبار، الفن، الرياضة، قرآن كريم، أحاديث نبوية، حِكَم متنوعة، مشاهير اليوتيوبر والتيك توك) كل هذه الصفحات تنشر قصصَها وأحداثَها بشكل متواصل، وصاحب هذا الحساب يقرأ خبرًا عن عدد القتلى في مدينة معينة، وعن زلزال في مدينة أخرى، ثم يتابع فريقه المفضل، ونتائجَه في المباريات، وبعدها يشارك في صفحته فيديو لقارئ يقرأ آيات معينة من القرآن، ثم يدخل إلى حساب للمسلسلات التي يتابعها فيشاهد فيها آخر حلقة وآخر ما تم نشرُه من أخبار ممثليها وفنانيها، بعد كل ذلك ينتقل إلى تويتر فتأتيه حكمة معينة فيُشاركها مع أصحابه في الواتساب والفيس بوك، كل ما ذكرناه وأكثر أنتج لنا الشخصيات المضطربة والمتناقضة في آن واحد. • هيمنة القنوات الإخبارية على حياتنا اليومية. • الفراغ الرُّوحي والمعرفي. • سهولة الوصول إلى المعرفة، وتسطيح الثقافة (الثقافة الأفقية: كثرة المعلومات المتفرِّقة وغير المترابطة). • عدم وجود هدف واضح يسعى إليه الإنسان في حياته، فأصبح كسفينةٍ في عُرْض البحر، وقد أضاع رُبَّانُها بوصلتَه؛ فلا يدري أين يتَّجِه، ولا يعرف كيف يسير. أخطار السمنة الثقافية: 1- لأن الثقافة- كما بيَّنا في التعريف- لها تأثير في المعرفة والشعور والسلوك؛ لذلك سيكون للسمنة الثقافية تأثيرٌ في كل ما ذكرنا، وهذا التأثير بالغ الخطورة، وخطورتُه تكمُن في جهاتٍ ثلاثٍ: الأولى: سيصبح للمعلومات المتفرِّقة وغير المهمة، أثرٌ كبيرٌ في تحديد توجُّهاتنا وآرائنا وأفعالنا، والأخطر من ذلك أنها ستُحدِّد في المستقبل قناعاتنا واعتقاداتنا. الثانية: أن خطرها لا يظهر ولا يبدو للناظر القريب، ولا يشعر به حتى مَن يعاني هذه الآفةَ الخطيرةَ؛ لأنها تؤثر في الإنسان من حيث لا يشعر، ويكبر أثرُها مع الزمن حتى تصبح مثلَ كُرةِ الثلج. الثالثة: موافقة الأفعال للاعتقادات، وهي فطرة فطر الله الخلق عليها (العوائد تنقل الطبائع، المزاولات تعطي الملكات)، لا يستطيع الإنسان السَّويُّ أن يعيش اضطرابًا داخليًّا، فإذا كان على قناعة معينة وتغيَّرت هذه القناعة مع الزمن بفعل عوامل مختلفة فستختلف بعد فترة أفعاله الناتجة عن تلك القناعة، وهذا أمر حتمي لا مفرَّ منه إلا عند المنافقين أو من يتظاهر بغير حقيقته، حتى يفتضح في بعض مواقفه (فضح التطبُّع شيمة المطبوع)، (يا أَيُّها المُتَحَلِّي غَيرَ شِيمَتِهِ = إنَّ التخلُّق يأتي دونه الخُلُق). 2- التخبُّط الكبير في الأفكار وعدم ترابط المعلومات؛ مما ينتج عنه تغيُّر كبير في المواقف التي يتخذها الإنسان في حياته؛ لذلك أضحى من المعروف والمشهور في حياتنا أن نرى الشخص نفسه في مواقف متناقضة وآراء مختلفة، وهذه نتيجة منطقية لتسطيح المعرفة خلافًا لما كان معروفًا في حياتنا الثقافية الماضية. 3- الاقتناع بكثير من الأفكار المغلوطة والاطِّلاع على كثير من الشُّبُهات المعرفية التي كثيرًا ما تُوافِق الهوى والشهوة المستحكمة في الإنسان؛ مما يضعف الموضوعية والنزاهة المعرفية، وهذان الأمران هما السياج الآمن الذي يمنع الإنسان من السقوط في مهاوي الخرافات والأغاليط الثقافية، كما أن الموضوعية والنزاهة من خصائص التفكير العلمي ومن مقوماته الأساسية. 4- ضعف الهِمَم في سلوك الطريق للوصول إلى الثقافة العمودية والمؤصلة، والمعرفة المتنامية في المواضيع المطروحة، وهي إما عبر الدراسة الأكاديمية أو عبر القراءة المتواصلة والمتراكبة في علم من العلوم أو موضوع من الموضوعات. 5- التُّخَمة الثقافية والفكرية التي تجعل من الإنسان يرى نفسه بأنه مثقف ومُطَّلِع على ما يجري في الساحة؛ مما يُضيِّق الساحة على المعلومات الحقيقية. مُحدِّدات الثقافة: بعد أن تكلَّمنا عن المخاطر والأسباب للسمنة المعرفية الفكرية، ينبغي علينا أن نُحدِّد الأُطُر والحدود التي يجب على المرء أن يضع نفسَه ضمنها؛ ليضمن لنفسه السلامة المعرفية، ومن هذه الأُطُر والمحدِّدات: • أن يشغل الإنسان نفسَه بما ينفعه من أمور الدنيا والدين، فعبودية المرء لله تقتضي منه أن ينشغل بالمهم؛ لأنه لم يُخلَق عبثًا. • أن يضع نصب عينيه المقصد الأساسي من خلقه ووجوده في هذه الحياة، وأن يُداوِم على تذكُّر أهدافه التي وضعها لنفسه في حياته. • أن يبتعد عن التفاهة قدر استطاعته بكافة أشكالها؛ وذلك لعدم إدراك خطورتها على فكر الإنسان، ورُوحه، وسلوكه، ومعتقده. • أن يعي بأنه قدوةٌ لغيره ممن يتبعه ويلوذ به، وهذا ما يُعظِّم من قدر مسؤوليته تجاه نفسه وتجاه غيره ممن هو مسؤول عنهم، طبقًا لحديث النبي صلى الله عليه وسلم: ((كلُّكُمْ راعٍ وكلُّكُمْ مسؤولٌ عن رعيَّتِه)). الحلول المقترحة: للنجاة من السمنة الثقافية والفكرية نقترح ما يلي: • الصبر والتعوُّد على السلوكيات المنطقية العلمية في طرق اكتساب المعلومة. • وضع نصب عيني المرء قوله تعالى: ﴿ وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا ﴾ [الإسراء: 36]، وحديث النبي صلى الله عليه وسلم: ((مِنْ حُسْنِ إسلامِ المرْءِ تَرْكُه ما لا يَعنيه))، وحديثه صلى الله عليه وسلم: ((لن تزولَ قَدَما عَبْدٍ يومَ القيامةِ حتى يُسألَ عن أرْبعٍ:... وعن عُمُره فيما أفْناهُ)). • إن حبَّ التصدُّر للحديث في المجالس يُوقِع الإنسانَ في كثيرٍ من الأخطاء الفكرية والمعرفية؛ مما ينتج عنه قِلَّة اعتبار للمرء في قلوب وعقول الناس التي تسمعه، وهذا أمر خطير؛ حيث إنه يجعل من جميع أحاديث الإنسان وكلامه ليس له قيمة أمام مَن يسمعه. • معرفة أن وسائل التواصل الاجتماعي جعلت لكثيرٍ من أفكار التافهين سطوةً على عقول الناس وأفكارهم، وإن هذه الوسائل تمارس القصف العشوائي للمعارف والأخبار والأفكار، وهذا الحشو غير المتوافق يُنتِج الشخصية المتناقضة والعلم الهجين والسِّقْط المشوَّه، واليقين أيضًا بأن القنوات التلفزيونية كلها لها برامج تخدمها وأفكار تسعى لنشرها للمتابعين لها. • التحديد المسبق للقنوات التي يتابعها الإنسان وخاصة عبر وسائل التواصل الاجتماعي والقنوات التلفزيونية، وهذا التحديد يساعده بأن يضع لنفسه المسار الذي سيسير عليه في المستقبل، وهذا المسار يشبه المسار الذي يسير عليه القطار، فيجب ألا يخرج عنه إلا لأمر ضروري يعرف دوافعه ونتائجه. الخاتمة: أختم مقالي هذا بتشبيه الثقافة الزائدة التي لا يحتاج إليها الإنسان في أمور دينه ودنياه؛ كمسافر يحمل في حقيبته أشياء لا تلزمه في سفره، فهو ينوء بحملها، وهي لا تلزمه، أو كجائع جلس على مائدة فيها أطايب الطعام، فبدأ يحشو بطنه بالتراب والحصى، أو كتاجر سافر إلى بلدة بعيدة ليشتري فيها ويتاجر فرأى أشياء أعجبته، فأنفق عليها ماله، ثم تذكَّر بأن ما اشتراه ليس له راغبون أو محتاجون؛ فيصبح كمن يُلقي مالَه في المخلَّفات بعد أن تعِب في جمعه، وإن أخطر ما في ذلك أن المسافر والجائع والتاجر في أمثلتنا المنصرمة لن يستطيعوا أن يعودوا فيملؤوا محافظَهم وجَعْباتهم بالمفيد والنافع؛ لأنهم قد فاتهم أوان ذلك ورجعوا بخُفَّي حُنين. كذلك سيندم صاحبُنا عندما يأتي يوم القيامة ويعلم أنه قد أنفق أوقاته في المفضول وانشغل بها عن الفاضل، هذا في أحسن أحواله، والله الموفِّق والهادي إلى سواء السبيل. [1] غريب القرآن لابن قتيبة 41.
من منطلقات العلاقات الشرق والغرب (الخصوصية) المجتمع العربي جزء من المجتمع الكبير جدًّا يتأثر فيه ومنه، وهو يؤثر فيه كذلك، بحكم هذه الخصوصية التي يصر المجتمع العربي على التوكيد عليها، رغم محاولات التنصل من هذا التوجه، بل والملل من ترديده. رغم ما قد يقال: إنها ليست خصوصية يتفرد بها المجتمع بقدر ما هي قاسم مشترك لجميع من يحملون هَمَّ هذه الخصوصية، وهذا صحيح، فإن المجتمع العربي يمثل هذه الخصوصية في هذا الزمن أصدق تمثيل، إذا ما قورن بالمجتمعات الأخرى،وهذا سر من أسرار تأثير هذا المجتمع الصغير على المجتمع الكبير جدًّا [1] . وهناك تخوُّف من تأثر المجتمع العربي بالمجتمعات الأخرى، لا سيما تلك التي تسلمت زمام الحضارة والنهضة وسارت به إلى درجات متقدمة جدًّا من العلم والنماء جعلته يخرج من محيط الأرض،والتخوف يأتي من الخشية من أن يكون التأثر على حساب المبادئ التي يؤكد عليها فعلًا وقولًا، وتبني ثقافة بديلة تهتم بالدنيا على حساب الآخرة [2] . حيث إن هذا المجتمع يرغب في النهوض، مثله في ذلك مثل غيره من المجتمعات، وحيث توافرت مقومات النهوض المادية والبشرية، أراد أن ينهل من علم المادة، فلم يكن أمامه إلا أن يطرق المدن الجامعية المتقدمة علمًا وبحثًا،فذهبت مجموعة كبيرة من أبناء المجتمع إلى معقل الحضارة والعلم في أوروبا وأمريكا وروسيا، ونالت من هناك المؤهلات العلمية العالمية في شتى فنون المعرفة، حتى بعض فروع العلوم الإنسانية أخذت من هناك،وهنا يبدأ التأثر والتأثير، إلا أن الوفود الأولى في معظمها اكتفت بالتأثر أكثر من التأثير، الذي لم يتضح بصورة تدعو إلى الفخر إلا في السبعينيات الهجرية/ الخمسينيات الميلادية عندما كثرت الوفود، وبدأت بوادر الثقة بالذات وبالمبادئ تبرز بصورة أكثر وضوحًا،وقد سبق الحديث عن هذا الجانب في المحدد ذي العلاقة بالبعثات [3] . ذهبت الدفعات الأولى وفي مخيلتها أنها ذاهبة لمجتمعات مثالية في التعامل مع الحياة، من حيث احترامها للنظام وبُعدها عن كل ما من شأنه أن يسيء إلى مجتمع متحضر من الجوانب السياسية والاجتماعية والعلاقات الإنسانية،فأصبحت هذه الدفعات الأولى ترى من أي تصرف في هذه المجتمعات الناهضة مثالًا ينبغي أن يحتذى ويطبق في المجتمعات الأخرى رغم الاختلاف في البيئة وفي الخلفية وفي المنطلق وفي الثقافة وطريقة التفكير. المثال يقتضي أن يقاس عليه كل تصرف أو سلوك، فما طابقه فهو الصحيح، وما خالفه فإنه خطأ ينبغي التخلص منه؛ ولذا تجد أن البعض منا ممن عاش في الغرب يضرب دائمًا لك الأمثال بأن القوم هناك يفعلون هذا ولا يفعلون ذاك، وبأن النظام (القانون) والنظام العام هناك يسمح بكذا ولا يسمح بكذا،وإذا ما برز تصرف هنا ذهب الخاطر إلى هناك، فإن وجد له هناك مثل قُبِلَ، وإن لم يكن له هناك مثل اعتبر خطوة إلى الوراء؛ ذلك أن القوم هناك لم يوجد لديهم ما يقرب من التصرف الخاضع للقياس. سواء صرح بعض العائدين بهذا أم لم يصرحوا به، فهو الغالب في الذهن،ومسألة التأثر واردة على أي حال؛ لأن أي مجتمع لا يملك أن يعزل نفسه عن المجتمعات الأخرى، ولا يمكن أن يَعُدَّ نفسه مؤثرًا غير متأثر، مهما زعم هذا المجتمع أنه يملك كل شيء،وعليه، فإنه لا حجة لمن يرفض التأثر بالمجتمع الآخر، بحجة أنه يخالف مجتمعنا في المبادئ والخلفيات والمنطلقات والثقافة وطريقة التفكير. ولعل هذه الفئة الرافضة للتأثر جاءت مصاحبة للفئة التي أرادت الانغماس في الآخر، أي التأثر المطلق في المثال القدوة الذي ما يزال يردد أنهم هناك يعملون هذا ولا يعملون ذاك، فإذا عملوه فلا شيء فيه، وإذا لم يعملوه ففيه شيء، وقبل أن يصدر الحكم على تصرف أو سلوك يقاس بما يعملونه؛ ليكون فيه شيء أو لا شيء فيه! ومن هنا برزت إزاء هذا التوجه مواقف ثلاثة: الموقف الأول: موقف المتأثر تأثرًا مطلقًا، ويرى مثالية ذلك المجتمع، وضرورة كونه قدوةً في مجالات الحياة كلها! الموقف الثاني: موقف الرافض مطلقًا، ويرى خطر ذلك المجتمع وضرورة تجنبه، والاكتفاء منه بما ينتجه ماديًّا، بحكم أنه لا غنى عن هذا المنتج؛ ولذا يرى هذا الفريق عدمَ التعامل المباشر معه، ويكتفي منه بالتأثير عليه فقط! الموقف الثالث: والموقف الثالث الذي يحتل المرتبة الوسط، فيؤمن بالتأثر بأي مجتمع أو بيئة، كما يؤمن بالتأثير على أي مجتمع وبيئة؛ ذلك أنه يملِك الثقة بما لديه من مبادئ ومُثل ومنطلقات، وثقته هذه سمحت له بالتأثر فيما لا يطغى على ذاتيته وخصوصيته وتميزه، كما سمحت له بالتأثير؛ لأنه يؤمن بأن ما لديه نافعٌ ومفيد، ليس له ولبيئته فحسب، بل للجميع، ولا حق لأحد أن يحجره أو يحجبه عن الآخر. والموقف الأول (القبول المطلق) أو التأثر المطلق فيه خطورة واضحة على المجتمع المتميز. والموقف الثاني (الرفض المطلق) أو التأثير فقط، فيه خطورة واضحة أيضًا على المجتمع المتميز؛ذلك أن الأول يميع فكرة التميز والخصوصية، والثاني يقوقع هذا التميز والخصوصية، ويجعله تميزًا وخصوصيةً حاصرتين. لم يصدر هذا الموقف من فراغ، وليس هو تأثرًا ذاتيًّا بالمجتمع الآخر فقط، بل إن هذا المجتمع المتأثر به أملى على المتأثرين مباشرة أو عمليًّا أنه إنما وصل إلى ما وصل إليه بفضل تخليه عن المبادئ التي كان يقوم عليها، لا سيما الدينية منها؛ ولذا فإذا كانت المجتمعات الأخرى التي لا تزال تعيش حالة من التأخر وتريد النمو فإن عليها أن تتخلص من بعض مبادئها التي يعتقد بالقياس أنها هي التي تحُول دون نموها،وقد قيل في أدبيات الاستشراق صراحةً: إن الغرب قد تقدم بفضل تخليه عن نصرانيته، والشرق تأخر بسبب تمسكه بإسلامه [4] . أما أدبيات التنصير فقد قالت صراحة: إن الغرب تقدم بفضل تمسكه بنصرانيته، والشرق يتأخر بسبب تمسكه بإسلامه - كما سبق التعرض له من قبل -ولأن التنصير واضح المعالم لم تؤخذ مقولته بالقبول، بينما أحدثت مقولة الاستشراق العلماني شيئًا من التعاطف معها؛ لأن ظاهر المجتمع الآخر متخلٍّ عن مبادئه الدينية بخاصة، ولتخليه عن المبادئ أصبح عند بعض الناس قدوةً أو مثالًا ينبغي أن يحتذى، الأمر الذي يحتاج معه إلى مواجهة علمية موضوعية تخفف من هذا الاندفاع الذاتي نحو الآخر؛ بسبب عدم الرضا عن الواقع المحلي وربط أسباب عدم الرضا بالأسلوب الذي تطبق فيه المبادئ [5] . هذا كله داخلٌ في مفهوم الحوار العام مع الثقافات الأخرى الذي يتم بأساليب مختلفةٍ، ومنها هذا الشعور بالدونية أمام الآخر، الأمر الذي ينبغي عمليًّا التخلص منه متى ما بُنيت الثقة بالذات، القائمة على الوضوح في فهم الإسلام والإيمان، اعتقادًا بأنه دين لا كمثل الأديان الأخرى [6] ، لا يقف في طريق النمو، بل لا يقف في طريق التأثر الموجَّه والمؤَصَّل. [1] انظر: علي بن إبراهيم النملة ، السعوديون والخصوصية الدافعة: وقفات مع مظاهر التميز في زمن العولمة - مرجع سابق - ص 312ص. [2] انظر: شاريل بينارد ، الإسلام الديموقراطي المدني: الشركاء والمصادر والإستراتيجيات - واشنطون: مكتب راند للاتصالات الخارجية، 2002م - ص 100. [3] انظر: علي بن إبراهيم النملة ، مجالات التأثر والتأثير بين الثقافات - مرجع سابق - ص 179. [4] انظر: رضوان السيد ، مسألة الحضارة والعلاقة بين الحضارات لدى المثقفين في الأزمنة الحديثة - مرجع سابق - ص 9. [5] انظر: كمال أبو المجد ، حوار لا مواجهة - القاهرة: دار الشروق، 2002م - ص 303 - (سلسلة مكتبة الأسرة). [6] انظر: أحمد بن سيف الدين تركستاني ، الحوار مع أصحاب الأديان: مشروعيته وشروطه وآدابه - في: المؤتمر العالمي عن موقع الإسلام من الإرهاب - الرياض: جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، 1425هـ/ 2004م - ص 36.
شيء من العز الذاهب تقول زيجريد هونكه: «وقد حمل مشعل الحضارة العربية عَبْرَ الأندلس ألوفٌ من الأسرى الأوروبيين، عادوا من قرطبة وسرقسطة، وغيرها من مراكز الثقافة الأندلسية...» [1] . ما جعل المستشرقة الألمانية (زيجريد هونكه) تعبر بهذه الحقيقة عن الأندلس: هو قرون من العزِّ والحضارة فرضت هيمنتها على أوروبا آنذاك، لكنها الأيام: ﴿ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ ﴾ [آل عمران: 140]. إن وراء كل كلمة في عبارتها الآنفة: حضارة علمية وأخلاقية وعسكرية، تفصح عنها عِزَّةُ المسلمين وتعاملهم مع الأسرى وتعليمهم، حتى صاروا رسلًا لحضارة الإسلام بعد إطلاق سراحهم! وأنى لأُمَّة غير أمة الإسلام أن تفعل هذا؟! ونقلت تلك المستشرقةُ أيضًا عن الأسقف (ألقارو) رئيس القساوسة وأعلى قامةٍ مسيحيةٍ في قرطبة- نقلت في كتابها: (الله ليس كذلك) زفراته وحسراتِه حين رأى انكباب النصارى على النَّهْل من الثقافة العربية، لقد كان يصيح متحسرًا عليهم ويقول: "واحسرتاه! إن الشباب النصارى جميعهم اليوم لا يعرفون سوى لغة العرب! ولئن حاول أحدٌ إقناعَهم بالاحتجاج بكتب النصارى فإنهم يردون باستخفاف! وامصیبتاه! إن النصارى قد نسوا حتى لغتهم الأم، فلا تكاد تجد اليوم واحدًا في الألف يستطيع أن يُدبِّج رسالةً بسيطةً باللاتينية السليمة، بينما العكس من ذلك لا تستطيع إحصاء من يحسن منهم العربية؛ بل إن منهم من يقرِضون الشعر بالعربية، حتى لقد حذقوه وبذُّوا في ذلك العربَ أنفسَهم" [2] ؛ انتهى كلامه في كتابها. ويقول المستشرق البلجيكي (سارتون) عن ضرورة تعلُّم العربية أيام الفردوس المفقود (الأندلس)، يقول: «لقد كان ينبغي لأيِّ كائنٍ إذا أراد أن يُلِمَّ بثقافة عصره وبأحدث صُوَرِها أن يَتَعَلَّم اللغة العربية» [3] . كم صَرَّفَتْنا يَدٌ كنا نصرِّفها وباتَ يملِكُنا شعبٌ مَلَكْناه [4] ونقل المؤرخ الفرنسي (جوستاف لوبون) في كتابه (حضارة العرب في الأندلس) أن كثيرًا من المفردات الفرنسية هي عربية الأصل والمنشأ؛ مما جعلها شاهدةً بألسنة الفرنسيين على هيمنة اللسان العربي على العالم! [5] أما اليوم فنحن مكانهم بالأمس! وصدق البشير الإبراهيمي حين قال: "والأُمَّة التي لا تغضب للعِزِّ الذاهب ترضى بالذل الجليب" [6] . لقد كان العقل العربي مفخرةً للمنتمين له من غير بنيه أيام الأندلس، فكانت البعثاتُ الأوروبيةُ تتوافد على بلاط الجامعات العربية، ففي سنة 312هـ في عهد عبدالرحمن الناصر بلغ عدد طلاب إحدى البعثات زهاء 700 طالب وطالبة، ترأسها الأميرة (أليزابيث) ابنة خال ملك فرنسا: لويس السادس. كما بعث (الملك فيليب) بعثة كذلك زمن الخليفة هشام الثاني عدد طلابها 215 طالبًا وطالبة، وكذلك فعل ملك (ويلز) مع الخليفة هشام الثالث؛ بل وأرسل هذا الملك مع بعثته رسالة يستعطف فيها الخليفة كي يأذن فقط للبعثة بالدراسة في بلاده، قال فيها: "سمِعنا عن الرُّقيِّ العظيم الذي تتمتَّع بفيضه الصافي معاهدُ العلم والصناعات في بلادكم العامرة، فأردنا ولأبنائنا اقتباس هذه الفضائل لتكون بداية حسنة في اقتفاء أثركم؛ لنشر أنوار العلم في بلادنا التي يسودُها الجهلُ من أربعة أركان … " [7] . قال حافظ: لم يبقَ شيءٌ بأيدينا إلا بقيَّةُ دَمْعٍ في مآقينا كُنَّا قِلادة جِيدِ الدهر وانْفَرَطَتْ وفي يمينِ العُلا كُنَّا رياحينا كانت منازِلُنا في العِزِّ شامخةً لا تُشرِقُ الشمسُ إلَّا في مَغانينا فلم نزلْ وصروفُ الدَّهْرِ ترمُقُنا شَزرًا، وتخدَعنا الدُّنْيا وتُلْهينا حتى غدونا ولا جاهٌ ولا نسبٌ ولا صديقٌ ولا خِلٌّ يُواسِينا [8] [1] زيجريد هونكه: شمس العرب تسطع على الغرب، ص532. [2] زيجريد هونكه: الله ليس كذلك، ص: 42 [3] حسان شمسي باشا: هكذا كانوا يوم كنا، ص8، وانظر: أحمد علي الملا: أثر العلماء المسلمين في الحضارة الأوروبية، ص: 110، 111. [4] بيت من قصيدة: مجد الإسلام، للشاعر محمود غنيم. [5] حضارة العرب، ص: 457. [6] الآثار، محمد البشير الإبراهيمي، (2/ 430). [7] أوروبا ترسل بعثاتها إلى الأندلس، ص: 90 وما بعدها - دراسات في تاريخ الفكر العربي، ص: 386. [8] من قصيدة للشاعر: حافظ إبراهيم.
الإيضاح في المناسك للنووي تحقيق عدي محمد الغباري صدر حديثًا كتاب "الإيضاح في المناسك"، تصنيف: الإمام "محيي الدين أبي زكريا يحيى بن شرف النووي"، اعتنى به: "عدي محمد الغباري"، نشر: "دار المنهاج للنشر والتوزيع". وكتاب "متن الإيضاح في المناسك" للإمام يحيى بن شرف النووي الدمشقي، يتحدث عن أحكام ومناسك الحج الذي هو الركن الخامس للدين، كما يذكر مصححاته ومفسداته وواجباته وآدابه ومسنوناته وسوابقه ولواحقه وظواهره ودقائقه، وما يتعلق بهما من الأحكام، وما تميزت به عن سائر الإسلام، وبيان الحرم ومكة والمسجد والكعبة وتميزهم. وجاء الكتاب في 8 أبواب و3 فصول، على النحو التالي: الباب الأول: في آداب سفره. الباب الثاني: في الإحرام. الباب الثالث: في دخول مكة. الباب الرابع: في العمرة. الباب الخامس: في المقام بمكة وطواف الوداع. الباب السادس: في زيارة قبر سيدنا ومولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم. الباب السابع: في ما يجب على من ترك في نسكه مأمورًا أو ارتكب محرمًا. الباب الثامن: في حج الصبي والعبد والمرأة ومن في معناهم. ويتميز كتاب النووي بأنه أوجز المسائل التي تحتاج إلى إيجاز، وأفاض في الأمور التي ينبغي للحاج والمعتمر أن يعرفها تفصيلًا. يقول النووي في مقدمة كتابه: "إن الحج أحد أركان الدين وَمِنْ أعظم الطاعات لرب العالمين وهو شِعَارُ أنبياءِ الله وسائر عباد الله الصالحين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين. فمِنْ أهَم الأمور بيان أحكامه، وإيضاح مناسكه وأقسامه، وذكر مصححاته ومفسداته وواجباته وآدابه ومسنوناته وسوابقه ولواحقه وظواهره ودقائقه، وبيان الحَرَم ومكة والمسجد والكعبة وما يتعلق بها من الأحكام وما تميزت به عن سائر بلاد الإسلام. وقد جمعتُ هذا الكتاب مستوعبًا لجميع مقاصدها مستوفيًا لكل ما يحتاج إليه من أصولها وفروعها ومعاقدها وضمنته من النفائس ما لا ينبغي لطالب الحج أن تفوته معرفته ولا تعزب عنه خبرته، ولم أقتصر فيه على ما يحتاج إليه في الغالب بل ذكرت فيه أيضًا كل ما قد تدعو إليه حاجة الطالب بحيث لا يخفى عليه شيء من أمر المناسك في معظم الأوقات ولا يحتاج إلى السؤال لأحد عن شيء من ذلك في أكثر الحادثات وقصدت فيه أنْ يستغني به صاحبه عن استفتاء غيره عما يحتاج إليه. وأرجو أن لا يقع له شيء من المسائل إلا وَجَدَه فيه منصوصًا عليه وأحذف الأدلة في معظمه إيثارًا للاختصار وخوفًا من الإِملال بالإِكثار وأحرص على إيضاح العبارة وإيجازها بحيث يفهمها العامي ولا يستتبعها الفقيه لتعم فائدته وينتفع به القاصر والنبيه. وقد صنف الشيخ الإِمام أبو عمرو بن الصلاح رحمه الله تعالى في المناسك كتابًا نفيسًا وقد ذكرت مقاصده في هذا الكتاب وزدت فيه مثله أو أكثر من النفائس التي لا يستغني عن معرفتها من له رغبة من الطلاب وعلى الله اعتمادي وإليه تفويضي". وقد قامت دار المنهاج بإعادة إخراج منسك النووي معتمدين على أصول خطية نادرة، مع التحقيق والعناية المعهودة، مع تلافي أخطاء وتصحيفات الطبعات السابقة للكتاب. وصاحب "المنسك" أبو زكريا يحيى بن شرف الحزامي النووي الشافعي (631هـ-1233م / 676هـ-1277م) المشهور باسم "النووي" هو مُحدّث وفقيه ولغوي مسلم، وأحد أبرز فُقهاء الشافعية، اشتهر بكتبه وتصانيفه العديدة في الفقه والحديث واللغة والتراجم، كرياض الصالحين والأربعين النووية ومنهاج الطالبين والروضة، ويوصف بأنه محرِّر المذهب الشافعي ومهذّبه، ومنقّحه ومرتبه، حيث استقر العمل بين فقهاء الشافعية على ما يرجحه النووي. ويُلقب النووي بشيخ الشافعية، فإذا أُطلق لفظ "الشيخين" عند الشافعية أُريد بهما النووي وأبو القاسم الرافعي القزويني. ولد النووي في نوى سنة 631هـ، ولما بلغ عشر سنين جعله أبوه في دكان، فجعل لا يشتغل بالبيع والشراء عن تعلم القرآن الكريم وحفظه، حتى ختم القرآن وقد قارب البلوغ، ومكث في بلده "نوى" حتى بلغ الثامنة عشر من عمره، ثم ارتحل إلى دمشق. قدم النووي دمشق سنة 649هـ، فلازم مفتي الشام عبد الرحمن بن إبراهيم الفزاري وتعلم منه، وبقي النووي في دمشق نحوًا من ثمان وعشرين سنة، أمضاها كلها في بيت صغير في المدرسة الرواحية، يتعلّم ويُعلّم ويُؤلف الكتب، وتولى رئاسة دار الحديث الأشرفية، إلى أن وافته المنية سنة 676هـ.
بيعة العقبة الثانية لما كثُرت أعداد المسلمين في يثرب خرجت مجموعة كبيرة من حُجَّاج يثرب مسلمين ومشركين إلى مكة، واتفق المسلمون منهم على المسير إلى النبي صلى الله عليه وسلم مستخفِين لا يشعر بهم أحد، وكان هذا في الموسم التالي للبيعة الأولى، وواعدوا النبي صلى الله عليه وسلم عند العقبة ثاني أيام التشريق، فلما كان الليل تسللوا إلى القبة سرًّا، وكانوا سبعين رجلًا وامرأتين، هما: نسيبة بنت كعب المازنية وأسماء أم عمرو بنت عدي - وذكر ابن حجر أنهم ثلاثة وسبعون رجلًا وامرأتان - وحضر رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه عمه العباس، حيث أحب أن يستوثق منهم لابن أخيه؛ لذلك كان أول المتكلمين، فقال: يا معشر الخزرج، إن محمدًا منا حيث علمتم في عز ومنعة، وإنه أبى إلا الانقطاع إليكم، فإن كنتم ترون أنكم وافُون له بما دعوتموه إليه ومانعوه، فأنتم وذلك، وإن كنتم ترون أنكم مسلِموه فمن الآن فدعوه؛ فإنه في عز ومنعة، فقال الأنصار: قد سمعنا ما قلت، فتكلم يا رسول الله، وخذ لنفسك وربك ما أحببت. فتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم وتلا القُرْآن ورغب في الإسلام، قال: ((تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم))، ثم أخذ البراء بن معرور بيده وقال: والذي بعثك بالحق، لنمنعنك مما نمنع منه أزرنا، فبايعنا يا رسول الله، فنحن أهل الحرب. وقال ابن التيهان: يا رسول الله، إن بيننا وبين الناس حبالًا، وإنا قاطعوها - يعني اليهود - فهل عسيتَ إن أظهرك الله عز وجل أن ترجع إلى قومك وتدعنا؟ فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: ((بل الدم الدم، والهدم الهدم، أنتم مني وأنا منكم، أسالم من سالمتم، وأحارب مَن حاربتم))، ثم قال: ((أخرجوا إليَّ اثني عشر نقيبًا يكونون على قومهم))، فأخرجوا تسعة من الخزرج وثلاثة من الأوس، وقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أنتم كفلاء قومكم ككفالة الحواريين لعيسى ابن مريم))، قالوا: نعم، ثم قال العباس بن عبادة: يا معشر الخزرج، هل تدرون علامَ تبايعون هذا الرجل؟ تبايعونه على الأحمر والأسود، فإن كنتم ترون أنكم إذا نهكت أموالكم مصيبة وأشرافكم قتلًا أسلمتموه، فمن الآن؛ فهو والله خزي الدنيا والآخرة، وإن كنتم ترون أنكم وافون له فخذوه؛ فهو والله خير الدنيا والآخرة. قالوا: فإنا نأخذه على مصيبة الأموال وقتل الأشراف، فما لنا بذلك يا رسول الله؟ قال: ((الجنة))، قالوا: ابسُطْ يدَك، فبايعوه. وقد فسر كلام العباس بن عبادة بأحد احتمالين: • من أجل أن يوثق العهد للرسول صلى الله عليه وسلم، وأن يتحمل المبايعون كل صعب من أجل الإسلام والدفاع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. • مِن أجل إطالة المدة قبل البيعة؛ ليتسنى حضور عبدالله بن أبيٍّ ابنِ سَلُولَ؛ فقد كان مع الحُجاج، ولكن لم يُعلموه بهذا الاجتماع الخاص بالمسلمين. فكان أول من بايع النبي صلى الله عليه وسلم أسعد بن زرارة، وقيل: البراء بن معرور، وقيل: ابن التيهان، ثم بايع البقية، ورُوي أن الشيطان قد طار صوابه لما تمت البيعة، فصاح بأعلى صوته في منى: يا أهل الجباجب - المنازل - هل لكم في مذمَّم - كان أهل الكفر يلقبون به النبي صلى الله عليه وسلم - والصباة معه قد اجتمعوا على حربكم؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((ارفَضُّوا إلى رحالكم))، فقال العباس بن عبادة: والذي بعثك بالحق نبيًّا، لئن شئت لنُميلن غدًا على أهل منى بأسيافنا، فقال: ((لم نؤمر بذلك))، فرجَعوا. فلما أصبحوا جاءهم عدد من كبار قريش، فقالوا: قد بلغنا أنكم جئتم إلى صاحبنا تستخرجونه وتبايعونه على حربنا، وإنه والله ما من حي من أحياء العرب أبغض إلينا أن تنشب بيننا وبينهم الحرب منكم، فحلف من هناك - من مشركي أهل يثرب الذين لم يحضروا البيعة وكانوا الأكثر، يزيدون عن خمسمائة - أنه ما كان من هذا الأمر شيء وما علمناه، وصدَقوا؛ فهم لم يعلموا فعلًا، والمسلمون ينظر بعضهم إلى بعض وهم سكوت، قال كعب بن مالك: وقام القوم - وفد قريش - وفيهم الحارث بن المغيرةِ المخزومي وعليه نعلان جديدان، فقلت كلمة كأني أريد أن أشرك القوم بها فيما قالوا: يا أبا جابر، أما تستطيع أن تتخذ - وأنت سيد من ساداتنا - مثل نعلَيْ هذا الفتى من قريش؟ قال: فسمعها الحارث، فخلعهما من رِجْليه، ثم رمى بهما إليَّ، وقال: والله لتنتعلنهما، قال أبو جابر: مه! أحفَظْتَ - أغضَبْتَ - والله الفتى، فاردُدْ عليه نعليه، قلت: والله لا أردهما، فأل والله صالحٌ، والله لئن صدق الفأل لأسلبنه، وعاد الوفد إلى يثرب، وعلمت قريش بعد ذلك أن عددًا من أهل يثرب أسلموا، فتأكدت شكوكهم، فاشتدوا على المسلمين إيذاءً واضطهادًا، وحاولوا إدراك أهل يثرب، إلا أنهم كانوا قد غادروا مكة، وروي أنهم أدركوا سعد بن عبادة، وأفلت منهم المنذر بن عمرو، وكلاهما كان نقيبًا، فقيدوا سعدًا وعادوا به إلى مكة وهم يضربونه ويركلونه حتى أوجعوه، وقال سعد: فطلع رجل وضيء توسم فيه الخير لعله يفعل شيئًا في إنقاذه وإذا به يفاجئه في لطمة موجعة شديدة، فقال: ما في القوم خير، ثم اقترب من بين القوم رجل منهم وهمس في أذنه: ويحك! أما بينك وبين أحد من قريش جوار ولا عهد؟! فقال: بلى، والله لقد كنت أجير لجبير بن مطعم والحارث بن أمية، قال: ويحك! فاهتف باسم الرجلين، واذكر ما بينك وبينهما، ففعل، وخرج ذلك الرجل إليهما، فوجدهما في المسجد عند الكعبة، فقال لهما: إن رجلًا من الخزرج يضرب بالأبطح وإنه ليهتف باسمكما ويذكر أن بينه وبينكما جوارًا، قالا: ومن هو؟ قال: سعد بن عبادة، قالا: صدق، والله إن كان ليجير تجارنا ويمنعهم أن يظلموا ببلده، فانطلقا فخلَّصا سعدًا وأطلقاه، وأن الذي لطم سعدًا كان سهيل بن عمرو، قال: وتتبعت قريش الخبر، فعلمت ما دار بين النبي صلى الله عليه وسلم وأهل يثرب؛ فجُنَّ جنونهم، وفقدوا إنسانيتهم في تصعيد التعذيب والإيذاء، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين بالهجرة إلى المدينة سرًّا، وكان أول من هاجر أبو سلمة بن عبد الأشهل المخزومي بعد بيعة العقبة الأولى.
آدم عليه السلام (1) نتحدَّث إليكم عن آدم عليه السلام في نقاطٍ تتناول قصَّة خَلْقه، وخلقه من أصناف تراب الأرض، ومقدار طوله، والشجرة التي نُهي عن الأكل منها، ومقدار لبثه في الجنة، وإهباطه من الجنة، وعدد أبنائه، وهل سمَّى ابنًا له عبدالحارث؟ وذِكر هبته مِن عمره لداود عليه السلام، وما ذُكر عن شعره في قتل ابنه، وهل بَنى الكعبةَ؟ وهل توسَّل إلى الله بمحمد صلى الله عليه وسلم؟ ورؤية النبي محمد صلى الله عليه وسلم له ليلة الإسراء والمعراج، ثم نتحدَّث عن وفاته، ومكان دفنه، ثم ذكر احتجاج موسى وآدم بالقدَر، ثم ذكر تأخُّره عن الشفاعة يوم القيامة. أمَّا قصَّة خلقه: فقد ذكرها الله تبارك وتعالى في مواضع كثيرة من كتابه الكريم، فهو يقول في سورة البقرة: ﴿ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ * وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ ﴾ [البقرة: 30 - 33]، وقد ذكَر الله تبارك وتعالى أنه خلَقَه مِن تُراب، وأنه خلَقه مِن طين، وأنه خلقه من صلصال كالفخَّار مِن حمَأ مَسنون، وأنه خلقه من طين لازب؛ حيث يقول في سورة آل عمران: ﴿ إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ [آل عمران: 59]، ويقول في سورة الأعراف: ﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ * قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ ﴾ [الأعراف: 11، 12]، ويقول في سورة الحجر: ﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ * وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ * وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ * فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ * إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ * قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ * قَالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ ﴾ [الحجر: 26 - 33]، ويقول في سورة السجدة: ﴿ الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ ﴾ [السجدة: 7]، ويقول في سورة الصافات: ﴿ فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لَازِبٍ ﴾ [الصافات: 11]، ويقول في سورة ص: ﴿ إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ ﴾ [ص: 71]، ويقول في سورة الرحمن: ﴿ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ ﴾ [الرحمن: 14]، وأصل ذلك أن الله تبارك وتعالى أخَذ مِن تراب الأرض قبضةً فخَلَق منها آدم، وقد اجتمع في هذه القبضة من التراب جميع ألوان تراب الأرض؛ ولذلك جاء بنو آدم على هذه الألوان، وهذه القبضة قد بلَّها اللهُ تعالى بالماء، ثم مرَّت عليها مدَّة حتى تحجرت فصارت صلصالًا. والصلصال: هو الطِّين المتحجر؛ لأنَّ الطين إذا طُبخ بالنار سمِّي فخارًا، وإذا لم يُطبخ بالنار لكنه تُرك حتى تحجَّر يسمَّى صلصالًا، فقوله تعالى: ﴿ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ ﴾ [الرحمن: 14]، أي: من طِين تحجَّر حتى صار شبيهًا بالفخَّار، وهو المطبوخ بالنار في تحجُّره وصلصلته إن قلنا: إنَّه مِن صَلصل، بمعنى: صوَّت، وإن قلنا: إنَّه مِن صل، بمعنى: تغيَّر، فإنَّ الطِّين إذا مضت عليه مدَّة أنتن واسودَّ فيصير حمأ مَسنونًا، أي: أسود متغيرًا له رائحة خاصَّة، فإذا يبس وتحجَّر صار كالفخَّار. والطين اللَّازب: هو اللَّاصق، ويقال أيضًا: لزب الطِّين إذا صلب. والحمأ المسنون: هو الطِّين الأسود المتغيِّر الرائحة المنتن. وقد خلق اللهُ تبارك وتعالى آدمَ بيده، وصوَّره، وجعل طولَه ستِّين ذراعًا، وقد روى أحمد وأبو داود والترمذي وقال الترمذي: حسن صحيح مِن حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إنَّ الله خلَق آدمَ مِن قبضةٍ قبضها مِن جميع الأرض، فجاء بنو آدم على قَدْر الأرض؛ فجاء منهم الأبيض والأحمر والأسود وبين ذلك، والسَّهل والحزن وبين ذلك، والخبيث والطيِّب وبين ذلك))، كما روى البخاري ومسلم مِن حديث أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: ((خلَق الله آدمَ وطوله ستون ذِراعًا، ثمَّ قال: اذهب فسلِّم على أولئك النَّفَر مِن الملائكة فاستمِعْ ما يجيبونك؛ فإنَّها تحيَّتُك وتحيَّةُ ذرِّيَّتك، فقال: السلام عليكم، فقالوا: السلام عليكم ورحمة الله، فزادوه ورحمة الله، فكلُّ مَن يدخل الجنَّةَ على صورة آدَم، فلم يزَلِ الخلق يَنقص حتى الآن)). أمَّا الشجرة التي نَهى الله آدمَ عن الأكل منها؛ فقد ذكَر بعضُ الناس أنها الحنطة، وبعضهم يَذكر أنها التِّين، وبعضهم يَذكر أنَّها العنب، ويذكر آخرون غير ذلك، ولم يصحَّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خبرٌ في تعيين الشجرة، ولو كان في تعيينها خيرٌ لعيَّنها اللهُ عز وجل وبيَّنها، وما دام الله عز وجل لم يبيِّن نوعَ الشجرة ولم يبيِّنه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فلا حاجة إلى تكلُّف تعيينها ولا إلى مَعرفة نوعها، ولا ينبغي لأحد أن يقول على الله بغير علم، إنَّما المقصود أنَّ الله تبارك وتعالى خلَق آدمَ وأمَرَه أن يسكن الجنَّةَ هو وزوجته التي خلقها له وأخرجها مِن ضلعٍ من أضلاعه؛ فقد روى البخاريُّ ومسلم مِن حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((استَوصوا بالنِّساء خيرًا، فإنَّ المرأة خُلقتْ مِن ضِلع، وإنَّ أعوج شيء في الضلع أعلاه، فإن ذهبتَ تقيمه كسرتَه، وإن تركتَه لم يزل أعوج؛ فاستوصوا بالنِّساء خيرًا)). وقد نَهى الله آدمَ وزوجَه أن يأكلا مِن شجرةٍ عيَّنها لهما، وفي ذلك يقول الله عز وجل في سورة البقرة: ﴿ وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ * فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ * فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴾ [البقرة: 35 - 37]، ويقول في سورة الأعراف: ﴿ وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ * فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ * وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ * فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ * قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ [الأعراف: 19 - 23]. ويقول الله تعالى في سورة طه: ﴿ فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى * إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى * وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى * فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى * فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى * ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى ﴾ [طه: 117 - 122]، وقوله تعالى: ﴿ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى ﴾؛ هو في الحقيقة مِن باب قولهم: إياك أعني واسمعي يا جارة؛ إذ ليس المراد هنا المعصية التي حمى اللهُ منها أنبياءه ورسله؛ إذ ليس الأكل من هذه الشَّجرة كشرب الخمر أو الزِّنا أو قتل النفس بغير حقٍّ أو فساد في الأرض، وقد وصف الله تبارك وتعالى أكلَ آدم من الشجرة بأنه صدر عن نسيان حيث يقول: ﴿ وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا ﴾ [طه: 115]، والإنسان إذا فعل الشيء وهو ناسٍ رُفع عنه القلم، وإنما عاتبه الله تبارك وتعالى لتنبيهه وتنبيه ذرِّيَّته مِن دسائس إبليس والاحتراس من وسوسته؛ ولذلك يقول تعالى: ﴿ يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ ﴾ [الأعراف: 27]، فالمقصود من هذا التصوير في قوله: ﴿ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى ﴾ [طه: 121] هو التنصيص على أنَّ الله رفع الإصرَ عن آدم حيث قال: ﴿ ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى ﴾ [طه: 122]، فصار كأنه لم يأكل من الشجرة. وقد اقتضَتْ حكمةُ الله أن يأكل آدم مِن الشَّجرة، والله يعلم أنَّه آكلٌ منها لا محالة؛ لأنَّه لا بدَّ وأن يسكن الأرضَ ويعمرها هو وذرِّيَّته مِن بعده، ويجعل الله فيهم خيرًا كثيرًا، وعبادًا صالحين وأنبياء ومرسلين. ولا بدَّ مِن الابتلاء والامتحان والاختبار في هذه الأرض، فكانت الصُّورة الأولى للامتحان هي نهي الله له أن يأكل مِن الشجرة ونسيان آدم هذا النهي وأكله منها. وقد اختلف أهلُ العلم في الجنَّة التي أُمر آدم أن يَسكنها هو وزوجُه، وأكثر السَّلَف مِن هذه الأمَّة على أنها جنَّة المأوى؛ لأنَّ الصفات التي وصف الله بها هذه الجنَّة في قوله: ﴿ إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى * وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى ﴾ [طه: 118، 119] تدلُّ على أنَّها جنَّة النَّعيم، كما أنَّ الحديث الصحيح في قصَّة الشفاعة يوم القيامة أنَّ آدم يقول للذين طلبوا منه الشفاعة: ((وهل أخرجكم مِن الجنَّة إلا خطيئةُ أبيكم)). وقد ذهب بعضُ السَّلَف إلى أنَّها جنَّة في مكان عالٍ مِن الأرض، والراجح عند أهل العلم أنَّها جنَّة المأوى، فإذا قيل: إن كانت جنَّة المأوى فكيف يَخرج آدمُ منها؟ ومَن سكَن جنَّةَ المأوى لا يخرج، فالجواب هو: أنَّ مَن يسكن جنَّة المأوى ولا يخرج منها هو مَن يدخلها جزاء على عمله بعد أن يَقضي عمرَه في الدنيا؛ حتى إذا مات على دِين الأنبياء والمرسَلين وتفضَّل الله عليه بدخول الجنَّة فإنه لا يَخرج منها ولا يتحوَّل عنها؛ لأنَّها دار جزاء المتَّقين، على حدِّ قوله تعالى في سورة النحل: ﴿ وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ * جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ [النحل: 30 - 32]، أمَّا كون آدم يسكنها قبلَ أن يعمل شيئًا فهذا للامتحان والابتلاء والاختبار؛ لتكون هذه الصُّورة ماثلةً أمام أعين ذرِّيته دائمًا، ليحذروا إبليس الذي أخرجَ أبويهم مِن الجنة. أمَّا مقدار لبث آدم في الجنة: فلم يعيِّنْه اللهُ، ولم يعيِّنْه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، والقول فيه قولٌ على الله بلا علم، وقد بيَّن الله تعالى أنه أهبط آدم مِن الجنة كما قال في سورة البقرة: ﴿ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ * فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ [البقرة: 36 - 38]، وقال في سورة الأعراف: ﴿ قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ * قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ ﴾ [الأعراف: 24، 25]، وقال في سورة طه: ﴿ قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى ﴾ [طه: 123، 124]. أمَّا عدَد أبناء آدم عليه السلام: فلم يصحَّ فيهم أيضًا خبرٌ عن الله أو عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعض الناس يقول: إنَّ حوَّاء ولدت لآدم أربعين ولدًا في عشرين بطنًا، وبعضهم يقول: ولدت حواء مائة وعشرين بطنًا، في كلِّ بطن ذكر وأنثى، وقال ابن كثير في تاريخه: وقد ذكر أهلُ التاريخ أنَّ آدم لم يَمُت حتى رأى من ذرِّيَّته من أولاده وأولاد أولاده أربع مائة ألف نسمة؛ اهـ، والعلم في ذلك كله عند الله عز وجل. أمَّا دعوى أنَّ آدم سمَّى ولدًا له عبدالحارث وأنه المشار إليه في قوله تعالى في سورة الأعراف: ﴿ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ * فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ * أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ ﴾ [الأعراف: 189 - 191]، وهذا قول على آدم بغير دليلٍ صحيح، وتأويل للآية على غير وجهِها، فأمَّا ما رواه أحمد والترمذي وابن جرير وابن أبي حاتم مِن طريق عبدالصمد بن عبدالوارث، عن عمر بن إبراهيم، عن قتادة، عن الحسن البصري، عن سمرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لمَّا ولدتْ حوَّاء طاف بها إبليسُ، وكان لا يعيش لها ولد فقال: سميه عبدَالحارث فإنه يَعيش، فسمَّتْه عبدالحارث فعاش، وكان ذلك مِن وحي الشيطان وأمره)). وقال الترمذي: حسن غريب لا نعرفه إلَّا مِن حديث عمر بن إبراهيم، ورواه بعضهم عن عبدالصمد ولم يرفعه، قال ابن كثير في تاريخه: فهذه علَّةٌ قادِحة في الحديث أنَّه رُوي موقوفًا على الصَّحابي، وهذا أشبه، والظاهر أنه تلقَّاه من الإسرائيليات، وهكذا رُوي موقوفًا عن ابن عباس، والظاهر أنَّ هذا متلقى عن كَعب الأحبار وذَويه؛ والله أعلم، وقد فسَّر الحسنُ البصري هذه الآيات بخِلاف هذا، فلو كان عنده عن سمرة مرفوعًا لما عدل عنه إلى غيره؛ اهـ. وهذا تفسيرٌ عجيب لهذه الآيات، كيف يكون أول شِرك في الأرض مِن آدم وزوجه، والمعروف أنَّ الشِّرك الأصغر أكبر مِن الزِّنا والقتل وشرب الخمر والسرقة، كما أنَّ المعروف أنَّه لم يقع شِركٌ في الأرض إلَّا في أمَّة نوح عليه السلام، ولا شك أنَّ المراد بقوله: ﴿ خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ﴾ هو آدم، وأن قوله: ﴿ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا ﴾، يعني: حواء، أمَّا قوله: ﴿ فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا ﴾؛ إلى آخر الآيات، فهو انتِقال بعد ذِكر آدم وزوجته، واستطراد إلى ذِكر الجِنس والذرِّيَّة، فإنَّ من الأساليب البلاغية أنه قد يذكر الشيء ثم يستطرد إلى ذكر جنسه؛ على حدِّ قوله تعالى: ﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ﴾ [المؤمنون: 12، 13]، فالمخلوق من الطِّين آدم، والمخلوق مِن النطفة بنوه وذرِّيته، وكذلك قوله تعالى: ﴿ وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ ﴾ [الملك: 5]؛ فالمعلوم أنَّ رجوم الشياطين ليست هي أعيان مصابيح السَّماء، ولكنَّه استِطراد من شخصها إلى جنسها؛ فآدم عليه السلام يحميه الله مِن الشِّرك الأصغر ومن الشِّرك الأكبر. وإلى فصلٍ قادم إن شاء الله، والسَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
عمر بن عبدالعزيز في كتابه الماتع ( الدولة الأموية )، يقدم لنا د. يوسف العش رؤية تاريخية وتحليلية لعصر الخليفة الراشد عمر بن عبدالعزيز، ورغم ما كُتب عنه في القديم والحديث، فإن هذه الرؤية اتسمت بالعمق الخالي من المحاباة لشخصية فذة مثل شخصية عمر رضي الله عنه، والتي تؤثرك وتشدك رغمًا عنك، فهذا الرجل أحب الإسلام من شغاف قلبه؛ فأحبه أهل الإسلام قاطبة في كل عصر ومصر، فرضيَ الله عن كل من زاد الإسلام عزًّا إلى عزه وعدلًا إلى عدله، أولئك مصابيح الهدى ومنارات الدجى. • اتجه التيار في الدولة الأموية في عهد الوليد وسليمان نحو التدين والأخذ بمظاهر الإسلام، لكن هذا السير لم يكن سريعًا، وإن كان في تقدم مستمر. • كان سليمان يعرف عمرَ معرفة جيدة، ولم يكن لابنه عند اقتراب أجله مجالٌ في أن يتولى الخلافة بعده؛ فقد كان بعيدًا في الحرب في القسطنطينية، فأشار عليه رجاء بن حيوة – ذلك العالم التقي النير - أن يودِّع دنياه بعمل صالح؛ وهو أن يولي المسلمين عمر بن عبدالعزيز. • استحسن سليمان هذه الفكرة وأحسن تطبيقها، فولَّاه العهد، وأرضى بني أمية بولاية العهد من بعده إلى يزيد بن عبدالملك، وكان بنو أمية حريصين على أن تبقى الخلافة في أولاد عبدالملك، فأبقاها وأرضاهم بذلك. • كان عصر عمر بن عبدالعزيز عصرًا رائعًا من عصور الإسلام، تتجلى فيه مظاهر العدل والحكمة، والتقى والفهم، والإدراك وحسن السياسة، وكان ناجحًا سياسيًّا، لا يلقى معارضة، بل تسير الأمور معه، كما تسير المياه في النهر الجاري، مع أن ما عمله من إصلاح يكاد يكون قلبًا للدولة الأموية، نرى عصرًا هادئًا ساكنًا خاليًا من المعارضة، مع كثرة الجديد الذي فيه. • ولنقارن بين عمر بن عبدالعزيز وعبدالملك بن مروان؛ فقد كان عبدالملك طموحًا غاية الطموح، يريد أن يتفوق كل التفوق أينما كان، وعمر بن عبدالعزيز يشابهه في هذا، لكن على وجه آخر، يُذكر عن عبدالملك – إن صح ذلك - أنه لما بلغه خبر انتقال الخلافة إليه، ودَّع المصحف الذي كان بين يديه لينطلق إلى الحكم، أما عمر فحين أتته الخلافة ازداد دينًا وتقى، بل بلغ منه التقى ما لم يكن يُظَنُّ فيه قبل الخلافة، وسيرته حين الخلافة هي سيرة الطهر الخالص الرَّقراق، أما قبل الخلافة فقد كان رجلًا صالحًا. • كان أول أعمال عمر أنه ردَّ إلى بيت المسلمين الأموالَ التي منحه إياها الخلفاء السابقون من بيت مال المسلمين، وجعل زوجته - وهي بنت عبدالملك - ترد حُلِيَّها، على أنه لم يتعدَّ في الحكمة والتروي؛ فقد كان يعرف طبيعة الناس، فلم يسترد منهم ما أخذوه من بيت مال المسلمين، على أنه بضرب المثل بنفسه استطاع أن يوقف البذخ في العطاء الذي اعتادوا عليه. • حاول إصلاح أخطاء بني أمية والتي تتمثل في: 1- ساروا على طريقة الحجاج في الانتقام من أعدائهم، وعدم التسامح معهم، فألَّبوا عليهم الأعداء من علويين وخوارج وموالٍ وعلماء. 2- استعملوا بيت المال لإرضاء رغباتهم يعطون منه من يشاؤون، ويمنعون من يشاؤون، فيدخل في المنع والعطاء مَيل الخليفة ورغبته ونقمته وعدم رضاه، فيزداد الأعداء الناقمون، ويزداد الطمع والشَّره من الأصدقاء، وكان البذخ في عهد بني أمية أمرًا عاديًّا. • طالب عمر بن عبدالعزيز بني أمية بالمظالم، والمظالم هي الأموال أو الأملاك التي وضعوا أيديهم عليها بغير حق، وقطع عن بني أمية كل عطاء لا يستحقونه من بيت المال، وسوَّى بين الناس في العطاء، بل أشرك في ديوان العطاء غير العرب من الذين دخلوا الإسلام وساروا للجهاد. واستعاد عمر الفاتحين في آسيا الصغرى إلى الثغور، فقد كان يعد الفتح في بلاد الروم بلاء على المسلمين، ويعد الغاية منه إظهار البطولة دون فائدة كبيرة، والحصول على الغنائم والأسرى مقابل هدر كبير لدماء المسلمين، وهو كان يشفق على المسلمين، ولعله كان في ذهنه أن يرتب للفتح ترتيبًا آخر. أيًّا كان فقد استفاد من توقف الفتوح في هذه المنطقة، فبادل الأسرى، وكان يعطي مقابل الأسير المسلم عشرة من أسرى الروم، وطبيعي أن الأسرى من الروم كان عددهم أكبر بكثير من عدد أسرى المسلمين، والذي يهم عمر أن يعود أسرى المسلمين إلى ديارهم. • وكان شفوقًا رحيمًا يعطف على الضعفاء والمنكوبين، ويهمه أمر المسجونين، فأصلح السجون، وفرق بين سجون الرجال والنساء، وأجرى الجراية على المسجونين في أكلهم وما يحتاجون إليه، وأمر بألَّا يُقيَّد مسجون في السجن، وألَّا يُقتل إنسان بحدٍّ أو تُقطع يداه ما لم يوافق الخليفة على ذلك، وكان عمَّال بني أمية يطبقون الحدود من عندهم فضيَّق بذلك حريتهم. • وعمل الخانات في أقاصي بلاد الإسلام، يأوي إليها المسافرون يومًا أو يومين، يرتاحون من عناء السفر، ويجدون غايتهم فيها. • وتصدى لإصلاح خطأ بني أمية في عداوتهم لمن عاداهم، وأول ما فعل أنه قطع السب عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، وتألَّف قلوب الخوارج، وأسكتهم طوال عصره، فلم يخرجوا عليه، وأرسلوا إليه وفدًا فناظرهم وأقنعهم في أكثر النقاط، فسلَّموا له بأنه عادل. • ونظر في الموالي، فعاملهم كما يقتضي الإسلام، لا يهتم أبدًا بالدخل الذي يأتي من التشدد عليهم وإكراههم على العمل، وحطَّ عنهم الضرائب التي كانوا يدفعونها؛ من ضرائب النيروز (هدايا تعطى في أول العام)، ومن ضرائب الأيين (وهي تشبه ضرائب الجمارك)، وغير ذلك من الضرائب التي كان يأخذها الولاة، فيستفيدون منها في ولايتهم، ولا تصل إلى بيت المال. • وكان ينظر في كل شكاية ترد إليه، فقد فتح بابه للمظالم، ولم يكتفِ بما فعله عبدالملك بن مروان الذي أقام قاضيًا للمظالم، بل قعد عمر بنفسه للمظالم، وبلغه بقعوده أشياء كثيرة فأصلحها، سواء منها ما كان للأفراد أو الجماعات. • مثال ما أصلح بشأن الجماعات أن البربر أسلموا في عصر بني أمية، وكانت بناتهم مسترقة قبل الإسلام، وبقِينَ في الرِّقِّ بعده، فتظلَّموا إليه، فأمر أن تُعاد إلى أهلهن البنات اللواتي لم يتزوجن، أو اللواتي لا يريد أسيادهن زواجَهن. • وأعطى لكل مسلم عربيًّا كان أو غير عربي الحريةَ في التنقل، يذهب أنى شاء، وكان الحَجَّاج قد فرض على الموالي ألَّا يغادروا قراهم. • وتظلَّم إليه أهل سمرقند، فقالوا: إن مدينتهم لم تفتح فتحًا، وإنه ليس للمسلمين حق فيها، فأرسل إلى واليه ليقيم قاضيًا ينظر في دعواهم، فوجد القاضي أن الحق مع أهل سمرقند، فكتب إلى الخليفة بذلك، وأشار عليه بأن العدل هو أن يخرج المسلمون من سمرقند، فأمر بأن يخرج المسلمون منها، لكن وجد أهل سمرقند أنه من الأفضل لهم أن يبقى المسلمون فيها. ففي خلافة أمير المؤمنين عمر بن عبدالعزيز رحمه الله، كان قتيبة بن مسلم الباهلي قد فتح الله على يديه مدينة سمرقند، افتتحها بدون أن يدعو أهلها للإسلام أو الجزية، ثم يمهلهم ثلاثًا كعادة شرع المسلمين، ثم يبدأ القتال. فلما علم أهل سمرقند بأن هذا الأمر مخالف للإسلام كتب كهنتها رسالة إلى سلطان المسلمين في ذلك الوقت؛ وهو عمر بن عبدالعزيز عليه رحمة الله، أرسلوا بهذه الرسالة أحدَ أهل سمرقند؛ يقول هذا الرسول: "أخذت أتنقل من بلد إلى بلد أشهرًا حتى وصلت إلى دمشق دار الخلافة، فلما وصلت أخذت أتنقل في أحيائها، وأحدِّث نفسي بأن أسأل عن دار السلطان، فأخذت على نفسي إن نطقت باسم السلطان أن أؤخذ أخذًا، فلما رأيت أعظم بناء في المدينة، دخلت إليه وإذا أناسٌ يدخلون ويخرجون، ويركعون ويسجدون، فقلت لأحدهم: أهذه دار الوالي؟ قال: لا، بل هذا هو المسجد. قال: صليت؟ قال: قلت: وما صليت؟ قال: وما دينك؟ قال: على دين أهل سمرقند، فجعل يحدثني عن الإسلام حتى اعتنقته وشهدت بالشهادتين، ثم قلت له: أنا رجل غريب أريد السلطان، دلني عليه، يرحمك الله؟ قال: أتعني أمير المؤمنين؟ قلت: نعم. قال: اسلك ذلك الطريق حتى تصل إلى تلك الدار، وأشار إلى دار من طين. فقلت: أتهزأ بي؟ قال: لا، ولكن اسلك هذا الطريق، فتلك دار أمير المؤمنين إن كنت تريده. قال: فذهبت واقتربت، وإذا برجل يأخذ طينًا ويسد به ثلمة في الدار، وامرأة تناوله الطين، قال: فرجعت إلى الذي دلني، وقلت: أسألك عن دار أمير المؤمنين وتدلني على طيَّان، فقال: هو ذاك أمير المؤمنين . قال: فطرقت الباب، وذهبت المرأة، وخرج الرجل فسلم عليَّ، ورحَّب بي وغسل يديه، وقال: ما تريد؟ قلت: هذه رسالة من كهنة سمرقند فقرأها ثم قلبها فكتب على ظهرها: "من عبدالله عمر بن عبدالعزيز إلى عامله في سمرقند أن انصب قاضيًا ينظر فيما ذكروا"، ثم ختمها وناولنيها. فانطلقت أقول: فلولا أني خشيت أن يكذبني أهل سمرقند لألقيتها في الطريق، ماذا تفعل هذه الورقة، وهذه الكلمات في إخراج هذه الجيوش العَرَمْرَم، وذلك القائد الذي دوَّخ شرق الأرض برمتها؟ قال: وعُدتُ بفضل الله مسلمًا، كلما دخلت بلدًا صليت بمسجده وأكرمني أهله، فلما وصلت إلى سمرقند وقرأ الكهنة الرسالة، فأظلمت عليهم الأرض، وضاقت عليهم بما رحبت، وذهبوا بها إلى عامل عمرَ على سمرقند، فنصب لهم القاضي (جميع بن حاضر الباجي)؛ لينظر في شكواهم، ثم اجتمعوا في يوم، وسألناه دعوانا فقلنا: اجتاحنا قتيبة، ولم يدعُنا إلى الإسلام ويمهلنا لننظر في أمرنا. فقال القاضي لخليفة قتيبة وقد مات قتيبة رحمه الله: أنت ما تقول؟ قال: لقد كانت أرضهم خصبة وواسعة، فخشِيَ قتيبة إن أذِنهم وأمهلهم أن يتحصنوا عليه، قال القاضي: لقد خرجنا مجاهدين في سبيل الله، وما خرجنا فاتحين للأرض أشَرًا وبَطَرًا، ثم قضى القاضي بإخراج المسلمين على أن يؤذنهم القائد بعد ذلك وفقًا للمبادئ الإسلامية. ما ظن أهل سمرقند أن تلك الكلمات ستفعل فعلها؛ فما غربت شمس ذلك اليوم ورجل من الجيش الإسلامي في أرض سمرقند، خرج الجيش كله ودعوهم إلى الإسلام أو الجزية أو القتال، فلما رأى أهل سمرقند ما لا مثيل له في تاريخ البشرية من عدالة تنفذها الدولة على جيشها وقائدها، قالوا: هذه أمة حكمها رحمة ونعمة، فدخل أغلبهم في دين الله، وفُرضت الجزية على الباقين. • وشكا إليه النصارى في دمشق من أن الوليد بن عبدالملك قد نقض كنيستهم، وأقام على أنقاضها الجامع الأموي، مع أنها سُجِّلت من حقهم حين فتح دمشق، فأجابهم إلى مطلبهم، وقال: ننقض جامعنا ونعيد كنيستهم، غير أنه ألفى أن المسلمين تركوا للنصارى كنيسة (توما) في الجهة الشرقية من دمشق، مع أنها من حق المسلمين حين الفتح، فعزم على أن تُنقض، وأن يبنيَ مكانها جامعًا، وانتهى الأمر بأن قبِل النصارى بأن يبقى المسجد الجامع في مكانه، وأن تبقى لهم كنيستهم في مكانها. • أما مع العلويين، فقد رد عليهم مظالمهم دون أن ينتظر شكوى منهم، وكان في يديه أرض فَدَك التي كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وطلبتها منه ابنته فاطمة فلم يعطِها إياها، وجاء أبو بكر فطلبتها فلم يشأ أن يغير أمرًا قضاه الرسول؛ لأن الأنبياء لا تورث، وكذلك فعل عمر، ثم انتقلت إلى مروان، فصار يتصرف فيها، وانتقل حق التصرف فيها إلى عمر بن عبدالعزيز، فأعادها على النحو التي كانت فيه على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم؛ بمعنى أنه صار يوزع غلتها على بني هاشم. • وتظلَّم إليه أهل نجران، وكانوا أصلًا من اليمن، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم قد وضع عليهم جزية ألفي حُلَّة؛ ليحتفظوا بدينهم النصراني، وتعهدوا مقابل ذلك ألَّا يتعاملوا بالربا، ولما تعاملوا به أخرجهم عمر بن الخطاب من اليمن، ونقلهم إلى النجرانية بأطراف الكوفة، وخفَّ عددهم مع الزمن، وقسا عليهم الحجاج بصفة خاصة، فبعد أن كان الخلفاء قد أعفوهم من قسم من الجزية لنقصان عددهم، زاد عليهم الحَجَّاج الضريبة، ولما تظلموا إلى عمر بن عبدالعزيز أنقص الضريبة عنهم بمقدار نقصان عددهم. وهكذا ساد العدل في عهد عمر بن عبدالعزيز، وأخذ كل ذي حق حقه، فرحمه الله عليه رحمة واسعة، وجزاه عن الإسلام والمسلمين خيرًا.
موصل الطلاب إلى قواعد الإعراب للشيخ خالد الأزهري صدر حديثًا في طبعة جديدة كتاب " موصل الطلاب إلى قواعد الإعراب "، تأليف : العلامة النحوي الشيخ " خالد بن عبدالله الأزهري " (838 - 905 هـ)، اعتنى به: " علاء الدين عطية "، قدَّمَ له: د. " أيمن الشوَّا "، نشر " دار الفيحاء للنشر والتوزيع ". وهذه الطبعة تمتاز بأنها طبعة جديدة مشجرة بالجداول الشارحة للتيسير على طلاب علم النحو، ومقابلة على عدة نسخ خطية للكتاب، إلى جانب إلحاق "منظومة الزواوي في نظم "قواعد الإعراب لابن هشام"" للعلامة زيان بن فائد الزواوي (796 - 857 هـ)، وهي أرجوزة وضعها "زيان الزواوي" في اثنين وستّين ومئة بيتًا، يبسط بها متن كتاب "الإعراب عن قَوَاعِدِ الْإِعْرَابِ" للإمام العلامة أبي محمد عبد الله بن يوسف بن هشام الأنصاري (ت 741 هـ). وكتاب " مُوْصِلُ الطُّلابِ إِلى قَوَاعِدِ الإعْرَابِ " تأليفُ العلَّامة الشَّيخ " خَالِد بْنِ عَبْدِ الله الأزْهَرِيِّ " شرحَ به كتاب ابن هشام الأنصاري "الإعراب عن قَوَاعِدِ الْإِعْرَابِ"، وهو كتاب ذو منهج فريد لم يسبق إليه في التأليف النحوي، فموضوعاته هي الجملة بأحكامها، وشبه الجملة، وبيان معاني واستعمالات طائفة من الكلمات التي يكثر شيوعها في الكلام، وإيضاح أسباب أولية في الإعراب يحتاج إليها المبتدئون، وهذا الكتاب كان النواة الأولى لأعظم إنتاج علمي نحوي لابن هشام وهو كتاب "مغني اللبيب عن كتب الأعاريب" كما صرح بذلك في مقدمته. وبذلك نجد أن كتاب " الإعراب عن قواعد الإعراب " كتاب وجيز، لكنه جمع خلاصة وافية دقيقة لطائفة من مسائل النحو تشتد إليها حاجة طلاب العربية ولا توجد في صورتها هذه بكتاب آخر. ونتيجة لاختصار أبواب كتاب " الإعراب " لابن هشام وإيجازه، عمد الشيخ " خالد الأزهري " إلى بسطه، وشرح أبوابه، وضرب الأمثلة عليه، لجملة طلاب اللغة العربية. وكانت سائر طبعات الكتاب القديمة طبعات حجرية بها سقط وتصحيف، لذا كانت الحاجة لإعادة طبع الكتاب طبعة عصرية حديثة خالية من مشاكل الطبعات السابقة، مع التقدمة للكتاب ببيان موضوعه، وأهميته العلمية، ومنهج العمل في التحقيق، وترجمة صاحب المتن والشارح. والشارح هو أبو الوليد زين الدين خالد بن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن أحمد الجرجاوي الأزهري (838هـ/1434م - 905هـ/1499م)، يُعرَف بالوقاد. هو نحويٌ مصري من جرجا، عاش في القرن التاسع الهجري، درَّس في الأزهر الشريف بالقاهرة، وكان متخصصًا في علوم المنطق والبلاغة والنحو. يَعُدُّه مؤرِّخو النحو العربي من نحاة المدرسة المصرية الشامية. ولِدَ "خالد الأزهري" في مدينة جرجا بالصعيد، وانتقل بصحبة والده إلى القاهرة وهو لا يزال طفلًا، وفي القاهرة حفظ القرآن ونشأ في الأزهر، وعمل هناك وقَّادًا. بدأ الأزهري دراسته بعد أن أسقط فتيلةً من النار على كراسة أحد طلاب الأزهر، فشتمه الطالب وعيَّره بالجهل، فتأثَّر من ذلك وقرَّر أن يترك الوقادة ويشتغل بالعلم بعد أن بلغ من العمر ستًا وثلاثين سنة. أخذ علوم البيان والبديع والنحو والعربية والمنطق عن شمس الدين السخاوي وأبي العباس الشمني، غير أنَّه اهتمَّ بعلم النحو أكثر من غيره، وبعد تبحُّرِه بعلوم اللغة بدأ بتدريس الطلاب العربية، واشتهر من تلامذته ابن الحاجب النحوي. ذاع صيته بعد ذلك وأصبح من أهمِّ علماء عصره، وألَّف عددًا من الكتب في النحو، وتميزت مؤلفاته النحوية بالعناية الفائقة بالخلاف النحوي، وكان يكثر من ترديد آراء ابن هشام الأنصاري، وهذا لم يمنعه من تخطئته في كثير من الأحيان، ويلاحظ على مؤلفاته أنَها لم تتضمن آراء جديدة، فهو قلما يجتهد من عنده، وجهده الأعظم ينصب في تنظيم المسائل الخلافية في النحو وعرضها بصورة متقنة وذكر حجة وتعليل كل المتخالفين بوضوح لم يسبقه أحد. تُوفِّي خالد الأزهري أثناء عودته من رحلة الحج في اليوم الرابع عشر من شهر محرم سنة 905هـ، وعمره آنذاك سبعة وستون عامًا. تنسب إليه المؤلفات التالية: • "الألغاز النحوية" (مطبوع، فرغ من تأليفه يوم عرفة سنة 896). • "التصريح بمضمون التوضيح". • "تمرين الطلاب في صناعة الإعراب" (فرغ من تأليفه سنة 886، يُسَمَى أيضًا "التركيب" و"إعراب ألفية ابن مالك"). • "الزبدة في شرح البردة". • "شرح الآجرومية". • "المقدمة الأزهرية في علم العربية". • "شرح المقدمة الأزهرية في علم العربية". • "موصل الطلاب إلى قواعد الإعراب". • "إعراب الآجرومية". • "إعراب الكافية". • "تفسير آية: لا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ". • "الحواشي الأزهرية في حل ألفاظ المقدمة الجزرية" (في التجويد، فرغ من تأليفها سنة 867 هـ). • "القول السامي على كلام عبد الرحمن الجامي" (تعليق على كتاب "الفوائد الضيائية" لعبد الرحمن الجامي). • "مختصر الزبدة في شرح البردة".
من منطلقات العلاقات الشرق والغرب (التحفظ ) هناك جملة من الكتَّاب العرب يتحفظون على فكرة الحوار مع الآخر ممن يختلفون عنا في الدين، بل إن أحد المؤلفين قد وصل به الرأي إلى تحريم التعامل مع فئة أولئك القوم، لا سيما المستشرقين منهم [1] ،ويرى المؤلف أن التعاون معهم إنما هم من باب الموالاة لهم،ويورد نصوصًا شرعية تؤيد ما ذهب إليه في رأيه،ويظهر هذا على سبيل المثال في الطبعة الثانية من كتاب رؤية إسلامية للاستشراق للأستاذ الدكتور أحمد عبدالحميد غراب [2] . هل الحوار مع الآخر يعني بالضرورة التعاون معه؟ وهل التعاون على الأمور المشتركة مما يدخل في المحظور؟ وهل التعاون المطلوب معه يعني بالضرورة موالاته؟ يبدو أن مسألة الولاء والبراء في هذا الرأي غير واضحة ولا تنطلق من رؤية علمية بقدر ما تنطلق من موقف آنيٍّ أو نظرة عاطفية لا تكنُّ موقفًا إيجابيًّا مع الغرب، على غرار ما دعت إليه بعض الحركات الإسلامية، ويبدو كذلك أن على أهل العلم أن يركزوا على مسألة الولاء والبراء، من حيث حدودهما ومدلولاتهما، بله مفهومهما. الحوار الذي يتحفظ عليه بعض المعنيين من المفكرين هو ذلك الحوار الذي يشعر فيه المحاور المسلم بالدونية أمام الآخر الذي يُشعِر مَن يحاورهم بأنه على قدر كبير من العلم والمعرفة والتفوق الحضاري،ومن ذلك أيضًا التحفظ على إطلاق هذا الحوار بأنه حوار الأديان، وإنما هو حوار أهل الأديان؛ لأن إطلاق حوار الأديان قد يقتضي الاعتراف الضمني بسلامتها،وهل حوار الأديان إلا حوار أهل الأديان من قبيل قوله تعالى: ﴿ وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ ﴾ [يوسف: 82]؟ هذا ما يثيره الأستاذ الدكتور حسن بن فهد الهويمل في حديثه عن الاستشراق في مجلة المنهل في عدد يعود إلى سنة 1409هـ/ 1989م حينما يركز على مشكلة عدم التكافؤ بين المتحاورين، بسبب شعور طرف منهما بالفوقية على الطرف الآخر من دون شعور الطرف الآخر بالضرورة بالدونية تجاه المحاور [3] ، الخطأ هنا ليس في الحوار ذاته، بل هو في المحاورين بفتح الواو وكسرها،والمحاور المسلم مطالب بعدم الهوان: ﴿ وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [آل عمران: 139]، والعلو هنا مربوط بالإيمان، لا العلو الموجه بالغطرسة والعرقية والجنس البشري، بل العالي هنا هو المؤمن أين يكون وكيف يكون ومتى يكون،وإذا تحقق الإيمان لدى الشخص تحقق لديه العلو الذي يفرض نفسه على الآخرين. إمام المحاورين بعلو الأديان هو سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم حينما وفدت عليه الوفود فحاورهم داخل المسجد، وكان بينهم أخذٌ وردٌّ وسؤال وجواب وحِجاج، انتهى في الأخير إلى أن يعلن بعض المحاورين إسلامهم مع بقاء بعض منهم على عنادهم - كما مر ذكره كثيرًا في هذه الوقفات - ويبقى أناس على عنادهم ومكابرتهم وتعاليهم على مر العصور،ثم إن وفود سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم قد حاورت الآخر من عظماء الأمم في ذلك الوقت في عقر دارهم من دون أن يشعر الموفَد بذرة من الدونية أمام جبابرة الأرض. تتعرض الجاليات المسلمة المتغربة في مجتمعات غير مسلمة والجاليات غير المسلمة في المجتمعات المسلمة دائمًا لنوع من أنواع الحوار وشكل من أشكال الحصول على المعلومات المباشرة من الأخلاص المخلصين في علمهم ونباهتهم وحملهم الهم، فهل يتصور أن يمتنع مسلم مسؤول عن قضية ما عن تبيان حقيقتها التي يعرفها هو، وذلك بحجة أن هناك موقفًا غير إيجابي من الحوار؟! ليس هنا ادعاء بإثارة شيء جديد، ولكنه موضوع يتجدد دائمًا، ويتطلع إلى حسم الرأي فيه شرعًا أولًا، بحيث لا يشعر المحاور المسلم بأي حرج من محاورة الآخر، والحسم قد يعني إسقاط بعض الآراء المانعة للحوار إذا لم تستند على دليل قوي، أو ربما أخطأت في استخدام النصوص دليلًا على توجهها. لقد تعرض الإسلام لحملات من التشويه على أيدي بعض المستشرقين والمنصرين والإعلاميين،وهو يتعرض لهذا في زمننا الحاضر، ولكن هذه الحملات لا تعني أن نتوقف عن الاتصال بالآخر بالتحاور معه وتبيان ما عُمِّي له عن الإسلام وعن دياناته التي ينتمي إليها [4] . موضوع الحوار يحتاج إلى مزيد من الوقفات، فقد تبين من رصد هذا الموضوع أن هناك كتابات كثيرةً من كتب ومقالات عن الحوار مع الآخر [5] ، تحتاج إلى المزيد من التحليل. [1] انظر: أحمد عبدالحميد غراب ، رؤية إسلامية للاستشراق - ط 2 - لندن: المنتدى الإسلامي، 1411هـ - ص 72 - 80. [2] انظر: أحمد عبدالحميد غراب ، رؤية إسلامية للاستشراق - المرجع السابق - ص 72 - 80. [3] انظر: حسن بن فهد الهويمل ، الفوقية الحضارية - المنهل - ع 471 (مج 50)، (رمضان وشوال 409هـ - إبريل ومايو 1989م) ، ص 277 - 292. [4] انظر: أحمد عبدالرحيم السايح ، في الغزو الفكري - الدوحة: وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، 1414هـ - ص 157 - (سلسلة: كتاب الأمة: 38). [5] انظر: ناصر الدين الأسد ، نحن والآخر: صراع وحوار - بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1997م - ص 131.
موسوعة علم الأخلاق بين النظرية والتطبيق صدر حديثًا موسوعة "علم الأخلاق بين النظرية والتطبيق"، تأصيل علم إسلامي جديد، فكرة الموسوعة والإشراف عليها: أ.د. "سعاد الحكيم" وأ.د. "هاشم محمد علي مهدي"، نشر "دار المنهاج للنشر والتوزيع". وهي موسوعة ضمت شتات الأخلاق والآداب الإسلامية في ستة عشر مجلدًا، راعي الموسوعة: أ.د. "السيد هاشم محمد علي مهدي"، ورئاسة التحرير والإشراف: أ.د. "سعاد الحكيم"، وأسرة التحرير: د. "عبد الله شرقية"، وأ. د. "بكري علاء الدين". المؤلفون: 1. أ.د. السيد هاشم محمد علي مهدي. 2. أ.د. سعاد الحكيم . 3. أ.د. علي دحروج (لبنان) 4. أ. د. وهبة الزحيلي (سورية) 5. أ.د. محمود عكام (سورية) 6. د. أحمد أبو الشباب (لبنان) 7. أ.د. عزمي السيد (الأردن) 8. د. نهى قاطرجي (لبنان) 9. أ.د. حنان قرقوتي (لبنان) 10. أ.د. محمد مرعشلي (لبنان) 11. الأستاذ فارس العلاوي (سورية) 12. د. أبو بكر عبد البر (السودان) 13. أ.د. محمد عجاج الخطيب (سورية) 14. د. محمد حلمي عبد الوهاب (مصر). ومناقشات هذه الموسوعة في مباحثها تلامس مدى صعوبة الحياة الأخلاقية في مجتمع لا يكاد يجد فيه المرء ظهيرًا على الصلاح الإنساني. لذلك فهي بعيدة عن الخطاب التنظيري المعزول عن مصادمات الواقع الإنساني، وعلى الأخذ بعين الاعتبار البيئات المتنوعة التي يتنقل فيها المرء، من بيئات قد يختار أشخاصها إلى بيئات مفروضة عليه تجمع شتات الناس. كما أن الكتاب يشارك في النقاش المقام حول الاحتكام إلى الضمير أو إلى القانون، وأيهما أصلح لانتظام المجتمع المعاصر. كما تتوجه الموسوعة إلى الإنسان بصفته إنسانًا ويثق بقدرته على الصمود الداخلي الناشب بين نوازع الخير ونوازع الشر عند مصادمات الأهواء والمصالح. وباقتداره أيضًا على الصمود في الصراع الخارجي المحتدم بين كتلة الخير وكتلة الشر في المجتمع الإنساني. كما أن كتب الموسوعة تركز على أن الفعل الأخلاقي هو مساحة تجمع الذات والآخر. وأن الآخر ليس مجرد متلق للفعل الأخلاقي، بل مشارك في صنعه، فكرًا وعملًا. التقديم العام: بقلم أ.د. "هاشم محمد علي مهدي". تحدث فيه عن أهداف الموسوعة: • الأخلاق فضاءٌ إنسانيٌّ مشتركٌ. • التفكيرُ الأخلاقيُّ في المجال الإسلامي. • انبثاقُ فكرة الموسوعة. • مسوغاتُ هذه الموسوعة وطموحاتها. • لمن تتوجّه هذه الموسوعة؛ الشرائح المستهدفة. • هيكلية الموسوعة. • أسرة الموسوعة. • توصيف الكتب. • بنية الموسوعة مكونة من محاور ستة: المحور الأول: التأسيس العلمي: 1- التقديم العام / بقلم راعي الموسوعة أ.د. السيد هاشم محمد علي مهدي. 2- الموطأ في علم مكارم الأخلاق/ بقلم أ.د. سعاد الحكيم . 3- الأخلاق والإيمان/ أ.د. علي دحروج. المحور الثاني: المحور القرآني: 4- القواعد الأخلاقية في القرآن الكريم / بقلم العلامة أ. د. وهبة الزحيلي. المحور الثالث: المحور النبوي: 5- قبسات أخلاقية من السيرة النبوية / بقلم أ.د. محمود عكام. 6- الشمائل النبوية والمعجزات المحمدية، قراءة أخلاقية/ بقلم د. أحمد أبو الشباب. المحور الرابع: محور آل البيت والصحابة: 7- رجال أهل البيت، قراءة أخلاقية / د. عزمي السيد أحمد ود. نهى قاطرجي. 8- نساء أهل البيت (زوجات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبناته وحفيدات من ذريته الطاهرة)، قراءة أخلاقية / أ.د. حنان قرقوتي. 9- العشرة المبشرون بالجنة، قراءة أخلاقية / بقلم العلامة أ.د. وهبة الزحيلي. 10- كبار الصحابة، قراءة أخلاقية / بقلم أ.د. محمد مرعشلي. 11- أربعون من الصحابيات الراشدات، قراءة أخلاقية / بقلم أ.د. حنان قرقوتي. المحور الخامس: محور التابعين: 12- أربعون عالمًا من التابعين، قراءة أخلاقية / بقلم أ. فارس أحمد العلاوي. 13- زهاد من التابعين، قراءة أخلاقية / بقلم أ. فارس أحمد العلاوي. المحور السادس: محور علماء المسلمين: 14- كبار الفقهاء وأئمة المذاهب، قراءة أخلاقية / د. أبو بكر عبد الله البر، د. نهى قاطرجي. 15- كبار المحدثين، قراءة أخلاقية / أ.د. محمد عجاج الخطيب. 16- الأخلاق العملية عند صوفية القرنين الثاني والثالث الهجريين / د. محمد حلمي عبد الوهاب.
"حارس البوابة الإعلامية" عينٌ تحرس في سبيل الله لم يخلقنا الله عز وجل عبثًا، إنما خلقنا للعبادة ولإعمار الأرض بالمنهج الذي وضعه وارتضاه لنا، فكل واحد منا مسؤول على ما استُخلف عليه، وكل واحد منا قائم على الثغر والجبهة التي هو مرابط فيها، فالحاكم مسؤول ومحاسَب على شؤون الرعية، والزوج مسؤول ومحاسب على المؤسسة الزوجية، والزوجة كذلك مسؤولة ومحاسبة عن بيتها وأسرتها، وعالم الشريعة مسؤول ومحاسب على إرشاد الناس وتعليمهم دينهم، والإعلامي مسؤول ومحاسب عما يذيعه وينشره للجماهير، فكل فرد على هذه البسيطة مسؤول عما استخدمه الله فيه، واستأمنه عليه؛ قال تعالى: ﴿ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ ﴾ [المؤمنون: 115] . نظرية حارس البوابة الإعلامية: تعد نظرية حارس البوابة من أهم نظريات الإعلام في "علم الاتصال"؛ حيث ذاع صيتها في سبعينيات القرن الماضي، وتفترض هذه النظرية وجود حارس للبوابة الإعلامية؛ أي: وجود مسؤول عن تمرير المادة الإعلامية؛ إذ تقع بيده سلطة النشر الصحفي والإذاعي والتلفزيوني، سواء كان هذا الحارس رئيسًا للتحرير، أو مسؤولًا عن الموافقة على نشر المضامين الإعلامية في الوسائل التقليدية آنفة الذكر، أو الحديثة؛ مثل وسائل التواصل الاجتماعي المتنوعة، وسواء علا منصبه أو دنا، فيعتبر هذا الإعلامي أحد أفراد حراس البوابة الإعلامية المسؤولين على ثغر النشر الإعلامي، وهو محاسب على ما يقدمه من فكر ومضامين تؤثر في عقيدة وفكر، وثقافة وسلوك الجماهير عامة. ((عينان لا تمسهما النار)). عن ابن عباس رضي الله عنهما، أن رسول صلى الله عليه وسلم قال: ((عينان لا تمسهما النار، عينٌ بكت من خشية الله، وعين باتت تحرس في سبيل الله))؛ [رواه الترمذي]، وقد جاء في معنى الحديث أن النار لا تمسُّ عينًا بكت خوفًا من الله تعالى، فعندما تتجلى للإنسان عظمة الله وقدرته على عباده، ويستحضر حاله وتقصيره في حق الله تعالى، يبكي رجاء رحمته، وخوفًا من عقابه وسخطه، فهذه العين الباكية من خشية الله موعودة بالنجاة من النار. والعين الثانية التي لا تمسها النار هي التي باتت تحرس في سبيل الله تعالى على الثغور ومواضع الاقتتال؛ حفاظًا على أرواح المسلمين وحياتهم؛ وقال العلماء: وقوله: ((لا تمسهما النار)) هذا من إطلاق لفظ الجزء وإرادة الكل، والمراد أن من بكى من خشية الله، ومن بات يحرس في سبيل الله، فإن الله تعالى يحرم جسدهما على النار. وللحديث علاقة قوية وموضوعية بنظرية حارس البوابة؛ إذ لا غرْوَ إذا قلنا: إن عين الإعلامي التي تراقب بحرص، وتتابع باهتمام، وتفند باحتراز المضامين الإعلامية، ناصبة أمامها تقوى الله، فتمرر ما هو صالح للنشر، وتمنع ما دونه؛ حفاظًا على قيم المجتمع وثوابِته ومبادئه - هي عين باتت تحرس في سبيل الله. الكليات الخمسة وعلاقتها بحارس البوابة: لقد اتفقت الأديان السماوية، وأصحاب العقول السليمة، فضلًا عن علماء الشريعة الإسلامية - على احترام الكليات الخمسة وصيانتها؛ حفاظًا على كرامة الإنسان، وضمانًا لسلامة حياته، وقد أجمع أنبياء الله تعالى ورسله من عهد سيدنا آدم عليه السلام، إلى سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، على وجوب حمايتها ورعايتها، وهذه الكليات هي: الدين، والنفس، والعقل، والنسب، والمال، وقد عُلمت رعاية الشرع لهذه الضروريات من مجموع نصوص الشريعة؛ قال الشاطبي مبينًا هذه الضروريات ووجه الاستدلال عليها: "فقد اتفقت الأمة، بل سائر الملل على أن الشريعة وُضعت للمحافظة على الضروريات الخمس". أما بالنسبة لترتيب هذه الضروريات؛ فالعلماء على خلاف فيها، فمنهم من رجح تقديم حفظ النفس على الدين، وآخرون - وهم الأكثر - رجحوا تقديم حفظ الدين على ما عداه، وهو قول الآمدي وما أطال الشاطبي في تقريره في كتابه "الموافقات"، وقال صاحب "التقرير والتحبير" ابن أمير حاج: "ويقدم عند المعارضة - أي الدين - لأنه المقصود الأعظم" ؛ قال تعالى : ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾ [الذاريات: 56]. الحراسة تحتمل الحقيقة والمجاز: ما الدين في الأصل إلا معتقدٌ؛ أي: إيمان عميق وراسخ بالله عز وجل، يتمخض عنه سلوك وأفعال؛ مثل: العبادات، والأخلاق، والمعاملات التي تضبط علاقة الفرد مع ربه ومع الناس؛ إذًا فالحفاظ على الدين هو حفاظ على الإيمان والقيم، والمبادئ والأخلاقيات، وهو مقدم على غيره من الضروريات بما فيها حفظ النفس - عند من رجح ذلك – ولو أننا حملنا الحديث على المعنى المجازي، فيصح اعتبار عين حارس البوابة الإعلامية مشمولة مع العين التي تحرس على الثغور وفي مواقع الاقتتال، وهو المعنى الحقيقي، فالعين التي ذكرها الحديث هي التي تسعى للحفاظ على أرواح الناس وأمانهم، والعين الأخرى هي التي تسعى للحفاظ على المعتقد والأفكار، والثقافة، والهوية الإسلامية والأخلاق، وهذه الركائز تندرج تحت مفهوم الدين كما تقدم الشرح. ولو أخذنا بالرأي الراجح القائل بتقديم حفظ الدين على حفظ النفس، فسنجد أن مهمة حارس البوابة الإعلامية لا تقل أهمية عن مهمة حارس الثغور في المسؤولية والأجر، بل قد تفوقها وتتقدمها لأهمية مقصد الحفاظ على الدين. حارس البوابة قائم على ثغر الدين: إن الحارس الذي يقف على بوابة حفظ دين المسلمين، ولا يسمح إلا بمرور ما يكرس للأخلاق والمبادئ السامية، والقيم العالية، ولا يرضى بتمرير المضامين الإعلامية المسفَّة والمبتذلة والتافهة؛ بغية الحصول على مكاسب دنيوية؛ مادية كانت أو معنوية - لا يقل دوره عن الحارس الذي تبيت عينه حارسة في سبيل الله، يبذل روحه رخيصة؛ ليحافظ على أرواح الناس. حارس البوابة الإعلامية لا بد أن يكون أمينًا على ما اؤتُمن عليه؛ وذلك بنشر ما ينفع الناس، ويحفظ معتقدهم وأفكارهم وثقافتهم وهوياتهم وكرامتهم من المواد الإعلامية الملوثة أو المشرئبة بأفكار غربية علمانية، لا تمتُّ لثقافتنا الإسلامية بصلة. حارس البوابة الإعلامية مستأجر عند الله، قبل أن يكون مستأجرًا في المؤسسات الإعلامية، أو عند الأفراد، ويجب أن يكون قويًّا في الحق، لا يداهن، ولا ينافق، ولا يبيع دينه أو نفسه لأجل بعض دراهم، أو سعيًا وراء "الترندات"، أو اشتهاءً في الشهرة، أو رغبةً في إرضاء الجماهير، حارس البوابة الإعلامية مسؤول على الثغر الذي يرابط عنده وفيه؛ قال تعالى : ﴿ وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ ﴾ [الصافات: 24] .
تنقيح الفصول في علم الأصول للقرافي في تحقيق جديد صدر حديثًا تحقيق جديد وكامل لكتاب "تنقيح الفصول في علم الأصول"؛ للشهاب القرافي رحمه الله (ت ٦٨٤ هـ)، بتحقيق الشيخ سعد بن عدنان الخضاري، وأصل هذا التحقيق رسالة علمية من جامعة القصيم. وقد طُبعَ هذا الكتاب ضمن مشروع إصدارات "دار أسفار" لنشر نفيس الكتب والرسائل العلمية بدولة الكويت. وهذا الكتاب من أهم كتب علم الأصول لمادته القيمة التي عززت القيمة العلمية الرفيعة للكتاب، فمصادر الكتاب أصيلة وفيرة، حوت نقولاتٍ كثيرة، بعضها في غياهب النسيان، لتعرُّض مظانِّها للفقدان: ككتاب الإفادة وكتاب الملخّص كليهما للقاضي عبد الوهاب البغدادي، وكتاب الأوسط لابن بَرْهان، وشرح البرهان للمازري، والجدل للحصكفي والإشارة للباجي.. وغيرها. وقد صار الكتابُ مَعِيْنًا ارتوتْ منه كتبٌ عديدة، وأصوليون نابهون، كالطوفي في شرح مختصر الروضة، والسبكي وابنه في الإبهاج في شرح المنهاج، والعلائي في كتبه، والإسنوي في منهاج السول، وابن جزي في تقريب الوصول، والزركشي في البحر المحيط وتشنيف المسامع، وحلولو المالكي في الضياء اللامع، وابن أمير الحاج في التقرير والتحبير، وابن النجار في شرح الكوكب المنير، وغيرهم الكثير. إلى جانب شهرة القرافي المالكي في علم الأصول، فعندما توفي القرافي رحمه الله قال فيه ابن دقيق العيد: ((مات من يُرجع إليه في علم الأصول))، ولهذا سجَّله الإمام السيوطي رحمه الله ضمن طبقة من كان بمصر من الأئمة المجتهدين، إلى جانب تفرد القرافي بتحريرات نفيسة في مسائل أصولية كثيرة نتيجة لكثرة ردوده وتعقباته وتصحيحاته على كثير من كتب علماء الأصول. واستطاع الإمام القرافي في كتابه هذا "ربط الأواخر بعلوم المجتهدين الأوائل، فكان حلقة وصل علمية بين طبقات الأصوليين"، ونجاحه متمثل في جانبين أصيلين: الأول: إعادة صياغة قواعد هذا العلم وتقديمها بما يناسب عصره. الثاني: التطبيقات العملية على الفروع والعناية الظاهرة بالأمثلة، بما يلائم جودة التعليم الأصولي، حتى صار له التأثير الواسع فيمن جاء بعده من العلماء؛ لأنه مهد لهم طرق هذا العلم وقربه وفتح لهم منه الآفاق. وقد صدرت من قبل طبعات كثيرة للكتاب كان الغرض منها نشر الكتاب وإظهاره للعيان دون دراسته دراسة علمية أو اعتناء موسع بالتحقيق، ويعد هذا الإصدار من أهم الإصدارات لنسخ الكتاب والتي راعت الموازنة بين النسخ السابقة للكتاب، وتنقيحها من الأخطاء والتحريفات والتصحيفات، مع تحقيق واعتناء بمادة الكتاب وشرح لأهم ما جاء فيه. ومؤلف الكتاب هو الإمام أحمد بن إدريس بن عبد الرحمن، أبو العباس، شهاب الدين الصنهاجي القرافي (000 - 684 هـ = 000 - 1285 م)، من علماء المالكية نسبته إلى قبيلة صنهاجة (من برابرة المغرب) وإلى القرافة (المحلة المجاورة لقبر الإمام الشافعيّ) بالقاهرة، كان حافظًا مفوَّهًا منطقيًّا، بارعًا في العلوم الشرعية والعقلية، وانتهت إليه رئاسة المالكية. وهو مصري المولد والمنشأ والوفاة. أخذ العلم عن ابن الحاجب المالكي، وشمس الدين عبد الحميد الخُسْرَوْشَاهي الشافعي، والإمام المنذري، وعز الدين بعد السلام، وابن عبد الواحد المقدسي والشريف الكركي وغيرهم الكثير. وأخذ عنه العلم جمٌ غفيرٌ من العلماء منهم: ابن بنت الأعز وابن عدلان الكِنَاني الشافعي وأبو عبد الله محمد بن عبد الله بن راشد القَفْصي وغيرهم.. وله مصنفات جليلة في الفقه والأصول، منها (أنوار البروق في أنواء الفروق) أربعة أجزاء، و(الإحكام في تمييز الفتاوي عن الأحكام وتصرف القاضي والإمام) و (الذخيرة) في فقه المالكية، ست مجلدات، و(اليواقيت في أحكام المواقيت) في الرباط و(مختصر تنقيح الفصول) و(الخصائص) في قواعد العربية، و(الأجوبة الفاخرة في الرد على الأسئلة الفاجرة) وغيرها الكثير.. إلى جانب براعته في علوم الرياضيات والفيزياء والهندسة والفلك وإجادته إياها ووضعه بعض المؤلفات في تلك العلوم؛ حيث جمع الإمام القرافي بين العلم الشرعي والعلم التجريبي. قال الطوفي في الإمام القرافي: ((الشيخ الإمام الأوحد)). وقال الحافظ الذهبي فيه: ((العالم الشهير، الأصولي... كان إمامًا في أصول الدين، وأصول الفقه، عالمًا بمذهب مالك، وبالتفسير، وعلوم أخر... وصنَّف في أصول الفقه الكتب المفيدة الكثيرة، واستفاد منه الفقهاء)). وقال عنه ابن السبكي: ((أستاذ زمانه في المنطق والعقليات بأسرها)). وقال عنه رئيس القضاة تقي الدين بن شكر: ((أجمع الشافعية والمالكية على أن أفضل أهل عصرنا بالديار المصرية ثلاثةٌ: القرافي بمصر القديمة، والشيخ ناصر الدين ابن المنيرِّ بالإسكندرية، والشيخ تقي الدين ابن دقيق العيد بالقاهرة...)).
الفروق الفقهية في المعاملات المالية المعاصرة: الحقوق المعنوية لمحمد خليل الشيخي صدر حديثًا في سلسلة "الدراسات الفقهية" دراسة بعنوان (الفروق الفقهية في المعاملات المالية المعاصرة: الحقوق المعنوية)، تأليف د. "محمد بن خليل بن محمد الشيخي"، وذلك عن دار "كنوز إشبيليا للنشر والتوزيع"، بالمملكة العربية السعودية. وأصل الكتاب أطروحة علمية تقدم بها المؤلف لنيل درجة درجة الماجستير في قسم الفقه من كلية الشريعة والدراسات الإسلامية بجامعة القصيم وذلك عام 1435 هـ/ 2015م، وأشرف على الرسالة أ.د. "سامي بن محمد الصقير". تتناول الدراسة دراسة علم الفروق في المعاملات المالية المعاصرة، ومنها الفروق في الحقوق المعنوية، ويقصد بها الكاتب: "سلطة على شيء غير مادي، هو ثمرة فكر صاحب الحق أو خياله أو نشاطه، كحق المؤلف فيما ابتدعه من أفكار علمية، وحق الفنان في مبتكراته الفنية، وحق المخترع في مخترعاته الصناعية، وهكذا من أمثلة "اللوجو" أو العلامة التجارية أو الاسم التجاري.. وما شابهها". وبذلك تتناول الدراسة البحث في وجوه الاختلاف بين الحقوق المعنوية وما يشابهها من الحقوق والمعاملات في الصورة، المختلفة في الحكم؛ لمعرفة صحتها أو فسادها، وصحة التفريق أو عدمه. فهذه الحقوق المستجدة بحاجة لمزيد من النظر الفقهي وتجلية الفروق؛ لما يكتنفها من اشتباه والتباس على كثير من الناس ممن يحتاجها لتحقيق مصالحهم. ويعد هذا الموضوع من النوازل المعاصرة لكون الحقوق المعنوية من الحقوق المستجدة التي تحتاج إلى مزيد من البحث والتحقيق الفقهي، خصوصًا فيما يتعلق بماليتها وعلاقتها بالحقوق الأخرى. كما أن دراسة الفروق في المعاملات المالية ومنها الفروق في الحقوق المعنوية تسهم في إزالة الأوهام التي أثارها بعض من اتهموا الفقه بالتناقض وخصوصًا بعد انتشار كثير من التطبيقات المعاصرة التي يتعامل الناس بها، بسبب توهم إعطائه الأمور المتماثلة أحكامًا مختلفة، وتسويته بين المختلفات. وقد اقتصر البحث على دراسة الفروق الفقهية في الحقوق المعنوية التالية: 1. حق التأليف. 2. حق براءة الاختراع. 3. حق الاسم التجاري. 4. حق العلامة التجارية. 5. حق الترخيص التجاري. 6. حق الخلو. 7. حق إصدار التأشيرات. 8. حق الاكتتاب في الأسهم. 9. حق التقدم لصندوق التنمية العقاري. 10. حق شهادة الصوامع. 11. حق فسح البناء. 12. حق منح العقار. 13. حق الاستيراد. 14. حق التخفيض. كما تناول دراسو الفروق الفقهية بين الحقوق المعنوية والحقوق الأخرى التالية: 1. الحقوق العينية. 2. حق المنفعة. 3. الدين. 4. حقوق الارتفاق. 5. الحقوق المجردة. 6. الحقوق الشخصية. 7. حقوق الامتياز. وقد قسم البحث إلى مقدمة وتمهيد وثلاثة فصول وخاتمة: المقدمة: وفيها: • مشكلة البحث. • أهمية البحث. • أهداف البحث. • حدود البحث. • الدراسات السابقة. • منهج البحث. • إجراءات البحث. • خطة البحث. التمهيد: مفهوم الفروق الفقهية في الحقوق المعنوية، وفيه ثمانية مباحث: المبحث الأول: مفهوم الفروق الفقهية، ونشأتها، وأقسامها، وأهميتها. المبحث الثاني: مفهوم الحق لغةً واصطلاحًا. المبحث الثالث: مفهوم الحقوق المعنوية، باعتباره مصطلحًا مركبًا. المبحث الرابع: أنواع الحقوق المعنوية وبيانها إجمالًا. المبحث الخامس: التكييف الفقهي للحقوق المعنوية. المبحث السادس: المقصود بالفروق الفقهية في الحقوق المعنوية. المبحث السابع: أهمية الحقوق المعنوية في الاقتصاد المعاصر. المبحث الثامن: الألفاظ ذات الصلة بمصطلح الحقوق المعنوية. الفصل الأول: الفروق الفقهية بين مالية الحقوق المعنوية ومالية الحقوق العينية. وفيه مدخل واثنا عشر مبحثًا: مدخل: وفيه التعريف بحقيقة المال في اصطلاح الفقهاء، وضوابطه، ومفهوم الحقوق العينية. المبحث الأول: الفرق بين حق التأليف وحق براءة الاختراع والحقوق العينية. وفيه أربعة مطالب: المطلب الأول: مفهوم حق التأليف. المطلب الثاني: مفهوم حق براءة الاختراع. المطلب الثالث: الفرق بين حق التأليف وحق براءة الاختراع. المطلب الرابع: الفرق بين مالية حق التأليف وحق براءة الاختراع ومالية الحقوق العينية. المبحث الثاني: الفرق بين حق الاسم التجاري وحق العلامة التجارية والحقوق العينية. وفيه أربعة مطالب: المطلب الأول: مفهوم حق الاسم التجاري. المطلب الثاني: مفهوم حق العلامة التجارية. المطلب الثالث: الفرق بين حق الاسم التجاري وحق العلامة التجارية. المطلب الرابع: الفرق بين مالية حق الاسم التجاري وحق العلامة التجارية ومالية الحقوق العينية. المبحث الثالث: الفرق بين حق الخلو والحقوق العينية. وفيه مطلبان: المطلب الأول: مفهوم حق الخلو. المطلب الثاني: الفرق بين مالية حق الخلو ومالية الحقوق العينية. المبحث الرابع: الفرق بين حق الترخيص التجاري والحقوق العينية. وفيه مطلبان: المطلب الأول: مفهوم حق الترخيص التجاري. المطلب الثاني: الفرق بين مالية حق الترخيص التجاري ومالية الحقوق العينية. المبحث الخامس: الفرق بين حق إصدار التأشيرات والحقوق العينية. وفيه مطلبان: المطلب الأول: مفهوم حق إصدار التأشيرات. المطلب الثاني: الفرق بين مالية حق إصدار التأشيرات ومالية الحقوق العينية. المبحث السادس: الفرق بين حق الاكتتاب في الاسم والحقوق العينية. وفيه مطلبان: المطلب الأول: مفهوم حق الاكتتاب في الاسم. المطلب الثاني: الفرق بين مالية حق الاكتتاب في الاسم ومالية الحقوق العينية. المبحث السابع: الفرق بين حق التقدم لصندوق التنمية العقاري والحقوق العينية وفيه مطلبان: المطلب الأول: مفهوم حق التقدم لصندوق التنمية العقاري. المطلب الثاني: الفرق بين مالية حق التقدم لصندوق التنمية العقاري ومالية الحقوق العينية. المبحث الثامن: الفرق بين حق شهادة الصوامع والحقوق العينية، وفيه مطلبان: المطلب الأول: مفهوم حق شهادة الصوامع. المطلب الثاني: الفرق بين مالية حق شهادة الصوامع ومالية الحقوق العينية. المبحث التاسع: الفرق بين حق فسح البناء والحقوق العينية، وفيه مطلبان: المطلب الأول: مفهوم حق فسح البناء. المطلب الثاني: الفرق بين مالية حق فسح البناء ومالية الحقوق العينية. المبحث العاشر: الفرق بين حق منَح العقار والحقوق العينية، وفيه مطلبان: المطلب الأول: مفهوم حق منَح العقار. المطلب الثاني: الفرق بين مالية حق منَح العقار ومالية الحقوق العينية. المبحث الحادي عشر: الفرق بين حق الاستيراد والحقوق العينية. وفيه مطلبان: المطلب الأول: مفهوم حق الاستيراد. المطلب الثاني: الفرق بين مالية حق الاستيراد ومالية الحقوق العينية. المبحث الثاني عشر: الفرق بين حق التخفيض والحقوق العينية، وفيه مطلبان: المطلب الأول: مفهوم حق التخفي. المطلب الثاني: الفرق بين مالية حق التخفي ومالية الحقوق العينية. الفصل الثاني: الفروق بين الحقوق المعنوية والحقوق العينية في الأبواب الفقهية. وفيه ثمانية مباحث: المبحث الأول: الفرق بين الحقوق المعنوية والحقوق العينية في المعاوضة. المبحث الثاني: الفرق بين الحقوق المعنوية والحقوق العينية في الإرفاق. المبحث الثالث: الفرق بين الحقوق المعنوية والحقوق العينية في الاستيثاق. المبحث الرابع: الفرق بين الحقوق المعنوية وعقود الخيار (الاختيارات). المبحث الخامس: الفرق بين الحقوق المعنوية والاحتكار. المبحث السادس: الفرق بين الحقوق المعنوية والحقوق العينية في حق الإرث. المبحث السابع: الفرق بين الحقوق المعنوية والحقوق العينية في العقوبة على التعدي. المبحث الثامن: الفرق بين التعدي على الحقوق المعنوية والاستفادة المباحة. الفصل الثالث: الفروق الفقهية بين الحقوق المعنوية وباقي الحقوق. وفيه ستة مباحث: المبحث الأول: الفرق بين الحقوق المعنوية وحق المنفعة. المبحث الثاني: الفرق بين الحقوق المعنوية وحق الدين. المبحث الثالث: الفرق بين الحقوق المعنوية وحقوق الارتفاق. المبحث الرابع: الفرق بين الحقوق المعنوية والحقوق المجردة. المبحث الخامس: الفرق بين الحقوق المعنوية والحقوق الشخصية. المبحث السادس: الفرق بين الحقوق المعنوية وحقوق الامتياز. الخاتمة: وفيها أهم النتائج والتوصيات. الفهارس: وتشتمل على: • فهرس الآيات القرآنية. • فهرس الأحاديث والآثار. • فهرس الأعلام. • قائمة المصادر والمراجع. • فهرس الموضوعات. ومن أهم نتائج الدراسة: • حق المؤلف والمخترع من أبرز الحقوق المعنوية الني تحمل قيمة مالية لأصحابها، تمكنهم من التصرف فيها بشتى أنوع التصرفات الناقلة للملك بعوض أو بغير عوض، وقد أوردت عليه مجموعة من الفروق لم تؤثر في ماليته. • اتفق المعاصرون على اعتبار الاسم التجاري والعلامة التجارية حقًا ماليًا يجوز المعاوضة عنه، ومن أبرز الفروق الواردة بين ماليته ومالية الحقوق العينية أن بيع الاسم التجاري أو العلامة التجارية مجردًا من نقل الخيرة أو اشتراطها يحمل غشًا وتدليسًا للجمهور؛ فبيع الاسم التجاري يلزم منه بيع مضمونه فيما يدل عليه من جودة وإتقان ومواصفات للسلع. • يعرف الخلو بأنه: مبلغ نقدي سوى الأجرة، قد يأخذه  مالك العقار من مستأجره، بتمكينه من استئجار العقار، وقد يأخذه المستأجر من المالك إذا رغب المالك لسبب ما في إخلاء العقار من المستأجر، وقد يأخذه المستأجر من مستأجر آخر يحل محله في شغل العقار، وقد تعارف الناس على هذا الحق ولم يرد ما يمنعه، وكذلك ما أورد عليه من الفروق لم يقوَ على منع ما جرى به العرف من التعامل به وتموله. • من الضوابط المقررة للمالية، والني يمكن من خلالها ضبط الحقوق المعنوية المالية، أن يكون الحق له قيمة في العادة، بحيث يتباذله الناس ويتمولونه، والذي يظهر أن حق الترخيص التجاري ليس كحق التأليف، أو العلامة التجارية من حيث التمول، بل إن بعض الأنظمة تمنع تموله بخلاف تلك الحقوق الني يُنظَّم تمولها؛ فيكون هذا الضابط مؤثر في ماليته، وما يتبع ذلك من المعاوضة عليه. • لا تلازم بين كون الحق حقًا معنويًا وبين كونه ماليًا؛ فقد يثبت الحق لصاحبه بشرط أن ينتفع به دون غيره؛ وما عُلِّق استحقاقه على شرط ينتفي الاستحقاق باختلال الشرط. • والملاحظ أن الحقوق المعنوية المالية حقوق مكتسبة قد بذل فيها صاحبها ما يستحق عليه المعاوضة؛ فتكون متمولة بين الناس، بخلاف غيرها من الحقوق والتي تُبذَل لمستحقيها كاختصاصات محددة تمكنهم من الانتفاع بها بشروط متفق عليها مسبقًا. • والحقوق المعنوية التي أبيح للشخص الانتفاع منها بنفسه دون غيره؛ لا يمكنه التبرع بها لغيره ما دام شرط الاختصاص به قائمًا. • كما أن الفرق بين الحقوق المعنوية والاحتكار هو التضييق على الناس؛ فالغالب في صاحب الحق المعنوي أنه يستأثر باستغلال حقه، ولا يمكن ذلك الاستغلال إلا ببذله للناس للاستفادة منه، دون أن يكون في ذلك تضييقًا عليهم، والتضييق الذي يحدده ظرف الناس ووضعهم الاقتصادي. • والفرق بين الحقوق المعنوية والعينية من حيث الإرث أن الحقوق العينية تنتقل للورثة برمتها بخلاف بعض الحقوق المعنوية؛ فجزء منها ينتقل للورثة والجزء الآخر لا يقبل التوارث، كحق التأليف والاختراع. • والفروق الواردة في العقوبات على التعدي بين الحقوق المعنوية والحقوق العينية راجعة إلى طبيعة الحقوق المعنوية؛ ومن ثم فإن العقوبة المترتبة على التعدي تكون عقوبة غير مقدرة تعزيرية راجعة إلى اجتهاد القاضي؛ وتبعًا لذلك فإنه يتعذر إقامة حد السرقة في التعدي على الحقوق المعنوية الني تكون بهذه الصورة؛ لتعذر الحرز. • والحقوق المعنوية تشبه المنافع من حيث أن كلًا منهما شيء غير مادي، ويفرق بينهما من وجوه: • الوجه الأول: المنافع مرتبطة بأعيان، تكون هذه الأعيان مملوكة لآخر، بخلاف الحقوق. • الوجه الثاني: المنافع في الغالب ملكيتها مؤقتة، بخلاف الحقوق. • الوجه الثالث: المنافع لا يمكن بيعها على سبيل التأبيد، بخلاف الحقوق؛ لأن المنافع لا يمكن انفصالها عن أصلها، أما الحقوق فيمكن فيها ذلك.
الطريق إلى يثرب والأحداث التي دارت فيه قبل الانطلاق إلى المدينة وقف النبي صلى الله عليه وسلم على الحزورة ينظر إلى مكة فقال: ((علمتُ أنك خير أرض الله، وأحب الأرض إلى الله، ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت))، وأخذ عبدالله بن أرقط بالركب طريق الساحل، وقد ذكر أصحاب السير الطريق بمنازله ومواضعه، فكان كالآتي: خرجوا من أسفل مكة، ويعنُون بذلك الجهة الجنوبية منها، ثم توجهوا إلى الساحل أسفل من عسفان، ثم أمج، ومنها إلى قديد، ثم الخرار، ثنية المرة، ثم لقفا، ثم مدلجة لقف، ثم مدلجة مجاج، ثم مرجح مجاج، ثم مرجح من ذي الغضوين، ثم من ذي كشر، ثم الجداجد، ثم الأجرد، ثم ذا سلم، ثم مدلجة تعهن، ثم على العبابيد، ثم الفاجة، ثم هبط العرج، ثم سلك ثنية العائر على يمين ركوبة، ثم بطن رئم، ثم إلى قباء، ونزل على بني عمرو بن عوف، وكان ذلك يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول حين اشتد الضحى، وكانت الشمس تعتدل. يروى عن سراقة بن مالك أنه قال: جاءنا رسلُ كفار قريش يجعلون في رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر دية كل واحد منهما لمن قتله أو أسره - والمعروف عند العرب أن دية القتيل مائة ناقة - وقد منَّى سراقة نفسه بهذه الجائزة؛ فقد كان أحد شياطين الصحراء ومن ذوي البأس والشدة، قال: وبينما هو جالس في نادي قومه من بني مدلج إذ أقبل رجل منهم فقال: يا سراقة، إني رأيت آنفًا أسودة بالساحل، أراها محمدًا وأصحابه، قال سراقة: فعرفت أنهم هم، فقلت له: إنهم ليسوا مَن قصدت، ولكنك رأيت فلانًا وفلانًا انطلقوا بأعيننا، قال: ثم لبثت في المجلس ساعة ثم قمت فدخلت منزلي وقلت لجاريتي أن تخرج بفرسي وهي من وراء أكمة فتحبسها حتى حضوري، ثم أخذت رمحي وخرجت من طرف البيت، فأتيت فرسي ولحقت بالركب حتى دنوت منهم، فعثرت بي فرسي فخررت عنها، فقمت فأهويت يدي إلى كنانتي فأخرجت الأزلام فاستقسمت بها أضرهم أم لا، فخرج الذي أكره، فركبت فرسي وعصيت الأزلام فجعل فرسي يقرب بي حتى سمعت قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو لا يلتفت وأبو بكر يكثر الالتفات ساخت يدا فرسي في الأرض حتى بلغتا الركبتين، فخررت عنها فأهويت، ثم زجرتها فنهضت فلم تكد تخرج يديها، فلما استوت قائمة إذا لأثر يديها غبار ساطع في السماء مثل الدخان، ثم استقسم بالأزلام فخرج الذي يكره، وهنا شعر بضعفه وأن هناك قوة عليا تحميهما؛ لذلك لجأ إلى المهادنة، فناداهما بالأمان، فوقفوا، قال: فركبت فرسي حتى جئتهم ووقع في نفسه أن أمر محمد صلى الله عليه وسلم سيظهر، فأخبره أن قريشًا وضعت مالًا لمن يقبض عليهما، ثم عرض عليهم الزاد فلم يأخذوا منه شيئًا، وقالا: أخفِ عنا، ثم سأل النبي صلى الله عليه وسلم أن يكتب له كتاب أمان، فكتب له عامر بن فهيرة في رقعة من أدم، ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وورد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لقي الزبير في ركب من المسلمين كانوا تجارًا قافلين من الشام، فكسى الزبيرُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر ثياب بياض، وقيل: الذي كساهما طلحة بن عبيدالله، وقيل: عثمان، لما ورد أن طلحة وعثمان هاجرا فيمن هاجر إلى المدينة ثم توجها إلى الشام في تجارة وكانت عودتهما يوم هاجر النبي صلى الله عليه وسلم. وأخبر أبو بكر البراء بن عازب عن مسير رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: أخذ علينا بالرصد، فخرجنا ليلًا فأحثثنا ليلتنا ويومنا حتى قام قائم الظهيرة، ثم رفعت لنا صخرة فأتيناها ولها شيء من ظل، قال: ففرشت لرسول الله صلى الله عليه وسلم فروة معي، ثم اضطجع عليها النبي صلى الله عليه وسلم، فانطلقت أنفض ما حوله، فإذا أنا براعٍ قد أقبل في غنمه يريد مِن الصخرة مثل الذي أردناه، فسألته: لمن أنت يا غلام؟ فقال: أنا لفلان، فقلت له: هل في غنمك من لبن؟ قال: نعم، فقلت له: هل أنت حالب؟ قال: نعم، فأخذ شاة من غنمه، فقلت له: انفضِ الضرع، قال: فحلب كثبة من لبن ومعي إداوة من ماء عليها خرقة قد روَّأتها لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فصببت على اللبن حتى برد أسفله، ثم أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: اشرب يا رسول الله، فشرب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى رضيت، ثم ارتحلنا والطلب في أثرنا. وسمع المسلمون بالمدينة بمخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة، فكانوا يغدون كل غداة إلى الحرة ينتظرونه ما يردهم إلا حر الظهيرة.
الأرناؤوطيان شعيب وعبد القادر يُطلق الأتراك لقب ( الأرناؤوط ) على كلِّ مهاجر من بلاد البلقان ( يوغسلافيا وألبانيا ) إلى تركيا، وكثيرٌ من هؤلاء انتقلوا بعد نزولهم بتركيا أو مرورهم بها، إلى بلاد الشام. ومن أشهرهم الشيخان الجليلان أبو أسامة ( شعيب الأرنؤوط ) وأبو محمود ( عبد القادر الأرناؤوط ) رحمهما الله تعالى، فهما علَمان لامعان من أعلام التحقيق في عصرنا، ومحدِّثان بارزان من علماء السنَّة الشريفة. اشتركا في تحقيق غير قليل من كتب الحديث والفقه والتفسير، واقترن اسمُ كلٍّ منهما بالآخَر حتى توهَّم كثيرٌ من طلاب العلم والعامَّة أنهما أخوان شقيقان، أو ابنا عمٍّ لَحًّا!. وليس الأمرُ كذلك، فإن كلًّا منهما من بلد؛ الشيخ شعيب من دولة ألبانيا، والشيخ عبد القادر من دولة كوسوفا، لكنَّهما لِدانِ وأخَوانِ في الله، وزميلا دراسة وطلب، ورفيقا عمل ودعوة. فكان مولدهما في السنة نفسها عام 1928م، ونشأا وترعرعا معًا في دمشق، وترافقا في طلب العلم في حَلْقة العالم المربِّي الشيخ صالح الفُرفور رحمه الله، ثم تزاملا سنواتٍ في التحقيق في المكتب الإسلامي بدمشق لشيخنا العالم المجاهد زهير الشاويش رحمه الله، وبقيت الصلةُ وثيقةً بينهما إلى وفاتَيهما، رحمهما الله وجزاهما عن سنَّة رسوله خيرَ الجزاء. هذا، وقد سمعتُ شيخنا الفقيه المحدِّث الدكتور محمد بن لطفي الصبَّاغ رحمه الله، في مجلس بداره، ليلة 21 من رمضان 1434هـ يقول: (أشهد شهادةً لله أن للشيخ زهيرٍ الشاويش فضلًا كبيرًا على الشيخين شعيبٍ وعبد القادر، فقد شجَّعَهما وأعانهما، ومهَّد لهما السُّبل ليغدُوا عالمَين كبيرين، ومحقِّقَین حاذقين. وشعيبٌ صَعبٌ شَموس، وعبدُ القادر هيِّن ليِّن. رحمهم الله جميعًا). ثم ذكر مرَّة أُخرى الشيخ شعيبًا قبيل وفاته فقال: (لا أعرفُ اليوم أحدًا أعلمَ بالسنَّة منه). ♦   ♦   ♦ شذَرات أرناؤوطية 1- وُلد شيخنا شعيبٌ الأرنؤوط في مدينة دمشق، سنة 1346هـ/ 1928م، حيث استقرَّت أسرتُه بعد هجرتهم من ألبانيا عام 1926م، وفيها نشأ، ثم انتقل إلى عمَّان وقضى فيها العقودَ الأخيرة من عمره، إلى وفاته يوم الخميس 26 من المحرَّم 1438هـ (27/ 10/ 2016م). في حين وُلد شيخنا عبد القادر الأرناؤوط في قرية (فريلا/ فريلة vrela) من إقليم كوسوفا ( قُصُوة )، سنة 1347هـ/ 1928م. هاجرَ مع أهله إلى الشام وهو ابنُ ثلاث سنين، واستقرَّ بدمشقَ حتى وفاته يوم الجمعة 14 شوَّال 1425هـ (26/ 11/ 2004م). واسمه الحقيقي: قَدْري بن صُوقَل ( سُوكُول ) بن عَبْدول بن سِنان بْلاكاي ( بْلاكِيتْش )، الشهير بعبد القادر الأرناؤوط. 2- درَجَ شیخنا شعيبٌ على كتابة لقبه ( الأرنؤوط ) بلا ألف، ودرَجَ شيخنا عبد القادر على كتابته ( الأرناؤوط ) بالألف، وقد أثبتُّ لقب كلٍّ منهما على مذهبه وطريقته. 3- من مشاهير الأرناؤوط من علماء الحديث في الشام، فضيلةُ الشيخ المحدِّث ( محمد ناصر الدين بن نوح نجاتي الأرنؤوطي ) هكذا كان يكتب اسمه على أغلفة كتبه الأولى، ثم عدَل عنه إلى ( محمد ناصر الدين الألباني ). لقَّبه أديبُ الفقهاء الشيخ علي الطنطاوي بمحدِّث العصر، ولقَّبه العلامة أحمد راتب النفَّاخ برجل السُّنَّة في بلاد الشام، رحمهم الله جميعًا. 4- الشيخان ناصر الدين الألباني وشعيب الأرنؤوط بلَديَّان؛ فكلاهما من مدينة واحدة وهي أشكودرا (أشقودره لي/ سكوتاري) العاصمة القديمة لألبانيا، وُلد الشيخ ناصر فيها سنة 1333هـ/ 1914م، وهاجر مع أسرته إلى دمشق عام 1926م، وهو ابنُ اثنتي عشرة سنة، وشبَّ فيها واكتهَل، ثم غادر إلى عمَّان وأقام فيها حتى وفاته يوم السبت 22 من جُمادى الآخرة 1420هـ (2/ 10/ 1999م). 5- كان والدُ الشيخ ناصر الدين ( نوح نجاتي آدم الألباني )، ووالدُ الشيخ شعيب ( مُحرَّم الألباني الأرنؤوطي ) صديقَين حميمَين، وقد هاجرا معًا فرارًا بدينهم، وحفظًا لأُسَرهم، سافرا وحدَهما ابتداءً لاستطلاع البلدان المناسبة، فزارا مصر ثم الشام، فطابَت لهم دمشق، واطمأنَّا إلى صلاحها، فعادا إلى ألبانيا وأحضرا سائرَ أهلهما وأولادهما. 6- أُسَر الأرناؤوط التي نزلت في دمشق، ليس منها سوى 3 أسر هاجرت من ألبانيا، هي: أسرة الشيخ نوح نجاتي ( والد ناصر الدين )، وأسرة محرَّم (والد شعيب) ، ثم أسرة الشيخ سليمان غاوجي الألباني التي هاجرت نحو سنة 1937م. أما سائرُ الأرناؤوط بدمشق، فمعظمُهم من كوسوفا فيما كان يُسمَّى ( يوغسلافيا )، ومن مقدونية، كانت هجرتُهم إلى تركيا أولًا، ثم تابع كثيرٌ منهم طريقه إلى دمشق، وسكنوا في حيِّ الديوانية، ومنهم أسرةُ شيخنا عبد القادر الأرناؤوط. انظر ( المحدِّث العلامة الشيخ شعيب الأرنؤوط سيرته في طلب العلم وجهوده في تحقيق التراث ) لأستاذنا إبراهيم الزيبق، دار البشائر الإسلامية ببيروت، ط1، 1433هـ/ 2012م، ص22 الحاشية الأولى. 7- (كوسوفا) ينطِقها أهلها المسلمون بالألف، وينطِقها الصِّربُ والأوربيون (كوسوفو) بالواو، ولهذا ما كان شيخنا عبد القادر يحثُّنا على نطقها بالألف لا الواو. ♦    ♦    ♦ ما أُلِّف عن الشيخين صُنِّفَ في سيرة الأرناؤوطيين عددٌ من الكتب والدراسات. فممَّا أُلِّفَ عن شيخنا المحدِّث المحقِّق شعيب الأرنؤوط رحمه الله تعالى، ووقفتُ عليه هذه الكتب: • أقدمُها كتابُ الأخ الصديق البحَّاثة، والأديب الشاعر الأُردُنِّي د. إبراهيم الكوفحي (المحدِّث شعيب الأرنؤوط جوانبُ من سيرته وجهوده في تحقيق التراث )، فله فضل السَّبق والتقدُّم. • وألطفُها وأطرفها كتابُ شيخنا العالم المحقِّق المسنِد الكويتي محمد بن ناصر العَجْمي (العلامة الشيخ شعيب الأرنؤوط كيف أحببته ). • وأبدعُها وأوسعُها كتابُ أستاذنا المؤرِّخ المحقِّق الأديب الدمشقي إبراهيم الزيبق (المحدِّث العلامة الشيخ شعيب الأرناؤوط سيرته في طلب العلم وجهوده في تحقيق التراث) ، صاغ سيرةَ الشيخ بتفاصيلها ودقائقها، بأسلوب قصصيِّ بليغ رائق. ولولا ما خامرَ كتابَه من تنكُّبِ جادَّة الإنصاف فيما روى عن شيخنا زهير الشاويش، لبلغ الغايةَ جودةً وإحكامًا؛ إذ أبعدَ أستاذُنا الزيبق النُّجعةَ بخوضه في أحداث حِقبةٍ لم يشهدها، ومرحلةٍ لم يُدركها، مقتصرًا على روايةِ وجهة نظر طرفٍ واحد من طرفَي القضية، ولو أنه سمع من الطرف الآخَر لما قال ما قال! رحم الله الشيخين الشاويش والأرنؤوط، وجزاهما عن سنَّة رسولنا الكريم خيرَ الجزاء. ومما أُلِّفَ عن شيخنا المحدِّث المحقِّق عبد القادر الأرناؤوط رحمه الله تعالى، ووقفتُ عليه هذه الكتب: • أسبقُها وأقدمها كتابُ أخينا الأستاذ محمود بن محمد جميل الكسر المَنبِجي (كشف اللِّثام عن أحد محدِّثي الشام المحدِّث الشيخ عبد القادر الأرناؤوط) كتبه من فم شيخنا الأرناؤوط، وقد سعدَ الشيخُ به ورضيَ عنه، وصار يوزِّعه على طلَّابه وأحبابه وزوَّاره، وإذا ما طُلب إلى بعض فروع الأمن كان يحمل نسخةً منه يقدِّمها إلى الضابط المسؤول عن التحقيق معه، ويقول له: في هذه الرسالة كلُّ ما يتصل بسيرتي وأعمالي من الولادة حتى الآن، فأرِحني من أسئلتك واستفساراتك! • وأوسعُها وأغناها كتابُ ولده الأستاذ الباحث محمود الأرناؤوط (ت 1438هـ) رحمه الله (سيرة العلامة الشيخ عبد القادر الأرناؤوط )، وعلى ما فيه من فوائدَ انفرد بذكر ما لا يصحُّ عن الشيخ يقينًا، ممَّا لم يذكُره في مجالسه وفيما أُجريَ معه من حوارات ولقاءات تلفازية وصَحفية، وما لا يعرفه أوثقُ الناس صلةً به! • وآنسُها وأبهجها كتابُ ولده الأستاذ مازن الأرناؤوط ( مواقفُ وذكرياتٌ من حياة الشيخ عبد القادر الأرناؤوط ) حشد فيه قدرًا كبيرًا من المواقف والذكريات رواها أصحابُ أبيه وطلَّابه وعارفوه، تدلُّ على كريم خِلال الشيخ، وجميل شمائله وصفاته. شكر الله للأساتذة الكرام جميعًا ما بذلوه من جهد في التعريف بهذَين العلَمَين الجليلين من أعلام الحديث والسنَّة في عصرنا، وتقبَّل منَّا ومنهم صالح القول والعمل. [نُشِرت في (المجلة العربية) العدد (555)، شهر كانون الأول/ ديسمبر 2022م، جُمادى الأولى 1444هـ، ص94- 95] الأرناؤوطيان في شبابهما الأرناؤوطيان في شيخوختهما إهداء من العلامة النفَّاخ إلى المحدِّث الألباني المحدِّث الشيخ محمد ناصر الدين الألباني
نوح عليه السلام (2) ذكرتُ في المقال السابق أن نوحًا عليه السلام بدأ قومَه بدعوتهم إلى توحيد الله عز وجلَّ وإخلاص العبادة له، وذكرتُ أن هذا هو دأب جميع الأنبياء والمرسلين؛ فجميع أنبياء الله ورسله إنما جاؤوا لقومهم ليعبدوا اللهَ ويجتنبوا الطاغوت، وفي ذلك يقول اللهُ عز وجل في سورة الأنبياء: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ ﴾ [الأنبياء: 25]؛ لأنَّه من أجل حقيقة توحيد الله وإخلاص العبادة له وحده لا شريك له، خلق الله الإنس والجن على حد قوله تعالى: ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾ [الذاريات: 56]، ومن أجل توحيد الله رفع الله السماوات وبسط الأرض، وأنزل الكتبَ وأرسل الرسل، وجعل الجنَّةَ والنار، وحرَّمَ الجنَّةَ على من مات وهو يشرك بالله شيئًا على حد قوله تعالى: ﴿ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ ﴾ [المائدة: 72]، فتوحيد الله هو رأس العبادات، وهو أصل كلِّ منهج يوصل إلى الله عز وجل من المناهج التي رسمها أنبياء الله ورسله لأممهم وأقوامهم، وقد ذكر الله تبارك وتعالى أن نوحًا بعد أن دعا قومَه إلى إخلاص العبادة لله وحذَّرهم من الشرك خوَّفهم عذاب الله في الدار الآخرة، وأشار تبارك وتعالى إلى أن المستكبرين في الأرض بغير الحق أثاروا ثلاث شبه ليصدوا الناسَ عن دعوة نوح عليه السلام، وقد دحض الله شبههم وفضح باطلهم جملةً وتفصيلًا، وذكر عاقبة المكذبين، وما منَّ به على نوح ومن آمن به، وفي ذلك يقول: ﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ * أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ * فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ * قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ * وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ * وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ * وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ * قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ * وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ * وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ * وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ * وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ * فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ * حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ * وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ * وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ * قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ * وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ * قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ * قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ * قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ * تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [هود: 25 - 49]، وقد أبرز الله تبارك وتعالى في صدر هذه الآيات المباركات حقائقَ ثلاثًا، هي أهم ما يدعو إليه الأنبياء والمرسلون، فالحقيقة الأولى: هي وجوب العلم بأنَّه لا إله إلا الله، والحقيقة الثانية: هي إثبات الرسالة، والحقيقة الثالثة: هي الإيمان بالبعث بعد الموت، وقد لوحظ أنَّ جميع السور المكِّية من القرآن الكريم يدور فلكها لتحقيق هذه الحقائق الثلاث، ولا شك في أنه لا سعادة للإنسانية ولا استقرار لها ولا أمن ولا طمأنينة إلَّا إذا استظلَّت في ظلِّ هذه الحقائق الثلاث، وآمنت بها، وسارت على منهاجها في جميع ما تفعل وما تذر من شؤون حياتها، وهذه الحقائق الثلاث نبَّه الله عز وجل عليها في مطلع قصة نوح هنا حيث قال: ﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ * أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ ﴾، وقد ذكر الله تبارك وتعالى أن المستكبرين في الأرض من قوم نوح قد سارعوا فأثاروا ثلاث شبه ضدَّ دعوة نوح عليه السلام؛ ليضللوا المستضعفين عن قبول الحق الذي جاء به نوح عليه السلام، وليصدوا عن سبيل الله، ورموا بهذه النظريات الفاسدة في وجه الحقِّ، وقد لوحظ أن المسارعين إلى الكفر والعناد والمتجرئين على نوح عليه السلام هم الملأ، وهم رؤساء القوم ووجهاؤهم؛ خوفًا على مناصبهم أن يَذهب بها الدينُ الجديد الذي جاء به نوح عليه السلام، وهذه الشبه الثلاث التي أثاروها هي: أن نوحًا عليه السلام من البشر، والشبهة الثانية: أن أتباعه هم الفقراء، والفقر في نظرهم الفاسد يقتضي أن يكون الفقير غير ثاقب الرأي ولا عميق الفكر، والشبهة الثالثة: أن نوحًا عليه السلام ومن تبعه ليسوا زائدين عنهم في الخلق، ولا مزية لهم على غيرهم في التكوين الجسمي، وفي شبههم الثلاث هذه يقول الله عز وجل: ﴿ فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ ﴾ [هود: 27].
ميراث الصمت والملكوت في كتاب «ميراث الصمت والملكوت» يستجمع الكاتب «عبدالله بن عبدالعزيز الهدلق» مجموعة مقالات كتبها على امتداد سبعة عشر عامًا، يقول عنها: قد كان من أسمى مقاصدي المرجوَّة من نشرها أن أكشف لكثيرٍ من القُرَّاء عمَّا لمنهج التفكير والتنوُّع المعرفي والبيان الوضيء من أثر بالغ على بنية العقل ونوع الخطاب. وإليك عزيزي القارئ محطات من هذا السِّفْر الفكري الرائع، لعلها تجمع شتات ما ذكره المؤلف من خلاصة فكره وروائع ذهنه: • ﴿ هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا ﴾ [الإنسان: 1] هذا الذي لم يكن شيئًا مذكورًا، ويحه يحب الذكر! • "إنني أنتمي إلى جيل الرهانات الخاسرة، فجيلنا قد راهن على القومية، وعلى الثورة، وعلى الاشتراكية، وهو يراهن اليوم على الديمقراطية، لا لقيم ذاتية في هذه المفاهيم؛ بل كمطايا إلى النهوض العربي، وإلى تجاوز الفوات الحضاري"؛ [ طرابيشي ]. • الفكر حين يتحوَّل إلى قوة تاريخية.. في قصة الحضارة: "أن امرأة تدعى نينون دلّانكلو عاشت في عصر لويس الرابع عشر 1643-1715 حياة فاضحة متهتكة.. إلا أن تلك الحياة لم تمنعها من أن تلتقط قدرًا من المعرفة لا يُستهان بها، وأن تفتح صالونًا أدبيًّا تقاطَرَ إليه أربابُ الأدب والفن والسياسة، حتى أذهلت باريس كلها بما أبدت من ذكاء ومعرفة؛ بل إنها أثارت فضول الملك لويس نفسه فاستمع إليها في قصره من وراء ستار.. عُمِّرت نينون بعد أصدقائها كلهم تقريبًا، فلما دنت منيَّتُها تنافس اليسوعيُّون والجانسنيون على هدايتها، فاستسلمت لهم في لطف وماتت في أحضان الكنيسة. لم تترك في وصيتها- على ما بلغته من ثراء- سوى مالٍ يسيرٍ لجنازتها حتى تكون أبسط ما يستطاع؛ ولكنها كتبت: أطلب في تواضُع إلى المسيو لاروية – وكان وكيلها- أن يسمح لي بأن أترك لابنه الذي يتلقَّى العلم عند اليسوعيين ألف فرنك ليشتري بها كتبًا". قال ديورانت: واشترى الابن الكتب، وقرأها، وأصبح فولتير. • إن التجربة الغربية تحدٍّ حضاري حافز، وليست مثلًا أعلى أغلقته صيرورة التاريخ. في شهر نيسان (أبريل) من عام 1930 عقدت في الجامعة المصرية مناظرة بين عباس العقاد وسلامة موسى بشأن بيت الشاعر الإنجليزي رديارد كبلنج: "الشرق شرق، والغرب غرب.. ولن يلتقي الاثنان" وقد أيَّد العقاد رأي كبلنج ونال 228 صوتًا، في حين عارضه سلامة موسى ونال 132 صوتًا. • القراءة بديل عن الحياة، قال جرامشي: "ينتج عن الهيمنة الثقافية للبرجوازية: أن أفكار الطبقة المهيمنة تصبح بقوة الأشياء أفكار المجتمع كله، فلا يعود أحد قادر على معارضتها، وحدهم المتعلمون جدًّا، وأصحاب الكفاءات الفكرية العالية، هم الذين يملكون الوظيفة الاجتماعية للمثقفين، وظيفة تغيير الشعوب.. ". • لا شيء يُشوِّه الأداء العلني للمثقف أكثر من تغيير الآراء تبعًا للظروف، والتزام الصمت الحذر. • فأنا في إيمان عميق بقدرة هذه الكلمة الصادقة -وحدها- على الرقي بالوعي والكرامة والوجدان في عالم الإنسان الذليل البائس، بما لا تقدر عليه الأنواع الأخرى الكاثرة من سائر ضروب النشاط الإنساني.. "المثقف في حاجة إلى الإيمان، والجماهير في حاجة إلى الوعي". • يظل أهل البيوتات هم أهل البيوتات، فالتفاحة لا تسقط بعيدًا عن شجرتها. • وهناك آخر لا يقف إحساسه بالمسئولية عند حدود بيته؛ بل يتعدَّاه إلى الفئة التي ينتمي إليها، أو وطنه كاملًا، هذا النوع هو الذي يتكوَّن منه: وقود الثورات، أو سكان السجون، أو الباحثون عن المعرفة؛ أحمد بهاء الدين. • بناء الإنسان لحصونه مقدم على دكِّ حصون الآخرين، فالتسلُّح بالمعرفة يكون قبل ثقافة الردود. • ليس كل ما يُقال عنا غير صحيح، لا تكن على مبدأ أطباء موليير: "خيرٌ للمريض أن يموت على قوانين الطب من أن يشفى على خلافها"، لا تكن على هذا المبدأ؛ لئلا يطبق عليك أول ما يطبق. قال بولنوف: "القدرة على الإصغاء إلى الآخر تعني أكثر من التقاط الإشارات الصوتية؛ بل تعني أكثر من فهم ما يقوله الآخر.. إنها تعني إدراك أن الآخر يودُّ أن يقول لي شيئًا، شيئًا مهمًّا بالنسبة لي، شيئًا عليَّ أن أُفكِّر فيه، وقد يرغمني - إذا دعت الضرورة- على أن أُغيِّر رأيي". • إنه ليمرُّ بي اسم العالم والعالم فلا أكاد آبه.. ثم يمُرُّ ذكر ابن تيمية فيأخذني شيء لا أتبيَّن مأتاه، رحم الله أبا العباس، فالكتابة عنه ضرب شديد من الوعي والمسئولية؛ لأنه يحتاج إلى مقياس خاص: 1- كثير من تراث ابن تيمية لا يبتدأ به؛ وإنما ينتهى إليه.. فالعلوم يأخذ بعضُها بحجز بعض، فهي كدرجات السلم كل واحدة تسلم إلى أختها، ولعل ممَّا أضرَّ ببعض طلبة العلم أن أحدهم يعلق بسمعه أول ما يسلك طريق العلم اسم هذا العالم الكبير، وما لتراثه من الأهمية البالغة، فيغوص في عمقه وهو لمَّا يتعلَّم السباحة على شاطئه بعد، فيؤذيه ذلك كثيرًا. 2- ليست هناك شخصية حية حاضرة في بناء عقل ابن تيمية ولا تشكل وجدانه، فلا تراه يقول: وكان شيخنا، ودخلت مرة على فلان.. ممَّا تراه فيما يذكره عنه ابن القيم مثلًا، أو فيما يذكره كثيرٌ من الأعلام عن مشيختهم والآخذين عنهم.. لا أدري، لعل الله سبحانه لما أن أعد هذا الإمام لما هو بسبيله من هذا التجديد، وعصره على ما هو عليه من السوء، هيَّأ له ألَّا يتطامن عقله ولا وجدانه لسلطان أحد من مشيخته المعاصرين، فجاء منه هذا العقل الحر النزَّاع إلى الحق، الرافض للتقليد الأعمى، وهذا الوجدان الصافي الذي اغتسل بماء الوحي النقي، فلم تكدره تلك الأوضار التي كانت عالقةً بكثيرٍ من أنفس أهل عصره. 3- رأيت ابن تيمية في مداخل ردوده على أهل الفرق المخالفة، وأرباب الأهواء المضللة، يبالغ كثيرًا في عرض معارفه، وما يحسنه من علوم هؤلاء.. أظن أنه- رحمه الله- كان يمارس نوعًا من الإذلال المعرفي لخصوم الوحي، كأنه كان يقول لهم: هذا الذي تتحدَّثون عنه، وتأخذون في شأنه، لم نطرحه جهلًا به، فنحن أعرف به منكم؛ لكننا آثرنا الوحي عليه. 4- لابن تيمية سلطان بالغ الأثر على عقل قارئه، لما له من هذا الأسلوب السيَّال، والتدفُّق المعرفي المبهر، والحجة العقلية النافذة، والحماس المُتَّقِد لما يؤمن به. 5- كان ابن تيمية - رحمه الله- من كِبار مثقفي عصره. 6- من أعظم المقاييس عندي للعمل الخالد: هو أنه العمل الذي لا تستطيع أن تتجاوزه مهما تركته وعدت إليه.. ثمة تراث يكون له أثر في نفس قارئه في مرحلة من مراحل عمره؛ لكنه حين يعود إليه بعد أن يقطع شوطًا في العلم يشعر بأنه قد تجاوزه (هذا المنفلوطي يُحبُّه المتأدِّب، ويكرهه الأديب كما يقولون) لكن هناك أعمال لا تستطيع أن تتجاوزها مهما اكتسبت من معرفة وعدت إليها، وعندنا في التراث الإسلامي أمثلة لهذا: المغني لابن قدامة، فتح الباري، تراث ابن تيمية كله، وهذا لم يتأتَّ لعالم من علماء الإسلام. • بئس هؤلاء الناس.. «إنهم يعرفون أنهم أكثر مما ينبغي، وأنه لا بُدَّ أن يفترس بعضهم بعضًا شأن العناكب في وعاء واحد»؛ بلزاك. هذه النفس الإنسانية غريبة النوازع والبدوات والأطوار.. ومن مفارقاتها أن قلمي لا يكون في أحسن حالاته إلا إذا ساءت نفسي.. ما بال قلمي لا يضيء إلا بنار روحي وَوَقد ضميري؟ ألا بئس هؤلاء الناس.. ولولا دين وحياء لقلت بقلمي هكذا فكشفت عن وجوه تصدر في المجالس، فلما عاملتها خشيت منها على نعلي! قال سفيان الثوري لعطاء الخفاف: "يا عطاء، احذر الناس، وأنا فاحذرني". كتب رسكن ذات مرة: في طريقي إلى المتحف البريطاني كل صباح، أجد وجوه الناس في الشارع تزداد فسادًا يومًا بعد يوم. • لا يصرفني عن القراءة إلَّا دموع عيني من فرط الجهد، لم أكن أتنفَّس من رئتي، كنت ألتقط أنفاسي من ثقوب الكلمات.. كانت كتب التراجم الذاتية مسلاة لروحي، أجد فيها العِظَة والعِبْرة والمتعة، وكنت أعثر فيها على لطائف من المعارف لا توجد في غيرها. وجدت أن كل تجارب الإنسان في حياته قابلة للنجاح والفشل، لا يؤول شيء من تجارب حياته إلى غير هذين.. وأما معاملة الرب - جل وعلا- فإنها لا تقبل إلَّا النجاح ببرهان وثيق. ما إن استمررت في القراءة في هذا الفن، ومطالعة هذه التراجم، حتى وجدتني أمام حقيقتين تطلان عليَّ فلا تخطئهما العين في كل ترجمة ذاتية أقرأها: 1- رأيت أن الذين قرأت تراجمهم الذاتية يجمعون كلهم على اختلاف ألسنتهم وألوانهم وأزمانهم وأعمارهم وأديانهم، وتفاضل تجاربهم، وتبايُن مشارب أنفسهم، وتنوُّع مطارح مقاديرهم: على أن الحياة نصب ومشقة، وأنهم ما نالوا ما نالوه منها إلا بالصبر والتجلُّد والمغالبة. 2- ثم رأيتهم- وهذا هو بيت القصيد من حديث التراجم هذا- يجمعون وفيهم: العالم والأديب، والمخرج والفيلسوف، والسياسي والقائد، والممثل والأستاذ، والرسَّام والمهندس، والتاجر والمريض، والسجين والفقير، ومن شئت وما شئت.. رأيتهم يجمعون كلهم على فساد طبيعة الإنسان، وسوء خلقه، وبشاعة مخبره، وخبث طويَّته، ورداءة صنفه.. وأنهم لم ينلهم من أوصاب هذه الفانية، وأدواء هذا العمر، وأتراح هذه الروح، أشد ولا أشق ولا أكثر إيلامًا من صراع الإنسان وحسده وقبحه. فمن كاذبٍ لا يُصدَّق إلا في أنه كاذب، وخائن لمن ائتمنه، ومتنكر لصديق أحوج ما يكون إليه، وظالم يطلب ما لا حق له فيه، وجاهل خابي الذهن فاتر الموهبة ينقم على هذا وذاك أنْ منَّ الله عليهما بما حرمه منه. • ألق دينارًا في غيابة تاريخ من تواريخنا، ثم ابتعد وانظر كم عمامة تسقط عليه؟ • قالت عمرة الفرغانية: ميراث الصمت: الحكمة والتفكير، ومن أنس بالخلوة مع العلم أورثه ذلك أنسًا من غير وحشة. • قال العقاد: الذاكرة ملكة مستبدة، تحفظ وتنسى على غير قانون ثابت. • الشيخ زكريا الأنصاري كان إذا مرض استشفى بمطالعة كتب أهل العلم. • الحافظ السيوطي ثار به صوفية الخانقاه التي كان يتولى نظارتها؛ لأنه قال: إنكم لستم على شرط الواقف، فثاروا به وحملوه وألقوه في فسقية الماء بجبته وعمامته.. وأنه خرج من الماء وأصلح ثيابه ثم توجَّه إلى روضة المقياس فسكن هناك، وأغلق النافذة التي تجاه النيل، وألَّف كتابه «تأخير الظلامة إلى يوم القيامة» وانقطع بعدها هناك إلى التأليف حتى وفاته. • من لا يدرس التاريخ يسخر منه التاريخ. • يظل العلم مسئولية لا متعة، وفي صدق الالتجاء إلى الله سبحانه- ولا سيَّما أوقات السحر- منجاة من كثير من آلام الحياة، التي باتت تُحطِّم فينا معنى الحياة. • لم أقرأ فيما قرأت: 1- أعقل من هذه الكلمة لمحمد كرد علي: حفظ مسائل العلم التي قالها أهل العقول، لا تجعل ممن استظهرها عاقلًا إن لم يكن ذا عقل. 2- ولا أشد إيلامًا من هذا البيت لمحمود أبي الوفا: أودُّ أضحك للدنيا فيمنعني أن عاقبتني على بعض ابتساماتي • عبدالوهاب المسيري قامة فكرية عالية لا شك؛ لكني آخذ عليه كثيرًا: 1- ماذا حين ينعت بالمفكر الإسلامي، ثم أجده قد تجاهل النص الشرعي، فاستبعده تمامًا من نتاجه المعرفي كله؟! أين الآيات وأحاديث الفتن والملاحم وأشراط الساعة فيما كتبه عن اليهود؟! إنه ليس كل من التقى وإياك في النتيجة يصدر - لا محالة- عن مقدماتك. هو مفكر إذن بلا إسلامي: من يستبعد الوحي عن مصادر المعرفة، ويتمثل في تحليله الحضاري أحد المنهجين الفلسفيين: المثالية أو المادية.. جارودي، تشومسكي، إدوارد سعيد، المسيري.. • كان مصطفى جواد يقول: إن التاريخ خير مُرَبٍّ للأمم الضعيفة. وهذا حق إذا كانت تلك الأمم ذات تاريخ، فكيف وليس تاريخ كتاريخنا بالأمس، وليست أمة هي في الضعف إلى ما نحن عليه اليوم؟ • قال كارل بوبر: «وأنا على تمام الإدراك بأن العلم يخطئ كثيرًا» هذا ما قاله أكبر فلاسفة العلم في النصف الثاني من القرن العشرين، فلا حاجة بنا إذن لتأليه هذا الذي يخطئ كثيرًا ﴿ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ ﴾ [الحج: 6]. • ملأ الشاعر التوراتي محمود درويش الأرض صراخًا عن الوطن والعروبة وأوراق الزيتون، ثم فرَّ فِرارًا مُخزيًا من فلسطين إلى القاهرة، وخلف هذا كله وراءه، لم يَقْوَ - صاحب اليهودية «ريتا» التي كان «الإله» يسكن عينيها العسليتين- على ما كان يقوى عليه جيفارا والرِّفاق في أحراش بوليفيا، ولم يكن لدى من قال: «فخذوا وقتكم لكي تقتلوا الله» وقت لكي يقتل أرذال الناس ممن اغتصبوا أرضه وأزالوا عرضه. وحفظًا لماء الوجه فقد أصدر- آنذاك- الحزب الشيوعي الإسرائيلي الذي كان ينتمي إليه درويش بيانًا بفصل هذا الثائر الناعم، بعد هروبه المخزي من ساحة النضال. درويش الذي كان يقول: وأنا ابن عوليس الذي انتظر البريد من الشمال ناداه بحار ولكن لم يسافر لجم المراكب وانتحى أعلى الجبال يا صخرة صلى عليها والدي لتصون ثائر أنا لن أبيعك باللآلئ أنا لن أسافر لن أسافر لن أسافر! • المتدين إنما يتدين على طبيعته وخلقه، يتدين على مزاجه النفسي وإرثه من التجارب السيئة، ثم هو لا ينفك عن تأثير النشأة، ووطأة الإلف والعادة، وغلبة روح العصر. فإذا رأيت متدينًا يأتي شيئًا ليس من الدين الحق، فحذارِ أن تحمل الدين جريرة هذه النفوس؛ لأن المتدين إنما يتدين على طبيعته وخلقه ومزاجه النفسي. • قال أمين نخلة: وقوع الحافر على الحافر في المعاني يحصل بين لغة وأخرى حصوله في اللغة الواحدة، ولقد جاء للسيدة دي سيفينيه في بعض رسائلها إلى ابنتها وكانت مصدورة قولها - وهو من أشهر الرقائق التي تدور في كتب الأدب الفرنسي-: يا بنيتي إن صدرك يوجعني! وجاء في كتاب القضاة هذا الكلام لسهل بن علي، قال: كنت ألازم ابن نعيم القاضي وأجالسه وأنا يومئذٍ حديث السِّنِّ، وكنت أراه يتجر بالزيت، فقلت له: وأنت أيضًا تتجر؟ فضرب بيده على كتفي، ثم قال: انتظر حتى تجوع ببطن غيرك! فقلت في نفسي: كيف يجوع إنسان ببطن غيره؟ فلما ابتليت بالعيال إذا أنا أجوع ببطونهم. • كاد صاحب المعرفة أن يكون عرَّافًا. • الطبقات الكادحة هي التي تدفع من الثمن في مثل هذه التحوُّلات الحادة ضعف ما كانت تدفعه من قبل. • قال ابن القيم: ما ابيضَّ رغيفُهم حتى اسودَّ فقيرُهم. • يكثر جريان المثل في كل مجتمع على ألسنة العامة من الناس، وكلما ارتفعت الطبقة الاجتماعية ضعف دوران المثل في كلامها؛ لأن المثل موروث تقليدي تتناقله الثقافة الشفهية الشعبية، وليس تتأكد هوية النخبة إلا بالقدر الذي تبتعد فيه عن هوية العامة. • لأن الفقر تربة الرذيلة، ولأن الفقر يشوِّه القيم في نفس الفقير، ويورثه ميزانًا غير صالح يزن به العادات والأخلاق، فإن الفقير يظن أن الأغنياء وأصحاب البيوتات لم يصبحوا كذلك إلا لقيم لا يملكها، فإذا انتقل إلى طبقة أعلى من طبقته، فإنه يحاول أن يقترب من أخلاق هذه الطبقة وعاداتها. • حسبكم الله ماذا فعلتم بعقولنا يا نُقَّاد الجنون المعقول؟! زعمت أقلامكم أنها استيقظت «من عادة النوم على الأمجاد» ثم ماذا؟! وقفت ذليلة تتثاءب - بلباس النوم- على باب المنهج الغربي تتكفَّف نموذجه المعرفي. • حفل تراثنا العلمي الذي خلفه الأجداد بضرب غريب من التآليف، إن في صنعة الكتاب أو في التصرُّف بمادته، تفتقت عنه أذهان القوم فافتنا فيه ما شاءت لهم عبقريَّاتُهم الفذة، لقد تجاوزوا به المادة العلمية وقيمتها فخرج إلى شيء من هذا الذي يُسمُّونه الترف الفكري، نعم، قد يعيبه من أدرك قيمة الزمن في حياة هذا الإنسان، إلا أنه لا بُدَّ واقف وقفة الدهش المُتحيِّر من نبوغ هذه العقول وإبداعها. • ليس كرهبة الموت رهبة تُلجِم الأقلام، فكيف بها إن كانت مقرونةً بجلال الأحياء. • إن التاريخ ليصغر ويصغر عند أقدام العظماء حتى يكون العظيم تاريخًا يُؤرَّخ التاريخ به. • الأنفس الكبيرة ليس يغريها في هذه الحياة إلا ما هو كبير، وليس ثمة ما هو أكبر من معنى العلم في أنفس الكِبار. • السهل كل أحد يستطيعه؛ ولكن الصعب هو الذي يحتاج إلى أن ينذر الإنسان له نفسه، وهنا تكون الإرادة. • قال الدكتور عبدالرازق السنهوري: وإن شيئًا يشترك فيه أكثر العظماء: حياة الشظف والفاقة التي عاشوها أول حياتهم، فنفخت في أخلاقهم روح الصلابة، فأذاقوا الحياة بأسَهم بعد أن أذاقتهم بأسَها. • رحم الله الإمام محمد بن عبدالوهاب، لم يكن نبيًّا؛ لكنه قام بدعوة نبي. • قال ابن المقفع: الإنسان طبع على طرائق لؤم، وإنما يتفاضل الناس فيه كغالبة طباع السوء. • إن سر النجاح ومكمن الظفر في هذه الحياة يرجع إلى جملة أمور، أهمها في نظري: أن يكون الإنسان ذا تفكير عملي يذود به عن ذاته غائلة العجز النفسي، وأن يوازن بين طموحاته وإمكاناته، ثم يعمل ما يستطيعه بما تهيَّأ له «استعن بالله ولا تعجز». • تريد الحق بلا توريب؟! إني حين أتأمل هذا السعي الناصب الذي يسعاه أكثر هذا الإنسان في حياتنا الدنيا، أجد أن جُلَّه إنما هو لتحقيق القيمة التي تحتفي بها الجماعة «الاحترام الجماعي». • إياك أيها المبدع أن تنخدع بقولهم: «إن الصعوبة إنما هي في البدايات فقط».. كل مراحل الحياة صعبة، ﴿ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ ﴾ [البلد: 4]، والشأن إنما هو في أن نتعامل مع الحياة على ما هي عليه، لا على ما نريدها أن تكون عليه، فإنها على ما نريدها أن تكون عليه عَصيَّة. • القراءة تُورِث المرء اغترابًا رُوحيًّا ولا سيَّما في المجتمعات الجاهلة، وتكسبه حسد أقرانه، لازدياد كمية الإنسان فيه، وتجاوزهم بنموه العقلي، وستفقده القدرة على إقامة العلائق الاجتماعية والتكيُّف مع الناس. • وقفت على حقيقة غريبة من حقائق هذه الحياة، وهي أن حدة التأمُّل المرهقة، وسعة الاطلاع المذهلة، وتراكم الخبرة الباذخ، ربما انتهى بالإنسان في بعض نتائجه إلى ما يُقرِّره العامي ابتداءً دون أن يتكلَّف شيئًا من هذا كله. • أول خطوة لتحقيق الحلم الاستيقاظ منه.. يمكن للمرء أن يُعوِّد نفسه على القراءة والاطلاع بأن يقرأ ويطلع، أعني بأن يمارس ما يريد أن يكتسب عاداته، فإن كان عنده قابلية لمثل هذا فإنه سيلزمه وينتفع به.
الغزو الفرنجي للمشرق الإسلامي حتى نهاية القرن الثالث عشر الميلادي لمصعب حمادي الزيدي صدر حديثًا كتاب: "الغزو الفرنجي للمشرق الإسلامي حتى نهاية القرن الثالث عشر الميلادي"، تأليف: د. "مصعب حمادي الزيدي"، نشر: "دار الفكر للنشر والتوزيع". وتتناول هذه الدراسة رصدًا تأريخيًا تحليليًا لبدايات الحملات الصليبية على بلاد المشرق الإسلامي، وأسبابه، وأحداثه، ونتائجه، مع الأحداث السياسية والفكرية التي تطورت باستمرار تلك الحملات وامتدادها زمنيًا وجغرافيًا، حيث تبحث هذه الأطروحة في مصادر هذه الفترة، ثم تتعرض لخلفية الحروب الصليبية بما في ذلك تطور فكرة الحرب عند المسيحيين والتصور الغربي عن الإسلام. ورصد لجملة الأوضاع الدينية والاجتماعية والاقتصادية التي وجدت في أوروبا عشية قيام الحملة الصليبية الأولى. بعد ذلك تبحث في وضع العالم في القرن الخامس الهجري/ الحادي عشر الميلادي، ومن ثم تأسيس مملكة بيت المقدس، وتتابع الحملة الصليبية على الشرق، ورد الفعل الاسلامي عليها مع التركيز على حركة المقاومة الإسلامية في عهد "عماد الدين زنكي" و"نور الدين زنكي" و"صلاح الدين الأيوبي" وفي فترة المماليك حتى سقوط عكا عام 1291م. ثم يتناول الكاتب العلاقات السياسية والاقتصادية والاجتماعية بين المسلمين والفرنجة في المشرق، ونتائج غزو الفرنجة على مدن العالم الإسلامي والعالم الغربي. ونجد أن البلاد العربية الإسلامية تعرضت في أواخر القرن الخامس الهجري / الحادي عشر الميلادي لأشرس هجمة استعمارية عرفت بالغزو الصليبي الذي استهدف مقدسات المسلمين في بلاد الشام واستنزف خيراتها الاقتصادية وتمزيق وحدتها الاجتماعية فكانت بمثابة بواكير الاستعمار الغربي الأوربي في الدولة العربية الإسلامية في العصر الوسيط. بدأت الحروب الصليبية بدعوات دينية أعدت لها البابوية منذ عقود من خلال استخدام الدين لكسب أكبر عدد من الأوربيين للمشاركة فيها بما يخدم الأغراض العسكرية لتبرير العدوان على المسلمين واغتصاب أراضيهم، وتجسد ذلك بأوضح صورة من خلال الحملات الصليبية الثمان التي تعرضت لها بلاد المسلمين وقد أسفر عنها قيام أربع كيانات صليبية غرست في جسم الدولة العربية الإسلامية وهي: الرها وانطاكية والقدس وطرابلس منذ أيام الحملة الصليبية الأولى والتي أفاد منها الصليبيون في سياستهم التوسعية تجاه المدن الشامية للوصول منها إلى مصر. أما على صعيد الدولة العربية الإسلامية فكانت هنالك قوتان تتنازعان النفوذ فيها: الأولى الخلافة العباسية في بغداد، والثانية الدولة الفاطمية في مصر، وتزامن مع تلك الحالة حركة انسياح القبائل التركية الكبيرة من أواسط آسيا تجاه الغرب، لذا عانت الخلافة العباسية ما عانته من استلاب لسلطتها، ولم تكن الدولة الفاطمية بمعزل عن ذلك وكانت آنذاك تعيش حالة من الضعف والانحلال بسبب تسلط الوزراء على مقاليد الحكم في مصر، ومن المؤكد إن النتائج الإيجابية التي حققها الصليبيون في بلاد الشام لم تكن بفعل قواهم الذاتية فحسب بل يرجع ذلك لضعف القوى الإسلامية وتفككها فضلًا عن التناحر فيما بينها. وانقسمت الدراسة إلى مقدمة وثمانية فصول وخاتمة. تناول الفصل الأول تعريف ماهية الحروب الصليبية، وعوامل قيامها، وبيان لأوضاع أوروبا الدينية والسياسية عشية قيام الحروب الصليبية، وأوضاع المشرق الإسلامي قبيل الغزو الصليبي. أما الفصل الثاني فتحدث فيه الكاتب عن بداية الحروب الصليبية نتيجة انعقاد مؤتمر كليرمونت وسير الحملة الصليبية الأولى، وموقف الدولة الفاطمية من الحملة الصليبية الأولى، والصدام بين الصليبين والفاطميين، ثم تناول الحديث عن آخر معارك الحملة الصليبية الأولى، وهي معركة عسقلان سنة492هـ/ 1098م، وموقف الوزير الأفضل بعد هزيمته في عسقلان، ثم بداية تنظيم الدولة الفاطمية العديد من الحملات للحفاظ على أملاكها في مصر والشام وهي: أ- الحملة الفاطمية الأولى سنة 494 هـ/1100م . ب- الحملة الفاطمية الثانية سنة 496 هـ/1102م . ت- الحملة الفاطمية الثالثة سنة 499 هـ/1105م. وتحدث الكاتب عن مدينة "عسقلان" كقاعدة حربية متقدمة للفاطميين في بلاد الشام، وأهميتها الاستراتيجية في تطور الصراع بين الصليبيين والفاطميين، ثم تناول التحالف الإسلامي بين دمشق والقاهرة للوقوف في وجه الأطماع الأوروبية. تناول الفصل الثالث الحديث عن مملكة بيت المقدس والتي أنشأت في بلاد الشام عام 1099 م بعد الحملة الصليبية الأولى، وشكلّت أكبر ممالك الصليبيين في الشرق وقاعدة عملياتهم، واستمرت في الوجود زهاء قرنين من الزمن، حتى تمّ فتح جميع أراضيها في عثليث وعكا من قبل المماليك عام 1291 م. وتناول فيه نظام الحكم في تلك المملكة وأجهزتها المختلفة من حيث: أ- المؤسسة الملكية . ب- النظام الإداري. ت- النظام القضائي. ث- النظام الديني . أما الفصل الرابع فتناول تطور حركة الجهاد الإسلامي ضد الصليبيين، ثم سقوط إمارة الرها، وأحداث الحملة الصليبية الثانية، وظهور جهاد آل زنكي ضد الصليبيين، ثم جهود صلاح الدين في توحيد مصر وبلاد الشام، والتي كان من أهمها: أ‌. ضم دمشق. ب‌. ضم سنجار. ت‌. ضم آمد. ث‌. ضم حلب. ج‌. ضم ميافارقين. ح‌. ضم الموصل . وواصل الكاتب في الفصل الخامس بيان جهود الناصر صلاح الدين الأيوبي ضد الصليبيين، وإسقاطه مملكة بيت المقدس الصليبية، وقيام الحملة الصليبية الثالثة (1189-1192)، وتعرف أيضًا باسم حملة الملوك، وهي محاولة من قبل القادة الأوروبيين لاستعادة الأراضي المقدسة من صلاح الدين الأيوبي. كانت الحملة ناجحة إلى حد كبير، واحتلت فيها مدنًا هامة مثل عكا ويافا، مسببة في ضياع مكاسب فتوحات صلاح الدين الأيوبي، لكن فشلت القوات الصليبية في احتلال بيت المقدس، المسبب الرئيسي للحملات الصليبية. وتناول الفصل السادس كل من أحداث الحملة الصليبية الرابعة على القسطنطينية، والحملة الصليبية الخامسة على مصر، حيث نجد أن أحداث الحملة الصليبية الرابعة عززت الانشقاق العظيم، وأحدثت صدعًا لا جبر له بين ممالك أوروبا، وساهمت في اضمحلال الإمبراطورية البيزنطية، وقد مهدت السبيل أمام فتوحات المسلمين للأناضول والبلقان في القرون اللاحقة. أما الحملة الصليبية الخامسة على مصر فانتهت بقبول انسحاب الصليبيين من مصر من جانب الملك الكامل، إدراكًا منه بخطر المغول وإنقاذًا لمدن مصر من بطش الصليبيين، ووقع الصلح في 30 أغسطس 1221 م لمدة 8 سنوات. وتناول الفصل السابع تطور الحملات الصليبية على ممالك المشرق في عهد الدولة الأيوبية ثم المماليك، فتناول الفصل أحداث الحملة الصليبية السادسة على بلاد الشام، والحملات الصليبية المتأخرة، كالحملة الصليبية السابعة على مصر، والتي كان من أبرز نتائجها انتهاء حكم الأيوبيين في مصر وبداية دولة المماليك، والحملة الصليبية الثامنة على تونس، وبدايات انحسار الوجود الصليبي بهزيمة الصليبيين على يد المماليك حيث كانت الحملة التاسعة بمثابة بداية نهاية الصليبيين في بلاد الشام بعد مئتي سنة من بقائهم بدايةً بالحملة الصليبية الأولى. أما الفصل الثامن فتناول مظاهر الحياة في مملكة بيت المقدس والإمارات الصليبية، مع نهاية الحروب الصليبية ونتائجها على العالم الإسلامي وأوربا من حيث: أولًا: نتائجها على المسلمين. ثانيًا: نتائجها على أوروبا. وتعد الدراسة من الدراسات الهامة حول سير الحملات الصليبية وأحداثها المتداخلة، وتطور الوضع السياسي العالمي وقتذاك وما أثرت به في تغيير خريطة العالم نتيجة تلك الحروب التي اتخذت صبغة دينية، وكانت من بدايات التواصل بين الشرق والغرب في العصور الوسطى.
العلماء الأميون لعطية أبو العلا صدر حديثًا " العلماء الأميون "، تأليف: " عطية أبو العلا "، نشر: " دار الصالح للنشر والتوزيع ". وتدور فكرة هذا الكتاب على جمع مجموعة منتقاة من تراجم لأشهر العلماء والفقهاء والقضاة والساسة والأدباء الذين لا يقرأون ولا يكتبون. وتعود قصة هذه الموضوعات إلى عام 2005م، حيث اختمرت في رأس الكاتب هذه الفكرة أثناء دورة (أصول فقه)، لأحد علماء الأزهر بكلية الدعوة الإسلامية، على ما يذكر الكاتب، ولفتَ نظره ذكره لأكثر من عالم، وكان من باب النكتة يترجم لهم بقوله: (وكان أميًّا) أو "وكان لا يعرف القراءة والكتابة"، ولجدة هذا الموضوع قرر أن يجمع هذه التراجم في رحاب التاريخ الإسلامي العامر بمختلف العلماء والساسة والفقهاء ممن أخذ العلم مشافهةً، بالحفظ والتلقين ولم يطالع كتابًا! ويرى الكاتب أن مفهوم الأمية للأمة في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنا أمة أمية لا نحسب ولا نكتب الشهر هكذا وهكذا"، مرتبط بحفظ الدين في الصدور على مدار الأجيال وتعاقبها، فلم يقل - صلى الله عليه وسلم - إنا لا نقرأ كتابًا ولا نحفظ، بل قال: لا نكتب ولا نحسب؛ فديننا لا يحتاج أن يكتب ويحسب كما عليه أهل الكتاب من أنهم يعلمون مواقيت صومهم وفطرهم بكتاب وحساب، ودينهم معلق بالكتب لو عدمت لم يعرفوا دينهم، ولهذا يوجد أكثر أهل السنة يحفظون القرآن والحديث أكثر من أهل البدع، وأهل البدع فيهم شبه بأهل الكتاب من بعض الوجوه. وقوله: ﴿ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ ﴾ [الأعراف: 158] هو أمي بهذا الاعتبار. لأنه لا يكتب ولا يقرأ ما في الكتب لا باعتبار أنه لا يقرأ من حفظه بل كان يحفظ القرآن أحسن حفظ، والأمي في اصطلاح الفقهاء خلاف القارئ؛ وليس هو خلاف الكاتب بالمعنى الأول ويعنون به في الغالب من لا يحسن الفاتحة فقوله تعالى: ﴿ وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ ﴾ [البقرة: 78] أي لا يعلمون الكتاب إلا تلاوة لا يفهمون معناها، وهذا يتناول من لا يحسن الكتابة ولا القراءة من قبل، وإنما يسمع أماني علمًا ويتناول من يقرؤه عن ظهر قلبه ولا يقرؤه من الكتاب، وقد يقال: إن قوله: ﴿ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ ﴾ أي الخط أي لا يحسنون الخط وإنما يحسنون التلاوة، ويتناول أيضًا من يحسن الخط والتلاوة ولا يفهم ما يقرأه ويكتبه، كما قال ابن عباس وقتادة: غير عارفين معاني الكتاب يعلمونها حفظًا وقراءة بلا فهم، ولا يدرون ما فيه، والكتاب هنا المراد به الكتاب المنزل وهو التوراة؛ ليس المراد به الخط فإنه قال: ﴿ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ ﴾ [البقرة: 78] فهذا يدل على أنه نفى عنهم العلم بمعاني الكتاب، وإلا فكون الرجل لا يكتب بيده لا يستلزم أن يكون لا علم عنده بل يظن ظنًا؛ بل كثير ممن يكتب بيده لا يفهم ما يكتب وكثير ممن لا يكتب يكون عالمًا بمعاني ما يكتبه غيره. وأيضًا فإن الله ذكر هذا في سياق الذم لهم وليس في كون الرجل لا يخط ذم، إذا قام بالواجب، وإنما الذم على كونه لا يعقل الكتاب الذي أنزل إليه سواء كتبه وقرأه أو لم يكتبه ولم يقرأه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "هذا أوان يرفع العلم" فقال له زياد بن لبيد: كيف يرفع العلم وقد قرأنا القرآن فوالله لنقرأنه ولنقرئنه نساءنا، فقال له: إن كنت لأحسبك من أفقه أهل المدينة أوليست التوراة والإنجيل عند اليهود والنصارى فماذا تغني عنهم" وهو حديث معروف رواه الترمذي وغيره. ويرى الكاتب أن الله إنما جعل نبيه أميًّا لا يكتب ولا يحسب ولا ينسب، ولا يقرض الشعر، ولا يتكلّف الخطابة، ولا يتعمّد البلاغة، لينفرد الله بتعليمه الفقه وأحكام الشريعة، ويقصره على معرفة مصالح الدين دون ما تتباهى به العرب. وليست هذه دعوة للأمية، بل إن الكاتب يذم موقف الفرق الضالة كالخوارج الذين يدعون ترك الكليات ومنع الانتساب للجامعات والمعاهد إسلامية أو غير إسلامية لأنها مؤسسات سلطوية، وتدخل ضمن مساجد الضرار، ويرى أن هذه الدعوى دعوى تدعو للجهل والتخلف وأن هذا ضد ما نادى به الذكر الحكيم في أولى آياته للنبي - صلى الله عليه وسلم -: ﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ﴾ [العلق: 1]. وتنوعت اختيارات الكاتب للعلماء الأميون الذين ترجم لهم ترجمة موجزة ذاكرًا مواضع التميز والعبقرية في نتاجهم العلمي أو الإداري، فمن الفقهاء الشعبي والإسكافى ومن الساسة المعتصم بالله.. وغيرهم الكثير.
الشيخ محمد عبد الظاهر أبو السمح إمام وخطيب الحرم المكي (1300 - 1370 هـ / 1880 – 1950م) اسمه: محمد عبد الظاهر بن محمد نور الدين الفقيه ( أبو السمح ). مولده: ولد في بلدة التلين مركز منيا القمح مديرية الشرقية 1300هـ. والده: الشيخ/ محمد نور الدين الفقيه، وقد حفظ القرآن الكريم على يديه، وهو في التاسعة من عمره. طلب العلم في الأزهر، ثم في مدرسة المعلمين الأولية، وقد حضر مجلس الشيخ / محمد عبده. حصل على شهادة كفاءة المعلمين، ثم عمل مدرسًا بمدرسة ابتدائية بالسويس. اشتغل بالتدريس، ثم التحق بدار الدعوة التي أنشأها رشيد رضا - رحمه الله. كان يتعلم فيها ويعلم تجويد القرآن الكريم والخط. في سنة 1914 بعد إغلاق دار الدعوة انتقل الشيخ / أبو السمح إلى الإسكندرية معلمًا خاصًّا لأبناء محمود الديب باشا. تزوج في الإسكندرية أخت الشيخ / محمد بن عبد الرزاق حمزة، وكان قد تزوج قبلها مرتين أنجب من إحداهما ابنه الأكبر عبد اللطيف أبو السمح. وقد رزق الشيخ أبو السمح من أخت الشيخ حمزة 3 أبناء وثلاث بنات. وقد تزوج للمرة الرابعة زوجة أعقب منها 3 أبناء وثلاث بنات. فصار مجموع أبنائه وبناته أربعة عشر. جهوده في نشر دعوة التوحيد: بدأ الشيخ/ أبو السمح دعوته إلى توحيد الله - عز وجل - في الإسكندرية، وقد استجاب له كثير ممن أكرمهم الله بالهداية والانتفاع بدعوته؛ حتى كون جماعة قوية تناصره، وتؤيد دعوة الحق مما حرك الصوفية فألبوا عليه، وأغروا به أتباع كل ناعق، فآذوه أشد الأذى فكانت معارك وقضايا في المحاكم - خرج منها الشيخ - بفضل الله مؤيدًا منصورًا؛ بما أوتي من الصدق والصبر، وبما حباه الله من حسن الخلق وطهارة القلب وقوة اليقين. وقد أدى الشيخ/ أبو السمح فريضة الحج في سنة 1345 هـ. وذلك عندما دعاه عاهل السعودية الملك/ عبد العزيز عضوًا في مؤتمر مكة المكرمة ذلك العام. لما كان الله قد جعل من الشيخ/ أبو السمح وعاء كريمًا من أوعية القرآن الكريم وأعطاه مزمارًا من مزامير آل داود، فقد طلب إليه جلالة الملك/ عبد العزيز آل سعود - رحمه الله - أن يكون إمامًا وخطيبًا للحرم المكي لما أعجبه من رخامة صوته وعذوبة تلاوته للقرآن. وقد أشجى الشيخ / أبو السمح - رحمه الله - وأبكى المصلين خلفه من الوافدين إلى بيت الله من كل فج عميق خصوصًا في صلاة الفجر. قرابة ربع قرن (من السنين). وكان موضع تقدير ولاة الأمر حينذاك، ولم تقف جهوده - رحمه الله - عند إمامة الناس بالمسجد الحرام، بل كانت له جهود أخرى في سبيل نشر دعوة التوحيد. وكانت له إسهامات طيبة في نشر العلم الصحيح، وتصحيح المفاهيم. ومن هذه الجهود: 1- درس كان يلقيه في الحرم الشريف يزكي به النفوس ويطهر به القلوب من أدران البدع والخرافات. 2- كان له أثر كبير في تأسيس دار للحديث بمكة سنة 1352 هـ على غرار ( دار الدعوة والإرشاد )، ورحب الملك/ عبد العزيز - رحمه الله - بها وخصص لها مساعدة مالية سنوية، وبلغ من إعجابه بها وبصاحبها أن جعل دار الأرقم بن أبي الأرقم مقرًّا لها. 3- وقد ظل الشيخ / أبو السمح مديرًا لدار الحديث ثمانية عشر عامًا موجهًا طلبتها وجهة الكتاب والسنة عملًا وعلمًا، وقد استعان بصهره الشيخ / محمد بن عبد الرزاق حمزة ليعمل مساعدًا له ومعلمًا بالدار، وذلك بعد أن أصابته الشيخوخة المبكرة والضعف والوهن حتى عجز في آخر أيامه عن الإمامة والخطابة بالحرم إلا نادرًا. وفاته: توفي في الساعة الثالثة من صباح يوم الاثنين العاشر من رجب 1370 من الهجرة النبوية، وقد جاوز نصف العقد السابع، وكانت وفاته بمستشفى الجمعية الخيرية الإسلامية بالقاهرة أثر تسمم كان نتيجة التهاب في الكليتين، وقد كان يشكو من قديم مرض السكر، فنشأ عن ذلك ضعف في القلب وهبوط في قواه. مؤلفاته: 1- كتاب ( حياة القلوب في معاملة علام الغيوب ). 2- (الرسالة المكية). 3- (كرامات الأولياء). 4- (الحج وفق السنة المحمدية). 5- وله نظم كثير. ماذا قالوا عنه: 1- جلالة الملك/ عبد العزيز عاهل الجزيرة العربية وقتذاك قال عنه في برقية العزاء التي أرسلها إلى عبد اللطيف أبو السمح: مصابنا مصابكم، وأمر باستضافة عائلته بالحجاز، وهذا إنما يدل على مكانة الرجل عند ملك السعودية وعظماء رجال الدولة. 2- وقد قال عنه الشيخ/ محمد بن عبد الرزاق حمزة: فقد الإسلام داعية من دعاته، وفقدت السنة بطلًا من أنصارها، وفقد المسجد الحرام إمامًا كان أهلًا لإمامته، وفقد القرآن المجيد وعاء من أوعيته، ومزمارًا من مزامير آل داود، مرتلًا لآياته بصوته الرخيم أمام وجه الكعبة ربع قرن من الزمان، وفقدت العبادة الخالصة تقيًّا من تقاة المؤمنين. وفقدت دار الحديث المكية إدارة رشيدة، وسندًا ساندًا وتوجيهًا حكيمًا. ماذا أبكي فيه، أعشرة ثلاثين عامًا في مذاكرة العلم من تفسير القرآن وتفهمه، وإحياء السنة متنًا وسندًا وفقهًا ؟ أم أبكيه صهرًا كريمًا وأبًا رحيمًا لأولاد أختي ؟ أم تبكيه كرام وجوه زوار بيت الله الحرام في داره حينما يدعوهم إلى الزيارة والأنس والتعارف وربط مودة الإسلام، فينصرفون من داره تبهرهم محاسن أخلاقه ولطف محضره وأنس حديثه، وبشاشة وجهه، وكرم ضيافته ؟ أم تبكيه عبقرية الشعر الذي خدم به دينه والصالحين من عباده، غير متآكل به ؟ إلا أن ذروة الأمر وسنامه، أنه فارس للقرآن حفظًا وتجويدًا ورخامة صوت ونداوة تلاوة، وعذوبة قراءة. وقال عنه الشيخ/ إبراهيم بن عبيد في (تذكرة أولي النهي): (كان رجلًا عاقلًا أديبًا ذا بشاشة وتواضع رزينًا، له لحية كثة بيضاء ممتلئ الجسم، بهي المنظر كان لخطبته وقراءته وقع عظيم في النفوس). يقرأ عنه في: "مجلة الهدي النبوي"، عدد 8 لسنة 1370 هـ. عدد 10 لسنة 1370 هـ.
من منطلقات العلاقات الشرق والغرب (التكافؤ في الحوار) يقتضي الحوار التكافؤ بين المتحاورين، كما يقتضي الاتفاق على المقدمات، أو على بعضها على الأقل،ومن الطيب دائمًا أن نتحدث نحن المسلمين عن أجمل ما في الإسلام حسب السياق، استنادًا إلى نص الآية الكريمة: ﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ﴾ [المائدة: 3]. إلا أن الملحوظ على بعض المتحاورين، وليس كلهم، تركيزهم على سماحة الإسلام، وهذا أيضًا أمر مطلوب إذا عرضت سماحة الإسلام بعيدًا عن إشعار الآخرين بأننا ندافع عن ممارسات قد لا تدخل في مفهوم سماحة الإسلام [1] ، وهي تحسب على أصحابها ولا تحسب على الإسلام. قد لا يكفي موقف الذين يريدون الحديث في الحوار عن سماحة الإسلام فيغضون الطرف عن الجهاد مثلًا، وأنه كان وسيلةً من الوسائل التي انتشر بها الإسلام، وبرزت فيه السماحة بأرقى معانيها، فيردون على المستشرقين بأن الإسلام لم ينتشر بالسيف، ولكنه انتشر بالإقناع والتأثير والتأثر،ولو قال هؤلاء المحاورون: إن الإسلام لم ينتشر بالسيف فحسب، وإنما انتشر أيضًا بالإقناع والتأثير والتأثر، كما هي الحال في شرق آسيا وجنوبها وجنوب الصحراء الكبرى من قارة إفريقيا، لو قالوا ذلك، لاختلفت لغة الحوار، ولوجدت فيها شيئًا من القوة والكفاية، وقد مرت مناقشة هذه الجزئية في هذا المحدد. قد يرى بعض المتحاورين أن التركيز على سماحة الإسلام مدعاة إلى قبوله في المبدأ، ثم يمكن حينئذ الحديث عن الظاهرات التي قد لا ترى - في نظر البعض - أنها تترجم سماحة الإسلام؛ كالجهاد والحدود ونحوها، مما تعاني من هجوم صارخ من منظمات وهيئات وأفراد،ويظهر أن هذا المبدأ في الحديث قد يعني تفسيرات عدة، أخشى أن يكون منها إخفاء هذه المفهومات العملية الإسلامية عن الآخر؛ بسبب الخجل من إبرازها، وأنها إنما قامت لترسيخ سماحة الإسلام، وحرصه على الأمن الشامل في كل مفهوماته. مع الخجل قد يأتي سبب آخر يوحي بعدم الاقتناع بهذه الحدود والجهاد أو القوامة أو الحجاب أو نحوها، على اعتبار أنها غير مرعية في الغالب، وغير مقتنع بها في الغالب أيضًا من الطرف الآخر في الحوار،وهذا مزلق عقدي خطير يؤثر على إيمان المرء، وقد يؤدي إلى نتائج وخيمة في مسألة الإيمان. لا يظهر أن هذا السبب قائم لدى كثير من المتحاورين في الطرف الإسلامي، لا سيما المعنيين في الحوار من أهل العلم، ولو ظهر على بعضهم منطلق الاعتذار والتسويغ والدفاع،وعلى أي حال فليس المراد هنا الحكم على الناس، ولكن الملحوظ أن الحوار أضحى ظاهرة تتزايد الحاجة إليها مع هذا العصر الذي تتسابق فيه الأحداث، ويظهر اسم الإسلام فيه بصور غير دقيقة، مرتبطة غالبًا بأحداث غير سارة؛ كالأعمال التخريبية/ الإرهابية، ولا تعكس بالضرورة سماحة الإسلام، بل ربما لا تعكس بالضرورة، وفي كثير من الحالات، الفهم الصحيح للإسلام. عليه، فلا بد من تشجيع الحوار والدعوة إليه والمشاركة فيه في أي شكل من أشكال السلمية المتعددة، ما روعيت في ذلك عوامل الحوار المهمة المطلوبة،ولا بد من التوكيد على أشكال الحوارات الودية التي تظهر نتائجها إيجابية قائمة على الإقناع والاقتناع والتأثير والتأثر، بعيدًا عن الأشكال الأخرى التي تزيد الفجوة، ولا تخدم أيًّا من الطرفين المتحاورين. [1] انظر في ذلك: عبدالرب نواب الدين آل نواب ، وسطية الإسلام ودعوته إلى الحوار - في: المؤتمر العالمي عن موقف الإسلام من الإرهاب - الرياض: جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، 1425هـ/ 2004م - ص 48.
النقود والعملات في بلاد الشام في العصر الزنكي (521 ـــ 579ه / 1127 ـــ 1183م) مـقـدمــة: قبل أن نتحدث عن النقود والعملات في بلاد الشام العصر الزنكي (521 - 579ه / 1127 - 1183م)، لا بد من التطرق إلى موقع بلاد الشام وتسميتها وأهميتها الإستراتيجية، ومن ثم تقديم دراسة لأبرز المواقع الجغرافية فيها، وبالنسبة لموقع الشام الجغرافي، فإنه يعد من المواقع الإستراتيجية المهمة التي أعطت صورة واضحة الأهمية في فهم طبيعة الأحداث السياسية التي عاشتها البلاد في الحقبة الزمنية الزنكية. بينما قسَّم الجغرافيون العالم إلى سبعة أَقاليم، تقع بلاد الشام ضمن الإقليم الثالث الذي يبدأ من المشرق فيمر على شمال الصين، ثم الهند والسند وكابل [1] ، وكرمان [2] وسجستان [3] ، وفارس والأحواز والعراق والشام والإسكندرية في مصر، وبلاد الصين، وصولًا بالقرب من مدين [4] في الشام [5] ، وقد قسم بعضهم الشام إلى خمسة أجناد [6] ، وهي جند قنسرين [7] ، وجند دمشق وجند الأردن، وجند فلسطين وجند حمص [8] . أما فيما يخص حدود بلاد الشام، فإن غربيَّها بحر الروم أو البحر المتوسط، وشرقيَّها بادية الشام من أيلة [9] إلى الفرات، ثم من الفرات إلى حد الروم ــ تركيا حاليًّا ــ [10] ، وشماليَّها بلاد الروم، وجنوبيَّها حد مصر، وآخر حدودها مما يلي مصر مدينة رفح، ومما يلي الروم الثغور وهي ملطية [11] والحدث [12] ومرعش [13] وطرسوس [14] ، والذي يلي الجانب الشرقي والغربي [15] . وأما سبب تسميتها بالشام، فقد تعددت الروايات في ذكر تسمية الشام، ومنها أنها سميت شامًا لشامات في أرضها سود وبيض وحمر [16] ، وقيل: إنها سُميت بالشام نسبة إلى سام بن نوح عليه السلام، وذلك أنه أول من نزلها، فجعلت السين شينًا لتغيُّر اللفظ العجمي [17] ، بينما ذكر آخرون أَن سبب تسميتها بالشام، لأنها تقع شمال الكعبة [18] ، في حين ذكر البعض الآخر أَنَّ قومًا من كنعان بن حام خرجوا عند التفريق، فتشاءموا إليها؛ أي أخذوا ذات الشمال، فسميت بالشام [19] ، أو أنها شُبِّهت بالشؤم وهي اليد اليسرى [20] ، والشام بالسريانية تعني الطيب، وسُميت بذلك لطيبها وخصبها [21] . نبذة عن الأوضاع السياسية في العصر الزنكي: كانت بلاد الشام منذ دخولها الإسلام قد خضعت لسلطة الكثير من الدويلات والإمارات التي تعاقبت على حكمها، واتسمت بالصراع السياسي والعسكري الذي أدَّى بدوره إلى إحلال الضعف والانقسامات بين الأطراف المتصارعة، فكانت نتيجة تلك الصراعات إفساح المجال أمام القوى الصليبية لغزوها، وقد كان السلاجقة [22] إحدى تلك القوى التي سيطرت على أجزاء واسعة من بلاد الشام. وقد بلغت السلطة السلجوقية أوجَ قوتها عندما دخل السلطان السلجوقي ألب أرسلان [23] إلى مدينة حلب سنة (463هـ / 1070م)، بعدما جعل طريقه على ديار بكر، ومر على آمد، ثم إلى الرها، فحاصرها ولم ينجح بالسيطرة عليها [24] ، وعندما قدم حلب محاصرًا لها وفيها الأمير محمود بن نصر بن صالح بن مرداس (457 ـــــ 468ه / 1064 ـــــ 1075م م)، واستمر حصاره لها إلى أن خرج اليه محمود مع والدته فأنعم عليه وملكه إياه، وسار إلى القائد البيزنطي ديو جانس [25] الذي كان قد خرج من القسطنطينية، فالتقاه في موقعة ملاذ كرد (463ه / 1070م)، وانتصر عليه وهزم جيشه، وغنم معسكره وأسره، ثم منَّ عليه وأطلق سراحه، وقيل: إن أهل مملكته قتلوه لأمور نقَموها عليه، وكان ألب أرسلان أول من ذكر على منابر بغداد، وقيل له السلطان العالم [26] . وعندما خرج السلطان ألب أرسلان أوصى بالسلطنة لابنه ملكشاه (465 ـــ 485ه / 1072 ـــــ 1092م) الذي كان معه، وأمر أنْ يحلف له العسكر، فحلفوا جميعًا، وأرسل ملكشاه إلى بغداد يطلب الخطبة له، فخطب له على منابرها لإضفاء الشرعية لحكمه، وكان الخليفة العباسي في ذلك الوقت هو القائم بأمر الله (422 ـــ 467ه / 1030 ـــ 1074م) [27] . وبدأ الصراع داخل الأسرة السلجوقية نتيجة الانقسامات المتكررة، وانقسام السلاجقة إلى ثلاثة أقسام وهم: سلاجقة العراق، وسلاجقة الشام، وسلاجقة الروم، وأدى ذلك إلى ظهور نظام جديد أطلق عليه نظام الأتابكيات [28] ، وكان يطلق على هذه الأتابكيات اسم أتابك، وبعض هذه الوحدات صغيرة جدًّا لا تتعدى حدودها مدينة أو قلعة. النقود والعملات الزنكية: إنَّ دراسة الأوضاع النقدية في الدولة الزنكية تستند في تفسيرها إلى الأحوال الاقتصادية التي عاصرتها الدولة منذ نشوئها، وحتى سقوطها في كل من بلاد الشام والجزيرة، وكذلك مصر، أي من السنوات (521 ـــ 579ه / 1127 ـــ 1183م)، ولا جدال في أن العملة الزنكية توزعت كثيرًا، نظرًا لاتساع رقعة الدولة، وكذلك حجم معاملاتها مع القوى السياسية المجاورة أيضًا [29] . وكانت صناعة ضرب النقود بسيطة نوعًا ما؛ إذ يؤخذ طابع من حديد تنقش عليه الكلمات أو الآيات التي يراد ضربها على النقود مقلوبة، ثم توزن المعادن، ويوضع الطابع فوق كل قطعة، ويضرب عليها بمطرقة ثقيلة حتى تظهر الكتابة عليها [30] . وعُرفت السكة بأنها: ((الختم على الدَّنانير والدَّراهم المتعامل بها بين النَّاس بطابع حديد ينقش فيه صور أو كلمات مقلوبة، ويضرب بها على الدّينار أو الدّرهم، فتخرج رسوم تلك النّقوش عليها ظاهرة مستقيمة، بعد أن يعتبر عيار النّقد من ذلك الجنس في خلوصه بالسَّبك مرَّة بعد أخرى، وبعد تقدير أصحاب الدّراهم والدّنانير بوزن معيَّن صحيح يصطلح عليه، فيكون التّعامل بها عددًا، وإن لم تقدّر أصحابها يكون التّعامل بها وزنًا، ولفظ السَّكَّة كان اسمًا للطّابع وهي الحديدة المتَّخذة لذلك، ثمّ نقل إلى أثرها وهي النّقوش الماثلة على الدّنانير والدّراهم، ثمّ نقل إلى القيام على ذلك والنّظر في استيفاء حاجاته وشروطه)) [31] . وقد وجد دار الضرب في الدولة الزنكية، وهو دار خاص بسك العملة؛ إذ استخدمت الدولة الزنكية عملات ذهبية وفضية ونحاسية تعني الفلوس جمع فلس، وهذه تعريب من اليونانية، وهو نقد أثيني كان يساوي سدس الدرهم الأتابكي؛ أي (15) سنتيمًا، ووزن الفلس (72) غرامًا [32] . وكذلك الدينار الصوري الذي كان يضرب في مدينة صور بالشام [33] ، ومن المرجح أن الفضة كانت متوافرة بصورة كبيرة في المشرق الإسلامي، وأنها امتلكت كميات كبيرة من المعدن الأبيض، أما الذهب فكان يجلب من مناطق الإمبراطورية البيزنطية، ولاتِّصالها التجاري مع الصليبيين الذين استوردوه من بيزنطة [34] ، ومن الجدير بالذكر هو أن بلاد الشام في حقبة الأتابك عماد الدين زنكي ونور الدين محمود، كانت في حرب مستمرة مع الصليبيين للاستحواذ والسيطرة، فلم يستطيعوا في المدة المبكرة من حكمهم على سك نقود فيها إلا بعد مدة زمنية لاحقة. وانتشرت دار سك العملة في دمشق وحلب وغيرها من المدن الشامية الاخرى، وقد سُكَّت العملات الزنكية الذهبية والفضية التي امتازت بأنها سليمة الضرب ـــ أي التي تكون سليمة من كل عيب يقع عليها في النصوص والنقوش والخط أو الدوائر أو القالب ـــ [35] والدراهم الفضية لنور الدين محمود التي سُكَّت في سنة (555ه / 1160م) وبلغ وزنه (890, 5) غرامًا، وكان على النحو الآتي: مركز الوجه: صورة نصفية لشخص متجه نحو اليسار قليلًا فوق رأسه ملكان ناشران أجنحتهما، أما الهامش: (خمسمائة) على اليمين و(خمس وخمسين) على اليسار. مركز الظهر: ابن زنكي الملك العادل العالم ملك أمراء الشرق والغرب، وكتب على اليمين (مودود) وعلى اليسار (بن آق سنقر)، ولا يوجد له هامش [36] . ولقد سكت في سنة (558ه / 1162م) دراهم فضية أخرى في عهد نور الدين محمود، بلغ وزن بعضهم (900، 2) غرام، وقطر (22) ملم، والبعض الآخر منها بلغ وزانها (100، 3) غرام، وقطر (23) ملم [37] ، وكان على الشكل الآتي: مركز الوجه: صورة شخصين واقفين ومتقابلين بينهما الصولجان وضع على مدرج، كتب بين الشخصين والصولجان على جهة اليمين (نور الدين)، وعلى اليسار (العادل). مركز الظهر: صورة شخص واقف، كتب على اليمين (محمود)، وعلى اليسار (ملك الأمراء) [38] . ومن الجدير بالذكر أن العملة النحاسية لنور الدين محمود لم يذكر عليها شهادة التوحيد، ولا الرسالة المحمدية، ولا اسم الخليفة المستضيء بالله، وذلك لأن الخلفاء العباسيين لبعض الدويلات في مشرق ومغرب العالم الإسلامي منحتهم صلاحية سك العملات الصغيرة النحاسية، وذلك للتعامل الداخلي للتبضع، وتيسير أمور التجارة الداخلية، إذ امتازت عملات نور الدين محمود النحاسية جميعها بأنها صغيرة الحجم، خفيفة الوزن، رديئة الضرب، ضعيفة الخط، ونرى العملات النحاسية هذه مصورة على الوجهين بصورة أشخاص بكامل أجسامهم، وهي بلا شك ذات تأثيرات يونانية، وهذه الميزة جديدة بالنسبة للعملات النحاسية في بلاد الشام والجزيرة وغيرهما [39] ، وإلى جانب العملات المعدنية، فمن المرجح أن بلاد الشام حينذاك عرفت الأوراق المالية التي عرفت بالصكوك [40] . وقد أحدثت هذه القراطيس العديد من المشاكل في التعاملات التجارية، ففي إحدى المرات حضر بعض التجار عند نور الدين محمود وشكوا زيادة ونقصان هذه القراطيس الذي يؤدي إلى خسارتهم، إذ إن القراطيس كان كل ستون منهم بدينار، فصار سبعة وستون بدينار، فيخسر بذلك أغلب التجار، وعندها سأل نور الدين محمود الحاضرين في مجلسه عن الحل، فذكروا له أن عقد المعاملة على اسم الدينار، ولا يرى الدينار في الوسط، وإنما يعدون القراطيس بالسعر تارة ستين منها بدينار، وتارة سبعة وستين بدينار، وبعدها أشار كل واحد من الحاضرين على نور الدين محمود أن يضرب الدينار باسمه، وتكون المعاملة بالدنانير الملكية، وتبطل القراطيس كليًّا، فسكت نور الدين قليلًا، ثم قال: إذا ضربت الدينار وأبطلت المعاملة بالقراطيس، فكأني خرَّبت بيوت الرَّعية، فإن كل واحد من السوقة عنده عشرة آلاف وعشرون ألف قرطاس، فماذا يعمل به، فيكون سببًا لخراب بيته، فأي شفقة تكون أعظم من هذا على الرعية، فأمر أن تبقى المعاملة بالقراطيس، وأن يكون عددها موحدًا أمام الدينار [41] . وعندما توسعت سيطرة الدولة الزنكية، وتوسعت مناطق نفوذها على بلاد الشام والجزيرة ومصر في عهد نور الدين محمود، ضرب السكة الدراهم والدنانير باسم نور الدين محمود، ففي سنة (566ه / 1170م) سَكَّت الموصل النقود باسم نور الدين محمود [42] ، وعندما سقطت الخلافة الفاطمية في مصر سنة (567ه / 1171م)، قرر صلاح الدين الأيوبي ضرب السكة باسم الخليفة العباسي المستضيء بأمر الله وباسم الملك العادل نور الدين محمود صاحب الشام، ولا سيما أن نور الدين محمود أرسل إليه الذهب تكريمًا له [43] ، فقد نقش اسم كل واحد منهما في وجه، وفيها عمَّت بلوى المضايقة بمصارف أهل الديار المصرية، وذلك لأن الذهب والفضة خرجا من مصر ولم يرجع إليها بعد ذلك إلا عند وفاة نور الدين محمود سنة (569ه / 1173م)، عندها قرر صلاح الدين أن تبطل هذه النقود من الدراهم والدنانير، وأمر أن تضرب الدنانير ذهبًا مصريًّا ودنانيرَ ناصرية [44] ، وبعد أن تسلم الملك الصالح إسماعيل ملك أبيه، بعث صلاح الدين كتبه إليه يعزيه بوفاة والده، ويهنئه بتسلمه السلطة، كما أرسل إليه دنانير مصرية عليها اسم الملك الصالح بعد أن أطاعه وخطب باسمه [45] . أما في عهد الملك الصالح إسماعيل (569 ـــ 577ه / 1173 ـــ 1181م)، فقد سُكَّت العديد من الدراهم الفضية والنحاسية خلال مدة حكمه، فالدراهم الفضية ضربت في مدينة حلب بعد وفاة والده نور الدين محمود سنة (569ه / 1173م)، فقرَّر الانتقال من دمشق إلى حلب بسبب الخلافات التي أحدثتها وفاة والده بسبب صغر سن الصالح إسماعيل [46] ، وكان قد ضرب الدراهم الفضية سنة (574ه / 1178م)، وكانت على الشكل الآتي: مركز الوجه: الله لا إله إلا الله وحده لا شريك له، المستضيء بأمر الله أمير المؤمنين، والهامش: بسم الله ضرب هذا الدرهم بحلب سنة أربع وسبعين وخمسمائة. مركز الظهر: الله، محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، الملك الصالح إسماعيل بن محمود، وعلى اليمين كتب: ابن زنكي، وعلى اليسار: ابن آق سنقر، والهامش: أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون [47] . وإن هذا الدرهم كان منقوشًا بالخط الكوفي المزخرف بزخارف هندسية، كما في كلمة المستضيء (المستضي)، والصالح (الصالح)، وأمير المؤمنين (أمير المؤمنين) [48] . أما العملة النحاسية، فكانت قد ضربت بين سنتي (569 ـــ 570ه / 1173 ـــ 1174م) في مدينة دمشق، وكان شكله كما يأتي: مركز الوجه: إسماعيل الملك الصالح، والهامش غير واضح نتيجة الاستعمال. مركز الظهر: الملك الناصر يوسف، والهامش غير واضح نتيجة الاستعمال أيضًا [49] . فضلًا عن الدراهم النحاسية التي سُكَّت في دمشق في السنة نفسها، فكانت على النحو الآتي: مركز الوجه: المستضيء بالله أمير المؤمنين، والهامش: ضرب (بدمشق). مركز الظهر: الملك الصالح، والهامش: بسم الله [50] . وأما فيما يخص أوزان هذه الدراهم، فقد اختلفت من مرة لأخرى، فتارة بلغ وزنها (040، 3) غرام، وقطر (18) ملم، وتارة (290، 2) غرام، وقطر (18) ملم، وتارة أخرى (800، 4) غرام، وقطر (23) ملم، و(650، 5) غرام، وقطر (22) ملم [51] ؛ لأن النقود تتبع حالة البلد سياسيًّا واقتصاديًّا، فكلما كانت البلاد مستقرة أمنيًّا، سكت نقودًا جيدة ذات وزن ثابت. ومن الجدير بالذكر أن الصليبيين كانوا قد سكوا نقودًا ذهبية وفضية ونحاسية مقلدة للدراهم والدنانير الفاطمية، وسجلوا عليها عبارات مسيحية باللغة العربية، إلى جانب سكهم نقودًا ذات عبارات لاتينية [52] ، إذ خصصت أغلب هذه النقود للتعامل مع مناطق الشرق، إلى جانب ما امتلكته كل إمارة من إمارات الصليبيين عملتها الخاصة بها، ولا سيما العملة الفضية والقراطيس التي سكت بنفس أسلوب العملات التي سكت في فرنسا في سنة (542ه / 1148م)، مع تغيير طفيف، ففي وجه العملة نقشت صورة صليب، وعلى ظهرها كتب: (مدينة طرابلس)، بينما نقشت على بعضها في مركز الوجه عبارة: (عملة طرابلس)، بينما امتلأ الصليب ظهر العملة بدوائر وخواتم صغيرة، أما العملات الذهبية فنقش عليها: (دينار طرابلس) الذي كان تقليدًا للدنانير الإسلامية [53] . أما في سنة (575ه / 1180م)، فقد سكت جمهورية جنوة الإيطالية العديد من العملات الذهبية في مدينة عكا، فضلًا عن الدنانير الذهبية البيزنطية ذات الكتابات العربية التي كانت متداولة بنسبة كبيرة في الشام، وكانت هذه النقود يستخدمها أغلب الحجاج المسيحيين وتجار الغرب المسيحي الذين كانت لهم علاقات تجارية واسعة مع بلاد الشام في العصر الزنكي [54] . وكان للمحتسب دور كبير في مراقبة معاملات الأسواق والصيارفة، ومنعت التعامل بالعملة المغشوشة والربا، فمن تعامل به وجب على المحتسب أن يعرفه بأصول ومسائل الربا، كما أنه لا يجوز لأحد بيع الذهب بالذهب، والفضة بالفضة إلا مِثْلًا بِمِثْلٍ [55] ، ومنعت التعامل في بيع الخالص بالمغشوش والعكس، أو المغشوش بالمغشوش من الذهب والفضة، كبيع الدنانير المصرية بالدنانير الصورية، أو الصورية بالصورية، أو غير ذلك، لوجود الجهل بمقدارها، وعدم التماثل بينهما في الوزن ونحوه [56] . الخاتمة وقد خرجت هذه الدراسة بالنتائج الآتية: 1- تكمن أهمية الدولة الزنكية في الدور المهم الذي أدَّاه أمراؤها على مسرح أحداث الشرق الأدنى الإسلامي في مرحلة من أشد مراحل التاريخ الإسلامي خطورة. 2- وشغلت التجارة جانبًا كبيرًا من اهتمامات الزنكيين، فاتبعوا السياسة السلمية مع الصليبيين مؤيدة بالاتفاقات والمعاهدات، إذ لم يلقَ التجار الذين كانوا يدخلون إلى بلاد الشام صعوبات كثيرة؛ وذلك لأن الملك العادل نور محمود كان قد عمل على إلغاء الرسوم والضرائب والمكوس، فاستقرت الأسعار في الأسواق، واستفاد منها جميع الأطراف بفعل رخص الأسعار وجودة البضاعة، وعدم احتكارها، فضلًا عن استئناف العلاقات التجارية مع الإيطاليين والفرنسيين وغيرهم، إذ كانت سفن جنوة وبيزا والبندقية تؤم الموانئ الشامية محملة بالبضائع الأوروبية، وتشحن معها المنتجات الشامية والمستوردات الشرقية، وكان ذلك كله من خلال سك العملة الزنكية ـــ الذهبية والفضية والنحاسية ـــ واتباع سياسة مالية صارمة لمنع الغش والحيل. 3- ومهما يكن من أمر، فإن العصر الزنكي كان من أزهى العصور الإسلامية التي مرَّت على بلاد الشام في العصور الوسطى، على الرغم من قِصَر المدة؛ فقد ترك الزنكيين بصماتهم شاهدة على حسن أعمالهم، وبديع أفعالهم، وروائعهم الخالدة. [1] كابل: من ثغور طخارستان، وأهم مدنها أذان وخواش وخشك، ينظر: (ياقوت الحموي، معجم البلدان، 4 /426). [2] كرمان: إقليم ولاية مشهورة وناحية كبيرة معمورة ذات بلاد وقرى ومدن واسعة بين فارس ومكران وسجستان وخراسان، ينظر: (ياقوت الحموي، معجم البلدان، 4 / 454). [3] سجستان: أحد أقاليم خراسان، وهي ناحية كبيرة وولاية واسعة، وأرضها سبخة ورمال حارة، ينظر: (ياقوتالحموي، معجم البلدان، 3 / 190). [4] مدين: من اعمال طبرية، واسم لقبيلة ايضًا، ينظر: (ياقوت الحموي، معجم البلدان، 5 / 78). [5] ياقوت الحموي، معجم البلدان، 1 / 30؛ شيخ الربوة، نخبة الدهر في عجائب البر والبحر، 20. [6] اجناد: جمع جند وقيل سمى المسلمون فلسطين جندًا لأنه جمع كورًا والتجنيد يعني التجمع وقيل جندت جندًا؛ي جمعت جمعًا وسميت كل ناحية بجند كانوا يقبضون اعطياتهم فيه، ينظر: (ياقوت الحموي، معجم البلدان، 1 /103). [7] قنسرين: مدينة في شمال الشام بين حلب وحمص، ينظر: (ياقوت الحموي، معجم البلدان، 4 / 403 ــ 404). [8] الزمخشري، الجبال والامكنة والمياه، 89؛ ياقوت الحموي، معجم البلدان، 3 / 312؛ الحميري، الروض المعطار في خبر الاقطار، 335. [9] ايلة: مدينة على ساحل بحر القلزم (البحر الاحمر) مما يلي الشام وقيل: آخر الشام وأول الحجاز، ينظر:(ياقوت الحموي، معجم البلدان، 1 / 292). [10] مجهول، حدود العالم من المشرق إلى المغرب، 175. [11] ملطية: بلدة من بلاد الروم المشهورة وهي متاخمة للشام، ينظر: (ياقوت الحموي، معجم البلدان، 5 / 192). [12] الحدث: قلعة حصينة بين ملطية وسميساط ومرعش من الثغور، ينظر: (ياقوت الحموي، معجم البلدان، 2 /227). [13] مرعش: مدينة في الثغور بين الشام وبلاد الروم ولها سوران وخندق، ينظر: (ياقوت الحموي، معجم البلدان، 5/ 107). [14] طرسوس: وهي مدينة بثغور الشام بين انطاكية وحلب وبلاد الروم، ينظر: (ياقوت الحموي، معجم البلدان، 4 /28). [15] الأصطخري، المسالك والممالك، 55؛ ابن حوقل، صورة الأرض، 1 / 165؛ مجهول، حدود العالم، 175. [16] المقدسي، أحسن التقاسيم في معرفة الاقاليم، 152؛ البكري، المسالك والممالك، 1 /460. [17] البكري، معجم ما استعجم من اسماء البلاد والمواضع، 3 / 773؛ ياقوت الحموي، معجم البلدان، 3/312. [18] ابن فضل الله العمري، مسالك الأبصار في ممالك الأمصار، 3 / 508. [19] الحموي، معجم البلدان، 3 / 312. [20] ابن شداد، الاعلاق الخطيرة في ذكر امراء الشام والجزيرة، 1 / 15؛ ابن منظور، مختصر تاريخ دمشق، 1 / 41. [21] الحموي، معجم البلدان، 3 / 312. [22] السلاجقة: ينتسب السلاجقة إلى قبيلة قنق التركية والتي استقرت في بادئ الامر ببلاد ما وراء النهر اي سهول تركستان خلال القرون الثاني والثالث والرابع والتي هاجرت من موطنها الاصلي نحو مناطق آسيا الصغرى بسبب العوامل الاقتصادية بحثًا عن الكلأ والمراعي والاستقرار واعلنوا قيام دولتهم بشكل رسمي بعد انتصارهم على الغزنويين سنة (429هـ / 1037م) بقيادة طغرلبك، ثم إنقسم السلاجقة بعد ذلك إلى سلاجقة الروم وسلاجقة العراق وسلاجقة الشام. البنداري، تاريخ دولة آل سلجوق، 5 ـــ 10؛ الحسيني، أخبار الدولة السلجوقية، 2 ـــ 6. [23] الب أرسلان: هو محمد بن داود جغري بك بن ميكائيل بن سلجوق، ولد في (424هـ / 1032م) وتوفي عاشر ربيع الأول (465 هـ / 1072م) بعمر الأربعين وبضع شهور, ودفن عند أبيه في مرو، وحكم للمدة (455 ـــ 465ه / 1063 ـــ 1072م). ابن الأثير، الكامل في التاريخ، 8 / 231. [24] ابن الأثير: الكامل، 8 / 222؛ ابن خلدون، ديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهممن ذوي السلطان الاكبر، 5 / 4. [25] ديو جانس: ويعرف بأرمانوس ديو جانس، وهو القائد البيزنطي الذي كان كثير الإعتداء على بلاد الشام لاسيما فيسنة (460 ـــ 462ه / 1067 ـــ 1069م) فوجد الب أرسلان الفرصة مواتية للتخلص من خطره، إذ إنتصر عليهفي معركة ملاذ كرد سنة (463ه / 1070م)، فأطلق سراحه شرط أن لا يتعرض لبلاد المسلمين، لكن أهل ملتهقتلوه بعد ذلك. ابن الأثير، الكامل، 8 / 223؛ ابن العديم، بغية الطلب في تاريخ حلب، 4 / 1972 ــ 1973. [26] ابن الأثير، الكامل، 8 / 223؛ ابن العديم، بغية الطلب في تاريخ حلب، 4 / 1971 ــ 1973؛ الصفدي، الوافي بالوفيات، 2 / 229. [27] ابن الأثير، الكامل، 8 / 223. [28] الأتابكيات: مفردها أتابك، هو الذي يربي أولاد الملوك، أتا بالتركية بمعنى (الأب) وبك بمعنى (الأمير) اي الامير الوالد، فكان زنكي عندما تقلد الموصل سلم اليه السلطان محمود ولديه ألب أرسلان وفروخ شاه المعروف بالخفاجي ليربيهما فلهذا قيل له أتابك. ابن خلكان، وفيات الاعيان وانباء ابناء الزمان، 2 / 328. [29] الجليلي، المكاييل والأوزان والنقود العربية، 246. [30] الرفاعي، الاسلام في حضارته ونظمه، 239. [31] ابن خلدون، تاريخ ابن خلدون، 322. [32] المقريزي، النقود الاسلامية المسمى بـــ (شذور القعود في ذكر النقود)، 84؛ محمد، صنج السكة، 30 ـــــ 31. [33] ابن الاثير، الكامل، 9 / 395. [34] آشتور، التاريخ الاقتصادي والاجتماعي، 287؛ عوض، في الصراع الاسلامي الصليبي، 40. [35] الحسيني، العملة الاسلامية في العهد الاتابكي، 80 ـــــ 83؛ دفتر، المسكوكات، 177. [36] الحسيني، العملة الاسلامية في العهد الاتابكي، 156. [37] الحسيني، العملة الاسلامية في العهد الاتابكي، 83؛ عوض، في الصراع الاسلامي الصليبي، 40. [38] الحسيني، العملة الاسلامية في العهد الاتابكي، 125. [39] الحسيني، العملة الاسلامية في العهد الاتابكي، 125 ـــــ 126. [40] ابو شامة، الروضتين، 1 / 64. [41] ابو شامة، الروضتين، 1 / 64 ـــــ 65. [42] الصلابي، عصر الدولة الزنكية، 466. [43] ابن الجوزي، المنتظم في تاريخ الملوك والامم، 18 / 196؛ ابو شامة، الروضتين، 1 / 236؛ ابن قاضي شهبه،الكواكب الدرية، 10؛ السيوطي، تاريخ الخلفاء، 315؛ المناوي، النقود والمكاييل والموازين؛ ابن العماد، شذراتالذهب، 6 / 415. [44] المناوي، النقود والمكاييل والموازين، 23؛ ابن بعرة، الاسرار العلمية، 126؛ الكرملي، النقود العربية وعلم النميات،59 ـــــ 60؛ عبد الرحمن، النقود، 72. [45] ابن الاثير، الكامل، 9 / 395. [46] ابن الاثير، الكامل، 9 / 395 ـــــ 396؛ ابو شامة، الروضتين، 2 / 317 ـــــ 318؛ الدمشقي، الدارس في تاريخالمدارس، 473. [47] الحسيني، العملة الاسلامية في العهد الاتابكي، 84 ـــــ 85. [48] الحسيني، العملة الاسلامية في العهد الاتابكي، 85. [49] ابن الاثير، الكامل، 9 / 396؛ ابن الوردي، تاريخ ابن الوردي، 2 / 82؛ الحسيني، العملة الاسلاميةفي العهد الاتابكي، 127. [50] الحسيني، العملة الاسلامية في العهد الاتابكي، 127. [51] الحسيني، العملة الاسلامية في العهد الاتابكي، 126. [52] محمود، العلاقات الاقتصادية، 122؛ عوض، الحروب الصليبية، 139؛ حتي، تاريخ سورية، 1 / 257. [53] محمود، العلاقات الاقتصادية، 122 ـــــ 123. [54] حتي، تاريخ سورية، 1 / 257. [55] الشيزري، نهاية الرتبة، 74؛ ابن الاخوة، معالم القربة، 68. [56] الشيزري، نهاية الرتبة، 74 ـــــ 75؛ ابن الاخوة، معالم القربة، 68 ـــــ 69.
الظاهر والمختفي - في النقد اللساني بين الإبداع والتلقي لعبد الجليل مرتاض صدر حديثًا كتاب "الظاهر والمختفي - في النقد اللساني بين الإبداع والتلقي"، تأليف: أ.د. "عبد الجليل مرتاض"، نشر: "دار الأيام للنشر والتوزيع". يتناول هذا الكتاب للدكتور "عبد الجليل مرتاض" تناولًا حيويًا لقضايا لسانية متعددة تصب في ظاهرة النقد الحديث لعلوم اللغة أو ما يعرف بعلوم اللسانيات، فيبحث في "لسانيات النص "، متناولًا "تحليل الخطاب"، وأوجه "القراءات اللسانية للنصوص"، مع بيان العلاقة بين "الإبداع والتلقي" في المواءمة بين الكاتب ومتلقي النص أو القارئ، ويطرح أيضًا ظاهرة "القراءات النقدية الجديدة للنص التراثي"،... فضلًا عن قضايا لسانية عامة ولغوية خاصة، كالعلامة اللسانية، والتأويل الدلالي والشعري للخطاب، والتفكيك ... إلى جانب مساسه مساءلات أدبية ومعنوية تعد حديث اللسانيات المعاصرة والقراءات الجديدة. يقول الكاتب: " حين تسول لباحث نفسُه في إحدى لحظات اللاّوَعيْ أو الغرور أن يجرؤ على تناول عمل إبداعي أو مما يمس عالم التخيل والإبداع، لن يسعه إلا أن يجد نفسه بعد سطور خطها مورطًا في فضاءات من المجاهل والطلامس، وفي الوقت نفسه، لن يجد مناصًا، وقد ثاب إلى لحظة وعيه ونكوصه عن غروره، من أن يتهم نفسه أو يسم نفسه بأنه إما مغامر أو مبدع مراهق، ذلك أننا من جهة نريد أن نتناول عالمًا تخيليًا له أدواته ومواهبه، ومن جهة أخرى نقدم على تناول عالم لغوي يفترض فيه سلفًا أن تكون حقوله اللسانية موضوعية ذات مناهج مشخصة في وحداتها وقوالبها وتراكيبها". ويرى د. "عبد الجليل مرتاض" في كثير من أطروحاته العلمية أن استمرار البحث الأكاديمي في هذا التراث اللساني العربي الأصيل ما هو إلا دلالة على قوته وعراقته وأصالته مؤكدًا أنّ البذور والجذور التي أسّسها له أولئك الفقلغويون (فقهاء اللغة) القدماء العباقرة تنمّ عن بنيات صحيحة ومناهج سليمة لا يشوبها وهن ولا خطل في مقابل النظرات النقدية الحديثة. أمّا عن دور العرب في خلق مناهج علمية للدّراسة اللّغوية، فيرى الدكتور "عبد الجليل مرتاض" إنّهم تمكّنوا في وقت مبكّر من خلق منهج فقلغي شامل، يدرسون بفضله جوانب مختلفة من اللغة العربية، والمدهش في تلك الدراسات أنّها اعتمدت على إقامة الحجة العلمية بالعودة إلى أرقى المدوّنات العربية القديمة، في محاولة لإثبات صفاء العربية وكمالها وكذا حمايتها من أيّ تحريف -على رأي جورج مونان- ولعل ذلك واضح في كتاب سيبويه وكتب أخرى لحقت به. هذا وقد اختار علماء آخرون المنهج المقارن لدراسة العربية في مقابل اللغات الأخرى كالسريانية والعبرانية والحبشية. وأ.د. "عبد الجليل مرتاض" عمل أستاذًا في قسم الدراسات اللغوية بجامعات وهران وتلمسان وسيدي بلعباس بالجزائر، عضو اتحاد الكتاب الجزائريين، وعضو اللجنة الوطنية لبرامج اللغة العربية، وعضو المجلس الأعلى للغة العربية، وعضو رابطة الأدب الإسلامي العالمية (الرياض). تنوّعت كتابات الدكتور عبد الجليل مرتاض بين البحث العلمي (في اللغة والنقد والترجمة) والإبداع الروائي، وجاءت كتبه العلمية لتُوَجِّه أنظار الباحثين إلى التراث العربي القديم في المجال اللساني على وجه الخصوص، ومنها: • العربية بين الطبع والتطبيع (ديوان المطبوعات الجامعية- الجزائر 1993). • بوادر الحركة اللسانية الأولى عند العرب (دار الأشرف- بيروت 1988). • التحليل اللساني البنيوي للخطاب (دار الغرب- وهران- الجزائر 2000). • الموازنة بين اللهجات العربية (دار الغرب- وهران- الجزائر). • تراكيب لهجية عربية جزائرية في ظل الفصحى (دار الغرب- وهران- الجزائر). • اللسانيات الجغرافية في التراث اللغوي العربي (دار الغرب- وهران- الجزائر). • مقاربات أوّلية في علم اللهجات (دار الغرب- وهران- الجزائر). • مفاهيم لسانية دي سوسيرية (دار الغرب- وهران- الجزائر). • اللغة و التواصل (دار هومة- الجزائر). • التحوّلات الجديدة للسانيات التاريخية (دار هومة- الجزائر). • دراسة لسانية في الساميات واللهجات العربية القديمة (دار هومة- الجزائر). • التهيئة اللغوية للنحت في العربية (دار هومة- الجزائر). • الفسيح في ميلاد اللسانيات العربية (دار هومة- الجزائر 2008). • في مناهج البحث اللغوي (دار القصبة- الجزائر 2003). • مباحث لغوية في ضوء الفكر اللساني الحديث (دار ثالة- الجزائر). • دراسة سيميائية ودلالية في الرواية و التراث (دار ثالة- الجزائر 2005). • في رحاب اللغة العربية (ديوان المطبوعات الجامعية- الجزائر). • في عالم النص والقراءة (ديوان المطبوعات الجامعية- الجزائر 2006). • البنية الزمنية في القص الروائي (ديوان المطبوعات الجامعية- الجزائر 1993). أمّا عن مجال الإبداع، فقد ألف د. عبد الجليل مرتاض كثيرًا من الروايات الإبداعية منها: • رُفعت الجلسة (مطبعة النيل- القاهرة 1989). • عقاب السنين (رابطة الأدب العربي الحديث- القاهرة 1990). • دموع وشموع (اتحاد الكتاب العرب- دمشق 2001). • أنتم الآخرون (دار الغرب- وهران- الجزائر 2004). • لا أحبّ الشمس في باريس (دار هومة- الجزائر 2005). • ما بقي من نعومة أظافر الذاكرة (دار الغرب- وهران- الجزائر 2007).
نوح عليه السلام (1) نتحدَّث عن نوح عليه الصلاة والسلام أوَّل أُولِي العزم من المرسلين، وأول رسول يحذِّر مِن الشِّرك وعبادة غير الله عز وجل؛ إذ كانت أمته هي أولى الأمم المشركة على ظهر الأرض، وقد يقال لنوح: آدم الثاني؛ لأن جميع الباقين على الأرض من ذرِّيته على حدِّ قوله تبارك وتعالى: ﴿ وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ ﴾ [الصافات: 77]، وقد اختلف الناس في المدَّة التي بين آدم وبين نوح عليهما الصلاة والسلام؛ فعند أهل الكتاب أن نوحًا عليه السلام وُلد بعد موت آدم بمائة وست وأربعين سنة، وذكر ابنُ جرير أن مولد نوح عليه السلام كان بعد وفاة آدم بمائة وست وعشرين سنة، وقد ذكروا في عمود نسبه إلى آدم ثمانيةَ آباء. وكل هذه الأقاويل في المدة التي بين آدم ونوح عليه السلام، وكذلك ما ذكر في عمود نسبه إلى آدم هي أقاويل مرسَلة لا دليل عليها، وقد جاء في صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على الإسلام"، فإن أُرِيد بالقرن مائة سنة فيكون بين آدم ونوح عليه السلام ألف سنة، وإن كان المراد بالقرن الجيل من الناس فيكون بين آدم ونوح ألوف السنين؛ لما عرف مِن أن الناس قبل نوح كانوا يعمرون الدهور الطويلة، ولا يَعلم تحديد ذلك إلا الله عز وجل، على أنَّ قول حبر الأمة وترجمان القرآن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما: "كان بينَ آدمَ ونوحٍ عشرةُ قرونٍ كلهم على الإسلام"، لا يدلُّ على الحصر في هذه القرون العشرة بين آدم ونوح عليه السلام، وإنما مراد ابن عباس رضي الله عنهما أن الإنسانيَّة مرَّ عليها عشرة قرون بعد آدم وقبل نوح، وكلُّها على دين الإسلام لم تشرك بالله شيئًا، وإنما هي على التوحيد الخالص لله عز وجل، ثمَّ أَدخل عليهم الشيطانُ أسبابَ الشرك وأوقعَهم في ألوان من عبادة غير الله؛ فعبدوا الأصنام، وإلى هؤلاء المشركين بعث الله عز وجل نوحًا عليه السلام، وقد ذكر البخاريُّ في صحيحه عن ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير قوله عز وجل: ﴿ وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا ﴾ [نوح: 23]، قال ابن عباس رضي الله عنهما: "هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصابًا وَسَمُّوها بأسمائهم، ففعلوا، فلم تُعبد حتى إذا هلك أولئك، وانتسخ العلم عُبدت". وذِكْرُ الأصنام الخمسة الواردة في هذه الآية الكريمة لا يدلُّ على حصر أصنام قومِ نوح في هذه الخمسة؛ بل قد عَبَدَ قومُ نوح أصنامًا كثيرة، وقد أشار الله تبارك وتعالى إلى ذلك في قوله: ﴿ لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ ﴾ [نوح: 23]، ثم عطف على ذلك قوله: ﴿ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا ﴾ [نوح: 23]، وقد نقل عمرو بن لُحي الخزاعي أصنامًا إلى جزيرة العرب بأسماء أصنام قوم نوح، ودعا إلى عبادتها، فأخذ بنو عذرة "وَدًّا" وجعلوه بدومة الجندل، واستمرَّ بها إلى أن جاء الإسلام وهدمه خالد بن الوليد رضي الله عنه، كما أخذَتْ مُضَر بن نزار "سواعًا" ونصبوه ببطن نخلة، وعبدته هذيل، واستمرَّ حتى جاء الإسلام وهدمه، وأخذت مذحج "يغوث" ونصبوه في أكمة في بلادهم، واستمرَّ كذلك حتى جاء الإسلام وهدمه، وأخذت همدان "يعوقَ" ونصبوه بقرية يقال لها: خيوان، واستمرَّ حتى جاء الإسلام وهدمه، وأخذت حمير "نَسرًا" وجعلوه في مكان بسبأ تعبده حمير حتى جاء الإسلام وهدمه. وقد ذكر اللهُ تبارك وتعالى قصَّةَ نوح عليه السلام في سور شتى من كتابه الكريم، فذكرها في سورة الأعراف وفي سورة يونس، وفي سورة هود، وفي سورة الأنبياء، وفي سورة المؤمنون، وفي سورة الشعراء، وفي سورة العنكبوت، وفي سورة الصافات، وفي سورة اقتربت الساعة، كما جعل سورة نوح بتمامها في قصَّة نوح عليه السلام، كما ذكر الله عز وجل نوحًا عليه السلام في جملة من المرسلين في مواضع شتى من كتاب الله عز وجل، ولا شك في أنه أَوَّلُ أُولي العزم من المرسلين. وقد أشرتُ كثيرًا إلى أن من أهم فوائد قصص الأنبياء هي العبرة والتأسِّي بالأنبياء والرسل، والبُعد عما حذروا منه، وقد أطال الله تبارك وتعالى الحديثَ عن قصة نوح عليه السلام في موضعين من كتابه الكريم، أحدهما في سورة هود عليه السلام، والآخر في سورة نوح عليه السلام، وعندما تتمعَّن في مفردات هذه القصة وجملها تقف على الشيء الفريد العظيم من أساليب الدعوة إلى الله عز وجل وأساليب الهداية وتبصرة العباد بطريق الله عز وجل، وبيان ما عليه الكافرون وأعداء الله وأعداء المرسلين من محاربة الدين وأهله. وقد بدأ الله عز وجل قصَّةَ نوح في سورة هود بقوله: ﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ ﴾ [هود: 25]، وبهذا يعلم أن محمدًا صلى الله عليه وسلم ليس بدعًا من الرسل، وليس أول المنذرين، فهو في رسالته جاء على درب مسلوك وطريق مطروق سار فيه قبله الأنبياء والمرسلون عليهم من ربهم أفضل الصلاة وأزكى السلام، وقد أشار الله تبارك وتعالى إلى هذه الحقيقة إذ قال في شأن هود عليه السلام: ﴿ وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ﴾ [الأحقاف: 21]، ولتقرير هذه الحقيقة كان مطلع قصة نوح في سورة هود هو إعلان رسالة نوح عليه السلام وإنذاره قومَه حتى يرتدع اليهود ومَن على شاكلتهم الذين يقولون: ﴿ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ ﴾ [الأنعام: 91]، فإرسال الرسل مستقرٌّ في الفطرة السليمة تتناقله الأجيالُ جيلًا بعد جيل؛ ليعلم أن الله عز وجل أرسل الرسلَ ليدلُّوا العباد على مراسيم سعادتهم في العاجلة والآجلة، ولئلا يقول الناس: ما جاءنا مِن بَشير ولا نذير، وبعد أن ذكر أن نوحًا رسولٌ من الله أعقب ذلك ببيان أهم وظائف المرسلين وهي دعوة الناس إلى إخلاص العبادة لله وحده حيث قال: ﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ * أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ ﴾ [هود: 25، 26]؛ وهذا دَيْدَنُ جميع الأنبياء والمرسلين، أنهم يبدؤون قومهم بالدَّعوى إلى توحيد الله وإخلاص العبادة له؛ لأنَّ توحيد الله تبارك وتعالى هو الذي مِن أجله خلق السماوات والأرض، ومن أجله خلق الإنس والجن، على حدِّ قوله تعالى: ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ ﴾ [الذاريات: 56 - 58]. يتبع ...
العدالة وصناعة التوازن هل تستقيم حياة اجتماعية بغير عدالة؟ هل يستطيع البشر أن ينتظموا في بناء اجتماعي يسوده الظلم والاحتقار؟ ألن يؤديَ ذلك إلى البغضاء والشحناء والاقتتال؟ لماذا لا تمارس بعض البلدان النامية العدالة في أوطانها كما هو مشهود في البلدان الراقية؟ أسئلة ملأى بالقلق تنُمُّ عما أصاب كثيرًا من مجتمعاتنا العربية من خلل قِيَمِيٍّ، ترأسته السيدة الوقور المسماة عدالة، فكان من نتاجها هذا التفاوت الطبقي المهول في الهرم الاجتماعي، فبينما تجد الرجل يعيش في بذخٍ وترف يركب أعالي البحار في اليخوت الفاخرة، ويقيم فيها السهرات، ويعبر الحدود على متن الطائرة الخاصة من أجل إمضاء نهاية أسبوع في مكان سياحي جميل، وتجد الآخر يكدس الأموال في الأبناك ويستثمرها في المشاريع، تُلفي آخرين وهم كُثُر في المداشر والقرى البعيدة يئنُّون من الفقر المدقع، فترى الصبي الصغير حافيَ القدمين يجري على بسط الثلج، يلسعه البرد بسَوطه، فلا دِثار يدفئه، ولا ملبس يقيه، وتبصر المتشرد في المدن مفترشًا للرصيف، ممزقَ الثوب، يكشف أغلبه، وتنظر للمتسولين من كل الأعمار؛ عجائزَ وهن العظم منهم، وصبية عليهم الأسمال، وأرامل ابيضَّت أعينهن من الحزن، يمدُدْنَ الأيادي؛ لاستجداء العطاء في كل مكان؛ لذا فالناظر إلى مثل هذا لا بد أن يفطن إلى أن العدالة قيمة أفَلَتْ شمسها، وغار نجمها، فمدت أنامل الليل خيوط الظلام في نول هذه المجتمعات، وأحكمت نسجها حتى غدت بُسُطًا تُفترش، وألبسة تُرتدى، لا سبيل إلى إزالتها أو خلعها، هكذا غدت هذه المجتمعات المسكينة تبحث لها عن ضوء أو معنًى لضوء في غياهب الظلمات ترقب الْتِماعه من بعيدٍ؛ لعل الأمل يتحقق، لكن هيهات هيهات والجشع أعمى العيون، وحب الدنيا تملَّك القلوب، فسار المغتني في درب الاغتناء يجمع ويجمع لا يوقفه شيء، صارفًا بصره عن كل فقير، ومعرضًا عن كل محتاج، فلا زكاة مال تخرج، ولا صدقات تُوهب، كأنما الدنيا خلود لا فناء، وكأنه باقٍ لا حمام يرصده، وقد نسيَ المسكين قوله تعالى: ﴿ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ ﴾ [الأنعام: 44]، فيمضي غافلًا سادرًا على قلبه غشاوة منعته إغداقَ العطاء بعدلٍ على كل محتاج، والغريب أنه لن ينفق كل ما جمعه؛ إذ يكفيه منه قليل من قليل، فيعيش المسكين في لهفة، يلهث وراء الاغتناء، ولو أنه وهب مما أتاه الله لأهل الفقر والحاجة، ونظر في أحوالهم بقلب رقيق - لَوجد لذلك لذة لا تُضاهَى، فيغني الله قلبه، ويزيده من بركاته، فيحقق الحُسْنَيَيْن، وما أجمل أن يُرى للنعمة أثر على العباد وبين العباد! إن هذا الحديث غير محمول على من أتاه الله رزقًا ونمَّاه، حتى اغتنى فعاش ترفًا، وإنما حديثي عن نخبة من الخلق، أنشبت أظفارها في كل الخيرات، وامتصت كالخفافيش دماء الناس، محتكرة لِما حبا الله به الأرض التي تمشي عليها، فوزَّعت الثروات وفق إرادتها، مغنية الغني، ومفقرة الفقير، فازداد أهل الغنى اغتناء، وأهل الفقر افتقارًا، فضاعت موازين العدالة وشالت، فأحس الفقير بالظلم، واستشعر أنه حقير ما أعطاه الوطن حقه المشروع البسيط من عدالة في الحياة، فتستشيط نفسه حنقًا، ويعلم أن صوته غير مسموع إلى الخلق، فيرفعه إلى الله، فما أشقى أولئك الذين رُفعت في حقهم دعوات من المظلومين! إنها العدالة الاسم الأسمى في منظومة القيم، بها تتزن المجتمعات، وتمضي خطاها متَّئِدة نحو المجد، فلا نعرات طائفية تُخلق فيها، ولا صراعات عصبية تتوقد نيرانها، ولا حقد يُضمر في النفوس لأهل الثروة، ولا أصوات تعلو احتجاجًا على الظلم، بها تستمر الجماعات، وينقاد الأفراد، فكلما أحس المظلوم أن حقه لن يُهضم من قاضٍ في محكمة، إلا وارتاح ضميره، وهنأ باله، وسعد بحكم القاضي، يفصل في المسألة بعدلٍ، وكلما أخذ الفقير من الغني حقًّا معلومًا يستعين به على شظف العيش، إلا واستشعر السعادة تسري في عروقه؛ لعلمه أن عدالة الله في أرضه كائنة على يد خلقه، وكلما أخذ الضعيف حقه من القوي، فلم يجد له استئسادًا عليه لضعف فيه؛ لأن العدل فيصل في حدِّه الحدُّ بين الحق والباطل، إلا واستمرأ عيشه، وارتاح ضميره، هكذا يحيا الإنسان في مجتمع قويم يتماسك بنيانه، ويشد بعضه بعضًا، فلا صدع ولا شقَّ يرسم طريقه في معماره لمتانته، فيتآلف الكل، ويتوادد الناس، وهذا مراد الشرع من القيم الجميلة، وعلى رأسها العدالة. إن استقامة المجتمعات لا تتأتى إلا بالعدالة التي تبدأ في أصغر دائرة؛ وهي الأسرة، فالأبوان ملزمان بممارسة العدل بين الأبناء، ولنا في سنة النبي صلى الله عليه وسلم مَثَلٌ أعلى لهذه الممارسة؛ فقد أمر رسولنا الكريم عليه السلام بالعدل بين الأبناء؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم))، وهو عدل يشمل كل السلوكات والتصرفات دون استثناء؛ من شراء للملبس، وترتيب للمضجع، وتوزيع للمأكل والأعطيات، بل حتى القُبُل من المشروع توزيعها بعدالة؛ حتى لا توغر الصدور، وينبت في منبتها شيء من الغل، ويكون العدل بين الجنسين، فلا يُؤثَر الذكر على الأنثى، ولا الأنثى على الذكر؛ لأن هذا من الجاهلية؛ قال تعالى: ﴿ وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ ﴾ [النحل: 58]، كما يكون العدل بين الزوجات في المبيت والسكن والإنفاق والملبس والمعاملة؛ فلا يفضل واحدة على أخرى، ويخصها بفضل على غيرها، إلا ما كان من ميل قلبي، لا يمكن كبح جماحه؛ مصداقًا لقوله تعالى: ﴿ وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ ﴾ [النساء: 129]، فهذه الدائرة الصغرى من دوائر مجتمعنا هي النقطة التي تفيض الكأس؛ إذ منها المنطلَق نحو دوائر أخرى موضعها في المدرسة؛ حيث دور المعلم الذي يبث القيمة عبر ممارسته العادلة بين الأبناء، وينمي في قلوبهم بذرتها، متعهدًا إياها بالسقْيِ، ومشذبًا أغصانها بين الفينة والأخرى، فكلما لمح اعوجاجًا قوَّمه، وكلما نظر جموحًا روَّضه، فنال بذلك أجرين؛ أجر التهذيب، وأجر التعليم، فضرب العصفورين بحجر، فكان له الفضل في إنماء شجرة العدالة في النفوس الصغيرة؛ لتغدق ثمارها، وتؤتيَ أُكُلها بإذن ربها، ويأتي المحيط والمجتمع عمومه بمختلف تشكيلاته؛ مدنية كانت أو سياسية حكومية؛ لتضطلع بدورها في إرساء العدالة، وجعلها منهجًا عمليًّا وواقعًا في الحياة، فتخضعها للمراقبة والمحاسبة عند غيابها، فتضرب بيدٍ من حديد على هواة الظلم ومحبي البغي، فيعلمون أن لا مجال في مجتمعاتهم لممارسة الظلم، كيفما اتفق لهم؛ لأنهم سيصطدمون بجدار منيع لا ينفذ عبره الظلم، فينثنون ويرتدعون، خاضعين لجلال العدالة في واقعهم. إن تخليق منظومة العدالة أمرٌ ليس بالعسير كما قد يخال الكثيرون، وإنما هي الإرادة والعزيمة التي تنطلق من قول الله تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ﴾ [الرعد: 11]، إذًا فمراجعة النفس ومحاسبتها، وجعلها مستشعرة رقابة الله في أرضه وعلى خلقه وازعٌ حتمي، يخلق وخز الضمير، وسيدفع النفس البشرية إلى الشعور بالتأنيب، فكل ما نحتاجه هو هذا الإحساس الذي غيَّبته عوالم المادة في حياتنا، والاغتسال من أدران الماضي لإعلان القطيعة مع القيم الدنيئة، واضعين أمام العيون مبدأ الإحسان قيمة عليا، تحرك البواطن، وتململ الدواخل، فتدفعنا إلى امتثال الأمر، واجتناب النهي، لنيل مرضاة الله وثوابه العظيم الذي لا تساوي الدنيا كاملة أمامه قِيد أنملة، فإذا ساد هذا النوع من التفكير في مجتمعاتنا التي رسم لها الوحي طريقًا مُعبَّدًا، فسارت عليه لا أظنها تضل ما دام مصباح الوحي متوهجًا في يديها، ينير لها العَتَمَةَ فيبدد الظلمة، وأي مسلك غير هذا لا بد أن ندفع ثمنه غاليًا، فنعيش التمزق والتفكك والدمار الاجتماعي؛ إذ كلما ابتعدنا عن سبيل العدالة الذي وضعه الله للبشر في الأرض وفق المنهج الرباني، تمزقت العُرى، وتفرق الناس أياديَ سبأ؛ بسبب انتشار الطغيان والإحساس بالاحتقار. فالله الله في العدالة؛ فإنها قوام الأمر كله وملاكه، وسِنام القيم وذُروتها، تضييعها مذمَّة، وطريق للانحطاط، وسبيل إلى التشرذم والضعف الذي تهواه الأمم القوية المتكالبة علينا، ونشرها والعمل بها محمَدة، وطريق للرقي، ووسيلة للاتحاد والتقوِّي ووحدة الصف؛ فنكون كالسد المنيع، والحصن الحصين في وجه من تُسوِّل له نفسه النيل من كبريائنا، والحط من قدرنا، فلا نمنح فرصة للأمم كي تستهزئ بقيمنا، ونحن أهل القيم من نبعنا غرفت، فنظمت صفوفها، وحاكت خيوط نسيجها؛ فأبدعت منه أجمل البسط، وأبهى الأفرشة، فتباهت به بين الأمم، وحُقَّ لها ذلك ما دامت أجمل الأخلاق التي نفقدها في واقعنا قد أخذها الغرب منهجًا في الحياة، فصَفَتْ مشاربه، وانطلق متساميًا في سُلَّم الحضارة، ونحن نرقب ما يصنع، ونتلقف منجزاته ضعافًا كالبُغاث، فأي مذلة تفوق هذه؟ وأي هوان بلغناه، ونحن ننظر بعيون فاترة أخذ منها الكرى كل مأخذ؟ لذا لا نظن أن مجتمعًا يسوده الظلم، وتغيب فيه العدالة أسمى القيم، يستطيع النهوض؛ لأن هذا سيكون ضربًا من الجنون، لأنه سيظل متخبطًا في ظلمائه، لا يهتدي له مسير، مهما حاول أن يصنع؛ إذ لا تُبنى الحضارات إلا في الأجواء الصافية النقية التي يحيا فيها الكل على قدم المساواة، فيؤدي كلٌّ وظائفه بجدٍّ وتفانٍ، خدمة للوطن، جاعلًا من المصلحة العامة أسمى أهدافه، ومن نكران الذات أسلوبًا في الحياة.
العلاقة بين التصور والسلوك من منظور تربوي إسلامي إنَّ لكل تربية في الوجود البشري منهجًا تسلكه وتسير عليه في إطارها النظري والعملي، وبمقدار صحة هذا المنهج وتجرُّده من الحظوظ الإنسانية وتجدُّد متغيراته في الفروع مع ثبات أصوله، يكون له البقاء والتأثير. وما يُميِّز التربية الإسلامية، أنها ربانية المنهج، متجددة في فروعها، ثابتة في أصولها، وأن العلاقة بين جانب التصوُّر والسلوك فيها علاقةٌ طرديةٌ. وهذه الميزة في التربية الإسلامية بمفهومها العام، تنطلق من جانبها التصوُّري الفكري النظري للمعرفة أولًا، ثم من جانبها السلوكي التطبيقي العملي لتلك المعرفة؛ ولذا فإن العلاقة بينهما علاقة طردية إيجابًا وسلبًا. ومفهوم التربية الإسلامية العام- أي: فحوى مفهوم الكتاب والسُّنَّة - ورد واضحًا وجليًّا ومحكمًا، بأن يكون سلوك المسلم وَفْق مراد الله ورسوله صلى الله عليه وسلم في الظاهر والباطن، وفي كل صغيرة وكبيرة؛ لأن هدفه السامي الفوز برِضا الله أولًا وأخيرًا، ثم الفوز بالجنة ونعيمها الدائم، قال الله عز وجل: ﴿ قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ ﴾ [الأنعام: 162، 163]، فهل هناك من جزئية في حياة المسلم لم تدخل في هذا الخطاب؟! وهل هناك تحديد لمفهوم التربية الإسلامية بالمفهوم العام، أدقُّ من هذه الآية الكريمة؟! وهل هناك مجال من مجالات الحياة، في حياة المسلم أو المسلمة يمكن ألَّا يندرج تحت مفهوم التربية الإسلامية بالمفهوم العام، وهو كامل الانقياد لله عز وحل من بداية الحياة إلى نهاية الحياة التي يعيشها الفرد المسلم في هذه الدنيا؟! ما أدقَّه من مفهوم عام للتربية الإسلامية، المناطة بكل فرد مسلم أو مسلمة، ذكرًا كان أو أنثى، صغيرًا كان أو كبيرًا! أما العلاقة الطردية- في المصطلح الرياضي- فمعناها وجود علاقة بين متغيرين، كلما زاد أحدُهما بمقدار معين، زاد الآخر بزيادة تتناسب مع زيادة الأول، والعكس صحيح، وسُمِّيت بهذا الاسم؛ لأنها ترمز إلى المطاردة بين اثنين. قدَّم الله عز وجل جانب التصوُّر المعرفي على الجانب العملي؛ لأن العلم بالشيء أولًا، ثم يأتي بعده العمل بذلك الشيء؛ كجانب عملي تطبيقي للجانب التصوُّري، قال الله عز وجل: ﴿ فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ ﴾ [محمد: 19]. قال الطبري رحمه الله في تفسيره: فاعلم يا محمد أنه لا معبود تنبغي أو تصلح له الألوهية, ويجوز لك وللخَلْق عبادته, إلا الله الذي هو خالق الخلق, ومالك كل شيء, يدين له بالربوبية كل ما دونه ﴿ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ ﴾ وسَلْ ربَّك غفران سالف ذنوبك وحادثها, وذنوب أهل الإيمان بك من الرجال والنساء، ﴿ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ ﴾ يقول: فإن الله يعلم متصرفكم فيما تتصرَّفون فيه في يقظتكم من الأعمال, ومثواكم إذا ثويتم في مضاجعكم للنوم ليلًا، لا يخفى عليه شيء من ذلك, وهو مُجازيكم على جميع ذلك؛ انتهى. فقدَّم هنا في هذه الآية الكريمة الجانب التصوُّري، وهو العلم بالشيء، ثم يتبعه العمل بذلك الشيء، وهنا هو الاستغفار، ومن أعظم ما أمر به الإنسان المسلم، هو العلم بالله عز وجل، فلا يتصوَّر العمل الصحيح إلا بالعلم به! وهناك كلام من دُرَرٍ؛ بل أغلى من ذلك في مجال العلم بالله وكيف يكون؟ وما هي الطرق الموصلة لذلك؟ أرى أن أطرحه هنا للفائدة، ومزيد علم بهذا المجال وما يتعلق به، رزقنا الله عز وجل معرفته حق المعرفة، وعند ذلك فقط سيكون السلوك متوافقًا مع الجانب التصوُّري، وستُرْدم الفجوة الملاحظة بين الجانب النظري "التصوُّري" للتربية الإسلامية بمفهومها العام وبين الجانب التطبيقي السلوكي العملي لهذا التصوُّر في واقع المسلمين إلَّا مَن رَحِم الله. قال السعدي رحمه الله: وهذا العلم الذي أمر الله به - وهو العلم بتوحيد الله- فرضُ عينٍ على كل إنسان، لا يسقط عن أحد، كائنًا من كان؛ بل كُلٌّ مضطرٌّ إلى ذلك، والطريق إلى العلم بأنه لا إله إلا هو أمور: أحدها بل أعظمها: تدبُّر أسمائه وصفاته، وأفعاله الدالة على كماله وعظمته وجلالته، فإنها توجب بذل الجهد في التألُّه له، والتعبُّد للربِّ الكامل الذي له كل حمد ومجد وجلال وجمال. الثاني: العلم بأنه تعالى المنفرد بالخلق والتدبير، فيعلم بذلك أنه المنفرد بالألوهية. الثالث: العلم بأنه المنفرد بالنِّعَم الظاهرة والباطنة، الدينية والدنيوية، فإن ذلك يوجب تعلُّق القلب به ومحبَّته، والتألُّه له وحده لا شريك له. الرابع: ما نراه ونسمعه من الثواب لأوليائه القائمين بتوحيده من النصر والنِّعَم العاجلة، ومن عقوبته لأعدائه المشركين به، فإن هذا داعٍ إلى العلم، بأنه تعالى وحده المستحق للعبادة كلها. الخامس : معرفة أوصاف الأوثان والأنداد التي عُبِدت مع الله، واتُّخِذت آلهةً، وأنها ناقصة من جميع الوجوه، فقيرة بالذات، لا تملك لنفسها ولا لعابديها نفعًا ولا ضرًّا، ولا موتًا ولا حياةً ولا نشورًا، ولا يَنصرون مَنْ عبدهم، ولا ينفعونهم بمثقال ذرَّة، من جلب خير أو دفع شَرٍّ، فإن العلم بذلك يوجب العلم بأنه لا إله إلَّا هو، وبطلان إلهية ما سواه. السادس: اتفاق كُتُب الله على ذلك، وتواطؤها عليه. السابع: أن خواصَّ الخَلْق الذين هم أكمل الخليقة أخلاقًا وعقولًا، ورأيًا وصوابًا، وعلمًا -وهم الرسل والأنبياء والعلماء الربانيُّون- قد شهدوا لله بذلك. الثامن: ما أقامه الله من الأدلة الأفقية والنفسية، التي تدل على التوحيد أعظم دلالة، وتُنادي عليه بلسان حالها بما أودعها من لطائف صنعته، وبديع حكمته، وغرائب خلقه. فهذه الطرق التي أكثر الله من دعوة الخَلْق بها إلى أنه لا إله إلَّا الله، وأبداها في كتابه وأعادها عند تأمُّل العبد في بعضها، لا بُدَّ أن يكون عنده يقين وعلم بذلك، فكيف إذا اجتمعت وتواطأت واتفقت، وقامت أدلة التوحيد من كل جانب، فهناك يرسخ الإيمان والعلم بذلك في قلب العبد، بحيث يكون كالجبال الرواسي، لا تزلزله الشُّبَه والخيالات، ولا يزداد -على تكرر الباطل والشبه- إلا نموًّا وكمالًا. هذا، وإنْ نظرت إلى الدليل العظيم، والأمر الكبير، وهو تدبُّر هذا القرآن العظيم والتأمُّل في آياته؛ فإنه الباب الأعظم إلى العلم بالتوحيد، ويحصل به من تفاصيله وجمله ما لا يحصل في غيره؛ انتهى. وبعد هذا الجانب التأصيلي لهذا الموضوع من طرح آية محكمة من القرآن الكريم عن التلازم الذي يكون بين الجانب التصوُّري والسلوكي "العملي" للمفاهيم الإسلامية؛ فإننا نؤكد على أن العلاقة بينهما من منظور التربية الإسلامية في الأصل أنها علاقة تلازمية طردية إيجابًا وسلبًا، ومعنى ذلك: أنه كلما زاد المسلم علمًا وإدراكًا بالكتاب السُّنَّة- وهما المرجعان الأساسيان للتربية الإسلامية- زاد تطبيقًا عمليًّا سلوكيًّا لما تم تلقيه وتعلُّمه من الجانب التصوُّري المعرفي للمفاهيم الإسلامية في هذا الشأن! وإكمالًا لهذا الجانب التأصيلي للعلاقة بين التصوُّر والسلوك من منظور التربية الإسلامية؛ فإننا نؤكد أن هذا هو ما فهمه الرعيل الأول، وما كان يعمل به في حياتهم؛ ولذا ندَرَ وقَلَّ وجود الفجوة الكبيرة التي نشاهدها اليوم في جانب التطبيق إلَّا مَن رَحِم الله؛ فالتطبيق العملي "السلوكي" للمجال التصوُّري لحقيقة الإسلام والتديُّن، هو التوافق بين التصوُّر والسلوك في العموم؛ ولذا عاب الله عز وجل وعتب في كتابه العزيز على المؤمنين للمخالفة التي حدثت في هذا الجانب؛ فقال تعالى: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ ﴾ [الصف: 2، 3]. وهذه المخالفة إما أن تكون مخالفة كلية، وإما أن تكون مخالفة جزئية في جانب التصوُّر وليس في كل التصوُّر؛ فإذا خالف السلوك التصور مخالفة كلية؛ فهنا خلل لدى الشخص؛ إمَّا أن يكون ضعفًا في مفهوم المجال التصوُّري لمفهوم الإسلام وحقيقته، وإمَّا أن يكون أصلًا قائمًا على مصلحة ومنفعة دنيوية، هي التي تُوجِّه السلوك لديه، وليس حقيقة التصوُّر الديني هو الموجِّه للسلوك. ففي الجانب الأول: ضعف في مفهوم المجال التصوُّري؛ ولذا وجَّه الله عز وجل العتب للمؤمنين الذين اختلف سلوكُهم عن مجالهم التصوُّري، وهو توجيه رباني لكل مسلم إلى يوم القيامة؛ فقال تعالى: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ ﴾ [الصف: 2، 3]. وفي الجانب الثاني: التديُّن لدى الشخص قائم على مصلحة ومنفعة دنيوية، بعيدًا عن حقيقة التدين، قال الله تعالى عنهم: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ * يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ﴾ [البقرة: 8، 9]. ولذا السلف الصالح في عمومهم كان المنهج لديهم واضح؛ فكان غالبية فئات المجتمع يظهر عليهم التديُّن الظاهري لتوافق الفطرة البشرية مع ذلك؛ فلم يكن مجرد الشكل هو المحدد للهوية لديهم؛ وإنما المحدد لديهم التطابق قُرْبًا وبُعْدًا بين التصوُّر والسلوك للشخص. روي أن رجلًا أثنى على رجل عند عمر رضي الله عنه، فقال له: هل صحبته في سفر؟ قال: لا، فقال: فَأْتَمَنْتَه على شيء؟ قال: لا، قال: ويحك! لعلك رأيته يخفض ويرفع في المسجد! وفي رواية أخرى أن الرجل قال في مجلس عمر: إن فلانًا رجلُ صِدْقٍ، فقال له: سافرت معه؟ قال: لا، قال: فكانت بينك وبينه خصومة؟ قال: لا، قال: فهل ائتمنته على شيء؟ قال: لا، فقال: أنت الذي لا علم لك به، أراك رأيته يخفض رأسه ويرفعه في المسجد. نعم؛ يجب أن يكون هناك تطابُق في حياة وسلوك المسلم؛ فترى ذلك في قوله وحديثه، وفي فعله وتطبيقه لما يؤمن به ويعتقده ويدين الله عز وجل بذلك؛ فحقيقة الدين لا يؤخذ من عبادات شكلية؛ بل يؤخذ من سلوك عملي في واقع حياته اليومية. وفي الختام يمكن أن نستنبط القاعدة التالية مما سبق: أنه بمقدار التطابُق بين السلوك والمجال التصوُّري، يكون التدين الصحيح "أو الإسلام الصحيح"؛ فالسلوك تابع للتصوُّر إيجابًا وسلبًا.
السبط في الرسم والضبط لأماني محمد عاشور صدر حديثًا كتاب "السَّبْط في الرسم والضبط"، تأليف: "أماني محمد عاشور"، نشر: "الدار العالمية للنشر والتوزيع"، الإسكندرية. جمعت فيه المؤلفة قصة التنزيل مبسطة، وشرعت في معرفة الأحكام من خلال أشكال السكون والتنوين وآليات وأزمنة الحروف، وذلك بعد ملاحظتها سبب ضعف أغلب المخرَّجات من دورات تحفيظ القرآن الكريم، وهو عدم معرفتهم بحقائق التنزيل وجمعه في المصاحف ثم ضبطه، والتحاقهم مباشرة بالأحكام المتعلقة بالتجويد. تقول الكاتبة: "إن من الأسباب المعينة على التدبر حسن التلاوة والأداء، ولا يتحقق ذلك إلا بالمشافهة من أفواه المشايخ والأساتذة المتقنين، كما أن علم رسم المصحف وضبطه فيه ما يعين على فهم أسرار وبلاغة القرآن والغرض الحقيقي من تدبره". وقد حرصت المؤلفة في هذا الكتاب بيان أحكام رسم وضبط المصحف بشكل يخدم المبتديء والمتقدم، والربط بين النظري والتطبيق فيه، وقد سمته (السبط) بمعنى السهولة واليسر، لسهولته وعدم الإطالة فيه بذكر تواريخ وتخريج لأحاديث كثيرة، إلى جانب إثرائه برسم خرائط ذهنية وجداول يسهل على الطالب فهم المقصود منها دون عناء. والكاتبة "أماني بنت محمد عاشور" مدربة معتمدة ومجازة بالقراءات العشر الصغرى بالإفراد والجمع من طريق الشاطبية والدرة، والعشر الكبرى من طريق طيبة النشر، إضافة إلى أنها تقرئ وتجيز بالقراءات العشر الصغرى والكبرى إفرادًا وجمعًا. الإجازات الحاصلة عليها: • إجازات بالقراءات العشر الصغرى من طريقي الشاطبية والدرة بالإفراد والجمع. • إجازة بالقراءات العشر الكبرى من الطيبة. • إجازات في متون الجزرية والتحفة والشاطبية والدرة وطيبة النشر. • دبلوم إشراف تربوي من معهد الشرق بالرياض - المملكة العربية السعودية 1432 / 1433 هـ. المشايخ الذين أجازوا الأستاذة: • الشيخة أم السعد نجم رحمها الله. • الشيخ محمد عبد الحميد. • الشيخ مصباح ودن. المشايخ الذين قرأت عليهم الأستاذة من طريق طيبة النشر (تعليمًا): • الشيخ أمين نجم. • الشيخ عبد الحكيم الفولي. • الشيخ نادر العنبتاوي. ومن مؤلفاتها: 1- كتاب "البيان المفيد" في علم التجويد (طبع منه 5 طبعات إلى الآن). 2- كتاب "الأصول النيرات في القراءات" في أصول القراءات العشر من طريق الشاطبية والدرة. (طبع منه 3 طبعات إلى الآن).
الفتح المبين على كتاب نور اليقين للعلامة محمد راغب الطباخ صدر حديثًا كتاب "الفتحُ المبينِ على كتابِ نورِ اليقينِ في سيرةِ سيدِ المرسلينَ"، تصنيف: العلَّامةِ محمَدِ راغبٍ الطبَّاخِ"، تحقيق ودراسة: د. "زكريا عبد العزيز الجاسم"، في جزئين، نشر: "وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية" بقطر. وهي حاشية وضعها العلَّامة المحدث المؤرخ "محمد راغبٍ الطباخِ" المولود سنة 1293 هـ، المتوفى سنة 1370 ﻫـ، عن (78 عامًا) على كتابِ "نورِ اليقين" للشيخِ محمد الخضري، المتوفى سنة 1345هـ، عن (55 عامًا). وكتاب "نور اليقين في سيرة سيد المرسلين" لفضيلة الشيخ "محمد الخضري" كتاب في سيرة النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - بداية من نسبه مرورًا بحياته، والأحداث التي كانت فيها، وانتهاء بمعجزاته عليه أفضل السلام وأتم التسليم. وكانَ سببُ تحشيةِ "الطبَّاخِ" هذا الكتابَ؛ أنهُ كانَ مقررًا على طلبةِ المدرسةِ الخسرويةِ في حلبَ، والتي كانَ الطباخُ مديرًا لها، وقد كانَ وقتُ تأليفه لها بين سنتي (1341 - 1343هـ)؛ أي: قبل وفاةِ الخُضريِّ بسنتين. وهذا الكتاب يتضمن بعض المآخذ التي لاحظها الشيخ "الطباخ" أثناء تدريسه الكتاب المقرر على طلبته، لذا قرر أن يذكرها في هذه الحاشية، وأنْ يقفَ معَ هذا الكتابِ وقفاتٍ ناقدةٍ. وللشيخ "محمد راغب الطباخ" مكانة عند رجال العلم والفكر والنهضة، وله الأيادي البيض في إنشاء مدرستي "شمس المعارف" و"الفاروقية"، وتطوير مدرسة "الخسروية"، وأدخل في مناهجها علوم الرياضيات والطبيعيات، ثم دخلت هذه العلوم الكثير من مدارس الفترة، منها: "المدرسة الإسماعيلية"، و"المدرسة القرضاية"، ثم "المدرسة العثمانية"، فـ"المدرسة الإشبيلية"، وله دوركبير في توحيد المناهج في التعليم. كما أسس المطبعة العلمية في "خان الحرير" بـ"حلب" سنة 1341هـ/1922م، وطبع كلَّ مؤلفاته فيها، كما صدرت كتبٌ لغيره عن هذه المطبعة، ويذكر الدكتورعبد الكريم الأشتر في كتابه "مسامرات نقدية"، الصادر عن دار القلم العربي في "حلب": أنه أثناء وجوده في جامعة دمشق حمَّله العلامة البيطار كتبه هديةً إلى محمد راغب الطباخ. والشيخ الطباخ هو أول من دعا إلى تعريب التعليم، وأول من ألف كتابًا مدرسيًا باللغة العربية. وللشيخ الطباخ جهود ملحوظة بعين الإعجاب في التأريخ والحديث والتحقيق، ومن مؤلفاته الرائدة "إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء" في سبع مجلدات، حيث تصدى لتاريخِ حلبَ الشهباءَ، فجردَ مطولاتِ تاريخِ الإسلامِ لاستخراجِ تاريخِ حلبَ منها، فخبرَ أسلوبَ المؤرخينَ، وأتقنَ نقدَ المادةِ التاريخيةِ بالتتبعِ، وكان الكثير من فضلائها وعلمائها السابقين، وضعوا لها تواريخ تنبئ بعظمة شأنها ورفيع مجدها، ورغبةً منه في تلبية ما يريده أبناء مجتمعه في معرفة تاريخ بلدهم والوقوف على مآثر أسلافهم ومفاخر آبائهم، وما مرّ على الشهباء من أدوار التقدم والتأخير، وما كانت عليه من الحضارة والعمران، لذا وجد "الطباخ" أنه من المحتم عليه أن يضع تاريخًا لحلب، يكشف عمن تولاها.. وينبئ عمن مضى من أعيانها. أما في الحديث فله "المصباح على مقدمة ابن الصلاح"، وحقَّقَ كتابينِ من أعمدةِ كتبِ الحديثِ، وهُما "معالمُ السُننِ" للخطَّابي، و"التَقييدُ والإيضاحُ على مقدمةِ ابنِ الصلاح" للعراقي. ونجد أن الشيخ "الخضري" رغم ما له من أيادٍ بيضاء في تحقيق التراث وتقديم عدة مؤلفات في التاريخ الإسلامي، إلا أن بعضها غلب عليه التسرع وعدم التثبت في الأخبار، يعوزهَا التحريرُ والتحقيقُ والتدقيقُ. وقد تصدى العديد من أعلام النهضة لبيان ما في محاضرات الخضري ومقرراته الدراسية من أخطاء وسقطات، وكانت حاشية العلامة الطباخ على "سيرة" الخضري من باب هذه التتبعات. ولم تخل حاشية الطباخ من شرحٍ لغريبٍ، أو تفسيرٍ لغامضٍ، أو بيانٍ لمجملٍ، أو توضيحٍ لمشكلٍ، أو تخريجٍ لحديثٍ وأثرٍ، وغيرِ ذلكَ. • فمن ذلكَ: الرَدُّ على من قالَ: إنَّ النبيَ - صلى الله عليه وسلم - تلقَّى العلمَ من بحيرا الرَاهب. • ومن ذلكَ: بيانِ سببُ قيامِ الدَعوةِ السريةِ في أوَل البعثةِ، وفيهِ كلامٌ نفيسٌ في علمِ الاجتماعِ وطبيعةِ الدعواتِ، وطرائقِ التَغييرِ للأممِ والشعوبِ. ومن ذلكَ: حديثُهُ عن الزواجِ، والجهازاتِ الحاضرةِ، والمغالاةِ في المهورِ، ومسألةِ لزومِ المرأةِ البيتَ، وغيرِ ذلكَ، عندَ حديثهِ على زواجِ السَيدةِ فاطمةَ رضيَ اللهُ تعالى عنها. • ومن ذلكَ: كلامُهُ عنِ الشُّورى، والاستبدادِ، بطرفٍ خفيٍّ ذكيٍ، عندَ تعقيبهِ على غزوةِ بدرٍ. وهذا الكتاب كانت له نسخة نادرة حصلها الأستاذ المتفنن "نور الدين طالب" - حفظه الله ورعاه - بخطِّ مؤلِّفهِ قبل عشرين عامًا، سنةَ (1422هـ - 2002م) من مكتبةِ العلامةِ الطباخ، والتي يملِكُها ابنهُ المفضالُ الأستاذُ يحيى بن محمد راغب الطبَّاخ - حفظهُ الله تعالى وأدامَهُ - في حلبَ الشهباء. وعزم "نور الدين طالب" على تحقيقهِ في تلكَ المدَة، فدفعهُ لمن ينسخُهُ، ثُم غابَ عنه الكتابُ سنواتٍ لانشغاله بأعمالٍ علميةٍ أُخرى، مما حدا به إلى دفعه إلى صديقِ الرِّحلةِ إلى مكتبةِ الطبّاخ؛ د. "زكريا عبد العزيز الجاسم"، ليحقِّقهُ وينفردَ بإصدارهِ، من باب المسارعة في نشر العلم وإصداره لجمهور القارئين في طبعات علمية محققة. فلمَا بدأَ بتحقيقِهِ، وجدَ صعوباتٍ جمّةً في التّعاملِ معَ نسخةِ المؤلفِ الوحيدةِ، فتمهَلَ في إصدارهِ. وكان من بركةِ هذا التمهُّلِ، أن "نور الدين طالب" كان يطالع ويجرِّدُ في المكتباتِ الخطِّيةِ المشتراةِ والموقوفةِ في جامعةِ الإمامِ محمد بن سعود الإسلامية في الرياض. وكانَ هدفه من ذلكَ: حصرُ الكتبِ التي اشترتها الجامعةُ من مكتبةِ العلَّامة خيرِ الدينِ الزِّركلي - صاحبِ الأعلام -، وأثناء جرده لمكتبةِ الزِّركلي، جرَّدَ شيئًا منَ المكتباتِ التي قبلهَا والتي بعدهَا، فجرد مكتبةَ العلامةِ "أسعد طلس" - رحمهُ الله تعالى -، والتي علم أن المكتبةَ قد اشترتْها من ورثتِهِ بواسطةِ "مؤسسةِ الرسالةِ"، لصاحبها الأستاذ الفاضل "رضوان دعبول". فعثر فيها على نسخةٍ أخرى من حاشيةِ الطبَّاخِ هذهِ بخطِ تلميذهِ العلامة "أسعد طلَس"، والتي نقلها من خطِ أستاذهِ "الطبَّاخِ" أثناءَ دراستهِ في الخسرويةِ سنة 1346ﻫـ. فصارتْ لدى المحققين نسخةٌ أخرى منَ الكتابِ، فساعدَتْ نسخةُ "طلس" على حلِّ إشكالاتٍ، كانتْ في نسخةِ أستاذِهِ "الطباخِ". وتمَّ تحقيقُ الكتاب على هاتينِ النسختينِ، وطُبعَ الكتابُ بإخراجٍ جيّدٍ موفَّقٍ، وتبنت طباعتهُ - مشكورةً مأجورةً - وزارةُ الأوقاف والشؤونُ الإسلاميةِ في دولةِ قطر، وخَرَجَ في مجلدينِ اثنين بحُلَّةٍ قشيبةٍ، والحمدُ للهِ الذي بنعمتهِ تتمُّ الصالحاتُ. وصاحب الحاشية الشيخ "محمد راغب الطبَّاخ" ولد في حي "باب قنسرين" في حلب عام 1877، تخصص في علوم الحديث. وهو أستاذ الألباني الذي تتلمذ علي يديه وأجازه محمد راغب الطباخ لتدريس أحد كتب علم الحديث. حفظ الشيخ القرآن الكريم وهو في العام الثامن، نشأ وترعرع في أسرة عُرفت بالورع الديني وحب العلم والنبوغ فيه، حيث كان جده هاشم يُقرئ العلوم الدينية في مسجده: العمري، ومسجد الزيتونة، وأبوه محمود كان قد رفض منصب القضاء على الآستانة. شرع في الكتابة والخط على الشيخ محمد العريف الخطاط المشهور والمعروف بشيخ الأشرفية في مكتبة وراء الجامع الكبير ( وهي المدرسة الشرفية ) ، ثم درس في المدرسة المنصورية بمحلة الفرافرة سنة 1304 هـ / 1886م وكانت مدرسة ابتدائية من المدارس التي أسستها الدولة العثمانية في أواخر القرن الماضي، وبقي فيها سنة ونصف السنة، قرأ خلالها مبادئ اللغات التركية والفارسية والفرنسية. تابع بعد ذلك تعليمه في المدرسة "الشعبانية"، وفي هذه المدرسة وجد ضالته؛ إذ كان وجهًا لوجه مع رجال الفقه والدين والعلم، وكان من أساتذته ومعلميه محمد رضا، محمد مزية، بشير الغزي، وجميعهم حجة في الفقه والأدب والعلم. أخذ العلم على يد زمرة من العلماء والمحققين منهم: علامة حمص ومفتيها الشيخ محمد خالد العطاسي الأتاسي، والعلامة المحدث الشيخ كامل الموقت الحلبي المتوفى سنة 1338هـ، والعلامة المحدث الشيخ طاهر بن السيد صالح بن أحمد بن موهوب، الجزائري الأصل، الدمشقي، فقيه السادة المالكية ومفتيهم، والعلامة الناسك المحدث محمد بدر الدين الحسني البيباني الدمشقي، والعلامة المحدث محمد بن جعفر الكتاني الفاسي، والشيخ العلامة أبو بكر بن محمد عارف خوقير المكي صاحب "ثبت الأثبات الشهيرة".... وغيرهم. توفي محمد راغب الطبّاخ يوم الجمعة 25 رمضان 1370 هـ الموافق لـ 29 حزيران 1951، ودفن في تربة السنابلة بحي المشارقة في حلب بموكب حافل من العلماء ووجهاء حلب. ومن مؤلفاته: 1- أعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء - سبع مجلدات. 2- الأنوار الجليّة في مختصر الأثبات الحلبية. 3- تمرين الطلاب في صناعة الإعراب - رسالة صغيرة. 4- ذو القرنين وسدّ الصين. 5- الروضيات - جمعه من أشعار أبي بكر الصنوبري الحلبي. 6- عظة الأبناء بتاريخ الأنبياء - كتاب مدرسي. 7- العقود الدريّة في الدواوين الحلبية - وهي ثلاثة دواوين لثلاثة من شعراء حلب في القرن الحادي عشر الهجري. 8- المصباح على مقدمة ابن الصلاح. 8- المطالب العليّة في الدروس الدينية - ثلاثة كتب مدرسية. 9- الثقافة الإسلامية - سنة 1369 هـ / 1949 م. 10- الفتح المبين على نور اليقين في سيرة سيد المرسلين.
قراءة في تحقيق: «مقدّمة في أصول التفسير لشيخ الإسلام ابن تيميّة» للشيخ سامي بن محمد جاد الله، نشر: دار المحدِّث في الرياض، سنة 1444 هـ بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلّى الله وسلّم وبارك على نبينا محمد وآله أجمعين. وبعد: فقد نشطت في العقود الثلاثة الأخيرة حركة تحقيق ونَشْر الكتب التراثية، وأُعيد في هذا الصدد تحقيق ونَشْر كثير من الكتب التي كانت قد حُقِّقت مِن قبلُ، وانتشرت ثقافةُ التحقيق والعناية بالمخطوطات على نطاقٍ واسعٍ، وأصبحت صور المخطوطات المعتمدة ووَصْفها جزءًا لا يتجزَّأ من مقدمة الكتاب المنشور، وأصبح له دورٌ أساس في تبوُّء الكتاب لمكانته اللائقة به وإقبال الناس عليه. ولكن جلّ هذه الكتب المنشورة تنصبُّ عناية المحقِّق على مكمِّلات ومُتمِّمات التحقيق على حساب قواعد التحقيق الأساسية التي تَبْهت وتتراجع أمام مكملات ومتمِّمات التحقيق ( يُنظر: «قواعد تحقيق المخطوطات» للمنجِّد، و«المخطوطات والتراث العربي» ص94 لأستاذنا الدكتور عبد الستار الحَلْوَجي أطال الله بقاءه ). وقد أُعيد عمّا قريب نَشْرُ وتحقيق كتاب « مقدمة في أصول التفسير » لشيخ الإسلام بن تيمية رحمه الله، وهو من الكتب الأثيرة لديّ، وسبق لي أن قرأْتُه على شيخنا العلامة عبد الله بن محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله قبل نحو ثلاثين عامًا، والنَّشرة الجديدة بتحقيق الشيخ الفاضل المعتني: سامي بن محمد بن جاد الله -حفظه الله- في مجلّد لطيف، وإخراجٍ أنيق، وثوب قَشيب، يُغري الواقف عليه بقراءته، ويشدّه له شدًّا، ولهذا الكتاب في قلبي أثرة كما أسلفتُ، فسرعان ما وقعتُ في براثنه، وشرعت في قراءته من جديد لطُول العهد به. فبدأتُ بمقدِّمة المحقق على عَجَلٍ؛ إذْ لا تكاد تجد في كثيرٍ من مقدمات التحقيق هذه الأيام منها ما يستحقُّ التوقُّفَ عنده، ولكن ما إن قطعتُ شوطًا حتى وجدتُ شيئًا لا آلَفُه؛ فانتبهتُ وأعدتُ القراءة بتَأَنٍّ وتؤدةٍ. لم يَسِرْ المحقِّق الفاضل على جادّةِ كثيرٍ من المحقِّقين المعاصرين من إخراج الكتب على عُجالة، وواضح أنه عايش الكتاب مدّةً كافية لاستيعابه، وعالجه برويّة، ووقف عند كل نصٍّ منه، وأعطاه حقَّه من التحقيق والتدقيق والتمحيص، وهو الذي أمضى ثلاثة عقود في مجال التحقيق وخدمة تراث العلماء. دخل المحقِّق في مقدمة تحقيقه في صُلب الموضوع مباشرة، وعرَّف باقتضاب بالرسالة موضوع التحقيق، ثم ذكر الباعثَ له على إعادةِ تحقيق ونشر هذه الرسالة رغم تقدُّم نَشْرِها وطباعتها، ثم شرع ببيان النُّسَخ الخطّية والأصول الفرعية التي اعتمدها. كل هذا في ثلاث صفحات وحسب، ولم يسوِّد الصفحات الطوال في الحشو الزائد عن المقام، مثل التعريف بعلم التفسير، وأهميته، وكتبه، وتاريخه، ومناهجه ... مما عَمَّ به البلاء في هذا العصر، وأُولع به كثيرٌ من المحقِّقين. ثم استوفى المحقِّق قواعد تحقيق المخطوطات في عمله هذا، حتى ليكاد يصلح أن يكون أنموذجًا تطبيقيًّا لقواعد تحقيق المخطوطات النَّظرية، وبيان ذلك: أولًا: جمع النسخ الخطية: لم يكتفِ المحقِّق بذكر النُّسخ التي اعتمد عليها في التحقيق، بل وسَّع البحثَ، وذكر كل ما يتعلق مِن نُسَخِ هذه الرسالة، سواء وقف عليها أم لم يتيسر له الوقوف عليها بعد طُولِ البحث والتتبع والتسبُّبِ. فمثلًا: نسخة مكتبة الشيخ جميل الشَّطِّي -وهي الأصلُ الذي طُبعت عليه الرسالة- لا يُعرَفُ أين استقرَّتْ، فاتَّصَلَ بالأخ الفاضل بلال الشاويش ابن شيخنا زهير الشاويش، وسأله عنها، فأخبره أن جزءًا من مكتبة آل الشطي آلَتْ لمكتبة الشيخ زهير الشاويش، ثم بحث عن هذه الرسالة فيما انتهى إليهم منها، فلم يظفر بشيء (يُنظر ص29). ونسخة المكتبة السليمانية في تركيا، ترجَّح أنها ليست نسخة خطّية، وإنما هي مطبوعة محب الدين الخطيب. وذُكِر له أن هناك نسخة نجدية، ولكنه لم يقف عليها، ولعل غيره يُوَفَّق إليها. وواضحٌ أنه نوَّع طرق البحث والتقصّي عن المخطوط، فبحث في الفهارس، والمكتبات، وأفاد من سؤال العلماء والباحثين، ثم سَرَد هذه المعلومات، وبيَّن ما وقف عليه مما لم يجد إليه سبيلًا، وهذا يفيد من يأتي بعده من الباحثين، فيبدأ من حيث انتهى هو. ثم كان واقعيًّا بعد ذلك، فالنسخة التي لم يقف عليها بعد إفراغ الوسع -وهي نسخة مكتبة الشيخ الشطّي- أخذها بالواسطة عن طريقين، فاعتمد مطبوعة الشيخ الشطّي، ثم نشرة الأستاذ عدنان زَرْزُور، وهما اعتمدا تلك المخطوطة. ثانيًا: دراسة النسخ الخطّيّة: وهذا أمرٌ غاية من الأهمية، إذ لا بُدَّ من دراسة النُّسَخِ، وفَرْزِها، ومعرفة أقدارها ومكانتها العلميّة، ثم ترتيبها وَفْق عدد من الضوابط، وعلى ضوء ذلك يتعامل معها المحقّق، فيختار منها نسخةً أو نُسَخًا معتمدة، ويستبعد البعض، وقد يتخذ من البعض نسخًا ثانوية يرجع إليها عند الحاجة والمشكلات، وقد يرتّب المخطوطات في مجموعات وأرومات إذا كان للكتاب أكثر من إصدار وإبرازة، وغير ذلك. وهذه القاعدة لا يوليها كثيرٌ من المحقِّقين العناية اللازمة، فيتخبَّط في التحقيق يَمْنة ويَسْرة، ومن ثم يقع الخطل والزلل. والواقع أن المحقِّق الفاضل أبدع غاية الإبداع في تطبيق هذه القاعدة، فمحَّص النُّسَخ، وبيَّن أقدارها وأروماتها بدِقَّة ورويَّة، ومن ثم بنى تحقيقَه للنص على نتائج دراسته. وممّا أحسن فيه: أنه استفاد من النسخ المساعدة التي تَمُتُّ بنَسَبٍ للرسالة موضوع التحقيق (انظر: «قطوف أدبية ص21)، وهي النسخ المُضَمَنَّة في بطون بعض الكتب كـ« الكواكب الدراري » و« تفسير ابن كثير »، أو النسخ المختصرة كـ« الإتقان في علوم القرآن » للسيوطي، ولم يفته أن هؤلاء العلماء قد يتصرّفون بالنص المنقول ويختصرونه بما يناسب مقصودهم. هذه النسخ تلقي ضوءًا لا يستهان به في تحقيق النص، كما قال العلّامة عبد السلام هارون رحمه الله، وقد أفاد منها المحقق ببراعة فائقة. وقد تمخَّض عن هذه الدراسة الدقيقة أمرٌ غاية في الأهميّة، وهو أن الفصلين الأخيرين منها ليسا لابن تيميَّة، وإنما أُدْرِجا خطًا فيها. وهذه النتيجة هي ثمرة التحقيق العلمي، وحسبك بها. وهو أول من كَشَفَ ذلك ونَشَره -رغم تتابع الناس على عكسِه لعقود- وهو دليلٌ على استقلاليته في نَظَرِه ونَقْدِه، وأيضًا تواضعه وعدم استعراضه بهذا الكشف كما قد يفعل غيره! فجزاه الله خيرًا، بل قد يأتي بعده من يأخذ هذه الفائدة وأمثالها دون عَزْوٍ ويزيد تشبُّعًا واستعراضًا، وما زال التاريخ يكشف العِلَل. ثالثًا: تحقيق النصّ: تحقيق النصّ التراثي وإعادة إحيائه أقربُ ما يكون لما انتهى عليه مؤلفه = هو الغايةُ المنشودة من علم التحقيق، وهو ثَمَرَةُ جمع النسخ ودراستها، وبقدر ما تكون الأصول الخطية التي اعتمد عليها المحقق جيدة ومتقنة وواضحة ومستوفية لقواعد الكتابة والضبط، ثم المراجعة والمقابلة والقراءة على المؤلف -أو من دونه- وغير ذلك مِمّا يتصل بقواعد الضبط الكتابة = بقدر ما يكون عمل المحقق متقنًا وسهلًا مريحًا. أما إذا كانت النسخ ليست بذاك -كحال هذه الرسالة- فالعمل عليها يكتنفه العسر والصعوبة، ويستهلك الجهد الكبير والليالي الطوال من أجل تقويم عبارة، أو تصحيح كلمة حُرِّفت أو صُحِّفت أو طُمِست، وقديمًا قال الجاحظ في كتاب «الحيوان» (1/ 55): « ولربّما أراد مؤلّف الكتاب أن يصلح تصحيفًا، أو كلمة ساقطة، فيكون إنشاء عشر ورقات من حُرّ اللفظ وشريف المعاني، أيسر عليه من إتمام ذلك النقص، حتى يردّه إلى موضعه من اتّصال الكلام ». وقد بذل المحقق جهدًا كبيرًا لا تخطئه العين في تأدية نصِّ الرسالة وتقويم ما عساه جانَبَ الصواب من ألفاظها، مشيرًا إلى فروق النسخ كما ينبغي أن يكون التحقيق العلمي، وقد سَلَك في محاكمة النسخ حال الاختلاف طرقًا أذكر منها: الأول: أن يضع ما رجَّحه منها في المتن، ثم يشير في الحاشية إلى ما في بقية النسخ، ويقف عند هذا الحدّ، وذلك عندما يكون الترجيح ظاهرًا، كما في ص140 سطر 2 عند قول المؤلف: « أن يكون الحق في الباطن بخلاف ما اعتقدناه »، وضع إحالة على كلمة « الباطن »، ثم قال في الحاشية: « في م: الباطل ». واكتفى بذلك لظهور الترجيح. الثاني: أن يضع ما رجحه منها في المتن، ثم يشير في الحاشية إلى ما في بقية النسخ، ثم يشرح سبب ترجيحه بناء على ما في كتب المؤلف الأخرى، كما في ص142 سطر1 عند قول المؤلف: « والمقصود هنا أن تعدد الطرق مع عدم التشاعر أو الاتفاق في العادة يوجب ... »، وضع المحقق إحالة على كلمة « التشاعر »، ثم قال في الحاشية: «في ط2: التشاور» ثم بيَّن أن كلمة التشاعر دائرة في كتب واستعمال ابن تيمية وأحال إلى كُتُبِه، ثم شرح هذه الكلمة الغريبة نوعًا ما، ثم أردف ذلك ببيان أنها واقعة في استعمال غيره من العلماء القدماء كالجاحظ. وهذا منهج سديد؛ إذْ لا يصلح أن تحقِّق نصًّا تراثيًّا لعالمٍ ما بمعزلٍ عن بقية تراثه العلمي، بل يجب أن تضعه في سياقه المناسب منها؛ لأن إنتاج كل عالم يشكل وحدة متكاملة مترابطة، ولكل عالمٍ عبارات وألفاظ يديرها في كتبه ويكررها، يقول العلامة عبد السلام هارون [تحقيق النصوص ونشرها ص59]: « والثاني من مقدمات التحقيق: هو التمرُّس بأسلوب المؤلِّف ... كما أن لكل مؤلِّف أعلامًا خاصة تدور في كتاباته، وحوادث يديرها في أثنائها، وأعلىٰ صور التمرُّس بأسلوب المؤلف أن يرجع المحقق إلى أكبر قدر مستطاع من كتب المؤلف .. .». والمحقق توسع في تطبيق هذه القاعدة، فكان ميزانه في ترجيح كثير من الألفاظ هو كتب المؤلف، وقد استعملها ببراعة وفَهْم. وكذلك اعتمد على كتب المؤلف في شرح غامض الكتاب وما عساه استغلق منه، فما أجمله ابن تيمية في هذه الرسالة المختصرة بسطه في كتبه المطولة، انظر ص88 و89 و91. الثالث: أن يكون ما في الأصول مُشْكِلًا، فيضعه في المتن، ثم يعلِّق عليه من كلام العلماء كابن باز وابن عثيمين ومساعد الطيار، والأمر أشبه بعقد اجتماع بينهم ومناقشة هذا الإشكال، ولا شك أن ترجيح العلماء -وخصوصًا من لهم اختصاص بابن تيمية وتمرس بفهم كلامه- أولى وأثرى وأكثر اطمئنانًا، فمثلًا في ص121 السطر 1، يقول ابن تيمية: « ونحن نعلم أن عامة ما يضطر إليه عموم الناس من الاختلاف معلوم، بل متواتر عند العامة أو الخاصة »، وضع المحقق إحالة على كلمة « الاختلاف »، وبين في الحاشية أنها هكذا وردت في الأصول، وهي مشكلة بلا ريب، ثم لم يترك القارئ في حيرة من أمره، بل نقل كلام ابن عثيمين وابن باز ومساعد الطيار في توجيهها. وهذه وظيفة المحقق. وانظر محاكمة أخرى ص128 حاشية (2)، وص132 حاشية (3). الرابع: أن يكون ما في الأصول مشكلًا، ولم يظفر بترجيحٍ أو توجيه لأحد من العلماء، فيصور الكلمة أو العبارة المشكلة من المخطوط، ويثبتها في الحاشية، كما في ص135 و277 و287 و297 لعل القارئ يجد لها وجهًا، وحسبه أنه أدى الأمانة، وهذه طريقة حسنة مبتكرة، تنم عن تواضع وفضل وحب للفائدة واحترام لعقول القراء. ضبط النص: ضبط المحقق متن الرسالة ضبطًا متّزنًا ونافعًا جدًا، فاعتنى بضبط أواخر الكلمات، وما عساه يُشكل في بُنْيةِ الكلمة، ووزَّع النص على فقرات بناءً على معطيات المعنى، وكذا زوَّد النص بعلامات الترقيم المناسبة التي تعين على فهم النص. كل هذا أتاح للقارئ أن يمضي في قراءته للنص دونما تلكُّؤٍ ولا تعثُّر، في زمن شاع فيه الضعف بالعربية، فجزاه الله خيرًا. وإنْ كان وقع في ضبطه بعض الهنات القليلة التي لا يخلو منها عمل مؤلف قطُّ مهما بالغ بالتدقيق واعتنى بالمراجعة عودًا على بدء. تخريج الأحاديث: خرَّج أحاديث وآثار الرسالة تخريجًا مقتصدًا، ونَقَل كلام العلماء عليها، واعتنى بنقل كلام ابن تيمية على الأحاديث من بقية كتبه، وكذا غيره من العلماء النُّقَّاد كالبخاري والجَوْرَقاني وابن عَسَاكر، مرورًا بابن حَجَر، وصولًا إلى الألباني. وإن كان في أحيانٍ قد يكون الأَولى استحضار أن النسبة الكبرى من القراء ليسو متخصصين في الحديث، فالتزام تيسير معرفة درجة الحديث أمرٌ مستحسن أن يُجمع مع إفادة المشتغل، فمثلًا: في ص119 حديث: «لا يريبه أحد »، خرَّجه من الموطأ وسنن النَّسَائي وصحيح ابن حِبّان، نعم، قد يفيد الحديثيَّ أن الحديث صحَّحَه ابن حِبّان وشرطه جيد في الجملة، وأيضًا كونه في الموطأ ومرفوعاته المسندة أجود. ولكنّه في هذا الحديث أحال للنظر في « العلل » للدارَقُطْني، و« التمهيد » و« البدر المنير »، وإذا علمتَ أن الدارقطني تكلَّم على هذا الحديث في « العلل » وبسط طرقه في نحو (16) صفحة، فهنا يحسن بالمحقِّق الكريم تلخيص النتيجة إن كان الحديث معلولًا أو المحفوظ فيه كذا باختصار، لأن هذا الكتاب كتابٌ في قواعد التفسير، لا في دقائق علم الحديث، ولا يغيب عنّي أن الشيخ حفظه الله مشهودٌ له بالتمكُّن في الفنّ من قديم، وتراه في تقديم فضيلة الشيخ المحدّث عبد الله بن عبد الرحمن السَّعد -حفظه الله- لتحقيقه لكتاب آداب وأحكام دخول الحمّام لابن كثير من ثلاثة عقود، فالاختصار وتيسير النتيجة للقارئ العادي في علم الحديث فيه خير عامّ، ولا سيّما للمحقق نَفَسٌ طيِّبٌ في تعليقاته على الرسالة. التعليق: كتب المحقق على غلاف الكتاب: « تحقيق وتعليق »، ولعلَّه تواضعٌ منه وعدم تكثُّر، وإلا فالواقع أن ما فعله يتجاوز التعليق بمراحل، لأن واقع الحال أنه شَرَح الرسالة شرحًا مطوَّلًا، ولا يخفى أنَّ التخريج والتحقيق والشرح والتعليق ...إلخ، كل واحد منها علم على حياله، فلا ينبغي أن يُخلَط بينها، لذلك كان العلامة عبد السلام هارون دقيقًا عندما كتب على غلاف طبعته من كتاب « الحيوان » للجاحظ: « تحقيق وشرح ». فالذي فعله إذًا هو شَرْحُ رسالة « أصول التفسير » لابن تيمية، وقد احتشد لشرحه هذا، وجمع له جراميزه، ورسالة ابن تيمية هذه رسالة مختصرة أشبه بالمتون، وهي جديرة بالشرح بلا ريب، لذلك شَرَحها عددٌ من أهل العلم، وشروحهم هذه كانت حاضرةً بين يدي المحقق يفيد منها؛ مع نسبة القول لقائله. على أن منحى شَرْحِه ومنهجه يختلف عما أَلِفْناه في الشروح، فقد شَرَح هذه الرسالةَ من كلام ابن تيمية نفسه، وهذه طريقة آمنةٌ للغاية؛ لأن كل مؤلِّف أدرى بكلامه من غيره، فَمَا أَجْمَلَه في مكانٍ شرحه في آخر، وما أبهمه في موضعٍ عيَّنه في موضع آخر، وهكذا، لذلك طوَّف المحقِّق بعامة تراث ابن تيمية وشَحَن شَرْحَه بالنقول من كتب ابن تيمية. ومنهجُ الشرح بالنقول منهجٌ معروف مطروقٌ لأهل العلم، ولا تثريب عليه فيه، سَبَقه إليه: ابن أبي العِزّ الحنفي في « شرح الطحاوية »، وابن عُروة في « الكواكب الدَّراري »، والبُهوتي في « كشاف القناع »، والشوكاني في «ن يل الأوطار »، وغيرهم من أهل العلم. وإنْ كنتُ أُوثِرُ المنهج الآخر في الشَّرْح، وهو المنهج الذي اتَّبَعه ابن حَجَر في « فتح الباري » وغيره من كتبه، إذ لا يكاد ينقل نقلًا حرفيًا، بل يقرأ الكلام ويستوعبه، ثم يصوغُ خلاصته بأسلوبه المتقَن المتين وبعبارة موجزة، لذلك انْتُفِعَ بـ«فتح الباري» وغيره من كتبه، واعتمد الناس عليها. نعم، ينبغي أن تكون كتب المؤلف الأخرى حاضرةً ويرجع ويستفاد منها في الشرح والتحقيق والتعليق، ولكن لا أنْ تُفَرَّغَ في حواشي الكتاب. فلو أنه قرأ كلام ابن تيمية ثم أدى إلينا خلاصته باختصار، ثم أردفه بالمراجع لِمُنْشِدِ التوسُّع لعلّه كان أنفع وأجدى من شحن الحواشي بنصوص ابن تيمية وغيره والتي لا تخلو من التكرار، وانظر مثلًا: ص160-163 نقل في شرح مسألة ثلاث صفحات بخط الحاشية الصغير، وفي ص142 أجاد في شرح كلمة « التشاعر » -كما تقدم- وبيان أنها واقعة في استعمال المؤلف في بقية كتبه، ثم شَرَحها شرحًا جيِّدًا من «تاج العَروس»، فوضَح المراد وحُلَّ الإشكال، ولكنه لم يقف عند هذا الحد، بل نقل ثلاثة نصوص من كتب الجاحظ، مع شرح العلّامة عبد السلام لهذه الكلمة في موضعين، وشرحُه يختلف بحسب سياق الكلمة، وكان الأَوْلى تَرْكُ ذلك، وإنْ زاد أنها وقعت في كلام غير ابن تيمية مِن المؤلِّفين ، ثم أحال على كتب الجاحظ دون نقلِ نصوص الجاحظ؛ فلا بأس. كما أن الاقتصار على كلام ابن تيمية في بعض المسائل المهمة يوهم أنه ليس فيها قول آخر للعلماء، كما في ص149 إذا نقل كلام ابن تيمية في تغليط رواية عند البخاري، وأردفه بكلام تلميذه ابن القيّم. والواقع أن هذه المسألة مسألة خلافية، وللعلماء فيها نحو خمسة أقولٍ، وانظر للتوسع « أجوبة ابن القيّم على الأحاديث التي ظاهرها التعارض » ص495- 498. ومن الإنصاف ذِكْرُ أنه لم يكتفِ بالنقول والاستفادة من كتب ابن تيمية فقط، بل أفاد من كتب عددٍ من العلماء كابن القيِّم وابن كثير، بل إنه تعنَّى ونَقَلَ في ص182 نقلًا عن مصدرٍ مخطوطٍ عزيزِ موجود في جامعة الإمام. وكل هذه الملاحظات مجرد اجتهاداتٍ وآراءٍ لا تحطُّ من قيمة هذا التحقيق العلمي المتقَن، فجزاه الله خيرًا ونفع به، وزاده توفيقًا، ولعله أن يتحفنا في قادم الأيام بمزيدٍ من هذه التحقيقات البديعة. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته الرياض 20 /4 /1444 هـ
"الرد على الزنادقة والجهمية فيما شكت فيه من متشابه القرآن"، تأليف الإمام أحمد بن حنبل (ت241هـ) صدر حديثًا كتاب "الرد على الزنادقة والجهمية فيما شكّت فيه من متشابه القرآن وتأولته على غير تأويله"، لإمام أهل السنّة أحمد بن حنبل، دراسة وتحقيق: د. "دغش بن شبيب العجمي"، نشر: "دار الإمام مسلم للنشر والتوزيع". وهذا الكتاب ألفه الإمام أحمد بن حنبل وهو في الحبس، وقد نص على ذلك جمع من أهل العلم منهم: صالح بن أحمد بن حنبل، وأبو يعلى الحنبلي، وابن تيمية، ابن قيم الجوزية، وابن اللحام الحنبلي، وتاريخ التأليف هو عام 220هـ. وموضوع الرسالة في أصول الدين واعتقاد أهل السنة والجماعة، والجواب عن شبه الجهمية فيها، بدلائل الكتاب والسنة. وتنبع أهمية هذه الرسالة من أهمية ومكانة صاحبها وهو أحمد بن حنبل الذي يعتبر إمامًا وعالمًا من أهم علماء أهل السنة والجماعة. كما زاد من أهميتها احتجاج أحمد بن حنبل بالأدلة العقلية في كتابه هذا، مما يدلل على أن السلف ليسوا من أعداء العقل كما يشغب به المعتزلة، وأن هذه كانت طريقة السلف حيث "كانوا يستخدمون القياس العقلي على النحو الذي ورد به القرآن في الأمثال التي ضربها الله تعالى للناس". كما عرض الكتاب كثيرًا من الآيات القرآنية التي ظن الزنادقة أن فيها تناقضًا واضطرابًا، ورد عليها الإمام أحمد بما تقر به العين. ويدلل على مكانة الكتاب ثناء العلماء عليه وتلقيهم له بالقبول، حيث كثيرًا ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية، وشرحه وعلق عليه وحلله تحليلًا بديعًا، بل وفي أثناء الشرح يقارن بين النسخ كذلك، وقد وضع الكاتب استشهادات ابن تيمية على مواطن كلام الإمام أحمد لزيادة الفائدة من الكتاب وتقوية المتن. وقد اشتمل الكتاب على قسمين وكل قسم فيه عدة مسائل مهمة: القسم الأول: الآيات التي تعلق بها الزنادقة في دعواهم أن القرآن متناقض. وهي التي عبر عنها الإمام أحمد بالمتشابه، وهو ما احتاج إلى بيان، حيث هذا المتشابه يعلمه العلماء، وهو ما اتضح في تفسير الإمام أحمد للآيات المتشابهة التي احتج بها الزنديق الكافر والجهمي المبتدع. القسم الثاني: آيات الصفات والرد على الجهمية. ومن المسائل المهمة التي تطرق إليها: • إثبات أن القرآن كلام الله غير مخلوق. • تكلم حول المضاف إلى الله من معنى أو عين قائمة بنفسها. • إثبات رؤية المؤمنين لربهم في الجنة. • إثبات تكليم الله لموسى عليه السلام. • استخدام القياس العقلي. • تقرير أن الله عز وجل فوق عرشه. • الجواب عن شبه الحلولية التي عارضوا بها القرآن والسنة. • إثبات صفة العلم لله والرد على الجهمية في إنكارها. • بيان ما ضلت به الجهمية من إنكار بقاء الجنة والنار وقولهم بفنائهما. ثم ختم الكتاب بالدعوة إلى الرجوع إلى الكتاب والسنة، والقول بقول الصحابة والتابعين، وحذّر من القول بقول أتباع جهم بن صفوان. وقد قدم المحقق للكتاب بمقدمات وافية طويلة حول أهمية الكتاب، وترجمة مصنفه، وبيان النسخ الخطية المعتمدة في تحقيق الكتاب، مع دمج شرح ابن تيمية على كلام إمام أهل السنة أحمد بن حنبل في رسالته، والتوليف بينهما. وإمام أهل السنة أحمد بن حنبل (164 - 241هـ، 780 - 855م) هو أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال بن أسد الشيباني. الفقيه والمحدث، صاحب المذهب. ولد ببغداد ونشأ بها ومات والده وهو صغير فتعهدته أمه ووجهته إلى دراسة العلوم الدينية، فحفظ القرآن وتعلم اللغة. وفي الخامسة عشرة من عمره بدأ دراسة الحديث وحفظه، وفي العشرين من عمره بدأ في رحلات طلب العلم، فذهب إلى الكوفة ومكة والمدينة والشام واليمن ثم رجع إلى بغداد ودرس فيها على الشافعي أثناء قيام الشافعي برحلاته إليها في المدة من 195 إلى 197هـ، وكان من أكبر تلاميذ الشافعي ببغداد. كما تعلم أحمد على يد كثير من علماء العراق منهم إبراهيم بن سعيد وسفيان بن عيينة ويحيى بن سعيد ويزيد ابن هارون وأبو داود الطيالسي ووكيع بن الجراح وعبدالرحمن بن مهدي. بعد ذلك أصبح مجتهدًا صاحب مذهب مستقل وبرز على أقرانه في حفظ السنة وجمع شتاتها حتى أصبح إمام المحدثين في عصره، يشهد له في ذلك كتابه المسند الذي حوى نيفًا وأربعين ألف حديث. وقد أعطى الله أحمد من قوة الحفظ ما يتعجب له، يقول الشافعي: خرجت من بغداد وما خلفت فيها أفقه ولا أورع ولا أزهد ولا أعلم ولا أحفظ من ابن حنبل. وكان ابن حنبل قوي العزيمة صبورًا ثابت الرأي قوي الحجة، جريئًا في التكلم عند الخلفاء مما كان سببًا له في محنته المشهورة. وهي أنه في عصر خلافة المأمون العباسي أثيرت في سنة 212هـ مسألة القول بخلق القرآن، التي كانت عقيدة المعتزلة. حتى قيل من لم يعترف بهذه المسألة من العلماء والفقهاء فعقابه الحرمان من وظائف الدولة مع العقاب بالضرب والسجن. وكان ابن حنبل على خلاف ما يقولون ولم يعترف بقولهم، وكان في ذلك كالطود الثابت الراسخ، لم يركن إلى ما قاله المأمون، فكان نتيجة ذلك أن طبق عليه العقاب ومنع من التدريس وعذِّب وسجن في سنة 218هـ على يد إسحاق بن إبراهيم الخزاعي نائب المأمون، ثم سيق مكبلًا بالحديد حيث يقيم المأمون خارج بغداد، غير أن الخليفة المأمون مات قبل وصول أحمد بن حنبل إليه. وتولى الخلافة بعد المأمون أخوه، المعتصم، فسار على طريقة المأمون في هذه المسألة بوصية منه فسجن أحمد وأمر بضربه بالسياط عدة مرات حتى كان يغمى عليه في كل مرة من شدة الضرب، واستمر في ضرب أحمد وتعذيبه نحو ثمانية وعشرين شهرًا. ولما لم يغير أحمد ولم يرجع عن عقيدته ومذهبه أطلق سراحه وعاد إلى التدريس. ثم مات المعتصم سنة 227هـ وتولى بعده الواثق بالله فأعاد المحنة لأحمد ومنعه مخالطة الناس ومنعه من التدريس أكثر من خمس سنوات، حتى توفي الواثق سنة 232هـ، وتولى الخلافة بعده المتوكل، فأبطل بدعة خلق القرآن سنة 232 هـ وترك للناس حرية اعتقادهم وكرَّم أحمد وبسط له يد العون وظل أحمد على منهاجه ثابتًا على رأيه حتى توفي ببغداد. جمعَ تلاميذ أحمد من بعده مسائل كثيرة في الفقه والفتوى ودونوها ونقلوها بعضهم عن بعض في مجاميع كبيرة. ولم يدون أحمد مذهبه في الفقه كما لم يمله على أحد من تلاميذه كراهة اشتغال الناس به عن الحديث، وهو بهذا على غير منهج أبي حنيفة، الذي كان يدون عنه تلاميذه في حضوره، ومالك الذي كان يدون بنفسه وكذا الشافعي، فالجميع قد تركوا فقهًا مدونًا بخلاف أحمد فلم يترك فقهًا مدونًا، إلا أن تلاميذه بعده قاموا بتدوين ما سمعوه منه. ومن هؤلاء التلاميذ: أبو داود صاحب السنن. ومن تلاميذه البررة الذين دونوا ما سمعوه من فتاوى وآراء فقهية ولداه صالح (ت 266هـ) وعبدالله (ت 290هـ). ومن تلاميذه أيضًا أبوبكر أحمد بن محمد بن هانئ البغدادي المعروف بالأثرم (ت 273هـ). وهو من أشهر من دون الفقه لأحمد في كتاب، السنن في الفقه، على مذهب أحمد وشواهده من الحديث. ومن أشهرهم أيضًا أبوبكر أحمد بن الخلاّل (ت 311هـ)، في كتاب الجامع ويقع في عشرين سفرًا، وما دونه أبوبكر في هذا الكتاب يعد نقلًا من تلاميذ أحمد. أما في الحديث فلأحمد مسنده المعروف والمشهور.
الوليد بن عبد الملك المعروف عن العصر الأموي أنه عصرٌ أقرب إلى روح البادية، وهذا ما يظنه ابن خلدون، وقد يكون ذلك صحيحًا عن الجيل الثاني، أما الواقع الذي أخذ يظهر شيئًا فشيئًا في التاريخ؛ فهو أن الأمويين في الجيل الثالث قاموا بدور رائع في خدمة المدنِيَّة، على أن الزهر الذي زرعوه لم يتفتق كل التَّفَتُّقِ في عصرهم، وظهر تفتُّقه في العصر العباسي، فاقتطفه العباسيون، فظن الناس أن العباسيين هم الذين وضعوا أصول الحضارة، أما الواقع، فإن الأمويين هم الذين زرعوا تلك المدنية ثم تركوا لغيرهم حصادها، وقد عرفوا كيف يغرسون بذور هذه المدنية، وكيف ينشئون ذلك الزرع، وبلغ الزرع مداه، واقتطفه العباسيون في أول دولتهم. • والجيل الذي نتكلم عنه يبدأ عام 80هـ وينتهي حوالي عام 120هـ، وقد كان فيه في سدة الحكم الأموي: الوليد بن عبدالملك، وسليمان بن عبدالملك، وعمر بن عبدالعزيز، ويزيد بن عبدالملك، وهشام بن عبدالملك، وكلهم إخوة وأبناء عمٍّ؛ أي إنهم من جيل واحد، وكان عبدالملك هو الذي بدأ هذه النهضة، ودفع عجلة ذلك التقدم بوضعه أسس الدولة الأموية، وبتعريبه لها. • قام الوليد بما عليه خير قيام، فكان يريد أن يعيد للإسلام مجده، فاتخذ لذلك وسائلَ؛ منها الفتوح لنشر الإسلام وإذاعته، ومنها العمارة والبناء والإنشاء. وأول ما فكر فيه أن يجعل دمشق عاصمةً حقيقية تهفو إليها الأنفس، عاصمة للإسلام، بل عاصمة للدنيا، فبنى فيها المسجد الأموي الجامع. • أنفق الوليد على المسجد الأموي خمسين صندوقًا من الذهب، وقيل: إنه أنفق خراج سبع سنين، وتهامس الناس أنه أنفق مال الأمة جميعًا، فأجابهم بأنه لا يزال بين يديه في بيت المال خراج عشر سنين، وجمع له عشرة آلاف عامل، واتبع شكل البناء بالأقواس، والأعمدة، والقبب، والأروقة، والزخرف طرازَ الأبنية البيزنطية، لكن مخطط المسجد إسلاميٌّ، وجعل سقف المسجد من الرصاص، وحُلِّيَ بالجواهر، وطُلِيَ الذهب على حيطان المسجد، ووضعت الفُسَيْفِساء على أعمدة المسجد، حتى بدا المسجد وهو يتلألأ من الذهب، وكأنه شعلة من نار متوقدة، وأصبح في دمشق معجزة من معجزات الفن المعماري بالعالم. • ولم يقتصر الوليد على المسجد الأموي، بل كتب إلى ولاته أن يوسعوا المساجد، ووسع بناء المسجد النبوي، وبنى المسجد الأقصى في القدس، وكان والده قد بنى مسجد الصخرة. • وعمد الوليد إلى تحسين حال العاجزين، فأنشأ في دمشق بيماريستانًا للجذامى، ووضع مع كل أعمى قائدًا يقوده، ووضع لكل مقعد خادمًا يخدمه، وأطلق الأموال للفقراء وحسَّن أحوال الناس. واهتم الوليد بالفقراء، فمنع التسول منعًا باتًّا، وقال: إن في بيت مال المسلمين ما يكفيهم، وأطلق لهم المال منه، ونشط الاقتصاد، فأصلح الأراضي وأرسل إليه الحجَّاج البقر الوحشي الهندي لتغذية تلك الأراضي بالسماد، ولتطهيرها من الأعشاب الطفيلية. • قال السيوطي عنه: "أقام الجهاد في أيامه، وفُتحت في خلافته فتوحات عظيمة، وكان مع ذلك يختن الأيتام، ويرتب لهم المؤدبين، ويرتب للزَّمْني من يخدمهم، وللأضراء من يقودهم، وعمر المسجد النبوي ووسعه، ورزق الفقهاء والضعفاء والفقراء، وحرَّم عليهم سؤال الناس، وفرض لهم ما يكفيهم وضبط الأمور أتم ضبط". • وجعل الحكم عربيًّا إسلاميًّا خالصًا، فاستبعد من الإدارة غير العرب الذين كانوا عليها، كعائلة سرجون بن منصور. • وفي سياسة الفتوح اختطَّ سياسة أن تسير الجيوش في كل مكان، وهذه سياسة خطيرة، فالمعروف في الحروب أن المحارب يجب ألَّا يفتح عدة جبهات في وقت واحد، لكن الإسلام كان يحمل سر نجاح هذه الفتوح، ونشاط الفاتحين كان قويًّا جدًّا يبهر الخصوم، ويجعلهم يلقون السلاح. • ولنتصور امتداد الفتوح؛ إنها كانت متسعة الرقعة بشكل لا يقارب عدد الفاتحين، فالفتوح في عهد الوليد اتجهت نحو السِّند، ونحو ما وراء النهر، واتجهت في شمال الشام نحو القفقاس وأرمينية وبلاد الروم، واتجهت جحافل المسلمين نحو بلاد المغرب ومنها إلى الأندلس، فكأن المسلمين كانوا لا يقصدون ألَّا يقفوا بفتوحهم، إلا حيث تعوقهم صحراء، أو بحر، أو مانع طبيعي. والواقع أن معجزة الفتوح عادت مرة أخرى إلى الظهور في عصر الوليد، بعد أن انقطعت جيلًا من الناس. • وأول من منع من ندائه باسمه: الوليد بن عبدالملك. • قال الشعبي: "كان أبواه يترفانه فشبَّ بلا أدب". قال روح بن زنباع: "دخلت يومًا على عبدالملك، وهو مهموم، فقال: فكرت فيمن أوليه أمر العرب فلم أجده، فقلت: أين أنت من الوليد؟ قال: إنه لا يحسن النحو، فسمع ذلك الوليد فقام من ساعته، وجمع أصحاب النحو، وجلس معهم في بيت ستة أشهر، ثم خرج وهو أجهل مما كان، فقال عبدالملك: أما إنه قد أعذر". وقال أبو الزناد: "كان الوليد لحانًا، قال على منبر المسجد النبوي: يا أهلُ المدينة". وقال أبو عكرمة الضبي: "قرأ الوليد على المنبر: يا ليتُها كانت القاضية، وتحت المنبر عمر بن عبدالعزيز، وسليمان بن عبدالملك، فقال سليمان: وددتها والله". • قال السيوطي: "وكان الوليد جبارًا ظالمًا، وأخرج أبو نعيم في الحلية عن ابن شوذب قال: قال عمر بن عبدالعزيز - وكان الوليد في الشام، والحجَّاج بالعراق، وعثمان بن جبارة بالحجاز، وقرة بن شريك بمصر: امتلأت الأرض والله جَورًا". المصادر: الدولة الأموية يوسف العش. تاريخ الخلفاء للسيوطي.
من منطلقات العلاقات الشرق والغرب (الغزو الفكري) في فترة من فترات انحطاط المسلمين وفي فترة من فترات الابتعاد التي أعقبت الحروب الصليبية بزمن، تسلَّطت على المسلمين تيارات متعددة الأشكال والأساليب والوسائل، يأتي في مقدمتها الاحتلال العسكري لمعظم بلاد المسلمين. مهَّد هذا الاحتلال لبقية التيارات الأخرى التي يمكن أن تحصر في أربعة تيارات عدا الاحتلال، وهي: التنصير والاستشراق والتغريب والصهيونية، وداخل كل تيار من هذه التيارات الخمسة تيارات فرعية تكون موجَّهة إلى مفهوم من المفهومات الإسلامية، أو إلى فئة من الفئات المسلمة، أو أرض من أراضي المسلمين،وقد سبق التعرض لهذه التيارات على أنها من محددات العلاقة بين الشرق والغرب. قد يضيف البعض تيارًا سادسًا يدعونه بالغزو الفكري [1] ، ولكن هذا التيار لا يعدو أن يكون داخلًا في التيارات الأربعة سالفة الذكر،مع أن هناك بيننا من يقول: إنه ليس هناك ما يسمى بالغزو الفكري، فالفكر مبسوط للعالم، لك أن تأخذه أو تأخذ منه، ولك أن تتركه أو تترك منه، ويبدو أن هذا المنطلق لا يعدو أن يكون تأثرًا من قائله بالأفكار الغربية عن المجتمع المسلم، جاء بها من منطلق ما يتردد من حرية الفكر وحرية الكلمة وحرية الرأي دونما ضابط دقيق لهذه الإطلاقات أو هذه المصطلحات. هذا التحدي الذي يواجهه المسلمون اليوم من هذه التيارات لم يكن جديدًا على المسلمين؛ فالصراع بين الحق والباطل والصراع بين الخير والشر مستمرٌّ وقائم، وقد شاءت إرادة الله تعالى أن يستمر هذا الصراع. يجتمع معظم دعاة هذه التيارات من منصِّرين ومحتلين ومستشرقين ومتغربين، بل وصهيونيين، في أنهم إذا عرفوا الحق اتبعوه، ومنهم المعاندون المصرون على عنادهم، والمكابرون المصرون على مكابرتهم، ولكن منهم من هداهم الله تعالى إلى الحق، فتركوا الدعوة إلى الباطل وانتصروا للحق، وصاروا حربًا على التيارات التي كانوا يقودونها في زمن الجهل والضلال،وقد تقابل أكثر من حال كان أصحابها دعاةً للباطل، فأصبحوا - بفضل من هداية الله تعالى - دعاةً للحق، منصرفين إليه بقوة؛ لأن حالهم تقول: إنهم يرغبون في التكفير عما قاموا به من ضلالة وإضلال. من هنا ينبغي الوضوح في العلاقة مع أفراد هذه التيارات،ولا شك أن التعاون معهم مرفوض، من منطلق النصوص الشرعية: ﴿ وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ﴾ [المائدة: 2]، وليس التعامل معهم بالضرورة تعاونًا على العدوان، إذا ما أريد له أن يكون محاولات جادة لإظهار الحق لهم؛ رغبة في هدايتهم، أو على أقل التقدير رغبة في اتقاء شرهم. هناك نقاشٌ حول مسألة الحوار مع أرباب هذه التيارات، وهناك آراء حول جواز هذا الحوار أو عدم جوازه،وليس الباحث من مصاف المشرعين من علماء الأمة، ولا يخضع الأمر لوجهات النظر الفردية؛ فالدِّين لا يؤخذ بوجهات النظر، ولكنه يعتمد على النصوص، وعلى مصادر التشريع الإسلامي الأخرى، ومنها القياس،والحذر الآن من الحوار قد يكون مرده عدم القدرة على الإمساك بزمام الحوار، وترك المجال للطرف الآخر ليسيطر عليه، لا سيما أنه الآن ينظر من علو، وأنه هو الغالب فينتظر اتباع المغلوب له. تلك مشكلة إدراكية رانت على أذهان بعض من أبناء الأمة وبناتها، فرفضوا الحوار خوفًا منه، وخوفًا على أنفسهم من الآخر، وكأنهم لا يملِكون أقوى مقوم للحوار تبناه أسلافهم، فخاضوا غمار الحوار، وانتصر الحق في النهاية. [1] انظر: أحمد عبدالرحيم السايح - في الغزو الفكري - مرجع سابق - ص 157 ، وانظر أيضًا: نذير حمدان ، في الغزو الفكري: المفهوم - الوسائل - المحاولات - الطائف: مكتبة الصديق، د . ت - ص 375 ، وانظر كذلك: علي عبدالحليم محمود ، الغزو الفكري وأثره على المجتمع المسلم - ط 3 - القاهرة: دار المنار الحديثة، 1410هـ/ 1989م - ص 208 ، وانظر كذلك: جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية ، الغزو الفكري والتيارات المعادية للإسلام - الرياض: الجامعة، 1414هـ/ 1984م - ص 523.
الدعاء عدة المؤمن ل شيخة بنت محمد القاسم صدر حديثًا كتاب "الدُّعاءُ عُدّةُ المؤمِن"، تأليف: "شيخة بنت محمد القاسم"، نشر "مؤسسة الجريسي للتوزيع". وهذه الرسالة تبحث في آداب الدعاء لله تبارك وتعالى، وأسباب وموانع الإجابة، فقد أمر الله سبحانه عباده بالدعاء ورغب نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - أمته بسؤال ربهم في جميع أحوالهم فحري بالمسلم أن يتفقه في هذه العبادة العظيمة ليدعو الله على بصيرة وعلم. وهذا الكتاب متمم لسلسلة تصدرها " المشرفة التربوية " في مجموعة من الآداب والأخلاقيات الإسلامية، ومنه إصدار سابق بعنوان " وبشر الصابرين ". وقد وضعت الكاتبة رسالتها في مقدمة بينت فيها عظم شعيرة الدعاء، وفضلها، ثم تلتها عدة مباحث على النحو التالي: • تعريف الدعاء، وذكر بعض الآيات والأحاديث في الدعاء. • دعاء الله ضرورة فطرية. • فضائل الدعاء. • أنواع الدعاء وبيان الأكمل في الدعاء. • شرح حديث (إن لله تسعة وتسعين اسمًا). • اسم الله الأعظم الذي إذا دُعي به أجاب. • قواعد مهمة في الدعاء. • آداب الدعاء. • أسباب إجابة الدعاء. • ثمرة الدعاء. • أوقات وأماكن يُستجاب فيها الدعاء. • أدعية الكرب والهم والحزن. • الحكم من تأخر الدعاء. • موانع إجابة الدعاء. • أمثلة على استجابة الله لأنبيائه وأوليائه. • شرح أدعية واردة في الكتاب والسنة. • مسائل في الدعاء. • أخطاء في الدعاء. • خاتمة في نتائج البحث. والكاتبة " شيخة بنت محمد القاسم " مشرفة تربوية - عضوة في تأليف المقررات الدينية سابقًا، وعضوة في وحدة التوعية الإسلامية بالرياض. من مصنفاتها الدعوية: • "شرح أسماء الله الحسنى". • "شرح أذكار الصباح والمساء من حصن المسلم". • "قواعد ومسائل في طهارة المرأة المسلمة". • "لا تحزن والله ربك". • "صالحات عرفتهن - سير صالحات معاصرات".
الهجرة ورَد أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ قوله تعالى: ﴿ وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا ﴾ [الإسراء: 80]، قال ابن كثير: أرشده الله وألهمه أن يدعو بهذا الدعاء، أن يجعل له مما هو فيه فرجًا قريبًا ومخرجًا عاجلًا، فأذن الله له في الهجرة إلى المدينة حيث الأنصار والأحباب، فصارت له دارًا وقرارًا، وأهلها له أنصارًا. ويذكر أحمد بن حنبل رواية عن ابن عباس قوله: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة، فأمره الله تعالى بالهجرة وأنزل عليه: ﴿ وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ ﴾ [الإسراء: 80] الآية. قال ابن إسحاق: وأقام رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بمكة بعد أصحابه من المهاجرين ينتظر أن يؤذَنَ له في الهجرة، ولم يتخلف معه بمكة إلا مَن حُبس أو فتن، إلا علي بن أبي طالب وأبو بكر، وكان أبو بكر كثيرًا ما يستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الهجرة، فيقول له: ((لا تعجل؛ لعل الله يجعل لك صاحبًا))، فيطمع أبو بكر أن يكونه. قال: فلما رأت قريش أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد صار له شيعة وأصحاب من غيرهم بغير بلدهم، ورأوا خروج أصحابه من المهاجرين إليهم - عرفوا أنهم قد نزلوا دارًا وأصابوا منهم منعة، فحذروا خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم، وعرفوا أنه قد أجمع على حربهم، فاجتمعوا له في دار الندوة - وهي دار قصي بن كلاب التي كانت قريش لا تقضي أمرًا إلا فيها - يتشاورون فيما يصنعون في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم حين خافوه، قال ابن عباس: وقد سُمِّي اليوم الذي اجتمعوا فيه لهذا الأمر "يوم الزحمة"، فوقف في طريقهم إبليس لعنه الله في صورة شيخ غريب، فقالوا: مَن الشيخ؟ قال: شيخ من أهل نجد سمع بالذي اتعدتم له فحضر معكم ليسمع ما تقولون، وعسى ألا يعدمكم منه رأيًا ونصحًا، قالوا: أجل فادخل، فدخل معهم وقد اجتمع فيها أشراف قريش، عتبة وشيبة، وأبو سفيان، وطعيمة بن عدي، وجبير بن مطعم، والحارث بن عامر، والنضر بن الحارث، وأبو البختري بن هشام، وزمعة بن الأسود، وحكيم بن حزام، وأبو جهل بن هشام، ونبيه ومنبه ابنا الحجاج، وأمية بن خلف، وغير هؤلاء، وتكلموا في شأنه وماذا يفعلون به، قيل: احبسوه وكبلوه بالحديد إلى أن يقضي نحبه، قال الشيخ النجدي: ليس هذا برأي، والله لئن حبستموه كما تقولون ليخرجن أمره من وراء الباب هذا الذي أغلقتم دونه إلى أصحابه، فلأوشكوا أن يَثِبوا عليكم فينتزعوه من أيديكم ثم يكاثروكم به حتى يغلِبوا على أمركم، ما هذا لكم برأي، ثم قالوا: نخرجه من بين أظهرنا فننفيه من بلادنا، فإذا خرج عنا فلا نبالي والله أين ذهب، فقال الشيخ النجدي: ليس هذا برأي، ألم تروا حسن حديثه وحلاوة منطقه وغلبته على قلوب الرجال بما يأتي به؟ لو فعلتم ذلك ما أمنت أن يحل على حي من العرب فيغلب عليهم بذلك من قوله وحديثه حتى يتابعوه عليه، ثم يسير بهم إليكم حتى يطأكم بهم فيأخذ أمركم من أيديكم، ثم يفعل بكم ما أراد، أديروا فيه رأيًا غير هذا، فقال أبو جهل: إن لي فيه رأيًا ما أراكم وقعتم عليه، قالوا: وما هو يا أبا الحكم؟ قال: أرى أن نأخذ من كل قبيلة فتى شابًا جليدًا نسيبًا وسيطًا فينا، ثم نعطي كل فتى منهم سيفًا صارمًا، ثم يعمِدوا إليه فيضربوه بها ضربة رجل واحد، فيقتلوه فنستريح منه، فإنهم إذا فعلوا ذلك تفرق دمه بين القبائل جميعها، فلم يقدر بنو عبد مناف على حرب قومهم جميعًا، فرضوا منا بالعقل - الدية - فعقلناه لهم، فقال الشيخ النجدي: القول ما قال الرجل، هذا الرأي ولا أرى غيره، فتفرق القوم على ذلك وهم مجمعون له، فأتى جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال له: لا تبِتْ هذه الليلة على فراشك الذي كنت تبيت عليه، فلما كانت عتمة من الليل اجتمعوا على بابه يرصدونه حتى ينام فيثبون عليه، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم مكانهم، قال لعلي بن أبي طالب: ((نَمْ على فراشي، وتسجَّ ببردي هذا الحضرمي الأخضر، فنَمْ فيه؛ فإنه لن يخلص إليك شيء تكرهه))؛ قال الله تعالى: ﴿ وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ﴾ [الأنفال: 30]، فلما اجتمعوا على بابه وفيهم أبو جهل، قال يحدثهم - وهو واثق بأن نهاية محمد قد دنت -: إن محمدًا يزعم أنكم إن تابعتموه على أمره كنتم ملوك العرب والعجم، ثم بُعثتم من بعد موتكم، فجعلت لكم جنان كجنان الأردن، وإن لم تفعلوه كان له فيكم ذبح، ثم بعثتم من بعد موتكم ثم جعلت لكم نار تحرقون فيها، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ حفنة من تراب في يده، ثم قال: ((نعم أنا أقول ذلك، أنت أحدهم))، وأخذ الله تعالى أبصارهم عنه فلا يرونه، فجعل ينثر ذلك التراب على رؤوسهم وهو يتلو هؤلاء الآيات: ﴿ يس * وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ * إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ * لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ * * لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ * إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ * وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ ﴾ [يس: 1 - 9]. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أتى في الهاجرة - عند الظهر - دار أبي بكر الصديق، فقال له: ((إن الله تعالى قد أذن لي بالخروج والهجرة))، فقال أبو بكر: الصحبة يا رسول الله؟ قال: ((الصحبة))، قالت عائشة - وكانت هي وأختها أسماء قد شهدتا هذا الموقف -: فوالله ما شعرت قط قبل ذلك اليوم أن أحدًا يبكي من الفرح حتى رأيت أبا بكر يبكي يومئذ، وقال أبو بكر: هاتان راحلتان كنت قد أعددتهما لهذا الغرض، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((بالثمن؛ ما ينبغي لنبي أن يركب ناقة ليست له)). ولكن لماذا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الوقت ليخبره بنبأ الإذن بالهجرة وأنه رفيقه؟ النبي صلى الله عليه وسلم يعلمنا الأخذ بالأسباب؛ من أجل أن يضع أبو بكر ترتيبات الهجرة بدقة وحذر، ثم عاد النبي صلى الله عليه وسلم إلى داره، وعمل أبو بكر على وضع خطة محكمة؛ حيث الاتجاه إلى غار ثور والإقامة فيه ثلاث ليال، والتزود بالطعام والشراب والأخبار، وقد وضع أبو بكر لهذا الأمر خطته، وسنرى نجاح تلك الخطة، وقيام كل شخص مكلف بعمله خير قيام. قال ابن إسحاق: فلما أجمع رسول الله صلى الله عليه وسلم على الخروج أتى أبا بكر، فخرجا من خوخة لأبي بكر في ظهر بيته، ثم عمدا إلى غار في جبل ثور، وهو جبل بأسفل مكة - جهة الجنوب منها، ومكان الهجرة المدينة، وهي جهة الشمال، وهذا للتمويه، وإبعاد الطلب عن هذه المنطقة - ودخل أبو بكر الغار يتلمس صخوره ويكتشف بنفسه خلوه من وحش كاسر أو أفعى قاتلة، ثم دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم وباتا ليلتهما فيه، وكان أبو بكر قد أمر ابنه عبدالله أن يأتيهما بالأخبار وما يقوله الناس وزعماء قريش مساء بعد رقود الناس، وأمر عامر بن فهيرة أن يرعى غنمه نهاره ثم يعود بها ليلًا ويريحها قريبًا من الغار، وكانت أسماء بنت أبي بكر تأتيهما بالطعام ليلًا، وفي الصباح الباكر يعود عامر بن فهيرة بالأغنام فيزيل كل أثر لأقدام أسماء وعبدالله، ومكث رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه أبو بكر في الغار ثلاثة أيام، وقد جعلت قريش مائة ناقة جائزة لمن يرده عليهم، وسارت الخطة بتمامها، وقد سلم الله نبيه صلى الله عليه وسلم وصديقه من بطش قريش.