text
stringlengths
0
254k
آدم عليه السلام (4) لا شك في أنَّ آدم عليه السلام كان نبيًّا مِن أنبياء الله، وأكثر أهل العلم على أنه كان نبيًّا رسولًا بدليل قوله تبارك وتعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ﴾ [آل عمران: 33]، وتعريف الرسول ينطبق على آدم عليه السلام، سواء في ذلك التعريف المشهور عن العلماء وهو: "أنه مَن أُوحي إليه بشرع وأُمر بتبليغه"، أم التعريف الذي اخترتُه ورجَّحتُه وهو أن الرسول: "مَن بعثه الله بشريعة جديدة"؛ فآدم عليه السلام قد جاء - ولا شك - بشريعة جديدة يحتكم هو وبنوه إليها، ويسيرون على منهاجها، وقال جماعة من أهل العلم: إن آدم كان نبيًّا ولم يكن رسولًا؛ بدليل حديث الشفاعة الذي رواه البخاري ومسلم، واللفظ للبخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في دعوة، فرُفعت إليه الذراع وكانت تعجبه فنهس منها نهسة، وقال: ((أنا سيد الناس يوم القيامة، هل تدرون بِمَ؟ يجمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد، فيبصرهم الناظر ويسمعهم الداعي، وتدنو منهم الشمس، فيقول بعض الناس: ألا ترون إلى ما أنتم فيه؟ إلى ما بلغكم؟ ألا تنظرون إلى من يشفع لكم إلى ربكم؟ فيقول بعض الناس: أبوكم آدم، فيأتونه، فيقولون: يا آدم، أنت أبو البشر، خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأمر الملائكةَ فسجدوا لك، وأسكنك الجنةَ، ألا تشفع لنا إلى ربك؟ ألا ترى ما نحن فيه وما بلغنا؟ فيقول: ربي غضب غضبًا لم يغضب قبله مثله، ولا يغضب بعده مثله، ونهاني عن الشجرة فعصيتُه، نفسي، نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى نوح، فيأتون نوحًا فيقولون: يا نوح، أنت أوَّل الرسل إلى أهل الأرض، وسمَّاك الله عبدًا شكورًا، أما ترى إلى ما نحن فيه، ألا ترى ما بلغنا؟ ألا تشفع لنا إلى ربك؟ فيقول: ربي غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله، ولا يغضب بعده مثله، نفسي، نفسي...))؛ إلخ الحديث، فقولهم: ((أنت أول الرسل إلى أهل الأرض))، يفيد بأنَّ آدم لم يكن رسولًا، لكن المثبِتين لرسالة آدم يقولون: إن نوحًا أول رسول أرسله الله إلى أهل الأرض للتحذير مِن الشِّرك؛ إذْ لم يكن قبل قوم نوح عليه السلام شِرك في الأرض، وإنما كانت المعاصي كلها دون الشرك؛ كالقتل والظلم ونحوه، أو أن المراد من هذه الأولية هو بالنسبة إلى شمول رسالته لكلِّ أهلِ الأرض، ولم يكن أهل الأرض إلَّا قوم نوح عليه السلام، ولم يكن على الأرض ناس سواهم، أما الرسول الذي شملت رسالته كلَّ أهل الأرض عربهم وعجمهم وحتى الجن فهو محمد صلى الله عليه وسلم، وأمَّا ما عدا نوحًا ومحمدًا من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فلم تكن رسالتهم تشمل كلَّ أهل الأرض وإنما هي خاصة لأقوامهم، ونوح وإن كان كذلك قد بُعث إلى قومه خاصة، لكنهم كانوا يومئذ كلَّ أهل الأرض كما أشرتُ، قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري في كتاب أحاديث الأنبياء في باب قول الله عز وجل: ﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ ﴾ [هود: 25] في عبارة: ((أنت أول الرسل إلى أهل الأرض))، فأمَّا كونه أوَّلَ الرسل فقد استشكل بأن آدم كان نبيًّا، وبالضرورة تعلم أنه كان على شريعة مِن العبادة، وأن أولاده أخذوا ذلك عنه؛ فعلى هذا فهو رسول إليهم، فيكون هو أول رسول، فيحتمل أن تكون الأولية في قول أهل الموقف لنوح مقيَّدة بقولهم: إلى أهل الأرض؛ لأنه في زمَن آدم لم يكن للأرض أهل، أو لأن رسالة آدم إلى بنيه كانت كالتربية للأولاد، ويحتمل أن يكون المراد أنه رسول أُرسِلَ إلى بنيه وغيرهم من الأمم الذين أرسل إليهم مع تفرُّقهم في عدَّة بلاد، وآدم أُرسل إلى بنيه فقط وكانوا مجتمعين في بلدة واحدة؛ اهـ. هذا، وبعض أهل العلم يفسِّر قولَ رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث الإسراء والمعراج عن يوسف عليه السلام: ((فإذا أنا بيوسف عليه السلام، وإذا هو قد أُعطي شطر الحسن))؛ بأنَّ المراد أنَّ يوسف عليه السلام أُعطي نِصف حُسن آدم عليه السلام، وإن كان بعضُ أهل العلم يفسِّر ذلك بأن يوسف قد أُعْطِي شطر حسن الناس جميعًا، وبعضهم يفسِّره بأن يوسف عليه السلام قد أُعطي شَطر حسن محمد صلى الله عليه وسلم، وعلى كلِّ حال فإن الله تبارك وتعالى قد خلَق آدم وركبه على أحسن صورة على حدِّ قوله تعالى: ﴿ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ﴾ [التين: 4]، وقد استقرَّ عند أهل جميع الأديان السماويَّة أن آدم أبو البشر، غير أنه قد نبغت نابغات مِن الإلحاد والزَّندقة في العصور المتأخرة، فزعموا أنَّ الشمس في أثناء دورانها السريع حولَ نفسها انفصلت منها قطعة أخذت تبتعد عنها قليلًا قليلًا وتتَّخذ لنفسها مجرًى كمجرى أمها الشمس؛ وهذه القطعة هي الأرض، ويَدَّعون أنه بطول الزمن برد سطح الأرض، وإن كان باطنها لا يزال على حرارته، وقد أحاطت بها المياه، وأنه بطول الزمن آسن بعض هذا الماء فتوالدت فيه حيوانات مائيَّة كهذه الحيوانات التي تتوالد في أي ماء آسن، ويرون أن من جملة هذه الحيوانات البحرية كان الإنسان، ويطلقون عليه في هذه الفترة: (الإنسان المائي)، ثم بمرور الزمن الطويل البالغ (ملايين) السنين أخذ هذا الحيوان المائي يخرج إلى شواطئ البحار ويرعى الحشائش النابتة عليها، ثم يرجع إلى البحر ليعيش فيه شبيهًا بالتماسيح، ويطلقون عليه في هذه الفترة (الإنسان البرمائي)، ثم استطاع هذا الحيوان أن يتطبَّع بطِباع البَرِّ وأن يعيش فيه طول حياته، وأن يهجر حياة البحر، ويطلقون عليه طول هذه الفترة (الإنسان البرِّي). ثمَّ يزعمون أن هذا الحيوانَ بعد فترات طويلة من التاريخ تبلغ "ملايين" كثيرة من السنين استطاع أن يتميز من كثير من الحيوانات البرية الغابية، وأنه صار يستعمل أنواعًا من الآلات كالحجارة ونحوها؛ فارتفع وارتقى عن باقي الحيوانات التي لم تتميز بذلك، وقد رفع لواءَ هذه النظريَّةِ نصرانيٌّ يقال له: داروين، ونشطت اليهودية العالمية في ترويج نظرية داروين هذه؛ لأنها تتماشى مع ما عرف باسم بروتوكولات حكماء صهيون وكذلك "الماسون" في العمل على تخريب العالم؛ ليتمكَّنوا مِن تأسيسه من جديد بحسب أهوائهم وشهواتهم، وقد أطلقوا عليها نظرية التطور والارتقاء [1] . وبالنظر المجرَّد إلى هذه النظرية نرى أنَّ أصحابها لا يؤمنون بفاطر السماوات والأرض، ولا يصدِّقون بأيِّ كتاب سماوي؛ إذ الكتب السماوية المؤيدة بالمعجزات الحسِّية والعقلية تقرِّر أنَّ الله خلَق الأرض، وجعل فيها رواسي مِن فوقها، وبارك فيها، وقدَّر فيها أقواتَها، ثم خلق السماوات وزيَّن السماء الدنيا بمصابيح، وأنه خلق الملائكة المكرمين من نور، ثم الجان من نار السموم، ثم خلق آدمَ أبا البشر من طين، فسوَّاه بيده الكريمة على هذه الصورة الجميلة، وكرَّمه على جميع المخلوقات في الأرض. والعجيب أنَّ بعض الجاهلين يزعمون أن نظرية داروين في التطور والارتقاء قد قرَّرها القرآن الكريم في قوله تعالى: ﴿ وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا ﴾ [نوح: 14]، مع أنَّ القرآن شرح هذه الأطوار في مواضع كثيرة؛ كقوله تعالى: ﴿ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ ﴾ [الحج: 5]، وكقوله تعالى: ﴿ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ﴾ [غافر: 67]، وكقوله تعالى: ﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ﴾ [المؤمنون: 12 - 14]، كما فسَّر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أطوارَ خلق الإنسان كذلك؛ فقد روى البخاري ومسلم، واللفظ للبخاري من حديث عبدالله - يعني ابن مسعود - رضي الله عنه قال: حدَّثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق: ((إن خَلْقَ أحدكم يُجمع في بطن أمه أربعين يومًا وأربعين ليلة، ثم يكون علقة مثله، ثم يكون مُضغة مثله، ثم يُبعث إليه الملَك فيؤذَن بأربع كلمات، فيكتب رِزقه، وأجله، وعمله، وشقي أم سعيد، ثم ينفخ في الروح...))؛ الحديث. فيجب علينا معشرَ المسلمين أن نتفطَّن ونحذر من هؤلاء الدعاة إلى نظرية داروين في التطور والارتقاء؛ لأن الإيمان بها كُفر بإله السماوات والأرض. هذا، وقد أخبر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أنَّ آدم خُلق في يوم الجمعة؛ فقد روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: ((خير يوم طلعت فيه الشمسُ يوم الجمعة؛ فيه خُلق آدم، وفيه أدخل الجنة، وفيه أخرج منها))، وهذا يدلُّ على أنَّ آدم عليه السلام خلق خلقًا واحدًا لم تمر عليه الأطوار التي زعمها داروين وعصبته من الملاحدة والدهريين. وأكتفي بهذه الشذرات مِن قصة آدم عليه السلام، وقد بيَّنتُ فيها ما جاء به الخبر عن الله، أو صحَّ عن رسول الله، والواجب على كل مسلم ولا سيما أهل العلم أن يَحترسوا من الإسرائيليَّات، وما دَسَّه اليهود على الأنبياء والمرسلين. وإلى فصل قادم إن شاء الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. [1] بعد إعداد هذا الكتاب للطَّبع نشرت جريدة الشرق الأوسط السعودية في عددها رقم (3328) بتاريخ يوم الجمعة 19/ 5/ 1408هـ الموافق لليوم الثامن من شهر يناير سنة 1988م تحت عنوان: "العلم يُثبت أصل الإنسان"، ما يلي: واشنطن - مكتب الشرق الأوسط: ضجت الأوساط العلميَّة في الغرب، ولا سيما في الولايات المتحدة بنبأ الاكتشاف الذي توصَّل إليه فريق من العلماء الأمريكيِّين بعد نحو عشر سنوات من البحث والدراسة في علم الوراثة والجينات، وقاد البحث إلى اكتشاف أنَّ الجينات الثابتة في كل النوع البشري يمكن تقفيها إلى امرأة واحدة (سماها فريق البحث بايف - أو حواء) انحدر منها كلُّ البشر، وكانت خصبة الولادة، وإليها تعود الجينات الثابتة عند كل البشر، والبالغة نحو خمسة آلاف جين، وهذا ما جاء في التقرير العلمي الذي نشرته مجلة "نيوز ويك" الأمريكية هذا الأسبوع، ويحدِّد العلماء ظهورها على الأرض بأنه وقع في آسيا أو إفريقيا قبل نحو 200.000 سنة، وعلى هذا الأساس يمكننا اعتبارها جدتنا العشرة آلاف، وقد ناقضت هذه الاكتشافات كلَّ ما ذهب إليه العلماء من قبل فيما يتعلَّق بظهور الإنسان على الأرض، وخاصة ما يتعلق بنظرية العالم الإنجليزي داروين حول أصل الإنسان)؛ انتهى ما أوردته جريدة الشرق الأوسط بحروفه.
الدراسة المصطلحية: المفهوم والمنهج لمحمد أزهري صدر حديثًا كتاب "الدراسة المصطلحية: المفهوم والمنهج"، تأليف: أ.د. "محمد أزهري"، إصدارات مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، نشر: "دار السلام للنشر والتوزيع". والكتاب يتضمن مفهوم "الدراسة المصطلحية" باعتبارها منهجًا متكاملًا لدراسة المصطلحات العلمية في أي تخصص. وهو المنهج الذي وضع أسسه الأستاذ الدكتور "الشاهد البوشيخي"، فبيّن الكاتب مفهوم الدراسة المصطلحية، وأبرز الأركان الخمسة التي يقوم عليها هذا المنهج؛ وهي: الإحصاء، والدراسة المعجمية، والدراسة النصية، والدراسة المفهومية، والعرض المصطلحي للمصطلح. ويتوخى الكتاب جمع المعلومات المتعلقة بهذا المنهج في كتابات شيخ هذه الصنعة، وفي كتابات بعض زملائه وتلاميذه، مع شرح ما يحتاج فيها إلى شرح، أو توضيح ما يستدعي التوضيح، ليصبح الكتاب بذلك مادة فيها مزيد من التأكيد، بالنسبة للمتمرسين بهذا المنهج، ومزيد من البيان، بالنسبة للمبتدئين الجدد الذين يرغبون في التعرف عليه. وقد دلل الكاتب على أهمية الدراسة المصطلحية في مجال البحث العلمي عمومًا؛ لأن المصطلحات مفاتيح العلوم. ولا يمكن للمصطلحات أن تكون كذلك، ما لم تنضبط لمجموعة من الشروط المنهجية، وأهمها أن يتعامل المصطلحي مع المصطلح كأنه كائن حي له خصوصياته وعلاقاته التي تربطه بغيره. وهو ما يدل على حاجة دارس المصطلح إلى تكوين رصين في منهجيات الدراسة المصطلحية، ولابد من شَرطيْ الدقة وحسن الترتيب في دراسة المصطلح. وتكونت الدراسة من تمهيد وفصلين تندرج تحتها عدة مباحث وفروع على النحو التالي: تمهيد: بيان أهمية المصطلح في الدراسات العلمية لدى القدماء والمحدثين. الفصل الأول: مفهوم الدراسة المصطلحية، وبيان ( دواعيها - متطلباتها - مراحلها - وظائفها - نتائجها - أعلامها ). في خمسة مباحث: المبحث الأول: مفهوم "الدراسة المصطلحية". المبحث الثاني: دواعي الدراسة المصطلحية ومتطلباتها. المبحث الثالث: مراحل الدراسة المصطلحية ووظائفها. المبحث الرابع: نتائج الدراسة المصطلحية. المبحث الخامس: أعلام الدراسة المصطلحية. الفصل الثاني: منهج الدراسة المصطلحية: في ثلاثة مباحث: المبحث الأول: مفهوم "المنهج". المبحث الثاني: أهمية المنهج. المبحث الثالث: أركان منهج الدراسة المصطلحية. المقالة الأولى: الإحصاء. المقالة الثانية: الدراسة المعجمية للمصطلح. المقالة الثالثة: الدراسة النصية للمصطلح. المقالة الرابعة: الدراسة المفهومية للمصطلح. المقالة الخامسة: العرض المصطلحي. ثم خلاصة وخاتمة بأهم نتائج البحث وتوصياته. والمؤلف هو أ.د. "محمد أزهري" عميد كلية اللغة العربية بجامعة القرويين- مراكش، وعضو (مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، له من الدراسات والبحوث: • "التعاقد من الباطن في القانون المدني المغربي". • "مصطلح القافية من الأخفش الأوسط إلى حازم القرطاجي".
الحسنة والسيئة في القرآن لمحمد سعيد خلوفة العمري صدر حديثًا كتاب "الحسنة والسيئة في القرآن"، تأليف: "محمد سعيد خلوفة العجلان العمري"، نشر: "دار الأوراق للنشر والتوزيع". وأصل الكتاب أطروحة علمية بعنوان "الحسنة والسيئة في القرآن الكريم- دراسة موضوعية" تقدم بها الكاتب للحصول على درجة الماجستير في قسم التفسير بكلية القرآن الكريم والدراسات الإسلامية- الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، تحت إشراف د. "محمد بن ناصر الحميد" عام 1433 هـ. وتتقصى الرسالة دراسة الآيات التي وردت فيها مفردة (الحسنة والسيئة) مفردةً ومجموعة، معرَّفة ومنكَّرة، وقد ذكرتا في 89 موضعًا من القرآن كما هو تعدادها في "المعجم المفهرسِ لألفاظ القرآن الكريم". وكان من أهداف البحث: 1- تعيين مرادفات الحسنة والسيئة في القرآن الكريم، وتحديدُ الفروق بينها. 2- التعرفُ على معاني الحسنة والسيئة في القرآن الكريم والتفريقُ بينهما. 3- الوقوفُ على الأساليب التي اتبعها القرآنُ الكريم في الحديث عن الحسنة والسيئة. 4- ذكرُ الجزاء والآثار المترتبةِ على فعل كلٍّ منهما. 5- ذكرُ مكفِّراتِ السيئات بحسب ما نصّ عليه القرآنُ الكريم في هذه المواضع. وتشتمل خطة البحث على مقدمة وتمهيد وثلاثة أبواب وخاتمة وفهارس: المقدمة: وفيها: (أهمية الموضوع، وحدوده، وأهدافه، وأسباب اختياره، والدراسات السابقة التي تناولته، وخطته، ومنهجه). التمهيد: تعريف الحسنة والسيئة، وذكر مرادفاتهما، وفيه مبحثان: المبحث الأول: تعريف الحسنة والسيئة. المبحث الثاني: مرادفات الحسنة والسيئة. الباب الأول: معاني الحسنة والسيئة في القرآن الكريم، والمقارنة بينهما، وفيه ثلاثة فصول: الفصل الأول: ورود الحسنة بمعنى النعمة، والسيئة بمعنى المصيبة، وبيان الفرق والقدر المشترك بينهما بهذا الاعتبار، وفيه أربعة مباحث: المبحث الأول: ورود الحسنة بمعنى النعمة. المبحث الثاني: ورود السيئة بمعنى المصيبة. المبحث الثالث: الفرق بين الحسنة والسيئة بهذا الاعتبار، وفيه مطلبان: المطلب الأول: معنى كون الحسنة من الله والسيئة من العبد. المطلب الثاني: الحسنة قد تكون بلا سبب والسيئة لا تكون إلا بسبب. المبحث الرابع: القدر المشترك بين الحسنة والسيئة بهذا الاعتبار، وفيه مطلبان: المطلب الأول: كونهما من الله. المطلب الثاني: كونهما ابتلاء للعبد. الفصل الثاني: ورود الحسنة بمعنى الطاعة، والسيئة بمعنى المعصية، والتفريق بينهما بهذا الاعتبار، وفيه ثلاثة مباحث: المبحث الأول: ورود الحسنة بمعنى الطاعة. المبحث الثاني: ورود السيئة بمعنى المعصية. المبحث الثالث: الفرق بين الحسنة والسيئة بهذا الاعتبار، وفيه مطلبان: المطلب الأول: مضاعفة الحسنات دون السيئات. المطلب الثاني: عدم استوائهما في العواقب. الفصل الثالث: ورود الحسنة أو السيئة بالمعنيين، وفيه مبحثان: المبحث الأول: ورود الحسنة بمعنى النعمة والطاعة. المبحث الثاني: ورود السيئة بمعنى المصيبة والمعصية. الباب الثاني: أسلوب القرآن في الحديث عن الحسنة والسيئة، وفيه فصلان: الفصل الأول: الترغيب في الحسنة والترهيب من السيئة، وفيه مبحثان: المبحث الأول: الترغيب في الحسنة، وفيه أربعة مطالب: المطلب الأول: بيان فضلها وعواقبها الحميدة. المطلب الثاني: الاقتداء بالأنبياء عليهم السلام. المطلب الثالث: كون الحسنة عاقبة العاملين المخلصين. المطلب الرابع: كون الحسنة من صفات العاملين المخلصين. المبحث الثاني: الترهيب من السيئة، وفيه أربعة مطالب: المطلب الأول: بيان آثارها وعقوبتها. المطلب الثاني: كون الوقاية منها رحمة. المطلب الثالث: ربطها بالأشقياء. المطلب الرابع: الوعيد عليها. الفصل الثاني: الامتنان بالحسنة والاعتبار من السيئة، وفيه مبحثان: المبحث الأول: الامتنان بالحسنة، وفيه ثلاثة مطالب: المطلب الأول: إضافتها إلى الله. المطلب الثاني: كون حصولها للمسلم يسوء الكافر. المطلب الثالث: حب العبد لها وحرصه عليها. المبحث الثاني: الاعتبار من السيئة، وفيه ثلاثة مطالب: المطلب الأول: محاسبة النفس. المطلب الثاني: تمييز العدو عن غيره. المطلب الثالث: مخالفة الكفار في هذا الباب. الباب الثالث: عاقبة الحسنة والسيئة، وفيه تمهيد وفصلان: التمهيد: بيان أن العواقب تتنوع حسب الأعمال. الفصل الأول: عاقبة الحسنة، وفيه ثمانية مباحث: المبحث الأول: المضاعفة. المبحث الثاني: تبديل السيئات حسنات. المبحث الثالث: تكفير السيئات. المبحث الرابع: فعل الحسنة بعدها. المبحث الخامس: الخير في الدنيا والآخرة. المبحث السادس: الأمن من الفزع. المبحث السابع: كونها مذهبةً للعداء. المبحث الثامن: مكفرات السيئة، وفيه مطلبان: المطلب الأول: مكفّرات الكبائر. المطلب الثاني: مكفّرات الصغائر. الفصل الثاني: عاقبة السيئة، وفيه ستة مباحث: المبحث الأول: فعل السيئة بعدها. المبحث الثاني: القنوط. المبحث الثالث: الأمن من مكر الله. المبحث الرابع: الكفر. المبحث الخامس: الذّلة. المبحث السادس: الخلود في النار. الخاتمة: وفيها أهم النتائج والتوصيات. الفهارس. ومن أهم نتائج الدراسة التي خلصت إليها: 1- أن الحسنة والسيئة علمان على الحالة الحسنة التي تسر، وعلى الحالة السيئة التي تسوء؛ وبهذا يصلحان أن يكونا مرادفين لكل ما يدل على ذلك، سواء أكانت نعمة أو طاعة، مصيبة أو معصية. 2- أن الحسنة والسيئة تردان تارة بمعنى النعمة والمصيبة، وتارة ثانية بمعنى الطاعة أو المعصية، وثالثة لكلا المعنيين، وأن الغالب منهما على كل حال العموم، وهذا يشعرك بأهميتهما وشمولهما لكل النواحي والمجالات. 3- من الفروق بين الحسنة والسيئة باعتبار كون معناهما النعمة والمصيبة: أ‌) أن الحسنة من الله، والسيئة من العبد، ومن فوائد ذلك: • إفراد الله بسؤاله الحسنة، واستحقاقه للحمد والشكر سبحانه بعد حصولها؛ إذ لولاه لما كانت. • الرجوع باللوم على النفس إذ لولا تقصيرها وتفريطها في حق الله لما وقعت المصيبة. ب‌) أن الحسنة قد تكون بلا سبب فضلًا من الله ومنة، والسيئة لا تكون إلا بسبب تحذيرًا وتنبيهًا ودعوة للنفس إلى المراجعة والمحاسبة، والتوبة والاستغفار، ومن هنا: فإن الفرد والجماعة مطالبان دائمًا بتفقد حاليهما، والسعي لتجاوز الأخطاء، وتعويض النقص، والإنابة إلى الله تعالى؛ لعلَّ أن يرفع الله ما نزل بساحتيهما من مصائب ومشكلات، فالسؤال الحقيقي عند وقوع المصيبة ليس: لماذا وقعت؟ بل كيف أرفعها بإذن الله تعالى؟ فالسبب معروف وهو: الذنوب والمعاصي، والبحث عنها والتوبة منها هو الذي نحتاجه في رفعها بعد رحمة الله وتوفيقه. 4- من الأمور المشتركة بين الحسنة والسيئة باعتبار كونهما نعمة ومصيبة: أ‌) أنهما من الله، فهو سبحانه الذي بيده النفع والضر، وهو مقدر الأقدار، وهذا يدفعنا إلى توحيد الله في ربوبيته والذي يستلزم توحيده سبحانه في ألوهيته، وأسمائه وصفاته. ب‌) أنهما ابتلاء للعبد، ليميز الله بين الشاكر والكافر، وبين الصابر الراضي، والجازع المتسخط، بل إن الابتلاء بالحسنة قد يكون أشد من الابتلاء بالسيئة؛ فالنعمة والحسنة مدعاة إلى الغفلة والغرور والعجب، بعكس السيئة التي غالبًا تذكر الإنسان بضعفه وعجزه وحاجته إلى خالقه. 5- من الفروق بين الحسنة والسيئة باعتبار كونهما طاعة ومعصية: أ‌) مضاعفة الحسنات دون السيئات، وهذا يدل على فضل الله ورحمته ولطفه بعباده، ويدعونا إلى الاستزادة من الحسنات، طمعًا ورجاء في كرم الله، والبعد عن السيئات حياء وخجلًا منه سبحانه. ب‌) عدم استوائهما في العواقب، فشتان بين عاقبة الخير والحسنة، وعاقبة الشر والسيئة، في الحال والمآل، فالعاقل اللبيب من يؤثر العواقب الحميدة على غيرها، ومن أراد النجاة فلينظر دائمًا في عاقبة الأشياء ومآلاتها قبل فعلها وسلوك طريقها.
عمرو بن العاص رضي اللَّه عنه الصحابي الذي أسلم على يد تابعيٍّ إنه الإمام الفطن، وقائد الفتح الإسلامي لمصر، أبو عبدالله عمرو بن العاص رضي الله عنه. حضر عمرو بن العاص غزوة بَدْر مع قريش ضد المسلمين، ثم حضر غزوة أُحُد، ثم غزوة الخندق، ولمَّا عادت قريش إلى مكة بعد صلح الحُديبية، ذهب إلى الحبشة عند أصْحَمة النجاشي، ملك الحبشة ليرُدَّ عليهم من هاجر من المسلمين إلى بلاده، فوجده اعتنق الإسلام، فاعتنق الإسلام هناك على يد النجاشي رحمه الله في السَّنَة الثامنة للهجرة، ثم أخذ سفينة مُتِّجِهًا إلى المدينة المنورة، فالتقى في الطريق بخالد بن الوليد وعثمان بن طلحة، فدخل ثلاثتُهم المدينة المنورة في صفر عام 8 هـ مُعلنينَ إسلامَهم، رضي الله عنهم أجمعين، وحينها قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ((إنَّ مَكَّةَ قَدْ ألْقَتْ إلينا أفلاذَ كبدها)). كان عمرو بن العاص رضي الله عنه أَحَد دُهاة العرب، عُرِف عنه ذكاء لم يُسبَق له مثيل بين جميع قادة المسلمين، وسبب تسميته بداهية العرب أنه كان واسع الحيلة في تدبير الأمور، وهناك الكثير من القصص التي وصفته كأسطورة، حتى إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لقَّبَه بـ "أرطبون العرب"، والمقصود بالأرطبون عندهم الدَّاهية أو الرجل المُفرط في الذكاء. [أرطبون: كلمة أعجمية، ولم نقف لها على معنى فيما تيسَّر لنا الاطلاع عليه من معاجم اللُّغة، وقد تَسمَّى بها أحد قادة الرُّومان المشهورين بالدَّهاء والخديعة والمَكْر]. من قصة حصن "بابليون": تروي القصة عن دهاء عمرو بن العاص رضي الله عنه أثناء حربه مع الرُّومان في مصر، إذ دعاه قائد حصن "بابليون" الرُّوماني ليُحادثه ويُفاوضه، بينما أعطى أمرًا لرجاله بإلقاء صخرة فوقه لدى خروجه من الحصن، وأعَدَّ كُلَّ شيءٍ ليكون قتلُ ضيفِه محتومًا، دخل عمرو على القائد الرُّوماني، وجرى اللقاء بينهما، حين خرج عمرو في طريقه للانصراف إلى خارج الحصن، لَمَح فوق الأسوار حركةً مُريبةً أيقظَتْ فيه حاسَّة الحَذَر، وسرعان ما تصرَّف بشكل مفاجئ؛ إذ عاد إلى داخل الحصن بخطواتٍ وئيدةٍ مطمئنةٍ وملامح بشوشة واثقة، كأنما لم يُفْزِعْه شيء، ولم يُثِرْ شكوكَه أمْرٌ، دخل عمرو على القائد الرُّوماني وقال له: تذكَّرْتُ أمْرًا، وأردْتُ أن أُطلِعَك عليه، إن معي حيث يُقيم أصحابي جماعةٌ من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم السابقين إلى الإسلام، لا يقطع أميرُ المؤمنين بأمْرٍ دونَ مشورتِهم، ولا يُرسِل جيشًا من جيوش الإسلام إلَّا جعلَهم على رأس مُقاتليه، وقد رأيتُ أنْ آتيَكَ بهم حتى يسمعوا منك مثل الذي سمعتُ، ويكونوا من الأمر على مثلِ ما أنا عليه من بيِّنة، هنا ظن قائد الرُّوم أن عمرو بن العاص منَحَه بسذاجةٍ وغباءٍ فرصةَ العمر، فصمَّم على أنْ يُسايرَه ويُوافقَه على رأيه حتى إذا عاد ومعه تلك النخبة من زعماء المسلمين وخيرة رجالهم وقادتهم أجْهَزَ عليهم جميعًا بدلًا من أن يُجهِزَ على عمرو بن العاص وحده، أعطى القائد الروماني بإشارة خفيَّة أمْرَه بتأجيل الخطة التي كانت معدةً لاغتيال عمرو، وودَّعَه بحرارةٍ أكبر من السابق، ابتسم داهيةُ العربِ وهو يُغادرُ الحصن آمِنًا مُطْمَئنًّا، في الصباح عاد عمرو إلى الحصن ممتطيًا صهوةَ جوادِه على رأس جيشه. وكانت المواجهة الحاسمة في فتح مصر، هي تلك التي خاضَها جيشُ عمرو بن العاص أمام حصن "بابليون"؛ حيث ضرب الجيش خيامه هناك واستعدَّ لتلك المنازلة الكبرى. وهكذا سقط حصن "بابليون"، بعدَ حصارٍ دامَ نحو سبعة أشْهُر، في الثامن عشر من ربيع الثاني سنة عشرين للهجرة، وكان سقوطُه إعلانًا رسميًّا بفتح مصر. قصة فتح مصر مع أهلها: لما استكمل عمر بن الخطاب رضي الله عنه، والمسلمون فتح الشام، بعَثَ عمرو بن العاص إلى مصر وأردفه بالزبير بن العوَّام، وَفِي صُحْبَتِهِ بُسْرُ بْنُ أَرْطَاةَ، وَخَارِجَةُ بْنُ حُذَافَةَ، وَعُمَيْرُ بْنُ وَهْبٍ الْجُمَحِيُّ رضي الله عنهم، فاجتمعا على باب مصر، فلقِيهم (أبو مريمَ) جاثَليقُ مصر، ومعه الأُسْقُف (أبو مَرْيامَ) في أهل الثَّبات، بعثه المقُوْقِس صاحبُ إسْكندريةَ لمنع بلادهم، فلما تصافُّوا قال عمرو بن العاص: لا تعجلوا حتى نعذر إليكم، ليبرز إليَّ (أبو مريمَ) و(أبو مَرْيامَ) راهبا هذه البلاد، فبرزا إليه، فقال لهما عمرو بن العاص: أنتما راهبا هذه البلاد فاسمعا: (إنَّ اللهَ بعَثَ محمدًا صلى الله عليه وسلم بالحق، وأمَرَه به، وأمرنا به محمد صلى الله عليه وسلم، وأدَّى إلينا كل الذي أمر به، ثم مضى وتركنا على الواضِحة، وكان مِمَّا أمرنا به الإعذار إلى الناس، فنحن ندعوكم إلى الإسلام، فمَنْ أجابَنا إليه فمثلنا، ومَنْ لم يُجِبْنا عَرَضْنا عليه الجزية، وبذلنا له المنعة، وقد أعلمنا أنا مفتتحوكم، وأوصانا بكم، حفظًا لرحمنا منكم، وأنَّ لكم إن أجبتمونا بذلك ذِمَّةً إلى ذِمَّةٍ، ومِمَّا عهد إلينا أميرنا.. استوصوا بالقبطيين خيرًا، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أوصانا بالقبطيين خيرًا؛ لأن لهم رَحِمًا وذِمَّةً). فقالوا: قرابة بعيدة لا يصل مثلها إلا الأنبياء، معروفة شريفة، كانت ابنة مَلِكنا، وكانت من أهل مَنْف والمُلْك فيهم، فأُدِيلَ عليهم أهل عين شمس فقتلوهم وسلبوهم مُلْكَهم، واغتربوا، فلذلك صارت إلى إبراهيم عليه السلام، مرحبًا به وأهلًا، أمِّنَّا حتى نرجع إليك، فقال عمرو رضي الله عنه: (إن مثلي لا يُخْدَع؛ ولكني أؤجلكما ثلاثًا لتنظروا ولِتُناظرا قومكما، وإلَّا ناجزتكم)، قالا: زِدْنا، فزادهم يومًا، فقالا: زِدْنا، فزادهم يومًا، فرجعا إلى المقوقس فأبى أرطبون أن يجيبهما وأمر بمُناهدتِهم، وقال لأهل مصر: أما نحن فسنجتهد أن ندفع عنكم ولا نرجع إليهم، وقد بقيت أربعة أيام، وأشار عليهم بأن يبيتوا المسلمين، فقال الملأ منهم: ما تقاتلون من قوم قتلوا كسرى وقيصر وغلبوهم على بلادهم؟! فألَحَّ الأرطبون في أن يبيتوا المسلمين، ففعلوا فلم يظفروا بشيء؛ بل قُتِل منهم طائفة منهم الأرطبون، وحاصر المسلمون عين شمس من مصر في اليوم الرابع، وارتقى الزبير عليهم سور البلد، فلمَّا أحسُّوا بذلك خرجوا إلى عمرو من الباب الآخر فصالحوه، واخترق الزبير البلد حتى خرج من الباب الذي عليه عمرو، فأمضوا الصُّلْح. نعم، فبعد سقوط حصن "بابليون"، وفتح مصر، أقام عمرو بن العاص رضي الله عنه جامع الفسطاط بالقرب منه، وهو أول مسجد بُني في مصر، وشيَّد مساكنَ لجنده، وجعل الفسطاط عاصمةً لمصر. وقد واصل عمرو بن العاص رضي الله عنه فتوحاته في بقية مناطقِ مصر وشمال إفريقيا، وكان الفسطاط مقَرَّه في إدارة شؤون البلاد؛ حيث أصبح واليًا عليها، وعلى أرض مصر، وتُوفِّي رضي الله عنه ودُفِن في ثَراها. وكان موتُه رحمه الله ورضي عنه بمصر ليلةَ عيد الفطر، سنة 43 هـ وله من العمر88 عامًا –على بعض الأقوال- فصلَّى عليه ابنُه عبداللَّه، ودُفِن بالمقطم، ثم صلَّى العيد، وولي بعده ابنُه، ثم عزله معاوية واستعمل بعده أخاه عتبة بن أبي سفيان. ولما حضرته الوفاة قال: (اللهم إنك أمرتني فلم آتمِرْ، وزجرتني فلم أنزجر)، ووضع يده على موضع الغل، وقال: (اللهم لا قوي فأنتصر، ولا بريء فأعتذر، ولا مستكبر بل مستغفر، لا إله إلا أنت)، فلم يزل يُردِّدها حتى مات، غفر الله له ورحمه ورضي عنه وعن الصحابة أجمعين، وجمعنا معهم في عليِّينَ بصحبة المصطفى الأمين صلى الله عليه وسلم.
انتشار شَرَه التسوُّق والتسوق الإلكتروني شَرَهُ التسوُّق أصبح آفةً من آفات العصر المنتشرة بكثرة في مجتمعاتنا، لا سيما مع التقدُّم في شبكات الإنترنت وتوفُّر الأسواق الإلكترونية، فأصبح الإكثار من شراء المقتنيات والسلع غير الضرورية موجودًا في كل بيت تقريبًا، ووصل إلى حدِّ الإسراف، ولا شَكَّ أن في هذا بزخًا لا سائغ له، وإهدارًا للمال، فالإسراف منهيٌّ عنه بالكِتاب والسُّنَّة والإجماع، قال تعالى: ﴿ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ﴾ [الأعراف: 31]، ووصف الله تعالى المُبذِّرِين بأنهم إخوانُ الشياطين، قال: ﴿ وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا * إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا ﴾ [الإسراء: 26، 27]، وكرَّه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم لنا إضاعةَ المال؛ لما فيه من الضرر، فقال: ((إنَّ اللهَ يرضى لكم ثلاثًا، ويكره لكم ثلاثًا؛ فيرضى لكم: أن تعبدوه، ولا تشركوا به شيئًا، وأن تعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرَّقُوا، ويكره لكم: قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال)) [1] . وقد بيَّن عليه الصلاة والسلام أن الإنسان سيُسأل يوم القيامة عن مالِه: مِن أين اكتسبه؟ وفيمَ أنفقه؟ فقال: ((لا تزولُ قدَما عبدٍ يومَ القيامةِ حتَّى يُسألَ عن أربعٍ: عن عُمُرِهِ فيمَ أفناهُ؟ وعن علمِهِ ماذا عمِلَ بهِ؟ وعن مالِهِ مِن أينَ اكتسبَهُ، وفيمَ أنفقَهُ؟ وعن جسمِهِ فيمَ أبلاهُ؟)) [2] ؛ وذلك لأن هناك فقراء يُمكن التصدُّق عليهم بدلًا من الإسراف في شراء السلع التي لا ضرورة لها، كما أن في الإسراف مضيعةً للمال وإهدارًا للنعمة وعدم الحفاظ عليها. أضرار الإسراف: • في الإسراف مضيعة للمال وإهدار للنعمة، وعدم حكمة، ولا يأمن الإنسان الفقر والفاقة مهما بلغ غِناه، وكم من غني افتقر بعد فَقْدِ مالِه أو عملِه، قال تعالى: ﴿ إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ ﴾ [آل عمران: 140]. • الإسراف لا يُورِث صاحبَه إلَّا زيادةً في الوَلَع بالدُّنْيا وحبًّا لها والطمع في المزيد منها بحثًا عن الرِّضا؛ ولكن ذلك محال، فالرِّضا في الدنيا لا يحصل للإنسان إلا بالقُرْب من الله، والازدياد في طاعته ومحبَّتِه، قـال ابن القيِّم: "عُشَّاق الدنيا بين مقتولٍ ومأسورٍ، فمنهم من قضى نَحْبَه ومنهم من ينتظر" [3] ، فياله من وصف بليغ يصف حال أولئك الذين لا يكتفون ولا يُرضيهم جَبَلُ أُحُدٍ ذَهَبًا، وليتذكَّر المسلم أن هناك أخوةً له في الإسلام والإنسانية جمعاء يتضوَّرُون جوعًا، ولا يجدون قُوْتَ يومِهم وما يُسكِتون به بكاء أطفالهم من الجوع، وإن القلب لَيَحْزَن، والعين لَتَدْمَع عن رؤية المشاهد التي وصل لها الحال في اليمن والصومال وغيرهما من أماكن المجاعات، وإنَّ ما يجري في اليمن لا يُرضي أيَّ مسلمٍ غيور على دينه، ولنستحضر قوله تعالى: ﴿ وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ ﴾ [إبراهيم: 42]، ومن الغريب في الأمر هو تحدُّث الإعلام عن مشكلات المسلمين عامة؛ ولكن يتجاهل تمامًا ما يجري في اليمن وكأن شيئًا لا يحدُث هناك، فلم نسمع شيخًا ولا قناةً إسلاميةً ولا عربيةً تتحدَّث عن الفقر في اليمن ومعاناتهم من الجوع والعزلة. أمثلة لدوافع معقولة للشراء: • شراء الملابس اللازمة للأسرة والأطفال. • شراء ما يلزم من الطعام والشراب. • شراء منزل لإيواء الأسرة. • شراء أثاث جيد وأوانٍ ولوازم المطبخ. • شراء الأجهزة الكهربائية اللازمة للمنزل؛ كالغسَّالة والبوتاجاز وغيرها مما يحتاج إليه عموم الناس. • شراء مستلزمات المدارس ولوازم العمل. • شراء الدواء وتكاليف العلاج والمستلزمات الصحية. أمثلة لدوافع قد تدخل في حدِّ الإسراف: • الإسراف في شراء أجهزة الجوَّال باهظة الثمن والتي تنخفض قيمتُها بمجرد شرائها واستعمالها؛ فمثلًا لو اشترى أحدُهم هاتفًا بسعر ستمائة دولارٍ تصبح قيمتُه أربعمائة دولارٍ بمجرد استعماله في أول يوم، ومنه شِراء الهواتف ذات السعات الكبيرة جدًّا التي لا يحتاج إليها الإنسان عادةً، وكذلك تغيير الهاتف كل سنة لمجرد ظهور طراز أحدث من الذي يمتلكه، أو تغييره بموديل أشهر؛ لرياء الناس أو مجاراة الأصدقاء، وبذل مبالغ كبيرة لشراء أجهزة ذات ماركات عالمية أكثر شهرةً، وكذلك شراء أجهزة سريعة جدًّا وباهظة الثمن؛ فقط لتتحمل ألعاب الحاسوب الكبيرة، وأما شِراء أجهزة أسرع ذاكرةً، وأكبر سعةً للتمكُّن من تشغيل برامج المحادثة وتخزين رسائل الواتساب والتليجرام ونحوها من البرامج لأهداف التعليم والتواصُل وغيرها مما لا منكر فيه فيكون مقبولًا، وكذلك بيع الأجهزة القديمة واستبدالها بأجهزة أحدث؛ لتشغيل البرامج النافعة الجديدة التي تعمل على الأنظمة الجديدة فقط. وينبغي مراعاة زيادة أسعار الأجهزة مع زيادة التقدُّم في التكنولوجيا وتكلفة الأجزاء المكونة لها قد تضطر الإنسان لدفع مبالغ عالية. • المبالغة في شِراء الملابس باهظة الثمن بكميات كبيرة جدًّا، ونرى هذا منتشرًا في مجتمعاتنا بين النساء؛ حيث يذهبْنَ إلى الأسواق ويبدأْنَ بالتسوُّق بكُلِّ قوةٍ وصرف أموال طائلة في ذلك. • شراء الذهب بكميات كبيرة مثل ما يُسمَّى بـ"كرسي جابر" وشراء أساور الثعابين الذهبية التي لا ينبغي شراؤها ابتداءً لأشكالها المشابهة للثعابين، وشراء الماس والجواهر باهظة الثمن، فهذه تُكلِّف ثروات طائلة، وليست ذات أهمية في حياتنا خاصة إذا كانت أطْقُمًا كثيرة. • شراء سيارات غالية الثمن ولا حاجة لها؛ مثل: سيارة فراري وباغان وغيرهما من الموديلات ذات السرعة العالية جدًّا التي لا حاجة لإسراف الأموال الطائلة لشرائها. • شراء الأواني المنزلية المطلية بالذهب والفضة، لا سيما بكميات كبيرة. • شراء أكل المطاعم باستمرار لمجرد الترفيه مع إمكانية الطبخ في البيت؛ مما يُؤدي إلى صرف مبالع طائلة يمكن توفير كثير منها عند تقليل الذَّهاب للمطاعم والتعوُّد على الطبخ المنزلي. شَرَه التسوُّق والإسراف في المشتريات من منظور مقاصد القرآن: • الإسراف صفة مذمومة ويتناقض مع مقصد تهذيب الأخلاق. • الإسراف مضيعة للمال، وقد يؤدي إلى الفقر، كما أنه يُورِث المَلَل وعدم الرِّضا عن النفس والشعور بالذنب، ويتناقض بذلك مع مقصد صلاح الأحوال الفردية والجماعية. • الإسراف مخالفٌ لما شرَعَه القرآن، وهو يتناقض مع مقصد التشريع. • الإسراف كثيرًا ما يؤذي الفقراء والمحرومين، وقد يؤدي إلى الحسد والحقد منهم؛ مما قد يُلحِق الضَّرَر بالمسرفين، ويتناقض بذلك مع مقصد صلاح الأحوال الفردية والجماعية. النصائح والضوابط المقترحة: • وليحذر مَن يُبالغون في شراء السلع غير الضرورية أن هناك مَن يتمنَّى فعل ذلك وليس لديه المال الكافي، فربَّما جلب له ذلك العين بقصد أو بغير قصد من المحروم كما أنه قد يجُرُّ عليه الحسد من ذوي القلوب المريضة، والحسدُ صفةٌ لا يخلو منها مجتمعٌ؛ ولذا تعوَّذ منه النبي صلى الله عليه وسلم، وأمرنا بالتعوُّذ منه كُلَّ يومٍ في قراءة سورة الفَلَق يوميًّا مع أذكار الصباح والمساء كما في قوله تعالى: ﴿ وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ * وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ ﴾ [الفلق: 4، 5]. • ينبغي ألا يجريَ المسلمون وراء المظاهر ويتنافسون بينهم فيمن عنده أغلى جهاز، فلو اكتفى الفرد بالجهاز ذي السعر المعقول، والذي تتوفر فيه الخصائص التي يحتاج إليها، ثم يتصدَّق ببقية المال لنفعه ذلك أكثر في الآخرة وقضى حاجته. [1] أخرجه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة، كتاب الأقضية، باب النهي عن كثرة المسائل من غير حاجة، والنهي عن منع وهات؛ وهو الامتناع من أداء حق لزمه، أو طلب ما لا يستحقه، جزء ٥، صفحة ١٣٠، حديث رقم ١٧١٥. [2] أخرجه الترمذي (٢٤١٧) واللفظ له، والدارمي (٥٣٧)، وأبو يعلى (٧٤٣٤) باختلاف يسير، وأخرجه الألباني في صحيح الترغيب (٣٥٩٢) عن أبي برزة الأسلمي نضلة بن عبيد، وقال: حسن صحيح. [3] ابن القيم، أبو عبدالله محمد بن أبي بكر بن أيوب بن قيم الجوزية (٦٩١ - ٧٥١ هـ)، بدائع الفوائد، دار عطاءات العلم (الرياض) - دار ابن حزم (بيروت)، حقَّقَه علي بن محمَّد العمران، الطبعة الخامسة، ١٤٤٠ هـ - ٢٠١٩ م، باب حكم ومواعظ، جزء ٣، صفحة ١٢٢٤.
الشريعة وحرية الإبداع بين الفَينةِ والفينة يتكرر السِّجال والجدال في قضية العلاقة بين الشريعة وحرية الإبداع، وهل يسوغ أن يكون للدين والشريعة سلطة على إبداع أهل الفنون والآداب، أو لابد للمبدع أن يسترسل مع فنِّه وإبداعه، بلا قيد ولا رقابة ليبلغ الغاية فيه؟ وبطريقة أسهبَ وأوضحَ: هل نقول: إن للشريعة أن تحُدَّ أو تحول دون ظهور بعض الإبداع الفني، إذا كان مخالفًا للدين والشرع؟ أو نقول: إن طبيعة الإبداع ومنزلة الفنون في الحضارة الإنسانية تُوجِب استثناء أهل الإبداع الفني من الرقابة الشرعية على إبداعهم؛ لأن تقيدهم بأُطرٍ شرعية وأخلاقية قد يحول دون ظهور إبداعهم على وجهه الكامل؟ وكما أننا متفقون على أن الإبداع لا يجب أن يتقيد أو يخضع لمؤثر سياسي أو عُرفي، فكذلك لا يجب أن يخضع لمؤثر ديني شرعي، وأنه لا بد للمبدع أن يكون حرًّا طليقًا متخلصًا من كل سلطة، متحررًا من كل قيدٍ وإملاءٍ؟ والجواب عن هذا السؤال يقتضي منا أن نكون على علمٍ بطبيعة دور الدين في حياتنا، وعلى علم أيضًا بطبيعة الإبداع ودوره في حياتنا. فأما الجهة الأولى: فهي موقع الدين والشرع عندنا، وما هي منزلتهما في نظرنا؟ وقبل ذلك: ما هو مصدرهما؟ فإن كنا ننظر للدين والشرع على أنهما مجرد مكتسب أخلاقي روحي جميل وحسن، لكنه غير خارج عن دائرة الصواب والخطأ، ومن ثَمَّ التقييم والاستدراك، ففي هذه الحالة لا ينبغي للدين والشرع أن يكون لها سلطة على الإبداع أو غيره من شؤون الحياة، إلا بعد أن تقطع عقولنا، ويتحقق اتفاقنا على أن ما جاء به الدين هو الحق في تلك القضية المعينة. وهذا ما نفعله مع عاداتنا وتقاليدنا، فإننا نقيمها ونجدها أحيانًا ما تكون صائبة، ويكون الحق في اتباعها والسير عليها، وأحيانًا أخرى يكون الصواب مخالفتها وعدم الانصياع لِما تقرره، وأحيانًا ما تكون العادات والتقاليد مُلزمة لأهل بقعةٍ ما، أو لأبناء طائفة عرقية ما، فهم يلتزمون بها ويتحرجون كل التحرج من الخروج عليها، بينما يرى غيرهم أن التقيد بها والنزول عند مقتضياتها جمودٌ ورجعيةٌ وظلمٌ للنفس أو للغير. وأما إذا كنا نؤمن بأن الدين وحيٌ من عند الله، لا يتطرق إليه الخطأ أو الحَيف، وأنه من لدن حكيم خبير، قد خلق الخلق، وأنزل إليهم شريعته لتكون قانونَ حياتهم، فعندئذٍ الواجب علينا جميعًا أن نخضع للدين والشرع؛ لأنه ما دام الدين والشرع حقًّا، فالخروج عن الحق ضربٌ من الباطل، وما دام الدين والشرع عدلًا، فالخروج عن العدل ضربٌ من الظلم. وإن هذا الشرع المنزَّل من عند الله لم يجعل لِحَمَلَتِهِ ومُبلِّغيه ومفسريه أي مزية عن غيرهم من جهة ضرورة الالتزام بالأمر والنهي، والحلال والحرام، وعدم الخروج عن حدود الشرع وأوامره، بل ألزم الجميع بالانضواء تحت لوائه، ووصم الخارج عن الشريعة الحائد عنها بالضلال والزيغ. فإذا كان كذلك، فكيف يُقال: إنَّ من امتلك موهبةً ما، فإن ذلك يخوِّل له أن يعلو على الشريعة، ويزعم الارتفاع على عموم الناس، ويقرر أنَّ للشريعة أنْ تحد من حريات وتصرفات كل أحدٍ إلا هو، وأن قانون الحلال والحرام يُطبَّق على الجميع إلا عليه؛ لأنه مبدع وصاحب موهبة؟! وأما الجهة الأخرى، فهي جهة النظر فيما يتعلق بالإبداع وموقعه في حياة الناس؛ فنقول: إن الإبداع لا يخرج عن كونه سلوكًا أو نشاطًا إنسانيًّا لا يمكن وصفه بالخير المطلق أو الشر المطلق، بل يعرض له الخير والشر، وقد يختلف الناس في تقييمه، كما قد يختلفون في الدرجة التي ينبغي أن يبلغها العمل ليصل إلى مرتبة الإبداع، وعليه فالسلوك الإبداعي لا بد أن يخضع لمقياس الضمير الإنساني، والناموس الشرعي، مثلما يخضع للمقياس الجمالي والفني لدى الإنسان من أجل أن يكتسب صفة الإبداع. ومتى ما كان الأمر كذلك، فالإبداع كغيره من سائر سلوك الناس تكتفي الشريعة فيه بمراقبة الضمير الذاتي، ما دام متعلقًا بصاحبه فحسب، فالشريعة – مثلًا - تحرم الخمر، ولكنها لا تقتحم على الناس بيوتهم لتحد من شربهم لها، بل تمنعهم منها فيما يتعلق بالنظام العام. فإذا كان الإبداع متعلقًا بالشخص المبدع فحسب، فلا تتدخل الشريعة في إبداعه إلا ببيان الحكم، والتذكير بالمآلات الأخروية المرتبة عليه إن كان هذا اللون من الإبداع داخلًا فيما نهت عنه، أما إذا خرج الإبداع إلى دائرة المجتمع، فمن حق الشريعة أن تحميَ المجتمع مما تراه خطرًا على أفراده في الدنيا أو الآخرة. فإن كان من حق المبدع شاعرًا كان أو كاتبًا أو مُخرجًا أو ممثلًا أن يقدم عمله الفني على النحو الذي تمليه عليه موهبته الفنية المجردة من أي ضابطٍ أو قيدٍ، فمن حق الشريعة أن تقول رأيها في هذا العمل، وأنها تمنع هذا المبدع من عرض عمله على الفضاء العام، ما دامت ترى في عرضه ضررًا على أفراد المجتمع الذين ينتمون إليها، ويخضعون لقوانينها، وليس هذا بمستنكرٍ في العقل ولا حتى في النظريات والمذاهب الفكرية المعاصرة، فإننا نرى دعاة الحرية يقفون بها عند حدود عدم الإضرار بالآخرين. ومما يؤمن به المسلم أنَّ عرض العمل الفني، الذي يحمل مخالفة شرعية على الفضاء العام، وتمكين الناس من الاطلاع عليه، فيه إضرارٌ بالمصالح الأخروية لأفراد المجتمع، فلا جَرَمَ ألَّا تبيح الشريعة ذلك وألَّا تسمح به، كما أنها لا تسمح ولا تتهاون في المنع مما يضر بالمصالح الدنيوية لأفراد المجتمع سواء بسواء. وعلى كل حال، فلا يضر الشريعة الغرَّاء أن بعض الناس لا يقيم وزنًا للمصالح الأخروية، ولا يعتد بها عند نظره لمسألة المصلحة والمفسدة، ويكتفي بقياس الأمور بنفعها وضررها الدنيوي فحسب.
حياة أبي بكر الصديق في مكة (أبو بكر الإنسان) كلما ذُكِر أبو بكر أمامي تنتابني مشاعر من الفخر والعِزَّة وتأمُّلات في شخصيته وسيرته الذكية العطرة، ورحت أتأمل التاريخ، تاريخ حياته، وتاريخ أمة الإسلام في صدر الإسلام، وما أحوجنا في هذه الأوقات إلى العودة إلى تاريخنا؛ لنأخذ من فيضه ما يساعدنا على تخطِّي العقبات التي نواجهها! وعند إعدادي لهذا المقال بحثتُ كثيرًا عن كتب تخبرنا عن حياة أبي بكر في مكة، فوجدت كل الكتب تدور حول أربعة محاور: 1- دعوته. 2- ابتلائه. 3- دفاعه عن النبي صلى الله عليه وسلم. 4- إنفاقه لأمواله لتحرير العبيد. 5- هجرته الأولى وموقف ابن الدغنة منها. 6- بين قبائل العرب في الأسواق [1] . لكن لم أجد في هذه الكتب ما يحكي عن حياته بشكل مفصل لنأخذ منها العبرة، ونقارن ما تسير عليه حياتنا، وما سارت عليه حياة الصحابة في ذلك الزمان، فالإنسان يمرُّ بمواقف كثيرة تتعلق بالحياة والدين، ويحتار في اتخاذ قراره فيها، أي الأفعال يختار ولا يجدي ما يثبر غوره، ويحاول تطوير حياته حتى نقترب من أخلاق وأعمال تلك المجموعة الأولى من صحابة النبي صلى الله عليه وسلم، فمثلًا لم أجد في كتب السير ما يتحدَّث عن: 1- كيف كان يتم إخفاء حركة المسلمين في مكة؟ 2- دروس تعلُّم الدين في دار الأرقم. 3- هل ترك كل صحابي مهنته وتفرَّغ فقط للدعوة إلى الدين الجديد؟ وكيف كانت العلاقات الاقتصادية مع قريش؟ 4- العلاقات الاجتماعية في ظل الدين الجديد. وغيرها من الكثير من المحاور التي بالتعرف عليها يكون قد تكوَّن لدينا نموذجٌ حيٌّ لحياة هذا الجيل، ويسهل علينا مقارنته بحياتنا اليومية؛ ومن ثَمَّ تطوير حياتنا حتى نقترب منهم فنستطيع تكوين الجيل الجديد الذي يعيد لهذا الدين مكانته وعِزَّته كما في التربية باتخاذ فرد ما قدوةً هي من أفضل الطرق في تربية القادة، وكلما اتيحت تفاصيل عن هذه القدوة كانت عملية التعلُّم من هذه القدوة وتطوير حياتنا بناءً على ذلك سيؤدي إلى بناء قدوات جُدُد مماثلين لما كان عليه الصَّحْب الأُوَل. أولًا: كيف كان إخفاء حركة المسلمين في مكة: الأرقم هو أحد الصحابة، أسلم على يدي أبي بكر الصديق، وكان صغير السِّنِّ في ذلك، وتم اختيار داره؛ لأنها كانت في أعالي مكة، فهي في مكان تقلُّ فيه الحركة بين الناس وذلك بخلاف أحياء مكة الأخرى المليئة بالحركة، وأدى اختيار هذا المكان إلى إخفاء مكان تجمُّع المسلمين في مرحلة الدعوة السِّريَّة، ولم يرد ما يفيد أنه تم تغيير هذا المكان إلى مكان آخر بعد الجهر بالدعوة، فكان هذا المكان هو مدرسة النبي صلى الله عليه وسلم الأولى التي ربَّى فيها أصحابه، وكان عدد المسلمين في هذا العهد معدودين، ويعرف كل منهم الآخر، ويخفي كل منهم عن أهله حاله من اعتناقه لهذا الدين الجديد، ولعل ما يدل على مدى سرية هذه الدعوة ما حدث مع أبي بكر عندما دافع عن النبي صلى الله عليه وسلم عند الكعبة وذلك حينما حاول كُفَّار قريش إيذاء النبي وهو يصلي عند الكعبة فوقف دونهم أبو بكر، وجعلوا يضربونه بأيديهم ونعالهم، وتم حمله لبيته، وعندما أفاق سأل عن حال رسول الله، فقالت له أُمُّه: لا ندري شيئًا عنه، فقال لها: اذهبي إلى أُمِّ جميل بنت الخطاب فاسأليها، وهذا ما يعنينا في هذا الموقف، فعندما ذهبت أم أبي بكر إلى أم جميل تسألها عن حال رسول الله، فأخفَتْ أُمُّ جميل إسلامَها وأجابتها بأنها لا تدري عنه شيئًا، ثم قالت لها: إن أردْتِ أن آتي، فأنظر حال ابنك آتي معك، ولمَّا ذهبت إلى أبي بكر سألها أبو بكر عن حال رسول الله، فقالت أُمُّ جميل: هذي أمُّك تسمع، فقال أبو بكر: ما عليك منها، ما حال رسول الله؟ فقالت: هو معافًى والحمد لله في بيت الأرقم [2] . مَنْ علَّم أُمَّ جميل أن تكون على هذا القدر من الحيطة والحذر، فهذا الحدث كان بعد الجهر بالدعوة، ومع ذلك كان كل صحابي يكتم دينه وما يظهر أيضًا أن مكان اجتماع النبي بالصحابة قد عرف بعد، ما يعنينا هنا أمور هي: 1- اختيار أبي بكر لأُمِّ جميل دون غيرها، وأحسب أن ذلك لأنه لو دعا أحدًا من الرجال فربما يعرف أن هذا الرجل على الدين الجديد. 2- أن لأم جميل دورًا في تنظيم أعمال الدعوة كحلقة وصل بين بعض المسلمين والبعض الآخر. 3- حيطة أم جميل الشديدة في التعامل في هذا الموقف. 4- أنه ولا بُدَّ كانت هناك وسيلة تواصُل بين هؤلاء النفر الذين أسلموا. 5- أنهم كانوا يجتمعون في بيت الأرقم بناءً على نظام محدد. ثانيًا: دروس تعلُّم الدين في دار الأرقم: دار الأرقم كانت هي الحاضنة الأولى لتعليم هؤلاء النفر الذين أسلموا تعاليمَ هذا الدين الجديد، فكان يجتمع فيها النبي مع أصحابه ليُعلِّمهم الآيات من القرآن وأحكام العقيدة في هذا الدين الجديد، والأحكام الشرعية المرتبطة بهذه الفترة من الدعوة، ولتنظيم هذه العملية فلا بُدَّ وأنه كان هناك من يذهب إلى بيت الأرقم ليتعلَّم القرآن وأحكام الدين، ثم يذهب ليعلم آخرين في بيوتهم أو في أماكن أخرى، ونرى ذلك جليًّا في قصة إسلام عمر بن الخطاب عندما طرق باب بيت أخته فسمع من خلف الباب مَنْ يقرأ القرآن، فكان القارئ هو خبيب بن عدي يعلم سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل وزوجته الآيات من سورة طه، فكانت هذه أحد الوسائل لكتمان الدعوة، فبدلًا من أن يذهب الجميع إلى بيت الأرقم ويكون محل إثارة أسئلة، كان يذهب بعض الصحابة ليتلقوا الدين من النبي صلى الله عليه وسلم ثم يذهبون ليعلموه لغيرهم. ثالثًا: هل ترك كل صحابي مهنته وتفرَّغ فقط للدعوة إلى الدين الجديد: لم يرد في كتب السير ما يُوضِّح هل ترك الصحابة مهنتهم وتفرَّغوا فقط لتعلُّم الدين الجديد والتعبُّد لله عز وجل أم ظلوا في أعمالهم بجانب أعمالهم في دعوتهم؟ والراجح أن كلًّا منهم ظل يعمل في مهنته التي كان يعمل فيها بجانب دوره الجديد من تعلُّم أحكام الدين الجديد، ودعوة غيره للدخول في هذا الدين، فكانت أعمال التجارة والعلاقات الاقتصادية بين من أسلم وغيره تتمُّ بشكل عادي دون أي تغيير، سواء كان هذا الصحابي قد أعلن إسلامه أم لا، فمن كان يعمل بالتجارة ظل يعمل بها، ومن كان حدَّادًا أو عبدًا أو يمتهن أي مهنة أخرى ظلَّ على حاله دون تغيير، ولعلَّ ما يؤكد هذا أنه عندما حاصرت قريش الرسول وبني هاشم في شعب بني هاشم فقد خصَّصوا منع التجارة والزواج مع هذا الحي فقط من قريش أمَّا باقي الصحابه فكانوا في أعمالهم ومِهَنهم كما كانوا، كذلك موقف أبي طالب عندما تولَّى الخلافة فترك التجارة وحدَّد له عمر بن الخطاب مبلغًا معينًا يأخذه ليصرف على بيته. وعلى هذا فليس في هذا الدين أي نوع من أنواع التواكُل؛ بل يجب أن تسعى في أعمال معاشك اليومية بجانب أدوارك الدعويَّة الأخرى دون الإخلال بأيٍّ منهما. رابعًا: العلاقات الاجتماعية في ظل الدين الجديد: لقد استحدث الإسلام نظامًا اجتماعيًّا جديدًا من الأخوَّة بين من أسلم، وحرص كل منهم على مصلحة أخيه والسعي فيما يفيده، فكانت قاعدة اجتماعية جديدة تُضاف إلى القواعد الاجتماعية الأخرى الموجودة في مكة أصلًا، فهؤلاء بنو تميم عندما قام عتبة بن ربيعة بضرب أبي بكر تجمَّع بنو تميم لنصرة أبي بكر وأخذ حقَّه من عتبه، وكانت الزيارات الاجتماعية تتم بشكل طبيعي بين الصحابة وأهليهم مَنْ أسلم أو لم يسلم، ولم يُؤثَر أنَّ أحدًا منهم توقَّف عن صلة رحمه والتواصُل معهم بعد أن اعتنق هذا الدين الجديد، فهذا الدين أتى ليُوطِّد العلاقات الاجتماعية بين مَنْ أسلم وأخيه في الإسلام وكذا صلة رحمه الأخرى. الدروس المستفادة: 1- تعلُّم أحكام الإسلام واجب على كل مسلم مهما كانت ظروفه. 2- كتمان الدين أو الأمور الخاصة واجب في بعض الأحيان وحسب الضرورة. 3- الفطنة في التعامل مع الأمور وعدم الانجرار وراء الأحداث السريعة؛ بل يجب التأمُّل والتدبُّر واحتساب العواقب. 4- وجوب وجود حاضنات أو أماكن لتعلُّم أحكام الدين بالتفصيل بالإضافة إلى المدارس العادية والمساجد. 5- السعي على المعاش في الدنيا واجبٌ ويجب عدم الاتِّكال. 6- المسلم يجب أن يكون قدوةً في جميع أعمال حياته. 7- صِلةُ الرَّحِم واجبةٌ سواء الرَّحِم من ناحية الأسرة والقبيلة أو من ناحية الدين. 8- الإسلام دين شامل يُغطِّي جميع جوانب الحياة. 9- قراءة سِيَر العظماء تضيف رصيدًا من الإيمان والفخر والتعلُّم والتدبُّر لا يُضاهيه قراءة آلاف الكُتُب في غير ذلك. 10- نصرة الدين بالقول والفعل هى ركن رئيس في هذا الدين. [1] انشراح ورفع الضيق في سيرة الصديق، لمزيد من التفاصيل عن هذه البنود، يرجى الرجوع لهذا الكتاب القيِّم. [2] السابق بتصرُّف.
نفير العلم أقام الأميُّون في جزيرة العرب لعقود من التيه يتخبطون في ظلمات الجاهلية، بلا كتاب هادٍ ولا رسول مُبلِّغ، ينشدون رشادهم عند إحدى الطوائف السماوية؛ اليهود أو النصارى، ويلتمسون عِزَّهم عند إحدى الأمم القوية؛ فارس أو الروم، إلى أن أشرق عليهم الوحي المنزَّل على خاتم المرسلين، فالتفُّوا حوله يتلقُّون مُحدثَه، ينهلون معانيه ويبلغونه من خلفهم، فهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: كنت أنا وجار لي من الأنصار في بني أمية بن زيد، وهي من عوالي المدينة، وكنا نتناوب النزول على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ينزل يومًا وأنزل يومًا، فإذا نزلت جئته بخبر ذلك اليوم من الوحي وغيره، وإذا نزل فعل مثل ذلك [1] ، فكان الصحابة لا يفارقون الوحي، ولا يغادرون صاحبه، وقد نهاهم الله أن يتركوا رسوله صلى الله عليه وسلم وحده ولو للغزو، كيف والوحي ينزل عليه، فمِن متعلِّمٍ منه، ومن مُبلِّغ عنه؟! فقال تعالى: ﴿ وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ﴾ [التوبة: 122]، قال أبو جعفر الطبري (ت: 310هـ) في تأويله: نَهى بهذه الآية المؤمنين به أن يخرجوا في غزو وجهادٍ وغير ذلك من أمورهم، ويَدَعوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وحيدًا، فكان نبي الله صلى الله عليه وسلم إذا غزا بنفسه لم يحلَّ لأحد من المسلمين أن يتخلَّف عنه، إلا أهل العُذْر، وكان إذا أقام فأسرت السرايا، لم يحلَّ لهم أن ينطلقوا إلا بإذنه، فكان الرجل إذا أسرى فنزل بعده قرآن، تلاه نبي الله على أصحابه القاعدين معه، فإذا رجعت السَّريَّة، قال لهم الذين أقاموا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله أنزل بعدكم على نبيِّه قرآنًا، وقد تعلَّمناه"، فيُقرئونهم ويُفقهونهم في الدين [2] . وكشف البقاعي (ت: 885هـ) عن ذلك المعنى اللطيف المستفاد من الآية؛ إذ الواجب أن يكون هناك ناسٌ لا ينفكُّون حافين بالنبي صلى الله عليه وسلم يلزمونه، ﴿ لِيَتَفَقَّهُوا ﴾ ؛ أي: ليكلف النافرون أنفسهم الفَهْم منه صلى الله عليه وسلم شيئًا فشيئًا ﴿ فِي الدِّينِ ﴾ ؛ أي: بما يسمعونه من أقواله، ويرونه من جميل أفعاله، ويصل إلى قلوبهم من مستنير أحواله، وهذا غاية الشرف للعلم؛ حيث جعل غاية الملازمة له صلى الله عليه وسلم للجهاد، هذا إن كان هو صلى الله عليه وسلم النافر في تلك الغزاة، وإن كان غيره كان ضمير ﴿ لِيَتَفَقَّهُوا ﴾ للباقين معه صلى الله عليه وسلم [3] ، وهذا ما صرح الشافعي الإمام (ت 204هـ) في (الرسالة) بأنه مراد الآية، فقال فيها: فأخبر أن النفير على بعضهم دون بعض، وأن التَّفَقُّه إنما هو على بعض دون بعض [4] . ولا حَدَّ لهذا الواجب الديني التعليمي إلا تحقيق الكفاية، كما قال ابن عاشور (ت 1393هـ): ولذلك كانت هذه الآية أصلًا في وجوب طلب العلم على طائفة عظيمة من المسلمين وجوبًا على الكفاية؛ أي: على المقدار الكافي لتحصيل المقصد من ذلك الإيجاب، وأشعر نفي وجوب النَّفر على جميع المسلمين وإثبات إيجابه على طائفة من كل فرقة منهم بأن الذين يجب عليهم النفر ليسوا بأوفر عددًا من الذين يبقون للتفقُّه والإنذار، وأن ليست إحدى الحالتين بأولى من الأخرى على الإطلاق، فيُعلم أن ذلك منوط بمقدار الحاجة الداعية للنفر، وأن البقية باقية على الأصل، فعُلِم منه أن النفير إلى الجهاد يكون بمقدار ما يقتضيه حال العدو المغزو، وأن الذين يبقون للتفقُّه يبقون بأكثر ما يستطاع، وأن ذلك سواء [ 5] . فهذا الواجب تضطلع به الأمة بمجموعها، فإنه كفائي تأثم بالتقصير فيه؛ كالتفريط في إعداد كوادره، وتهيئة أسبابه، وتوفير أدواته، وتجهيز بيئته، يقول النووي (ت 676هـ): اعلم أن ‌التعليم هو الأصل الذي به قِوام الدين، وبه يُؤمَن إمحاق العلم، فهو من أهم أمور الدين، وأعظم العبادات، وآكد فروض الكفايات [6] ، وفيه ضمان بقاء نور الوحي وظهوره، والذي هو صلاح العالمين، ويترتب على خفوته خفاء السنن والضلال عن سبيل المؤمنين، فيحدث الانحراف، وتظهر البدع، ويقع الهلاك، كما أكَّد على ذلك ابن تيمية (ت 728هـ) كثيرًا في رسائله: فكلما ضعف من يقوم بنور النبوة قويت البدعة [7] . وغير الواجب الكفائي هناك واجبٌ آخر عيني على الأفراد، لا يصح إسلامهم بغيره، وهو الذي قال فيه الحليمي (ت 403هـ) في خبر النبي صلى الله عليه وسلم: طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة: وهذا نصٌّ جليٌّ لا يحتاج إلى الكشف عن وجه دلالته، ثم قال: ويدل على وجوب طلب العلم من طريق المعنى، أن عبادة الله تعالى وإقامة فرائضه لا يمكن ولا يتهيَّأ إلا بعد العلم بما نهجه لعباده من وجوه التقرُّب إليه، فالعلم إن كان لا يقع للناس اتفاقًا ولا يعيه من غير طلب، بان أن طلبه واجب، والله أعلم [8] . ولعل عِظَم هذا الواجب دفع النبي صلى الله عليه وسلم لقطع خطبته ليُعلِّم أبا رفاعة دينَه؛ حيث قال: انتهيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يخطب، فقلت: يا رسول الله، رجل غريب جاء يسأل عن دينه، لا يدري ما دينه، قال: فأقبل عليَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، وترك خطبته حتى انتهى إليَّ، فأتى بكرسيٍّ، فقعد عليه، ‌وجعل ‌يُعلِّمني ‌ممَّا ‌علَّمَه ‌الله، ثم أتى خطبته فأتمَّ آخرها [9] ، قال القاضي عياض (ت 544هـ): فيه المبادرة إلى الواجبات؛ إذ سأل نبيَّه عن دينه، فلو تركه حتى يتم الخطبةَ والصلاةَ لعل المنية تخترمه؛ ولأن الإيمان على الفور [10] . وهذا القدر الواجب ينقسم لقسمين - وقد جمعته هنا من كلام لابن تيمية (ت 728هـ) -: فمنه: (1) ما يتنوَّع بتنوُّع قدرهم ومعرفتهم وحاجتهم؛ فلا يجب على العاجز عن سماع بعض العلم أو عن فهم دقيقه ما يجب على القادر على ذلك، ويجب على من ملك نصاب الزكاة تعلُّم علمِ الزكاة، ولو كان له ما يحج به لوجب عليه تعلُّم علم الحج، وهكذا. (2): ومنه ما يشترك فيه عموم المسلمين؛ كالعلم بوجوب الواجبات، كمباني الإسلام الخمس، وتحريم المحرمات الظاهرة المتواترة، وكالعلم بأن الله على كل شيء قدير، وبكل شيء عليم، وأنه سميع بصير، وأن القرآن كلام الله، ونحو ذلك من القضايا الظاهرة المتواترة؛ ولهذا من جحد شيئًا منها كفر، وقد يكون الإقرار بالأحكام العملية أوجب من الإقرار بالقضايا القولية؛ بل هذا هو الغالب؛ فإن القضايا القولية يكفي فيها الإقرار بالجُمل؛ وهو الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورُسُله والبعث بعد الموت، والإيمان بالقدر خيره وشره، وأما الأعمال الواجبة: فلا بُدَّ من معرفتها على التفصيل؛ لأن العمل بها لا يمكن إلا بعد معرفتها مفصلة [11] . وأمَّا ما زاد على القدر الواجب من المستحب فلا حدَّ له؛ إذ هو متصل بمعاني الوحي التي لا تنضب، وبكلمات الله التي لا تنفد؛ ولذلك وجه الله نبيَّه لطلب الزيادة منه: ﴿ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا ﴾ [طه: 114]، قال ابن حجر (ت 852هـ): وهو واضح الدلالة في فضل العلم؛ لأن الله تعالى لم يأمر نبيَّه صلى الله عليه وسلم بطلب الازدياد من شيء إلا من العلم، والمراد بالعلم: ‌العلم ‌الشرعي الذي يفيد معرفة ما يجب على المكلف من أمر دينه في عباداته ومعاملاته، والعلم بالله وصفاته، وما يجب له من القيام بأمره وتنزيهه عن النقائص، ومدار ذلك على التفسير والحديث والفقه [12] ، فإن العلم إذا ما أُطلق في الشريعة فهو علم الدين، كما أكَّد على ذلك الحليمي (ت 403هـ) في (شعب الإيمان) [13] ، وهذا التفسير للعلم بالدينيِّ مما تواتر عن أهل العلم [14] ، فقال الطوفي (ت 716هـ) في قوله صلى الله عليه وسلم: ((ومَن سلَكَ طريقًا ‌يلتمس ‌فيه ‌علمًا، سهَّلَ اللهُ له به طريقًا إلى الجنة)) [15] : والعلم الذي يترتب على التماسه تسهيل طريق الجنة هو العلم الشرعي النافع بنية القربة والانتفاع، ونفع الناس به؛ كعلوم القرآن والحديث والفقه وأصوله ونحو ذلك، ثم قال: فإن قلت: قوله: ((من سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا))، عام في كل علم شرعي أو فلسفي، فَلِمَ خصَّصْتُموه بالعلم الشرعي؟ قلنا: بدليل قوله: ((سهَّل الله له به طريقًا إلى الجنة))، والعلوم التي يطلب بها الجنة ويُسهِّل بها طريقها هي الشرعية دون غيرها [16] . ولما كان شرف العلم من شرف المعلوم، كان علم الدين أشرف العلوم وأعلاها، قال الحليمي (ت 403): وأيضًا فإن فضل العلم بحسب فائدته وقدر عائدته؛ إذ كان العلم إنما يُراد لما يوصل به إليه، ولا شيء أعوَدُ على العاقل من معرفة الله تعالى بصفاته، ومعرفة ما يرضيه عنه ليأتيه، وما سخطه عليه ليجتنبه، فثبت أن أشرف المعلومات الدين، وأفضل العلوم وأهمها علم الدين [17] . وهذا الذي خُلِق من أجله الجن والإنس، وكان الموت والحياة، يقول ابن عبدالبر (ت 463هـ): علم الدين الذي هو أرفع العلوم وأعلاها، به يُطاع الله ويُعبد ويُشكر ويُحمد [18] ؛ ولهذا يتفاضل الناس فيه، ويرتفعون في تبحُّرهم في معانيه، كما ذكر ابن تيمية (ت 728هـ): فمَن علم بما جاء به الرُّسُل، وآمن به إيمانًا مفصلًا، وعمل به، فهو أكمل إيمانًا وولايةً لله ممن لم يعلم ذلك مفصلًا ولم يعمل به؛ وكلاهما وليٌّ لله تعالى، والجنة درجات متفاضلة تفاضلًا عظيمًا وأولياء الله المؤمنون المتقون في تلك الدرجات بحسب إيمانهم وتقواهم [19] . ولذا جاءت الفضائل الكثيرة والدعوة للمسارعة في طلبه وسلوك سُبُله، ولو استعرضنا وجوه فضله وشرفه وبيان عموم الحاجة إليه، وتوقف كمال العبد ونجاته في معاشه ومعاده عليه؛ لخرج المقال عن مقصده، وتكفي العودة لكلام ابن القيم (ت 751هـ) في (مِفْتاح دار السعادة)، فقد جمع فيه من تلك الوجوه، فجاءت على ما يزيد على مائة وخمسين وجهًا [20] . فيكفي من وجوه فضله وشرفه أن طلبه أفضل ما تقرَّب به العبد إلى الله بعد الفرائض، وقد روي ذلك عن أبي حنيفة وسفيان الثوري ومالك والشافعي ورواية عن أحمد [21] ، ويكفي أن التفقُّه في الدين وتعلُّمه وتعليمه يعدل الجهاد؛ بل ربما يكون أفضل منه [22] ، فقوام الدين -كما ذكر ابن القيم (ت 751هـ) - بالعلم والجهاد، ولهذا كان ‌الجهاد نوعين: (1) جهاد باليد والسنان، وهذا المشاركُ فيه كثير، (2) والثاني: ‌الجهاد بالحجة والبيان، وهذا جهاد الخاصة من أتباع الرُّسُل، وهو جهاد الأئمة، وهو أفضل الجهادين لعظم منفعته، وشدة مؤنته، وكثرة أعدائه، قال تعالى في سورة الفرقان وهي مكية: ﴿ وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا * فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا ﴾ [الفرقان: 51، 52]، فهذا جهاد لهم بالقرآن، وهو أكبر الجهادين، وهو جهاد المنافقين أيضًا، فإن المنافقين لم يكونوا يقاتلون المسلمين؛ بل كانوا معهم في الظاهر، وربما كانوا يقاتلون عدوَّهم معهم، ومع هذا فقد قال تعالى: ﴿ يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ ﴾ [التحريم: 9]، ومعلوم أن جهاد المنافقين بالحُجَّة والقرآن، والمقصود أن سبيل الله هي ‌الجهاد وطلب العلم، ودعوة الخلق به إلى الله؛ ولهذا قال معاذ رضي الله عنه: عليكم بطلب العلم؛ فإن تعلُّمه لله خشية، ومدارسته عبادة، ومذاكرته تسبيح، والبحث عنه جهاد [23] . وأكد شيخه ابن تيمية (ت 728هـ) ذلك بقوله: وهو واجب عليهم- أي: العلم بالكتاب والحكمة -كما هم مخاطبون بالجهاد؛ بل وجوب ذلك أسبق وأوكد من وجوب الجهاد؛ فإنه أصل الجهاد، ولولاه لم يعرفوا علام يقاتلون؛ ولهذا كان قيام الرسول والمؤمنين بذلك قبل قيامهم بالجهاد، فالجهاد سنام الدين وفرعه وتمامه، وهذا أصله وأساسه وعموده ورأسه [24] . فعِلْمُ الدين على مراتب، منه: (1) عينيٌّ على الجميع. (2) كفائيٌّ على المجموع. (3) مستحبٌّ للجميع. وأمَّا ما سوى ذلك من علوم الدنيا فإنها تشترك مع علوم الشريعة في فرضها الكفائي الذي يُسد به الحاجة، وتقوم به الكفاية، وكذلك الشأن في الصناعات، وعُدّة القوة التي أمر الله بها في حدود الاستطاعة، فقال: ﴿ وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ ﴾ [الأنفال: 60]، فمن تصدَّى لسدِّ الحاجات وتحقيق الكفايات فاز بالثواب الجزيل، يقول إمام الحرمين (ت 478هـ): ثم الذي أراه أن القيام بما هو من فروض الكفايات أحرى بإحراز الدرجات، وأعلى في فنون القربات من فرائض الأعيان؛ فإن ما تعين على المتعبِّد المكلف، لو تركه ولم يقابل أمر الشارع فيه بالارتسام اختص المأثم به، ولو أقامه فهو المثاب، ولو فُرض تعطيل فرض من فروض الكفايات لعم المأثم على الكافة على اختلاف الرتب والدرجات، فالقائم به كافٍ نفسه وكافة المخاطبين الحرج والعقاب، وآملٌ أفضل الثواب، ولا يهون قدر من يحل محل المسلمين أجمعين في القيام لمهم من مهمات الدين [25] . نظرة في التاريخ: وقد كانت علوم الشريعة في الأُمَّة منذ البعثة وخلال عصور نهضتها - التى سادت فيها الأمم وقهرت الممالك - تحتل مرتبة الصدارة، وتعلو سُلَّم الاهتمام على مستوى المجتمع والدولة، ولنلق نظرة على الواقع التاريخي العلمي والتعليمي في الدولة المسلمة، منذ تتابع الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم في مكة والمدينة، فتحلق حوله الأصحاب - بمسجده الذي أُسِّس على التقوى من أول يوم - يتدارسون علومه، ثم انتشروا في الأرض بعد انقطاعه، يُبلِّغون رسالته - بما فهموه وشاهدوه من الوحي - للتابعين، وعلى ذلك سار تابعو التابعين، وتابعوهم، وقد كانت الجوامع والمساجد أول معاهد في الإسلام، فبجانب أنها مكان للعبادة وأداء الشعائر كانت مكانًا للتدريس وتلقي العلوم، وذلك من خلال حلقات تُعقَد بها في مختلف فروع العلوم الإسلامية، فهناك حلقة للحديث، وحلقة لإقراء القرآن، وأخرى للنحو وعلوم العربية والأدب، ولكل حلقة شيخها وطلبتها المشتغلون بها، كما تعقد بها حلقات أخرى للوعظ والفتوى والمناظرة، ويتقاضى معلِّمو الحلقات رواتبَهم من الخليفة القائم على أمرها؛ بل تُعقَد بتوقيع منه، ويُعيّنُ لها الشيوخ، وأئمة الصلاة في الجوامع، وخطبائها بنفسه، كما كانت هناك الكتاتيب والمكاتب لتعليم الصغار، يدرسون فيها القرآن والعقيدة والكتابة والشعر وغيره من العلوم الشرعية المؤسَّسة، التي يترقى بعدها الصغار إلى حلقات المساجد بعد أن ينتهوا من تلك المرحلة [26] . وكان حجم الحلقة يختلف باختلاف العلم الذي يُلقى فيها، فكانت حلقات إملاء الحديث أكبر من غيرها، حيث يجتمع فيها الناس من مختلف المذاهب، ويحتاجها كل أصحاب العلوم، فيبلغ حضورها الألوف في بعض الأحيان، ويستعينون بالمستملين لتكرار النص؛ حيث لا يبلغ صوت الشيخ ذلك المدى [27] ، ولربما بلغ عدد المستملين سبعة يُبلِّغ كل واحد منهم صاحبه الذي يليه [28] . ثم كانت الحاجة لاستقلال منشأة تعليمية لتقديم العلوم الفقهية، بعيدًا عن تزاحم الحلقات والتشغيب بينها والتشويش على المصلِّين والمتنسِّكين خاصة من تزايد عدد الطلاب والمتصدِّرين والمشتغلين [29] ، وعلى رأس تلك العلوم؛ الفقه، الذي كان بمثابة دراسة للقانون الذي تحتكم له الأمة في ذلك الزمان، فكانت المدارس، وهي مما حدث في الإسلام، ولم تكن تعرف في زمن الصحابة ولا التابعين، وإنما حدث عملها بعد الأربعمائة من سني الهجرة [30] ، وقيل: قبل ذلك [31] . وصار يتسابق لإنشائها الملوك والأمراء والسلاطين والوزراء وأزواجهن وبناتهن وأخواتهن من الخواتين والموسرين من التُّجَّار والقضاة، وأوقفوا على ذلك أوقافًا وافرة من الأموال والقُرى والضياع والبساتين والحوانيت والخانات والقاعات، محبسة على الفقهاء والمدرسين وعلى الطلبة المقيمين. فكانت تدرُّ المال عليها، وترغِّب الطلاب في التعلُّم بها، والشيوخ في التدريس، فلا يشغلهم أمر الدنيا وطلب المعاش [32] ، وكانت هذه المسارعة منهم إلى الله، إدراكًا منهم لفضيلة ذلك العلم عنده، وتقديرًا لمكانة تلك الصروح في بناء الدولة ونهضتها، فقد كانت هذه المؤسسات بمثابة مدارس القانون التي يتخرج من خلالها رجال الدولة الذين يناط بهم تقلد المناصب وتولي المهام في دولة تُحكَم بالشريعة، فيتخرج منها الفقهاء والمفتون والقضاة والشهود، وكاتب العدل، ووكلاء المال وأمناء السر وغير ذلك من الوظائف والمهام المتطلبة لمعرفة تامة بالأحكام [33] . لقد انتشرت مدارس الفقه في العالم الإسلامي انتشارًا كبيرًا، يؤكد ذلك المدارس الكثيرة التي ذكرها المؤرخون في مؤلفاتهم ببغداد وواسط والبصرة والموصل والحلة، عند ابن الأثير وابن الساعي والفوطي، وفي مصر عند المقريزي في الخطط، ودمشق عند ابن كثير والنعيمي، وفي بلاد المغرب وشمال إفريقية ومدارس اليمن والحجاز وغيرها [34] ، فقد كانت المدارس في بغداد منذ نشأتها أواسط القرن الرابع الهجري في ازدياد مستمر، حيث بلغت حين سقوط بغداد بيد المغول سنة 656 هـ 38 مدرسة، أنشئت لمذهب واحد من المذاهب الفقهية الأربعة، أو مشتركة بين مذهبين أو أربعة، بالإضافة إلى 18 دارَ حديثٍ، وكان في البلاد الإسلامية علاوة على المدارس المستقلة عددٌ لا يُحصى من دُور القرآن، ودور الحديث، وحلقات المساجد، وأماكن الدراسة الأخرى؛ كالكتاتيب، والربط، والزوايا، ومجالس المناظرة والوعظ والإملاء، وغير ذلك. ويرشدنا كتاب النعيمي (ت 928هـ) (الدارس في تاريخ المدارس)، عن طبيعة المدارس في دمشق في الفترة ما بين 490 وحتى 892هـ، حيث تضمن معلومات عن 128 مدرسة فقهية للمذاهب السُّنِّيَّة الأربعة، 61 للشافعية و52 للحنفية و11 للحنابلة و4 للمالكية، كما يتضمن بيانات عن دور العلم الأخرى؛ كدور القرآن والحديث وكليات الطب والرباطات والزوايا والترب والمساجد، درس بها ما ينوف على ألف عالم، بينما ذكر المقريزي (ت 845هـ) في القاهرة ما يقرب من 75 مدرسة [35] . ومما يدل على عناية الدولة بهذا الشأن أن المدرسين بهذه المدارس كانوا يُعيَّنون بتوقيعات من الخلفاء والأمراء والسلاطين مباشرةً؛ بل كانوا يحضرون الدروس الافتتاحية بأنفسهم لهؤلاء المعيَّنين، فيما يُسمَّى بالدرس الافتتاحي، ويحضره المسؤولون وكبار الرجال في الدولة، وتُعقَد فيه مناظرة، ويتخلَّله منح المكافآت والعطايا للفقهاء والعلماء بعامة وكذلك الطلاب، ومنح أردية الشرف والخلع [36] . وبالنظر إلى برنامج الدراسة الفقهية لهذه المدارس نجده ينقسم إلى مستوى الدراسة الأولى والدراسة العالية، فكانت الأولى للمتفقِّه والأخرى للفقيه، وكان هذا اللقب الأخير مرادفًا للقب المفتي، الذي يمثل إعداده الهدف النهائي للتعليم المدرسي، وكان الطالب يبدأ دراسة الفقه في نحو الخامسة عشرة من عمره بعد الانتهاء من مرحلة تعليمية في المكتب والكتاب [37] ، ثم يقضي عِدَّة سنوات طوال في الاشتغال بالفقه وعلومه - قُدِّرت بأربع سنوات - يعقبها فترة من الدراسات العليا تمتد لسنوات بين عشرة إلى عشرين [38] ، وربما تخللها العمل كمفيد أو معيد أو متصدر، فإذا كُلِّل بالنجاح فإنه يتأهَّل لتولي أحد المناصب في مجال التدريس، الرسمي أو يتصدَّر للتدريس الحر، أو يتخرج كفقيه ممارس يتقلب بين الوظائف [39] . لقد كان التعليم الذي توفِّره معاهد العلم في الإسلام دينيًّا، وكان موجهًا نحو غايات دينية؛ وهي نجاة الإنسان وسعادته الأخروية، وإقامة حكم الله في الأرض غير أنه لم يكن التعليم الوحيد المتاح؛ بل كانت تدرس علوم الفلسفة والكلام والرياضيات والطب والعلوم الطبيعية، وهي ما يطلق عليها علوم الأوائل، فكانت تدرس خارج المعاهد الإسلامية في منازل المدرسين أو المستشفيات أو معاهد العلم الأخرى على نطاق ضيق [40] ، فقد كانت العلوم الفقهية فوق جميع العلوم، وكان مدرس الفقه متميزًا عمَّن عداه من أعضاء هيئة التدريس، وراتبه الأعلى بينهم، وكانت جميع الوظائف الأخرى في المدارس تابعةً له؛ لأنه وحده المفسِّر للشرع، بما تأهَّل له من دراسة العلوم الأخرى، تقام لأجله المآدب وتخلع عليه الخلع [41] ، وتعقد لهم المناظرات في المناسبات الرسمية والمحافل بحضور السلاطين والولاة ويحضرها جمهور غفير، ويواظب عليها الفقهاء صغيرهم وكبيرهم، فكانت هذه ميادين المبارزة عندهم. وبعد الفقه في الأهمية تأتي العلوم الخادمة له؛ كعلوم الحديث والقرآن واللغة والنحو والآداب والتاريخ، ونحوها، فإنها علوم مساعدة خادمة للفقه، وقد ارتفعت مرتبة هذه العلوم مع تأسيس مدارس مستقلة خاصة بها، كدور الحديث - التي كان أول تأسيس لها على يد نور الدين زنكي سنة 569ه [42] - وكذلك دُور القرآن التي كان أول تأسيس لها بدمشق وهي دار القرآن (الرشائية) في حدود الأربعمائة [43] . ثم تأتي العلوم غير الشرعية؛ كعلم الكلام والفلسفة والطب والفلك والصناعات ونحوها، والتي تدرس بالمكتبات أو ما يُسمَّى وقتها ببيت الحكمة أو دار العلم، والتي تجمع فيها الكتب على اختلاف مشاربها، ويلتقي فيها المهتمون بتلك العلوم، وتعقد فيها لقاءات المناظرة والمناقشات. وكان الطب يدرس بجوار ذلك في البيمارستان، وهو المشفى في ذلك الزمان [44] ، كما بالبيمارستان (العضدي) ببغداد، أو يدرس بشكل شخصي في دور الأطباء، وكانت أول مدرسة للطب من تأسيس مهذب الدين الملقب بالدخوار سنة 565هـ؛ أي: بعد ظهور مدارس الفقه بقرنين من الزمان، ثم أنشئت مدارس للطب في بقاع أخرى؛ كالبصرة ودمشق بعد ذلك. ثم كان أول التحاق لها بباقي المدارس في زمن المستنصر سنة 631هـ حيث جمع المدارس الشرعية مع غيرها. فكانت مدرسة الفقه ودار الحديث ودار القرآن ومدرسة الطب في مكان واحد، ولم يذكر النعيمي ت 928هـ في كتابه للطب سوى ثلاث مدارس (الدخوارية)، و(الدنيسرية)، و(اللبودية). وكان من ثمرات ذلك النشاط الديني حركة التأليف الواسعة في العلوم الشرعية؛ إذ كانت مرتبطة بعملية التدريس ونتاج مباشر لها، ويؤكد ذلك التحليل الإحصائي للإنتاج الفكري الذي حصره ابن النديم حتى سنة 377هـ في كتابه (الفهرست)، حيث أظهر أن العلوم الإسلامية حظيت بالنصيب الأكبر منها، وقاربت النصف من مجموع ذلك الإنتاج؛ بل ربما جاوزته، إذا أضيفت معها فروع العلوم المساعدة [45] . ولسنا بهذا العرض التاريخي نغضُّ من منزلة العلوم الدنيوية أو نقلل من حاجة الأُمَّة الماسَّة لها، أو نُهمِّش من إسهامات المسلمين في مضمارها، كيف وكتابات المنصفِين من المستشرقين تشهد بذلك، ولكنَّا نشير للجانب الآخر من الحياة التعليمية الدينية في عصور النهضة الإسلامية، ونلفت الانتباه للوزن النسبي الذي شغلته علوم الشريعة في تلك الحقبة، والتي لا يتطرق لها الباحثون للأسف عادةً؛ لكن ينصب بحثهم على العلوم الدنيوية التطبيقية والآلات والمكتشفات الطبيعية، إرضاءً لنهم الغرب المادي، وبحثًا عن موطئ قدم لها في زمن لا يعترف إلا بالمادة، وتخلصًا من عبء الهزيمة النفسية التي يزح فيها البعض، ولا يرى غيرها أملًا في التقدم [46] . لقد حفظ التاريخ لنا نماذج كثيرة من العلماء الذين جمعوا بين التخصُّص في علم الدين وعلم الدنيا، والجدير بالذكر أن المشتغلين بعلوم الدنيا في تلك الأزمنة كانت لهم سابقة إلمام جيدة بمبادئ العلوم الشرعية، وذلك من خلال المكاتب المجانية المنتشرة في ربوع العالم الإسلامي منذ القرن الأول الهجري، والتي يتلقَّى فيها الصغار علوم الشريعة، فيدرسون فيها القرآن وعلوم العربية والأدب والكتابة حتى سِنِّ الخامسة عشرة، ثم يتخصَّص الواحد منهم فيما شاء من العلوم، وقد رصد الرحالة ابن حوقل (ت 367هـ) نحو 300 معلم بالكتاتيب في مدينة واحدة وهي بلرم بصقيلية، التابعة لإيطاليا اليوم [47] ، فانظر للفصام النكد اليوم والواقع الأليم الذي هُمِّشت فيه الشريعة في جميع مراحل التعليم. فقد أعقب هذا الانتعاش العلمي والازدهار المعرفي الكبير في العصر النوري والأيوبي وأوائل المملوكي، فتور الهِمَم، وخفوت الحماسة لتأسيس المدارس شيئًا فشيئًا، وساد الجهل عكسيًّا بعد أن رغب عن العناية به وخدمته أولو الأمر [48] ، إلى غير ذلك من عوامل الضعف الكثيرة التي غزت العالم الإسلامي، وتزامن معها نهضة الغرب وثورته الصناعية، فتتابعت حملات الابتعاث التغريبية نحو بلادهم لاستيراد علومهم المدنية، آملين أن تصبح بلاد المسلمين قطعة من أوروبا، وتسارعت سياسة التغريب بإرساليات الاستشراق والتنصير المعاكسة التي أسست في بلاد المسلمين مدارس ومعاهد عليا وجامعات مسيحية تبشيرية لتقديم هذه العلوم [49] ، مع ما صاحَبَها مع حملات للتشويه والتشكيك الممنهج العلني والمبطن في الإسلام، والحط من منزلة التعليم الديني، وربطه بتخلُّف المسلمين وتأخُّرهم، مع دعوات للتخلِّي عن اللغة العربية ومواكبة لغات العلم الحديث [50] ، وفي أحسن الأحوال دعوات داخلية لإصلاح التعليم الديني، وإعطاء الأولويَّة للعلوم الدنيوية لمواكبة النهضة الغربية، وكأنه مصدر التأخُّر والتخلُّف، و هذا بالطبع لا ينفي الواقع السيِّئ للتعليم الديني في ذلك الوقت والجمود الذي تصلَّب عنده، وعجزه الذي أعاقه عن المواجهة أو المواكبة؛ لكن ذلك نتاج إهماله وليس سببًا له. لقد كان القرن التاسع عشر الميلادي قرن التحوُّل نحو المادية بامتياز، وتمجيدها في صورة العلوم التجريبية والتطبيقية، وتفسير الظواهر بها حتى التاريخية منها، ونبذ الجانب الرُّوحي الديني الذي يقف في وجه النهضة كما يدَّعون [51] . وقد كانت استجابة المجتمع المسلم لذلك التحوُّل بطئيةً، حتى جاء المستر دانلوب – القسيس الذي عيَّنه كرومر مستشارًا لوزارة المعارف - إبان الاحتلال البريطاني لمصر، فنجح بوسائله الناعمة وسعيه الدؤوب في تهميش الأزهر معنويًّا وحسيًّا حتى أجهز عليه، بعد أن كان الانتساب للأزهر شرفًا تتسابق له الأُسَر المسلمة، من الناحية الدينية لمنزلة علومه عند المسلمين، ومن الناحية المعيشية لمكانة خريجيه في الدولة، فانقلبت الأوضاع إثر خطط الإفساد والتفريغ، فصار لا يدخله إلا الفقراء المهمشون العاجزون عن سداد مصروفات المدارس الحديثة في ذلك الوقت؛ حيث أصبح خريجو تلك المدارس الحديثة صفوة المجتمع وأرباب الأعمال والمناصب، فكان مدرس اللغة العربية مثلًا يتقاضى أربعة جنيهات فقط، في حين يتقاضى زملاؤه المدرسون من أصحاب المؤهلات العليا اثني عشر جنيهًا، مما ينعكس ذلك عليه وعلى مستوى التعليم الديني برمته؛ بل كان هو في غالب الأحيان مدرس مادة الدين التي تُوضَع في آخر الجدول المدرسي، والتي اعتبرت بعد ذلك مادةً إضافيةً هامشيةً تضم للرسم والأشغال اليدوية والألعاب الرياضية، فانصرف الناس عن قرآنهم وتراثهم بالتدريج نحو العلوم المدنية الدنيوية حيث المال والوظائف والمكانة الاجتماعية. وغنيٌّ عن الذكر واقع التعليم الديني اليوم، الذي تُجَفَّف مصادره ويُحارب أهله، ويُشوَّه حملته، من قبل الداخل قبل الخارج، لتخرج في بلاد المسلمين أجيال لا تحفظ فاتحة الكتاب، وشيوخ لا تحسن قراءتها ، فخلاصة المقال هي الدعوة لتلبية الحاجة الملحَّة لإعادة الاهتمام للعلوم الشرعية لتتبوَّأ منزلتها المأمولة، فأولها نهضة الأمة ورفعتها، وآخرها نجاتها، ولن يأتي على الأُمَّة المسلمة زمان تضعف فيه الحاجة لتعلُّم أحكام دينها ومعرفة سبيل نجاتها في الآخرة، فهذا قدر عيني على الجميع، وكفائي على المجموع، بخلاف سائر العلوم الدنيوية التي تلزم المجموع لا الجميع، ثم العجب بعد ذلك ممن ينشد الإصلاح وتغيير الواقع ثم لا هو في نفير جهاد ولا نفير علم! [1] صحيح البخاري، حديث رقم: 89. [2] انظر: تفسير الطبري للآية. [3] انظر: تفسير البقاعي للآية. [4] الرسالة:1/ 364. [5] انظر: تفسير ابن عاشور للآية. [6] المجموع شرح المهذب:1/ 30. [7] انظر: مجموع الفتاوى: 3/ 104، 4/ 137، 4/ 141. [8] انظر: المنهاج في شعب الإيمان: 2/ 191. [9] انظر: صحيح مسلم، حديث رقم: 876. [10] إكمال المعلم بفوائد مسلم: 3/ 281. [11] انظر: مجموع الفتاوى: 6/ 57، و3/ 312، و3/ 328. [12] فتح الباري شرح صحيح البخاري: 1/ 141. [13] المنهاج في شعب الإيمان: 2/ 186، 2/ 190، 2/ 195. [14] انظر: المفهم لم أشكل من تلخيص كتاب مسلم للقرطبي: 6/ 684-686، شرح الأربعين النووية لابن دقيق العيد: 120، مجموع الفتاوى لابن تيمية: 3/ 328، المعين في تفهُّم الأربعين لابن الملقن:410، عمدة القاري شرح صحيح البخاري لبدر الدين العيني: 2/ 40، الفتح المبين بشرح الأربعين لابن حجر الهيثمي: 566. [15] صحيح مسلم، حديث رقم: 38 - (2699). [16] التعيين في شرح الأربعين: 1/ 311-313. [17] المنهاج في شعب الإيمان: 2/ 196. [18] جامع بيان العلم وفضله: 2/ 789. [19] مجموع الفتاوى: 11/ 188. [20] انظر: مفتاح دار السعادة: 1/ 48-1/ 180. [21] انظر: مفتاح دار السعادة: 1/ 119. [22] انظر: مفتاح دار السعادة: 1/ 56. [23] انظر: مفتاح دار السعادة: 1/ 70. [24] مجموع الفتاوى: 15/ 390. [25] الغياثي: 359. [26] انظر: نشأة الكليات، جورج مقدسي: 55-56، و62 و64-65. [27] نشأة الكليات، جورج مقدسي: 64. [28] الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع، للخطيب البغدادي: 2/ 57. [29] انظر: نشأة الإنسانيات لجورج مقدسي: 196، حيث ذكر عن الجغرافي المقدسي في كتابه (أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم) تداخل الحلقات في جوامع القاهرة في القرن الرابع الهجري، وكان في أحد الجوامع كما ذكر مائة وعشرة مجالس. [30] انظر: الخطط للمقريزي: 4/ 199. [31] ذكر صلاح الدين المنجد في مقدمة كتاب (دور القرآن بدمشق للنعيمي) أن أول دار هي الصادرية أنشئت سنة 391هـ وكانت وقفًا على الحنفية، وذكر المقريزي في الخطط مدارس بُنيَتْ قبل هذا التاريخ، ولا يعرف على وجه التحديد: 4/ 199، وأوَّل من حفظ عنه أنه بنى ‌مدرسة في الإسلام أهل ‌نيسابور، فبنيت بها المدرسة البيهقية، وبنى بها أيضا الأمير نصر بن سبكتكين ‌مدرسة، وبنى بها أخو السلطان محمود بن سبكتكين ‌مدرسة، وبنى بها أيضًا المدرسة السعيدية، وبنى بها أيضًا ‌مدرسة رابعة. [32] نشأة الكليات، جورج مقدسي: 78. [33] انظر: مقدمة (دور القرآن بدمشق للنعيمي) لصلاح الدين المنجد: 11. [34] انظر: نشأة المدارس الإسلامية، ناجي معروف: 6-9. [35] انظر: مقدمة كتاب (دور القرآن بدمشق للنعيمي) صلاح الدين المنجد. [36] انظر: نشأة الكليات جورج مقدسي: ص19 وص252 وص255 وص264. [37] انظر: نشأة الكليات، جورج مقدسي: 405. [38] انظر: نشأة الإنسانيات، لجورج مقدسي: 153. [39] انظر: نشأة الكليات، جورج مقدسي: 324 و326. [40] انظر: نشأة الكليات، جورج مقدسي: 431، وما بعدها. [41] انظر: نشأة الكليات، جورج مقدسي: 436. [42] انظر: نشأة الكليات، جورج مقدسي: 329، و331 و333. [43] انظر: مقدمة (دور القرآن بدمشق للنعيمي) لصلاح الدين المنجد: 8. [44] انظر: نشأة الكليات، جورج مقدسي: 52، 73-77. [45] انظر الفهرست لابن النديم: دراسة بيوجرافية ببليوجرافية ببليومترية، ضمن مجلة مركز الوثائق والعلوم الإنسانية – جامعة قطر، ص160. [46] التبشير والاستعمار في البلاد العربية: 217. [47] انظر: نشأة الإنسانيات، لجورج مقدسي:190. [48] انظر: مقدمة كتاب (دور القرآن بدمشق للنعيمي)، صلاح الدين المنجد، ص14. [49] انظر: الغارة على العالم الإسلامي ص80، وانظر أيضًا التبشير والاستعمار في البلاد العربية، ص87. [50] انظر: الغارة على العالم الإسلامي: 18 و57-58، وانظر أيضًا التبشير والاستعمار في البلاد العربية، ص88. [51] الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي لمحمد البهي، ص186، وانظر أيضًا التبشير والاستعمار في البلاد العربية، ص147.
إبراهيم عليه السلام (1) نتحدَّث إليكم في هذا الفصل عن إمام الحُنفاء وأبي الأنبياء وخليل الرحمن، وأكثر الناس شبهًا بخَلْق محمد صلى الله عليه وسلم وخُلُقِهِ، وأحد السادة الكبار من أولي العزم من المرسلين، الأُمَّة، القانت، الحنيف، الأوَّاه، الحليم، إبراهيم عليه السلام، وأبوه آزر مِن ذرِّية سام بن نوح عليه السلام، وقد وُلد إبراهيم عليه السلام بأرض بابل المعروفة ببلاد الكلدانيين، وكان أبوه وقومه يعبدون الأصنامَ والأوثان، ويسجدون للكواكب السبعة، ويقيمون الهياكلَ لها، فبعث الله إليهم إمامَ الحُنفاء إبراهيم عليه السلام، فدعاهم إلى وجوب إخلاص العبادة لله وحدَه، واتَّخذ في دعوته من سُبل الإرشاد ما تقوم به الحجَّة، وتنقطع به الشبهة، وقد ساق الله تبارك وتعالى صورًا من أساليب دعوة إبراهيم عليه السلام في محاورته لقومه، وإرشادهم إلى الله تبارك وتعالى، وفي ذلك يقول: ﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ * وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾ [الأنعام: 74، 75]، أي: نبيِّن له وجهَ الاستدلال بآيات الله الكونية في السماوات والأرض على أنه لا إله إلا الله، ﴿ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ * فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي ﴾، أي: أهذا يصلح لأن يكون ربًّا يُعبد، ﴿ فَلَمَّا أَفَلَ ﴾، أي: فلمَّا غاب هذا النجم الذي يعبده قومه، ﴿ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ ﴾ [الأنعام: 76]، "وهذا أسلوب حكيم في زلزلة قواعد باطلهم"، ﴿ فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا ﴾، أي: طالعًا، ﴿ قَالَ هَذَا رَبِّي ﴾، أي: أهذا يصلح لأن يكون ربًّا يُعبد؟"، ﴿ فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ ﴾ [الأنعام: 77]، "وقد أراد عليه السلام بهذا القول أن يَستدرج قومَه ويعرِّفهم جهلهم وخطأهم في تعظيم هذه الكواكب الآفلة وعبادتها، وأن ناصية الخلق بيد الله وحدَه، فمن لم يهدِه الله فلا هادي له"، ﴿ فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا ﴾ [الأنعام: 78، 79]؛ "أي: مائلًا إلى الدِّين القيِّم"، ﴿ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [الأنعام: 79]، "وحذف الاستفهام في مثل قوله: "هذا ربي" سائغ شائع في اللِّسان؛ وهو استفهام إنكار وتوبيخ لقومه عبَدة الكواكب، وقد جاء حذف حرف الاستفهام في مواضع من القرآن الكريم، ومنه قوله تعالى: ﴿ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ ﴾؟ [الأنبياء: 34]؛ أي: أفهم الخالدون؟ ويشير القرآن العظيم إلى مَوقف قومه مِن هذه الحجَّة البالغة، وأنهم لما انقطعوا لجؤوا إلى تخويفه مِن بطش آلهتهم به، وفي ذلك يقول الله عز وجل: ﴿ وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ * وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ * وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ ﴾ [الأنعام: 80 - 83]. ويذكر الله عزَّ وجل صورةً أخرى مِن صور قيام إبراهيم عليه السلام ببيان أنَّ الله وحده هو المستحق للعبادة، وأنَّ غيره من معبوداتهم لا تسمع ولا تنفع، فيقول عز وجل: ﴿ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ ﴾ [الشعراء: 69، 70]، "سألهم عن معبوداتهم ليبني على جوابهم أنَّ هذه الآلهة لا تستحق شيئًا مِن العبادة ليقطع شبهتهم"، ﴿ قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ * قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ * أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ * قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ * قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ * أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ * فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ * الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ * وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ * وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ * رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ * وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ * وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ * وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ ﴾ [الشعراء: 71 - 86]؛ "وهذا كان بسبب مَوعدةٍ وعدها إبراهيمُ فَهِم منها إبراهيم عليه السلام أنَّ أباه مقارب للإيمان، فلمَّا تبيَّن له أنَّه عدوٌّ لله تبرَّأ منه؛ كما قال تعالى: ﴿ وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ ﴾ [التوبة: 114]. ثمَّ يستمرُّ إبراهيم في ضراعته إلى الله وبسط دعوته لقومه فيقول: ﴿ وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ * يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ﴾ [الشعراء: 87 - 89]؛ وفي صورة مشرِقة مِن صور عرض دعوة إبراهيم عليه السلام وموقفه مِن قومه بعد أن استجابت له زوجته سارة ولوط عليه السلام يقول الله تعالى: ﴿ قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ ﴾ [الممتحنة: 4]؛ "أي: فلا تَستغفروا للمشركين ولو كانوا أُولي قربى"، ﴿ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ * رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ﴾ [الممتحنة: 4 - 6]. ويصف اللهُ تبارك وتعالى موقفًا مشرقًا من مواقف إبراهيم عليه السلام مع أبيه آزر فيقول: ﴿ وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا * يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا * يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا * يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا * قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا * قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا ﴾؛ أي: "عظيم اللُّطف بي كثير الإحسان إليَّ"، ﴿ وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا ﴾ [مريم: 41 - 48]. وفي موقف آخر مِن مواقف إبراهيم عليه السلام مع أبيه وقومه يقول اللهُ عز وجل: ﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ * قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ * قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ * قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ * قَالَ بَل رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ * وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ * فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ * قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ * قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ (أي: يطعن عليهم ويسبهم) يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ * قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ * قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ * قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ * فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ * ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ * قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ * أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ * قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ * قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ * وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ ﴾ [الأنبياء: 51 - 70]. ويسوق الله عزَّ وجل قصَّةَ ملك الكلدانيين في استجوابه إبراهيمَ عن ربه، وقول إبراهيم: ﴿ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ ﴾، فيتطاول هذا الملك ويقول: ﴿ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ ﴾، فيفحمه إبراهيم بقوله: ﴿ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ ﴾؛ فينقطع هذا الكافر، وفي ذلك يقول الله عز وجل: ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾ [البقرة: 258]. هذا، وقد ذكر بعضُ المفسرين أن إبراهيمَ - قد جرت هذه المناظرة بينه وبين الملك لَمَّا قدِم لطلب طعامٍ منه، وأنَّ الملكَ رفض إعطاءه الطعام، وأن إبراهيم قد اشتدَّ حزنه عندما اقترب مِن منزل أهله، وأنه كيف يدخل على سارة وإسحاق ولده دون طعام، فَعَمِدَ إلى كثيبٍ مِن التراب، فملأ جرابيه منه ليؤنسَ أهلَه، فلما نامَ انقلبَ التراب دقيقًا أبيض خالصًا، فلما فتحت سارةُ الجرابَ وجدت الدَّقيقَ فصنعت طعامًا منه، فلما استيقظَ إبراهيم وجدَ الطعامَ، فقال: مِن أين لك هذا؟ قالت: مِن جرابك... إلخ، فهذا كذبٌ ظاهرٌ، ولا أصل له بحمد الله، وإسحاق لم يولد إلا بالشَّام.
تهافت المتكلمين لعمار خنفر صدر حديثًا كتاب " تهافت المتكلمين "، تأليف: د. " عمار خنفر "، نشر: " مكتبة دار الحجاز للنشر والتوزيع ". وهو بحث جديد في طرحه حول قضايا علم الكلام، وموقف أهل السنة من علم الكلام وأهله، ناقش فيه المؤلف نشأة علم الكلام، وأهم الأسس التي بنى عليها المتكلمون مذهبهم، وقضاياهم، واستدلالاتهم العقدية والمنهجية، وبطلان تلك القضايا في قرابة خمسمائة صفحة. ونجد أن مبحث صفات الله الذاتية وما يتفرع عنه من مسائل تعد من أكثر المباحث الشائكة في العقيدة وفي تاريخ الفكر الإسلامي، وقد نشأت مدارس ومذاهب من جراء تلك المسائل التي امتزجت فيها العقيدة مع الفلسفة والكلام، ونتج عنها نزاعات فكرية عميقة شديدة الوغى بين المدرسة الكلامية الإسلامية ومدارس الفلسفة. وهذا الكتاب يمثل استمرارًا لنهج المدرسة الحديثية، إلا أنه امتاز عن غيره من المؤلفات في هذا الباب بمتانة الطرح وأصالته، إلى جانب استقلاليته وخروجه من عباءة التقليد، ساعده في ذلك إتقان المؤلف لمباحث المنطق والفلسفة وتعمقه فيهما، مما أسهم في كشف أسرار النهج الكلامي وبيان زيفه. وجاءت الدراسة في ثلاثة أبواب تندرج تحتها عدة فصول على النحو التالي: الباب الأول: عن الأصول الكلامية، وفيه ثلاثة فصول: الفصل الأول: في الأحياز والجهات. الفصل الثاني: في الجواهر والأعراض. الفصل الثالث: في الحوادث. الباب الثاني: فساد حجج المتكلمين في نفي العلو لله، وذلك في ست فصول: الفصل الأول: مقدمة في بيان العلم وكيفية حصوله. الفصل الثاني: علو الله بين الضرورة والنظر. الفصل الثالث: مسألة رؤية الله عز وجل. الفصل الرابع: الرد على حجج المتكلمين في العلو والتحيز، نقض فيه سبعة حجج من حجج المتكلمة والفلاسفة. الفصل الخامس: الرد على حجج المتكلمين في التجسيم والتركيب، نقض فيه ست حجج من حجج المتكلمة والفلاسفة. الفصل السادس: مذهب المتكلمين على ضوء علم الحديث. الباب الثالث: نقد علم الكلام، وذلك في خمسة فصول: الفصل الأول: في الدليل العقلي. الفصل الثاني: طرائق الاستدلال. الفصل الثالث: في قياس الغائب على الشاهد عند المتكلمين. الفصل الرابع: فساد منهج المتكلمين، وذكر فيه ستة أوجه للفساد المنهجي لمذهبهم. الفصل الخامس: بين الفلاسفة والمتكلمين. والكتاب وجبة دسمة حافلة بالأدلة المنطقية والعقلية في نقد المذهب الكلامي، كما يتضح من أغلب الموضوعات التي ضمها فهرسه، ويطرح قضية هامة من القضايا المذهبية الدخيلة على عالمنا الإسلامي والتي تواصلت عبر قرون عديدة حتى وقتنا الحالي.
دروس مستفادة من حياة أبي بكر الصِّدِّيق كلما ذُكِر أبو بكر أمامي تنتابني مشاعرُ مِن الفخر والعِزَّة، وتأمُّلات في شخصيته وسيرته الذكية العطرة، ورحت أتأمل التاريخ، تاريخ حياته وتاريخ أمة الإسلام في صدر الإسلام، وما أحوجنا في هذه الأوقات إلى العودة إلى تاريخنا؛ لنأخذ من فيضه ما يساعدنا على تخطِّي العقبات التي نواجهها! التاريخ هو الكَنز الذي يحفظ مُدَّخرات الأمة في الفكر والثقافة، والعلم والتجربة، وهو الذي يمدُّها - بإذن الله - بالحِكَم التي تحتاج إليها في مسيرة الزمن وتقلُّب الأحداث، والأُمَّة التي لا تُحسِن فقه تاريخها، ولا تحفظ حقَّ رجالها، أُمَّةٌ ضعيفةٌ هزيلةٌ، ضالَّة عن حقائق سُنن الله، مُضَيِّعة لمعالِم طريقها، وتاريخ الإسلام ليس مُجرَّد أحداث مُدَوَّنة، ووقائع مسجَّلة؛ ولكنَّه عقيدة الأُمَّة ودينها، ومقياسها وميزانها، وعِظَتها واعتبارها، إنه صاحبُ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم؛ بل أعظم الصحابة، وأفضلهم وأحبُّهم إلى الحبيب المصطفى، إنه ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ، إنه الرجل الذي وُزِن إيمانه بإيمان الأُمَّة، إنه أوَّل الخلفاء الراشدين، وأوَّل العَشْرة المُبَشَّرين، وأوَّل مَن آمَنَ من الرجال، عبدالله بن عثمان بن عامر القُرَشي التميمي، أبو بكر الصِّدِّيق بن أبي قُحافة، خليفة رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم. إسلامه ودعوته: يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((ما عرضتُ هذا الأمرَ على أحدٍ، إلا كانت منه كبوة وتردُّد، إلا ما كان من أبي بكر، ما أن عرضت عليه الأمر، حتى صدَّقني وآمن بي))، سمَّاه النبي "الصدِّيق"، وأسلم على يد أبي بكر رضي الله عنه صفوةٌ من الصحابة رضوان الله عليهم، ومن أبرزهم: عثمان بن عفان، والزبير بن العوَّام، وطلحة بن عبيد الله، وسعد بن أبي وقاص، وأبو عبيدة بن الجرَّاح، وكانوا رضوان الله عليهم من الدعامات التي قام عليها صرح الدعوة إلى الإسلام، كما أنه أعتق عشرين من الصحابة من ربقة العبودية، الذين كانوا يعذَّبون بأشد أنواع العذاب وأقساه. لم يسلم الصديق رضي الله عنه من أذى قريش للمسلمين رغم أنه كان من ساداتهم وأشرافهم، فقد ألقي التراب على رأسه، وضرب بالنعال في المسجد الحرام حتى حمل إلى بيته في رداء، ولم يمكث فيه طويلًا حتى ألحَّ على أُمِّه في لقاء النبي صلى الله عليه وسلم، فذهب إليه وهو يتَّكئ عليها وعلى أُمِّ جميل (أخت عمر بن الخطاب رضي الله عنه)، فلمَّا رآه رقَّ له رقةً شديدةً، وأكبَّ عليه فقبَّله. خلافة أبي بكر: بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم اجتمع الأنصار في سقيفة بني ساعدة وناقشوا أمر اختيار خليفة لرسول الله، وقدَّمُوا لذلك زعيم الخزرج سعد بن عبادة، فلمَّا بلغ نبأ اجتماع الأنصار إلى أبي بكر، وخطب أبو بكر في الأنصار وأثنى عليهم وعلى نصرتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وقدَّم أبو بكر عمر وأبا عبيدة رضي الله عنهما للخلافة. ورفض عمر ذلك، ثم بايَعَ سعد بن عبادة والأنصار من بعده أبا بكر، واختاره المسلمون خليفةً لهم، وبايعوه في اليوم التالي بيعةً عامةً بعد بيعة سقيفة بني ساعدة الخاصة، وبذلك كان أول الخلفاء الراشدين، وبدأت خلافته في العام الـ11 للهجرة. وقالت حفصة بنت عمر رضي الله عنهما لرسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا: "إذا أنت مرضت قدمت أبا بكر"، فقال صلى الله عليه وسلم: ((لست أنا أقدمه ولكن الله يقدمه)). وأبرز حوادث خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه أربعة: • إعداد الجيوش لقتال أهل الرِّدَّة ومانعي الزكاة. • جَمْع القرآن في مصحفٍ واحدٍ. • التوسُّع في دولة الإسلام بفتح العراق والشام. الدروس المستفادة من حياة الصِّدِّيق: 1- قوة الإيمان التى تصنع من البشر رجالًا، إن رجلًا كأبي بكر ارتقى بالإيمان في نفسه من أول لحظة آمن فيها، ليضع نفسه وماله وكل ما يمتلك من ملكاتٍ وصفاتٍ تحت تصرُّف الرسول صلى الله عليه وسلم في خدمة هذا الدين، وهذا المعنى خاصةً هو ما يرتقي من مجرد الرجولة - على عظم مكانتها - إلى أثر الرجولة في صنع الرجال، ليصير أبو بكر - الرجل الثاني في الإسلام - نموذجًا حيًّا للتدريب على صناعة الرجولة في مدرسة محمد صلى الله عليه وسلم. 2- تفاني أبي بكر في خدمة الدين وفي حُبِّ النبي صلى الله عليه وسلم، فكان علامةً بارزةً يعلمها الجميع في شتى العصور من شدة حبِّه للنبي. 3- نصرة الدين والمعتقد بكل الوسائل سواء الإنفاق من المال أو من الصحة أو الوقت أو العلم. 4- الحرص على وحدة المسلمين؛ دوره في حروب الردة من الحفاظ على جميع فرائض الإسلام. 5- الجهاد في سبيل الله؛ تجهيز الجيوش لفتح العراق والشام ونشر الإسلام. 6- التخطيط للمستقبل بناءً على دراسة وترتيب والشورى مع الصحابة سواء في تنظيم أمور الجهاد أو أمور الدولة الأخرى. 7- الاستفادة من الوقت، على قصر مدة حكم أبي بكر إلَّا أنها تحتوي على أحداث رُبَّما تتجاوز أعمال آخرين، فقد كان رحمه الله موفقًا في كل أعماله، وفي السعي لنَشْر الدين. 8- السعي للوصول إلى أعلى المنازل، كان أبو بكر الأول في كل شيء، ويجب على كل ساعٍ نحو التميُّز أن يقتدي بأبي بكر. 9- أفضل الرجال أحاسنهم أخلاقًا، كان أبو بكر من أفضل الناس أخلاقًا، وكان مشهورًا قبل الإسلام وبعده بحُسْن خُلُقِه، وبشدة شبهه في هذا بالنبي صلى الله عليه وسلم. 10- دراسة سِيَر العظماء والتأسِّي بهم يساعد الإنسان على الارتقاء في منازل الدنيا والآخرة. المراجع: 1- الإبانة الكبرى. 2- سيرة ابن هشام. 3- سيرة الخلفاء.
تعقبات الإمام الرسعني على المفسرين لفيصل عباد عبد ربه الهذلي صدر حديثًا كتاب: "تعقبات الإمام الرسعني على المفسرين"، تأليف: "فيصل بن عباد بن عبد ربه الهذلي"، تقديم: أ.د. "طه عابدين طه" أستاذ التفسير وعلومه بجامعة أم القرى، نشر: "دار الأوراق للنشر والتوزيع". وأصل هذا الكتاب أطروحة علمية لنيل درجة الماجستير في تخصص التفسير وعلوم القرآن، بكلية الدعوة وأصول الدين بجامعة أم القرى، تحت إشراف أ.د. "إسماعيل بن عبد الستار بن هادي الميمني"، وذلك عام 1434 / 1435 هـ . تتناول هذه الدراسة تعقبات الإمام الحافظ عز الدين عبد الرازق بن رزق الله الرسعني الحنبلي (ت 661 هـ) على غيره من المفسرين في تفسيره المسمى بـ"رموز الكنوز في تفسير الكتاب العزيز"، وهو من التفاسير عظيمة القدر، كثيرة النفع، حفل بالفوائد، والاستنباطات، والتعقبات، والاختيارات، والترجيحات. وقد أثنى العلماء على هذا التفسير، ووصفوه بأوصاف تدل على قيمته العلمية فقال فيه الذهبي: "صنف تصنيفًا حسنًا، يروي فيه بإسناده". وقال ابن رجب الحنبلي: "وصنف تفسيرًا حسنًا في أربعة مجلدات ضخمة، سماه "رموز الكنوز"، وفيه فوائد حسنة، ويروي فيه الأحاديث بإسناده". وقال ابن بدران عند حديثه عن تفاسير الحنابلة: "وأجل هذه التفاسير كلها وأنفعها، تفسير الإمام عبدالرازق بن رزق الله بن أبي بكر بن خلف بن أبي الهيجاء الرَّسْعَني، الفقيه المحدث الحنبلي". ثم قال: "وتفسيره "رموز الكنوز" وهو في أربعة مجلدات، وفيه فوائد حسنة، ويروي فيه أحاديث بإسناده، ويذكر الفروع الفقهية، مبينًا خلاف الأئمة فيها، وله مناقشات مع الزمخشري، ولقد اطلعت عليه، وارتويت من مورده العذب الزلال، وشنفت مسامعي بتحقيقه، وارتويت من كوثر تدقيقه، فرحم الله مؤلفه". وقد تعقب الباحث تعقبات الرسعني في تفسيره، في مواضع كثيرة، بلغت ستة عشر ومائة موضع، حيث نجد أن نقولات الرسعني عن غيره من الأئمة وافقهم في بعضها وتعقبهم في البعض الآخر، مما أوقد في ذهن الباحث فكرة البحث وهو تعقب تلك التعقبات بالتحرير والتحقيق للوقوف على الصواب قدر الإمكان، إلى جانب إلقاء الضوء على هذا التفسير، فهو من التفاسير الجامعة حيث جمع فيه مؤلفه إلى جانب التفسير: الحديث والفقه وكثيرًا من الفوائد والاستنباطات والترجيحات والتعقبات، ونجد أن من يتعقبهم الرسعني من كبار المفسرين كسعيد بن جبير، والضحاك، والسدي، ومقاتل، والفراء، والأخفش، والطبري، والزجاج، والماوردي، والواحدي، والزمخشري، وابن الجوزي، والعكبري.. وغيرهم، مما يدلل على قيمة موضوع البحث. وهذا البحث هو دراسة تفسيرية مقارنة، تُجمع فيها الأقوال، ويُبَيََنُ الراجح منها بدليله. ويتضح من خلال جمع هذه التعقبات والردود والزيادات والمناقشات أن مؤلفات التفسير ليست بجامدة، تنقل الأقوال فحسب؛ بل ناقشت وزادت ووافقت وخالفت، وكذلك خرجت بجديد يتفق مع أصول السلف في الجملة. ونجد أن الرسعني يتقعب الزمخشري في كثير من اعتزالياته ويرد عليها، ويبين المسلك الصحيح وفق منهج أهل السنة والجماعة مما يدلل على كون هذا التفسير من تفاسير أهل السنة والجماعة، إلى جانب أن الإمام الرسعني يروي الأحاديث بإسناده إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - حيث ذكر ما يزيد على خمسمائة حديث، وهذا مما يقوي الجوانب التفسيرية في تفسيره. ويتكون البحث من مقدمة وقسمين وخاتمة وفهارس لخدمة الدراسة على النحو التالي: المقدمة وتشمل: أهمية الموضوع وأسباب اختياره، وأهداف البحث، والدراسات السابقة، وحدود البحث، وخطة البحث، والمنهج المتبع في البحث. القسم الأول: الدراسة النظرية وتشتمل على فصلين: الفصل الأول: التعريف بالإمام الرسعني وبكتابه "رموز الكنوز في تفسير الكتاب العزيز" في مبحثين. الفصل الثاني: معنى التعقبات، وصيغها عند الرسعني، ومنهجه فيها، وفيه مبحثان. القسم الثاني : الدراسة التطبيقية، وتشمل تعقبات الإمام عبد الرازق الرسعني التفسيرية، في كامل القرآن، وهي مرتبة على ترتيب السور. خاتمة: في نتائج وتوصيات البحث. والرسعني هو العلامة عبد الرازق بن رزق الله بن أبي بكر بن خلف الإمام الحافظ المفسر عز الدين أبو محمد الرسعني الحنبلي المحدث. كان عالمًا ومفسرًا، وكان إمامًا محدثًا أديبًا شاعرًا دينًا صالحًا. ولد برأس عين سنة تسع وثمانين وخمسمائة. وسمع أبا اليمن الكندي والأفتخار الهاشمي وجماعة من العلماء. روى عنه الدمياطي والأبرقوهي.. كان أحد علماء الحنابلة، وعالم الجزيرة الفراتية في عصره، رحل إلى بغداد ودمشق وحلب في طلب الحديث، وولي مشيخة دار الحديث في الموصل. وقد كانت وفاته في شهر ربيع الآخر في سنة إحدى وستين وستمائة. من مؤلفاته: • "درة القاري في الفرق بين الضاد والظاء": في التجويد. هي مخطوطة تحتوي على ورقتين يتضمَّنان منظومةً من 32 بيتًا، أوضحَ فيها الإمام عز الدين الرسعني الفرق بين الضاد والظاء في القرآن الكريم. • "رموز الكنوز في تفسير الكتاب العزيز": في التفسير. حيث اعتمد مؤلفه في بيان معاني الآيات أحسن طرق التفسير، فهو يفسر الآية بالقرآن وقراءاته، ثم بالأحاديث الواردة، ثم بأقوال الصحابة والتابعين والأئمة المجتهدين، مع إيراد أسباب النزول المروية عنهم، ثم باللغة العربية، ويسوق الأحاديث النبوية بأسانيده المتصلة إلى الرسول، والتفسير شامل أنواع شتى من فنون التفسير.
خلق آدم عليه السلام وقد جاء في (البداية والنهاية) لشيخنا ابن كثير رحمه الله في باب "خلق آدم" ما يلي: أولًا: خلق آدم وذريته: الأحاديث: عن خلق آدم كما ذكر ابن كثير، قال الإمام أحمد: عن أبي موسى، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إنَّ اللهَ خلق آدم من قبضةٍ قبضَها من جميع الأرض، فجاء بنو آدم على قدر الأرض، فجاء منهم الأبيض، والأحمر، والأسود، وبين ذلك، والخبيث، والطيب، والسهل، والحزن، وبين ذلك))؛ رواه أبو داود والترمذي (قال: حسن صحيح) وابن حِبَّان (في صحيحه). وقد جاء في البداية والنهاية: عن أبي هريرة، عن ابنِ عباسٍ، وعن ابنِ مسعودٍ، وعن ناسٍ من أصحابِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، قالوا: فبعث اللهُ عزَّ وجلَّ جبريلَ في الأرضِ ليأتيَه بطينٍ منها، فقالت الأرضُ: أعوذُ بالله منك إن تنقُص مني أو تُشينني فرجع، ولم يأخذْ، وقال: ربِّ إنها عاذت بك فأعَذْتُها، فبعث ميكائيلَ فعاذت منه فأعاذها، فرجع فقال كما قال جبريلُ، فبعث ملَكَ الموتِ فعاذَتْ منه، فقال: وأنا أعوذ باللهِ أن أرجعَ ولم أُنفِّذْ أمرَه، فأخذ من وجه الأرضِ وخلَطه ولم يأخذ من مكانٍ واحدٍ، وأخذ من تُربةٍ بيضاءَ وحمراءَ وسوداءَ؛ فلذلك خرج بنو آدمَ مختلفين، فصعِد به، فبلَّ التُّرابَ حتى عاد طينًا لازِبًا (اللازِبُ: هو الذي يلزق بعضُه ببعضٍ)، ثم قال للملائكةِ: إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ، فَإِذَا سَوَّيتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ، فخلقه اللهُ بيده؛ لئلا يتكبَّر إبليسُ عنه، فخلقه بشرًا، فكان جسدًا من طينٍ أربعين سنةً من مقدارِ يومِ الجمعةِ، فمرَّت به الملائكةُ ففزِعوا منه لمَّا رأوه، وكان أشدَّهم منه فزعًا إبليسُ، فكان يمرُّ به فيضربه فيصوِّتُ الجسدُ كما يصوِّتُ الفُخَّارُ يكون له صَلْصَلةٌ، فذلك حين يقول: ﴿ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ ﴾ [الرحمن: 14] ويقول – أي: إبليس - لأمرٍ ما خُلقتَ، ودخل من فيه وخرج من دُبُرِه، وقال للملائكةِ: لا ترهبوا من هذا؛ فإنَّ ربَّكم صمَدٌ، وهذا أجوفُ، لئن سُلِّطتُ عليه لأُهلِكنَّه، فلما بلغ الحينُ الذي يريد اللهُ عزَّ وجلَّ أن ينفخ فيه الرُّوحَ، قال للملائكةِ: إذا نفختُ فيه من رُوحي، فاسجدوا له، فلمَّا نفخ فيه الرُّوحَ فدخل الرُّوحُ في رأسِه عطِسَ، فقالت الملائكةُ: قلِ الحمدُ لله، فقال: الحمدُ لله، فقال له اللهُ: رحمك ربُّك، فلمَّا دخلت الروحُ في عينَيه نظر إلى ثمارِ الجنةِ، فلما دخلت الرُّوحُ في جوفِه اشتهى الطعامَ، فوثب قبل أن تبلغَ الرُّوحُ إلى رِجلَيه عَجلان إلى ثمارِ الجنةِ، وذلك حين يقول اللهُ تعالى: ﴿ خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ ﴾ [الأنبياء: 37] ﴿ فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ * إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ ﴾ [الحجر: 30، 31]. (قال المُحدِّث: لبعضه شاهد وإن كان كثيرٌ منه مُتلقًّى من الإسرائيليات). ومن الشواهد لهذا: ♦ ماروى الإمام أحمد عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لما خلق الله آدم تركه ما شاء أن يدعه، فجعل إبليس يطيف به، فلمَّا رآه أجوف عرَف أنه خلق لا يتمالك)). ♦ وما روى ابن حِبَّان في الصحيح عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لما نفخ في آدم فبلغ الروح رأسه عطس، فقال: الحمد لله ربِّ العالمين، فقال له تبارك وتعالى: يرحمك الله)). ♦ وما روى البزَّار عن عمر بن الخطاب عن أبي هريرة رضي الله عنهما قال: ((لمَّا خلق الله آدم عطس، فقال: الحمد لله، فقال له ربُّه: رحمك ربُّك يا آدم))، وهو إسنادٌ لا بأس به، ولم يخرجوه. ♦ وما روى ابن عساكر عن عمر بن عبدالعزيز رضي الله عنه قال: ((لما أُمِرت الملائكة بالسجود كان أول مَن سجد منهم إسرافيل، فآتاه الله أن كتب القرآن في جبهته)). ♦ وقال الحافظ أبو يعلى عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إنَّ اللهَ خَلَق آدمَ من ترابٍ، ثم جعله طينًا ثم تركه، حتى إذا كان حمأ مسنونًا خلقه الله، وصوَّره، ثم تركه حتى إذا كان صلصالًا كالفخار، قال: فكان إبليس يمُرُّ به، فيقول: لقد خلقت لأمر عظيم، ثم نفخ الله فيه من رُوحه، فكان أول ما جرى فيه الروح: بصره وخياشيمه، فعطس، فلقَّاه اللهُ رحمةَ ربِّه، فقال الله: يرحمك ربك، ثم قال الله: يا آدم، اذهب إلى هؤلاء النفر، فقل لهم: فانظر ماذا يقولون؟ فجاء فسلَّم عليهم، فقالوا: وعليك السلام ورحمة الله وبركاته، فقال: يا آدم، هذا تحيتك وتحية ذريتك، قال: يا رب، وما ذريتي؟ قال: اختر يدي يا آدم، قال: أختار يمين ربِّي، وكلتا يدي ربي يمين، وبسط كفَّه، فإذا من هو كائن من ذريته في كفِّ الرحمن، فإذا رجال منهم أفواههم النور، فإذا رجل يعجب آدم نوره، قال: يا رب، من هذا؟ قال: ابنك داود، قال: يا رب، فكم جعلت له من العمر؟ قال: جعلت له ستين، قال: يا رب، فأتِمَّ له من عمري حتى يكون له من العمر مائة سنة، ففعل الله ذلك، وأشهد على ذلك، فلما نفد عمر آدم بعث الله ملك الموت، فقال آدم: أو لم يبق من عمري أربعون سنة؟ قال له الملك: أولم تُعطِها ابنك داود؟ فجحد ذلك، فجحدت ذُريَّته، ونسي، فنسيت ذريته))، وقد روي هذا الحديث البزَّار والترمذي والنسائي عن أبي هريرة. ♦ وقال الترمذي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لما خلق الله آدم مسح ظهره، فسقط من ظهره كل نسمة هو خالقها من ذريته إلى يوم القيامة، وجعل بين عيني كل إنسان منهم وبيصًا من نور، ثم عرضهم على آدم، فقال: أي رب، من هؤلاء؟ قال: هؤلاء ذريتك، فرأى رجلًا منهم، فأعجبه وبيص ما بين عينيه، فقال: أي رب، من هذا؟ قال: هذا رجل من آخر الأمم من ذريتك يقال له داود، قال: رب وكم جعلت عمره؟ قال: ستين سنةً، قال: أي رب، زده من عمري أربعين سنة، فلما انقضى عمر آدم جاءه ملك الموت، قال: أولم يبق من عمري أربعون سنة؟ قال: أولم تعطها ابنك داود، قال: فجحد فجحدت ذريته، ونسي آدم فنسيت ذريته، وخطئ آدم فخطئت ذريته))، ثم قال الترمذي: حسن صحيح. وقد روي من غير وجه عن أبي هريرة، ورواه الحاكم في المستدرك من حديث أبي نعيم الفضل بن دكين، وقال: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه. ♦ وروى ابن أبي حاتم عن أبي هريرة مرفوعًا فذكره، وفيه ((ثم عرضهم على آدم، فقال: يا آدم، هؤلاء ذريتك، وإذا فيهم الأجذم، والأبرص، والأعمى، وأنواع الأسقام، فقال آدم: يا رب، لم فعلت هذا بذريتي؟ قال: كي تشكر نعمتي))، ثم ذكر قصة داود. ♦ وروى الإمام أحمد عن أبي الدرداء، عن النبي صلي الله عليه وسلم قال: ((خلق الله آدم حين خلقه، فضرب كتفه اليمنى فأخرج ذريةً بيضاء كأنهم الدَّرُّ، وضرب كتفه اليسرى فأخرج ذريةً سوداء كأنهم الحمم، فقال للذي في يمينه إلى الجنة ولا أبالي، وقال للذي في كتفه اليسرى إلى النار ولا أبالي)). ♦ وروى ابن أبي الدنيا عن الحسن قال: ((خلق الله آدم حين خلقه فأخرج أهل الجنة من صفحته اليمنى، وأخرج أهل النار من صفحته اليسرى، فألقوا على وجه الأرض، منهم الأعمى، والأصم، والمبتلى، فقال آدم: يا رب، ألا سويت بين ولدي؟ قال: يا آدم، إني أردت أن أشكر))، وهكذا روى عبدالرزاق، عن معمر، عن قتادة، عن الحسن بنحوه. ♦ وقد روى أبو حاتم، وابن حِبَّان في (صحيحه) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((.. قال: هؤلاء ذريتك، وإذا كل إنسان منهم مكتوب عمره بين عينيه، وإذا فيهم رجل أضوؤهم أو من أضوئهم، لم يكتب له إلا أربعون سنةً، قال: يا رب، ما هذا؟ قال: هذا ابنك داود وقد كتب الله عمره أربعين سنةً، قال: أي رب، زِدْ في عمره، فقال: ذاك الذي كتب له، قال: فإني قد جعلت له من عمري ستين سنةً، قال: أنت وذاك، اسكن الجنة، فسكن الجنة ما شاء الله، ثم هبط منها، وكان آدم يعد لنفسه، فأتاه ملك الموت، فقال له آدم: قد عجلت؛ قد كتب لي ألف سنة، قال: بلى؛ ولكنك جعلت لابنك داود منها ستين سنةً، فجحد آدم فجحدت ذريته، ونسي فنسيت ذريته، فيومئذٍ أمر بالكتاب والشهود))؛ هكذا بلفظه. ♦ وروى البخاري عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((خلق الله آدم وطوله ستون ذراعًا، ثم قال: اذهب فسلِّم على أولئك من الملائكة، واستمع ما يجيبونك فإنها تحيَّتُك وتحية ذُريَّتِك، فقال: السلام عليكم، فقالوا: السلام عليك ورحمة الله، فزادوه "ورحمة الله" فكل من يدخل الجنة على صورة آدم فلم يزل الخلق ينقص حتى الآن)). ♦ وروى الإمام أحمد عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((كان طول آدم ستين ذراعًا في سبع أذرع عرضًا))؛ انفرد به أحمد. ♦ وروى الإمام أحمد عن ابن عباس قال: لما نزلت آية الدين، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنَّ أول مَنْ جحد آدم، إن أول من جحد آدم، إن أول من جحد آدم، إن الله لما خلق آدم ومسح ظهره، فأخرج منه ما هو ذارئ إلى يوم القيامة، فجعل يعرض ذريته عليه، فرأى فيهم رجلًا يزهر، قال: أي رب، من هذا؟ قال: هذا ابنك داود، قال: أي رب، كم عمره؟ قال: ستون عامًا، قال: أي رب، زد في عمره، قال: لا إلا أن أزيده من عمرك، وكان عمر آدم ألف عام، فزاده أربعين عامًا، فكتب الله عليه بذلك كتابًا، وأشهد عليه الملائكة، فلما احتضر آدم أتته الملائكة لقبضه، قال: إنه قد بقي من عمري أربعون عامًا، فقيل له: إنك قد وهبتها لابنك داود، قال: ما فعلت، وأبرز الله عليه الكتاب، وشهدت عليه الملائكة)). ♦ وروى الطبراني عن ابن عباس وغير واحد، عن الحسن قال: لما نزلت آية الدين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن أول من جحد آدم ثلاثًا))، وذكر الحديث. ♦ وروى الإمام مالك بن أنس في الموطأ: أن عمر بن الخطاب سئل عن هذه الآية: ﴿ وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى ﴾ [الأعراف: 172]، فقال عمر بن الخطاب: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يُسأل عنها، فقال: ((إن الله خلق آدم عليه السلام، ثم مسح ظهره بيمينه فاستخرج منه ذرية، قال: خلقت هؤلاء للجنة، وبعمل أهل الجنة يعملون، ثم مسح ظهره فاستخرج منه ذرية، قال: خلقت هؤلاء للنار، وبعمل أهل النار يعملون))، فقال رجل: يا رسول الله، ففيمَ العمل؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا خلق الله العبد للجنة استعمله بعمل أهل الجنة حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة، فيدخل به الجنة، وإذا خلق الله العبد للنار، استعمله بعمل أهل النار حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار، فيدخل به النار)) وهكذا رواه الإمام أحمد، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو حاتم بن حبان في (صحيحه) من طرق عن الإمام مالك. ثانيًا: إقرار ذرية آدم بالوحدانية: ثم قال ابن كثير تعقيبًا على ما أورد من الأحاديث عن خلق آدم وذريته: وهذه الأحاديث كلها دالَّة على استخراجه تعالى ذرية آدم من ظهره كالذَّرِّ، وقسمتهم قسمين: أهل اليمين، وأهل الشمال. وقال: هؤلاء للجنة ولا أبالي، وهؤلاء للنار ولا أبالي، فأمَّا الإشهاد عليهم واستنطاقهم بالإقرار بالوحدانية، فلم يجئ في الأحاديث الثابتة، وتفسير الآية 172 من سورة الأعراف وحملها على هذا فيه نظر كما بيَّنَّاه في التفسير، والله أعلم. فأمَّا الحديث الذي رواه الإمام أحمد: عن كلثوم بن جبر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله أخذ الميثاق من ظهر آدم عليه السلام بنَعْمانَ يومَ عرفةَ، فأخرج من صلبه كل ذرية ذرأها، فنثرها بين يديه ثم كلمهم قبلًا، قال: ﴿ وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ ﴾ [الأعراف: 172، 173]، فهو بإسناد جيد قوي على شرط مسلم. رواه النسائي، وابن جرير، والحاكم في (مستدركه) وقال: صحيح الإسناد، ولم يخرجاه، فروي عن كلثوم بن جبر مرفوعًا، وموقوفًا، وكذا رُوي عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس موقوفًا، كما روي عن عبدالله بن عمر، موقوفًا، ومرفوعًا، والموقوف أصح. واستأنس القائلون بهذا القول، وهو أخذ الميثاق على الذُّريَّة وهم الجمهور بما قال الإمام أحمد: عن أنس بن مالك، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((يُقال للرجل من أهل النار يوم القيامة: لو كان لك ما على الأرض من شيء أكنت مفتديًا به؟ قال: فيقول نعم، فيقول: قد أردت منك ما هو أهون من ذلك، قد أخذت عليك في ظهر آدم ألَّا تشرك بي شيئًا، فأبيت إلا أن تشرك بي))؛ أخرجاه من حديث شعبة به. وقال أبو جعفر الرازي: عن أبي بن كعب، في قوله تعالى: ﴿ وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ ﴾ [الأعراف: 172] الآية، والتي بعدها، قال: فجمعهم له يومئذٍ جميعًا ما هو كائن منه إلى يوم القيامة، فخلقهم، ثم صوَّرهم، ثم استنطقهم، فتكلَّموا، وأخذ عليهم العهد والميثاق، وأشهد عليهم أنفسهم، ﴿ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى ﴾ [الأعراف: 172] الآية، قال: فإني أشهد عليكم السماوات السبع، والأرضين السبع، أشهد عليكم أباكم آدم، ألَّا تقولوا يوم القيامة: لم نعلم بهذا، اعلموا أنه لا إله غيري، ولا رب غيري، ولا تشركوا بي شيئًا، وإني سأرسل إليكم رسلًا، ينذرونكم عهدي، وميثاقي، وأنزل عليكم كتابي، قالوا: نشهد أنك ربنا، وإلهنا، لا رب لنا غيرك، ولا إله لنا غيرك، فأقروا له يومئذٍ بالطاعة، ورفع أباهم آدم، فنظر إليهم، فرأى فيهم الغني، والفقير، وحسن الصورة، ودون ذلك، فقال: يا رب، لو سوَّيْت بين عبادك؟ فقال: إني أحببت أن أشكر، ورأى فيهم الأنبياء مثل السرج، عليهم النور، وخصوا بميثاق آخر من الرسالة، والنبوة، فهو الذي يقول الله تعالى: ﴿ وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا ﴾ [الأحزاب: 7]، وهو الذي يقول: ﴿ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ﴾ [الروم: 30]، وفي ذلك قال: ﴿ هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولَى ﴾ [النجم: 56]، وفي ذلك قال: ﴿ وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ ﴾ [الأعراف: 102]. رواه الأئمة: عبدالله بن أحمد، وابن أبي حاتم، وابن جرير، وابن مردويه، في تفاسيرهم، من طريق أبي جعفر، وروي عن مجاهد، وعكرمة، وسعيد بن جبير، والحسن البصري، وقتادة، والسدي، وغير واحد من علماء السلف، بسياقات توافق هذه الأحاديث. ثم يقول ابن كثير: وتقدَّم أنه تعالى، لمَّا أمر الملائكة بالسجود لآدم، امتثلوا كلهم الأمر الإلهي، وامتنع إبليس من السجود له؛ حسدًا وعداوةً له، فطرده الله وأبعده، وأخرجه من الحضرة الإلهية، ونفاه عنها، وأهبطه إلى الأرض، طريدًا ملعونًا شيطانًا رجيمًا. روى الإمام أحمد عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد، اعتزل الشيطان يبكي، يقول: يا ويله! أُمِر ابن آدم بالسجود فسجد، فله الجنة، وأُمِرت بالسجود فعصيت، فلي النار))؛ ورواه مسلم من حديث وكيع، وأبي معاوية. ثم لما أسكن آدم الجنة التي أسكنها، سواء كانت في السماء أو في الأرض، على ما تقدَّم من الخلاف فيه، أقام بها هو وزوجته حواء عليهما السلام، يأكلان منها رغدًا حيث شاءا، فلما أكلا من الشجرة، التي نُهيا عنها، سلبا ما كانا فيه من اللباس، وأُهْبِطا إلى الأرض. ثالثًا: خروج آدم من الجنة: وقد ذكرنا الاختلاف في مواضع هبوطه منها، واختلفوا في مقدار مقامه في الجنة؛ فقيل: بعض يوم من أيام الدنيا، وقد قدمنا ما رواه مسلم، عن أبي هريرة مرفوعًا ((وخلق آدم في آخر ساعة من ساعات يوم الجمعة))، وتقدَّم أيضًا حديثه عنه، وفيه- يعني: يوم الجمعة- خُلِق آدم، وفيه أُخرِج منها. ♦ فإن كان اليوم الذي خلق فيه، فيه أخرج، وقلنا: إن الأيام الستة كهذه الأيام، فقد لبث بعض يوم من هذه، وفي هذا نظر، وإن كان إخراجه في غير اليوم الذي خلق فيه. ♦ أو قلنا: بأن تلك الأيام مقدارها ستة آلاف سنة، كما تقدَّم عن ابن عباس، ومجاهد، والضَّحَّاك، واختاره ابن جرير، فقد لبث هناك مدة طويلة، قال ابن جرير: ومعلوم أنه خلق في آخر ساعة من يوم الجمعة، والساعة منه: ثلاث وثمانون سنة وأربعة أشهر، فمكث مصورًا طينًا قبل أن ينفخ فيه الروح أربعين سنةً، وأقام في الجنة قبل أن يهبط ثلاثًا وأربعين سنة وأربعة أشهر، والله تعالى أعلم. ♦ وقد روى عبدالرزاق: أنه كان لما أهبط رجلاه في الأرض، ورأسه في السماء، فحطه الله إلى ستين ذراعًا، وقد روي عن ابن عباس نحوه، وفي هذا نظر؛ لما تقدَّم من الحديث المتفق على صحته، عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله خلق آدم وطوله ستون ذراعًا، فلم يزل الخلق ينقص حتى الآن))، وهذا يقتضي أنه خلق كذلك لا أطول من ستين ذراعًا، وأن ذريته لم يزالوا يتناقص خلقهم حتى الآن. ♦ وذكر ابن جرير، عن ابن عباس، أن الله قال: ((يا آدم، إن لي حرمًا بحيال عرشي فانطلق فابْنِ لي فيه بيتًا، فطُفْ به كما تطوف ملائكتي بعرشي))، وأرسل الله له ملكًا فعرفه مكانه، وعلمه المناسك، وذكر أن موضع كل خطوة خطاها آدم، صارت قرية بعد ذلك، وعنه (أي: ابن عباس): أن أول طعام أكله آدم في الأرض، أن جاءه جبريل بسبع حبَّات من حِنْطة، فقال: ما هذا؟ قال: هذا من الشجرة التي نُهيت عنها، فأكلت منها، فقال: وما أصنع بهذا؟ قال: ابذره في الأرض فبذره، وكان كل حبة منها زنتها أزيد من مائة ألف، فنبتت، فحصده، ثم درسه، ثم ذراه، ثم طحنه، ثم عجنه، ثم خبزه، فأكله بعد جهد عظيم، وتعب، ونكد، وذلك قوله تعالى: ﴿ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى ﴾ [طه: 117]، وكان أول كسوتهما: من شعر الضأن، جزَّاه، ثم غَزَلاه، فنسج آدم له جُبَّةً، ولحواء دِرْعًا، وخِمارًا. واختلفوا: هل ولد لهما بالجنة شيء من الأولاد؟ فقيل: لم يولد لهما إلا في الأرض، وقيل: بل ولد لهما فيها، فكان قابيل، وأخته، ممن ولد بها، والله أعلم، وذكروا أنه كان يولد له في كل بطن ذكر وأنثى، وأمر أن يزوج كل ابن أخت أخيه التي ولدت معه، والآخر بالأخرى، وهلم جرًّا، ولم يكن تحل أخت لأخيها الذي ولدت معه.
مصر والحضارة الإسلامية مصر: والمِصْرُ يُطلَق على البلد من البلدان، ومنه قوله تعالى: ﴿ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ ﴾ [البقرة: 61] ﴿ اهْبِطُوا مِصْرًا ﴾؛ يعني: انزلوا بلدًا من البلدان، والجمع: أمصار، ومنه ما جاء في سُنَن الترمذي، من حديث فاطمة بنت قيس رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في شأن الدَّجَّال: ((وإنَّه يدخل الأمصار كلها إلا طيبة، وطيبة المدينة))، يدخل الأمصار كلها؛ أي: البلدان كلها. ومِصْرُنا هذه صارت علمًا بالغلبة على جميع الأمصار بحيث إذا قلنا: مصر، لا يخطر على بالِكَ سِوى هذا البلد الأمين؛ كالكتاب صار علمًا بالغلبة على "القرآن الكريم"؛ كما في قوله تعالى: ﴿ الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ ﴾ [البقرة: 1، 2] ، وقوله تعالى: ﴿ الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ ﴾ [يوسف: 1] وقوله تعالى: ﴿ كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾ [ص: 29]، وقوله تعالى: ﴿ كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ ﴾ [هود: 1]. فمع أن التوراة كتاب والإنجيل كتاب؛ إلا أنه إذا قلنا: ﴿ ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ ﴾؛ يعني: لا شَكَّ فيه، انصرفت الأذهان إلى القرآن الكريم. والكتاب إنما صار علمًا بالغلبة على القرآن الكريم؛ ذلك لأنه حوى بين دفَّتَيْه جميع أوصاف الكتاب السليمة، ولأنه هكذا أودع الله فيه ما جعله مهيمنًا مسيطرًا على جميع الكُتُب المُنزَّلة قبله، قال تعالى: ﴿ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ ﴾ [المائدة: 48]. ولعلَّ مِصْرنا هذه صارت عَلَمًا بالغلبة عن الأمصار؛ لأنَّ الله تبارك وتعالى أوْدَع فيها من الخيرات والطيِّبات ما أهَّلَها لذلك، قال سعيد بن منصور: سمعتُ مالك بن أنس يقول: "مِصْر خزانة الأرض" أما سمِعْتَ قوله تعالى: ﴿ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ ﴾ [يوسف: 55] حتى إن كان المقصود من خزائن الأرض: خزائن أرض مصر فقط، فإنه لا خزانة إلا إن كان هناك مخزون وفائض وزائد عن الحاجة كثيرًا، وإلَّا فلا حاجة للخزانة. الحضارة: هي اسم لما أحدثه وأعدَّه أهلُ الحضر من الكماليات والتحسينيات مثل الإبداع في العمران، والتأنُّق في الملابس، والمبالغة في مواكبة الواقع، والتعامل مع المادة، والجمع حضارات، والمصدر حضارة. وفي مقابل الحضارة: البداوة؛ وهم سكان البادية من أهل البَدْوِ، وهم أصل الحضارة، والحضارة إنما هي فرع نشأ عنها؛ لأن الحياة البدويَّة تهتمُّ بالضروريَّات، والضروريَّات تنشأ عنها التحسينيَّات والكماليَّات، فأهل الحضر إنما اهتمُّوا بالأمور التحسينيَّة والكماليَّة؛ لأنهم حقَّقُوا الضروريَّات أولًا. كلمة الإنسانية: وهي خلاف البهيمية، وهي: مجموع أفراد النوع الإنساني. ثانيًا- مقارنة مبسطة بين الحضارة الشرقية الإسلامية والحضارة الغربية العلمانية: أولًا- من حيث الحياة الاجتماعية: فإن الحضارة الإسلامية لا تفاضل بين أتباعها من حيث اللغة، ولا اللون، ولا العِرْق، ولا النوع، ولا القبليَّة، ولا السِّن؛ إنما الميزان فيها بالتقوى، فالكريم في الحضارة الإسلامية من كان لله عز وجل تقيًّا، قال تعالى: ﴿ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ﴾ [الحجرات: 13]. فإنَّ الحضارة الإسلامية جمعت تحت رايتها: بلال الحبشي، وصهيب الرومي، وسلمان الفارسي، وأبا ذرٍّ الغفاري، وأبا بكر العربي القرشي، كُلُّهم اجتمعوا تحت راية واحدة؛ راية الإسلام. وإن موسم الحج الأكبر دليل واقعي على ذلك، فإنك ترى مع اختلاف ألوانهم وتفرُّق بلدانهم وتعدُّد لهجاتهم ولغاتهم إلا أن لباسهم واحد، وهتافهم واحد، يطوفون نحو كعبة واحدة لرَبٍّ واحدٍ، جمعهم على دين واحد، فهذه هي حضارتُنا عباد الله، وهذا سيدنا النبي صلى الله عليه وسلم، فيما رواه الإمام أحمد في مسنده من حديث أبي نضرة العبدي، قال: حدثني من سمع خطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم في وسط أيام التشريق، فقال: ((يا أيها الناس، ألا إن ربكم واحد، وإنَّ أباكم واحد، ألا لا فضل لعربيٍّ على عجميٍّ، ولا لعجميٍّ على عربيٍّ، ولا أحمر على أسود، ولا أسود على أحمر، إلَّا بالتقوى، أبلغت))، قالوا: بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم. أمَّا في الحضارة الغربية العلمانية المُتخلِّفة، فإنها تُمايز بين الناس بلون بشرتهم، فإلى سنة 70 من القرن الماضي كان السُّود مضطهدين في أمريكا؛ بل في 25 من مايو في هذا القرن حدثت حادثة في أمريكا أنَّ رجلًا أبيض قَتَلَ رجلًا أسود. ويحضرني عندما طلب المقوقس من عمرو بن العاص رضي الله عنه رُسُلًا للتفاوض، وكان المسلمون قد دخلوا مصر فاتحين، فأرسل إليه عمرو بن العاص رضي الله عنه عبادة بن الصامت في بعض نَفَرٍ من أصحابه، وكان عبادة أسود شديد السواد رضي الله عنه، فلمَّا دخل على المقوقس فزع وقال: نحُّوا الأسْوَدَ عني، قالوا: هذا سيِّدُنا وخيرُنا والمُقدَّم علينا، قال: كيف تُقدِّمون عليكم عَبْدًا أسود؟! قالوا: إننا لا نقيس الناس فينا بألوانهم، فهو أفضلُنا. ثانيًا- إذًا فالحضارة الإسلامية تساوي بين من يدينون لها، فلا تفاضل بينهم بحسب نوعهم أو لونهم أو بلدهم أو لغتهم أو عرقهم, فالكُلُّ في الحضارة الإسلامية ينقاد لشريعتها وقوانينها ولو كان ابن مَنْ. فهذا سيِّدُنا النبي صلى الله عليه وسلم، فيما رواه البخاري من حديث عروة بن الزبير رضي الله عنهما: "أن امرأةً سرقت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففزع قومها إلى أسامة بن زيد يستشفعونه، فلما كلَّم أسامة رسول الله صلى الله عليه وسلم، غضب رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((تُكلِّمني في حَدٍّ من حدود الله؟!))، ثم خطب في الناس فقال: ((أما بعد، فإنما أهلك الناس قبلكم أنهم كانوا إذا سرَقَ فيهم الشريفُ تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحَدَّ، والذي نفس محمد بيده لو أن فاطمة بنت محمد سرقَتْ لقطعْتُ يدها)). ففي الحضارة الإسلامية لا طبقية لا عنصرية لا محسوبية؛ إنما الكل فيها يدين لله بالعبودية. ولم تعرف مصر الحضارة إلا عندما دخلها الإسلام، وإذا نظرنا إلى مصر قبل الإسلام فتخلُّف وعُنْصريَّة وطبقيَّة ورجعيَّة؛ ففي عهد فرعون ومجتمعه كان الناس ينقسمون في هذا الوقت إلى طبقات: ١- الطبقة الأولى: فرعون وبيته، وهم طبقة الآلهة، يدين كل الشعب لهم، يَسألون ولا يُسألون، يُعبدون ولا يَعبدون، قال تعالى: ﴿ وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَاقَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ ﴾ [الزخرف: 51]، وقوله تعالى: ﴿ وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَاأَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَاهَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ ﴾ [القصص: 38]. قال تعالى: ﴿ فَحَشَرَ فَنَادَى * فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى * فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى ﴾ [النازعات: 23 - 26]. ٢- الطبقة الثانية: وهم المصريُّون أهل البلاد الأصلية، لهم الصدارة والريادة، وهم الجنس المفضل على غيرهم. ٣- الطبقة الثالثة وهم غير المصريين من العبرانيين وغيرهم، وهذه طبقة مسخرة مستباحة، ليس لها حقوق ولا واجبات، قال تعالى: ﴿ إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ﴾ [القصص: 4]. وبقي عليك الآن أن تعتزَّ بدينك، وأن تعتز بحضارتك الإسلامية؛ لأن هذا الدين نسبه الله تعالى لنفسه، قال تعالى: ﴿ أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ ﴾ [آل عمران: 83]، قال تعالى: ﴿ إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ ﴾ [آل عمران: 19]. وأخرج البخاري في صحيحه من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه "أنَّ رجلًا سأله: أفَرَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين؟ قال: فأمَّا رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يفِرَّ، وإنه لعلى بغلته البيضاء، وإن أبا سفيان آخذ بلجامها والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((أنا النبيُّ لا كَذِب، أنا ابنُ عبد المطلب))، فلا بُدَّ عليك أن تفرح بالإسلام، وأن تفرح بالقرآن والسُّنَّة وبحضارة الأمة، وبتاريخ أجدادِك الذين استخلفهم الله منكم على الناس كافة حتى حكموا العالم.
موقف غوستاف لوبون من رسول الإسلام محمد صلى الله عليه وسلم تعدَّدت وتنوَّعت مدارس الاستشراق بتعدُّد أهدافها ومناهجها ومشاربها ومآربها؛ لكنها اتفقت جميعًا على العداء للإسلام والمسلمين منطلقةً من أصول عقائدية تدعمها دول استعمارية ذات نزعة صليبية تباركها كنيسة حاقدة على دين الإسلام ونبي الإسلام وجميع المسلمين. خرَّجَتْ هذه المدارس عددًا كبيرًا من الشخصيات العلمية الموسوعية التي تخصَّصَتْ في دراسة الإسلام وتعمَّقت في العلوم الإسلامية وكل ما أنتجته الحضارة الإسلامية من علومٍ وفكرٍ، كما توسَّعت في دقة التخصُّص لتشمل كافة العلوم التي أنتجتها تلك الحضارة، ولم تغفل عن تقسيم هذه الدراسات إلى تخصُّصات وفروع محددة، وكان محور التركيز في تناول القرآن الكريم ومصدره، والرسول وحقيقة الرسالة وطبيعة الوحي. تناول هؤلاء الدارسون هذينِ الموضوعَينِ بمنهجيَّات مختلفة غلب عليها الحكم المسبق الناتج عن خلفيَّات سياسية ودينية، وندر ما قامت دراساتهم على الموضوعية العلمية أو اتباع مناهج البحث العلمي المحايد أو القائم على منهج الحقيقة لذاتها؛ لا لتعزيز حكم مسبق، وتحقيق غاية معقودة. وللإنصاف وجد من هؤلاء الباحثين من كان له شيء من الإنصاف أو الاقتراب منه، ومن هؤلاء الذين كانوا أقرب إلى الموضوعية والتقيُّد بالمنهجية العلمية التي هي الأداة الوحيدة للوصول للحقيقة، هو المستشرق "غوستاف لوبون" في تناوله لشخصية الرسول صلى الله عليه أفضل الصلاة والسلام. ولد لوبون في (7 مايو 1841 – وتوفي في 13 ديسمبر 1931)، وكان طبيبًا ومؤرخًا فرنسيًّا، عمل في أوروبا وآسيا وشمال إفريقيا، كتب في علم الآثار وعلم الإنثروبولوجيا. من أشهر آثاره العلمية: حضارة العرب، وحضارات الهند، والحضارة المصرية، وحضارة العرب في الأندلس، وسر تقدُّم الأمم، وروح الاجتماع الذي كان إنجازه الأول. هو أحد أشهر فلاسفة الغرب، وأحد الذين امتدحوا الأمة العربية والحضارة الإسلامية؛ لم يسر "غوستاف لوبون" على نهج معظم مستشرقي أوروبا، حيث أكَّد وجود فضلٍ للحضارة الإسلامية على الحضارة الغربية المعاصرة. قام "غوستاف لوبون" برحلاتٍ عدة ومباحثات اجتماعية خلال حياته في العالم الإسلامي، أيقن بموجبها أن المسلمين هم من مَدَّنوا أوروبا، وقد عبَّر عن آرائه عن المسلمين وحضارتهم في كتاب حضارة العرب الذي سلك فيه طريقًا نادرًا؛ إذ جمع فيه عناصر عديدة؛ ممَّا أثرت به الحضارة العربية في العالم، وبحث في قيام دولتهم وأسباب عظمتها وانحطاطها. من مؤلفاته: حضارة العرب، روح الثورات والثورة الفرنسية، روح الجماعات، السنن النفسية لتطوُّر الأمم، روح التربية، روح السياسة، فلسفة التاريخ، اليهود في تاريخ الحضارات، حياة الحقائق، حضارات الهند، روح الاشتراكية. تناول لوبون شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم في كتابه حضارة العرب بعد هجرته إلى المدينة المنورة تحت عنوان: (محمد بعد الهجرة). وإن تناول شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم في الفترة المكية إلا أنه أفرد له عنوانه هذا؛ ليُركِّز على شخصية محمد صلى الله عليه وسلم في المدينة المنورة بعد هجرته إليها، وشروعه في تأسيس المجتمع المدني المسلم كنواة أولى لدولة إسلامية مترامية الأطراف. يشيد لوبون بتنظيم الحياة في كافة الجوانب وَفْق نظم الشريعة الإسلامية التي يصفها (بشؤون دينه) وهذه حقيقة أن الحياة في الحضارة الإسلامية وَفْق شؤون الشريعة الإسلامية التي مصدرها الأول هو القرآن الكريم الذي كان يتنزل على محمد صلى الله عليه وسلم في كل صغيرة أو كبيرة تواجهه طيلة حياته وحتى أكمل الله دينه، قال تعالى: ﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ﴾ [المائدة: 3]. يقول لوبون: (شرع محمد منذ وصوله إلى المدينة ينظم شؤون دينه، وأخذ القرآن الذي كان في طور التكوين يكتمل بفضل توافر نزول الوحي على محمد في جميع الأحوال الصعبة خلا مبادئه الإنسانية). وفي تناول لوبون لشعائر الإسلام بيَّن سُنَّة التدرُّج في التشريع وممارسة الشعائر الإسلامية، وبيَّن دعوة المسلمين إلى التقيُّد بها وممارستها وفق التشريع الإسلامي، قال: (وضعت شعائر الإسلام بالتعاقب؛ فسُنَّ الأذان لدعوة المؤمنين إلى الصلوات الخمس، وفُرض صوم شهر رمضان؛ أي: الامتناع عن الطعام من الفجر إلى غروب الشمس شهرًا كاملًا، وفُرِضَت الزكاة التي يُعين المسلم بها الدين الذي أُقيم. وفي حديثه عن غزوة بَدْر نجد أنه يعتبرها غزوةً مهمَّةً، ويشيد بشخصية الرسول صلى الله عليه وسلم بكونه قائدًا يشارك بنفسه في المعارك: (وصار محمد بعد وصوله إلى المدينة يقود الغزوات بنفسه، أو بواسطة أحد أصحابه، وغزوة بدر التي وقعت في السنة الثانية من الهجرة هي أولى الغزوات المهمة، ففيها انتصر جنود محمد، الذين لم يزيدوا على (٣١٤) مقاتلًا، والذين لم يكن بينهم سوى ثلاثة فرسان، بينما أعداؤهم كانوا ألف مقاتل، فكانت هزيمة أعداء النبي التامة في بدر فاتحة شهرته الحربية. وبكل إنصاف وحياد تام يتناول "لوبون" تعامل الرسول مع خصومه أثناء الحرب التي يصفها بالاعتدال، ويستثني مرة واحدة مع اليهود الذين خانوا العهد، وتحالفوا مع عدوٍّ محارب، وهذه العقوبة تُعرَف بالخيانة العظمى، وعقوبتها لا تختلف عن عقوبة الرسول صلى الله عليه وسلم هؤلاء الخونة. ويقول: إن محمدًا كان يتحلَّى برباطة جأش وقت الشدائد واعتدال وقت الانتصار، وهذه الصفات لا تتوفر إلا في قائد عظيم بعيد عن القسوة أو حب الانتقام صلى الله عليه وسلم. أنصف لوبون حين تناول فتح مكة، وكان أمينًا في نقل أقوال المفاوضين المفوضين من قريش في صفات الرسول صلى الله عليه وسلم في محاولتها اليائسة لصدِّه عن دخول مكة. (وعظم شأن محمد في عدة سنين، وأصبح لا بُدَّ له من فتح مكة حتى يعم نفوذه، ورأى أن يفاوض قبل امتشاق الحسام وصولًا إلى هذا الغرض، فجاء إلى هذا البلد المقدس ومعه (١٤٠٠) من أصحابه ولم يكتب له دخوله، وقد دُهش رُسُل قريش من تعظيم أصحابه له؛ فقال أحدهم: إني جئت كسرى وقيصر في ملكهما، فوالله ما رأيت ملكًا في قومه مثل محمد في أصحابه. وقد نقل لوبون في كتابه حضارة العرب العديد من أوصاف الرسول صلى الله عليه وسلم نُقلت عن الصحابة وأكَّد عليها اعترافًا صريحًا بما كان يتمتَّع به رسولُ الإسلام من صفات حميدة وتصرُّفات نبيلة (ويُضاف إلى الوصف السابق ما رواه المؤرِّخون العرب الآخرون من أن محمدًا كان شديد الضبط لنفسه، كثير التفكير صموتًا، حازمًا سليم الطويَّة، عظيم العناية بنفسه، مواظبًا على خدمتها حتى بعد اغتنائه. وفي تناوله لشجاعة الرسول وصبره على المشاق يقول: إنه ثابت عالي الهِمَّة في لين ودعة، وكان مقدامًا في غير تهوُّر، يُعلِّم أتباعه الشجاعة والإقدام، وهو ما قاله: الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه (لقد رأيتنا يوم بدر ونحن نلوذ برسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أقربنا إلى العدوِّ، وكان من أشد الناس يومئذٍ بأسًا)؛ رواه أحمد وابن أبي شيبة. (وكان محمدٌ صبورًا قادرًا على احتمال المشاقِّ ثابتًا بعيد الهِمَّة ليِّن الطبع وديعًا). (وكان محمد مقاتلًا ماهرًا، وكان لا يهرب أمام المخاطر ولا يلقي بيديه إلى التهلكة، وكان يعمل ما في طاقته لإنماء خلق الشجاعة والإقدام في بني قومه). وفي توكيده على فطنة الرسول صلى الله عليه وسلم التي يؤكد عليها سواء كانت آتية من خلفية علمية أو بفطرة الله التي فطره عليها فهي تذكرة بفطنة وذكاء نبي بني إسرائيل سليمان بن داوود عليهما السلام. (وكان محمد عظيم الفطنة سواء أكان متعلمًا أم غير متعلم، وتذكرنا حكمته بما عزته كتب اليهود إلى سليمان). وعن حكمته في شبابه ينقل حادثة وضع الحجر الأسود، وكيف تصرف بحكمةٍ حقَنَ بها الدماء وأرضى الجميع، لم ينحَزْ لطرفٍ على حساب طرفٍ ليزداد هو شرفًا ومكانةً بين سادة قريش وأقطابها الكِبار. (شاءت الأقدار أن يكون محمد، وقد كان شابًّا حكيمًا بين أقطاب قريش الذين كادوا يقتتلون حين اختلفوا فيمن يضع في أحد جوانب الكعبة، ذلك الحجر الأسود الشهير الذي كان العرب يعتقدون أن ملكًا جاء به من السماء إلى إبراهيم؛ فقال محمد الشاب أمام الخصوم الذين أوشكوا أن يلجؤوا إلى السلاح: هَلُمُّوا إليَّ ثوبًا، فأتي به، فنشره وأخذ الحجر الأسود ووضعه بيده فيه، ثم قال: ليأخذ كبير كل قبيلة بطرف من أطراف الثوب، فحملوه جميعًا إلى ما يُحاذي موضع الحجر من البناء، ثم تناوله محمد من الثوب ووضعه في موضعه، وانحسم الخلاف. ورد حاسمًا على أحد كبار المستشرقين المشكِّكين في الوحي وفي نزول جبريل عليه السلام بالقرآن الكريم على الرسول صلى الله عليه وسلم وهو المستشرق "تيودور نولدكه"، وقال في كتابه الشهير (تاريخ القرآن): إن الوحي لم يكن إلا حالة صرع كانت تنتاب الرسول، فرَدَّ عليه بأن هذه الفرية لم يأتِ بها أحدٌ قبله، ولم يجد أحدًا من مؤرخي العرب من ذكر ما يقطع بذلك، وحتى خصومه الذين لا يؤمنون "بالوحي" يرون محمدًا حصيفًا سليم الفكر. (وقيل: إن محمدًا مصاب بالصرع، ولم أجد في تواريخ العرب ما يُبيح القطع في هذا الرأي، وكل ما في الأمر هو ما رواه معاصرو محمد وعايشه منهم، من أنه كان إذا نزل الوحي عليه اعتراه احتقان وجه فغطيط فغثيان، وإذا عدوت "هوس محمد" ككل مفتون، وجدته حصيفًا سليم الفكر). إن استخدام لوبون لكلمة (هوس) فهذا وصف منكر وغير مقبول إلا أنه غير مستغرب، فهو مستخدم من المستشرقين في الدراسات الاستشراقية و"لوبون" أحدهم وهو مستشرق لا يؤمن بنبوة محمد، ولا يدين بالإسلام، فلم يخرج عن كونه أحد أعمدة الاستشراق، وأنه يتكلَّم من منطلق استشراقي، حاول أن يكون فيه على قَدْرٍ من الإنصاف إلى حد ما، فأصاب في بعض المواضع، وجانبه الصواب في أخرى. وأمَّا إفك تهمة محمد بالصرع، فقد تولَّى كبرها كبيرُهم نولدكه الذي يصفه جولدتسهير (زعيمنا الكبير تيودور نولدكه في كتابه الأصيل البكر "تاريخ القرآن" الذي نال جائزة أكاديمية النقوش الأثرية بباريس) الذي افترى فيه أن محمدًا صلى الله عليه وسلم كان يصاب بحالة من الصرع أثناء نزول الوحي عليه، ﴿ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا ﴾ [الكهف: 5]. يثني لوبون على قيام الرسول صلى الله عليه وسلم بتوحيد العرب على دين واحد وتحت قيادة موحَّدة وهو ما اعتبره آيةً كبرى. (وجمع محمد قبل وفاته كلمة العرب، وخلق منهم أمة واحدة، خاضعة لدين واحد، مطيعة لزعيم واحد، فكانت في ذلك آيته الكبرى، لم يتحقق في الديانتين اليهودية والنصرانية اللتين سبقتا الإسلام). (ومهما يكن من أمر فإن مما لا ريب فيه أن محمدًا أصاب في بلاد العرب نتائج لم تصب مثلها جميع الديانات التي ظهرت قبل الإسلام، ومنها اليهودية والنصرانية؛ ولذلك كان فضل محمد على العرب عظيمًا). وهذا الكلام يصب أو ينهل ممَّا قرره الإمام ابن خلدون في مقدمته: حتى إذا اجتمعت عصبية العرب على الدين بما أكرمهم الله تعالى من نبوَّة محمد صلى الله عليه وسلم، زحفوا إلى أمم فارس والروم، وطلبوا ما كتب الله لهم من الأرض بوعد الصدق. (وإذا ما قيست قيمة الرجال بجليل أعمالهم كان محمد من أعظم من عرفهم التاريخ)، وهذه الشهادة المنصفة من رجل لا يؤمن بأن محمدًا صلى الله عليه وسلم نبي مرسل من الله، وكان تناوله لشخصية محمد مجردًا من الإيمان؛ بل كانت دراسة علمية صرفة، كان الهدف منها معرفة هذه الشخصية على حقيقتها بروح حيادية غير قائمة على أحكام مسبقة قائمة على عقيدة عدائية أو أهداف سياسية تخدم مصلحة حضارة متصارعة مع الإسلام والمسلمين. وبميزان العدل والإنصاف تظهر الحقائق، وتنزاح الغمامة، وينجلي الحق الذي هو غاية كل منصف وشخصية محمد صلى الله عليه وسلم لا يعكر صفوها جاحد أو حاقد. المراجع: ١– غوستاف لوبون، حضارة العرب. ٢– عبدالرحمن بن خلدون، المقدمة. ٣– إجنتس جولدتسهير، مذاهب التفسير الإسلامي. ٤– نولدكه، تاريخ القرآن. ٥– أبو الحسن الندوي، الإسلام وأثره في الحضارة وفضله على الإنسانية.
يزيد وهشام ابنا عبد الملك يزيد بن عبدالملك: ما أن ينقضي حكم عمر بن عبدالعزيز، ويستولي يزيد بن عبدالملك سنة 101هـ، حتى يواجه العراق ثورة يُخيِّل أنها تكاد تهد كيان الدولة الأموية. فلقد قضت سياسة الحجاج بعزل يزيد بن المهلب بن أبي صفرة عن خراسان، وكان عامله عليها، وحاول الحجاج نكبة هذا العامل المعزول، فهرب إلى الشام والتجأ إلى سليمان بن عبدالملك؛ ليشفع له عند الوليد بن عبدالملك، وتجاوز الخليفة عنه بإلحاح من سليمان، بل وصل الإلحاح إلى حد أنه قيَّد ابنه داود مع يزيد بن المهلب وأسلمهما إلى الخليفة ليقتص من كليهما، فليس من سبيل للعفو عن يزيد بن المهلب. ثم إنَّ يزيد بن المهلب أقام في حاشية سليمان، فلما بُويع سليمان خليفة عينه على العراق أولًا، ثم خراسان ثانيًا، فقام بفتوح تباهى بها وبما أعطته من غنائم، فلما مات سليمان طالب عمر بن عبدالعزيز بتقديم الغنائم التي ادَّعاها، فلم يستطع تقديمها، فحبسه عمر على عدم الوفاء بها، وكان يزيد بن المهلب قد تقاسى أثناء حكمه في العراق على رجال الحجاج وآله، فهدده يزيد بن عبدالملك بقطع عضو من جسمه إن ولي شيئًا من الأمر، فأجاب ابن المهلب أن دون ذلك مائة ألف سيف. ولما سمع يزيد بن المهلب وهو في السجن بمرض عمر بن عبدالعزيز أو بوفاته هرب من السجن، وسار إلى البصرة حيث إخوته وبعض أهله، وكان على البصرة عدي بن أرطأة، فاجتمع أتباع يزيد عليه وخلعوه وسجنوه. ومما ساعد على استفحال ثورته أن أهل العراق ارتاحوا خلال خلافة سليمان وعمر بن عبدالعزيز من الحجاج وظلمه وسياسته، وكانوا يخشون عودة تلك السياسة، ويزيد بن عبدالملك كان حريًّا بالعودة إليها، فهو كان متزوجًا من بنت أخت الحجاج، وكان متعصبًا لآل الحجاج. فترسخت قناعة أن يزيد بن عبدالملك الملقب بيزيد الثاني حري بأن يفعل كما فعل جده من أمه يزيد بن معاوية (يزيد الأول) الذي هتك حرمة المدينة. لكن الثورة باءت بالفشل، فما كاد مسلمة بن عبدالملك وعثمان بن الوليد اللذان أرسلهما يزيد بن عبدالملك لإخماد الثورة يلتقيان بجيش يزيد بن المهلب في عقر داره، حتى تخاذل جيش الثوار ولم يحارب منه إلا شيعة المهلب المخلصون، وهم قلائل. • كان يزيد بن عبدالملك يشبه جده من أمه يزيد الأول بن معاوية بن أبي سفيان في كسله واستهتاره، بل هو يتفوق عليه في ذلك، كان فتًى يحب العبث وينطلق إلى اللهو، وقد غادر دمشق إلى البادية، فقعد في قصر فيها، ويقال: إنه ترك أموره إلى جارية كان يعشقها اسمها "حبابة"، فكان من يريد أن يحصل على شيء منه، حصل عليه بواسطتها. • ولقد خالف سياسة عمر في التقشف، وعاد بنو أمية إلى طمعهم في المال والعطاء، فكان يزيد حريًّا أن يرضيهم في طمعهم، وعمد إلى إرضاء نفسه وإرضاء من حوله، وسار مع تفاهة طبعه، وشَرَهِ من حوله، فقضى غير قاصد على الإصلاح الذي قام به سلفه العظيم. • وما مضى أمد يسير حتى أخذ بعض عماله يقسون على الموالي، ويطلبون الجزية ممن أسلموا جديدًا، فعَلَتِ الشكوى ثانية، بل اتخذت في المغرب شكل الثورة على عامله يزيد بن أبي مسلم، فقتله البربر وأعلنوا أنهم لا يقصدون الخروج على الخليفة بذلك، فسكت الخليفة على ثورتهم، وظهر بمظهر المقر لها، وعاد الخوارج إلى الثورة في العراق، ولقِيَ عمال بني أمية الأمرَّين من شوذب الخارجي. • أما الفتوح فلم تكن موفَّقة في عهده، فقد هُزم المسلمون في بلاد القوقاز أولًا، ولولا مهارة الجراح بن عبدالله الحكمي وحسن قيادته، لَغُلبوا مرة أخرى، واستمرت خلافة يزيد حتى سنة 105هـ، ومات حزنًا على جاريته "حبابة". هشام بن عبدالملك: • كانت خلافته عشرين عامًا. • كان هشام رجلًا منظمًا واضح الرأي والفكر، يدرس المسائل دراسة طويلة، وكان حازمًا ذا سيطرة وقوة، على أنه لم يكن من الجبابرة والمتكبرين والمتعجرفين، لكنَّ هشامًا لم يكن رجلًا عبقريًّا، فهو لم يحاول أن يحدث شيئًا جديدًا في الدولة يُنسب إليه، ولم تكن له سياسة مخططة عميقة، يحققها على سير الأيام، كان همه الإدارة والمال، ومجد الفتوح وضبط الأمور، لا الخلق والإبداع. • لم يكن هشام دون عمر بن عبدالعزيز كثيرًا في التدين، بل كان تقيًّا متعبدًا حريصًا على الإسلام والسنة، يحارب البدعة أشد حرب، لكنه ليس كعمر بن عبدالعزيز يعتبر التدين مسؤولية نحو الناس، كان دينه عبادة وتُقى لكنه أمر شخصي، ولم يكن تدينه خلقيًّا اجتماعيًّا، فهو في علاقته بالأفراد ليس ورعًا، وهو في علاقته بالمادة خاصة قليل الورع، فالحكم عنده سياسة أكثر من كونه دينًا، وهو عنده سياسة مالية بالأخص، فعمر ما كان يهتم بالمال ولا بإغناء بيت المال، أما هو، فهمُّه منصبٌّ إلى بيت المال، يود أن يكون مكتظًّا غنيًّا. • نقل مقر إقامته من دمشق إلى الرصافة على نهر الفرات؛ خوفًا من الطاعون الذي كان يغزو دمشق من حين إلى آخر، واهتم بتنظيم دواوينه فكانت في غاية الإتقان، وكان قليل الاستقبال للناس ورؤيتهم، يعتمد على دواوينه في تسيير سياسته، ومستشاره المعتمد الأبرش الكلبي وهو الذي يتعامل مع الناس، واهتم هشام بالعلم وأكرم العلماء؛ كالزهري وأبي الزناد وغيرهما. • كان واليه على العراق خالد بن عبدالله القسري، وهو الذي كان بعثه الوليد بن عبدالملك مكان عمر بن عبدالعزيز عاملًا على مكة والمدينة، مستجيبًا إلى طلب الحجاج في منع الفارين من الالتجاء إلى الحجاز، والتواري عن ناظريه، ولقد قام خالد حقَّ القيام بما عُهد إليه من ذلك، فجعل أصحاب المنازل مسؤولين عمن يلجأ إليهم من الفارين، فاستتب الأمر للحجاج، واطمأن باله، وكان إداريًّا نشيطًا عمرانيًّا، جلب الماء لمكة، وأحدث إصلاحات في مدن أخرى، وظهر دهاؤه، فوجد فيه هشام ضالَّته، وهو من بجيلة، وهي قبيلة لا عصبية لها، وقد أضاعت مجدها في الجاهلية وتردت في النسيان. كان خالد حريًّا أن ينجح في العراق، وأن يلم الشعث، وبدهائه وحسن خطابه أسهم في جعل العراق ينعم بفترة راحة وأمان مدة استغرقت 15 سنة. • انكب خالد على إصلاح الأراضي والزراعة بالعراق، ووُفِّق في عمله خير توفيق، وضم قسمًا من الأرض البوار التي أحياها لنفسه، إلا أنه ما كان يدخر من غلتها الكثير؛ فقد كان يوزع المال على أتباعه وحواشيه والناس، فيلقى الداعين له والراضين عنه، وكان يوافي هشامًا في كل عام بخراج كبير ومال وفير. • لكنَّ خالدًا كان له نقطة ضعف؛ فقد كانت والدته نصرانية، فصار خالد يعطف على النصارى، ويعينهم في المناصب الإدارية، ويأذن لهم ببناء الكنائس، واستفاد خصومه من هذا، فادعوا أنه لا يحترم الإسلام، ورَوَوا عنه أقوالًا فيها استخفاف بالدين، فأوغروا صدر الخليفة عليه، حتى استبد خالد بالعراق، فصار يستخدم سلطانه لاستغلال الناس، فكان يؤخر بيع محصوله من الغلال، فتعلو الأسعار فيضج الناس، وكان المهندس الذي كان يشرف على عمليات الإصلاح حيانَ النبطيَّ، واستطاع خصوم خالد أن يجروا حيانَ إلى طرفهم، فكان لهم في ذلك كسب كبير؛ إذ إن حيانَ كان في يده حساب غلات خالد، وكان يعرف تصرفاته، فلما نمت تلك الأخبار لهشام، عزله وولَّى مكانه رجلًا قويًّا هو ابن الوالي السابق يوسف بن عمر بن هبيرة، وكان والي هشام على اليمن، فجاء إلى العراق متسللًا، وضم إليه خصوم خالد، وألقى القبض عليه وأخذ يحاكمه ليستخرج الأموال التي جمعها، لكنه لم يجد معه إلا الشيء اليسير فأطلق سراحه، فسار خالد إلى الشام ليستعيد مكانته عند الخليفة، لكن الخليفة أهمله. لكن العراق الذي هدأ مع خالد القسري ثار في ولاية يوسف بن عمر بن هبيرة، وقد يُعزى هذا إلى دهاء خالد وحماقة ابن هبيرة. • وتولى بعد هشام الوليد بن يزيد وكان مستهترًا مقبلًا على اللذات، خاصة الخمر والنساء، حتى بدد أموال الدولة، وأدت حاجته إلى المال إلى الوقوع في أخطاء سياسية كبيرة؛ منها تسليم خالد بن عبدالله القسري لخصمه اللدود عامل العراق يوسف بن عمر بن هبيرة، نظير مبلغ كبير من المال فعذَّبه ثم قتله. • ثم تولى يزيد بن الوليد (يزيد الثالث)، وأرسل منصور بن جمهور عاملًا له على العراق بدلًا من يوسف بن عمر بن هبيرة الذي أُلقِيَ القبض عليه، وهُزِئ به وعُذِّب، لكن لم تدُمْ خلافة يزيد الثالث سوى ستة أشهر ومات.
الكُنَى في حياتنا الكُنية " كل مركب إضافي صُدِّر بأب أو أم... "؛ هذا ما تعلمناه حينما كنا ندرس أقسام العَلَم، وتفرعه إلى: اسم وكنية ولقب، وقد كانت الكنى قديمًا مناطَ اهتمامٍ بالغ في تعامل العرب ونداءاتهم؛ فهم دومًا يخاطب بعضهم بعضًا بالكُنى وليس بالأسماء المجردة، ولا باللقب؛ لأن الألقاب أحيانًا – بل هو الأصل فيها تكون دالةً على الذم. ولقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يتكنى الرجل بكنيته صلى الله عليه وسلم، وأباح أن يتسمَّى باسمه، وكانت كنيته صلى الله عليه وسلم أبا القاسم، وكنية عبدالله بن أبي قحافة رضي الله عنه أبا بكر، وكنية عمر رضي الله عنه أبا حفص، وعلي رضي الله عنه أبا الحسن وأبا تراب، وأحيانًا تُنسِي الكُنية حين تشتهر الاسمَ؛ ولذلك نجعل من أسئلتنا في تعليم الصغار دومًا، والكبار أحيانًا، أسئلة تختبر معرفتهم بالاسم لا بالكنية؛ مثل: ما اسم سيدنا أبي بكر؟ والكُنى قديمًا أيضًا لا يشترط لها أن يكون المُكنى به ولدًا على الحقيقة، بل قد يتكنى مَن لم يرزقه الله بالإنجاب البتة؛ كعائشة رضي الله عنها، فهي أم أبي عبدالله، وكما هو معلوم أنها لم تُرزَق بالذرية. والعرب لا تكني الأعلام من البشر فقط، بل تكني الحيوانات أيضًا؛ فكنية الجمل: أبو أيوب، والحمار أبو صابر، والذئب أبو جعدة، والثعلب أبو الحصين... وتكنى مكة؛ فتقول: أم القرى، وسورة الفاتحة أم الكتاب، والخمر هي أم الخبائث... هذا زمن مضى، له ما كسب، وعليه ما اكتسب، وزمننا الحديث الذي نعيشه اتخذتِ الكنيةُ فيه مسارًا لا يكاد ينفك عنه في الثقافة الشعبية؛ فإنك واجد في الطرقات والمساجد والمقاهي، وأماكن العمل، والمواصلات، كُنًى ما أنزل الله بها من سلطان، بعض هذه الكنى بل الكثير منها شنيع جدًّا قبيح؛ من مثل: أبو جموس، أبو خيبة، أبو الليف، أبو بسلامته، أبو لمونة، أبو كُم، أبو رقبة... وقليلة هي الكُنى التي تجدها في هذه الثقافات الشعبية مرتبطة بشيء مُفْرِح، كأن تكون مدحة لصاحبها؛ مثل: أبو الخير، أبو المفهومية، أبو اللين... وفي الثقافة الشعبية أيضًا، ومما يمارس في الحياة حتى الآن، أن الرجل يتكنى باسم ولده البكر، ذكرًا كان أم أنثى، غير أنه يتكنى بالأنثى إذا كانت بكرًا، فإن رزقه الله بولدٍ ذَكَرٍ بعد ذلك عدَّل الكنية، فجعلها باسم هذا الولد. أما إذا ارتقينا إلى الثقافة الحديثة والمعاصرة، فإنك واجد الكنية تحمل معاني الشهرة والإجلال لصاحبها، فطلعت حرب أبو الاقتصاد المصري، وأبو القانون العربي هو عبدالرزاق السنهوري (1895 - 1971)، وأبو التعليم المصري: علي باشا مبارك... وهناك العَلَم شيخ المحققين أبو فهر محمود محمد شاكر، رحمه الله. وأخيرًا هناك كتب كثيرة تتحدث عن الكُنى؛ أشهرها: كتاب الكُنى والأسماء للإمام مسلم، وكتاب فتح الباب في الكنى والألقاب لمحمد بن إسحاق بن منده، وكتاب الكنى والأسماء للدولابي.
اسم الفاعل في التراكيب العربية دراسة وظيفية لصباح الغانمي صدر حديثًا كتاب "اسم الفاعل في التراكيب العربية دراسة وظيفية"، تأليف: د. "صباح دعير صيني الغانمي"، نشر: "دار كنوز المعرفة للنشر والتوزيع". وأصل هذا الكتاب أطروحة علمية تقدم بها الباحث لنيل درجة الدكتوراه في اللغة العربية وآدابها من كلية الآداب بالجامعة المستنصرية ببغداد، وأشرف على الرسالة د. "لطيفة عبد الرسول الضايفي"، وذلك عام 2013 م. وهذا الكتاب المشتق يعالج اسم الفاعل في الأنساق العربية، ويثير إشكالية منهجية وسمت الدراسات التقليدية، وهي إشكالية عامة فصلت المستويات اللسانية بعضها على بعض، فلم تحقق تلك الدراسات الكفاية النظرية والإجرائية لتمظهرات اسم الفاعل التركيبية. وتأتي هذه الدراسة لتكوّن محاولة جادة في تناول هذا المفهوم وصفًا وتحليلًا وضبطًا، وقصد البحث أن يسهم في تبيان الوظيفة الاشتقاقية في النسق النحوي، تلك الوظيفة المتشكلة في أوضح صورها باسم الفاعل، وأثر هذا المشتق في إقامة علاقات تركيبية ودلالية. ويسلك هذا البحث لتحقيق غاياته سبيلًا تجريبيًا يروز أنساق اسم الفاعل وأنماط تشكلاته النحوية في الاستعمال العربي، ويستقرئ الاحتمالات الممكنة في الخطاب العربي الفصيح، في ضوء نظر يستمد التراث الإسلامي بتبصراته النحوية والأصولية والبلاغية، ويسترفد معطيات الدرس اللساني الحديث باتجاهه الوظيفي ليثري هذا المشغل اللساني بأطر نظرية ونماذج إجرائية تحقق للمفهوم الاشتقاقي كفاية لسانية من حيث الاستدلال والتفسير. وقد جاءت الدراسة في تمهيد وثلاثة فصول وخاتمة، مهد الكاتب بذكر المنهج الذي اعتمده القدماء في بحوثهم، مع الإشارة إلى الاختلاف فيما بينهم، وعرض نماذج لهذا الاختلاف. وبحث في الفصل الأول عن المميز الجوهري لاسم الفاعل، وتطلب الوقوف عليه كثيرًا من المباحث، درسها النحاة، أو الأصوليون، أو الفلاسفة، مع التنبيه على ما له مساس بمحل الدراسة، وقام الباحث بإفراد بحث في المادة، وآخر في الهيئة، ودراستهما على عدة مستويات، مستوى المعنى الاصطلاحي، ومستوى الدلالة، وناقش بعض الآراء بخصوص اسم الفاعل. والفصل الثاني بحث فيه المعاني التي تترتب على تمييز اسم الفاعل عما عداه، فتناول النسب الناقصة والتامة وأثرهما في بيان المعنى الوظيفي لاسم الفاعل، وبين اختلاف وضع اسم الفاعل والصفة المشبهة عن وضع هيئة الجملة الخبرية، وتناول أيضًا ارتباط المعاني الوظيفية المذكورة بمنشأ عمل المشتقات ومنها عرج إلى اختلاف صيغ المشتقات وألفاظها المسموعة، حيث بين أن قيمة جوهر اللفظ في تحديد هويته. أما الفصل الثالث فجعله في صورة دراسة تطبيقية على النماذج التي عرضها لاستعمال اسم الفاعل في التراكيب العربية، ورأى الباحث أن يوجه نظر القارئ إلى أنه في التطبيق لم يبتعد عما ظن صحته من الدراسات الحديثة، ولكن نعى على بعض الدراسات إيغالها وانجرارها وراء ما هو دخيل وغريب عن لغتنا العربية الكريمة، لغة القرآن الكريم، لهذا تركزت تلك النماذج التطبيقية على نصوص القرآن الكريم وأشعار العرب المستشهد بكلامهم، وانصبت عنايته على المركبات، ليستكشف من ذلك هوية الكلمة، وهي هوية اسم الفاعل الحقيقية، وهي الطريقة المثلى لمعرفة كيفية التعامل معه. وبالخاتمة أجمل نتائج البحث التي توصل إليها، واعتمدها في الكشف عن ماهية اسم الفاعل، وحقيقته، وهي تساعد أيضًا على استكشاف ماهية كثير من المشتقات الوصفية. وعلى الرغم من سلسلة الأبحاث التي تواترت على المشتقات عمومًا واسم الفاعل خاصة فإن هذا البحث ينماز بما حققه من عمق النظر، وبما اتخذه من منوال وظيفي يحلل المستويات التركيبية والدلالية والتداولية، وهو مسعى جَهدَ في تحصيله وتحقيقه الباحثُ لثلاثة أعوام متواصلة، وضمن دائرة تجمع الدراسات البينية للوصول إلى أكفأ التصورات وأجدرها بالظاهرة الاشتقاقية في اللسان العربي قدرة وإنجازًا، حيث جاء البحث حلقة واصلة ومنوالًا فاعلًا بين الثابت والمتغير من الفكر اللساني.
المجتمعات الخضراء: المطالب والتحديات، ودور مهن المساعدة الإنسانية الخدمة الاجتماعية أنموذجًا [1] أولًا: مدخل وتمهيد: إن الحديث عن رؤى التنمية وإستراتيجياتها محليًّا وعالميًّا بمعزل عن تداعيات السلوك البيئي للإنسان على مختلِف مجالات الحياة - يُعد ضربًا من العبث؛ إذ إن البعد البيئي - وإن كان أحد أبعاد التنمية المستدامة منذ تداول المفهوم ومؤشرات قياسه - يعد الأهم والأخطر في وقتنا الحاضر أكثر من أي وقت مضى، وتعد المجتمعات الخضراء في عالم اليوم مطلبًا عالميًّا ومحليًّا فرضته تداعيات تغير المناخ. وثمة تأكيدات أن لتغير المناخ أو اضطراب المناخ آثارَه الضارية على جميع المجتمعات، وقد أثبتت الأدلة العلمية أن الأرض تزداد احترارًا، وأن الأنشطة الرئيسة التي تزيد من هذه الاحترارات هي جهود من صنع الإنسان، ويجب أيضًا أن تكون الجهود المبذولة لوقف تغير المناخ من صنع الإنسان. ‏ ( Christina L. Erickson 2018:154 ) لقد حظِيَت مخاطر تغير المناخ باهتمام متزايد في جميع أنحاء العالم منذ أوائل التسعينيات، من خلال علماء مرموقين، ومدافعين بارزين، ومع ارتفاع متوسط ​​درجة حرارة الأرض، يتنبأ العديد من العلماء، ويلاحظون بالفعل ارتفاع مستويات سطح البحر، وزيادة عدد الأعاصير العنيفة وشدتها، والفيضانات الجماعية، وفترات الجفاف الطويلة المصحوبة بمعدلات انقراض أعلى للأنواع، وانخفاض في الغذاء في جميع أنحاء العالم ( , 2013 , P:3 Franchetti ‏ & Apul ) ولقد كشف المؤتمر السنوي للأطراف في عام 2015 ( COP 21 - باريس، فرنسا) عن القلق العالمي بشأن هذه التغيرات المناخية المتطرفة في المستقبل القريب، إذا لم يتم اتخاذ أي إجراء اليوم Fernández,2016,.1) & Zubelzu ) ، ومن ثَمَّ فقد بزغت آليات عدة لمجابهة تغير المناخ، وطُوِّرت البرامج، وصِيغت السياسات والاتفاقيات التي تنظم أنشطة وإجراءات مستحدثة؛ لعل أهمها وأبرزها المجتمعات القومية الخضراء Green societies ، والمجتمعات المحلية الخضراء Green Communities . ويشير مفهوم المجتمع القومي الأخضر Green Society إلى "جميع الهيئات الرئيسية المشاركة في أنشطة البناء، مثل تخطيط وتصميم القرى والمدن، وبناء البنية التحتية، وبناء المزارع الخضراء، وتحسينات إيكولوجية بيئية مع التنفيذ الشامل والإدارة، والتنمية الصناعية الخضراء، مع التنفيذ الشامل للحفاظ على الطاقة، وتوفير الأراضي، ووفورات في المياه وحماية البيئة، وبناء مبانٍ صالحة للعيش وآمنة ومناسبة للعمل كهدف ,2022.P;98) ,Hua & Wang ( ، كما يشير مفهوم المجتمع المحلي الأخضر Green Communities إلى المجتمع الذي يعيش ضمن موارد النظام الإيكولوجي، ويتناغم مع الطبيعة، ويركز على الرفاهية، ولا يستهدف النمو الاقتصادي في حد ذاته، وإنما مراعاة الاقتصاد الأخضر والمتوازن بيئيًّا ( Gupta, 2014.: 27 ) ومن أنماط المجتمعات المحلية الخضراء Green Communities : المجتمعات الحضرية الخضراء، والمجتمعات الريفية الخضراء، والمجتمعات الصناعية الخضراء، والمجتمعات العشوائية الخضراء، التي تتطلب جميعًا مزيدًا من السياسة الخضراء، والصناعة الخضراء، والتكنولوجيا الخضراء، والطاقة الخضراء، الوعي والتعليم الأخضر، المنتجات الخضراء، والإنشاءات والبناء الأخضر، وأخيرًا الزراعة العضوية والخضراء كثيفة استهلاك الطاقة ( Samaha& EL-Haggar, 2022 ) ؛ ومن ثَمَّ فقد ظهرت المنتجات والخدمات الخضراء؛ حيث تكتسب الخدمة الخضراء حاليًّا اهتمامًا مع التأثير المتزايد لتكنولوجيا المعلومات والاتصالات ( ICT ) في استهلاك الطاقة، وإنتاجية القوى العاملة والتنمية المستدامة ( Liu&Li, 2015,:xlll ) ، ونظرًا لتعدد وتنوع مطالب إقامة المجتمعات الخضراء والتوطين بها، ثم التعويل عليها نسقيًّا في مجابهة تحديات تغير المناخ، في جانب الإنشاءات والإقامة والتوطين الأخضر؛ فقد غدا تضافر المهن والتخصصات في مجال العلوم الإنسانية، ومهنة الخدمة الاجتماعية في هذا الصدد بوجه خاص أمرًا حتميًّا ومطلبًا لا بد منه، ومن ثَمَّ فقد بزغ مفهوم الخدمة الاجتماعية الخضراء؛ التي عُرفت بأنها: "شكل من أشكال ممارسة الخدمة الاجتماعية المهنية الشاملة، التي تركز على الترابط بين الناس، التنظيم الاجتماعي للعلاقات بين الناس والنباتات والحيوانات في أزماتهم البيئية المادية، وسلوكياتهم الشخصية التي تقوِّض التنعيم الإنساني، ورفاهية كوكب الأرض، وهي الدعائم لمعالجة هذه القضايا من خلال الدفاع عن تحول عميق في كيفية تصور الناس لأساس مجتمعهم وعلاقات بعضهم مع بعض، والكائنات الحية والعالم غير الحي". Dominelli ,2012;25 ) ) . وقد نجحت الخدمة الاجتماعية الخضراء في إدخال القضايا المهمَلة في المناقشات البيئية، وزيادة فهم مركزيتها لممارسة الخدمة الاجتماعية ,2018: 571) Dominelli ) ، والأسئلة التي نطرحها اليوم حول كيفية تحقيق استدامة التخطيط الاجتماعي البيئي، ومستوى الوعي الذي نقود به الإجابات والشجاعة - الشخصية والحبكة - للتصرف وفقًا لقراراتنا، ونصمم جيدًا الإرث الذي نتركه لجميع الأجيال. Maser.C , 2009;288) ) ونظرًا لأهمية دور التخطيط الاجتماعي عمومًا وفي صياغة إستراتيجيات لمواجهة تداعيات المتغيرات المستحدثة؛ ومنها التوجه نحو المجتمعات الخضراء - فقد بزغ مفهوم الأخضر، ويعتبر الأخضر من أهم الآليات التي أصبح يعول عليها أكثر من ذي قبل في مجابهة – ضمن غيرها من الآليات – تداعيات تغير المناخ، والتخطيط الأخضر هو التخطيط البيئي الذي يشير إلى الحفاظ على التربة، وجودة المياه والهواء أو النظم البيئية، وترميمها وتطويرها Padt , 2007.P.16) ) ، ومن مخرجاته الخطط الخضراء التي تُعرف بأنها: "إستراتيجيات بيئية شاملة تهدف إلى تحسين الجودة البيئية، وإحراز تقدم سريع نحو الاستدامة" (في استخدامها هنا، كلمة "خضراء" ليست سياسية وغير أيديولوجية، وتشير فقط إلى سياق حماية البيئة والتنمية المستدامة)، تتميز الخطط الخضراء بنظرة طويلة المدى، مع كونها شاملة في النظر في القضايا البيئية وتكاملها، تأخذ الخطط الخضراء أيضًا في الاعتبار الحقائق الاقتصادية، مع ضمان باستمرار درجة مناسبة من حماية الجودة البيئية والقيم البيئية الطبيعية؛ مثل: احتياجات الأنواع المهددة بالانقراض، والأنظمة البيئية النادرة Padt , 2007:.102) ) ، وثمة برامج عديدة لاعتماد المجتمعات مجتمعات خضراء عبر العالم؛ نذكر منها - على سبيل المثال - برنامج لجنة أتلانتا الإقليمية ATLANTA REGIONAL COMMISSION ، وهو برنامج طوعي لشهادة الاستدامة يساعد الحكومات المحلية على تقليل تأثيرها البيئي من خلال تدابير قابلة للتنفيذ، يعزز البرنامج منطقة أكثر خضرة وصحة، وأكثر ملاءمة للعيش، من خلال توفير إطار عمل للمدن والمقاطعات في رحلات الاستدامة الخاصة بهم (موقع اللجنة الإقليمية لأتلانتا، 2023) ، وتوفر المجتمعات الخضراء المعتمدة من اللجنة الإقليمية شهادات الاستدامة الطوعية للحكومات المحلية في منطقة العاصمة أتلانتا التي تضم عشر مقاطعات، كما تهدف شبكة كولورادو للمناخ إلى دعم جهود التخفيف والتكيف التي تبذلها الحكومات المحلية، والمنظمات المتحالفة معها في المجتمعات الذكية للمناخ في ولاية نيويورك، وهي شراكة بين الولاية والمحلية "تقدم خدمات متنوعة للحكومات المحلية، بما في ذلك منسقو المجتمع، وجماعات لوتيرف، وندوات عبر الإنترنت، ودليل الإجراءات المحلية GreenStep Cities ؛ وهو برنامج استدامة على مستوى ولاية مينيسوتا، يستهدف الحكومات المحلية التي تشمل الفئات ذات الصلة بتغير المناخ"؛ نظرًا لأن بعض هذه الشبكات الأصغر حجمًا تحقق مشاركة أكبر من الشبكات واسعة النطاق في مناطق حضرية معينة، فإنها تصبح بوابة مهمة لتشجيع التخفيف المحلي والتكيف الذي يرتبط بالشبكات العالمية. ( Rajamani &Peel , 2021:692) ثانيًا: دور مهن المساعدة الإنسانية: الخدمة الاجتماعية أنموذجًا: 1- التربية الاجتماعية الخضراء: من خلال إدراج أنشطة تربية اجتماعية مستحدثة تراعي التخضير الحضري، والتخضير الريفي، وتنمية الوعي بالمسؤولية الشخصية والمجتمعية تجاه الانبعاثات الدفيئة، واستثمار تلك الأنشطة في تهيئة النشء للمشاركة حاليًّا ومستقبلًا في بناء المجتمعات الخضراء، وبناء شخصيات متناغمة، مع المتطلبات البيئية المستحدثة؛ وأهمها مجابهة تداعيات تغير المناخ، والتحول الأخضر. 2- تطوير الأداء المهني لأخصائيي رعاية الشباب الجامعي في التوعية بأهمية المجتمعات الخضراء، والتخطيط لتنمية الوعي الأخضر بالمدارس والجامعات، وفي الجامعة يجب إدراج مفهوم بناء الكليات والجامعات الخضراء بما فيها من مرافق وإدارة وغيرها من الجوانب أثناء تنفيذ خطط نشاط التثقيف الأخضر في الجامعات، ووضع الدورات التأسيسية لحماية البيئة ضمن المقررات الإجبارية والاختيارية، وتفعيل أنشطة الممارسة الخضراء على نطاق واسع بين جميع المعلمين والطلاب، ولنزرع فيهم الأخلاق والقيم الخضراء، وتطوير قدرات الطلاب على تقييم ومعالجة القضايا البيئية المعنية والتنمية المستدامة. (فينغ، 2018: 151) 3- يعد التخضير الحضري Urban greening بعدًا أساسيًّا للتنمية الحضرية المستدامة، من خلال التخطيط الأخضر، يمكن للمدن وضع إستراتيجيات تجاه تغير المناخ، وإجراءات التخفيف، وتقليل الانبعاثات، بالاستخدام المشترك لبيانات الاستشعار عن بعد ونظام المعلومات الجغرافية لإنتاج مستويات مختلفة من المؤشرات المستدامة، بدءًا من مستوى المدينة إلى الحي ومستويات المبنى، كما يمكن أن تكون الأسطح الخضراء جزءًا من الحل من خلال خدمات النظام البيئي المقدمة، وهنا يبرز دور مهنة الخدمة الاجتماعية الخضراء في توجيه الوعي بقضايا التخضير الحضري، ودعم وسطاء التغيير ودورهم بمعاونة الأخصائي الاجتماعي. ( Santos , T.&et al , 2021:.251 ). 4- المواطنة الخضراء ودور المجتمع المدني: يجب ربط المواطنة الخضراء بالعمل على تطوير نظريات خضراء جديدة للدولة، وكذلك في تخضير الدولة وخصائص الدولة الخضراء، وبالمثل، فإن المواطنة الخضراء ليست حصرية مرتبطة بالدولة فحسب، بل يجب أيضًا تحديد موقعها، في المجتمع المدني، وأن تكون مدركًا بشكل خاص لأشكال مقاومة المواطنة الخضراء، والتي كما هو مقترح أعلاه هي مركزية تمامًا لإنشاء دول أكثر خضرة. ( Bary , 2016:39 )‏. 5- إذكاء وبناء الوعي بدليل أدوات الجامعات الخضراء Green Universities Toolkit ، وتزويد موظفي الجامعة والطلاب بمجموعة مختارة من الإستراتيجيات والأدوات والموارد، المستقاة من الأدبيات، ومن دراسات الحالة العالمية ومن الممارسة التي تهدف إلى إلهام وتشجيع ودعم الجامعات لتطوير وتنفيذ الجامعات الخاصة بهم، إستراتيجيات تحويلية لإنشاء حرم جامعي صديق للبيئة وموفر للطاقة واستهلاكها ومنخفض الكربون (موقع برنامج الأمم المتحدة للبيئة، 2022)، وقد اختار برنامج الأمم المتحدة للبيئة إدراج ممارسات الاستدامة التي تطبقها الجامعة الأمريكية بالقاهرة بحرمها بالقاهرة الجديدة في دليل أدوات الجامعات الخضراء Green Universities Toolkit كنموذج عالمي لمؤسسة تعليمية خضراء، تنخفض بها انبعاثات الكربون، تعد الجامعة واحدة من الجامعتين المذكورتين من إفريقيا فقط بهذا الدليل. (موقع الجامعة الأمريكية في مصر، 2022) ، ومن ثَمَّ فإن التحول نحو الأخضر معيار حاكم في تصنيف الجامعات، تم اختيار كلية سميث وجامعة كورنيل وجامعة بوسطن؛ لأنهم من ناحية يشاركون جميعًا بنشاط في مرونة عملية التخطيط، ومن ناحية أخرى يعرض كل منهم أنواعًا مميزة من الاستجابات للتغير المناخي ( Filho& Arcas, 2018,: 81 ) ، ومن الجامعات الخضراء عالميًّا: جامعة فاخينينغن في هولندا Wageningen University ، جامعة Sussex في بريطانيا، جامعة سايمون فريزر في كندا، جامعة كاليفورنيا دافيس في الولايات المتحدة University of California, Davis ، جامعة أكسفورد في بريطانيا University of Oxford ، جامعة نوتنغهام ترنت في بريطانيا Nottingham Trent University . (موقع فرصة، 2020). 6- حصر ومسح أرشيفي بالتجارب الرائدة في دعم خدمة المجتمع وتنميته، وفي هذا الصدد تجدر الإشارة إلى دور جامعة الأزهر في عقد أربع مؤتمرات علمية حول الطاقة، وتغير المناخ وتحدياته، وتغير المناخ ودمج الشباب، إفريقيا في القلب، وغيرها من الفاعليات في هذا المجال، كما تجدر الإشارة إلى مسح جهود كلية الدراسات العليا والبيئة في تبنِّيها برنامج تأهيل سفراء المناخ وسفير المناخ الصغير، ودعم مبادرات التكيف المناخي، كما تجدر الإشارة إلى مسح أرشيفي لمختلف التجارب الرائدة في هذا الصدد، وعوامل نجاحها، ومحددات تبادلها. 7- وضع إستراتيجيات بحثية مستقبلية تراعي مجالات ممارسة التخطيط الاجتماعي في ثنايا المجتمعات الخضراء (السياسة، الرعاية الاجتماعية، تخطيط الخدمات الاجتماعية، التخطيط لتنمية المجتمعات، نظم المعلومات الجغرافية والتحليل المكاني والطبوغرافيا الاجتماعية)، وتوصيف دور الخدمة الاجتماعية الخضراء بالمجتمعات العربية والإسلامية في تخطيط المبادرات البيئية وتنفيذها، ودعم شركاء التنمية فيها: استثمارات في المبادرات البيئية لتخفيف البصمة الكربونية، وتقليل حرق الغاز. 8- الاستفادة من الخبرات الدولية: لتعزيز أهداف التنمية المستدامة الطموحة في الجوانب المتعلقة بسياسة الطاقة، والمالية العامة والأهداف البيئية، يتضح هذا، على سبيل المثال، من خلال وضع النمو الأخضر في قلب التنمية الصادر عن منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية ( OECD 2013b ) مع التركيز على مفهوم "النمو الأخضر"، وكذلك على الدعم المقدم من المفوضية الأوروبية فيما يتعلق تطوير "الاقتصاد الحيوي"، من خلال تصميم خطط عمل لتطوير تقنيات جديدة في الاقتصاد الحيوي، ودعم قطاعات الاقتصاد الحيوي، ومساعدة قدرتها التنافسية. ( Douay,2018: xiii ). 9- وتتسم أدوات التخطيط الأخضر باتساقها نسبيًّا مع أهداف التنمية المستدامة، وتجمعهما معًا أكواد ورموز يتم مراجعة التخضير على أساسها، ومن هذه الأدوات كما حددها Dall'O.G ,2020:31-33 )) خطة عمل الاستدامة الوطنية national sustainability action plan ، وخطة عمل الاستدامة الإقليمية Regional sustainability action plan ، ومخطط تخطيط المدن Town planning Scheme ، وكود البناء Building Code ، وخطة التنقل المستدام Sustainable Mobility plan ، وخطة الطاقة الحضرية , Urban Energy plan ، وخطة العمل المتكاملة Integrated action plan ، وخطة إعادة المدنية إلى معايير طبيعية City Re- Nurturing plan ، وخطة التعافي من الكوارث وتقييم المخاطر Risk Assessment and Disaster Recovery plan ، وخطة تصميم شمولية Universal Design plan ، وخطة الطاقة المستدامة والعمل المناخية Sustainable Energy and (climate) action plan ، وبروتوكول التصديق البيئي Environmental Certification Protocol . 10- وقد أصدرت وزارة الإسكان والتعمير والمجتمعات العمرانية بجمهورية مصر العربية قرارها رقم (767 لسنة 2020م) بشأن العمل وفق أسس واشتراطات تخطيط وإدارة وتشغيل واستدامة المدن الذكية (الجزء الأول المدن المستهدفة أن تكون ذكية)، وأن يتم العمل بهذا القرار اعتبارا من 17/ 9/ 2020م (الوقائع المصرية، 2020) ، الذي ترتب عليه إنشاء الكود المصري للمدن الذكية مدن الجيل الرابع، وهنا يكمن دورنا كمخططين اجتماعيين في تهيئة المدن الذكية للتوطين، وتخطيط الخدمات الاجتماعية المرتكزة إلى التكنولوجيا وتقدير الاحتياجات الاجتماعية، وكذلك المتابعة، وترتيب الأولويات وتباعًا بحوث تقويم الخدمات والبرامج والمشروعات. المراجع: • Apul John& Franchetti Matthew ‏(2013): Carbon Footprint Analysis: Concepts, Methods, Implementation, and Case Studies, London, &New York,CRC Press, Taylore And Francis Ltd • Christina L. Erickson‏ (2018) Environmental Justice as Social Work Practice, • Zubelzu, Sergio, & Fernández, Roberto Álvarez (2016) Carbon Footprint and Urban Planning: Incorporating Methodologies to Assess the Influence of the Urban Master Plan on the Carbon Footprint of the City , Springer Briefs in Applied Sciences and Technology • Wang Xiaoming ‏، Hong Hua‏ (2022) Green Village and Town Construction in China, Wahan, Chaina , Springer ,Ltd • Gupta ,Joyeeta (2014) The History of Global Climate Governance , Cambridge University Press • El-Haggar, Salah& Aliaa ‏ Samaha (2019) Roadmap for Global Sustainability — Rise of the Green Communities, Springer • Liu, Xiaodong‏& Li Yang (2015) Green Services Engineering, Optimization, and Modeling in the Technological Age, IGI Global • UNESCO (2015 )Rethinking education: towards a global common good?, France. ISBN:978-92-3-100088-1 • Dominelli. Lena ‏(2012) Green Social Work: From Environmental Crises to Environmental Justice, UK,Cambridge, CB2,1UR, Polity press • Dominelli (2018 )The Routledge Handbook of Green Social Work, UK& New York, Taylor &Francis group • Maser. Chris (2009) Social-Environmental Planning: The Design Interface Between Everyforest and Every city, New York , CRC Press , Taylor & Francis • Padt Frans ‏(2007) Green Planning: An Institutional Analysis of Regional Environmental Planning in Netherlands, https://eburon.nl/product/green_planning/ • Santos, T., Silva, C., Tenedório, J. A., & Montenegro Góes, T. (2021). Remote Sensing and GIS for Modelling Green Roofs Potential at Different Urban Scales. In J. Tenedório, R. Estanqueiro, & C. Henriques (Eds.), Methods and Applications of Geospatial Technology in Sustainable Urbanism (pp. 251-293). IGI Global. https:/ / doi.org/ 10.4018/ 978-1-7998-2249-3.ch009 • Bary, John (2016) Resistance Is Fertile: From Environment to sustainability Citizenship, in Dobson, Andrew & Bell , Derek (2016) (Eds- in – chief ) Environmental Citizenship, London England, Cambridge, IMT Press • Filho Walter Leal & Rafael Leal-Arcas‏ (2018) University Initiatives in Climate Change Mitigation and Adaptation,UK, Springer Ltd • Kelly ,Eric Damian ‏ (2012) Community Planning: An Introduction to the Comprehensive Plan, Second Edition, Island Press, • Dall'O.G (2020) Green Planning for Cities and Communities: Novel Incisive Approaches to Sustainability, Springer Nature • Douay, Nicolas ‏ (2018 )Urban Planning in the Digital Age, Great Britain & USA, ISTELtd & John Wiley and Sons Ltd • Rajamani, Lavanya &‏ Peel, Jacqueline (2021) The Oxford Handbook of International Environmental Law, 2nd ed, London, Oxford University Press • فينغ، لي شويه (2018)، التنمية الخضراء في الصين، ترجمة: حسانين محمد فهمي، الجيزة، دار صفصافة للنشر والتوزيع والدراسات. • موقع برنامج الأمم المتحدة للبيئة، تاريخ الاستدعاء 25/ 8/ 2022م 9.55مساء: • https://www.unep.org/resources/toolkits-manuals-and-guides/greening-universities-toolkit-v20 • الوقائع المصرية (2020) العدد 252 في 9 نوفمبر 2020م، تاريخ الاستدعاء 18 يناير 2023م الثالثة عصرًا: • https://www.cc.gov.eg/ i/ l/ 405162.pdf • موقع اللجنة الإقليمية لأتلانتا تاريخ الاستدعاء 21/ 1/ 2023م الثانية عشر ظهرًا: • https://atlantaregional.org/natural-resources/sustainability/green-communities-program/ [1] أ.د محمد أبو الحمد سيد أحمد: أستاذ التخطيط الاجتماعي قسم الخدمة الاجتماعية وتنمية المجتمع، كلية التربية - جامعة الأزهر - وسفير المناخ.
الأذان واجهَتِ المسلمين بعد إتمام بناء المسجد النبوي مشكلةٌ في طريقة التبليغ التي تجمعهم للصلاة في وقت واحد، لكل وقت من الأوقات الخمسة، وكانوا يجتمعون وفق التوقيت بلا إعلام؛ مما يجعل مجيئهم متفاوتًا وفق اجتهاد كل واحد منهم، وطُرحت المشكلة على المسلمين، فقال قائل: نستخدم البوق كما يفعل اليهود، والنبي صلى الله عليه وسلم لا يحب موافقة أهل الكتاب في مثل هذه الأمور الدينية التي تحتاج للمفارقة، وخصوصية الدين الإسلامي في إقامة شعائره وتميزها عن الآخرين، وإشعار المسلم بشخصيته المتفردة، خصوصًا وأن أهل الكتاب قد انحرفوا عن نهج شريعتهم باجتهادات وأهواء لم يعد من المسلَّم به أنها من الدين الذي جاء به أنبياؤهم؛ فتقليدهم معناه الاعتراف بما أحدثوه وابتدعوه من جهة، وإلى جر المسلمين إلى الانحراف وفتح بابه في هذا الدين الفتيِّ من جهة أخرى، وحتى يسلَمَ أمر المسلمين ينبغي لهم التفرد والتميز وإتاحة الفرصة للمواهب وحث الفكر للعبقرية الإسلامية في الإبداع وعدم تعطيل الفكر في التقليد وأخذ الفكر الجاهز من غيرنا، وفي هذا إنقاص ودعوة للخمول؛ لذلك لم يقر النبي صلى الله عليه وسلم من أتى في هذا الموضوع بفكرة مسبوقة كالبوق والناقوس وإشعال النار، وتركهم يفكرون بما هو أسمى من ذلك؛ لأن هذا الأمر سيكون شعارًا أبديًّا للمسلمين إلى قيام الساعة، وفي ليلة ساجية هادئة أجلي من سمائها الشياطين ورفرفت فيها الملائكة فملأت دروبها وبسطت فوق الأرض أجنحتها، رأى عبدالله بن زيد بن ثعلبة من الخزرج النداء، فأتى مبكرًا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إنه طاف بي هذه الليلة طائف، مر بي رجل عليه ثوبان أخضران يحمل ناقوسًا في يده، فقلت له: يا عبد الله، أتبيع هذا الناقوس؟ قال: وما تصنع به؟ قال: ندعو به إلى الصلاة، قال: أفلا أدلك على خير من ذلك؟ قال: وما هو؟ قال: تقول: الله أكبر الله أكبر، الله أكبر الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدًا رسول الله، أشهد أن محمدًا رسول الله، حيَّ على الصلاة، حيَّ على الصلاة، حيَّ على الفلاح، حيَّ على الفلاح، الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله. فلما أخبر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال له: (( إنها لرؤيا حق إن شاء الله تعالى، فقُمْ مع بلال فألقها عليه فليؤذن بها؛ فإنه أندى صوتًا منك ))، فلما أذَّن بها بلال سمعها عمر بن الخطاب وهو في بيته، فخرج إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يجر رداءه وهو يقول: يا نبي الله، والذي بعثك بالحق، لقد رأيت مثل الذي رأى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( فلله الحمد )) - على ذلك - وورد أن عمر بن الخطاب كان يريد أن يشتري خشبتين للناقوس، فرأى في المنام: لا تجعلوا الناقوس، بل أذنوا للصلاة، فذهب عمر ليخبر النبي صلى الله عليه وسلم بما رأى، وكان قد سبقه الوحي، فما راع عمر إلا وبلال يؤذن، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (( قد سبقك بذلك الوحيُ )).
قصَّة صالح عليه السلام (2) تحدَّثتُ في الفصل السابق عن صالح عليه السلام، وأشرتُ إلى أنه ثاني رسول عربي بعد هود عليه السلام، وذكرتُ مساكنَ قومه ثمود، ونسبهم وطبيعة أرضهم وما أفاء الله عليهم، وما كانوا عليه من الشِّرك والفساد، وأنَّ صالحًا صلى الله عليه وسلم بدأ بدعوتهم إلى توحيد الله عز وجل وترك عبادة الأصنام والأوثان، وأنَّ المستضعفين سارعوا إلى الإيمان به، وكفر المستكبرون، وأشرتُ إلى ما كان منهم من عقر الناقة ومكرهم في تبييتِ صالح صلى الله عليه وسلم وكيف نجَّاه الله منهم، وأنزل بهم عقوبته، وذكرتُ أنَّ هودًا وصالحًا صلى الله عليهما وسلم لا ذِكْر لهما ولا لقوميهما في كتب اليهود والنَّصارى، مما يشعر بحِرْصهم على إزالة كلِّ ذكر للنبوَّة في الأمة العربية؛ حسدًا للعرب وكراهية أن تكون النبوَّة في غير بني إسرائيل. ونشير هنا إلى أنَّه ورَد في القرآن العظيم ما يُشعر بأنَّ نبي الله موسى صلى الله عليه وسلم حذَّر قومه أن يحلَّ بهم ما أوقعه بقوم هود وقوم صالح صلى الله عليهما وسلم؛ كما قال عزَّ وجل في سورة إبراهيم: ﴿ وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ * أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ * قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ﴾ [إبراهيم: 8 - 10]. وقد أورد الله تبارك وتعالى قصَّةَ صالح صلى الله عليه وسلم في مواضع مِن كتابه الكريم بأساليب تُناسب كلَّ مقام مِن مقامات إيراد هذه القصَّة، كما قرنه مع كثير مِن أنبياء الله ورسله، وفي ذلك يقول في سورة الأعراف: ﴿ وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ * قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ * قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ * فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ * فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ * فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ ﴾ [الأعراف: 73 - 79]. وقال تعالى في سورة هود: ﴿ وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا ﴾ [هود: 61]، يعني: جعلكم عُمَّار الأرض، ويسَّر لكم أسبابَ عمارتها بما هيَّأَ فيها وأنبت مِن الزروع والثمار: ﴿ فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ * قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ * قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ * وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ * فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ * فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ * وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ * كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِثَمُودَ ﴾ [هود: 61 - 68]. وقال تعالى في سورة الحجر: ﴿ وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ * وَآتَيْنَاهُمْ آيَاتِنَا فَكَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ * وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آمِنِينَ * فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ * فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾ [الحجر: 80 - 84]. وقال في سورة الإسراء: ﴿ وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً ﴾ [الإسراء: 59]؛ "أي: آية واضحة جليلة ومعجزة ظاهرة دالَّة على وحدانية الله، مرشدة إلى أنَّه لا إله إلا هو ولا معبود بحقٍّ سواه"، ﴿ فَظَلَمُوا بِهَا ﴾؛ "أي: جحدوا هذه الآية وكفروا بها ومنعوا الناقةَ مِن شربها وعقروها"، ﴿ وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا ﴾ [الإسراء: 59]. وقال في سورة الشعراء: ﴿ كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلَا تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ * أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ * فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ * وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ ﴾ [الشعراء: 141 - 149]؛ أي حاذقين في صنعها وإحكامها وإتقانها"، ﴿ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ * الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ * قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ * مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ * وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ * فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ * فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ﴾ [الشعراء: 150 - 159]. وقال في سورة النمل: ﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ * قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ * قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ * وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ * قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ * وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ * فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ * فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ ﴾ [النمل: 45 - 53]. وقال في سورة فصلت: ﴿ وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ ﴾ [فصلت: 17، 18]. وقال تعالى في سورة اقتربت: ﴿ كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ * فَقَالُوا أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ * أَؤُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ * سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ * إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ * وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ * فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ * فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ * إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ ﴾ [القمر: 23 - 31]، أي: صاروا كالمتفتت مِن يابس الزروع في حظيرة الماشية. وقال تعالى: ﴿ كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا * إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا * فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا * فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا * وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا ﴾ [الشمس: 11 - 15]. وقد روى البخاري ومسلم من حديث عبدالله بن زمعة قال: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر الناقةَ وذكر الذي عقرها فقال: ((﴿ إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا ﴾؛ انبعث لها رجلٌ عارم عزيز مَنيع في رهطه مثل أبي زمعة)). وقد روى البخاري ومسلم من حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: لما مَرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحِجْر قال: ((لا تدخلوا مساكن الذين ظلَموا أنفسهم أن يصيبكم ما أصابهم إلَّا أن تكونوا باكين))، ثم قنع رأسَه وأسرع السيرَ حتى أجاز الوادي. وإلى الفصل القادم إن شاء الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
تذكرة الأعلام السود ليوسف شبير أحمد البريطاني صدر حديثًا كتاب " تذكرة الأعلام السود "، تأليف: " يوسف شبير أحمد البريطاني "، تصدير: المفتي " محمد تقي العثماني "، نشر: " دار السمّان للنشر والتوزيع "- إسطانبول بتركيا. ويحتوي الكتاب على تراجم (101) علم من الصحابة الكرام والتابعين وغيرهم، حيث يتميز هذا القاموس بأنه اختار مُترجميه؛ بناءً على ألوانهم، على خلاف المعتاد من كتب التَّراجم الإسلاميَّة، وكانت ميزةُ هذه الأعلام أنَّهم من سود البشرة، يقول الناشر: "...إذ لم نجد كتابًا ترجميًّا صنَّفه أعلامُه بين أبيضَ وأسودَ، فلا فرقَ في أذهانهم بينهم، وإنَّما الفرقُ وتقسيم المجتمع لعروق عليا ودنيا هو في أذهاننا جرّاءَ الثَّقافات المُصدَّرة لنا أو العادات الجاهليَّة المُتوارثة، فكان السَّببُ في تأليفه السَّعي إلى إزاحة التباسٍ كان في ذهن إخواننا الأفارقة، وهو أنَّ لا أجدادَ لهم في الإسلام وما جاء إسلامُهم إلّا حديثًا عن طريق الدُّعاة". ونجد أن هذه الترجمات ضمت مجموعة منتقاة من الصحابة والتابعين والعلماء، إلى أيّامنا هذه مُرتَّبين تبعًا لسنيِّ وفاتهم. ولم يكن القصد من الكتاب الاستقصاء بل "التَّمثيل على عالميَّة هذا الدِّين وإنسانيَّته ومساواته بين الأعراق، وتبعًا لأسس ديننا لا حاجة للمُساواة إذ لا فرق في الأذهان أصلًا". يقول الكاتب: "فكان هذا الكتاب الذي أثبت ألّا فضل لعربيٍّ على أعجميٍّ إلّا بالتَّقوى، وكيف كان أعاجمُ المسلمين يتصدَّرون للفتوى والقضاء والمراكز العليا دون اعتبارٍ لألوانهم أو بلدانهم، بل كان الاعتبارُ كلُّ الاعتبار لعلمهم وفضلهم". وقد ضم الكتاب ملحق بست وأربعين نصيحة من نصائح لقمان عليه السلام، وهو من أعلام الكتاب المترجم لهم، وممن نوه بذكره ونصائحه في القرآن الكريم. وقد حرص الكاتب على توثيق هذه التراجم ونقلها من مصدرها والإشارة إليها في الهوامش لمن أراد الرجوع إلى المصادر.
بلاغة الخطاب التعليمي والحجاجي في القرآن والحديث لأيمن أبو مصطفى صدر حديثًا كتاب "بلاغة الخطاب التعليمي والحجاجي في القرآن الكريم والحديث الشريف "، تأليف: د. "أيمن أبو مصطفى"، نشر: "دار النابغة للنشر والتوزيع". ويرى الكاتب في هذه الدراسة أن الخطاب القرآني والحديث النبوي خطابان تعليميان، وعند دراسة هذين الخطابين بلاغيًا، ينبغي ألا نقتصر على بيان الجمال اللفظي التقليدي، وإنما على الباحثين أن يعمّقوا النظرة، ويبحثوا عن خصائص الخطاب التعليمي. ومن هنا يمكننا أن نقول إن لكل خطاب بلاغته، وليست هناك بلاغة عامة، ومن ثم فتخصصَ الكاتب في دراساته ووجَّهها لاكتشاف بلاغة الخطاب التعليمي، التي تدور حول التثبيت والتمكين للقضايا التشريعية أو التعبدية. وقد اهتم هذا البحث ببلاغة خطاب الحقيقة، وفي هذا الجانب تكون البلاغة ممكنة للمقتضى التعليمي أو الحجاجي أو التشريعي للخطاب في القرآن الكريم والحديث الشريف. ونجد أن الكاتب يرى أن مصطلح بلاغة يتأرجح بين معنيين متعارضين، يدل أولهما على الخطاب الذي يستهدف الإقناع وتغيير الأحوال والمقامات اعتمادًا على الملكة الخطابية، ويدل ثانيهما على الخطاب الذي يتنصل من مهمة الإقناع؛ لكي يصبح هو في ذاته هدفًا وغاية، أي لكي يصبح خطابًا جماليًا، ففي الحالة الأولى يدور الحديث حول " بلاغة الحجاج "، وفي الثانية يدور الحديث حول "بلاغة التخييل والتحسين". وهذه الدراسة تأخذ بالمفهوم الواسع للبلاغة، وليس المفهوم الضيق الذي يحصرها في المحسنات التزيينية وظواهر الزخرف البياني والبديعي. البلاغة حسب هذا المنظور - نظرية عامة - موجهة إلى دراسة وتحليل كل أنواع الخطاب: الشعري والنثري: القانوني والفلسفي والأدبي والديني والسياسي وغيرها. فيكون الهدف من الخطاب البلاغي إحداث تغيير في المخاطب، ويأتي ذلك عبر ضوابط أسلوبية تقنع وتؤثر وتغير. وقد وقفتْ الدراسة على الخطاب التعليمي في القرآن الكريم، والحديث الشريف، محاولة استجلاء الجوانب التربوية والتعليمية التي يمكن الإفادة منها في كل خطاب يهدف إلى التعليم أو الدعوة. فالخطاب القرآني خطاب تربوي تعليمي، يعتمد على الحوار والتواصل مع المتلقي، وهو في غايته خطاب حجاجي إقناعي بامتياز. فناقش الكاتب في مباحث بلاغة القرآن الكريم: بلاغة التثبيت في القرآن الكريم، وبلاغة التمكين في القرآن الكريم، وأثر المتلقي في تنويع الأساليب البلاغية. أما في بلاغة الحديث النبوي الشريف فتناول مباحث: استراتيجيات التعليم في الحديث النبوي، ومراعاة الحديث النبوي لحال المتلقي، واختلاف روايات الحديث النبوي. كما وقفتْ الدراسة على سبل المنكرين، في المغالطة والتضليل، مبينة وسائلهم وكيفية استغلالهم للغة في المراوغة والخداع. والكاتب هو د. " أيمن أبو مصطفى " رئيس قسم اللغة العربية في كلية الدراسات الإسلامية بالجامعة الإسلامية بولاية منيسوتا بأمريكا، حاصل على دكتوراه في النقد والبلاغة والدراسات الأدبية. كما عمل بكليات الفارابي بالرياض، ومدربًا بموقع رواق التعليمي، وله دورات تدريبية في مجال الخطاب التعليمي. من دراساته: • "الحجاج ووسائله البلاغية في النثر العربي القديم". • "الحجاج ووسائله البلاغية في الرسائل الديوانية للقاضي الفاضل".
تحذير الأنام بما في الأقوال والأفعال من الآثام لماجد البنكاني صدر حديثًا كتاب "تحذير الأنام بما في الأقوال والأفعال من الآثام"، تأليف: "أبو أنس ماجد البنكاني"، تقديم: الشيخ "محمد بن إبراهيم شقره"، نشر: "دار البشير للنشر والتوزيع" بالإمارات، و"دار عباد الرحمن للنشر والتوزيع" بالقاهرة. وهذا المؤلف يتضمن باقة من الأحاديث النبوية انتقاها الكاتب من بطون أمهات الكتب الحديثية اختارَ منها ما فيه الترهيبُ، والتحذير من الوقوع في خطايا الأقوال والأفعال، راجيًا لها أن تجد طريقًا لقلب كل مؤمن يخاف الله، وكل باحث عن سبيل الخلاص. وقد جعل الكاتب ترتيب الأحاديث كما هو نهج المحدثين على الأبواب الفقهية. وقد قام الكاتب بتخريج الأحاديث من تخريجات الشيخ الألباني رحمه الله تعالى، ومن كتاب "الكبائر" للذهبي بتخريج الشيخ "مشهور حسن". وباقي التخريجات هي من كتب العلماء في هذا الشأن. يقول فضيلة الشيخ "محمد بن إبراهيم شقره" في تقديمه للكتاب: "هذا الكتاب، الذي تخيَّر نصوصه، وجمعها، وأَلَّف بينها، حتى غدا على ما تنعم به عيون القرَّاءِ بظاهر أَلفاظه ومبانيه، وبباطن فحواه ومعانيه، صورةً علميَّة كاملةً، كاشفةً المرادات التي جيئَت إِليها هذه النصوص، أو جيءَ بها هي إِلى النصوص، على نحوٍ لم يُسبق إِليه صاحبنا أبو أَنس (أورثه الله الحُسنّى)، أستطيع القول معه، إنه أَوفى على الغاية، وبلغ به القصد، وأَنال القارئَ ودادًا موصولًا، وحبًَّا مأمولًا، بينه وبين كتابه هذا، فيأخذ النصَّ الواحد أَو النصوص على عشوائيَّة مأمونة، وعلى ثقةٍ مطمأَنَّةٍ، إِذ قد أَوثقها بحبل التخريج الأَمين، ووصلها برُمَّةِ العزوِ الصَّادق الدقيق، من غير إيهام بنسبةِ شيءٍ منه له، أَو إِلباسٍ بفعلٍ مشابٍ بكذب، أَو استراق الخطى بسراويل فضفاضة مسروقة، أو عباءَاتٍ واسعة مغصوبة، أو ملءِ بطنه بفرث منهوب، إِلى غير هذه الصنائع الفاحشة التي إِن دلَّت فإنَّما تدل على أَخلاق مجلوبة من مستنقعاتٍ آسنةٍ، والعلم إِن لم يكن الورع يسانده، يسدِّده إِلى العمل به، ويرخي عليه ثوبه، ويهديه إِلى صوابه، فهو دليلٌ إلى كل الرذائل، وسبيل تفضي إلى كل ما يزهِّد في الفضائل". وقد بين الكاتب في كتابه مجموعة من الآثام والذنوب بمنهجية مرتبة على الأبواب الفقهية حاول فيها استيعاب كل ما له علاقة بآثام تلك العبادة، بأسلوب متين، وديباجة مشرقة، معتمدًا على الصحيح من الأحاديث النبوية، والآثار، وبيانها كالتالي: كتاب الشرك بالله تعالى: • السجود عند التحية أو الانحناء • الرياء وهو من النفاق. • المرتد. • سب الصحابة رضي الله عنهم أجمعين. • سب الأنصار رضي الله عنهم. • الذبح لغير الله تعالى. • المكذب بالقدر. • الحكم بغير ما أنزل الله. • الكذب على الله تعالى وعلى النبي - صلى الله عليه وسلم -. • من ترك السنة أو سن سنة سيئة أو دعا إلى ضلالة. كتاب العلم: • التحذير من التعلم للدنيا وكتمان العلم وعدم العمل به. • التحذير من الجدال والمراء واللدد. كتاب الطهارة: • التحذير من التخلي على طرق الناس أو ظلمهم أو مواردهم والبول في الماء الراكد. • التحذير من استخدام اليد اليمنى في قضاء الحاجة. • التحذير من إصابة البول الثوب وغيره وعدم الاستبراء منه. • التحذير من عدم إسباغ الوضوء. • التحذير من دخول الرجال الحمام بغير أزر ومن دخول النساء بأزر وغيرها. كتاب الصلاة: • التحذير من ترك الصلاة. • التحذير من الخروج من المسجد مع الأذان لغير عذر. • التحذير من البصاق في المسجد وإلى القبلة وإنشاد الضالة فيه وغير ذلك. • التحذير من إتيان المسجد لمن أكل ثومًا أو بصلًا أو كراثًا أو فجلًا ونحو ذلك مما له رائحة كريهة. • التحذير من ترك حضور الجماعة لغير عذر. • التحذير من فوات صلاة العصر بغير عذر. • التحذير من تأخر الرجال إلى أواخر الصفوف وتقدم النساء إلى أوائل الصفوف واعوجاج الصفوف. • التحذير ممن أم قومًا وهم له كارهون. • التحذير من عدم إتمام الركوع والسجود وإقامة الصلب بينهما. • التحذير من رفع المأموم رأسه قبل الإمام في الركوع والسجود. • التحذير من رفع البصر إلى السماء في الصلاة. • التحذير من وضع اليد على الخاصرة في الصلاة. • التحذير من الالتفات في الصلاة. • التحذير من مسح الحصى في موضع السجود. • التحذير من المرور بين يدي المصلي. • التحذير من صلاة الإنسان وقراءته حال النعاس. • التحذير من نوم الإنسان إلى الصباح وترك قيام شيء من الليل. كتاب الجمعة: • التحذير من تخطي الرقاب يوم الجمعة. • التحذير من الكلام والإمام يخطب. • التحذير من ترك الجمعة ليصلي وحده. كتاب الصيام: • التحذير من إفطار رمضان بلا عذر ولا حاجة. • التحذير من تخصيص يوم الجمعة بالصوم. • تحذير المرأة أن تصوم تطوعًا وزوجها حاضر إلا أن تستأذنه. • تحذير الصائم من الغيبة والفحش والكذب ونحو ذلك. • تحذير المسافر من الصوم إذا يشق عليه. كتاب العيدين والأضحية: • التحذير من المثلة بالحيوان ومن قتله لغير الأكل. كتاب الصدقات: • التحذير من منع الزكاة. • التحذير من المن. • التحذير من المسألة وتحريمها مع الغنى وما جاء في ذم الطمع. • رد من جاءه شيء من غير مسألة وإن كان غنيًا. • التحذير من المكر والخديعة. • التحذير من منع فضل الماء. كتاب الحج: • التحذير من ترك الحج مع المقدرة عليه. • التحذير من إخافة أهل المدينة أو إرادتهم بسوء. كتاب الجهاد: • التحذير من الفرار من الزحف. • التحذير من الغلول من الغنيمة ومن بيت المال والزكاة. • التحذير من أن يموت الإنسان ولم يغز. • التحذير من ترك الرمي بعد تعلمه. كتاب الذكر والدعاء: • التحذير من استبطاء الإجابة وقوله: دعوت فلم يستجب لي. • التحذير من دعاء الإنسان على نفسه وولده وخادمه وماله. • التحذير من رفع المصلي رأسه إلى السماء في الصلاة وقت الدعاء. كتاب البيوع وغيرها: • التحذير من الحرص وحب المال. • التحذير من اكتساب الحرام وأكله ولبسه ونحو ذلك. • التحذير من الغش. • التحذير من الاحتكار. • التحذير من التفريق بين الوالدة وولدها بالبيع ونحوه. • التحذير من الدين. • التحذير من مطل الغني • التحذير من البناء فوق الحاجة • التحذير من إنفاق السلعة بالحلف الكاذب. • التحذير من اليمين الغموس. • التحذير من أكل الربا. • التحذير من المطفف في وزنه وكيله. • التحذير من المكس. • التحذير من كفران نعمة المحسن. • التحذير من غصب الأرض وغيرها. • التحذير من منع الأجير أجره والأمر بتعجيل إعطائه. • تحذير العبد الآبق ونحوه. كتاب النكاح: • التحذير من النظر إلى الأجنبية. • التحذير من الاختلاط. • التحذير من عصيان المرأة وزوجها والحذر من إسخاطه ومخالفته. • التحذير من ترجيح إحدى الزوجات وترك العدل بينهن. • التحذير من ترك النفقة على الزوجة والعيال. • التحذير من إيتان الرجل أهله وهي حائض. • التحذير من الغناء والموسيقى. • التحذير من السحاق. • التحذير من أن ينتسب إلى غير أبيه. • التحذير من إفساد المرأة على زوجها والعبد على سيده. • التحذير من إفشاء السر سيما كان بين الزوجين. • تحذير المرأة أن تسأل زوجها الطلاق من غير بأس. • تحذير المرأة من النشوز. • التحذير من المحلل والمحلل له. كتاب اللباس والزينة: • التحذير من لباس الشهرة. • التحذير من إسبال الإزار تعززًا ونحوه. • التحذير من لبس الرقيق من الثياب ووجوب ستر العورة. • التحذير من ارتداء الملابس التي عليها صلبان أو تصاوير. • التحذير من لباس الحرير والذهب للرجل. • تحذير المترجلة من النساء والمخنث من الرجال. • التحذير من حلق اللحية. • حد اللحية لغة وشرعًا. • أدلة تحريم حلق اللحية من السنة المطهرة. • أقوال الأئمة في حلق اللحية. • تحذير الواصلة في شعرها والمتفلجة والواشمة. • التحذير من إظهار المرأة زينتها إلا لمن استثناهم الله والتحذير من خروجها معطرة. • التحذير من إعانة المبطل. • التحذير من الرشوة. كتاب الطعام وغيره: • التحذير من استعمال أواني الذهب والفضة وتحريمه على الرجال والنساء. • التحذير من الأكل والشرب بالشمال وما جاء في النهي عن النفخ في الإناء والشرب من في السقاء ومن ثلمة القدح. • التحذير من الإمعان في الشبع والتوسع في المآكل والمشارب شرهًا وبطرًا. • التحذير من الأكل متكئًا أو منبطحًا على وجهه. • التحذير من أن يدعي الإنسان إلى طعام فيمتنع من غير عذر والأمر بإجابة الداعي. • التحذير من أكل الميتة والدم ولحم الخنزير. كتاب القضاء وغيره: • التحذير من القضاء والولاية وغيره. • التحذير من الظلم وأخذ أموال الناس بالباطل ودعاء المظلوم. • تحذير الحاكم وغيره من إرضاء الناس بما يسخط الله عز وجل. • التحذير من البغي. • تحذير فيمن خصى عبده أو جدعه أو عذبه ظلمًا. • التحذير من وسم الدابة في الوجه. • التحذير من شهادة الزور. كتاب الحدود: • التحذير من أن يأمر بمعروف وينهى عن منكر ويخالف قوله فعله. • التحذير من هتك ستر المسلم وتتبع عورته. • التحذير من مواقعة الحدود وانتهاك المحارم. • التحذير من شرب الخمر. • التحذير من الزنا وبعضه أكبر إثمًا من بعض. • تحذير القواد المستحسن على أهله. • التحذير من اللواط وإيتان البهيمة والمرأة في دبرها سواء كانت زوجته. • التحذير من القول على الله بغير علم. • التحذير من الإعراض عن الله تعالى بالغفلة. • التحذير من أن يلتقي المسلمان بسيفيهما. • التحذير من قتل النفس. • تحذير الذي يقتل نفسه. • التحذير من ارتكاب الصغائر والمحقرات من الذنوب. كتاب البر والصلة: • التحذير من عقوق الوالدين. • التحذير من قطع الرحم. • التحذير من أذية الجار. • التحذير من البخل والادخار شحًا. • التحذير من عود الإنسان في هبته. كتاب الأدب وغيره: • التحذير من الفحش وبذاء اللسان. • التحذير من الغضب. • التحذير من ابتداء أهل الكتاب بالسلام. • التحذير من أن يطلع الإنسان في دار قبل أن يستأذن. • تحذير المتسمع على الناس ما يسرّونه. • تناجي اثنين دون الثالث. • التحذير من التهاجر والتشاحن والتدابر. • تحذير من دعا إلى عصبية. • التحذير من ترويع المسلم. • التحذير من أذية المسلمين وشتمهم واللعن سيما لمعين. • التحذير من سب الدهر. • التحذير من القول للفاسق أو المبتدع: يا سيدي. • التحذير من ذي الوجهين واللسانين. • التحذير من قذف المحصنات. • التحذير من السرقة. • التحذير من قطع الطريق. • تحذير الغادر بأميره وغير ذلك. • التحذير من الخروج بالسيف والتكفير بالكبائر. • التحذير من قوله لمسلم يا كافر. • التحذير من النميمة. • التحذير من الغيبة والبهت • تحذير من جس على المسلمين ودل على عوراتهم. • التحذير من كثرة الكلام. • التحذير من الحسد • التحذير من الكبر والفخر والخيلاء والعجب. • التحذير من الكذب. • عقوبة الذي يكذب. • الكذب في إظهار الفضل وإيحاء ما ليس له. • الكذب بقصد المزاح. • التحذير من التدخين. • تحريم السحر. • تصديق الكاهن والمنجم. • التحذير من الحلف بغير الله وقول أنا بريء من الإسلام. • الطيرة. • التحذير من احتقار المسلم. • التحذير من الخيانة. • التحذير من تصوير الحيوانات والطيور. • التحذير من المصور في الثياب والحيطان ونحو ذلك. • التحذير من القمار واللعب بالنرد. • تحذير فيمن ليس في جوفه شيء من القرآن. • التحذير من أن يجلس الإنسان مجلسًا لا يذكر الله فيه ولا يصلي على نبيه - صلى الله عليه وسلم. • التحذير من جليس السوء والجلوس وسط الحلقة. • التحذير من أن ينام المرء على سطح لا تحجير له، أو يركب البحر عند ارتجاجه. • التحذير من اقتناء الكلب إلا لصيد أو ماشية. • التحذير من سفر الرجل وحده. • تحذير المرأة أن تسافر وحدها بغير محرم. • التحذير من استصحاب الكلب والجرس في سفر وغيره. • التحذير من إرسال المواشي أول الليل والتعريس في الطريق. • التحذير من الجلوس بين الظل والشمس. • التحذير من الأمن من مكر الله تعالى. • التحذير الإياس من روح الله تعالى والقنوط. كتاب الجنائز وما يتقدمها: • التحذير من تعليق التمائم والحروز. • التحذير من كراهية الإنسان الموت. • التحذير من سب الميت والإساءة له. • التحذير من النياحة واللطم. • التحذير من حداد المرأة على غير زوجها فوق ثلاث. • التحذير من أكل مال اليتيم. • التحذير من المرور بقبور الظالمين وديارهم، وبعض ما جاء في عذاب القبر ونعيمه وسؤال منكر ونكير عليهما السلام. • التحذير من الجلوس على القبر وكسر عظم الميت. كتاب علامات الساعة الكبرى: • ظهور المهدي. • الدجال صفته ومكان خروجه ومدة مكثه. • مدة مكثه في الأرض. • مكة والمدينة لا يدخلهما الدجال. • شدة فتنة الدجال والوقاية منها. • الوقاية من فتنة الدجال. • نزول عيسى عليه السلام. • صفة نزوله وقتله للدجال. • خروج يأجوج ومأجوج. • اقتراب خروجهم من السد. • الإذن في خروجهم من السد. • فسادهم في الأرض وهلاكهم بدعاء عيسى عليه السلام عليهم. • طلوع الشمس من مغربها. • إغلاق باب الإيمان والتوبة إذا طلعت الشمس من مغربها. • خراب الكعبة شرفها الله تعالى على يدي ذي السويقين الأفحج قبحه الله. • خروج الدابة. • خروج الدابة يكون قريب من طلوع الشمس ومن مغربها. • مكان خروج الدابة: قيل إنها تخرج من المسجد الحرام. • كلام الدابة وعملها. • الخسوفات الثلاثة والدخان. • الدخان. • النار التي تسوق الناس إلى محشرهم. • فصل في قبض أرواح المؤمنين قبل الساعة. كتاب البعث وأهوال القيامة: فصل النفخ في الصور وقيام الساعة • فصل في الحشر وغيره • فصل في ذكر الحساب وغيره • فصل في الشفاعة وغيرها. كتاب صفة النار: • فصل الاستعاذة من النار. • صفة النار أعاذنا الله منها بمنه وكرمه. • فصل في بُعد قعرها. • طعام أهل النار. • فصل في دخول المتكبرين النار. • فصل في عظم أهل النار وقبحهم فيها. • الخاتمة نسأل حسنها. يقول الكاتب في الخاتمة: "بعد أن تعرفنا على المعاصي بأنواعها وأضرابها، وعَرَضنا لآثارها في الدنيا والآخرة، حيثُ أنها سبب لسخطِ الله في الدنيا والآخرة، وهي طريق لِضَنك العيش أيضا في الدنيا، فإنّ المرجوَ منَ المسلمِ العاقلِ الذي لا بُدَّ له أن يلقيَ سمعه وأن يُحْضِرَ قلبه، وأن يجعله شاهدًا حاضرًا حتى تنفعه الذِّكرى، أن ينكب باكيًا نادمًا إذا كان من أصحاب المعاصي والذنوب مقلعًا عنها تاركًا لها عبادةً وديانةً، وخوفًا من الله سبحانه وتعالى الذي يأخذُ بالذَّنب ويعاقبُ عليه، وهو أيضًا جَلَّ في عُلاه يقبلُ توبةَ التائبين ويَسمعُ أَنينَ العائدينَ المنيبينَ، فيغفرُ لهم بسعةِ رحمتهِ وعظيمِ مَنّهِ وكرمهِ". والكاتب ماجد بن خنجر البنكاني أبو أنس العراقي، ولد في العراق في مدينة البصرة، عام 1965م، وسكن بغداد، خرج من العراق عام 1990م وتنقل بين الدول، مثل الأردن، ونجد، والحجاز، واليمن، وغيرها. والتقى بكبار المشايخ وأخذ منهم: 1- الشيخ محمد ناصر الدين الألباني رحمه الله طيلة فترة التسعينات. 2- الشيخ عبد العزيز بن باز. 3- الشيخ محمد بن صالح العثيمين. 4- الشيخ صالح الفوزان. 5- الشيخ عبدالعزيز آل الشيخ. 6- الشيخ صالح اللحيدان. 7- الشيخ ابن غديان. 8- الشيخ عبدالكريم الخضير. 9- الشيخ عبدالله السعد. 10- الشيخ سعدالسعدان. 11- الشيخ محمد العجلان. 12- الشيخ مقبل بن هادي الوادعي. ومن الكتب التي صدرت للمؤلف: 1- إتحاف ذوي الألباب بما في الأقوال والأفعال من الثواب. 2- تحذير الأنام بما في الأقوال والأفعال من الآثام. 3- آداب اللسان فيما يخص اللسان من خير أو شر في ضوء الكتاب والسنة وأقوال السلف. 4- الرواة الذين ترجم لهم العلامة المحدث محمد ناصر الدين الألباني رحمه الله تعالى من إرواء الغليل ومقارنتها بأحكام الحافظ ابن حجر رحمه الله، ويليه الفوائد الفقهية والحديثية. 5- رحلة العلماء في طلب العلم. 6- صحيح الطب النبوي في ضوء الكتاب والسنة وأقوال السلف. 8- أشراط الساعة الكبرى. 9- قصص وعبر وعظات من حياة الصحابيات. 10- تحذير الخلان من فتنة آخر الزمان المسيح الدجال. 11- تنـزيه كلام خير الأنام عما لا يصح من أحاديث الصيام. 12- نزْهَة العِبَاد بِفَوَائِد زَاد المعَادْ. 13- ابن لك بيتًا في الجنة. 14- خمسة أخطاء في الصلاة. 15- فضل الصيام والاستقامة على الأعمال. 16- رد السهام الطائشة في الذب عن أمنا السيدة عائشة. 18- تذكير الأحبة بما لهم من الأجر في الصدقة. 19- تحفة الأقران بفضل القرآن. 20- أحكام المرأة المسلمة. 21- القول المبين في قصص الظالمين. 22- وجوب طاعة ولاة الأمر بالمعروف وعدم الخروج عليهم. 23- كشف الإلباس عن مسائل الحيض والنفاس. 24- شرف المؤمن. 25- الذهب المسبوك بما يجب على المرأة من السلوك. 26- إعلام الأصحاب بما في الإسلام من الآداب. وقد حقق كتب كثيرة منها: 1- زاد المعاد في هدي خير العباد، واستخرج منه الفوائد. 2- تنبيه الأفهام شرح عمدة الأحكام، شرح الشيخ ابن عثيمين. 3- تهذيب إرواء الغليل بتحقيق الشيخ الألباني. 4- تفسير الأحلام لابن سيرين.
قصة صالح عليه السلام (1) نتحدَّث في هذا الفصل عن صالح نبي الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وهو ثاني رسول عربي بعد هود صلوات الله وسلامه عليهما، بعثه الله في جزيرة العرب، وقد أرسله الله عزَّ وجل إلى قومه ثَمود، وقد ذكر علماء النسَب أنه صالح بن عبيد بن أسيف بن ماشخ أو ماسح بن عبيد بن حاجر أو حادر بن ثمود بن عابر أو عاثر بن إرم بن سام بن نوح عليه السلام. وكان قومه يَسكنون الحِجر؛ وهي الأرض المعروفة باسم ديار ثمود أو مدائن صالح، وتقع على بُعد نحو ثمانين وثلاثمائة "كيلومتر" شمال غرب المدينة المنورة، ويقع في جنوبها الآن مدينة العلا، ولا يزال بعض آبارها ولا سيَّما البئر المعروفة ببئر النَّاقة باقية إلى الآن، كما لا تزال آثار ثَمود من البيوت والمقابر موجودة حتى الآن، وبخاصة البيوت التي كانوا ينحتونها في الجبال. وكان قوم ثمود يعيشون آمنين في بساتين وارفة الظِّلال كثيرة العيون، وزروع ونَخْل طلعها هَضيم، يتَّخذون في سهول الأرض قصورًا، وينحتون من الجبال بيوتًا آية في الحذق والمهارة والزِّينة، وقد يسَّر الله عز وجل لهم أسبابَ رغد العيش، وكانوا أقرب الأمم التي جاءت بعد قوم هود عليه السلام، وكانوا على علم بخبرها وما أوقعه اللهُ بهم من سوء العذاب لَمَّا كفروا بربهم وعبدوا الأصنامَ والأوثان، غير أنَّ ثمود أطغتهم النِّعمة، فجحدوا بآيات ربهم وكفروا بآلائه، فبعث الله عز وجل إليهم رسولًا منهم هو صالح صلوات الله وسلامه عليه، فدعاهم إلى توحيد الله عزَّ وجل وإفراده بالألوهيَّة، والربوبيَّة، والإقرار بأسمائه الحسنى وصفاته العلا، وذكَّرهم نِعَم الله عليهم وخوَّفهم من عقوبته، ونبَّههم إلى أن استمرارهم في الشِّرك بالله وجحودهم نعمَ الله قد يُنزل بهم ما نزل بقوم هود، وقد أجابه إلى الله عز وجل المستضعفون منهم، وأبى المستكبرون أن يُنيبوا إلى الله، و﴿ قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ ﴾ [هود: 62]. وطلبوا منه آيةً، فأخرج الله عزَّ وجل لهم الناقةَ من الصخر، وقال لهم صالح عليه السلام: ﴿ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ ﴾ [هود: 64]. وكان من آيات الله في آية الناقة أنها كانت تشرب من الماء ما يكاد يَقضي على مياههم، فاتَّفق صالح عليه السلام معهم على اقتسام الماء بينهم وبين الناقة، فتشرب يومًا لا يشاركونها في الماء، ويشربون يومًا لا تشاركهم الناقة في شربهم، ومع أنَّ هذه الآية تبهر العقول، وفيها الدَّليل القاطع والبرهان الساطع على صِدق صالح عليه الصلاة والسلام؛ فهي آية مبصرة، وحجَّة قاهرة - مع ذلك فقد استمرَّ المستكبرون على عِنادهم، وأصرُّوا على كفرهم وضلالهم، وحاولوا أن يَحولوا بين المؤمنين وبين صالح رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعملوا على إثارة الشُّبه في دعوة صالح عليه السلام، وقد منع الله عنهم المطر تخويفًا وإنذارًا، فقال المستكبرون: "إن صالحًا سبب جدب بلادنا، ومجيئه شؤم علينا، واتِّباع المؤمنين به له مَحقٌ لبركة أرضنا ومياهنا، وقالوا لصالح: ﴿ اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ ﴾ [النمل: 47]، وسبب شؤمِكم منكم، فرُسل الله هم وجوه البِر والخير، وهم أسباب سعادة الإنسانية إن استمسكت بمنهجهم وعملت بتعاليمهم، وأرشدهم صلى الله عليه وسلم إلى أنَّ توبتهم إلى الله والاستغفار من السيئات يجلب لهم خيرَ الدنيا والآخرة، وقال: ﴿ لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴾ [النمل: 46]، فلم يستجيبوا له وقالوا للمؤمنين: ﴿ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ ﴾ [الأعراف: 75]، قال المستضعفون: ﴿ إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ ﴾ [الأعراف: 75]، ﴿ قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ ﴾ [الأعراف: 76]، ﴿ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ ﴾ [الأعراف: 77]، وعصوا رسلَه، واجتمع زعماؤهم على أنْ يعقروا النَّاقةَ، فانبعث لها أشقى ثَمود؛ وهو رجل عارم عزيز مَنيع في رهطه، فعقرها، واستعجلوا العذابَ، ﴿ وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ ﴾ [الأعراف: 77]، ﴿ فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ ﴾ [هود: 65]، وأصرَّ تِسعةُ رهط منهم من المفسدين في الأرض على قَتْل صالح وإلحاقه بالناقة، و﴿ تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ ﴾ [النمل: 49]، أي: لنكبِسنَّه في داره بالليل مع أهله فلنقتلنَّه ولنجحدنَّ قتله، فلنقولنَّ لأولياء دمه مِن المشركين: ما شهدنا مَهْلكه ولا ﴿ مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ ﴾، ودبَّروا ودبَّر الله، فنجَّاه ومن معه من المؤمنين، وأرسل الله عز وجل عليهم الصيحةَ من فوقهم ورجفةً من تحتهم على حد قوله عز وجل: ﴿ وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ * فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ ﴾ [النمل: 50، 51]، وكما قال عز وجل: ﴿ فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ * وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ * كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِثَمُودَ ﴾ [هود: 66 - 68]، وكما قال الله عز وجل: ﴿ فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ * فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ * فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ ﴾ [الأعراف: 77 - 79]، وكما قال عز وجل: ﴿ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ * فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾ [الحجر: 83، 84]، وكما قال عز وجل: ﴿ فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ * فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ * إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ ﴾ [القمر: 29 - 31]، وكما قال عز وجل: ﴿ كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا * إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا * فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا * فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا * وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا ﴾ [الشمس: 11 - 15]. هذا، ولا وجود لذِكر عاد وثمود في الكتب التي بيَدِ اليهود والنَّصارى؛ ممَّا يُشعر بأنهم حرصوا على إزالة كل ذِكْر للنبوَّة في الأمَّة العربية حسدًا للعرب وكراهية أن تكون النبوَّة في غير بني إسرائيل.
قصة إسلام عبدالله بن سلَام كان عبدالله بن سلام حبرًا عالِمًا، واسمه الحصين بن سلام، وبعد إسلامه سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم عبدالله، قال يروي قصة إسلامه: سمعت برسول الله صلى الله عليه وسلم، عرفت صفته واسمه وزمانه الذي كنا نتوكف - نترقب - له، فكنت مسرًّا لذلك صامتًا عليه حتى قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، فلما نزل بقباء في بني عمرو بن عوف أقبل رجل حتى أخبر بقدومه وأنا في رأس نخلة لي أعمل فيها، وعمتي خالدة بنت الحارث تحتي جالسة، فلما سمعت الخبر بقدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم كبرت، فقالت عمتي حين سمعت تكبيري: خيبك الله، والله لو كنت سمعت بموسى بن عمران قادمًا ما زدت، فقلت لها: أي عمة، هو والله أخو موسى بن عمران وعلى دينه، بُعث بما بعث به، فقالت: أي ابن أخي، أهو النبي الذي كنا نخبر أنه يبعث مع نفس الساعة؟ قال: نعم، قالت: فذاك إذًا، قال: ثم خرجتُ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلمت، ثم رجعت إلى أهل بيتي فأمرتهم فأسلموا، وكتمت إسلامي من يهود، ثم جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت له: يا رسول الله، إن يهودَ قوم بهت - كذب وافتراء - وإني أحب أن تدخلني في بعض بيوتك وتغيبني عنهم، ثم تسألهم عني حتى يخبروك كيف أنا فيهم قبل أن يعلموا إسلامي، فإنهم إن علموا به بهتوني وعابوني، فأدخله رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض بيوته ودخلوا عليه فكلموه وسألوه، ثم قال لهم: ((أي رجل الحصين بن سلام فيكم؟))، قالوا: سيدنا وابن سيدنا، وحبرنا وعالمنا، فلما فرغوا من قولهم خرج عليهم ابن سلام وقال لهم: يا معشر يهود، اتقوا الله واقبلوا ما جاءكم به؛ فوالله إنكم لتعلمون أنه لرسول الله تجدونه مكتوبًا عندكم في التوراة باسمه وصفته، فإني أشهد أنه رسول الله وأومن به وأصدقه وأعرفه، فقالوا: كذبت، ثم وقعوا بي، فقلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ألم أخبرك يا رسول الله أنهم قوم بهت أهل غدر وكذب وفجور؟ قال: وأظهرت إسلامي وإسلام أهل بيتي، وأسلمَتْ عمتي خالدة بنت الحارث فحسن إسلامها.
الطبقة الأولى من مؤلفي السيرة النبوية وهؤلاء الأعلام يُعَدُّون من الطبقة الأولى الذين نقلوا لنا أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إمَّا بالنقل المباشر منه، أو ممن جاء بعده، وقد نقلوا إلينا بكتاباتهم التي تطوَّرت مع الزمن كُلَّ ما يتعلق بمحط الاتباع والأسوة منه صلى الله عليه وسلم أو من الأحداث المحيطة به، أو التي لازمت الفترة التي كانوا فيها، حتى أسسوا بصنيعهم هذا لعلم التأريخ، وكانوا هم لبنة الأساس لتدوين الأحداث التاريخية بجميع تفاصيلها التي وصلت إلينا. والذين يمثلون هذه المرحلة هم: • عبدالله بن عباس. • أبان بن عثمان. • عروة بن الزبير. • وهب بن منبه. • شرحبيل بن سعد. • ابن شهاب الزهري. فلنستهل عملنا بعبدالله بن عباس: المتوفى عام 68ه، لُقِّب بترجمان القرآن، وحَبْر الأمة، كان أكثر الصحابة تفسيرًا للقرآن حتى أخد عنه تلامذته مجاهد وسعيد بن جبير وغيرهم، كما كان له مجهودات كبيرة في خدمة درس السيرة النبوية؛ فقد كان من المُكْثِرين من رواية السِّيَر والمغازي؛ إذ روى ما يقرب من الألف وستمائة وستين حديثًا، ومادته العلمية هي التي صاغ منها التابعون (علماء السِّيَر والمغازي) كُتُبَهم وصُحُفَهم في مادة السيرة النبويَّة. التعليل لاختيار ابن عباس علمًا لهذه المرحلة: • ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وُلِد قبل الهجرة بثلاث سنوات، توفي الرسول صلى الله عليه وسلم وهو بعمر الثلاث عشرة سنة. • صحب رسول الله مدة ثلاثين شهرًا، وكان يبيت عند خالته ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، فيلتقي مع رسول الله في بيت واحد، وينام معه على وسادة واحدة؛ فلا غرابة أن يهتم بحياة النبي صلى الله عليه وسلم، وينقل لنا أخبارًا من حياته الداخلية ممَّا لم يكن لغيره من الرجال سبيل للاطِّلاع عليها. • كما يعتبر ابن عباس مؤسس المدرسة العلمية لمختلف فروع العلم بالمدينة حيث تركَّزت أكثر رواياته على علوم القرآن أولًا، ثم على الحديث والسيرة النبويَّة ثانيًا. • قدَّمه عمر رضي الله عنه على شيوخ الصحابة في مجلسه، وقال عنه: "ذلك فتى الكهول، له لسان سؤول وقلب عقول". • وعنايته بأسباب النزول للقرآن دليل على اهتمامه بالسيرة والمغازي، فقد روي عن ابن مسعود قوله: "نعم ترجمان القرآن ابن عباس". • وروى ابن سعد في الطبقات أن ابن عباس رضي الله عنه كان يجلس يومًا، ما يذكر فيه إلا المغازي. • وفي تاريخ الطبري تردَّد اسم ابن عباس من الجزء الأول إلى الجزء الخامس 276مرة، وأكثر الأخبار في المغازي. • لم يترك كتابًا في المغازي، إنما ترك أقواله وأخباره عند تلاميذه، وتشتمل في غالبها على أخبار السيرة وأسباب النزول. ومن نماذج أخباره: بعض أحوال رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت زوجه ميمونة بنت الحارث الهلالية. روى البخاري في الأذان (992)، عن كريب مولى ابن عباس رضي الله، أن عبدالله بن عباس أخبره أنه بات عند ميمونة – وهي خالته- فاضطجعت في عرض الوسادة، واضطجع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهله في طولها، فنام حتى انتصف الليل، أو قريبًا منه، فاستيقظ يمسح النوم عن وجهه بيده، ثم قرأ عشر آيات من سورة آل عمران، ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى شن معلقة، فتوضَّأ منها فأحسن الوضوء، ثم قام يصلي، قال ابن عباس: فقمت فصنعت مثله، ثم ذهبت فقمتُ إلى جنبه، فوضع يده اليمنى على رأسي، وأخذ بأذني يفتلها، ثم صلَّى ركعتين، ثم ركعتين، ثم ركعتين، ثم ركعتين، ثم ركعتين، ثم ركعتين، ثم أوتر، ثم اضطجع حتى جاءه المؤذن، فقام فصلَّى ركعتين، ثم خرج فصلَّى الصبح. عروة ابن الزبير المتوفى عام 94 هـ: نسبه ونشأته: • أبوه هو حواري رسول الله صلى الله عليه وسلم، وابن عمته صفية. • وأمه هي أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنه. • نشأ بالمدينة، وأخذ الحديث والأخبار من أبيه الزبير بن العوَّام، وأمه أسماء وخالته عائشة، وزيد بن ثابت، وأسامة بن زيد، وأبي هريرة، وعبدالله بن عمر، وعبدالله بن عباس. التعليل لاختيار عروة علمًا لهذه المرحلة: • اختار العِلْم، واختار أن يكون عالمًا بخلاف إخوته وأقرانه الذين اختاروا السلطة والحكم، فكان يجلس للناس مُحدِّثًا، ويكتب لهم مؤرخًا. • يُعَدُّ من الفقهاء العشرة الذين استعان بهم عمر بن عبدالعزيز أيام إمارته على المدينة، كما عُدَّ في طليعة فقهاء المدينة السبعة الذين انتهى إليهم علم الصحابة بالمدينة. • وقد مكَّنته نشأته في بيت آل الزبير، أن يكون قريبًا من أصحاب أصدق الأخبار وأوثقها عن حياة الرسول صلى الله عليه وسلم ومغازيه. • كما أتاح له علمه المدوَّن، وثقة العلماء فيما يرويه، واعتزاله الفتنة مكانةً مرموقةً عند خلفاء بني أمية بعد مقتل أخيه عبدالله على يد الحجَّاج الثقفي. • وأكثر الرُّواة عنه: ابنه هشام، وابن شهاب الزهري. • لم يترك عروة كتابًا مدونًا، وإنما أحاديثه منثورة في كتب الحديث، ومغازيه مدوَّنة، وتعتبر من أقدم المدوَّنات التأريخية، ونجد مادتها ظاهرة في كتب السيرة وطبقات ابن سعد، والتاريخ للطبري. • ومن نماذج مروياته، ما رواه من أخبار الهجرة إلى الحبشة، وأخبار الهجرة إلى المدينة، وغزوة بدر، ووفاة خديجة، وفتح مكة. خصائص منهج عروة: 1. أسلوبه في سرد الرواية التأريخية، هو أسلوب الحديث شكلًا ومتنًا، وهذا الأسلوب يُمثِّل مدرسة المدينة في التأريخ للسيرة النبوية وَفْق مناهج علماء الحديث، وحذو قواعدهم. 2. لا يلتزم بإيراد الإسناد أولًا، نفهم هذا من جميع أجوبته على أسئلة الخليفة عبدالملك، وهذا دليل على أن الإسناد كان لم يصبح آنذاك ضرورةً حتميةً. 3. يرسل الحديث أحيانًا. 4. أول من وظَّف أسلوب الإسناد الجمعي، وتبعه في ذلك ابن شهاب الزهري وابن إسحاق، كما يراعي التسلسل المنطقي للأحداث. 5. كان يُؤرِّخ للأحداث، فكان يصف ويقدم صورة حية وواقعية عن معاناة المسلمين الأوائل وما تعرضوا له من إيذاء وما أنجزوه من ثمرات الطاعة لله ورسوله، وما أفادوه من دروس الهجرة. 6. يمتاز أسلوبه الأدبي بالحيويَّة والسلاسة، ويبعد عن المغالاة، أو إثارة الانفعالات، ويوجز أحيانًا فيكتفي بالإشارات السريعة، ويسترسل أحيانًا فيوضح ويُفسِّر ما ألمح إليه، كما يستخدم الإشارات القرآنية، ويستشهد بالآيات من كتاب الله عز وجل في مكانها المناسب، كما يُورِد بعض الأشعار في الأخبار التي يذكرها، كما فعل ابن إسحاق فيما بعد في سيرته. 7. يتبع المأثور والحديث، وكان يستخدم كلمة زعموا مخرجًا له من أي شك أو تردد حصل عنده فيما يورده؛ لأنه كان يُبْدي رأيه في الحوادث التي يذكرها. 8. كان يهتم بإيراد الأحكام التشريعية المتعلقة بالحدث. 9. بدأ تأسيس الرواية التأريخية المعتمدة على الجمع المحض دون تحليل ولا نقد. أبان بن عثمان المتوفى عام 105هـ: نسبه ونشأته: أبوه هو الخليفة الثالث عثمان بن عفان، الملقَّب بذي النُّوْرَينِ. أمُّه: أم عمرو بنت جندب. وأخوه: عمرو. التعليل لاختيار أبان علمًا لهذه المرحلة: • تولى أبان إمارة المدينة سبع سنوات. • لم يشغله الحكم عن العلم، فقد اشتهر بالحديث. • أحد فقهاء المدينة العشرة. • روى عن زيد بن ثابت. • وروى عنه ابن شهاب الزهري، عمرو بن دينار وجماعة. خصائص منهج أبان: 1. يمثل مرحلة انتقال بين دراسة الحديث ودراسة المغازي. 2. أول من اشتهر بالتأليف في المغازي، وكانت لديه صُحُف تضمُّ مجموعةً من الأحداث والمواد المتعلقة بحياة النبي صلى الله عليه وسلم. 3. قليل الحديث إلا في مغازي رسول الله. 4. يعتمد تسلسل الأحداث في الأخبار. 5. والإرسال. 6. يمتاز بالوضوح في الأفكار والعناصر. 7. ثم الاستشهاد بالقرآن دون الحديث. 8. مع عدم الاستشهاد بالأشعار. 9. يذكر أسباب الغزوة أو السرية. نموذج من أحاديثه: • عن أبان بن عثمان عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مَن قال: بسم الله الذي لا يضُرُّ مع اسمه شيءٌ في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم؛ لم يضُرَّه شيء)). وهب بن منبه، المتوفى عام 120ه: نسبه ونشأته: أبوه منبه أسلم سنة 10هـ. وهو يماني المولد والثقافة. التعليل لاختيار وهب علمًا لهذه المرحلة: • تميز بالقصص. • أول من أدخل عنصر القصة على الدراسات الإسلامية، وأول من حاول التأريخ للرسالات. • جمع المغازي، ذكر ذلك حاجي خليفة في "كشف الظنون"، وهو ما أثبته بيكر هيدلبرج؛ إذ عثر على قطعة من مغازيه مكتوبة برواية عبدالمنعم عن أبيه عن أبي إلياس، عن وهب بن منبه، وتحتوي على تأريخ العقبة الكبرى، واجتماع قريش في دار الندوة والهجرة، وغزوة بني الخيثم، وهذا يدل على أنه تناول الفترة المكية والمدنية من حياة الرسول صلى الله عليه وسلم. وفي حلية الأولياء قطعتان من مغازيه؛ الأولى فيها تناولت الفترة المكية، والثانية تناولت وفاة النبي صلى الله عليه وسلم. ومن خلال هذين النموذجين يمكننا استنتاج منهجه: منهجه: • غريب نوعًا ما عن المدرسة المدنية. • لا يحفل بالأسانيد. • يعتني بالأشعار على طريقة أسلوب أيام العرب في الجاهلية. • يورد أخبارًا من كتب أهل الكتاب، ما عرف عنه فيما بعد بالإسرائيليات. • تناول المغازي بشكل عام، ولم يقتصر على أخبار الغزوات؛ بل تناول حتى وفاة النبي صلى الله عليه وسلم. • يستشهد بالآيات في كلامه. • يقطع القصة النثرية، ويدخل أبياتًا وقصائد شعرية ينسبها للمشركين؛ كعادة القصَّاصين قديمًا. • في كثير من أخباره لا يُصرِّح بالتحديث، ولا يذكر مَن روى عنه. • يوضح بعض الإشارات القرآنية بالإسرائيليات. شرحبيل بن سعد المتوفى عام 123هـ: نسبه ونشأته: مولى بني خطمة المدنيين. ولد في أواخر خلافة عمر بن الخطاب. روى عن زيد بن ثابت، وأبي هريرة، وأبي سعيد الخُدْري. التعليل لاختيار شرحبيل علمًا لهذه المرحلة: • كان عالمًا بالمغازي. • كتب ثَبَتًا بأسماء المهاجرين إلى الحبشة، والمهاجرين إلى المدينة، وقوائم بأسماء الصحابة الذين شاركوا في غزوة بَدْر، ثم في غزوة أُحُد. • يقول سفيان بن عيينة: "لم يكن أحد أعلم بالمغازي والبَدْرِيِّينَ منه". • إلا أنه اختلط بآخرة وافتقر؛ فترك الناس الرواية عنه. • لم يَرْوِ عنه ابنُ إسحاق ولا الواقدي شيئًا؛ ولكن ابن سعد أخذ عنه خبرًا في هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وانتقاله من قباء إلى المدينة. • وقد وثَّقه ابن حِبَّان. منهجه: • ممَّا وصلنا عنه يتضح أنه كان لا يسند أخباره، ولا نعلم إن كان هذا ديدنه في جميع مغازيه. • كما نفهم من كلامه عن الهجرة النبويَّة أنه لم يقصر كلامه على المغازي بالمعنى الخاص؛ وإنما أورد أمورًا من حياة الرسول صلى الله عليه وسلم ومنها هجرته. • كان يروي عن علماء الصحابة. • يغلب على مروياته شكلًا ومضمونًا أحاديث الأحكام. • قصر المتون ووضاحة المضمون. • أسانيده عالية. • حضور النفس التاريخي في بعض مروياته. • متخصص في حفظ الأسماء وقوائم المشاركين في أحداث السيرة. • من أوائل مَن أرسى علم التأريخ والقوائم، وتبعه تلميذُه موسى بن عقبة الذي اعتمد قوائمه قبل الاختلاط. العناصر المشتركة بين هؤلاء الرُّواة الثلاث: • يشتركون في الطبقة. • متقاربون في زمن الولادة. • كلُّهم من التابعين الذين عاشوا بالمدينة. • أخذوا عن كِبار الصحابة وأشهرهم. • كُلُّهم من رواة السير والمغازي. • هم صلة وصل بين الرواية وبين التدوين. • مرويات المغازي كانت ضمن الحديث باعتباره علمًا خامًا. • يشتركون في الموارد ذاتها من الصحابة. • جُلُّ مرويَّات هذه المرحلة كانت مضمنة في الحديث. • اشتركوا في التلاميذ الذين رَوَوا عنهم. • كلهم جمعوا بين علم الحديث وعلم المغازي على وجه الخصوص. • شكَّلُوا مصدرًا لمن بعدهم. • أغلب مرويَّاتهم جاءت محددة وواضحة. • أغلب رواة هذه المرحلة يشتركون في الطبقة الرابعة والخامسة. • لم تتضمَّن مرويَّاتهم التفصيل الدقيق لأحداث المغازي؛ إلا أنها بالمقارنة مع مرويَّات الصحابة فهي تحمل تفاصيل أكثر (فهم كانوا يجمعون شتات الروايات من الصحابة). • استشهادهم بالشعر لم يكن له تلك العناية الكبيرة مثل التي اعتنى بها ابن إسحاق بعدهم. • لم يستشهدوا كثيرًا بالأحاديث والآيات. • مرويَّاتهم حافظت على وحدة الموضوع. • كانوا يهتمُّون بإيراد الجانب الجغرافي: تحديد مكان الغزوة، السرية، والزمان. • وأيضًا بإيراد التفاصيل العسكرية (عدد الخيل، الإبل، الرماح...). • اتصال السند في التدوين. • مثل رجال هذه الطبقة انطلاق المدرسة الإسلامية للتأريخ في السيرة خاصة والتاريخ الإسلامي عامة. ابن شهاب الزهري الإمام التابعي الكبير المتوفى عام 124هـ: التعليل لاختياره علمًا لهذه المرحلة: • ينتمي إلى طبقة صغار التابعين، روى عن جملة من الصحابة دون طبقة عروة بن الزبير. • روى عن 10من الصحابة. • قال الإمام الطبري في كتابه المنتخب من ذيل المذيل: "كان ابن شهاب مقدمًا بمغازي رسول الله". • كان أعلم الناس بالمغازي. • حمل معظم أخبار المغازي عن الأوائل. • إسناده عالٍ جدًّا. • تتميَّز مرويَّاته باتصال السند. • لم يثبت أنه كان له كتاب في المغازي والسِّيَر؛ إنما فقط روايات وصحف. منهجه (معالم عامة): • التزامه الإسناد في جُلِّ مروياته، قال مالك رحمه الله: "أول من أسند الحديث ابن شهاب". • استشهاده بالآيات القرآنية على بعض الأحداث. • توسَّع على مَنْ سبقه. • تميَّز بالإسناد الجمعي (الجمع بين الرواية). • راعى التسلسُل والترتيب الزمني للأحداث دون التزام أولي به. • اهتمَّ بوضع التواريخ والسرايا المهمة. • استشهد بالشعر في مناسبات محدودة. • رواياته لا تجد فيها الحكايات الإسرائيلية التي توسَّع فيها المتأخِّرون. • يغلب على رواياته نَفَس المحدِّثين. • يراعي التعليق على الأخبار؛ إلا أن ذلك عنده قليل. • الترتيب في عرض تفاصيل الخبر، ويعرضها بصفة تامَّة إلى نهايته. طرق التحمُّل: الغالب عليه السماع في رواياته، الإجازة في مروياته، ثم العرض أو القراءة على الشيخ والوِجادة؛ إلا أنها قليلة. القيمة العلمية لمغازيه: • اعتماده على الإسناد (علامة بارزة ومميزة لعلمه)، وكان يذم من يترك الإسناد "قال: يخرج الحديث من عندنا شبرًا ويرجع ذراعًا....". • مروياته المرسلة لها شواهد موصولة؛ أي: إنه كانت له مراسيل، وإن كان اعتنى بالإسناد؛ إلا أن لها شواهد مُتَّصِلة. • علو الإسناد. • رواياته موافقة لما عند غيره من أهل المغازي إلا ما نذر. • اشتملت معظم مرويَّاته على غزوات الرسول وجزء كبير من سراياه. • جمع بين الرواية والتدوين؛ حيث إن فيها إضافةً من جهة الترتيب والتصنيف. • هو الأول الذي وضع الهيكل للتأليف في السيرة.
الاستشراق انفتاح معرفي أم هدم حضاري؟!!! الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وآله والصحابة والتابعين، ومَنْ تَبِعَهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد: بداية فإننا نقرر ونؤكد أهمية مشاركة المعرفة والتواصل بين الأمم والحضارات، لا سيَّما في القضايا التي يكمل فيها البشر بعضهم بعضًا، وقد جاء الإسلام بموقف واضح من هذه القضية عندما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (( الْكَلِمَةُ الْحِكْمَةُ ضَالَّةُ الْمُؤْمِنِ، حَيْثُمَا وَجَدَهَا فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا)) [1] ، فهذا نصٌّ واضحٌ في الترغيب في المعرفة بكافة صنوفها، كما أن قوله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ تعلَّم لُغةَ قومٍ أمِنَ مَكْرَهم" [2] فهذا نصٌّ تنبيهي لتفادي الخطر، ومعرفة طبيعة العدو، وإن ثبت عدم وجوده في دواوين السُّنَّة، فإن المعنى حقيقي، والآثر المترتب على هذا الكلام فاعل في واقع الأمة، كما يؤيده نص صحيح آخر، فعن زيد بن ثابت رضي الله عنه، قال: "أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم فتعلَّمت له كتاب يهود، وقال: ((إني والله ما آمن يهود على كتابي)) فتعلَّمته، فلم يمرَّ بي إلا نصف شهر حتى حذقته، فكنت أكتب له إذا كتب وأقرأ له، إذا كُتِب إليه" [3] . هذا المهاد التأسيسي حول الموضوع الذي نتناوله يقودنا بالضرورة إلى تأصيل معرفي مفاده كالآتي: أولًا: أن الإسلام اهتمَّ بنقل المعرفة من أي حضارة أخرى ولم يمنع ذلك، وإنما كان سابقًا غيره من الحضارات الأخرى في ذلك الصدد. ثانيًا: الإسلام لم يمنع من النقل عن الآخرين؛ بل شرع ذلك وتوسَّع فيه، وفي تراثنا ما يؤكِّد ذلك بصورة واضحة وحاسمة؛ كموقف المأمون من حركة الترجمة التي قام بها وكافأ المترجمين على ذلك و"قويت في عهده حركة النقل والترجمة من اللغات الأجنبية – وخاصة من اليونانية والفارسية – إلى العربية، فأرسل البعوث إلى القسطنطينية لإحضار المصنفات الفريدة في الفلسفة والطب والعلوم التطبيقية.. ولم تكد تلك الذخائر النفيسة تصل إلى بغداد حتى عهد المأمون إلى جماعة من العلماء؛ منهم "حنين بن إسحاق" (194-264هـ) (809-877م) و"الحجاج بن نصر" و"ابن البطريق" (المتوفى 184هـ - 800م)، و"قسطا بن لوقا" البعلبكي تُوُفِي حوالي (300هـ - 912م) و"ثابت بن قرة" المتوفى عام (288هـ -900م) وهم يُشكِّلون المرحلة الأكثر تألُّقًا في حركة الترجمة العربية في ترجمتها، وكان "قسطا بن لوقا" يشرف على الترجمة من اللُّغات اليونانية والسريانية والكلدانية إلى العربية، كما كان "يحيى بن هارون" يشرف على الترجمة من الفارسية القديمة [4] ، فهذا يؤكد لنا مدى الانفتاح الحضاري لدى المسلمين، والتواصل المعرفي الذي قامت به الأمة في العهود السابقة. ثالثًا: القضية المنهجية هنا هي إذا كان النقل والترجمة والتلاقح المعرفي عن الأمم الأخرى مباحًا في شريعتنا، فإن هناك سؤلًا منهجيًّا حول هذه القضية، هو ماذا نأخذ وماذا ندع؟ رابعًا: يُؤسَّس على هذا السؤال سؤال آخر؛ وهو لماذا نأخذ ولماذا ندع؟ هذه كانت رؤية الإسلام في الترجمة ونقل المعرفة الغربية، والاستفادة منها، إنها حالة من التواصُل والتلاقح الفكري، وخدمة الإنسانية في شتى الميادين، دون إقصاء أو هدم لمعرفة الآخرين؛ بل الاستفادة منها والعمل على تطويرها وَفْق الأُطُر الحضارية للأمة، فقد"امتزج المسلمون بعد الفتح الإسلامي بأهل البلاد المفتوحة على الصعيد الاجتماعي والفكري، وبفضل الحرية العقدية، التي منحها الفاتحون لمختلف الطوائف والمذاهب الأخرى، واصل هؤلاء نشاطهم الثقافي من دراسة وتأليف وترجمة سواء كان ذلك في المراكز الثقافية والأديرة أو المكاتب الشخصية، وشهد العصر الأموي تفاعلًا حضاريًّا وفكريًّا بين العرب المسلمين وأهل البلاد المفتوحة رغبة في التطلُّع نحو علوم هذه الأمم، فكانت البدايات الأولى لتعريب الفلسفة والطب والكيمياء والفلك، وقد توسَّعت حركة التعريب خلال القرن الأول الهجري بتأثير المسيحيين ورغبة بعض الأمويين" [5] . وبناءً على ما تقدَّم فإن بحث قضية الاستشراق ليس جديدًا، وإنما تناولها كثيرٌ من الكُتَّاب والمفكِّرين في مصنفات متعددة، وبحوث ومقالات بالإضافة إلى المحاضرات المرئية والمسموعة، وما يَعنينا في هذا الصدد ليس تكرار المُكرَّر أو مجرد تسويد صفحات من الكلام فقط، إن ما نعنيه ونقصده الآتي: أولًا: الاستشراق حفريات في جذور المصطلح وحدوده المعرفية. تتفق معاجم اللغة حول مادة الاستشراق واشتقاقها، وأنها من الجذر "استشرقَ يستشرق، استشراقًا، فهو مُستشرِق، واستشرق الأوربيُّ: اهتمَّ بالشرق والدراسات الشرقيَّة، مستشرق فرنسيّ: أديب فرنسيّ يهتمُّ بدرس تراث الشَّرْق وحضارته ولغاته" [6] . وتوسَّع بعضهم فقال: "استشرق: طلب علوم أهل الشرق ولغاتهم "مولدة عصرية"، يقال لمن يعني بذلك من علماء الفرنجة" [7] . من ذلك يُمكننا أن ندرك الجذر اللُّغوي للاستشراق وأنه التوجُّه نحو الشرق ودراسة علومه ومعارفه، وعاداته وتقاليده، وكافة ما يتعلَّق بالشرق حتى انتهى الأمر إلى دراسة السيسولوجي – علم اجتماع الأمم- وعلم النفس وطبيعة العقلية الشرقية، ومزاجيتها، وكافة القضايا التي يمكن من خلالها تفتيت الجزئيات الكبرى إلى بيئات صغيرة يمكن من خلالها بناء رأي أو تصوُّر حول تلك القضية أو هذا المحور. ثانيًا: تحديد الهدف الحقيقي للاستشراق. إن تحديد الأهداف المتعلقة بكل قضية يساعد في إدراك تلك القضية، فما من شيء في الكون إلا وله عِلَّة، سواء أدرك البشر هذه العلة أم لا، والغرب لا يقوم بقضية لمجرد أنها قضية – وإن كان وجد ذلك في بعض تصوُّرات المستشرقين- إلا أنه طبقًا لنظرية النفعية فإن الغربي نفعي في كافة قضاياه حتى ما يتعلق بالأخلاق والقيم والمبادئ، وهذه حقيقة لا بُدَّ من التسليم لها؛ حتى نقف ونرصد أهداف الاستشراق الحقيقية، فإن خلف كل أمر ظاهر أمر آخر لم يسلط الضوء عليه حتى يمرر ويحقق أهدافه، والاستشراق من هذا الباب، فإن ظاهره خدمة علوم الأمة بكافة صنوفها إلا أنه يهدف إلى السيطرة على الأمة في النهاية، فقد "تعددت أهداف المستشرقين ما بين دينية، وسياسية، واستعمارية، وممَّا لا شكَّ فيه أن الهدف الديني هو أساس أهداف المستشرقين، ويعد أهم أسباب نشأته، وقد صاحب الاستشراق طوال مراحل تاريخه، وحتى نهاية القرن التاسع عشر، ولم يكن الاستشراق قد حرَّر نفسه من إيثار الخلفية الدينية التي اشتق منها أصلًا إلا بدرجة ضئيلة واتجاهات الهدف الديني تتمثل في محاربة الإسلام،....، والزعم بأنه دين مأخوذ من المسيحية واليهودية، والانتقاص من قيمه، والحط من قدر نبيِّه، فضلًا عن حماية المسيحيين من خطر الدخول في الإسلام؛ وذلك بحجب حقائقه عنهم، واطلاعهم على ما فيه" [8] . إن الغرب يخشى قضية في غاية الخطورة بالنسبة له؛ إنها قضية دخول أوربا في الإسلام، ويحاول منع ذلك بكافة السُّبُل، ومن بين تلك السُّبُل وآكدها الاستشراق؛ لذلك بعد "استشعار الغرب لقوَّته العسكرية والسياسية بعد أَنْ استقرت فيه معالم نهضته الفكرية والحضارية عبر القرن السابع عشر والقرن الثامن عشر، ثم بدأ في اكتساح العالم خلال القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين، وكان هذا يقتضي أمرين: أن يُهيَّأ الرأي العام الغربي لمثل هذا العمل؛ لأن الاقتحام العسكري والاختراق الثقافي والسياسي والاقتصادي سيُكلِّف الغرب الكثير، وينبغي أن يضحي من أجل ذلك بقوى عسكرية، وبإمكانات اقتصادية، وبتسخير قدرة الأجهزة العلمية - إلى حين - لهذه المشكلة المثارة، فالمستشرقون هم الذين صوَّروا الشرق أمام الغرب، هم الذين قالوا: من هم المسلمون؟ ما هي خصائصهم العقلية؟ ما هي ثقافتهم؟ ما هي أعرافهم وتقاليدهم؟ إلى أي شيء يدفعهم الإسلام؟ وكم يؤثر فيهم؟ في الوقت الذي توضع فيه الخطط العسكرية والاقتصادية. هذا الأمر - تصوير الشرقيين أمام الغربيين - كان هدفًا من الأهداف الكبيرة لحركة الاستشراق؛ إذ كان المطلوب إعطاء صورة معينة تمكِّن من الغزو العسكري، والاقتصادي، والثقافي، وهكذا بدأت الدراسات التي اتسمت بطابع عرقي في بدايات القرن التاسع عشر الميلادي، والتي أدَّتْ أولًا إلى تقسيم البشر إلى ساميين وآريين وحاميين، وأن هؤلاء البشر يتمايزون تمايُزًا عرقيًّا، وأن خصائصهم العقلية والجنسية تتباين" [9] . وهكذا تتضح المسارات أمام القارئ في قضية الهدف الحقيقي من الاستشراق، والفارق الجوهري بين حركة الترجمة التي قادها المسلمون في العصور الأولى، وبين حركة الاستشراق التي يقودها الغرب، وتهدف إلى هدم الأُمَّة في النهاية. ثالثًا: أساليبه لتحقيق تلك الأهداف: أساليب الغرب مُتعدِّدة في السيطرة على الأُمَم، وعلى رأس تلك الأساليب العقل، فالغرب يتعامل مع كافة القضايا من منظور عقلي بعيدًا عن العواطف أو الانفعالات الوقتية التي تؤدي إلى تحقيق الأهداف المنشودة، وهذا أمرٌ مركوزٌ في تكوينهم الجيني وفقًا لطبيعة البيئة الباردة التي يقيمون فيها كما يقول علماء الاجتماع. بالإضافة إلى أنه "قد جَنَّدَ الاستعمار بعض المستشرقين - كما يقول الدكتور مصطفى السباعي - لتسميم هذا المنبع الروحي، فنصبوا الفخَّ باسم البحث العلمي والتفكير الحُر، وجاء نفر فوقعوا في الفخِّ، وراحوا يُرَوِّجُونَ بضاعة الغُزاة؛ إمَّا عن جهل بحقيقة التراث الإسلامي، أو عن انخداع بالأسلوب العلمي المزعوم، وإمَّا عن رغبة في الظهور بمظهر التحرُّر العقلي وشجاعة الرأي، وإمَّا عن انحراف فكري ووجداني بتأثير الاستهواء" [10] . أساليب الاستشراق أصبحت الآن مقعدةً بصورة كبيرة، وهذا ما يجعل الاستشراق ليس حسن النوايا، أو الهدف منه البحث العلمي ومشاركة المعرفة بين الأمم كما كان المسلمون يفعلون ذلك؛ بل هو هدم حضاري وإحلال واستبدال نماذج فكرية مركوزة في العقل المسلم بقضايا أخرى تحت غطاءات متعددة؛ كخدمة السُّنَّة والقرآن وغيرهما من العلوم الإسلامة، والعلوم التجريبية، وما يؤكد ذلك أن الغرب لا يسمح بمشاركة الأمة في قضايا التنمية الحقيقية والعلوم التقنية والطبية الحديثة؛ بل يمنع ذلك بكافة السُّبُل، ومن هذا ندرك نية الاستشراق الحقيقية في ذلك. رابعًا: هل الاستشراق مقتصر على علوم الشريعة أم لا؟ الاستشراق لا يقتصر على العلوم الشرعية والمتعلقة بالكتاب والسُّنَّة فحسب؛ وإنما يهدف إلى أكبر من ذلك، فكافة المعرفة مستهدفة من قبل الاستشراق، حتى لا يمكن للأُمَّة القيام من جديد، وهم بذلك يقفون حجر عثرة أمام ذلك بكافة السُّبُل، فالعلماء النابغون في الأُمَّة يتم استقدامهم للعمل في الغرب، وبذلك لا تستفيد منهم الأمة ويصبح نتاجهم المعرفي للحضارة الغربية، والعلماء الذين يمتنعون عن ذلك لا مكان لهم، وبذلك ندرك طبيعة الاستشراق، وكيف يتعامل معنا، وأنه لا يقتصر على العلوم المتعلقة بالشرع فحسب؛ وإنما هي دائرة مكتملة الأقطار. خامسًا: موقف الأُمَّة من الاستشراق: الأُمَّة مطالبة في مجموعها بإدراك هذه الحقائق التي أوردناها في هذه الورقة بالأدلة؛ ولهذا فإن أول تلك الخطوات الوعي بحقيقة الاستشراق، ثم الانتقال إلى قراءة وترجمة المنجز المعرفي الغربي والوقوف على دقائق هذا المنجز، وليس الانشغال بترجمة الروايات والقصص وغيرها من القضايا البسيطة؛ بل لا بُدَّ من ترجمة العلوم التي تخدم الأُمَّة بصورة مباشرة والتقنية الحديثة، والتكنولوجيا حتى نتمكَّن من استدراك ما فاتنا. [1] أخرجه ابن ماجه في سننه (كتاب الزهد/ باب الحكمة (5/ 269) قال المحقق شعيب الأرنؤوط: إسناده ضعيف جدًّا، إبراهيم بن الفضل -وهو المخزومي- متروك. وأخرجه الترمذي (2882) من طريق عبدالله بن نمير، بهذا الإسناد. وقال الترمذي: حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وإبراهيم بن الفضل المخزومي ضعيف. وفي الباب عن علي عند الديلمي في "مسند الفردوس" 2/ 101، وفي إسناده أبو الدنيا المعمر، وهو كذَّاب. وعن زيد بن أسلم مرسلًا عند القضاعي في "مسند الشهاب" (146). وفي إسناده هشام بن سعد المدني، وهو ضعيف. [2] قال الشيخ ابن باز رحمه الله: " ليس له أصل، هذا من كلام بعض الناس، ما هو من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، من كلام بعض العلماء، نعم، موقع الشيخ ابن باز، متاح على الرابط الآتي: https://binbaz.org.sa/fatwas/ [3] أخرجه أبو داود (3/ 318) قال الشيخ شعيب الأرنؤوط: صحيح. وهذا إسناد حسن من أجل ابن أبي الزناد واسمه عبد الرحمن. أبو الزناد: هو عبدالله بن ذكوان. وأخرجه الترمذي (2912) من طريق عبد الرحمن بن أبي الزناد، بهذا الإسناد. وقال: هذا حديث حسن صحيح، وعلَّقه البخاري (7195) بصيغة الجزم. وهو في "مسند أحمد" (21618). وأخرجه أحمد (21587)، والطحاوي في "شرح مشكل الآثار" (2038)، وابن حبان (7136) من طريق الأعمش، عن ثابت بن عُبيد، عن زيد بن ثابت قال: قال لي رسول الله صلَّى الله عليه وسلم: ((تُحسن السُّريانية؟ إنها تأتيني كتب))، قال: قلت: لا، قال: ((فتعلَّمْها))، فتعلَّمْتُها في سبعة عشر يومًا. وهذا إسناد صحيح. وثابت بن عبيد نص البخاري على سماعه من مولاه زيد بن ثابت في تاريخه "الكبير"، وأخرج في "الأدب المفرد" (286) ما يفيد أكثر من سماعه من زيد بن ثابت، خلافًا لما ظنه الذهبي في "تاريخ الإسلام" من أن روايته عن مولاه منقطعة. [4] عبدالفتاح مصطفى غنيمة: العلم والترجمة في عهد الخليفة المأمون، 5/7/2010م، متاح على الرابط الآتي: http://www.aslein.net/showthread.php?t=12444 [5] خالد يوسف صالح: حركة الترجمة في بلاد الشام العصر الأموي (41هـ- 132هـ) (661م-750م)، مجلة أبحاث كلية التربية الأساسية، المجلد ١١، العدد1، ص234. [6] أحمد مختار عبدالحميد عمر: معجم اللغة العربية المعاصرة، معجم اللغة العربية المعاصرة، عالم الكتب، الطبعة: الأولى، 1429 هـ - 2008 م (2/ 1192). [7] أحمد رضا: معجم متن اللغة، معجم متن اللغة (موسوعة لغوية حديثة)، دار مكتبة الحياة - بيروت (3/ 310) . [8] صلاح سالم باعثمان: منهج المستشرقين في دراسة القضايا القرآنية، حولية كلية أصول الدين، الأزهر الشريف، جامعة المنوفية، ع 36،1437هــ، 2017، ص17. [9] أكرم بن ضياء العمري: موقف الاستشراق من السُّنَّة والسيرة النبوية ، الجامعة الإسلامية – بالمدينة المنورة، كلية الدعوة، ص50. [10] أنور الجندي: السُّنَّة النبوية في مواجهة شبهات الاستشراق، (ص: 8).
تبصير أولي الألباب بسيرة الرسول في سؤال وجواب صدر حديثًا كتاب "تبصير أولي الألباب بسيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - في سؤال وجواب"، تأليف: "محمد محمد محمد شبانة"، نشر: "دار اللؤلؤة للنشر والتوزيع". والكتاب يتضمن دروس دعوية من السيرة النبوية بها فوائد عقدية وتفسيرية وفقهية، وتراجم وردود على شبهات أعداء خير البرية - صلى الله عليه وسلم -. وهو عبارة عن ثلاثمئة سؤال وجواب في سيرة الحبيب - صلى الله عليه وسلم -.. جاء هذا الكتاب في ثلاثة أجزاء: الجزء الأول: بدأه الكاتب بطرح أسئلة حول معنى السيرة ومصادرها وأحوال العرب قبل الإسلام وميلاد الرسول صلى الله عليه وسلم ثم مرحلة طفولته إلى سن الأربعين ثم مرحلة نزول الوحي إلى رحلة الطائف عام (١٠) من البعثة. الجزء الثاني: جاء استكمالًا للأول بدأه من الإسراء والمعراج مرورًا بالهجرة النبوية ثم بغزواته صلى الله عليه وسلم وأولها غزوة الأبواء (٢) هجرية إلى سرية ذات السلاسل (٨) هجرية. الجزء الثالث: جاء استكمالًا للثاني بدأه من غزوة فتح مكة إلى وفاته صلى الله عليه وسلم ثم أتبع ذلك بقصائد في مدح الرسول ثم بجدول مختصر لغزواته صلى الله عليه وسلم ثم بملحق في الرد على أشهر ثلاثين شبهة حول شخص الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم. والمؤلف هو محمد محمد محمد شبانة إمام وخطيب بوزارة الأوقاف له الكثير من المقالات الدعوية، وقدم للكتاب فضيلة الشيخ "عبد الله أبو مشهور" من علماء وزارة الأوقاف.
تحصيل الأجر في حكم أذان الفجر لعبد الغني النابلسي صدر حديثًا كتاب: "تحصيل الأجر في حكم أذان الفجر"، للعلامة "عبد الغني بن إسماعيل بن عبد الغني النابلسي" (ت 1143 هـ)، تحقيق: د. "منيرة بنت علي السهلي"، أستاذ الفقه المشارك بقسم الدراسات الإسلامية جامعة الأميرة نورة بنت عبد الرحمن، نشر: "دار كنوز إشبيليا للنشر والتوزيع". وهذا التحقيق لإحدى رسائل "عبد الغني النابلسي" التي كانت في عداد المخطوطات والتي تدور حول تفنيد الجدل والخلاف المعاصر عند الكثير من الفقهاء، حول امتداد وقت السحور حتى أذان الفجر - الصادق - أو بعده من الفجر، ويتعلق موضوعه بحكم أذان الفجر قبل دخول الوقت، فهو من الأحكام الفقهية في أبواب العبادات، ضمن كتب الفقه في جميع المذاهب، وقد اقتصر المؤلف هنا على المذهب الحنفي في الغالب. وقد صرح بذلك المؤلف في المقدمة بقوله: (فيقول العبد الفقير الحقير عبدالغنى النابلسى - حفظه الله تعالى، هذه رسالة في بيان حكم الأذان في الفجر قبل دخول الوقت وعدم إعادته في الوقت، جمعتها من كتب أئمتنا الحنفية رحمهم الله، لأن الحاجة ماسة الى ذلك، وسميتها: (تحصيل الأجر في حكم أذان الفجر). وينقسم منهج التحقيق إلى قسمين: القسم الأول: ويتعلق بالدراسة، وفيه مبحثان: المبحث الأول: في المؤلف، وفيه مطالب: المطلب الأول: نسبه، ومولده، ونشأته. المطلب الثاني: عصره. المطلب الثالث: حياته العلمية. المطلب الرابع: أهم شيوخه. المطلب الخامس: أهم تلاميذه. المطلب السادس: وفاته. المطلب السابع: آثاره. المبحث الثاني: يتعلق بدراسة المخطوط، وفيه مطالب: المطلب الأول : التحقق من نسبته للمؤلف. المطلب الثاني: التحقق من عنوان المخطوط. المطلب الثالث: قيمته العلمية. المطلب الرابع: منهج المؤلف في تأليفه. المطلب الخامس: نسخ المخطوط، ووصفها، وأماكن وجودها. المطلب السادس: الأصول أو المراجع التي اعتمد عليها. القسم الثاني: المنهج المتبع في التحقيق: 1. نسخ المخطوط والمقارنة بين النسخ واعتماد نسخة لتكون الأصل، بناء على ما يميزها عن غيرها من النسخ، مثل اكتمالها، ووضوح الخط، وإمكان القراءة، وقلة السقط. 2. بعد المقارنة بين النسختين، وإثبات الفروق بينهما، اعتمدتْ طريقة اختيار النص المختار. 3. المقارنة بينه وبين أصوله للتوصل للعبارة الصحيحة، والسليمة عند الحاجة لذلك. 4. بيان المعاني اللغوية والاصطلاحات الفقهية إن وجدت. 5. إذا سقط من المتن حرف أو كلمة، أضافت المحققة ذلك ليستقيم المعنى مع الإشارة لذلك في الهامش. 6. ضبط ما يحتاج لضبط مع وضع علامات الترقيم: كالفاصلة، والنقطة، دون الإشارة لذلك. 7. كتابة الهمزات الساقطة على الألف، أو الواو، مع عدم الإشارة لذلك في الهامش، نظرًا لكثرتها. 8. عزو الآيات إلى مواضعها ببيان اسم السورة ورقم الآية. 9. عزو النقول الواردة في المخطوط إلى مصادرها ما أمكن. 10. تخريج الأحاديث من مصادرها، وبيان درجتها ما أمكن ما لم تكن في الصحيحين أو أحدهما لصحتهما. 11. ترجمة الإعلام الوارد ذكرهم. 12. الإشارة لأرقام ألواح المخطوط في الهامش. الخاتمة: وفيها أهم النتائج. وتبرز قيمته العلمية من تناول المؤلف فيه حكم الأذان قبل دخول وقت صلاة الفجر عند الحنفية، وبين الحكمة من تقديمه قبل دخول الوقت، وأنه لابد من إعادة الأذان بعد دخول الوقت عند الحنفية، وذكر بعض الأقوال المخالفة في المذهب، كقول أبي يوسف، والإمام الشافعي، وأشار الى عمل أهل المدينة. وللكتاب عدة نسخ مخطوطة قوبل عليها أصل الرسالة: ١. مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية، المملكة العربية السعودية، الرياض، رقم الحفظ; ٢٣٨٩-5- فك، وأفاد المركز أنها موجودة في مكتبة الكونجرس الأمريكي. ٢. دار الكتب المصرية (القاهرة) رقم الحفظ ٣٢٨ مجاميع. وهي عبارة عن أربعة ألواح ونصف (تسع صفحات) من (ص١١٨ الى صفحة ١٢٢)، في كل صفحة ٢٣ سطرًا، وهي نسخة كاملة وهي التي اُعتمدت في التحقيق، ورمز لها بنسخة "مصر". ٣. مكتبة الحرم المكي، الرقم العام ٣٨٢٠/ ٢٦ فقه، كتبت بخط النسخ، والعنوان ورؤوس المسائل بالخط الأحمر، وهو عبارة عن ثلاثة ألواح (ست صفحات) من (ص ٥١٣- 518) ٢٣ سطرًا في ١٤سم، وهي نسخة ناقصة الآخر، وهي التي اعتمدت في المقارنة، ورمز لها بنسخة "مكة". ٤. دار الكتب المصرية (القاهرة) رقم الحفظ ٧٤٧ مجاميع طلعت، وهي عبارة عن لوحين (أربع صفحات)، في الصفحة ٣٣ سطر، كتبت بخط دقيق، وهي نسخة غير واضحة، حيث أنها كتبت بماء الذهب كما أفاد بذلك مسؤول المخطوطات بمكتبة دار الكتب المصرية وعند التصوير لا تكون واضحة. ٥. مكتبة الظاهرية، سوريا، دمشق، رقم الحفظ: ٥٣١٦، ١٧٧، وعدد أوراقها ٤ ورقات ضمن مجموع من صفحة ١١٦-١١٩ (فهرس مخطوطات الكتب الظاهرية المجاميع ج١/ 97). وقد اعتمد النابلسي على كثير من كتب أئمة الحنفية، ما بين مخطوط، ومطبوع، وكثيرًا ما يشير إلى بعض الكتب التي ينقل منها مثل كتاب الهداية، والمبسوط، والأحكام، والقنية، والنهاية شرح الهداية، والكافي، والحاوي، وفتح القدير، وكتاب الفتاوى الظهيرية، والخلاصة، وشرح الحلبي على منية المصلي، والمجتبى، وغيرها، وأحيانًا يشير إلى اسم المؤلف مثل والده، وابن نجيم، والأقطع... وغيرهم. ومن أهم النتائج التي خرجت بها المحققة من دراسة الرسالة: ١. حث طلاب وطالبات الدراسات العليا على إبراز ما كتبه العلماء بالتحقيق والدراسة. ٢. وجوب الإعلان عن دخول وقت الصلاة عن طريق الأذان، لا عن طريق أجهزة التسجيل. ٣. أن المؤذن مؤتمن على الأذان، فلا يؤذن إلا بعد دخول الوقت، لئلا يلتبس الأمر على المسلمين. ٤. أن الأذان قبل الوقت في غير الفجر فيه غش للمسلمين، إذ قد يصلون قبل دخول الوقت. ٥. أن الإعلان لدخول وقت الصلاة خاص بكل فرض في وقته ما لم ينص على غير ذلك، كما في عرفة وجمع (مزدلفة). ٦. أن أذان الفجر يسبقه أذان قبل الوقت مع إعادته بعد دخول الوقت، بخلاف باقي الصلوات، لتنبيه القائم، وتذكير الصائم بالسحور، وإيقاظ النائم للصلاة. ٧. أن أصل وقت السحور مأخوذ من قوله تعالى: ﴿ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ﴾ [البقرة: 187] حيث تشير الآية كما هو في كثير من التفاسير على أن الخيط الأبيض هو أول الفجر الصادق. والمؤلف هو عبد الغني بن إسماعيل بن عبد الغني النابلسي الدمشقي الحنفي (1050 - 1143 هـ / 1641 - 1730م)، شاعر، عالم بالدين والأدب مكثر من التصنيف، ولد ونشأ في دمشق ورحل إلى بغداد وعاد إلى سورية وتنقل في فلسطين ولبنان وسافر إلى مصر والحجاز واستقر في دمشق وتوفي فيها. كان والده أول أستاذ له، ويقال إنه ختم القرآن وعمره خمس سنوات. وفي التاسعة من عمره حضر مع والده المذكور سماعًا عند المولوية مع كثير من علماء دمشق والمفتين في المذاهب الحنفية والشافعية وغيرهم كشيخ الإسلام عبد الرحمن العمادي. وحين بلغ العاشرة كان قد حفظ كثيرًا من المقدمات ومن المنظومات مثل ألفية بن مالك في النحو، والكنز في الفقه، والشاطبية في القراءات، والرحبانية في الفرائض والجزرية في التجويد. وفي نفس الفترة كان يتابع دروس نجم الدين الغزي (1061هـ/1651م) في الحديث (تحت القبة) في الجامع الأموي، وحصل على أول إجازة عامة في علم الحديث. توفي أبوه حين بلغ الثانية عشرة من العمر، وكتب أول أشعاره في رثاء والده. وقد تابع دراسته بإشراف والدته. في العشرين من عمره مارس التدريس في الجامع الأموي في دمشق بالقرب من منزله الواقع في حي العنبرانيين. وحين بلغ الخامسة والعشرين ارتحل إلى أدرنة التي كانت مقر دار الخلافة، ثم زار إستنبول وحصل على وظيفة قاضٍ في حي الميدان جنوب دمشق. غير أنه استقال من هذا المنصب وتفرغ للتدريس والتأليف، حيث ألَّفَ حتى عام 1090هـ حوالي الخمسين مؤلفًا بين رسالة صغيرة وشرح مُطَوَّل أو كتاب أصيل. ولما بلغ الأربعين من عمره مر بأزمة نفسية حادة اضطر على إثرها إلى الاعتزال في بيته خلال سبع سنوات لا يخرج من بيته إلا للضرورة القصوى. وحين انتهت هذه الفترة التي أُصيب فيها بالسوداء أو الماليخوليا، وكان قد طَلََّق زوجته أثناءها، وذلك بعد سبع سنوات، خرج إلى الناس الذين ازداد احترامهم له بعد أن كانوا قد رموه بالحجارة قبل خلوته، وذلك لتبنيه آراء ابن عربي الصوفية ودخوله في خصومات مع بعض فقهاء عصره. وإثر ذلك قام بعِدةِ رحلات إلى لبنان ثم إلى الشام ومصر والحجاز، وفي عام 1119م انتقل من بيته في دمشق قرب الجامع الأموي ليسكن في الصالحية حيث توفي سنة 1143هـ/1731م، ودُفِنَ في القبة التي كان بناها في بيته، وفي الصالحية لم يتوقف عن إلقاء الدروس في تسهيل تفسير القرآن للبيضاوي وغيرها. جاوز عدد مؤلفاته الثلاثمائة كتاب ورسالة وشروح ودواوين شعر ورحلات. • "الحضرة الأنسية في الرحلة القدسية". • "تعطير الأنام في تعبير الأنام". • "ديوان الدواوين" وهو مجموعة شعره. • "فضائل الشهور والأيام". • "أسرار الشريعة". • "التعبير في تفسير الأحلام". • "منظومة أسماء الله الحسنى". • "الفتح الرباني والفيض الرحماني". • "خمرة الحان ورنة الألحان شرح رسالة الشيخ أرسلان". • "الوجود الحق والخطاب الصدق". • "ذخائر المواريث في الدلالة على مواضع الحديث". • "إيضاح الدلالات في سماع الآلات". • "رائحة الجنة شرح إضاءة الدجنة في عقائد أهل السنة".
قراءة في كتاب : "المرجحات: نحو تأصيل قواعد الترجيح في مدونة التفسير" قراءة في الدر المصون للسمين الحلبي ﻻ ﻳﺨﻔﻰ على طالب العلم ﻣﺎ ﻟﻠﻘﻮاﻋﺪ اﻟﻜﻠﻴﺔ ﻣﻦ أﳘﻴﺔ ﻛﺒﺮى ﰲ ﺗﺼـﺤﻴﺢ اﻟﻔﻜﺮ، وﺗﻘﻮﻳﻢ اﻟﻮﺟﻬﺔ; ﻷن ﻣﻦ اﺳﺘﻐﺮق ﰲ دراﺳﺔ اﻟﻔـﺮوع ﻣﻌﺰوﻟـﺔً ﻋـﻦ ﻗﻮاﻋـﺪﻫﺎ اﺿطﺮب ﻓﻜره، وﺗﻨﺎﻗﺾ رأﻳُﻪ، ﻓﻤﻌﺮﻓﺔ اﻟﻘﻮاﻋﺪ ﻫﻲ اﻟﺴﺒﻴﻞ ﻟﻀﺒط اﻟﻔـﺮوع؛ ذﻟـﻚ ﻷن اﻟﻔﻜﺮ اﻹﻧﺴاني ﻻ ﻳﺒﻠﻎ ﻧﻀﺠﻪ إﻻ إذا اﻧﺘﻘﻞ ﻣـﻦ اﻟﻤﻌﺎﻟﺠـﺔ اﻟﺠﺰﺋﻴـﺔ اﻟﻤﻔﻜﻜﺔ ﻟﻠﻤﺴﺎﺋﻞ، إﱃ اﻟﻨﻈﺮ اﻟﻜـلي اﻟﻤﻨﻬﺠـﻲ اﻟـﺬي ﻳﺼـﻮغ ﻣـﻦ اﻟﺠﺰﺋﻴـﺎت ﺑﻨـﺎءً متكاملًا . وقد اعتنى المفسرون بجمع مسائل الخلاف ودراستها عناية كبيرة، ولأننا بحاجة إلى معرفة المعنى الأصوب والأجدر بالاتباع، والأخذ به في المسائل العلمية؛ لأجل ذلك نشأ علم يتعلق بمعرفة الراجح من المرجوح من هذه الأقوال، وهو المُسمَّى بعلم: " قواعد الترجيح " والذي يحتوي على جملة قواعد متنوِّعة يستطيع المُفسِّر من خلالها تمييز القول الصحيح من الضعيف، ثم آتت هذه الضوابط والمعالم ثمارها، وبرزت آثارها، فصار لها حضور مشهود لدى مُفسِّري القرآن الكريم، سواء أكان هذا الحضور بالتنصيص على القاعدة، أو بالإشارة العملية على أساسها دون التنصيص. واﻹﻣﺎم أﲪـﺪ ﺑـﻦ ﻳﻮﺳـﻒ اﻟﻤﻌـﺮوف ﺑﺎﻟﺴﻤﻴﻦ اﻟﺤﻠﺒﻲ، اﻟﻤﺘﻮﰱ ﺳﻨﺔ ٦٥٧ﻫ، اﻟﺬي ﺻﻨَّﻒ ﺳـﻔﺮًا ﺟﻠـﻴﻼً، جعل عنوانه: " ا ﻟﺪر اﻟﻤﺼـﻮن ﰲ ﻋﻠـﻮم اﻟﻜﺘـﺎب اﻟﻤﻜﻨـﻮن"، وهو ﻣﻮﺳـﻮﻋﺔ ﻗﺮآﻧﻴـﺔ ﻣﺘﻤﻴﺰة ﰲ ﺑﺎب ﺗﻔﺴﻴﺮ اﻟﻘﺮآن، وإﻋﺮاﺑﻪ، وﺗﻮﺟﻴﻪ ﻗﺮاءاﺗﻪ، وﺗﻔﺴـﻴره اﻟﺒﻼﻏـﻲ، هذا الإمام يُعَدُّ ﻣﻦ أبرز اﻟﻌﻠﻤﺎء اﻟﺬﻳﻦ اﻫﺘﻤﻮا ﺑﺬﻛﺮ اﻻﺧﺘﻼف ﺑﻴﻦ اﻷﻗﻮال، وﻻ ﻳﻜﺘﻔﻲ ﺑﺬﻟﻚ، ﺑﻞ ﻳُﺤﻘِّﻖ وﻳُﺪﻗِّﻖ وﻳﺨﺘﺎر ﻣﻦ ﺗﻠﻚ اﻷﻗـﻮال ﺑﺎﻟﺪﻟﻴﻞ واﻟﺒﺮﻫﺎن. وفي اختياراته تظهر القواعد اﻟﺘﻲ ﺗﻀﺒط اﻟﻔﻬﻢ واﻟﻨﻈﺮ، وﺗﻠﺰم ﻣﻦ ﺣﺼَّﻠﻬﺎ ﺟﺎدة اﻟﺼﻮاب; ﻷﻧﻪ إذا ﻛﺎن ﺑﻴﺎن اﻟﻘﻮل اﻟﺮاﺟﺢ أﻣﺮًا مهمًّا، وﻏﺮﺿًﺎ ﺳﺎﻣﻴًﺎ; ﻓﺈن اﻟﻮﺳﺎﺋﻞ اﻟﻤﻮﺻﻠﺔ ﻟﻬﺬا اﻟﻬﺪف ﻻ ﺗﻘﻞ أﳘﻴـﺔ ﻋﻨـﻪ؛ ﺣﺘـﻰ ﻻ    ﻳﻜـﻮن اﻟﺘـﺮﺟﻴﺢ ﻧﺘﻴﺠﺔ اﻟﻬﻮى، أو   اﻟﺬوق اﻟﺸﺨﺼﻲ؛ ﻟﺬا شرع الباحث الدكتور محمد عبدالنبي الحفناوي المدرس بجامعة الأزهر ﰲ ﻗـﺮاءة اﻟﺴـﻤﻴﻦ ﻣﻔﺴـﺮًا، وﻗـﺮاءة اﻟـﺪر اﻟﻤﺼﻮن ﻣﺪوﻧﺔ؛ ﻟﺠﻤﻊ اﻟﻤﺸﺘَّﺖ، وﻧَﻈْﻢ اﻟﻤﻔﺮَّق من قواعد الترجيح، ﻣﻊ اﻟﺘﺄﺻﻴﻞ واﻟﺘﻤﺜﻴﻞ، فكان هذا الكتاب بين أيدينا وعنوانه: " المرجحات: نحو تأصيل قواعد الترجيح في مدونة التفسي ر، ق راءة في الدر المصون للسمين الحلبي ". وهذا الكتاب الصادر عن مكتبة الآداب بالقاهرة سنة 2020م، هو في الأصل رسالة علمية تقدَّم بها المؤلِّف إلى قسم التفسير وعلوم القرآن بجامعة الأزهر الشريف، وحصل بها على درجة العالمية " الدكتوراه " بتقدير مرتبة الشرف الأولى. وقد أفرغ الكتاب جهده في محاولة تأصيلية لقضية التقعيد في حقل التفسير؛ لرفع هذا الجدل المثار حول قضية التقعيد؛ فكان هدفه المشار إليه في مدخله: الارتفاع فوق الجدليَّة بالتأصيلية . و ﻛﺎن ﻣﻦ أﻫﻢ أﺳﺒﺎب اﺧﺘﻴﺎره لهذا اﻟﻤﻮﺿﻮع : اﻟﻌﻤﻞ على ﺗﻨﻘﻴﺔ ﻛﺘﺐ اﻟﺘﻔﺴﻴﺮ ﻣﻤﺎ ﻟﺤﻖ بها ﻣـﻦ أﻗـﻮالٍ ﺷـﺎذةٍ أو دﺧﻴﻠـةٍ، وذﻟﻚ ﰲ ﺿﻮء اﻟﻨﻈﺮ في ﻗﻮاﻋﺪ اﻟﺘﺮﺟﻴﺢ، كما أن ﻣﻌﺮﻓﺔ اﻟﻘﻮاﻋﺪ ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ لطﺎﻟﺐ اﻟﺘﻔﺴﻴﺮ تُهيِّئ ﻟﻪ آﻟﻴـﺎت اﻻﺳﺘﻨﺒﺎط واﻟﻔﻬﻢ، ﻣﻊ ﻣﻠﻜﺔ ﺗﺼﻴره ذا ﻗﺪرة على اﻻﺧﺘﻴﺎر واﻟﺘﺮﺟﻴﺢ ، فمعرفة اﻟﺮاﺟﺢ ﻣﻊ أدﻟﺘﻪ ﻫﻮ اﻟﺘﻔﺴﻴﺮ على اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ، والسمين ﻻ ﻳﻜﺘﻔﻲ ﺑﺤﻜﺎﻳﺔ اﻟﺨﻼف، وﻻ ﺣﺘﻰ ﺑﻴﺎن اﻟﺮاﺟﺢ، دون ﺑﻴﺎن ﻋِﻠَّﺔ اﺧﺘﻴﺎره، وﻫﻮ ﻗﺎﻋﺪة اﻟﺘﺮﺟﻴﺢ اﻟﺘﻲ أﻗﺎم ﻋﻠﻴﻬﺎ ﻫﺬا اﻻﺧﺘﻴﺎر. وحول الإشكال العلمي لموضوع الكتاب : يرى الحفناوي أنه إذا ﻛﺎن ﺷﺄن اﻟﺘﻘﻌﻴﺪ اﻟﺘﺮﺟﻴﺤﻲ ﺣﺎﺿﺮًا ﰲ ﻋﺪد ﻣﻦ اﻟﻌﻠﻮم اﻟﺸﺮﻋﻴﺔ، ﻓﺈن ﻋﻠـﻢ اﻟﺘﻔﺴﻴﺮ ﱂ ﻳﺸﺬ ﻋﻦ ذﻟﻚ، ﻏﻴﺮ أن اﻟﺴﻤﺔ اﻟﻤﻤﻴﺰة ﻟﻘﻮاﻋـﺪ اﻟﺘـﺮﺟﻴﺢ اﻟﺘﻔﺴـﻴﺮﻳﺔ ﺗـﺘﺠلَّى ﰲ ﻛونهـﺎ ﻣﺘﻨﻮﻋـﺔ اﻟﻤﺒﺎﺣﺚ؛ وذلك ﻟﺨﺼﻮﺑﺔ ﻋﻠﻢ اﻟﺘﻔﺴﻴﺮ، ﻓﻜﺎﻧﺖ طﺒﻴﻌﺔ ﻗﻮاعده اﻟﺘﺮﺟﻴﺤﻴﺔ ﻛﺬﻟﻚ أﻳﻀًﺎ ، ﻣﻦ ﻫﻨﺎ اﺗﺴﻌﺖ رﻗﻌـﺔ اﻟﺒﺤـﺚ اﻟﻌﻠﻤـﻲ ﻟﺘﺸـﻤﻞ ﻋﻠﻮﻣـًﺎ ﻛﺜﻴـﺮةً ﻟﺘﺄﺻـﻴﻞ ﻫـذه اﻟﻘﻮاﻋﺪ اﻟﺘﺮﺟﻴﺤﻴﺔ اﻟﺨﺎﺻﺔ ﺑﺎﻟﺪرس اﻟﺘﻔﺴﻴﺮي، وﺑﻴﺎن ﻣﻀﺎﻣﻴﻨﻬﺎ اﻟﻤﺨﺘﻠﻔﺔ . وكلمة " المرجحات" - في عنوان الكتاب - شأنها شأن جُلِّ عناوين الكتب؛ كالموافقات والتعريفات والكليات.. إلخ، الشأن فيها الإشارة إلى مضامين الكتاب؛ فالكتاب يُعْنى بقضايا التقعيد الترجيحي، فكان العنوان الرئيس إشارة إلى هذه القواعد الترجيحية التي هي بمثابة مرجحات يعتمد عليها الناظر في حقل التفسير بين المسائل المختلف فيها. وقد قام الباحث ﺑﺎﺳﺘﻘﺮاء اﻟـﺪر اﻟﻤﺼـﻮن كاملًا؛ ﻻﺳـﺘﻨطﺎق اﻟﻨﺺ، وﻗﻮاﻋده اﻟﻤﻨﺜﻮرة ﰲ ﺛﻨﺎﻳﺎ اﻟﺘﻔﺴﻴﺮ و تتبَّع ﻣﻮاطﻦ اﻻﺧﺘﻼف واﻟﺘﺮﺟﻴﺢ اﻟﺘﻲ ذﻛﺮﻫﺎ اﻟﺴﻤﻴﻦ ﰲ ﻛﺘﺎﺑﻪ، وقام بجَمْع وﺗﺤﻠﻴﻞ ودراﺳﺔ ﺗﻠﻚ اﻟﻤﻮاطﻦ، وﺑﻴﺎن ﻣﺎ ﻳﻤﻜﻦ أن ﻳﻨﺪرج ﻣﻨﻬﺎ ﺗﺤﺖ اﻵﺧﺮ، كما قام بصياغة اﻟﻘﻮاﻋﺪ اﻟﺘﺮﺟﻴﺤﻴﺔ، ﺛﻢ ﺗﻨﺎول ﻫذه اﻟﻘﻮاﻋﺪ واﻷﻣﺜﻠﺔ ﻋﻠﻴﻬﺎ ﺑﺎﻟﺪراﺳﺔ واﻟﺘﺤﻘﻴﻖ وبيان أوﺟﻪ اﻟﻘﻮة واﻟﻀﻌﻒ ﻓﻴﻬﺎ ﻣﺴﺘﻔﻴﺪًا ﻣﻦ أﻗﻮال أﻫﻞ اﻟﻌﻠﻢ . والكاتب ينتهج ﻣﺴلكًا ﻳﻘﻮم ﻋلى الجَمْع بين دراﺳﺔ ﻗﻮاﻋﺪ اﻟﺘـﺮﺟﻴﺢ ﻣـﻦ ﻧﺎﺣﻴـﺔ اﻟﺘﺄﺻـﻴﻞ ﻋﻤﻮﻣًﺎ، وﺗﻨﺰﻳﻞ ﺧﺼﻮﺻـﻴﺔ اﻟﻤﺪوﻧـﺔ اﻟﺘﻔﺴـﻴﺮﻳﺔ ﰲ اﻟـﺪر اﻟﻤﺼـﻮن، ومِن ثَمَّ ﻛﺎن اﻟﻤﻨﻬﺞ ﺟﺎﻣﻌًﺎ ﺑﻴﻦ اﻟﻌﻤﻮﻣﻴﺔ واﻟﺨﺼﻮﺻﻴﺔ اﻟﻤﻨطﺒﻘﺔ ﻋـلى اﻟﻤـﺎدة اﻟﺘﻔﺴﻴﺮﻳﺔ. وفي نهاية تحليله لكل قاعدة، و ﺗﺤﺖ حاشية بعنوان " اكتفاء من القلادة بما يحيط بالعنق "؛ وضع الكاتب ﺗﺬﻳﻴﻼً ﺑطﺎﺋﻔﺔ ﻣﻦ اﻟﻨﻤﺎذج اﻟﺘﻲ اﺳﺘﺄﻧﺲ ﻓﻴﻬﺎ اﻟﺸﻴﺦ ﺑﻤضمون اﻟﻘﺎﻋﺪة، دون اﻟﺘﺼﺮﻳﺢ بها؛ ﻟﺬﻟﻚ آﺛﺮ أن ﻳﻜﻮن ﻫﺬا اﻟﺘﺬﻳﻴﻞ غُفلًا ﻣـﻦ اﻟﺪراﺳـﺔ واﻟﺘـﺮﺟﻴﺢ، ﻓﻬـﻮ ﻣـﻦ ﺑـﺎب اﻻﺳﺘﺌﻨﺎس واﻟﺘﺄﻛﻴﺪ، ﻻ ﻣﻦ ﺑﺎب الاستشهاد واﻟﺘﺄﺳﻴﺲ . هذا، وقد اشتمل اﻟﻜﺘﺎب بعد المقدمة وقبل الخاتمة على مدخل تأصيلي ، وأرﺑﻌﺔ ﻓﺼـﻮل، أما " المدخل التأصيلي " فقد خصَّصه الكاتب لمعالجة عملية التقعيد في الدرس التفسيري، فعرف بقواعد الترجيح وأهميتها وحجيتها، وصلتها بأسباب الاختلاف، وختمها ببيان صيغ الترجيح عند السمين. وأودُّ أن أنقل للقارئ هنا تعريف قواعد الترجيح الذي استقر عليه الكاتب، حيث يرى أنها: ضوابط وقواعد أغلبية يُتوصَّل بها إلى معرفة الراجح من الأقوال المختلفة، والمراد بقواعد الترجيح في هذا الكتاب خاصة: هي الطرق التي سلكها الإمام السمين الحلبي رحمه الله لتقوية أحد الأقوال على غيره في تفسير كتاب الله [1] . أما الفصل الأول فقد قدم فيه دراسة موجزة عن السمين الحلبي، وتفسيره الدر المصون، ومنهجه، ومصادره. وفي الفصل الثاني : تأصيل قواعد الترجيح المتعلقة بالتفسير بالمأثور للقرآن الكريم. ي عرف التفسير بالمأثور بأنه: ما جاء في القرآن الكريم نفسه من البيان، وما نقل عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وما نقل عن الصحابة ،وما نقل عن التابعين، من كل ما هو بيان وتوضيح لمراد الله تعالى من نصوص كتابه الكريم والتفصيل لبعض آياته. ويبدأ بالحديث عن "قواعد الترجيح المتعلقة بتفسير القرآن بالقرآن": وهي كثيرة، ومنها: • "الوجه الموافق للآيات القرآنية مقدم على غيره" [2] ، وهنا يُشير الكاتب إلى براعة الشيخ رحمه الله في توظيف النظير القرآني لأبعد من مجرد تفسير آية بأخرى، فقد استخدم النظير القرآني في الترجيح به في أدق المسائل القرآنية، من ترجيح معنى كلمة، أو معنى جملة، أو ترجيح إعراب على إعراب. • "لا يصح حمل الآية القرآنية على وجوه تخالف آية أخرى" [3] ، وبيانها أنه إذا ذكر في تفسير آية قرآنية عدة أقوال، وكان أحد هذه الأقوال التفسيرية، أو اللُّغوية ترده آية قرآنية أخرى وتقتضي بطلان مقتضاه؛ ضعف هذا القول، وانحصر الراجح في بقية الأقوال المذكورة. ثم ينتقل إلى الحديث عن "قواعد الترجيح المتعلقة بتفسير القرآن بالسنة": وقد وظَّف السمين هذا الوجه من قواعد الترجيح، وأكَّد عليه بكثرة استشهاده بالحديث النبوي في تفسيره؛ إذ وصل عدد الأحاديث إلى المئات، تارةً في ثنايا الاستشهاد، وتارةً في ثنايا الترجيح، بل وصلت براعة الشيخ في توظيف الترجيح بالسنة لأبعد من مجرد تفسير آية، فقد وظَّف السُّنَّة في الترجيح بها في أدق المسائل القرآنية، وإن لم ينصَّ على القاعدة نصًّا، إلا أنه عمل بمقتضاها من ترجيح معنى مفردة، أو معنى تركيب، أو ترجيح إعراب على إعراب، بل وتضعيف قول؛ لأنه يخالف حديثًا صحيحًا؛ لذا كانت القاعدة التي أقام عليها هذا المبحث هي: " الوجه الموافق للحديث الثابت فهو مقدم على ما خالفه" [4] . ويأتي للحديث عن " القواعد المتعلقة بأقوال الصحابة والتابعين "؛ وذلك لمباشرتهم الوقائع والنوازل وتنزيل الوحي بالكتاب والسُّنَّة، فهم أقعد في فهم القرائن ، وأعرف بأسباب التنزيل، ويدركون ما لا يدركه غيرهم، والقاعدة الدالَّة على ذلك هي : "فهم السلف للقرآن حجة يحتكم إليه لا عليه" [5] . وفي الفصل الثالث الذي جعل عنوانه: " تأصيل قواعد الترجيح المتعلقة بالتفسير بالرأي للقرآن الكريم "، يعرف التفسير بالرأي بأنه: عبارة عن تفسير القرآن الكريم بالاجتهاد بعد معرفة المفسِّر لكلام العرب ومناحيهم في القول، ومعرفته للألفاظ العربية ووجوه دلالتها، ووقوفه على أسباب النزول، ومعرفته بالناسخ والمنسوخ من آيات القرآن، وغير ذلك من الأدوات التي يحتاج إليه المفسِّر. والذي عليه المحققون من أهل العلم أنه إذا لم يجد المُفسِّر ما يفسر به من القرآن، أو السنة، أو من أقوال الصحابة والتابعين، أجهد رأيه وأعمل فكره، وَفْق العلوم والأدوات التي اشترطها المُحقِّقون. وفي هذا الفصل يُحدِّثنا عن قواعد الترجيح المتعلقة باستعمال الألفاظ القرآنية، وباستعمال التراكيب القرآنية، وباستعمال القرائن، وفي ضوء هذه القواعد يناقش العديد من القضايا اللسانية المتعلقة بعلوم القرآن؛ مثل: الترادف، والاشتقاق، والحقيقة والمجاز، ومرجعية الضمير، والاستثناء، والحذف والزيادة، وأثر السياق في فهم النص، ومن أمثلة تلك القواعد: • "إذا دار اللفظ بين كونه مترادفًا أو متباينًا، فحمله على المتباين أولى" [6] . ذهب بعض أهل النظر إلى أن التوارُد على المعنى قد يتجاوز حدَّ التقارب إلى التطابق، فقالوا بما عرف بالترادف، وبعضهم قال بالتباين الصوتي والمعنوي أيضًا، فقالوا بما عرف بالفروق أو التباين ، فبين معاني الألفاظ اتفاق في شيء واختلاف في شيء؛ ومِنْ ثمَّ عني غير قليل من أهل العلم بتحرير الفروق الدلالية بين الكلمات التي يحسب أنها مترادفة، وهذا المذهب هو المختار عند كثير من أهل التحقيق. هذا، وبعد استقراء الدر المصون تبيَّن للباحث أن السمين رحمه الله من أنصار القائلين بالتباين ، وهو ما جعله يقول بالفروق بين كل لفظين متقاربين في المعنى، وليس أدل على ذلك من قوله بعد مناقشة الفرق بين: "كسب واكتسب" قال" : وهذا مبني على القول بالفرق بين البناءين وهو الأظهر " [7] . • "يحمل تأويل كتاب الله على الأغلب من معروف كلام العرب دون غيره" [8] : تظهر قيمة هذه القاعدة، وتشعُّبها في تفسير كلام الشارع، من خلال كونها حاكمة على جُلِّ قواعد تفسير النصوص، ومن أهمها: " توجيه معاني كتاب الل ه ع ز وجل إلى الظاهر المستعمل في الناس، أولى من توجيهها إلى الخفي القليل في الاستعمال" [9] . "الخطاب يمضي على ما عمَّ وغلب، لا على ما شذَّ وندر" [10] . فإن أكثر هذه القواعد مَرَدُّها إلى اعتبار الغالب الأعم، وترك القليل بشرط التجرد من القرينة الحاملة على المعنى الأقل اشتهارًا، فإذا ما توفرت هذه القرينة فالمصير إليها، ولم يكن السمين بدعًا عن هؤلاء؛ بل سار على نفس النهج في تأصيلهم وتنظيرهم، وليس أدل على هذا من علله التي يعلل بها رده لبعض الأقوال مرجحًا المشهور عليها، ومن ذلك: * وهذا ليس بشيء ؛ لأن العرب على خلافه كابرًا عن كابر [11] . * وادعاء على العرب ما لم تعرفه، وهذه جرأة يستعاذ بالله منها [12] . والتنوُّع في القضايا اللسانية التي تناولها السمين ليس غريبًا عليه رحمه الله، فتفسيره خلاصة التفاسير السابقة له المهتمة بجانب الأعاريب والأساليب، مع كامل العناية بالترجيح القائم على المعنى والقاعدة النحوية والصناعة اللغوية، ومراعاة الظاهر؛ فكان هذا الفصل محاولة لاستقراء هذه القواعد والضوابط الحاكمة للمعاني، من خلال توظيفها بعملية الترجيح؛ للنجاة من الخطأ في التفسير؛ وللوصول إلى حسن الاستنباط لمراد الله في كتابه. وفي الفصل الرابع الذي جعل عنوانه: " ﺗﺄﺻﻴﻞ ﻗﻮاﻋﺪ اﻟﺘﺮﺟﻴﺢ اﻟﻤﺘﻌﻠﻘﺔ ﺑﻤﺴﺎﺋﻞ ﻋﻠﻮم اﻟﻘﺮآن اﻟﻜﺮﻳﻢ" يتحدَّث عن أبرز مسائل علوم القرآن الكريم التي أشار إليها السمين، وهي : ا ﻟﻘﺮاءات، ورﺳﻢ اﻟﻤﺼﺤﻒ، واﻟمطﻠﻖ واﻟﻤﻘﻴﺪ. يتحدَّث عن ظاهرة نقد القراءات القرآنية المتواترة، بحجة مخالفتها من بعض الوجوه للنحو الكوفي أو البصري، وهذا لا يجوز عند المحققين من أهل العلم؛ فإن الحكم على القراءة صحةً أو ضعفًا لا يكون من خلال قواعد اللغة وحدها، وإنما الحكم على القراءة يكون مرجعه الأول إلى الرواية وصحة النقل، وهذا ما عبرت عنه قاعدة: "القراءة سنة متبعة يلزم قبولها والمصير إليها" [13] والسمين رحمه الله لم يضعف قراءة متواترة في تفسيره؛ بل ردَّ كل انتقاد وُجِّه إلى القراءات المتواترة، وأثبت صحة القراءة وسلامتها من حيث اللغة والمعنى، وقاعدته في ذلك: متى صحَّت القراءة وثبت تواترها فلا التفات إلى منتقديها [14] . وعند حديثه عن قاعدة: " الأصل توافق القراءات " [15] يقرر أنه إذا اجتمع في كلمة قراءتان أو أكثر، وكانت إحدى القراءات تحتمل أكثر من توجيه؛ فإن التوجيه الأولى هو الذي يوافق القراءة الأخرى في المعنى، فهو أولى الوجوه حتى تتحد القراءات في المعنى. وينتقل الباحث إلى الرسم العثماني ، فيؤكد أن احترام الرسم والتزامه أمر ضروري، تجب المحافظة عليه؛ لما في هذا الشأن من سدٍّ لذريعة التبديل والتحريف، وحماية للرسم الذي يحفظ أصول القراءات المتواترة، ويتلاءم معها، وقد صرَّح السمين بموقفه في غير ما موضع بأن الرسم سُنَّة مُتَّبَعة، وأولاه عنايةً بالغةً سواء من جهة التوجيه أو التنظير والمقارنة بين المصاحف كآلية ترجيحيَّة بين الأقوال؛ لذا كانت هذه القاعدة: " القول المؤيد بالرسم مقدم على غيره " [16] . ولقد راعى السمين المطلق والمقيد ، واستخدم رحمه الله هذه الآلية في الترجيح من خلال القاعدة الآتية: "الأصل إبقاء المطلق على إطلاقه حتى يرد ما يقيده" [17] . فإذا ورد لفظ مطلق، فالأصل أن يحمل على إطلاقه ما لم يقم دليل على تقييده، وإذا ورد لفظ مقيد بقيد معين فالأصل فيه أن يحمل على تقييده ما لم يقم دليل أو قرينة تدل على أن التقييد لم يكن مقصودًا، فإذا قام دليل أو قرينة على أن هذا القيد غير مقصود فإن المطلق يبقى على إطلاقه. وفي ختام هذه الرحلة مع هذا الكتاب الماتع يلاحظ القارئ ﺣﻀﻮر اﻟﻀـﺎﺑط اﻟﺘﺮﺟﻴﺤـﻲ ﰲ ﻓﻜـﺮ اﻹﻣـﺎم اﻟﺴـﻤﻴﻦ اﻟﻤﻨﺜـﻮر ﰲ أﻗﻮاﻟـﻪ واﺧﺘﻴﺎراﺗﻪ اﻟﻤﺒﺜﻮﺛﺔ ﰲ " اﻟﺪر اﻟﻤﺼﻮن "؛ ذلك اﻟﻜﺘﺎب الذي ﲨﻊ اﻟﻌﻠﻮم اﻟﺨﻤﺴﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﺆدي إلى ﻓﻬﻢ اﻟﻘﺮآن ﻓﻬﻤًـﺎ ﺻـﺤﻴﺤًﺎ، وﰲ وﺣﺪة واﺣﺪة ﻣﺘﺮاﺑطـﺔ، ﻳﺨـﺪم ﺑﻌﻀـﻬﺎ ﺑﻌﻀًـﺎ، وﻫـﻲ: ﻋﻠـﻢ اﻟﻠﻐـﺔ ، واﻟﻨﺤـﻮ ، واﻟﺼﺮف ، واﻟﺒﻴﺎن ، واﻟﻤﻌﺎني . ولعل من أﺑﺮز اﻹﺿﺎﻓﺎت اﻟﻌﻠﻤﻴﺔ التي قدَّمها اﻟﻜﺘﺎب ما يأتي: ﺿﺒط ﺻﻴﺎﻏﺔ اﻟﻘﺎﻋﺪة وَﻓْﻖ ﻣﺎ ﻗﺮره أﻫـﻞ اﻟﻌﻠـﻢ، و ﺗﻮﺛﻴﻖ اﻟﻘﺎﻋﺪة ﻣﻦ ﻣﻈﺎنِّـها ﻣﻦ ﻛﺘـﺐ اﻷﺻـﻮل واﻟﺘﻔﺴـﻴﺮ ،  واﻻﺳﺘﺌﻨﺎس ﰲ ﺗﻮﺛﻴﻖ اﻟﻘﺎﻋﺪة ﺑﻘﻮاﻋﺪ أﺧﺮى ذات ﺻﻠﺔ وﺛﻴﻘﺔ بها، والتأكيد على أن اﻟﻘﺎﻋﺪة اﻟﺘﺮﺟﻴﺤﻴـﺔ ﻟﻴﺴـﺖ ﻣﺠـﺮد ﺻﻴﺎﻏﺔ ﻛﻼﻣﻴﺔ؛ ﺑﻞ ﺗﺮﺗﻘﻲ ﻟﺮﺗﺒﺔ اﻟﺪﻟﻴﻞ اﻟﺘﺮﺟﻴﺤﻲ ﺑﻴﻦ اﻷﻗـﻮال، وقد ﺗﺠـﺎوز ﻋـﺪد اﻟﻘﻮاﻋﺪ اﻟﺘﺮﺟﻴﺤﻴﺔ اﻟﺮﺋﻴﺴﻴﺔ ﻣﻨﻬﺎ واﻟﻔﺮﻋﻴﺔ في الكتاب اﻟﺨﻤﺴﻴﻦ ﻗﺎﻋﺪة . ولعلنا في ضوء ما سبق نستطيع أن نقرأ عبارة السمين التي صدَّر بها الباحث كتابه : "وهذا التصنيف في الحقيقة نتيجة عمري وذخيرة دهري، فإنه لُبُّ كلامِ أهل هذه العلوم" [18] . [1] المرجحات، ص: 37. [2] المرجحات، ص: 109. [3] المرجحات، ص: 127. [4] المرجحات، ص: 134. [5] المرجحات، ص: 152. [6] المرجحات، ص: 179. [7] الدر المصون في علوم الكتاب المكنون، (2/ 701) للسمين الحلبي، تحقيق أحمد محمد الخراط، طبعة دار القلم دمشق، الطبعة الثالثة 1432هــــــ - 2011م. [8] المرجحات، ص: 191. [9] الدر المصون: (1/ 28). [10] كنز الوصول إلى معرفة الأصول للبزدوي، ص: 369، مطبعة جاويد بريس ـــــــ كراتشي ـــــــ بدون تاريخ. [11] الدر المصون: (1/ 28). [12] الدر المصون: (2/ 254). [13] المرجحات، ص: 330. [14] المرجحات، ص: 337. [15] المرجحات، ص: 349. [16] المرجحات، ص: 361. [17] المرجحات، ص: 375. [18] الدر المصون: (1/ 6).
تاريخ الدولة الأموية في كتابه الماتع «الدولة الأموية» يسرد لنا د. يوسف العش تاريخ هذه الدولة سردًا تحليليًّا لا روائيًّا، ويبدأ سفره بقوله: على التاريخ أن يبين لنا كيف يكون هذا الحادث من مجموعة العوامل، وأن يُحدِّد لنا أثر كل عامل منها في الحادثة التاريخية، ولا ريب أن مهمته هذه غاية في الصعوبة، فمن السهل عليه أن يُسجِّل الحادثة كما وقعت، أمَّا أن يشفع تسجيلها بذكر العوامل التي جعلتها تقع كما وقعت؛ فذلك حمل ثقيل ينوء تحته؛ لكنه حمل لا بُدَّ له من أن يتحمَّله مهما كان ثقيلًا. أما التفاصيل في التاريخ فيبحث عنها المؤرخ ليدل على نظريته أو ليتفهَّم الوقائع، ويضعها موضعها الصحيح، وكتابنا هذا ليس للمؤرخين؛ بل للتاريخ، وليس للمختصين بل للمطَّلعين. • لقد حاول الكثيرون أن يصموا تاريخنا بكثرة الفتن والحروب والمكائد الاضطرابات، غير أن النظرة الصحيحة إلى التاريخ من خلال عوامله العديدة تعطي البيان الواضح عن أن هذه الوصمات لا أصل لها صحيحًا، وأن كل ما في الأمر أن هنالك تفاعلات في المجتمع الإسلامي العربي كانت تأخذ طريقها، ولا بُدَّ أن تأخذ طريقها في ذلك المجتمع، وأن هذه التفاعلات سُنَّة من سُنَن الله ﴿ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا ﴾ [الأحزاب: 62]، وهي تفاعلات تحدث في كل أُمَّة؛ بل إن الأُمَم الأخرى كانت تتلقَّاها بعنف أكثر مما تلقَّاها به المسلمون والعرب، وتاريخ الأمم الأخرى ممزوج بالحروب والفتن والاضطرابات أكثر من التاريخ العربي، فهذا تاريخ فرنسا وألمانيا منذ الثورة الفرنسية.. إن تاريخها مليء بالحروب: حروب الثورة الفرنسية، حروب نابليون، حرب 1870، حرب 1914، حرب 1939، كل ذلك في مدى لا يتجاوز قرنًا ونصف قرن، والضحايا التي وقعت في هذه الحروب تتجاوز أضعافًا مضاعفة من ضحايا الحروب في تاريخنا أجمعه. • دامت هذه الدولة حتى ١٣٢هـ، وامتدت من أجزاء من الصين شرقًا حتى جنوب فرنسا غربًا، وتعرَّضت لكثيرٍ من الهجوم والغبن بفعل الشيعة وأذنابهم. • كانت أول إمبراطورية إسلامية مترامية الأطراف لها حاكم واحد، وإمبراطورية تكتب بالحروف العربية رغم تعدُّد اللهجات.. أمَّا في خلال المائة عام الأخيرة حرص المحتل على تغيير الحروف العربية بحروف لاتينية. • مؤسسها سيدنا معاوية بن أبي سفيان؛ معاوية بن أبي سفيان صخر (رضي الله عنهما) بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي بن كلاب، يلتقي نسبه مع نَسَب الرسول صلى الله عليه وسلم عند عبد مناف. • يقول ابن كثير رحمه الله: كانت سوق الجهاد قائمة في بني أُميَّة، ليس لهم شغل إلَّا ذلك، وقد أذلُّوا الكفر وأهله، وامتلأت قلوب المشركين من المسلمين رعبًا، ولم يتوجَّه المسلمون إلى قطر من الأقطار إلَّا أخذوه. • ولا يُعلَم لعائلة حكمت دولة الإسلام كان لها فضل على بني الإنسان مثل عائلة بني أُميَّة رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم أجمعين، فلبني أُميَّة أيادٍ بيضاء على أُمَّة الإسلام منذ فجر الدَّعوة وحتَّى يوم القيامة. • فعثمان بن عفان الأمويُّ رضي الله عنه هو الَّذي جَمَع القرآن. • وأمُّ المؤمنين أمُّ حبيبة بنت أبي سفيان الأموية –رضي الله عنها وأبيها - يكفيها ما نقلته إلينا من سنن المصطفى صلَّى الله عليه وسلَّم. • ومعاوية بن أبي سفيان الأمويُّ رضي الله عنه هو الذي كتب الوحي من صدر رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم. • وعبدالله بن سعيد بن العاص بن أميَّة رضي الله عنه كان أحد شهداء بدر الثَّلاثة عشر. • ويزيد بن أبي سفيان الأمويُّ رضي الله عنه هو فاتح لبنان وقائد جيوش الشَّام. • ويزيد بن معاوية الأمويُّ هو قائد أوَّل جيش يغزو مدينة القيصر «القُسْطنطينيَّة». • وبنو أميَّة فيهم خالد بن يزيد الأمويُّ مكتشف علم الكيمياء. • وبنو أميَّة فيهم فاتح الشَّمال الإفريقيّ عقبة بن نافع الأمويّ رحمه الله. • وقبة الصخرة بنى مسجدها الخليفة عبدالملك بن مروان الأموي رحمه الله. • وبنو أميَّة فيهم الخليفة عمر بن عبدالعزيز الأمويُّ رحمه الله. • والأندلس فتحها الأمويُّون، وأرمينيا، وأذربيجان، وجورجيا، وتركيا، وأفغانستان، وباكستان، والهند، وأوزباكستان، وتركمانستان، وكازاخستان. كُلُّها دخلت في الإسلام على ظهور خيول أمويَّة، وحمل بنو أمية الإسلام إلى أوروبَّا، فالأندلس التي فتحها الأمويُّون. • وجنوب فرنسا أصبح أرضًا إسلاميَّة فقط في زمن خلافة بني أميَّة. • عبد الرَّحمن الدَّاخل الأمويُّ بعد الله هو من أنقذ الأندلس من الدَّمار. • وعبد الرَّحمن النَّاصر الأمويُّ كان من أعظم ملوك الأرض. • وبنو أميَّة نشروا رسلهم في أصقاع الأرض يدعون النَّاس إلى دين الله سبحانه وتعالىٰ، حتى وصلت رسلهم الصينيِّين الذين أسموهم بـأصحاب الملابس البيضاء. • وفي عهد بني أميَّة انتشر العلم، وساد العدل أرجاء الخلافة، وبدأ جمع الحديث النَّبويِّ الشريف زمن حكم بني أميَّة. • وبنو أُميَّة هم الَّذين عرَّبوا الدَّواوين، وهم الَّذين سكُّوا أوَّل عُمْلة إسلاميَّة، وهم أوَّل من بنى أسطولًا إسلاميًّا في التَّاريخ. • وقد وصلت الخلافة الإسلامية في عهد الوليد بن عبدالملك الأموي إلى أكبر اتِّساع لها في تاريخ الإسلام. فكان الأذان في عهد بني أميَّة يرفع في جبال الهملايا في الصِّين، وفي أدغال أفريقيا السَّوداء، وفي أحراج الهند، وفوق حصون القسطنطينيّة، وعند أبواب باريس، وفوق مرتفعات البرتغال، وعلى شواطئ بحر الظلمات، وعند سهول جورجيا، وعلى سواحل قبرص. وترفرف على قلاع تلك البلدان رايات بيضاء مكتوبٌ عليها «لا إله إلَّا الله، محمدٌ رسول الله». هي رايات بني أمية، فجزاهم الله خيرًا، وأحسن لمحسنهم، وتجاوز عن مسيئهم؛ لما قدَّموه للإسلام والمسلمين من إحسان، وجعله في ميزان حسناتهم.
من التراث اليمني كتاب العواصم من القواصم في الذبِّ عن سُنَّة أبي القاسم صلى الله عليه وآله وسلم نبذة عن كتاب العواصم من القواصم لابن الوزير اليماني رحمه الله كتاب العواصم والقواصم في الذَّبِّ عن سُنَّةِ أبي القاسم من الكتب الجامعة لعدد من الفنون، وقد ألَّفَه محمد بن الوزير اليماني (توفي:840هـ) بعد أن ألَّف أحد مشايخه رسالةً في الرد عليه، فناقشها ابن الوزير في هذا الكتاب، وقد ركَّز فيه على مسألة الاجتهاد والتقليد، ثم ناقش عدة قضايا عقدية وفقهية، مثل: رؤية الله في الآخرة، والإمامة العظمى، وخلق أفعال العباد. وميزة الكتاب تكمُن في توسُّع مؤلِّفِه في مناقشة القضايا المطروحة وبيان أدلتها بالتفصيل، والاعتماد في كتابه على المصادر الأصلية في الدين الإسلامي. يقول الشوكاني عن الكتاب: «ذلك السخاوي لو وقف على العواصم والقواصم لرأى فيها ما يملأ عينيه وقلبه، ولطال عنان قلمه في ترجمته»؛ [قاله الشوكاني في البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع]. وقد شهد القِنَّوجي لمؤلِّف الكتاب بالبراعة والاجتهاد والنبوغ في المعقول والمنقول من علوم الشريعة الإسلامية؛ [كما ذكر ذلك في كتاب أبجد العلوم، دار ابن حزم، محمد صديق خان (ص: 677). اسم الكتاب والمؤلف: اسم الكتاب: العواصم والقواصم في الذَّبِّ عن سُنَّة أبي القاسم. المؤلف: هو محمد بن إبراهيم الوزير اليماني، المولود سنة 775هـ في اليمن، وقد طلب العلم مبكرًا وحفظ المتون، ورحل إلى صنعاء، وأخذ عن علمائها، كما رحل إلى مكة المكرمة وأخذ عن علمائها، وله مؤلَّفات نافعة، منها: إيثار الحق على الخَلْق في معرفة الله تعالى ومعرفة صفاته على مناهج الرسل والسلف، ومنها: تنقيح الأنظار في علوم الآثار، ومنها هذا الكتاب؛ وهو: العواصم والقواصم في الذَّبِّ عن سُنَّة أبي القاسم، وقد توفي في محرم سنة 840هـ. سبب تأليف الكتاب: ذكر المؤلِّف في مقدمة الكتاب أن سبب تأليفه له هو: أن أحد مشايخه (وهو علي بن محمد بن أبي القاسم) قد كتب رسالةً ردَّ فيها عليه في عدد من المسائل التي خالفه فيها، فأراد ابن الوزير أن يُناقش تلك المسائل ويُبيِّن وجهة نظره فيها. الموضوع العام للكتاب: الكتاب فيه مناقشةٌ لعدد من المسائل في عدة علوم إسلامية، بدأها بمسألة الاجتهاد والتقليد، كما احتوى على مسائل حديثية؛ كقبول رواية المتأوِّلة، وفقهية وعقدية؛ كالرؤية وخلق القرآن وغير ذلك. وهذا الكتاب مختلف عن كتاب: «العواصم من القواصم في تحقيق مواقف الصحابة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم» لأبي بكر بن العربي المالكي (ت: 543هـ). منهجه في الكِتاب: 1- يورد كلام شيخه في رسالته التي اعترض بها عليه بنصِّه ثم يرد عليه وينقده. 2- يورد أدلة المخالفين له في مسائل الكِتاب ثم يناقشها. محتويات الكتاب: هذا الكتاب يحتوي على تسعة أجزاء، ذكر فيها عددًا من المسائل، وهذه أهمها: الجزء الأول: بدأ المؤلِّف الجزء الأول بالثناء على النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وذكر شيئًا من خصائصه، والثناء على صحابته الكرام، ثم أمته، وفي هذا الجزء مسائل من أهمها: • صعوبة الاجتهاد أو تعذُّره. • مناقشة مسألة تقليد الميت. الجزء الثاني: استكمل فيه المؤلف حجج شيخه في تصعيب الاجتهاد ، وذكر مسائل أخرى، أهمها: • صعوبة الاجتهاد من جهة وجوب حفظ كتب العلماء. • الرواية عن المتأوِّلة. الجزء الثالث: استكمل فيه المؤلِّف مناقشة شيخه في المسائل التي ذكرها، ومنها: • الكلام في مسألة التزام مذهب معين. • أحاديث معاوية في الكتب السِّتَّة ومعرفة تفرُّده بها. الجزء الرابع: ذكر فيه مسائل من أهمها: • مناقشة الاحتياج إلى علم الكلام. • ذكر نبذة من سيرة الإمام أحمد، مع مناقشة صحة نسبة كتاب: «الرد على الجهمية» إليه. الجزء الخامس: ذكر فيه مسائل من أهمها: • مسألة رؤية الله. • مسألة خلق أفعال العباد. الجزء السادس: استكمل فيه قضية خلق أفعال العباد، وعلاقة حكمة الله وعدله بذلك، وذكر مسألة القضاء والقدر. الجزء السابع: ذكر فيه مسائل منها: • مسألة الكسب عند الأشاعرة. • إثبات الحكمة لله. الجزء الثامن: ذكر فيه مسائل، من أهمها: • قصة الحسين ومقتله. • مسـألة الإمامة العظمى. الجزء التاسع: وذكر فيه: • مسـألة الإمامة العُظْمى. أهم سمات الكتاب: القارئ لهذا الكتاب يجد فيه سمات اختص بها وتميَّز بها، ومنها: 1- أصالة المنهج: ففي الكتاب الرجوع إلى القرآن والسُّنَّة والاعتماد عليهما. 2- وضوح العبارة وجزالة الأسلوب. 3- التبحُّر في ذكر أقوال أهل العلم من الطوائف الإسلامية المختلفة، وعرض أدلتهم بأمانة ودقة. أهم ميزات الكتاب: 1- احتواؤه على مسائل متنوعة مختلفة في الحديث والعقيدة والفقه. 2- استفاضة المؤلف في ذكر الأدلة في كل مسألة. 3- استفاضة المؤلف في مناقشة القضايا التي يذكرها. 4- احتواء الكتاب على فوائد مهمة في استطراداته في بعض المسائل. أقوال العلماء عن الكتاب ومؤلفه: (1) يقول الشوكاني: «ذلك السخاوي لو وقف على العواصم والقواصم لرأى فيها ما يملأ عينيه وقلبه، ولطال عنان قلمه في ترجمته». (2) يقول الشوكاني عن ابن الوزير: «ومن رام أن يعرف حاله ومقدار علمه، فعليه بمطالعة مصنفاته، فإنها شاهد عدل على علوِّ طبقته، فإنه يسرد في المسألة الواحدة من الوجوه ما يُبْهِر لُبَّ مطالعه، ويعرفه بقصر باعه بالنسبة إلى علم هذا الإمام كما يفعله في العواصم والقواصم، فإنه يورد كلام شيخه السيد العلَّامة علي بن محمد بن أبي القاسم في رسالته التي اعترض بها عليه، ثم ينسفه نسفًا بإيراد ما يزيفه به من الحجج الكثيرة التي لا يجد العالم الكبير في قوته استخراج البعض منها». (3) يقول القِنَّوجي: «كان فريد العصر، ونادرة الدهر، خاتمة النقَّاد، وحامل لواء الإسناد، وبقية أهل الاجتهاد بلا خلافٍ وعنادٍ، رأسًا في المعقول والمنقول، إمامًا في الفروع والأصول». طبعات الكتاب: الكتاب حقَّقَه الشيخ شعيب الأرنؤوط، واعتمد في تحقيقه على أربع نسخ خطيَّة، وجعل النسخة المصوَّرة عن الأصل المحفوظ بإستانبول هو الأصل في تحقيق الكتاب. الناشر: مؤسسة الرسالة-بيروت. حقَّقه وضبط نصه وخرَّج أحاديثه وعلَّق عليه: شعيب الأرنؤوط. اعتنى به: عز الدين ضلي، وموفق منصور. أجزاء الكتاب: الكتاب يقع في تسعة أجزاء. هذا وقد اختصر المؤلف رحمه الله رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته. كتاب "العواصم من القواصم" إلى كتاب صغير الحجم سَمَّاه "الرَّوض الباسم"، وهو من أَهمِّ الكتب القديمة التي دافَعَت عن الحديث النَّبويِّ الشَّريف ورجاله؛ فقد أثنى كثير من علماء السُّنَّة النَّبويَّة الشَّريفة، قُدَمائهِم ومُحدَثيهم، على هذا الكتاب، وأشادوا بمنهج مؤلِّفه وغزارة علمه وبراعة أسلوبه: ذلك بأنَّه من الكُتُب العتيقة. وهذا الكتاب من أروع كتب ابن الوزير؛ بل لعلَّه من أروع الكُتُب على الإطلاق.
بقايا الحصاد، بحوث ومحاضرات لمحمد عبد الرحمن الربيع صدر حديثًا كتاب "بقايا الحصاد"، بحوث ومحاضرات ومقالات ثقافية، تأليف: د. "محمد عبد الرحمن الربيع"، نشر: "دار النابغة للنشر والتوزيع". وهذا الكتاب أشتات مقالات جمعها الكاتب في موضوعات ثقافية شتى، وتاريخية منوعة، ويضم هذا الكتاب عشرة بحوث متنوعة، وأربع مقالات عن أربع شخصيات، وهذه المقالات خلاصة منتقاة من سلسلة مقالات كتبها على مدى أكثر من أربعين عامًا، وكانت نتاج الندوات والمحاضرات، وعناوين تلك المقالات: 1- المجمعيون السعوديون الأوائل رحمهم الله (إسهاماتهم العلمية في مجمع اللغة العربية بالقاهرة). 2- الأدباء السعوديون في المعاجم والقواميس والموسوعات السعودية والعربية. 3- اللغة العربية والشباب لغتكم تناديها في يومها العالمي. 4- حوار الحضارات والمصالح والتكتلات: مقاربة ثقافية تأصيلية. 5- جهود دارة الملك عبد العزيز في مجال جمع المخطوطات وتحقيقها ونشرها. 6- جهود مكتب التربية العالي لدولة الخليج في خدمة اللغة العربية في التعليم العام. 7- الدرعية في شعر أبنائها. 8- السمات القيادية للملك سعود بن عبد العزيز - رحمه الله - وأثرها في تأسيس مسيرة التعليم العالي في المملكة. 9- السمات القيادية للملك سعود بن عبد العزيز - رحمه الله - وأثرها في تأسيس مسيرة التعليم العالي في المملكة. 10- عبد الحميد مشخص يدون يوميات زيارة الملك عبد العزيز لمصر. أما المقالات التي اختصت بشخصيات في المجتمع السعودي؛ فهي: 1- الشاب الأديب عبد الفتاح أبو مدين يوجه رسالتين أدبيتين إلى الدكتور طه حسين. 2- رؤى الدكتور عبد العزيز السبيّل الثقافية وأفكاره. 3- عبد الله ثقفان: عاشق الفردوس المفقود. 4- الصامل المثابر في خدمة اللغة العربية وبلاغتها. والكاتب د. "محمد عبد الرحمن الربيع" كاتب وباحث سعودي متخصص في الأدب والنقد، ولد في الرياض عام 1366هـ ( م1947)، حاصل على درجة الدكتوراه في الأدب والنقد من كلية اللغة العربية في جامعة الأزهر. عمل سابقًا وكيلًا لجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية للدراسات العليا والبحث العلمي من عام 1416هـ. والمستشار بدارة الملك عبد العزيز حاليًا. وقد صدر له الكثير من المؤلفات الأدبية والنقدية من أبرزها: • (ابن طباطبا الناقد) صدر عن نادي الرياض الأدبي عام 1399هـ. • (أبو الحسن التهامي حياته وشعره) صدر عن مكتبة المعارف في الرياض عام 1400هـ. • (ديوان أبي الحسن التهامي) [تحقيق] صدر عن مكتبة المعارف في الرياض عام 1402هـ. • (نجديات الأبيوردي) صدر عن الجمعية العربية السعودية للثقافة والفنون عام 1403هـ. • (الاتجاه الإسلامي في شعر محمد العيد آل خليفة) صدر عن مكتبة المعارف في الرياض عام 1986م. • (الأدب العربي وتاريخه للسنة الثانية الثانوية بالمعاهد العلمية) [مقرر دراسي]. • (بحوث ودراسات أدبية وفكرية) صدر عن دار حمادة في القاهرة عام 1412هـ. • (من قضايا البحث العلمي في الجامعات السعودية) صدر عن عمادة البحث العلمي بجامعة الإمام محمد بن سعود عام 1415هـ. • (من أدب الشعوب الإسلامية) صدر عن نادي القصيم الأدبي عام 1415هـ. • (اللغة العربية في العصر الحديث) صدر عن إدارة الثقافة والنشر في جامعة الإمام عام 1415هـ. • (خمائل وأزهار) صدر عن مكتبة المعارف في الرياض عام 1416هـ. • (المبالغة في الشعر العباسي) صدر عن دار الجريسي عام 1416هـ. • (شعر شوقي بين التدين والمجون) صدر عن دار الجريسي عام 1416هـ. • (أبو الحسن محمد طباطبا العلوي: حياته وشعره ونقده) صدر عن دار الجريسي عام 1416هـ. • (أدب الطفل وثقافته وبحوثه في جامعة الإمام) [بالاشتراك مع الدكتور أحمد زلط] صدر عن إدارة الثقافة والنشر بجامعة الإمام عام 1418هـ. • (ديوان الملاحم العربية لمحمود شوقي الأيوبي) [تقديم ودراسة وتعليق] صدر عن دارة الملك عبد العزيز عام 1419هـ. • (المملكة العربية السعودية في مائة عام من خلال رسائل الماجستير والدكتوراه المقدمة لجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية) [بالاشتراك مع الدكتور سالم بن محمد السالم] صدر عن جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية عام 1419هـ. • (الملك عبد العزيز في مجلة الفتح لمحب الدين الخطيب) [بالاشتراك مع الدكتور فهد السماري] صدر عن دارة الملك عبد العزيز عام 1419هـ. • (أدب المهجر الشرقي) صدر عن مركز الدراسات الشرقية في القاهرة عام 1999م. • (نوادر البخلاء: دراسة ونصوص) صدر عن دار الشروق في القاهرة عام 1999م.(الأدب السعودي بأقلام الدارسين العرب) [بالاشتراك مع آخرين] صدر عن نادي القصيم الأدبي. • (تعليم اللغة العربية للناطقين بغيرها، وتجربة اليابان) [بالاشتراك مع الدكتور سمير عبد الحميد] صدر عن دار الثقافة العربية عام 2002م. • (جهود المملكة العربية السعودية في تعليم اللغة العربية لغير الناطقين بها) صدر عن عمادة البحث العلمي بجامعة الإمام عام 1423هـ. • (من وحي الجامعة: بحوث ومحاضرات وأوراق عمل ومقالات متنوعة) صدر عن عمادة البحث العلمي بجامعة الإمام عام 1423هـ. • (المحتوى الثقافي لكتب تعليم اللغة العربية في اليابان) [بالاشتراك مع سمير عبد الحميد] صدر عن دار الثقافة العربية بالقاهرة عام 2004م. • (من ثمرات الأندية الأدبية: بحوث ومحاضرات) صدر عن الجمعية العلمية السعودية للأدب العربي. • (قضايا ومقاربات لغوية معاصرة: بحوث ودراسات) صدر عام 2019م. • (نفحات مغربية). • (دراسات عباسية). • (دراسات في أدب الطفولة في المملكة). • (الكتاب المغاربة في الدوريات السعودية: مجلة المنهل نموذجًا).
قصة هود عليه السلام (2) تحدَّثْتُ في الفصل السابق عن نسَبِ هود عليه السلام، وعن الأمَّة التي بُعث إليها، وعن أرضهم، وقوة بطشهم، وبعض المهمات التي برزت في دعوته عليه الصلاة والسلام، ونتحدَّث في هذا الفصلِ عما جلاه الله تبارك وتعالى في كتابه الكريم في قصة هود عليه السلام، وتحزُّب قومه عليه وتحذيره لهم من عقوبة الله، وكيف كان عذاب الله عز وجل لهم. وقد أورد الله تبارك وتعالى قصَّةَ هود في كتابه الكريم في مواضع شتى من القرآن العظيم على سبيل الإطناب حينًا، والمساواة حينًا، والإيجاز حينًا آخر، بما يناسب كلَّ مقام من مقامات إيراد قصة هذا النبي العظيم. ففي سورة الأعراف يقول الله عز وجل: ﴿ وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ * قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ * قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ * أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ * أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ * فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ ﴾ [الأعراف: 65 - 72]. وفي سورة هود يقول عز وجل: ﴿ وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ * يَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلَا تَعْقِلُونَ * وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ * قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ * إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ * إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ * وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ * وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ * وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ ﴾ [هود: 50 - 60]. وفي سورة الشعراء يقول الحق جلَّ وعلا: ﴿ كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلَا تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ * أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ * وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ * وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ * أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ * وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ * قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ * إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ * وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ * فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ﴾ [الشعراء: 123 - 140]. وقال عز وجل في سورة فصلت متهددًا قريشًا بمثل عقوبة عاد وثمود: ﴿ فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ * إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ * فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ * فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ ﴾ [فصلت: 13 - 16]. وقال عز وجل في سورة الأحقاف: ﴿ وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ * قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ ﴾ [الأحقاف: 21 - 23]، ثم يصف العذاب الذي حلَّ بهم فيقول: ﴿ فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ * تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ * وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ﴾ [الأحقاف: 24 - 26]. وقال تعالى في سورة الذاريات: ﴿ وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ * مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ ﴾ [الذاريات: 41، 42]، وقال في النجم: ﴿ وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى ﴾ [النجم: 50]، وقال في اقتربت الساعة: ﴿ كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ * إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ * تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ * فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ * وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ﴾ [القمر: 18 - 22]، وقال في سورة الحاقة: ﴿ وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ * سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ * فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ ﴾ [الحاقة: 6 - 8]، وقال تعالى في سورة الفجر: ﴿ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ ﴾ [الفجر: 6 - 8]. وقد روى البخاري ومسلم من حديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت: "ما رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم مستجمعًا ضاحكًا قطُّ حتى أرى منه لهواته، إنما كان يبتسم"، وقالت: "كان إذا رأى غيمًا أو ريحًا عُرف ذلك في وجهه"، قالت: "يا رسول الله، إنَّ الناس إذا رأوا الغيم فرحوا رجاء أن يكون فيه المطر، وأراك إذا رأيته عُرف في وجهك الكراهية؟!" فقال: ((يا عائشة، ما يؤمِّنني أن يكون فيه عذاب، قد عُذِّب قوم بالريح، وقد رأى قومٌ العذابَ فقالوا: ﴿ هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا ﴾)). كما روى مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا عصفت الريح قال: ((اللهمَّ إني أسألك خيرها، وخير ما فيها، وخير ما أُرسلتْ به، وأعوذ بك من شرها، وشر ما فيها، وشر ما أرسلت به))، قالت: "وإذا غُيِّبت السماء تغيَّر لونه، وخرج ودخل وأقبل وأدبر، فإذا أمطرت سُرِّي عنه"، فعرفت ذلك عائشة فسألته، فقال: ((لعله يا عائشة كما قال قوم عاد: ﴿ فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا ﴾)). وقد روى البخاري ومسلم من حديث ابن عباس رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((نُصرت بالصبا، وأهلكت عاد بالدبور)). وإلى الفصل القادم إن شاء الله تعالى، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
موادعة اليهود اليهود في الجزيرة العربية قوم وافدون، ليسوا من أهلها الأصليين، إنما كان مجيئهم من جراء اضطهاد الرومان لهم بعد العدوانية التي أظهروها ضد النصارى؛ الدِّين الجديد الذي أتى به عيسى عليه السلام، وأورد بعضهم أن لجوءهم إلى الجزيرة العربية كان من جراء عدوان بختنصر عليهم وتهجيرهم من فلسطين، فانحاز جزء منهم إلى أرض العرب، بينما خرج الأكثرية في هجرة قسرية إلى بابل، وزعم أنهم نزلوا المدينة قبل مجيء الأوس والخزرج الذين نزحوا بعد خراب سد مأرب من اليمن، لكن واقع الحال على أرض المدينة على غير هذا الزعم؛ لأن الأرض الخصبة والزراعية كانت بأيدي الأوس والخزرج، وأن اليهود كانوا يعيشون في حصون تحميهم؛ لإحساسهم بأنهم غرباء دخلاء على المنطقة، فبنوا الحصون؛ لحماية أنفسهم، ثم تسللوا إلى المجتمع وهم يحملون سياسة فرِّقْ تسُد، والمال للسيطرة عن طريق الإقراض والربا، ثم انتقوا أماكن سكناهم بعناية في المدينة وخيبر ووادي القرى، وأمام وجودهم في المجتمع المدني وتداخلهم مع قبائله بأحلاف واتفاقات، وهم فوق كل هذا أصحاب ديانة سماوية، فكان لا بد من الاعتراف بهم كطيف مؤثر من أطياف المجتمع المدني، فاستدعى النبي صلى الله عليه وسلم زعماءهم وكلمهم في كتابة عهد بينه وبينهم على العيش المشترك، والعمل معًا لبناء المجتمع المدني على أساس من التعاون والحفاظ على المدينة والدفاع عنها ضد الأعداء، ونبذ الخلاف، مع تمتعهم بحرية العبادة، وقد ذكر أصحاب السير نص العهد الذي ينظم هذه العلاقة، قال ابن إسحاق: وكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابًا بين المهاجرين والأنصار، وادَع فيه يهودَ، وعاهدهم وأقرهم على دينهم وأموالهم واشترط عليهم وشرط لهم: "بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب من محمد النبي صلى الله عليه وسلم بين المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم، إنهم أمة واحدة من دون الناس، المهاجرون من قريش على ربعتهم يتعاقلون بينهم وهم يفدون عانيهم بالمعروف والقسط بين المؤمنين، وبنو عوف على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين، وبنو ساعدة على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة منهم تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.. ولا يخالف مؤمن مولى مؤمن دونه، وإن المؤمنين المتقين على من بغى منهم أو ابتغى دسيعة ظلم أو إثم أو عدوان أو فساد بين المؤمنين، وإن أيديهم عليه جميعًا ولو كان ولد أحدهم، ولا يقتل مؤمن مؤمنًا في كافر، ولا ينصر كافرًا على مؤمن، وإن ذمة الله واحدة، يجير عليهم أدناهم، وإن المؤمنين بعضهم موالي بعض دون الناس، وإنه من تبعنا من يهود فإن له النصر والأسوة غير مظلومين ولا متناصر عليهم، وإن سلم المؤمنين واحدة، لا يسالم مؤمن دون مؤمن في قتال في سبيل الله إلا على سواء وعدل بينهم، وإن كل غازية غزت معنا يعقب بعضها بعضًا، وإن المؤمنين يُبيء بعضهم على بعض بما نال دماءهم في سبيل الله، وإن المؤمنين المتقين على أحسن هدى وأقومه، وإنه لا يجير مشرك مالًا لقريش ولا نفسًا ولا تحول دونه على مؤمن، وإنه من اعتبط مؤمنًا قتلًا عن بينة فإنه قود به، إلا أن يرضى ولي المقتول، وإن المؤمنين عليه كافة، ولا يحل لهم إلا قيام عليه، وإنه لا يحل لمؤمن أقر بما في هذه الصحيفة وآمن بالله واليوم الآخر أن ينصر محدثًا ولا يؤويه، وإنه من نصره أو آواه فإن عليه لعنة الله وغضبه يوم القيامة، ولا يؤخذ منه صرف ولا عدل، وإنكم مهما اختلفتم فيه من شيء فإن مرده إلى الله عز وجل وإلى محمد صلى الله عليه وسلم، وإن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين، وإن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم وللمسلمين دينهم، مواليهم وأنفسهم، إلا من ظلم وأثم فإنه لا يوتغ إلا نفسه وآل بيته.. وإن على اليهود نفقتهم وعلى المسلمين نفقتهم، وإن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة، وإن بينهم النصح والنصيحة والبر دون الإثم، وإنه لم يأثم امرؤ بحليفه، وإن النصر للمظلوم.. وإن يثرب حرام جوفها لأهل هذه الصحيفة وإن الجار كالنفس غير مضار ولا آثم، وإنه لا تجار حرمة إلا بإذن أهلها، وإنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار يخاف فساده فإن مرده إلى الله عز وجل وإلى محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم" (ربعتهم: حالهم وشأنهم وعادتهم - يتعاقلون: يتعاونون في دفع الدية - عانيهم: أسيرهم - دسيعة: عطية - يبيء: يمنع ويكف - اعتبط: القتل في غير ما هو حق - القود: القصاص من القاتل - لا يوتغ: لا يهلك إلا نفسه - محدثًا: مرتكبًا جناية القتل). وهكذا كانت هذه الموادعة مع اليهود قانونًا ملزمًا، فصل ما لهم وما عليهم، وقد التزم بها المسلمون، وعمل اليهود - كعادتهم - على الالتفاف عليها، كما سنرى في سبب قتال بني قينقاع، ثم بني النضير، ثم بني قريظة.
عرض معجم السيرة النبوية الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد النبي الطاهر الأمين، أما بعد: فقد صنَّف علماء المسلمين المعاجم في شتى المجالات: في الحديث وعلم الرجال وفي اللغة والتاريخ، وغير ذلك من المعاجم العربية الأصيلة التي أثْرَت الآداب والعلوم الإسلامية، ولم أعثر على معجم يتناول ألفاظ سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، حتى المعاجم التي تناولت التاريخ الإسلامي، لم تولِ سيرة النبي صلى الله عليه وسلم عناية خاصة؛ حيث إن أغلبها تناول موضوعًا أو حقبة تاريخية معينة، من أجل هذا استخرت الله للبدء بعون الله في هذا المعجم وأطلقت عليه " معجم السيرة النبوية "، الذي أعمل عليه منذ ما يقرُب من ثلاثين عامًا؛ حيث بدأت العمل فيه عام (1993م)، وهو فيما أحسب أول معجم لألفاظ سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، وأول معالجة علمية لفهرسة وتصنيف السيرة النبوية على حروف المعجم ، وأسأل الله أن يجعل هذا المعجم لَبِنَةً في مجال دراسة السيرة النبوية والدراسات التاريخية الإسلامية، ويساعد هذا المعجم المهتمين بهذا العلم، وخاصة الباحثين والدعاة، على رجاء من الله أن يحظى عملي هذا بالقبول عند الله، وأن يرزُقني الله به شفاعة حبيبه صلى الله عليه وسلم. أهداف معجم السيرة النبوية: الأول: الوصول إلى كنوز السيرة النبوية الموجودة في تضاعيف كتب التراث، وكل ما يتعلق بسيرة النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا المعجم يجمع الشتات المنثور في شتى المصادر والمراجع. قال الإمام السخاوي: أما السيرة النبوية والمغازي، فقد انتدب لجمعها مع سائر أيامه مما يرشد لطريقته من فاق كثرةً وراق خبرةً، كموسى بن عقبة الأسدي المدني أحد التابعين، ومحمد بن إسحاق المطلبي .... إلى غيرها مما لو حصل التصدي لجمعه كله في كتاب، لكان في عشرين مجلدًا فأكثر. الثاني: تذليل هذه الكنوز وتقديمها للقارئ، كي تغنيه عن الاطلاع على مئات المصادر والمراجع والموسوعات. منهج العمل في معجم السيرة النبوية: 1. ترتيب مداخل المعجم ترتيبًا ألفبائيًّا حسب شكل الكلمة، متبعًا الطريقة الأبجدية الألفبائية، بمراعاة الحرف الأول والثاني والثالث ... إلخ، ولم أراعِ في الترتيب التسلسل الزمني (ترجمة غزوة أحد جاءت قبل غزوة بدر.. وهكذا). 2. ترجمت لكل حدثٍ أو مكان أو شخص ورد في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، وله دور مؤثر ولو صغيرًا في أحداث السيرة ، ولم أسترسل في تراجم الصحابة إلا من لهم أدوار بارزة في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، وفي كتب التراجم كفاية، فقد أتت على تراجم جميع الصحابة في ترتيب ونسق بديع. 3. عدم احتساب «أل» التعريف في الترتيب، فلفظ "البادية" في حرف الباء، ولفظ "الضيف" في حرف الضاد، ولفظ "الوفود" في حرف الواو... وهكذا. 4. اعتبار الحرف المشدد بحرف واحد. 5. بيان المعنى اللغوي والاصطلاحي لمداخل المعجم. 6. ضبط ألفاظ ما يحتاج من مداخل المعجم بدقة بالنص على حركات حروفها. 7. الاستشهاد بالآيات القرآنية المتعلقة بموضوع المدخل، مع إثبات اسم السورة ورقم الآية بجوارها. 8. الرجوع إلى التفاسير المشهود لها بالصحة في تفسير الآيات المتعلقة بالموضوع. 9. الاستشهاد بمرويات السنة النبي صلى الله عليه وسلم، مع بيان تخريج جميع أحاديث المعجم تخريجًا علميًّا، بذكر راوي الحديث، ورقم الحديث في الهامش حسب ما جاء في قائمة المصادر والمراجع. 10- بيان الحكم على الحديث إن أمكن، مبينًا درجة الصحة والضعف، مستشهدا بآراء علماء هذا الفن في القديم والحديث. 11- توثيق المعلومات والأقوال من خلال إثبات المصادر والمراجع، مع رقم الجزء والصفحة، أما معلومات الناشر والطبعة، فيمكن الرجوع إليها في ثبت المصادر والمراجع. 12- المعالجة التاريخية لبعض المصطلحات الفقهية مثل (الصلاة والزكاة والصيام)، أو ما يطلق عليه تاريخ التشريع. 13- الخلافات الفقهية في المسائل الواردة في هذا المعجم، يتم إحالة القارئ إلى المراجع التي تعينه على إزالة هذا الخلاف. 14- أثبتنا الأماكن الواردة في كتب السيرة النبوية بأسمائها القديمة، مع محاولة تقصي الأسماء المعاصرة لهذه الأماكن، وبيان مسافتها من المدن الكبرى مثل مكة أو المدينة. 15- بعض الأحداث أو الأماكن لها أكثر من اسم، فترجمت للاسم الأشهر، والاسم الآخر ذكرته في معرض الإحالات، مثل: الأحزاب والخندق، والمصطلق والمريسيع ... وهكذا. أرقام وإحصاءات : هذا المعجم يحتوي على 2429 مدخلَ (عنوان) غطت حروف الهجاء العربية، وعدد صفحاته 9903 صفحات، قياس 17*24 الحرف عدد المداخل عدد الصفحات حرف الألف 361 1629 حرف الباء 116 467 حرف التاء 119 563 حرف الثاء 31 97 حرف الجيم 89 377 حرف الحاء 144 587 حرف الخاء 80 377 حرف الدال 56 207 حرف الذال 39 102 حرف الراء 136 449 حرف الزاي 34 142 حرف السين 113 412 حرف الشين 60 238 حرف الصاد 66 279 حرف الضاد 15 50 حرف الطاء 28 193 حرف الظاء 9 47 حرف العين 196 715 حرف الغين 46 178 حرف الفاء 54 269 حرف القاف 90 383 حرف الكاف 54 179 حرف اللام 27 119 حرف الميم 214 845 حرف النون 106 411 حرف الهاء 46 228 حرف الواو 57 228 حرف الياء 43 132 المجموع 2429 9903
تقنية ChatGPT ومستقبل البحوث العلمية تجربة IBM via Voice : قبل ما يقرب من 15 سنة، فكرت ذات مرة في استخدام طريقة مختلفة في الكتابة على الكمبيوتر؛ لماذا لا أتحدَّث والآلة تكتب؟ كنت أعلم أنني لست أول من فكر في ذلك؛ بل كنت متأكدًا من وجود برنامج ينفذ هذه الفكرة، فبحثت ووجدت ما توقَّعت، قررت استخدام البرنامج الشهير ( IBM via Voice ) والذي أظنُّه كان الوحيد آنذاك في الكتابة الصوتية، في زمنٍ كان هذا الأمر يُعَدُّ ضربًا من الخيال، خاصة في مجتمع اللغة العربية، استطعتُ الحصول على نسخة من هذا البرنامج الذي لم يكن متوفرًا كثيرًا، ولم أكن على علم بخطوات التعامل معه؛ إذ طلب مني -بعد تطبيقه على الجهاز- أن أبدأ في رحلة تدريبه و تعليمه؛ من خلال قراءة كلماتٍ وجُمَل يعرضها هو على الشاشة، أبيات شعرية، أقوال.. إلخ، وبالفعل، بدأت أقرأ له مستخدمًا (المايك)، ويقوم هو بتعزيزي من خلال عرض إشارات وتلميحات تُوضِّح استجابته لما يسمع، ومدى جودة النطق والقراءة ووضوح الصوت، فظل يعرض وأقرأ، ويعرض وأقرأ، هكذا عدة ساعات إلى أن انقضى الليل . ثم تابعت في اليوم التالي أقرأ ما يعرضه لي إلى أن انتهى اليوم، وظللتُ على هذه الحال قرابة أسبوع، حتى أصابني المَلَل والضجر، كانت المشكلة أن البرنامج لم يكن ليوضِّح المدة التي سأنتهي فيها من تعليمه؛ بل كانت برمجته بهذا الأسلوب مقصودة في الأصل؛ أن يظل يتعلَّم منك ما دمت تعمل عليه، حتى يترقَّى مع الوقت، وتزداد نسبة دقته في الأداء والجودة، فشعرت أني في طريق لا نهاية له مع هذا البرنامج، ثم شرعت أجرِّبه بالقدر الذي تعلَّمَه مِنِّي، فكان أول ما نطقت له: "بسم الله الرحمن الرحيم"، لأُفاجأ أخيرًا أنه يعمل، قرأتها أمامي فعلًا، وكانت هذه هي المرة الأولى في حياتي التي أرى فيها وأُجرِّب بنفسي هذه التقنية، إلا أن جودة أداء البرنامج لم تكن على ما يُرام؛ لأنه كان بحاجة إلى مزيد من التعلُّم حتى يعطي نتائج أفضل، باختصار؛ كان يريد منك أن تقرأ له ليل نهار إلى أن يشاء الله؛ فقررت الاستغناء عنه بعد مدة. كنت أفهم الغرض من كل ذلك، فالبرنامج يريد أن يفهم صوتك، ويُحلِّله إلى مقاطع نغمية؛ حتى يتمكَّن من تسجيل بصمتك الصوتيَّة، كل هذا بالتوازي مع حفظ النص المقروء، ليتمكَّن من تخزين هذه المقاطع الصوتية رفقة النص المقابل لها، أو الذي يعد ترجمة لها، حتى إذا سمع مقطعًا منها مرة أخرى؛ شرع في عملية فكِّ تشفيره، ليتمكَّن من استدعاء النصِّ المقابل له إضافةً إلى أن البرنامج يُصحِّح الكلمات التي تعرف عليها مسبقًا بصورة خاطئة، من خلال سماعها من المستخدِم أكثر من مرة -تلقائيًّا- بنغمات صوتية ذات نُطْقٍ مُوحَّد للنص الواحد؛ وذلك لتحسين جودة ودقة فكِّ التشفير في أي عملية استدعاء لاحقة بينما كانت مشكلة البرنامج أن استجابته كانت تتأخَّر بعض ثوانٍ، وتطول أحيانًا؛ بل كانت نسبة جودته، ودقة أدائه واستجابته لا تتعدى 70% -من خلال تجربتي له- إلا أن هذه النسبة في زمنها كانت أشبه بالمعجزة . تقنية Chatbot : تعد تطبيقات Chatbot ، أو "الدردشة الروبوتية"، أو "روبوت الدردشة" برامج مصممة لمحاكاة المحادثات البشرية عبر الإنترنت بذكاء، من خلال الكتابة النصيَّة، أو الصوتية، أو تحويل النص إلى كلام، أو العكس؛ عن طريق السمع أو الكتابة، وذلك بدلًا من توفير اتصال مباشر مع مستخدم بشري واحد، أو مجموعة من المستخدمين، ويطلق عليها أحيانًا "الدردشة الاصطناعية"، وتُدمَج هذه البرامج -غالبًا- في أنظمة المحادثات لأغراض مختلفة، مثل: خدمة العملاء، والخدمات التسويقية، وعمليات البيع والشراء، ومؤخرًا الحصول على المعلومات. وقد كان الاستخدام الأول لهذه التطبيقات في مجال خدمة العملاء من قبل الشركات التجارية الكبيرة، وبعض مواقع الإنترنت التفاعلية التي تعتمد على تواصُل الجمهور مع بعضه، مثل: Facebook، وTwiter، وTelegram وغيرها؛ إذ إنها تُوفِّر الكثير من العمالة البشرية، وتعتمد هذه التقنية على أتمتة عمليات الاتصال عبر الإنترنت، وتصحيحها، وصيانتها؛ وذلك من خلال خوارزميَّات معينة، مدعومة من خلال إحدى لغات البرمجة، مثل: PHP Python, Ruby , ، ليرد التطبيق على الرسائل النصية -وكذلك الصوتية- ويفتح مجالات للحوار بدلًا عن الإنسان. وبالعودة إلى ما سُرِد سلفًا عن تجربة برنامج ( IBM via Voice ) ، ورغم فارق التشبيه الطفيف بينه وبين تقنية Chatbot ، إلا أن هذه التقنية بتقدُّمها الواضح -في هذه الآونة- قد أصبح بإمكانها تدريجيًّا أنْ تُعلِّم نفسَها بنفسها، من خلال الاستخدام المستمر لها، بخلاف برنامج ( IBM via Voice ) الذي كان مُعلِّمه ومُدرِّبه هو المستخدم وحده، أمَّا الآن، ومنذ أن بدأ ربط التطبيقات والبرامج المحوسبة بالإنترنت، ومِنْ ثَمَّ مشاركة استخدامها وتحديثها عبر الإنترنت في تزامُنٍ تامٍّ، أو كما يقال: "على الهواء"؛ فثمة جمهور عريض من مستخدمي هذه التطبيقات الروبوتية، يتعاملون معها كل لحظة، وفي كل لحظة تتعلَّم هذه التقنية المزيد والمزيد من هؤلاء المستخدمين. وتستخدم التطبيقات المعتمدة على تقنية Chatbot آلية فحص الكلمات المدخلة إليها، ومِن ثَمَّ تفرزها إلى كلماتٍ رئيسةٍ، ثم تسحب الرد مع الكلمات الرئيسة الأكثر مطابقة، والأفضل صياغة من النصوص المخزنة عليها في قاعدة البيانات. وقد كثرت الآن هذه التطبيقات المعتمدة على تقنية Chatbot في شركات ومواقع كثيرة جدًّا؛ إذ باتت برمجتها أشبه بالمتاحة إلى حدٍّ ما لدى فئة معينة من المستخدمين، إلا أن التحدِّي الأكبر أمام عملية إنشاء تطبيق Chatbot جيد؛ هو عامل الجهد المبذول في تدريبه وتعليمه الذي سيتلقَّاه من مطوِّره، أو من مستخدميه، وكذلك عامل الكمِّ الذي خُزِّن عليه من المعلومات، إضافة إلى عامل الوقت الذي تستغرقه عملية إنشائه بهذه الصورة حتى يصل إلى مرحلة "الجيد"، وغالبًا ما يتشابك عامل الوقت مع عامل السرعة؛ فكثيرة هي تطبيقات Chatbot التي أسرعت منذ سنوات إلى أن وصلت إلى مرحلة متقدمة كثيرًا عن غيرها، ومنها تطبيق ChatGPT الذي طوَّرته شركة OpenAI الأمريكية. تطبيق ChatGPT : يُعَدُّ تطبيق ChatGPT -في الحقيقة- أحد التطبيقات المعتمدة على تقنية Chatbot ، فهو برنامج محادثة أو دردشة روبوتية، طوَّرته شركة OpenAI الأمريكية، وأعلنت إطلاقه في نوفمبر 2022، تلك الشركة التي تبلغ قيمتها 29 مليار دولار بحسب بعض المصادر، ويعتمد هذا التطبيق على الذكاء الاصطناعي للإجابة عن أسئلة المستخدمين، وكذلك كتابة مقالات وأبحاث إذا طلب منه ذلك، وتأتي الحروف " GPT " اختصارًا للجملة ( Generative Pre-trained Transformer )، والتي تعني على وجه التقريب: (محوِّل توليدي مُدرَّب مسبقًا)، ويهدف ChatGPT إلى إنشاء محادثات مشابهة لمحادثات البشر مع الذكاء الاصطناعي بسهولة، كما يتمتع تطبيق ChatGPT بقدرته على جمع المعلومات من مصادر كثيرة ومتنوِّعة، إلى جانب التدريب الذي يُقدِّمه له البشر، وقد بلغ عدد مستخدمي هذا التطبيق أكثر من مليون مستخدم خلال أقل من أسبوع من إطلاقه، يقول سام ألتمان الرئيس التنفيذي لشركة OpenAI في تغريدة له مشيرًا إلى مستقبل روبوتات الدردشة Chatbot : "قريبًا، سيتمكن الناس من العثور على مساعدين مفيدين يتحدثون إليهم ويجيبون عن أسئلتهم، ويُقدِّمون إليهم النصائح.. ومستقبلًا، سوف يمكنك أن ترى شيئًا ينفجر ويكشف لك عن معرفة من نوع جديد ." ويُعرب العديد من الشخصيات الكبيرة في عالم التكنولوجيا عن دهشتهم من تطبيق ChatGPT ، مثل آرون ليفي الرئيس التنفيذي لشركة Box للتسويق، الذي غرَّد عن البرنامج قائلًا: "كل شيء سيكون مختلفًا في المستقبل". بين البحث " Search " والسين جيم "Q&A" : يسعى مطورو التطبيقات المعتمدة على تقنية Chatbot من أباطرة التكنولوجيا على الساحة إلى إنهاء عصر الحصول على المعلومات بآلية البحث " Search " المعهودة، طامحين في افتتاح عصر جديد بآلية جديدة، هي السين جيم " Q&A " ، أو ( question & answer ) ، ولهذا التوجه مخاطر كارثية على مستقبل المعرفة، تتمثل -باختصار- في ماهية الذي سيُحرِّك دفة الإجابة عن سؤالك، ومدى أهدافه، والغرض من اختياره بعض المعلومات وإهمال غيرها، أو بلفظٍ أدق: حجبها عنك، في حين تسعى شركة مايكروسوفت لإضافة ChatGPT إلى محركها البحثي الشهير بينج Bing ، في خطوة يراها المحللون ضخمة جدًّا من مايكروسوفت نحو السيطرة على سوق محركات البحث الذي يقوده الآن العملاق جوجل Google ، وذلك بالتعاون بينها وبين شركة OpenAI مطورة ChatGPT ؛ مما سينقل تجربة البحث على الإنترنت إلى منعطف تاريخي غير مسبوق، من خلال الاعتماد على الذكاء الاصطناعي؛ إذ سيتمكن محرك البحث من فهم ما تبحث عنه بالفعل، ليخرج إليك بنتائج أدق وأشمل من ذي قبل، توحي أن بشرًا قد كتبها، وليس مجرد خوارزميات. لقد كنا نُولي اهتمامًا كبيرًا إلى البحث والتنقيب من أجل إيجاد إجابة جيدة عن أسئلتنا، والآن صرنا في عصر يتعيَّن علينا فيه أن نُولي اهتمامنا الأكبر إلى اكتساب مهارة طرح السؤال الجيد والسليم، فمعرفة كيفية بناء السؤال الجيد، وطرحه السليم، أهم بكثير في هذا العصر من معرفة كيفية البحث الجيد عن الإجابة؛ إذ إن تطبيقات Chatbot ستتولى عناء الإجابة بدلًا عنك، وبدقة وجودة قد تفوق مهارتك المعهودة في البحث؛ لكن عليك أن تُوجِّهها توجيهًا سليمًا؛ من خلال طرح سؤال سليم، فمهارة بناء وطرح الأسئلة الفصيحة الجيدة، أهم كثيرًا من مهارة البحث الصحيح عن الأجوبة في هذا العصر . ملامح مستقبل البحث العلمي في عصر Chatbot : في عام 2017، توقَّع باحثون في دراسة أجرتها شركة أبحاث أمريكية تدعى Forrester ، أن نسبة 25٪ من جميع الوظائف ستتأثر بتقنيات الذكاء الاصطناعي بحلول عام 2019، وبغير استنادٍ إلى ما جاءت به هذه الدراسة؛ ولكن يقينًا بمآلات أمرٍ يلحظه القاصي والداني؛ فإن قدرًا كبيرًا مِمَّا يُدرس الآن حول مناهج البحوث العلمية في الجامعات حول العالم ستتغير ملامحه تمامًا خلال السنوات القادمة؛ بل إن كثيرًا من قواعد وشروط نَشْر الأبحاث، والكتب، وغيرها لدى دور النشر ستتبدَّل وتتغيَّر كثيرًا في قادم السنوات. وفي ظِلِّ ما تتعلَّمه هذه التقنية الآن بسبب استخدامها المتوالي والمستمر، من خلال كلمات البحث، ونقرات الباحثين على نتائج البحث، ومدى استجابتهم للصور والمقاطع المعروضة عليهم أو تجاهلهم إيَّاها، ومن خلال المحتوى النصِّي المتوفر على الإنترنت، والمعلومات التعزيزية التي يمنحها المستخدم إيَّاها لتصحيح مسارها لاحقًا- فبإمكان هذه التقنية أن تسرد لك بحثًا، أو دراسةً، أو كتابًا كاملًا، دون بذل أدنى جهد؛ بل ستُدهش حقًّا من النتيجة، عليك فقط أن تكتب للتطبيق الذي تستخدمه عدة كلمات رئيسة حول موضوعك، ثم توضح له شروط التنسيق والتنظيم والترتيب لِما تريد أن تكتب، بحثًا كان أو كتابًا، أو حتى مقالًا، كل ذلك في صورة أسئلة مبنية بمهارة جيدة، ثم انتظر النتيجة. نعم، سنضحك كثيرًا عندما يمنح بعض الباحثين أو الكُتَّاب كامل ثقتهم إلى تطبيقات Chatbot في كتابة بحثٍ أو مقالٍ أو تأليف كتاب؛ لأننا حينئذٍ سنرى لغة عربية بلا قواعد ولا تراكيب نحوية أو صرفية، وفكرًا خاويًا من أدنى قواعد التأصيل أو التنظير، وأسلوبًا كتابيًّا منزوع البلاغة والتصوير، وخاليًا من الخيال، سوى الخيال التائه في الخلط بين المعلومات، وركاكة لغة الكتابة، باختصار؛ سيفضح النص المكتوب كاتبه المزعوم؛ لكن، ولا أدري ألِلأسف أم للفرح؟! فلن يدوم هذا الضحك طويلًا؛ إذ إن تسارُع وتيرة التعليم والتدريب التي تتلقاه الآن تطبيقات Chatbot سيجعلها -تدريجيًّا- ذات جدارة واستحقاق بثقة المستخدمين فيها أكثر من ذي قبل، فالذي كان يتعلمه مني برنامج ( IBM via Voice ) في أسبوع واحد قبل 15 سنة، تتعلمه الآن تطبيقات Chatbot في لحظات؛ من خلال زخم المستخدمين عبر الإنترنت. لك أن تتخيَّل أيها الباحث كيف ستمكنك هذه التكنولوجيا من تحسين وتوسيع فرص إجراء بحوثك ودراساتك؛ بل تصور كيف ستوفر لك من الوقت؛ لكن ليكن في معلوم كل باحث أن الاعتماد المفرط على هذه التكنولوجيا، بِعدِّها مصدرًا لإعداد البحوث وكتابتها، دون الإفصاح للجهات المعنية والقُرَّاء عن الاستخدام الفعلي لها، يُعَدُّ أمرًا منافيًا للأخلاق العامة، فضلًا عن أخلاق البحث العلمي؛ لأن ذلك سيكون في مقابل باحثين آخرين جادوا بقرائحهم في كتابة بحوثهم، وبذلوا جهودًا مضنية في سبيل إتمامها على الوجه الذي ينبغي، فهل يستويان؟ إن تقنية Chatbot تعد -في الحقيقة- فتحًا كبيرًا في مجال البحوث العلمية، وتُوفِّر جهدًا كبيرًا على الباحثين، وفيما يلي نستشرف مآلات بعض الجوانب المتعلقة بالبحوث العلمية، في ظل اعتماد الباحثين على هذه التقنية الآخذة في الاتساع والانتشار، كما يأتي: الأمانة العلمية: سيصبح موقف الأمانة العلمية لدى الباحثين كما كان سلفًا في عصر ما قبل تقنية Chatbot ؛ إذ سيظل تقييمها مرهونًا بضمير الباحث ووازعه الأخلاقي؛ لأنه إذا لم يظهر دليل بيِّن يثبت أن الباحث قد استعان بهذه التقنية دون أن يُفصِح هو عن ذلك بنفسه؛ فليس ثمة وسيلة أو معيار جازم يمكن من خلاله الحكم بنفي أو إثبات الأمانة العلمية لديه، فهي متروكة لضميره، حتى يأتي وقت تسمح فيه تقنية Chatbot بالبحث في جميع تطبيقاتها عن مدى توفُّر محتوى البحث على أحدها، أو أن هذا المحتوى قد أنتجه واحد منها، وأنه ليس من قريحة الباحث؛ ولذا تقتضي الأمانة العلمية لدى الباحثين الإفصاح عن موقفهم من استخدام هذه التقنية في إجراء بحوثهم، كأن يزيَّل البحث أو المقال بجملة: "مكتوب بواسطة AI "، هذا على سبيل المثال، وتُشير الرؤى إلى أن مثل هذه الجملة ستملأ -مستقبلًا- المحتوى المكتوب على الإنترنت، هذا إذا التزم الكاتب -ذاتيًّا- بالأمانة، قبل أن تكشف الخوارزميات –تلقائيًّا- عن مصدر المحتوى صراحةً إذا كان مكتوبًا بأحد تطبيقات Chatbot . الموضوعيَّة: تُعَدُّ الموضوعية شرطًا مهمًّا من شروط البحث العلمي السليم؛ إذ على الباحث ألا يُناقش أية مواضيع ذاتيَّة أو أفكار شخصية، ولا يتحيَّز إلى أي طرف؛ لكن مع تطبيقات Chatbot سيقل الحديث عن الموضوعية؛ إذ إنها مجرد خوارزميات تكتب، ولا يمكننا تحديد نوع هذه الكتابة بين الموضوعية أو الذاتية؛ لكن يمكن عَزْوُها إلى مطوِّريها، هؤلاء الذين غالبًا ما يكونون مجهولين، أو -على الأقل- مجهولي الفكر والغاية. وضوح اللغة: تعتمد تطبيقات Chatbot -خاصة الإنجليزية منها- على برمجة جيدة جدًّا في إنتاج لغة إنجليزية تكاد تخلو من الأخطاء الإملائية، فهي تستخدم أسلوبًا لغويًّا بسيطًا في عرض النتائج؛ ولذا عند الكشف عن أخطاء لُغويَّة لديها فإنها إن وجدت فهي قليلة، وهذه من المحاسن المعدودة لهذه التقنية، إلا أن عدم إفصاح الباحث عن استخدام هذه التقنية سيظل أمرًا مُنافيًا للأخلاق. أصالة البحث: تُعَدُّ الأصالة من أهم شروط البحث العلمي الجيد، وقد تساعد تقنية Chatbot الباحث في إيجاد فكرة بحث جيدة، إلا أنها قد ينقصها الأصالة، فضلًا على أن هذه التقنية قد تشارك نفس الفكرة مع باحث غيره؛ لذا يتعيَّن على الباحثين في عصر تطبيقات Chatbot الالتزام الكافي والاهتمام الجيد بأصالة موضوع البحث. التراكمية: من أكثر شروط البحوث العلمية غيابًا في عصر تطبيقات Chatbot ، فالخوارزميات تجمع المعلومات التي تُسأل عنها من هنا وهناك، وليس لها أن تبني على بناء آخر، أو أن تشكل عملية تراكم للمعرفة، أو أن تطبق مبدأ "الابتداء من حيث انتهى الآخرون"، هذا في الوقت الحالي، ولا أحد يعلم عن شأن ما قد يحدث في السنوات القادمة؛ إذ يمكن أن تجيد تطبيقات Chatbot مهارة التراكمية، وكذلك جمع دراسات سابقة لصيقة الصلة بموضوع البحث؛ بل قد يمكنها الانتقاء الجيد من بينها. التنظيم: تنتج تطبيقات Chatbot في الغالب كتابات سردية، وليس كما في البحوث المنشورة والرسائل العلمية المنظمة، بينما مع مرور الوقت يمكن للباحث إمداد التطبيق الذي يعمل عليه ببعض المعلومات عن كيفية تنظيم وتنسيق البحث كما يوَد. الدقة: ليس ثمة حكم جازم بجودة ودقة تقنية Chatbot في إجراء البحوث العلمية في الوقت الحالي، حتى وإن كانت الدقة سيئة الآن؛ فمن المؤكد أن هذه التطبيقات تتعلم كل لحظة، فَوَارِدٌ أن يأتي يومٌ تخرج علينا بنتائج دقيقة جدًّا، وقد ذكر أحد الطلاب الغربيين لإحدى الصحف أنه استخدم " ChatGPT " مرتين لحل واجباته المدرسية، مؤكدًا أنه لم يقلق من اكتشاف مُعلِّمه ذلك. الواقعية: تُمثِّل الواقعية أحد أهم شروط البحث العلمي الجيد التي يُقيَّم الباحث على أساسها، حتى في عصر Chatbot ؛ إذ يصعب على هذه التقنية -حاليًّا- أن تربط موضوع البحث مع موضوعات أخرى على أرض الواقع تناقش مشكلة مجتمعية راهنة، أو أن تقارن نتائج البحث الحالي بنتائج أبحاث أخرى للتأكد من مدى صحَّتِها وواقعيتها، إلا أنها يمكنها أن تتلاعب بأرقام البحث في المعالجات الإحصائية؛ مما قد يذهب بنتائجه إلى وجهة مخالفة للواقع؛ ولذا يتعيَّن على محكِّمي البحوث التدقيق الجيد في نتائجها، والتثبُّت من منطقيَّة تفسيراتها. وثمة نقاط تُعَدُّ من الثوابت في تقييم الأبحاث العلمية وقبولها للنشر أو رفضها، ويُعطَى الباحثون على أساسها علامات نجاحهم وحصولهم على الدرجات العلمية؛ لن يكون لها صدًى في عصر Chatbot ، لا لأنها ليست مُهِمَّةً؛ ولكن لأن هذه التقنية ستتولى تنفيذ بعضها باحتراف، ومنها ما يأتي: • اختيار الأساليب والاختبارات الإحصائية المناسبة للبحث. • المبالغة في الاهتمام بالإطار النظري للبحوث. • تركيز الاهتمام على أساليب الكتابة الأكاديمية. • تنسيق الفقرات، والربط الجيد بين المعلومات. • التحلي بمهارات البحث الجيد على الإنترنت. • بذل الجهد في جمع الدراسات السابقة. • أساليب التوثيق المتشعِّبة والمُعقَّدة. • إجراء معالجات إحصائية جيدة. • البحث المُضْني عن مراجع حديثة. • الالتزام بنسبة الاقتباس. إن السؤال الذي يُلِحُّ على مسامعي: ما حال الجامعات التي تُلزِم طلابها وباحثيها بنسبة اقتباس محددة داخل الأُطُر النظرية في أبحاثهم، هذه الأُطُر التي سينتهي تسليط الضوء عليها، وسيقل الاهتمام بها، في ظل هذه التقنية التي ستتغير معها ملامح البحث العلمي، خاصةً مع توسُّع وانتشار تطبيقاتها؟ فعمَّا قريب سيصبح من الهُراء الحديث عن الالتزام بنسبة الاقتباس في البحوث العلمية، كيف والحال أن الباحث يمكنه استخدام أحد تطبيقات Chatbot في إنجاز بحثٍ كامل في يوم واحدٍ أو أقل؟! فتقنيات Chatbot تمنحه الآن حرية مُتقدِّمة، وإمكانات عالية في الكتابة بأكثر من أسلوب، من خلال كلمات رئيسة يعطيها إياها، لتكتب هي -بدلًا عنه- أي شيء يريد، فالحديث إذَن عن الالتزام بنسبة اقتباس في البحوث لن يُعَدَّ عمليًّا. بل إن هذه التقنية بإمكانها أن تجري معالجة إحصائية كاملة لبحثٍ دون استجابات واقعية، وبلا أرقام حقيقية، وأُدرك غرابة هذه النقطة على الكثير؛ لكن خوارزميات الذكاء الاصطناعي قادرة بالفعل على توليد أرقام وَهْميَّة بذكاء؛ أي إن هذه الأرقام ستأتي في النهاية بنتيجة صدق وثبات عالية، ولن تحمل فيما بينها أي دليل يُثير الشك حول عدم واقعيتها في الحقيقة، والأغرب من ذلك أن هذه التقنية ستمكِّن الباحث من توجيه دفة هذه الأرقام إلى الجهة التي يريدها، لتخرج له بنتائج تخدم أهداف بحثه، إما جهة "موافق" أو "غير موافق"، أو "عالية" أو "منخفضة"، حسب أبعاد الأداة التي يستخدمها، وأيضًا ستأتي في النهاية بنتيجة صدق وثبات عالية، وتبقى الأمانة العلمية في النهاية مربط الفرس، والمعيار الفاصل في ذلك. تدابير مستقبلية بشأن البحوث العلمية: • سوف يتعيَّن على الجامعات، ودُور النشر، والمجلَّات البحثية الدولية، والإقليمية، والمحلية، وغيرها- إيجاد طرق لإثبات أصالة محتوى الكتب، والأبحاث، والدراسات، والرسائل العلمية، والمقالات، والتأكد من أنها مكتوبة بيد مؤلِّفيها، لا من خلال تطبيقات Chatbot ، هذا إذا أصرَّت هذه الجهات على معرفة ذلك؛ لأن معايير تقييم مَن جادت قريحته ببحثٍ مستخدمًا ذكاءه البشري تختلف كثيرًا عمَّن جادَ له الذكاء الاصطناعي، ولكل واحدٍ منهما ظروف مقيدة بعصره؛ لكن مستقبلًا؛ لن يكون ثمة داعٍ للحديث حول كيفية إثبات أن الكاتب أو الباحث قد كتب هذا البحث بنفسه، أو من خلال أحد تطبيقات Chatbot ؛ فكما ذكرت سلفًا أن الخوارزميات سيُمكنها مستقبلًا من الكشف عن مصدر أي محتوى مكتوب من خلال هذه التقنية . • سوف يتعيَّن –مستقبلًا- على الباحثين من مستخدمي Chatbot أن يتمرَّسوا جيدًا على اكتساب مهارة اصطياد الموضوعات والأفكار ذات الأصالة والواقعية، والمتعلِّقة بمشكلات يُعاني منها المجتمع؛ إذ إن الذي سيُميِّز الباحث مستقبلًا: أصالة بحثه وواقعيَّته؛ لأن تقنيات الذكاء الاصطناعي قد تأتي له بفكرة بحثية متكاملة؛ لكنها قد ينقصها الأصالة والمساس بالواقع الذي يعيش فيه الباحث. • سوف يتعيَّن على دُور النشر بأنواعها (مقالات، وكتب، وأبحاث علمية.. إلخ) أن تعتمد آلية جديدة في تحديد شروط وتعليمات النشر فيها، ومِن ثَمَّ التعديل في قواعد النشر بما يتوافق مع ظروف المرحلة، مثل: اعتماد آلية جديدة في التوثيق تتماشى مع هذه التقنية. • سوف يتعيَّن على محكِّمي البحوث التدقيق الجيد في نتائجها، والمراقبة النقدية لأرقامها، والتثبُّت من منطقيَّة تفسيراتها، ومدى توافُقها مع الشواهد على أرض الواقع. • سوف يتعيَّن على اللجان العلمية الدائمة لترقية أعضاء هيئة التدريس تغيير لوائحها، وتعديل شروطها؛ من أجل الوقوف على معايير مناسبة لظروف وتطوُّرات المرحلة المقبلة، في عصر سيمنح الباحثين تسهيلات غير مسبوقة لإتمام بحوثهم في أوقات قياسية، وأول ما يُناط بهذه اللجان تغييره في لوائحها؛ تقليل الفترات الزمنية القانونية الفاصلة بين الدرجات الأكاديمية، والتي لا يُسمح للباحثين التقدُّم للترقية إلا بعد انقضائها، هذا بالإضافة إلى معايير أخرى تتعلق بتقييم بحوث الترقية. • سوف تنحصر مهارة الباحث وكفاءته مع انتشار آلية السين جيم " Q&A " عوضًا عن آلية البحث " Search " في عدة أمور تعجز تقنيات Chatbot -حتى الآن- عن فعلها، وسيكون تقييم الباحث على أساسها مستقبلًا، منها ما يأتي: 1- الأمانة العلمية. 2- أصالة البحث. 3- واقعية البحث. 4- الاهتمام ببناء السؤال الجيد، وأساليب طرحه السليمة والمناسبة . 5- الانتقاء الجيد للدراسات السابقة، وصِلتها الوثيقة بالبحث. 6- الأدوات البحثية واقعية التطبيق؛ كالملاحظة والمقابلة . 7- الزيارات الميدانية المباشرة لمجتمع البحث وعينته. 8- الموضوعات النقدية ذات الآراء ووجهات النظر الشخصية. 9- الموضوعات الفلسفية والمنطقية، والقضايا الجدلية. 10- الموضوعات حديثة الظهور (لفترة وجيزة). 11- الأبحاث التطبيقية والمعملية البحتة. 12- الدراسات الميدانية واقعية الإجراء. 13- بعض الدراسات التحليلية (بعيدًا عن الأرقام). 14- بعض الدراسات المقارنة (بعيدًا عن الأرقام). 15- بعض الدراسات المستقبلية. 16- بعض الدراسات التاريخية. هوامش للاستزادة [*] : https://www.forbes.com/sites/ariannajohnson/2022/12/07/heres-what-to-know-about-openais-chatgpt-what-its-disrupting-and-how-to-use-it/?sh=4c0d3c812643 https://www.forbes.com/sites/forbesdigitalcovers/2018/07/11/meet-the-unknown-immigrant-billionaire-betting-her-fortune-to-take-on-musk-in-space/?sh=52474d565f0d https://www.insidehighered.com/digital-learning/blogs/online-trending-now/deconstructing-chatgpt-future-continuing-education https://www.bloomberg.com/news/articles/2023-01-04/microsoft-hopes-openai-s- chatbot -will-make-bing-smarter?leadSource=uverify%20wall [*] آخر زيارة 8/1/2023 م.
إمداد المسلم بشرح مختصر المنذري لصحيح مسلم لعبيد الجابري صدر حديثًا كتاب " إمداد المسلم بشرح مختصر صحيح مسلم للمنذري "، ت أليف: الشيخ "عبيد بن عبدالله بن سليمان الجابري"، في 20 مجلدًا، نشر: " دار الميراث النبوي للنشر والتوزيع "- اليمن. ويُعَدّ مختصر الحافظ " زكي الدين بن عبد العظيم المنذري الدمشقي " (ت 656 هـ)، من أفضل مختصرات " صحيح مسلم " وأنفعها، حيث بلغت أحاديث هذا السفر الماتع التي انتقاها الإمام المنذري تسعة وسبعين ومائة حديث وألفين، وكان هذا المختصر من ذلك الصحيح ذا مكانة عالية بين أئمة الحديث، جديرًا بالعناية، ولنفاسة هذا المختصر قام فضيلة الشيخ "عبيد الجابري" بالعكوف على شرحه وبيان فوائده حتى أتم أبواب الكتاب في تلك الطبعة الحديثة، حيث سلكَ في شرح هذا المختصر المنهج الآتي: • صدَّرَ هذا الشرح بترجمة مختصرة لمنتقيه الشيخ زكي الدين عبد العظيم المنذري، اشتملت على عدة أمور منها: اسمه ونسبه وثناء العلماء عليه. • لخَّصَ ما تضمنه مقدمة صاحب المختصر. • قام بكتابة تراجم المنذري موافقة لمختصره، مع ترقيمها. • قام بكتابة أحاديث كل باب، فإن كان ما في الباب حديث واحد خرجه بسنده، محيلًا إلى مكانه في "صحيح مسلم"، وإن كانت الأحاديث أكثر كتب الأحاديث أولًا مرتبة وفق ما ذكر في الباب، ثم قام بتخريجها بذكر أسانيدها مرتبة كما سبق. • قام بجعل شرحه لأحاديث كل باب على شكل مسائل، كما فعل القرطبي - رحمه الله - في تفسيره للآيات، ومن ثم جمع تحت كل مسألة - وهي رواية الباب - ما يبين معناها، ويشهد له ويؤكده، وساء كانت تلك الروايات لحديث الباب أو أحاديث صحابة آخرين، سالكًا مسلك الحافظ ابن حجر - رحمه الله - في "الفتح"؛ لأن ذلك من بيان السنة بالسنة، وهذا هو الغالب في الشرح. • اعتنى المؤلف في شرحه للأحاديث النقل عن الأئمة والعلماء في الحديث وغيره فجعله جل الشرح، وقد ينقل عن عالم أو أكثر شرحًا كاملًا لبعض الفوائد في عدد من المسائل، ومن العلماء الذين اعتنى بالنقل عنهم: ابن جرير الطبري، والفراء، وابن كثير، والقرطبي، والشوكاني، وابن حجر العسقلاني والنووي وابن عبد البر والشيخ عبد الرحمن السعدي. • كما قام بخدمة الكتاب بالفهارس العلمية اللازمة كفهرس الآيات والأحاديث والمراجع والتراجم وفهرسًا للكتب والأبواب الذي ضمنه أحاديث كل باب، وأهم المسائل الواردة في الشرح. • وميز الكاتب شرحه بعلامة ((ش)) للدلالة على بداية شرحه للحديث، وضمنه فوائد وتنقيحات أصولية وترجمات للأعلام الوارد ذكرهم في الحديث كل ذلك بشكل موجز سهل ليسهل مطالعته. والمنذري (581 - 656 هـ = 1185 - 1258 م): هو عبد العظيم بن عبد القوي بن عبد الله، أبو محمد، زكي الدين المنذري. • عالم بالحديث والعربية، من الحفاظ المؤرخين. مولده ووفاته بمصر. • أصله من الشام، تولى مشيخة دار الحديث الكاملية (بالقاهرة) وانقطع بها نحو عشرين سنة، عاكفًا على التصنيف والتخريج والإفادة والتحديث، له من المصنفات: ♦ "الترغيب والترهيب". ♦ "التكملة لوفيات النقلة". ♦ "أربعون حديثًا" رسالة. ♦ "شرح التنبيه". ♦ "مختصر صحيح مسلم". ♦ "مختصر سنن أبي داود". والشارح هو الشيخ "عبيد بن عبد الله بن سليمان الجابري الحمداني" كانت ولادته في بلدة "الفقير" من وادي "الفرع" بمنطقة المدينة النّبوية وذلك عام 1357 هـ. التحق بالجامعة الإسلامية في سنة 1388 هـ في كلية الشّريعة بالجامعة الإسلاميّة وتخرّج منها عام 1392 هـ بتقدير امتياز، وكان الأوّل على دفعته - حفظه الله -. من مشايخه: في دار الحديث: 1) الشّيخ سيف الرّحمن بن أحمد. 2) الشّيخ عمّار بن عبد الله. في المعهد العلمي: 1) الشّيخ عبد الله بن عبد العزيز الخضيري. 2) الشّيخ عودة بن طلق الأحمدي. 3) الشّيخ دخيل الله بن خليفة الخليطي. 4) الشّيخ عبد الرحمن بن عبد الله العجلان. 5) كان يدرسهم التفسير 6) الشّيخ محمّد بن عبد الله العجلان. 7) الشيخ حميد الحازمي درسهم في النحو. في الجامعة الإسلاميّة: 1) الشّيخ العلاّمة المحدّث حمّاد بن محمّد الأنصاري. 2) الشّيخ العلاّمة المحدّث عبد المحسن العبّاد. عمل مدرسًا في الجامعة الإسلامية من آخر عام 1407 هـ إلى 1414 هـ، وخلال فترة وجود الشّيخ في الجامعة تحصّل على شهادة الماجستير في التفسير. ثم التحق بمركز خدمة المجتمع التابعة للجامعة الإسلامية ثم تقاعد الشيخ في عام 1417 هـ. مؤلفاته: 1) تيسير الإله بشرح أدلة شروط لا إله إلاّ الله (مطبوع). 2) تنبيه ذوي العقول السليمة إلى فوائد مستنبطة من الستة الأصول العظيمة (نشر دار البخاري). 3) إمداد القاري بشرح كتاب التفسير من صحيح البخاري (مطبوع في دار أضواء السلف). 4) شرح منتقى ابن الجارود (يسر الله إتمامه). 5) إتحاف العقول بشرح الثلاثة الأصول (مطبوع في دار الإمام أحمد). 6) إمداد صادق الأماني بشرح مقدمة ابن أبي زيد القيرواني (مطبوع في دار ميراث النبوي). 7) تبصير الخلف بشرح التحف في مذهب السلف (مطبوع في دار ميراث النبوي). 8) تنوير المبتدي بشرح منظومة القواعد الفقهية لابن سعدي (مطبوع في دار الإمام أحمد). 9) الطيب الجني على شرح السنة للإمام المزني (مطبوع في دار ميراث النبوي). 10) فتح القدوس السلام بشرح نواقض الإسلام (مطبوع في ميراث النبوي). 11) قطع اللجاجة بشرح المقدمة من سنن الإمام ابن ماجة (مطبوع في دار ميراث النبوي).
ملامح من حياة العالم اللغوي الدكتور فاضل صالح السامرائي الدكتور فاضل صالح السامرائي هو واحد من علماء اللغة العربية المعاصرين الذين تبحَّروا في علوم اللغة، وقد اختار أن يكون همه الأكبر أن يضيفَ إلى ما قدَّمه السابقون من خدمة لكتاب الله سبحانه، وأن يستكشف ما فيه من أسرار بيانية، وقد قضى وقتًا طويلًا في البحث والتفكير في أسرار الإعجاز اللغوي في القرآن الكريم، ووفَّقه الله سبحانه إلى أن يُوصل ما رآه في القرآن الكريم من أسرار لغوية معجزة إلى أعداد كبيرة من المتخصصين ومن غير المتخصصين، سواء عبر مؤلفاته المتعددة، أو عبر برنامج "لمسات بيانية" الذي كان يذاع على قناة الشارقة الفضائية، وحاز قَبولَ أعدادٍ كبيرة من الناس، ولعل من أسباب ذلك القبول ـ إضافة إلى سعة علم الرجل ـ عمق رؤاه واعتماده على إقناع العقول بالأدلة والشواهد، وعرض القواعد واستقصاء الأمثلة، والدقة في إبراز ما وراء اختيار الكلمات وتراكيب العبارات من أسرار معجزة، مع سهولة الطرح وسلاسته، ومع الإيجاز الذي يصيب به الهدف ويدرك القصد، فقد كان السامرائي ـ على حد تعبير أحد الباحثين "مشدودًا بقوة نحو الغرض المقصدي الذي كان يحرِّکه في دراسته وتفسيره، فقد كان يسعى من دراسته هذه، وتحليله البياني إلى تعميق الصلة بالكتاب العزيز، وتقوية الإيمان بإعجازه بالدليل العلمي القاطع لا بالاعتقاد المجرد" [1] . الرحلة من الشك إلى اليقين: في كتابه "نبوة محمد من الشك إلى اليقين"، وهو أقرب مؤلفاته إلى قلبه، كما قال في أحد حواراته - يبين الدكتور فاضل السامرائي أنه عاش مرحلة من الشك في وجود الخالق سيطرت على روحه وأرقته وأرهقَته، واستغرقت كيانه لدرجة أنه كان يظن أنه ليس على وجه الأرض رجل مؤمن، وهو يصف هذه المعاناة قائلًا: "وقد كانت مسألة الإيمان بالله تبرِّحني، وكان الهم يسيطر على نفسي وقلبي في الليل والنهار في النوم واليقظة، ولا أبالغ إذا ما قلت: إن هذه المسألة كانت تقطع علي النوم، وكثيرًا ما كنت وأنا أسير في الطريق لا ألتفت إلى من يمر بي أو يسلم علي، وكثيرًا ما يمسك بي صديق، فيقول: أين أنت يا فلان؟! فأستيقظ وأنا سائر وقد كنت غارقًا في تفكير عميق" [2] . لكنَّ رجلًا له همة الدكتور السامرائي وعقليته لا يرضخ لهذه الحالة ولا يستسلم لها، وإنما بدأ في القراءة المتأنية ينتقل من كتاب إلى كتاب، لا ينثني عزمه عن مواصلة البحث والتمحيص، إلى أن وصل إلى تلك اللحظة المتلألئة بالأنوار والفياضة بالسعادة؛ حيث امتلأت ذاته بالرضا النفسي، وتغيرت صورة العالم من حوله، إنها لحظة الإيمان التي يصفها قائلًا: "وما زلت والله أذكر (يوم الإيمان)، فو الله ما وجدت ساعة في حياتي أحلى من ساعة الإيمان، ولا يومًا أضوأ ولا أزهر من يوم الإيمان. الوجود حولي كله تغير: الطير والشجر، والنهر والحجر، والكوكب والشمس القمر، أحسست تجاوبًا عميقًا وصلة وثيقة بيني وبين هذا الوجود، لِمَ كنت منقطعًا عن ركب الوجود؟" [3] . ورحلة الدكتور السامرائي إلى الإيمان تنقسم إلى مرحلتين، الأولى: كان الوصول فيها إلى الإيمان بأن لهذا الكون خالقًا صنَعه، فأبدع صنعه، ثم بدأت بعد ذلك رحلة الإيمان بنبوة محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ وبالكتاب الذي أُنزل إليه، وقد نبع الإيمان بوجود الله سبحانه من أمرين أولهما: قراءاته عن عجائب مخلوقات الله التي يبدو الحديث معها عن المصادفة نوعًا من الهذيان، وقد عرض للكثير مما قرأه في كتابيه "نداء الروح" و"نبوة محمد بين الشك واليقين"، وكان أول ما لفت انتباهه وأضاء الطريق أمامه هو قراءته عن ذلك النوع من البعوض الذي يبيض في الأنهار والبرك، ويضغط على جسمه الذي يحتوي على فتحات يخرج منها سائل يجف مثل خيوط العنكبوت، فتصنع منها قوارب وزوارق صغيرة، ثم تموت الأمهات وتفقس اليرقات وتكبُر، وعندما تتكاثر تفعل نفس الفعل الذي قامت به أمهاتها من قبلُ، ومن هنا بدأت الأسئلة تتوالى في ذهن الدكتور السامرائي: من الذي وضع المادة الصالحة لصنع القوارب؟ ومن علمها صنع القوارب؟ والسؤال الأهم من علمها تفعل مثل الأمهات وهي لم تر أمها؟ الأمر الثاني الذي أيقظ روحه الحائر إلى وجود الله هي تلك الرؤى المنامية التي وصل عددها إلى المئات، وكانت تبدو رسائلَ من عوالم غيبية تقف أمامها العقول المادية عاجزة، وقد كان بعض هذه الرؤى تفسيرًا لأمور غامضة صادفته في يقظته، وبعضها تحقق كما هو، وبعضها الآخر كان رسائل من شخصيات توفاها الله، وقد ذكر الدكتور السامرائي الكثير من الرؤى التي رآها هو نفسه أو التي كانت لبعض أقاربه ومعارفه. بعد أن تيقَّن الدكتور السامرائي بوجود الخالق عبر أدلة مادية تتمثل في مخلوقات الله التي يكشف تأمُّلها أنه سبحانه أبدعها بدقة بالغة، وخلق كل مكوناتها لحكمة وغاية جليلة، وبأدلة روحية تمثلت في تلك الرؤى المنامية، بدأت بعد ذلك رحلته إلى الإيمان بالرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وبالكتاب الذي أُنزل عليه، وبدأت خطواته بتأمل القرآن الكريم الذي كان يرفضه أولًا، وكانت المسألة الأولى التي جذبته وبدأ بعدها يقرأ القرآن كله ما ذكره الشيخ رشيد رضا في كتاب "الوحي المحمدي" في قوله تعالى: ﴿ الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ ﴾ [الروم: 1 - 4]، والعقل ـ كما يقول الشيخ رشيد رضا ـ: "يحكم بأن مثل محمد في سمو إدراكه المتفق عليه، لا يمكن أن يجزم بأن الغلب سيعود للروم على الفرس في مدة بضع سنين، لا من قبل الرأي ولا من الوحى النفسي المستمد من الأخبار غير الموثوق بها" [4] ، وقد نظر الدكتور إلى وعود الله لرسوله في كتابه التي تحققت جميعًا، وإلى لغة التحدي اليقينية التي كان يخاطب بها المخالفين، ومما جذبه ـ مثلًا ـ قول الله تعالى في حق الوليد بن المغيرة في سورة المدثر: ﴿ ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا * وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا * وَبَنِينَ شُهُودًا * وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا * ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ * كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا ﴾ [المدثر: 11 - 16]، فالله عز وجل لم يزده أبدًا في ماله وولده بعد نزول هذه الآية، ولأن الأمر بيد الله فإن الوليد مات على الكفر. كذلك مما جذبه أيضًا مسائل الإعجاز العلمي والحقائق الثابتة التي ذكرها القرآن؛ مثل مراحل تكوين الجنين، وضيق التنفس في السماء هذا الأمر الذي لم يعرف إلا بعد اختراع الطائرات والبالونات، وقد ذكره القرآن الكريم في سورة الأنعام: ﴿ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ ﴾ [الأنعام: 125]، وغير ذلك من الحقائق العلمية التي ذكرها القرآن الكريم؛ كما درس الدكتور السامرائي القصص القرآني بعناية شديدة، وذكر في كتابه "نبوة محمد من الشك إلى اليقين" تفاصيل ومقارنات ومعلومات شيقة تُظهر عظمة كتاب الله، وقد عرج بعد ذلك إلى دراسة الحديث، ورأى كثرة ما في أحاديث النبي في الصحيح من أحاديث تتكلم عن أحداث تقع في المستقبل، مثل إخباره ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن النصر والفتوحات، وهلاك كسرى وقيصر، وإخباره بخاتمة طائفة من الناس، أو إخباره بأشياء تقع في أماكن بعيدة؛ مثل وفاة النجاشي، وما حدث للمسلمين في مؤته، وبما فتح المسلمون من البلاد وغير ذلك، إضافة إلى ما حدث للنبي من معجزات وموافقات، ولم يكتف الدكتور السامرائي بذلك، بل تحدث في كتابه "نبوة محمد من الشك إلى اليقين" عن قراءاته في الكتب السماوية القديمة، وذكر ما تعرضت له من تحريفات مقارنًا بين نسخها المختلفة، وما فيها من بشارات بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم. دعوات عند الكعبة : حكي الدكتور فاضل صالح السامرائي في بعض لقاءاته قائلًا: "في عام 1968 ذهبت إلى بيت الله الحرام معتمرًا، فذهبت إلى بئر زمزم وشربت منه، ودعوت من الله أن يعطيني علمًا ينتفع به الناس، بعدها ذهبت أطوف حول الكعبة، وقمت بالتعلق بأستارها ودعوت ربي أن يعطيني العلم والعمل به، وأن أنفع الناس بذلك العلم، ثم ذهبت في السنة التي تلتها حاجًّا، وكررت ما قمت به عندما كنت معتمرًا بكل تفاصيله، وأحمد الله على عطائه وجوده وكرمه" [5] ، وقد استجاب الله سبحانه لدعواته، فأخرج بعد ذلك تلك الكتب التي ننهل من مَعينها، ونستمتع بما فيها من إبراز لجوانب مبهرة من الإعجاز البياني لكتاب الله، أو بيان لما وراء تراكيب الجمل العربية، ودلالات المفردات والفروق اللغوية، وذلك مثل "بلاغة الكلمة في التعبير القرآن"، "لمسات بيانية في نصوص من التنزيل"، "على طريق التفسير البياني"، "معاني النحو" وغيرها، ويبدو أن قدوة الدكتور في ذلك كان العالم اللغوي الكبير الخليل بن أحمد الفراهيدي الذي يقال إنه: "دعا بمكة أن يُرزق علمًا لم يسبقه أحد إليه ولا يؤخذ إلا عنه، فرجع من حجة، ففتح عليه بعلم العروض" [6] فاضل السامرائي شاعرًا: مر الدكتور فاضل السامرائي بتجربة كتابة الشعر، وقد استمر فيها عشر سنوات، وتوقف عن كتابته عام 1964م، وقال في لقاء له: إنه لا يصلح للشعر، وإن شعر العلماء يكون من باب الرصف، لكن الدكتور عاد لكتابة الشعر مرة أخرى وكتب بعض القصائد، وإن كان لنا أن نخالف الدكتور في رأي فهو أن شعره من باب الرصف، بل إن فيه من العاطفة الجياشة والقوة التعبيرية القادرة على توصيل المشاعر ونقل الإحساس بالحالة الشعورية التي يعايشها ما يبعده عن هذا الوصف، وقد نقل بعض شعره الدكتور بهجت الحديثي في كتاب: "القصيدة الإسلامية وشعراؤها في العراق"، وتبدو العاطفة الدينية مسيطرة بقوة على النصوص القليلة المنشورة له، ومن ذلك قصيدته "رباه" التي كتبها في رحلته للحج: سعيت ولم أركَب إليك النواجيَا وجئتك يا رباه رَجلان حافيَا يُسابقني قلبي إليك وخاطري مغذا إليك السير هَيمانَ صاديَا جفوتُ منامي والخليُّون هُجَّع نيامٌ ولكن الكرى ما اهتدى ليَا وناموا وما نامت عيون مسهَّد يبيت طوال الليل يقظان صاحيَا فزعتُ إلى مولاي أطرُق بابه وأستصرِخ الرحمن أن يفتحنْ ليَا وعلنا نلاحظ في الأبيات الإحساسَ الصادق والنية المخلصة التي لعلها كانت سببًا في ما يمكن أن نطلق عليه الفتوحات اللغوية، وهيَّأت النفوس بشغفٍ للاستماع والقراءة له، وأختم هنا بقوله عن القرآن الكريم: "إن هذا الكتاب يمنحُ مَنْ نظر فيه وتدبَّره خزائنَ بغير حساب، ويفتح الله عليه من ألطافه ما يَجِلُّ عن الوصف، فلا تُضيِّع هذه الصفقة الرابحة، وإلا فأنت والله مغبون" [7] . [1] د.اليزيد بلعمش: الدراسة البيانية عند الدكتور فاضل صالح السامرائي: سمات ومرتكزات، مجلة الآداب والحضارة الإسلامية، جامعة الأمير عبدالقادر للعلوم الإسلامية ـ قسطنطينة، الجزائرـ العدد20 شوال 1438. [2] فاضل صالح السامرائي: نبوة محمد من الشك إلى اليقين، بغداد: مكتبة القدس ص6. [3] السابق ص 7. [4] محمد رشيد رضا: الوحي المحمدي، بيروت: دار الكتب العلمية1426هـ ـ 2005م، ص83. [5] لقاء مع الدكتور فاضل صالح السامرائي على موقع مركز النور للدراسات. [6] ابن خلكان: وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان، تحقيق: إحسان عباس، بيروت: دار صادر، ج2، ص244. [7] فاضل صالح السامرائي: التعبير القرآني، عمان: دار عمار1998، ص20.
بغية الأريب من معاني نظم العمريطي "نهاية التدريب" لأمجد رشيد صدر حديثًا كتاب " بغية الأريب من معاني نظم نهاية التدريب "، على مذهب الإمام الشافعي ( قسم العبادات )، تأليف: د. " أمجد رشيد "، نشر: " دار الفتح للدراسات والنشر ". ويتناول هذا الكتاب شرحًا موسعًا على نظم العمريطي المسمى بـ"نهاية التدريب في نظم غاية التقريب"، قسم العبادات منه وذلك على المذهب الشافعي. ويعد متن أبي شجاع من أكثر متون الفقه الشافعي انتشارًا في مناطق العالم الإسلامي شافعية المذهب، وهو مقرر للتدريس في معظم مدارس العلوم الشرعية فيها. وقد انبرى الكثير من العلماء لخدمة هذا المتن، فكُتبت عليه العديد من الشروح والحواشي، كما قام البعض بنظمه في ثوب شعري، ومنهم العلامة الشيخ "شرف الدين العمريطي". حيث غدا متن أبي شجاع قطبَ دائرةٍ غنيةٍ من دروس التفقه على مذهب الإمام الشافعي رضيَ الله عنه، فدار في فلكه عددٌ وافر من الأعمال العلمية. ونجد أن متن أبي شجاع متنٌ مُهمٌ جدًا لمن أراد أن يُحيط بمهمَّات المسائل والأحكام في كل أبواب الفقه، ويُقدَّم على كثيرٍ من المصنفات، لقوة عبارته في تأسيس فهم المسائل الفقهية بأسهل عبارة. أما أرجوزة شرف الدين العمريطي، فتتكون من 1200 بيت نظم فيها العمريطي مختصر أبي شجاع حيث جاء هذا النظم في غاية العذوبة والإتقان مما يجعل حفظه سهلًا للطالب. وبالنسبة للمنظومة فلها ميزة على الأصل بأن ناظمها العمريطي متأخر عن النووي والرافعي بخلاف أبي شجاع، وعلى قولهما الفتوى - كما لا يخفى - فما كان من هذا العلامة إلا أن حذف الضعيف واستبدله بالمعتمد وقد يشير أو لا يشير لذلك في المتن، ولا ريب أن الطالب المبتدئ لا يكلف إلا بمعرفة المعتمد. وهذا الشرح الحديث هو شرحٌ باذخٌ على قسم العبادات من "نهاية التدريب"، حبّره عميد كلية الفقه الشافعي بجامعة العلوم الإسلامية فضيلة الدكتور أمجد رشيد، أوضح فيه مسائلَه، وأصّل دلائلَه، وبيّن فروعَه، وقرّبه إلى الطالب حتى جاء في غاية الإجادة والإفادة، وبانت تعليقاته على أصل المنظومة تدليلًا وتقريرًا وتسهيلًا، وتعقبه مشروعات أخرى إن شاء الله على بقية المنظومة. والمؤلف هو د. "أمجد رشيد" عميد كلية الفقه الشافعي وأصوله بجامعة العلوم الإسلامية العالمية -المملكة الأردنية الهاشمية، له من المؤلفات والبحوث: • " المصلحة وعلاقتها بالنصوص والأدلة الشرعية عند الأصوليين ومقابلتها عند نجم الدين الطوفي". • "الإملاء على شرح المحلي للورقات في أصول الفقه محلى بالأدلة والتطبيقات". • "فتوى في حرمة تصوير الأنبياء عليهم الصلاة والسلام". • "ضوابط الفكر الاجتهادي في الإسلام". • "تنبيه ذوي الحجا إلى معاني ألفاظ سفينة النجا" في العبادات. • تحقيق كتاب الخلاصة المسمَّى "خلاصة المختصر ونقاوة المعتصر" لأبي حامد الغزالي. • تحقيق كتاب "ثبت الإمام شيخ الإسلام ابن حجر الهيتمي المكي الشافعي" لابن حجر الهيتمي.
القراءة في عصر إدمان الدوبامين لطالما كانت القراءة جزءًا هامًّا من تكوين ثقافة الإنسان منذ اختراع الكتابة وإلى الآن، ولكن في عصر إدمان الدوبامين، ربما تكون أكثر أهمية من أي وقت مضى. الدوبامين هو موصل عصبي يعمل في مراكز المتعة والشعور بالمكافأة داخل المخ البشري، وقد تم ربطه علميًّا بعدد من السلوكيات الإدمانية، ومنها الاستخدام الكثيف لوسائل التواصل الاجتماعي، وغيرها من أشكال التكنولوجيا الأخرى. تتمثل إحدى الطرق الرئيسية التي يمكن للقراءة أن تساعد بها في مواجهة آثار إدمان الدوبامين في توفير طريقة متاحة للاستغراق المستمر والعميق، ولكنه في ذات الوقت استغراق لا يعتمد على المكافآت الصغيرة المتتالية التي تُحدثها - على سبيل المثال - ردود الأفعال المتلاحقة على منشورات الفيس بوك أو صور الإنستجرام، بل على العكس، فإن الاستغراق الذي تسببه القراءة يدلف بنا إلى عالم من الأفكار والأخْيِلَة التي تعمل على موازنة التيار المستمر من المحفزات الضحلة التي نتعرض لها يوميًّا. لا يتوقف دور القراءة عند هذا الحد، بل يمتد إلى ما هو أبعد، فلقد ثبت علميًّا أن المداومة عليها تحسِّن من قدرة الإنسان على التركيز، وتعزز من مهارات التفكير التحليلي والنقدي، كما أنها ترفع من القدرة على التعاطف مع الآخرين عن طريق تفهُّم وجهات نظرهم المتباينة؛ ويحدث ذلك كنتيجة للانفتاح على تقبُّل الشخصيات الروائية المتنوعة، والغوص عميقًا داخل دوافعها النفسية والاجتماعية. على النقيض من ذلك، نجد أن معظم الأنشطة القائمة على الإمتاع اللحظي تدور حول الفرد ذاته، ولا تتضمن الآخر إلا كوسيلة للإمتاع لا أكثر؛ أي إنها تخلع عن الآخر إنسانيته، وتحوِّله إلى مجرد أداة للإمتاع. فلتنظر مثلًا إلى الحالة التي تكون عليها عندما تنتهي من قراءة كتاب ممتع، ولتقارنها بالحالة التي تكون عليها عندما تنتهي من لعبة من ألعاب الكمبيوتر؛ إنك في الحالة الأولى تشعر بالامتلاء، وتجد نفسك في حالة من التأمل لما قرأت، تترابط الأفكار في عقلك وتتلاقح، ثم تتكوَّن القناعات والأسئلة الجديدة التي تريد أن تبحث لها عن إجابات، إنها عملية مستمرة في غاية الخصوبة من التحقُّق بالإنسانية، ينتج عنها في النهاية شعور عميق ومُرْضٍ بالهدف والمعنى. أما في الحالة الثانية، تجد نفسك وسط شعور من الخواء التام، كل ما يدور بداخلك هو الرغبة الشديدة في ملء هذا الفراغ بالمزيد من الإثارة، ربما عن طريق المزيد من ألعاب الكمبيوتر أو بنشاط آخر مشابه؛ أي بكلمات أخرى: إنك تريد المزيد والمزيد من انفجارات الدوبامين المتلاحقة داخل مخِّك. والآن فلننظر أكثر إلى هذه المعلومة التي يقوم عليها مقالنا، كيف عرفنا أن هذه التعويذة السحرية التي تطلقها علينا صفحات التواصل الاجتماعي، وتجعلنا مربوطين بها كالممسوسين هي في الحقيقة تحفيز لموصل عصبي داخل أدمغتنا؟ ألم نقرأ هذه المعلومة؟ ما الذي فعله هذا فينا؟ إن القراءة هي الوسيلة الأهم والأنجع لتنمية الوعي البشري، الأمر الذي يلعب دورًا حاسمًا في مساعدتنا على فهم ومعالجة مشكلات الحياة المختلفة، من أبسطها إلى أكثرها تعقيدًا؛ عبر المساهمة في استبطان أفكارنا ومشاعرنا الخاصة، واستنتاج أفكار الآخرين ومشاعرهم برؤية ثاقبة، تلك الرؤية التي تنتج عن التعرف إلى مُنجز البشرية المُدوَّن منذ فجر التاريخ، التاريخ الذي دائمًا ما يعيد نفسه. وأخيرًا ، لا شك أننا لاحظنا جميعًا كيف أصبح العمق مثارًا للاستهزاء على صفحات الفيس بوك، لدرجة استبدال القاف كافًا في كلمة ( عميق ) لتصير ( عميك )، لهذا دلالة لا يمكن للمتابع المتفحِّص إغفالها؛ ففي نظري أن هذا التجلي لا يعدو كونه إفصاحًا لهذه التكنولوجيا عن نفسها كأداة تواصل تقوم على التسطيح التام لكل شيء، بما في ذلك العمق نفسه، وبذلك تصبح القراءة في عصر إدمان الدوبامين أكثر من مجرد وسيلة للتثقيف، إنها فعل مقاومة حقيقي لكل ما يحاول أن يسلب الإنسان إنسانيته، مُحوِّلا إياه إلى حيوان يلهث دائمًا وأبدًا خلف المتعة اللحظية.
بذل المال في طلب العلم لأحمد فتحي البكيري صدر حديثًا طبعة جديدة من كتاب "بذل المال في طلب العلم"، تأليف: د. "أحمد فتحي البُكيري"، نشر: "دار اللؤلؤة للنشر والتوزيع". وهذا الكتاب رسالة في الحث علي إنفاق المال في طلب العلم ونشره، حيث جاء هذا الكتاب ليذكرك أيها القارئ بأهمية طلب العلم وعظم أثره، وليحثك على الإنفاق في سبيل طلبه والرحلة إلى العلماء لتحصيله؛ وليحث أصحاب الأموال على بذل أموالهم في خدمة العلم ونشره. ويذكر المؤلف كثيرًا من الامثلة التي ينبغي أن يحتذي بها طالب العلم المجدُّ ليبلغ مبلغ العلماء. فيا طالب العلم.. اعلم أن العلم لا يؤتيك بعضه حتى تؤتيه كلك - مالك، وعمرك، وعقلك - ولن يبلغ مرتبة الرسوخ في العلم إلا من ضحى بكل نفيس في سبيل طلب العلم والرحلة إلى أهله، وأما من بخل على العلم فليس له فيه نصيب. ولقد كان السلف ينفقون جل أموالهم في سبيل تحصيل العلم ونشره؛ لرغبتهم في معرفة الله والتقرب إليه، وإقامة شرعه ودينه، وقد كانوا يعلمون أن المال مجرد وسيلة لتحصيل العلم وقضاء الحوائج، وليس غاية تبتغى، فحرصوا على إنفاقه في أنفس القربات وأجل الطاعات. وقد جاءت الرسالة في مقدمة وثلاثة مباحث على النحو التالي: تحدث الكاتب في المقدمة في بيان فضل طلب العلم، والترغيب في الإنفاق في سبيل طلبه، والرحلة إلى العلماء لتحصيله. المبحث الأول: فضل طلب العلم، وذلك في عدة مطالب: • العلم يهدي إلى الإيمان. • العلم يهدي إلى الحق. • العلم يرفع الدرجات. • العلم يرفع منزلة أهله في الدنيا. • العلم إمام العمل. • ثواب العلم دائم لا ينقطع. • العلم حياة القلوب. • العلم خير من المال. • العلم يحفظ صاحبه من الزلل والمعصية والهلاك. • ما أمر الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - بطلب الزيادة في شيء إلا العلم. • من أراد الله به خيرًا يفقهه فى الدين. • طلب العلم طريق إلى الجنة. • الملائكة تضع أجنحتها رضًا لطالب العلم. • طالب العلم تغشاه الرحمة وتحفه الملائكة. • دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - لطالب العلم بالنصرة. • أهل العلم أشد الناس خشية لله. • أهل العلم أكثر الناس معرفة للحق وإيمانًا به. • أهل العلم أعرف الناس بالخير والشر. • العلماء يستغفر لهم من فى السماوات والأرض. • العلماء قرن الله شهادتهم بشهادته. • من أقوال السلف فى الحث على طلب العلم. المبحث الثانى: المال، ومنافعه وأضراره، وذلك في عدة مطالب: • المال مال الله. • المال وسيلة وليس غاية. • المال فتنة. • المال ينفع العالم ويضر الجاهل. • كل امرئ سيسأل عن ماله. المبحث الثالث: العلم أجلّ ما يُنفق فيه المال، وذلك في عدة مطالب: • بذل المال فى الرحلة إلى العلماء. • بذل المال فى شراء الكتب. • ذكر من بذلوا المال الكثير فى تحصيل العلم. • ذكر من باع بيته ومتاعه لتحصيل العلم. • الإنفاق على طلاب العلم. والمؤلف د. "أحمد فتحي البكيري" حاصل على درجة الماجستير بكلية العلوم الإسلامية - قسم الفقه وأصوله - جامعة المدينة العالمية بماليزيا، وكان عنوان الرسالة: "الأحكام المتعلقة بالسحر والسحرة في الفقه الإسلامي". وله من المؤلفات: • "زاد أهل القرآن ليوم لقاء الرحمن". • "شبهات المعاصرين حول النقاب". • "حكم الاستعانة بالجن في الرقية". • "حكم قراءة القرآن بالتجويد". • "قصة أصحاب الأخدود فوائد وعبر". • "قصة الأبرص والأقرع والأعمى فوائد وعبر". • "أقوال الثقات في حكم قراءة القرآن بالمقامات". • "تذكير أولي الأحلام والنهى بأسماء من اشتهروا من الصحابة بالكنى". • "قصة البقرة التي كلمت صاحبها والذئب الذي كلم الراعي فوائد وعبر". • "القرآن حجة لك أو عليك". • "قصة المرأة التي دخلت النار في هرة". • "أحاديث مشهورة في فضائل القرآن ولكنها لا تصح". • "الصحيح المسند من فضائل القرآن وسوره وآياته مع شيء من فقه الأحاديث ومعانيها". • "قصة المختال الذي خسف الله به الأرض .. فوائد وعبر". • "أدلة وجوب النقاب". • "قصة المتألي على الله". • "تعطير البرية بشرح الجمزورية". • "أخَّرَ غصنًا فغفر الله له". • "اللمعة في حكم تخطي الرقاب أثناء الجمعة".
قصة هود عليه السلام (1) نتحدَّث إليكم عن هود عليه السلام، وهو أول رسول عربي ذكَر الله قصَّتَه في القرآن الكريم، ولم نقف على عمود نسبه في خبر صحيح؛ فقد اختلف المؤرِّخون في عموم نسبه، فبعضهم يقول هو: هود بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح عليه السلام، وبعضهم يقول: إن هودًا هو عابر بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح عليه السلام، وبعضهم يقول هو: هود بن عبدالله بن رباح بن الجارود أو جاور بن عاد بن عوص بن غرم بن سام بن نوح عليه السلام، وكل هذه الأقوال لا يمكن الاعتماد عليها؛ لأنه لم يقم على إثباتها دليل صحيح، مع أن هودًا عليه السلام جاء لعاد بعد أن صاروا أمَّة عظيمة، فكيف يكون بينه وبن سام بن نوح أبوان على الرواية الأولى والثانية؟! أو كيف يكون عاد هو جده الثاني على الرواية الثالثة؟! وقد ذكر الله تبارك وتعالى أن هودًا عليه السلام أُرسل إلى عاد، وأنهم كانوا يسكنون الأحقاف الواقعة باليمن بين عمان وحضرموت المطلَّة على البحر بناحية الشحْر وتصل إلى الدهناء وعالج، وكانت ديارهم أخصب البلاد وأكثرها جنانًا، والأحقاف جمع حقف: وهو المعوج من الرمل أو الرمل العظيم المستدير، أو المستطيل المشرف، وقد سمِّيتْ سورة من سور القرآن الكريم باسم الأحقاف. وكانت قبيلة عاد التي أرسل إليها هود عليه السلام من أشدِّ الأمم قوة ومن أعظمهم بطشًا وأوفرهم أجسامًا، لم يُخلق مثلها في البلاد، ويقال لهم: عاد إرم وعاد الأولى؛ أي: المتقدمة في التاريخ احترازًا من عاد الثانية وهي ثمود قوم صالح عليه السلام، وقبيلة عاد من العرب العاربة، وقد ذكر كثيرٌ من المفسِّرين أنَّهم أول الأمم بعد قوم نوح عليه السلام؛ مستدلين بأن الله تبارك وتعالى ذكر في غير موضع من كتابه الكريم قوم هود عليه السلام بعد ذكر قوم نوح عليه السلام؛ كما في سورة الأعراف وهود والشعراء واقتربت الساعة، على أن ذكر الله تبارك وتعالى لهود بعد نوح في هذه السورة الكريمة لا يدل على أن هودًا جاء بعد نوح مباشرة، وأن قوم هود هم أول من أشرك بالله بعد الطوفان؛ لأن الله تبارك وتعالى قال عن هود في سورة الأحقاف: ﴿ وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ ﴾ [الأحقاف: 21]، وقال في سورة فصلت: ﴿ فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ * إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ ﴾ [فصلت: 13، 14]، فهو صريح بأن هودًا عليه السلام تقدَّمه منذِرون مرسلون من الله عز وجل لم يذكر الله عز وجل قصصهم؛ على حدِّ قوله تعالى: ﴿ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ ﴾ [غافر: 78]، غير أن سياق القرآن العظيم لقصة هود بعد نوح وتذكير هود قومه بقصة نوح في قوله تعالى: ﴿ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ ﴾ [الأعراف: 69]، يشعر بقرب زمان قوم هود من قوم نوح، وأن عادًا كانوا على علم تام بقصة الطوفان. وقد اشتملت قصَّةُ هود عليه السلام في القرآن العظيم والسنة النبوية على نقاط منها: أنَّ أهم مهمات دعوة المرسلين هي تخليص قومهم مِن الشِّرك بالله، وفي ذلك يقول الله عز وجل في سورة الأعراف: ﴿ وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ ﴾ [الأعراف: 65]، وقال في سورة هود: ﴿ وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ ﴾ [هود: 50]، وقال في سورة الأحقاف: ﴿ وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ﴾ [الأحقاف: 21]. ومن نقاط قصة هود عليه السلام لفت انتباه قومه إلى أنه لا يسألهم على تبليغ الرسالة أجرًا، وهو شأن جميع المرسلين، وفي ذلك يقول الله عز وجل في سورة هود عن هود عليه السلام: ﴿ يَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلَا تَعْقِلُونَ ﴾ [هود: 51]، وقال عنه في سورة الشعراء: ﴿ وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الشعراء: 180]، ولا شك في أنهم لو كانت لهم عقول لسارعوا إلى تصديقه ما دام أنه قد تصدَّى لهذا الأمر العظيم من دون أن يطلب من أحد من خلق الله أجرًا على ذلك مع ثقل المهمة التي يؤديها. ومن نقاط هذه القصَّة أن رسل الله كانوا يَدعون قومهم، ويدلُّونهم على ما يسعدهم في الدنيا والآخرة، وأن الرجوع إلى الله والابتعاد عن المعاصي، والوقوف عند حدود الله، هي أعظم أسباب سعادة العاجلة والآجلة، وفي ذلك يقول الله تعالى في قصة هود في سورة هود: ﴿ وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ ﴾[هود: 52]، وهذا كقوله تعالى في قصة نوح عليه السلام: ﴿ فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا ﴾ [نوح: 10 - 12]، وكذلك عن محمد عليه السلام في مطلع سورة هود: ﴿ وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ ﴾ [هود: 3]. ومن نقاط هذه القصة بيان أنَّ الكافرين عندما يعجزون عن مجابهة الحجج التي يأتي بها الرسول وتبدو عليهم الحيرة فلا يجدون شيئًا يردون به سوى أنهم يخافون على هذا الرسول من آلهتهم أن تصيبه بسوء، وهنا يظهر التحدِّي الكبير بين الرسول وهو وحده أمامهم بأنه لا يخاف آلهتهم؛ لأنها تعجز أن تمسَّه بسوء، وفي ذلك يقول الله عز وجل: ﴿ قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ * إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ ﴾ [هود: 53، 54] فيكون التحدي الكبير حيث يقول: ﴿ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ * إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ ﴾ [هود: 54 - 57]. وموقف هود عليه السلام هذا شبيه بموقف نوح عليه السلام؛ حيث قال لقومه: ﴿ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ ﴾ [يونس: 71]، وهو شبيه أيضًا بموقف إبراهيم عليه السلام؛ حيث قال لقومه لما خوَّفوه من أصنامهم أن تصيبه بسوء قال: ﴿ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ * وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ ﴾ [الأنعام: 80 - 82]. وإلى الفصل القادم إن شاء الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
المؤاخاة بين الأوس والخزرج قبيلتان رئيستان في المدينة، سكنتا يثرب بعد خراب سد مأرب باليمن، فهما يمانيتان، لكن وقع بينهما خصام وحروب، أذكاه اليهود؛ فقد حالف كل من هاتين القبيلتين قبيلة من اليهود، وكان عدد أفراد الخزرج يزيد على عدد أفراد الأوس، وغالبًا ما كانت الدائرة على الأوس في القتال، لكن في يوم بعاث كانت الغلبة للأوس وهزمت الخزرج، ثم جاء الإسلام وتحاجز الفريقان؛ فقد آخى الإسلام بينهما واندثرت لفترة تلك الإحن والعداوات، غيرَ أن اليهود الذين يعيشون على فُرقة الآخرين واختلافهم منطلقين من مثلهم الذي يعملون على تنفيذه بدقة متناهية "فرِّقْ تسُدْ" لم يرُقْ لهم هذا التآخي، وورد أن شاس بن قيس - وهو من كبار اليهود، وهو شيخ طعن في السن، وكان عظيم الكفر وشديد العداوة والحسد للمسلمين - مر على نفر من الأوس والخزرج من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وقد جمعهم مجلس واحد يتحدثون فيه، وقد سادت الأخوة والألفة بينهم، فغاظه ما رأى من أُلفتهم وصلاح ذات بينهم على الإسلام بعد الذي كانوا عليه في الجاهلية من العداوة والاقتتال، فقال: قد اجتمع ملأ بني قيلة بهذه البلاد، والله ما لنا معهم إذا اجتمع ملؤهم بها من قرار، فأمر فتى شابًّا معه من يهودَ، فقال: اعمِدْ إلى مجلسهم فاجلس معهم ثم ذكرهم يوم بعاث وما كان قبله، وأنشدهم بعض ما كانوا يتقاولون فيه من الأشعار، ففعل، ثم هاج الشر بينهم، فتواثب رجلان من الحيين على الركب - أوس بن قيظي من الأوس، وجبار بن صخر من الخزرج - وقالا بعد أخذٍ ورد بغضب: إن شئتم والله رددناها الآن جذعة، وغضب الفريقان ونادوا: السلاح.. السلاح، وكان الموعد الحرة الظاهرة، واجتمع فريق الأوس وفريق الخزرج، وقبل الالتحام بلغ ما حدث النبيَّ صلى الله عليه وسلم فخرج إليهم ومعه جمع من المهاجرين ووقف بين الصفين وقال: ((يا معشر المسلمين، اللهَ الله، أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم؟! بعد إذ هداكم الله إلى الإسلام، وأكرمكم به، وقطع به عنكم أمر الجاهلية، واستنقذكم به من الكفر، وألَّف به بينكم، ترجعون إلى ما كنتم عليه كفارًا))، فعرف القوم أنها نزغة من الشيطان وكيد من عدوهم لهم، فألقوا السلاح من أيديهم وبكوا، وعانق الرجال بعضهم بعضًا، ثم انصرفوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سامعين مطيعين قد أطفأ الله كيد عدوهم، وباء بالخسران المبين، ونزل قول الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ * وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ﴾ [آل عمران: 100 - 103].
أوجه البلاغة: نحو تقريب البلاغة وتأصيل أوجهها النقدية ليوسف طارق جاسم صدر حديثًا كتاب "أوجه البلاغة: نحو تقريب البلاغة وتأصيل أوجهها النقدية"، تأليف: أ.د. "يوسف طارق جاسم السامرائي"، نشر: "دار الكتب العلمية للنشر والتوزيع"- بيروت بلبنان. ويتضمن الكتاب دراسة في علم البلاغة اتجه فيه مؤلفه إلى تبسيط البلاغة وتسهيلها واختصارها، مع الابتعاد عن الصعوبة والجفاف في بعض قواعدها، فيما يعد خطوة في سبيل تسهيل وتيسير البلاغة على القراء والطلاب. يقول الكاتب في مقدمة الكتاب: "غدت البلاغة أرقامًا وتفصيلات وأقسام وإشارات؛ تبعد في أحيان كثيرة عن جمالية النص المبدع، فقد تكون الأمثلة وحيدة، أو خالية من ملامح الجمال، أو مصنوعة، مع تعقيد في التقسيم، ومنطقية عالية؛ أصابت المتعلم بالجفاء والتململ؛ فلم تعد البلاغة تحاور جمالية النص، لتكتشف خفايا جماليته، أو محاسن إبداعه، وإنما غدت محاولات منطقية رياضية؛ يتحاشاها أغلب القراء والمتعلمين". لذا انطلق الكاتب في دراسته للبعد عن تلك الآفات التي تصبغ البلاغة بالجفاف والتعقيد، ومنطقية تفرعاتها، وذلك للوصول إلى عالم جمالي نقدي بلاغي؛ يحاكي أصول تأسيسها. وجاء الكتاب في عدة فصول، أصل الكاتب في فصلها الأول للبلاغة وألسنية نشأتها، وأصول تشكيلها، ثم عرج على الفصاحة والبلاغة منطلقًا من قيد ابن سنان الخفاجي، ومتكئًا على منهج صوتي أبدعه علماء العربية أولهم الخليل بن أحمد الفراهيدي، فالجاحظ، ثم من سلك سبيلهم، مع ربط ذلك بعلم الأصوات الحديث الذي طابق رؤيتهم الثاقبة ووعيهم الجمالي. ثم في الفصول الثلاثة التالية يتناول فيها الكاتب علوم البلاغة الثلاثة: علم المعاني، والبيان، والبديع، سُبِقت بإلمام قريب بأوجه البلاغة عند من تقدم على السكاكي مع إيضاح جمالي مبسط للشواهد، محاولًا تقريب النص إلى المتلقي، بعيدًا عن الاتساع المُشكِل، أو التعقيد الممضّ. أما الفصل الخامس فجاء مكمِّلًا ومتضامنًا مع الطرح السابق له، إلا أنه كان مسبوكًا بعين الناقد الحاذق، الذي يستضئ بأنوار المهاد العظيم لمبدعينا؛ الذين لطالما أُهملوا حينما فُصل إبداعهم عن البلاغة، فغدت أطروحاتهم تُدَّرس بوصفها مداخل ومقدمات للنقد العربي؛ غافلين التشابك الموضوعي بين النقد والبلاغة في مهد تشكيله، وفي مدارج نموه، وفي نضجه، بل حتى في تطوره. وقد أوضح الكاتب العلاقة بين البلاغة والأسلوبية، وامتدادات البلاغة في الأسلوبية، ومدى تأثير البلاغة في منهجية الأسلوبية التطبيقية، وعلاقة البلاغة بالأسس المتجددة لمدارس نقدية تطبيقية مختلفة. والمؤلف هو " يوسف طارق جاسم السامرائي" أس تاذ مساعد في النقد بجامعة تكريت بالعراق، له من المؤلفات: • "النحو القريب - نحو منهج وظيفي في النحو العربي".
الواضح في مناهج المحدثين لياسر أحمد الشمالي صدر حديثًا طبعة مزيدة ومنقحة من كتاب "الواضح في مناهج المحدثين"، تأليف: د. "ياسر أحمد الشمالي"، نشر: "دار الحامد للنشر والتوزيع"- الأردن. وجمع الكاتب في هذه الدراسة مباحث تتعلق بمناهج المحدثن في التصنيف والانتقاء، تتضمن تعريفًا موجزًا بأنواع التصنيف، ثم بيانًا مفصلًا لأشهر كتب الحديث وهي الكتب الستة وموطأ مالك، وقد راعى الكاتب البساطة والإيجاز في عرض مادته العلمية حيث كانت من المقرر عرضها منهج دراسي لطلبة كلية الشريعة. وقد أولى الكاتب منهج الشيخين البخاري ومسلم اهتمامًا كبيرًا حيث تنا ول بشيء من التفصيل والبسط ما لهذين الكتابين من أهمية حيث إنهما أول كتابين في الصحيح المجرد ولتلقي الأمة لهما بالقبول والعناية، إضافة لتعرضهما لكثير من الشبهات المعاصرة من باب مشروع هدم السنة النبوية الممنهج من جانب العلمانيين والعصرانيين. ويرى الكاتب أن فهم مناهج المحدثين ومعرفة طريقتهم في التصنيف والانتقاء والتبويب ونحو ذلك يساعد طالب العلم في دراسة كتب الحديث وفهمها والتعامل معها، ثم معرفة مدى الجهد الذي بذله علماء هذه الأمة لحفظ السنة وتمييز صحيحها من سقيمها ومدى التزامهم بالدقة والموضوعية والتحري البالغ، كما أنه يرسخ لدى طالب العلم أن سلفنا من المحدثين كان لديهم فكر منهجي في الانتقاء والتصنيف. وجاءت هذه الدراسة في مقدمة وخمسة أبواب تندرج تحتها عدة فصول ومباحث على النحو التالي: الباب الأول: أساليب المحدثين في تدوين الحديث أولًا: الكتابة في عهد النبوة. ثانيًا: ما كتب في عهد الصحابة. ثالثًا: الكتابة في عهد التابعين. الباب الثاني: منهج الشيخين البخاري ومسلم. الفصل الأول: طريقة البخاري ومسلم في تصنيف الصحيحين. المبحث الأول: طريقة البخاري. المطلب الأول: سبب تأليف البخاري للصحيح. المطلب الثاني: اعتماد البخاري على طريقة الانتقاء والاختصار. المطلب الثالث: كيفية التصنيف للصحيح. المطلب الرابع: مكان التصنيف. المطلب الخامس: عرض البخاري صحيحه على كبار الحفاظ والنقاد. المبحث الثاني: طريقة مسلم في تصنيف صحيحه. الفصل الثاني: مكانة الصحيحين: المبحث الأول: تقدمهما على غيرهما. المبحث الثاني: تقدم البخاري على مسلم. الفصل الثالث: شروط الشيخين: المبحث الأول: شروط البخاري وطريقته في الانتقاء: أولًا: شروط الحديث الصحيح المتفق عليها عند العلماء. ثانيًا: ثبوت اللقاء. ثالثًا: النظر إلى طبقة التلميذ في شيخه. رابعًا: أن يكون الراوي مشهورًا بطلب الحديث والعناية به. • شروط الإمام مسلم. • طبقات الرواة عند الإمام مسلم. • كلام الحاكم النيسابوري في شرط الشيخين. • رجوع الحاكم عن اشتراط أن يكون للصحابي راويان. • ما نسب للبيهقي من موافقة الحاكم. • متى يكون الحديث على شرط الشيخين أو على شرط أحدهما. الفصل الرابع: الأحاديث المنتقدة على الشيخين: • عدد الأحاديث المنتقدة على الشيخين. • رجال الشيخين المتلكلم فيهم. • حوار العلماء في نقد أحاديث الصحيحين. • الانتقادات المعاصرة لأحاديث الشيخين. الفصل الخامس: أثر الاتجاه الفقهي عند الإمام البخاري في تصنيف الجامع: أولًا: تعريف بالبخاري. ثانيًا: التعليق في صحيح البخاري. ثالثًا: منهج التكرار في صحيح البخاري. رابعًا: اختصار الحديث وتقطيعه. الباب الثالث: منهج الإمام الترمذي الفصل الأول: التعريف بالترمذي وبجامعه: أولًا: تعريف بالإمام الترمذي. ثانيًا: تعريف بجامع الترمذي. ثالثًا: محاسن الجامع. رابعًا: شرط الترمذي. خامسًا: منزلة جامع الترمذي بالنسبة للكتب الأربعة الأخرى. الفصل الثاني: صناعة الإسناد في جامع الترمذي: أولًا: اهتمام الترمذي بصناعة الإسناد، وأوجه اتفاقه أو اختلافه مع مسلم. ثانيًا: أساليب الترمذي في رواية الأحاديث الدالة على الباب. الفصل الثالث: أنواع الحديث واصطلاحاته في جامع الترمذي: • الحسن عند الترمذي. • أصح شيء في الباب. • الحديث الغريب. • حديث غريب. • حديث صحيح. • حديث صحيح غريب. الفصل الرابع: الجرح والتعديل في جامع الترمذي. الفصل الخامس: أحكام الترمذي على الأحاديث والطعن في تصحيحه: • اختلاف النسخ. • الغفلة عن اصطلاح الجامع. • اختلاف الاجتهاد في رتبة الرواة ورتبة الحديث. الفصل السادس: الفقه في جامع الترمذي: • الملامح العامة في منهج الترمذي الفقهي في كتابه. الباب الرابع: منهج أبي داود والنسائي وابن ماجه الفصل الأول: منهج الإمام أبي داود السجستاني: أولًا: التعريف بأبي داود. ثانيًا: اهتمام أبي داود بأحاديث الأحكام. ثالثًا: رسالة أبي داود إلى أهل مكة في وصف سننه. الفصل الثاني: منهج الإمام النسائي في سننه: • التعريف بالنسائي. • سبب تصنيف السنن الصغرى. • شرط النسائي في سننه. • دقة النسائي وشدة تحريه. • اهتمام النسائي ببيان العلل. • اهتمامه بالمتابعات. • منزلة سنن النسائي بين الكتب الستة. • الاتجاه الفقهي عند النسائي. • منهج الإمام ابن ماجه في سننه. • الصنعة الإسنادية عند ابن ماجه. الباب الخامس: منهج الإمام مالك في الموطأ • تعريف بالإمام مالك. • تعريف بالموطأ. • سبب تأليف الموطأ. • زمن تأليف الموطأ. • روايات الموطأ. • شرط الإمام مالك وطريقته في انتقاء الأحاديث. • طريقة مالك في التصنيف. • خصائص الموطأ. • البلاغات في الموطأ. • أنواع البلاغات في الموطأ. • المراسيل في الموطأ. • الرواية على الإبهام في الموطأ. • انتقادات موجهة إلى موطأ مالك. والمؤلف د. "ياسر أحمد الشمالي" أستاذ بقسم التفسير والحديث - كلية الشريعة والدراسات الإسلامية - جامعة الكويت - دولة الكويت. حاصل على الماجستير في الكتاب والسنة من كلية الدعوة وأصول الدين - جامعة أم القرى عام ١٩٨٨ م. حاصل على الدكتوراه في الحديث وعلومه، من قسم الكتاب والسنة - كلية الدعوة وأصول الدين - جامعة أم القرى وموضوعها: "تحقيق ودراسة القسم الأول من كتاب "معرفة السنن والآثار للإمام البيهقي" عام ١٩٩٣ م. له العديد من البحوث والدراسات منها: • "الأعراف والعادات وموقف الإسلام منها". • "نقد المتن من خلال معرفة خصائص الحديث النبوي وضوابطه". • " قواعد الترجيح ومنهج الإعلال عند نُقاد الحديث النبوي الإعلال بالتفرد أنموذج". • "موقف النقاد من أحاديث القصاص: دراسة نظرية تطبيقية". • "جمع المفترق من الحديث النبوي وأثره في الرواية والرواة". • "الواضح في فن التخريج ودراسة الأسانيد". • "شروط الناقد لأحاديث الصحيحين".
أنظمة التعارض والترجيح في اللسانيات العربية لأحمد بناني صدر حديثًا كتاب: "أنظمة التعارض والترجيح في اللسانيات العربية"، تأليف: د. "أحمد بن بو جمعه بناني"، نشر: "دار الأيام للنشر والتوزيع". و نجد إن علم العلل النحوية بدأ بسيطًا ليتكامل بنيانه بعد أن تشكلت من تراكمات جهود النحاة مدارس نحوية، فظهر الخلاف في كثير من مسائل النحو فما كان من كل نحوي إلا أن يدافع عن تعليلاته، ويدعم مواقفه بحجج وبراهين تؤيد وجهة نظره وتدحض رأي خصومه، وهو ما جعل التعليل يتشعب، كما كان لدخول المنطق والفلسفة أجواء الحياة العربية أثر كبير في اتساع رقعة التعليل، وتفرعه، وخروجه عن بساطته، فكان لابد أن تتنازع العلل وتتعارض؛ لذلك وجبت العناية بأنظمة التعارض والترجيح، وهي قضية هامة في علم أصول النحو أثيرت في عصر ازدهار اللغة والنحو وهو العصر الذي وصل فيه التعليل إلى أرفع منازل النضج والاستواء حيث تبناه أعلام نبغوا في النحو وفي علوم الفقه والكلام والفلسفة كالأوائل أمثال الخليل وسيبويه والمبرد وابن السراج وأبي علي الفارسي وابن جني وغيرهم. ويتناول الباحث في كتابه أنظمة التعارض والترجيح في علم العلل النحوية عند هؤلاء الأعلام محاولًا الوقوف على طبيعة العلل النحوية عند النحويين، مبرزًا أسلوب التعارض والترجيح بين العلل النحوية عندهم، وكيف كانوا يتعاملون مع اختلافات النحاة في تفسير الأحكام النحوية، ومدى إمكانية الاستناد على آرائهم في بلورة رؤية تجديدية في التعامل مع الخلاف النحوي خاصةً إذا كانت الغاية من العلل النحوية في بداية نشأتها هو تعلم الكلام العربي، ثم تحولت إلى باب الجدل بعيدًا عن حكمة اللغة العربية إلى أبواب أثقلت كاهل النحو، ففي هذا الكتاب وقفة نقدية على آراء نحوية متنوعة تناولت ظاهرة الخلاف برؤية مميزة وسمت التعارض والترجيح لديهم بسمات خاصة وهي آرائهم من خلال أنظمة التعارض والترجيح في علم العلل النحوية. والكاتب هو د. "أحمد بن بوجمعه بناني" أستاذ بمركز جامعة "تمنراست" - الجزائر، له العديد من الأبحاث والمؤلفات منها: • "المنهج الالكتروني وأهميته في تطوير بناء المناهج التعليمية". • "تعليمية النص التعليمي للغة العربية في التعليم المتوسط". • "حوسبة الدرس الصوتي في اللغات الطبيعية". • "لغة الاختصاص ودور علم المصطلح في مقاربتها". • "التعليم الالكتروني في الجزائر الراهن والمستقبل". • "أنظمة التعارض والترجيح في اللسانيات العربية". • "دور عبد الرحمن الحاج صالح الجزائري في تطوير حوسبة اللغة العربية". • "الصحراء الجزائرية في أعمال المستشرق الفرنسي هنري دوفرييه". • "عبد الرحمن الحاج صالح ودوره في تطوير تعليم اللغة العربية". • "التأصيل الاصطلاحي في النقد العربي المعاصر". • "استراتيجية حل المشكلات وأهميتها في تنمية التفكير العلمي والابداعي عند المتعلمين". • "المقاربة بالكفاءات وآفاق إنجاحها في المنظومة التربوية الجزائرية". • "المدرسة الجزائرية العتيقة بالجنوب الجزائري - أعلام وجهود لغوية". • "مقاربة تعليمية اللغة العربية بالكفايات بين الطموح النظري والتحدي التطبيقي". • "النص الأدبي وتجليات القراءة النسقية". • "المصطلح النقدي والنسق رؤية لسانية". • "أنظمة التعارض والترجيح في علم العلل النحوية عند المبرد". • "الازدواجية اللغوية في الواقع اللغوي الجزائري وفعالية التخطيط اللغوي في مواجهتها". • إشكالات في اللغة والأدب". • "دور المخطوطات الجزائرية في نهضة الحواضر الإفريقية". • "مباحث في اللسانيات العربية".
أبو موسى الأشعري الْحَمْدُ لِلَّهِ، الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، يُحْيِي وَيُمِيتُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، الَّذِي أَرْسَلَهُ رَبُّهُ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا، وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا. أبو موسى الأشعري هو أحد أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وله تاريخ مشرق في الإسلام، نستطيع الاستفادة منه في حياتنا، فأقول وبالله تعالى التوفيق: التعريف بأبي موسى: هو: عبدالله بن قيس بن سليم بن حرب بن عامر بن الأشعر، وشهرته: أبو موسى الأشعري صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم. أُمُّه ظَبْيَة بنت وهب، أسلمت وماتت بالمدينة؛ (أسد الغابة لابن الأثير، جـ 3، صـ263). بداية إسلام أبي موسى: أسلم أبو موسى رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قديمًا بمكة، ثم رجع إلى بلاد قومه فلم يزل بها حتى قدم هو وناس من الأشعريين على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوافق قدومهم قدوم جعفر بن أبي طالب وأصحابه من أرض الحبشة، ووافوا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين افتتح خيبر. إنما ذكره ابن إسحاق فيمن هاجر إلى أرض الحبشة؛ لأنه نزل أرض الحبشة في حين إقباله مع سائر قومه، حيث رمت الريح سفينتهم إلى أرض الحبشة، فبقوا بها، ثم خرجوا مع جعفر وأصحابه، هؤلاء في سفينة، وهؤلاء في سفينة، فكان قدومهم معًا من أرض الحبشة إلى المدينة؛ (الاستيعاب لابن عبدالبر، جـ 4، صـ:173). (1) روى البخاريُّ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: بَلَغَنَا مَخْرَجُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ بِالْيَمَنِ، فَخَرَجْنَا مُهَاجِرِينَ إِلَيْهِ أَنَا وَأَخَوَانِ لِي، أَنَا أَصْغَرُهُمْ، أَحَدُهُمَا أَبُو بُرْدَةَ وَالْآخَرُ أَبُو رُهْمٍ، إِمَّا قَالَ: فِي بِضْعٍ، وَإِمَّا قَالَ: فِي ثَلَاثَةٍ وَخَمْسِينَ أَوْ اثْنَيْنِ وَخَمْسِينَ رَجُلًا مِنْ قَوْمِي، فَرَكِبْنَا سَفِينَةً، فَأَلْقَتْنَا سَفِينَتُنَا (بسبب الريح) إِلَى النَّجَاشِيِّ بِالْحَبَشَةِ، وَوَافَقْنَا جَعْفَرَ بْنَ أَبِي طَالِبٍ وَأَصْحَابَهُ عِنْدَهُ، فَقَالَ جَعْفَرٌ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَنَا هَا هُنَا، وَأَمَرَنَا بِالْإِقَامَةِ فَأَقِيمُوا مَعَنَا، فَأَقَمْنَا مَعَهُ حَتَّى قَدِمْنَا جَمِيعًا، فَوَافَقْنَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ افْتَتَحَ خَيْبَرَ، فَأَسْهَمَ لَنَا، أَوْ قَالَ: فَأَعْطَانَا مِنْهَا وَمَا قَسَمَ لِأَحَدٍ غَابَ عَنْ فَتْحِ خَيْبَرَ مِنْهَا شَيْئًا إِلَّا لِمَنْ شَهِدَ مَعَهُ إِلَّا أَصْحَابَ سَفِينَتِنَا مَعَ جَعْفَرٍ وَأَصْحَابِهِ قَسَمَ لَهُمْ مَعَهُمْ؛ (البخاري، حديث: 3136). (2) روى البخاريُّ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال: بَلَغَنَا مَخْرَجُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ بِالْيَمَنِ، فَرَكِبْنَا سَفِينَةً فَأَلْقَتْنَا سَفِينَتُنَا (بسبب الريح) إِلَى النَّجَاشِيِّ بِالْحَبَشَةِ، فَوَافَقْنَا جَعْفَرَ بْنَ أَبِي طَالِبٍ فَأَقَمْنَا مَعَهُ حَتَّى قَدِمْنَا، فَوَافَقْنَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ افْتَتَحَ خَيْبَرَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لَكُمْ أَنْتُمْ يَا أَهْلَ السَّفِينَةِ هِجْرَتَانِ))؛ (البخاري، حديث: 3876). قبول أبي موسى لبُشْرى النبي صلى الله عليه وسلم: روى الشيخانِ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ نَازِلٌ بِالْجِعْرَانَةِ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ وَمَعَهُ بِلَالٌ، فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْرَابِيٌّ، فَقَالَ: أَلَا تُنْجِزُ لِي مَا وَعَدْتَنِي، فَقَالَ لَهُ: ((أَبْشِرْ))، فَقَالَ: قَدْ أَكْثَرْتَ عَلَيَّ مِنْ أَبْشِرْ، فَأَقْبَلَ عَلَى أَبِي مُوسَى وَبِلَالٍ كَهَيْئَةِ الْغَضْبَانِ فَقَالَ: ((رَدَّ الْبُشْرَى فَاقْبَلَا أَنْتُمَا))، قَالَا: قَبِلْنَا، ثُمَّ دَعَا بِقَدَحٍ فِيهِ مَاءٌ فَغَسَلَ يَدَيْهِ وَوَجْهَهُ فِيهِ، وَمَجَّ فِيهِ، ثُمَّ قَالَ: ((اشْرَبَا مِنْهُ وَأَفْرِغَا عَلَى وُجُوهِكُمَا وَنُحُورِكُمَا وَأَبْشِرَا))، فَأَخَذَا الْقَدَحَ فَفَعَلَا، فَنَادَتْ أُمُّ سَلَمَةَ مِنْ وَرَاءِ السِّتْرِ أَنْ أَفْضِلَا لِأُمِّكُمَا فَأَفْضَلَا لَهَا مِنْهُ طَائِفَةً؛ (البخاري، حديث: 4328/مسلم، حديث: 2497). فضل قبيلة أبي موسى الأشعري: (1) روى الشيخانِ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْه، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّ الْأَشْعَرِيِّينَ إِذَا أَرْمَلُوا (فَنِي زادهم) فِي الْغَزْوِ أَوْ قَلَّ طَعَامُ عِيَالِهِمْ بِالْمَدِينَةِ جَمَعُوا مَا كَانَ عِنْدَهُمْ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ، ثُمَّ اقْتَسَمُوهُ بَيْنَهُمْ فِي إِنَاءٍ وَاحِدٍ بِالسَّوِيَّةِ، فَهُمْ مِنِّي وَأَنَا مِنْهُمْ))؛ (البخاري، حديث: 2486/مسلم، حديث: 2500). (2) روى مسلمٌ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِنِّي لَأَعْرِفُ أَصْوَاتَ رُفْقَةِ الْأَشْعَرِيِّينَ بِالْقُرْآنِ حِينَ يَدْخُلُونَ بِاللَّيْلِ، وَأَعْرِفُ مَنَازِلَهُمْ مِنْ أَصْوَاتِهِمْ بِالْقُرْآنِ بِاللَّيْلِ وَإِنْ كُنْتُ لَمْ أَرَ مَنَازِلَهُمْ حِينَ نَزَلُوا بِالنَّهَارِ، وَمِنْهُمْ حَكِيمٌ إِذَا لَقِيَ الْخَيْلَ، أَوْ قَالَ: الْعَدُوَّ، قَالَ لَهُمْ: إِنَّ أَصْحَابِي يَأْمُرُونَكُمْ أَنْ تَنْظُرُوهُمْ))؛ (مسلم، حديث: 2499). (3) روى أحمد عن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَقْدمُ عَلَيْكُمْ غَدًا أَقْوَامٌ هُمْ أَرَقُّ قُلُوبًا لِلْإِسْلَامِ مِنْكُمْ، قَالَ: فَقَدِمَ الْأَشْعَرِيُّونَ، فِيهِمْ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ، فَلَمَّا دَنَوْا مِن الْمَدِينَةِ جَعَلُوا يَرْتَجِزُونَ يَقُولُونَ: غَدًا نَلْقَى الْأَحِبَّهْ مُحَمَّدًا وَحِزْبَهْ، فَلَمَّا أَنْ قَدِمُوا تَصَافَحُوا، فَكَانُوا هُمْ أَوَّلَ مَنْ أَحْدَثَ الْمُصَافَحَةَ؛ (حديث صحيح, وهذا إسناد حسن) (مسند أحمد، جـ 20، صـ 39، حديث: 12582). (4) روى الحاكمُ عن عِياض الأشعري قال: لما نزلت ﴿ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ ﴾ [المائدة: 54]، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((هم قومك يا أبا موسى)) وأومأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده إلى أبي موسى الأشعري؛ (قال الذهبي: على شرط مسلم) (مستدرك الحاكم، جـ2، صـ342). تلاوة أبي موسى للقرآن: روى الشيخانِ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ: ((يَا أَبَا مُوسَى، لَقَدْ أُوتِيتَ مِزْمَارًا مِنْ مَزَامِيرِ آلِ دَاوُدَ))؛ (البخاري، حديث: 5048/مسلم، حديث: 793). (1) روى ابنُ سعدٍ عن أنس بن مالك أن أبا موسى الأشعري رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قام ليلة يصلي، فسمع أزواج النبي صلى الله عليه وسلم صوته، وكان حلو الصوت، فقمن يسمعن، فلما أصبح قيل له: إن النساء كن يستمعن، فقال: لو علمت لحبرتكن تحبيرًا، ولشوقتكن تشويقًا؛ (إسناده ثقات) (الطبقات الكبرى لابن سعد، جـ2، صـ 345). (2) قال أبو سلمة بن عبدالرحمن: قال كان عمر بن الخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه يقول لأبي موسى رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: ذَكِّرنا ربنا تعالى، فيقرأ؛ (صفة الصفوة لابن الجوزي، جـ1، صـ 557). (3) قال أبو يوسف، حاجب معاوية بن أبي سفيان: قَدِمَ أبو موسى الأشعري رَضِيَ اللَّهُ عَنْه على معاوية بن أبي سفيان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهمَا، فنزل في بعض الدور بدمشق، فخرج معاوية من الليل ليستمع قراءته؛ (سير أعلام النبلاء للذهبي، جـ 2، صـ382). (4) قال أبو عثمان النهدي: ما سمعت مزمارًا ولا طنبورًا ولا صنجًا أحسن من صوت أبي موسى الأشعري رَضِيَ اللَّهُ عَنْه; إن كان ليصلي بنا فنودُّ أنه قرأ البقرة، من حسن صوته؛ (سير أعلام النبلاء للذهبي، جـ 2، صـ392). اهتمام أبي موسى بالعلم: روى أبو موسى ثلاث مئة وستين حديثًا، وله في "الصحيحين" تسعة وأربعون حديثًا، وتفرَّد البخاري بأربعة أحاديث، ومسلم بخمسة عشر حديثًا؛ (سير أعلام النبلاء للذهبي، جـ 2، صـ400:399). (1) قال صفوان بن سليم: لم يكن يُفتي في المسجد زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، غير هؤلاء: عمر، وعلي، ومعاذ، وأبي موسى؛ (سير أعلام النبلاء للذهبي، جـ 2، صـ389). (2) قال الشعبي: يُؤخذ العلم عن ستة: عمر بن الخطاب، وعبدالله بن مسعود، وزيد بن ثابت، يشبه علمهم بعضه بعضًا، وكان علي بن أبي طالب، وأُبَيُّ بن كعب، وأبو موسى الأشعري، يشبه علمهم بعضه بعضًا، يقتبس بعضهم من بعض؛ (سير أعلام النبلاء للذهبي، جـ 2، صـ389). (3) قال الأسود بن يزيد: لم أرَ بالكوفة أعلم من علي بن أبي طالب، وأبي موسى الأشعري رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما؛ (سير أعلام النبلاء للذهبي، جـ 2، صـ388). (4) قال مسروق بن الأجدع: كان القضاء في الصحابة إلى ستة: عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وعبدالله بن مسعود، وأُبَيِّ بن كعب، وزيد بن ثابت، وأبي موسى الأشعري؛ (سير أعلام النبلاء للذهبي، جـ 2، صـ388). عبادة أبي موسى الأشعري: (1) قال مسروق بن الأجدع: خرجنا مع أبي موسى رَضِيَ اللَّهُ عَنْه في غزاة، فقضينا الليل في بستان; فقام أبو موسى يصلي، وقرأ قراءة حسنة، وقال: اللهُمَّ، أنت المؤمن تحب المؤمن، وأنت المهيمن تحب المهيمن، وأنت السلام تحب السلام؛ (سير أعلام النبلاء للذهبي، جـ 2، صـ393). (2) قال موسى الطلحي: اجتهد أبو موسى الأشعري قبل موته اجتهادًا شديدًا، فقيل له: لو أمسكت ورفقت بنفسك؟ قال: إن الخيل إذا أرسلت فقاربت رأس مجراها، أخرجت جميع ما عندها، والذي بقي من أجلي أقل من ذلك؛ (سير أعلام النبلاء للذهبي، جـ 2، صـ393). الجهاد في حياة أبي موسى: كان أبو موسى الأشعري رَضِيَ اللَّهُ عَنْه عامل النبي صلى الله عليه وسلم على زبيد وعَدن وغيرهما من اليمن وسواحلها، ولما مات النبي صلى الله عليه وسلم قدم المدينة شهد فتوح الشام ووفاة أبي عبيدة، واستعمله عمر على إمرة البصرة بعد أن عزل المغيرة وهو الذي افتتح الأهواز وأصبهان، وأقره عثمان على عمله قليلًا، ثم صرفه، واستعمل عبدالله بن عامر، فسكن الكوفة وتفقَّه به أهلها حتى استعمله عثمان عليهم بعد عزل سعيد بن العاص؛ (الإصابة لابن حجر العسقلاني، جـ2، صـ352). (1) روى الشيخانِ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: لَمَّا فَرَغَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ حُنَيْنٍ بَعَثَ أَبَا عَامِرٍ عَلَى جَيْشٍ إِلَى أَوْطَاسٍ فَلَقِيَ دُرَيْدَ بْنَ الصِّمَّةِ، فَقُتِلَ دُرَيْدٌ وَهَزَمَ اللَّهُ أَصْحَابَهُ، قَالَ أَبُو مُوسَى: وَبَعَثَنِي مَعَ أَبِي عَامِرٍ، فَرُمِيَ أَبُو عَامِرٍ فِي رُكْبَتِهِ، رَمَاهُ جُشَمِيٌّ بِسَهْمٍ فَأَثْبَتَهُ فِي رُكْبَتِهِ، فَانْتَهَيْتُ إِلَيْهِ، فَقُلْتُ: يَا عَمِّ، مَنْ رَمَاكَ؟ فَأَشَارَ إِلَى أَبِي مُوسَى، فَقَالَ: ذَاكَ قَاتِلِي الَّذِي رَمَانِي، فَقَصَدْتُ لَهُ فَلَحِقْتُهُ، فَلَمَّا رَآنِي وَلَّى، فَاتَّبَعْتُهُ وَجَعَلْتُ أَقُولُ لَهُ: أَلَا تَسْتَحْيِي، أَلَا تَثْبُتُ، فَكَفَّ فَاخْتَلَفْنَا ضَرْبَتَيْنِ بِالسَّيْفِ فَقَتَلْتُهُ، ثُمَّ قُلْتُ لِأَبِي عَامِرٍ: قَتَلَ اللَّهُ صَاحِبَكَ، قَالَ: فَانْزِعْ هَذَا السَّهْمَ، فَنَزَعْتُهُ، فَنَزَا مِنْهُ الْمَاءُ، قَالَ: يَا بْنَ أَخِي، أَقْرِئ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السَّلَامَ، وَقُلْ لَهُ: اسْتَغْفِرْ لِي، وَاسْتَخْلَفَنِي أَبُو عَامِرٍ عَلَى النَّاسِ، فَمَكُثَ يَسِيرًا ثُمَّ مَاتَ، فَرَجَعْتُ فَدَخَلْتُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَيْتِهِ عَلَى سَرِيرٍ مُرْمَلٍ وَعَلَيْهِ فِرَاشٌ قَدْ أَثَّرَ رِمَالُ السَّرِيرِ بِظَهْرِهِ وَجَنْبَيْهِ، فَأَخْبَرْتُهُ بِخَبَرِنَا وَخَبَرِ أَبِي عَامِرٍ وَقَالَ قُلْ لَهُ: اسْتَغْفِرْ لِي، فَدَعَا بِمَاءٍ فَتَوَضَّأَ، ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ فَقَالَ: ((اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِعُبَيْدٍ أَبِي عَامِرٍ))، وَرَأَيْتُ بَيَاضَ إِبْطَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: ((اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَوْقَ كَثِيرٍ مِنْ خَلْقِكَ مِنْ النَّاسِ))، فَقُلْتُ: وَلِي فَاسْتَغْفِرْ، فَقَالَ: ((اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِعَبْدِاللَّهِ بْنِ قَيْسٍ ذَنْبَهُ، وَأَدْخِلْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُدْخَلًا كَرِيمًا))، قَالَ أَبُو بُرْدَةَ إِحْدَاهُمَا لِأَبِي عَامِرٍ وَالْأُخْرَى لِأَبِي مُوسَى؛ (البخاري، حديث: 4323/مسلم، حديث: 2498). (2) روى الشيخانِ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةٍ وَنَحْنُ سِتَّةُ نَفَرٍ بَيْنَنَا بَعِيرٌ نَعْتَقِبُهُ فَنَقِبَتْ أَقْدَامُنَا، وَنَقِبَتْ قَدَمَايَ، وَسَقَطَتْ أَظْفَارِي، وَكُنَّا نَلُفُّ عَلَى أَرْجُلِنَا الْخِرَقَ، فَسُمِّيَتْ غَزْوَةَ ذَاتِ الرِّقَاعِ لِمَا كُنَّا نَعْصِبُ مِنْ الْخِرَقِ عَلَى أَرْجُلِنَا، وَحَدَّثَ أَبُو مُوسَى بِهَذَا، ثُمَّ كَرِهَ ذَاكَ، قَالَ: مَا كُنْتُ أَصْنَعُ بِأَنْ أَذْكُرَهُ كَأَنَّهُ كَرِهَ أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ مِنْ عَمَلِهِ أَفْشَاهُ؛ (البخاري، حديث: 4128/مسلم، حديث: 1816). (3) قال عمر بن الخطاب: بالشام أربعون رجلًا، ما منهم رجل كان يلي أمر الأمة إلا أجزأه، فأرسل إليهم، فجاء رهطٌ، فيهم أبو موسى الأشعري، قال: إني أرسلك إلى قوم عسكر الشيطان بين أظهرهم، قال أبو موسى: فلا ترسلني، قال: إن بها جهادًا ورباطًا، فأرسله إلى البصرة؛ (سير أعلام النبلاء للذهبي، جـ 2، صـ389). أقوال السلف في أبي موسى: (1) روى ابنُ سعدٍ عن قتادة أن أبا موسى قال: لا ينبغي للقاضي أن يقضي حتى يتبين له الحق، كما يتبين الليل من النهار، فبلغ ذلك عمر بن الخطاب، فقال: صدق أبو موسى؛ (الطبقات الكبرى لابن سعد، جـ2، صـ 345). (2) روى ابنُ سعدٍ، عن قتادة، عن أنس بن مالك رَضِيَ اللَّهُ عَنْه، قال: بعثني أبو موسى الأشعري رَضِيَ اللَّهُ عَنْه إلى عمر بن الخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه، فقال لي عمر: كيف تركت الأشعري؟ فقلت له: تركته يُعَلِّم الناسَ القرآن، فقال: أما إنه كيس، ولا تسمعها إياه؛ (الطبقات الكبرى، لابن سعد، جـ2، صـ 345). (3) قال الشعبي: كتب عمر بن الخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه في وصيته: ألا يقر لي عامل أكثر من سنة، وأقروا الأشعري أربع سنين؛ (سير أعلام النبلاء للذهبي، جـ 2، صـ391). (4) قال أنس بن مالك رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: كان أبو موسى رَضِيَ اللَّهُ عَنْه إذا نام، لبس تبانًا (سروالًا قصيرًا)، مخافة أن تنكشف عورته؛ (سير أعلام النبلاء للذهبي، جـ 2، صـ399). (5) قال الحسن البصري: ما أتى البصرة راكبٌ خير لأهلها من أبي موسى الأشعري رَضِيَ اللَّهُ عَنْه؛ (الإصابة لابن حجر العسقلاني، جـ2، صـ352). قبس من كلام أبي موسى الأشعري: (1) روى ابن سعدٍ عن قتادة أن أبا موسى الأشعري رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قال: لا ينبغي للقاضي أن يقضي حتى يتبين له الحق كما يتبين الليل من النهار، فبلغ ذلك عمر، فقال: صدق أبو موسى؛ (الطبقات الكبرى لابن سعد، جـ2، صـ 345). (2) قال أبو مجلز: قال أبو موسى رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: إني لأغتسل في البيت المظلم فما أقيم صلبي حتى آخذ ثوبي حياءً من ربي عز وجل؛ (صفة الصفوة لابن الجوزي، جـ1، صـ 559). (3) قال قسامة بن زهير: خطبنا أبو موسى الأشعري رَضِيَ اللَّهُ عَنْه، فقال: أيها الناس، ابكوا، فإن لم تبكوا فتباكوا، فإن أهل النار يبكون الدموع حتى تنقطع، ثم يبكون الدماء حتى لو أرسلت فيها السفن لجرت؛ (صفة الصفوة لابن الجوزي، جـ1، صـ 559). (4) قال أبو كنانة: جمع أبو موسى الأشعري رَضِيَ اللَّهُ عَنْه الذين قرءوا القرآن، فإذا هم قريب من ثلاث مائة، فعظَّم القرآنَ، وقال: إن هذا القرآن كائن لكم أجرًا، وكائن عليكم وزرًا، فاتبعوا القرآن ولا يتبعنكم القرآن، فإنه من اتبع القرآن هبط به على رياض الجنة، ومن تبعه القرآن زج في قفاه فقذفه في النار؛ (صفة الصفوة لابن الجوزي، جـ1، صـ:559:558). (5) قال أبو كبشة السدوسي: خطبنا أبو موسى الأشعري رَضِيَ اللَّهُ عَنْه، فقال: إن الجليس الصالح خيرٌ من الوَحدة، والوَحدة خير من الجليس السوء، ومثل الجليس الصالح كمثل صاحب العطر إلا يحذك، يعبق بك من ريحه، ألا وإن مثل الجليس السوء كمثل صاحب الكير إلا يحرق ثيابك يعبق من ريحه، ألا وإنما سُمي القلب من تقلُّبه، وإن مثل القلب كمثل ريشة بأرض فضاء تضربها الريح ظهرًا لبطن، ألا وإن من ورائكم فتنًا كقطع الليل المظلم يصبح الرجل فيها مؤمنًا ويُمْسي كافرًا، والقاعد فيها خيرٌ من القائم، والقائم خيرٌ من الماشي، والماشي خيرٌ من الراكب؛ (صفة الصفوة لابن الجوزي، جـ1، صـ 558). (6) قال عبدالرحمن بن عرزب: دعا أبو موسى الأشعري رَضِيَ اللَّهُ عَنْه فتيانه حين حضرته الوفاة، فقال: اذهبوا فاحفروا وأوسعوا وأعمقوا، فجاؤوا فقالوا: قد حفرنا وأوسعنا وأعمقنا، فقال: والله إنها لإحدى المنزلتين: أما ليوسعن عليَّ قبري حتى يكون كل زاوية منه أربعين ذراعًا، ثم ليفتحن لي باب إلى الجنة فلأنظرن إلى أزواجي ومنازلي وما أعدَّ اللهُ عز وجل لي من الكرامة ثم ليصيبني من ريحها وروحها حتى أُبعث، ولئن كانت الأخرى ونعوذ بالله منها ليضيقن عليَّ قبري حتى أكون في أضيق من القناة في الزج (الحديدة الموجودة أسفل الرمح) ثم ليفتحن لي باب من أبواب جهنم فلأنظرن إلى سلاسلي وأغلالي وقرنائي، ثم ليصيبني من سَمومها وحميمها حتى أُبعث؛ (صفة الصفوة لابن الجوزي، جـ1، صـ 561:560). وفاة أبي موسى: مات أبو موسى الأشعري رَضِيَ اللَّهُ عَنْه بالكوفة، وقيل: مات بمكة سنة اثنتين وأربعين، وقيل: سنة أربع وأربعين وهو ابن ثلاث وستين سنة؛ (أسد الغابة لابن الأثير، جـ3، صـ246). رَحِمَ اللهُ سبحانه وتعالى أبا موسى الأشعري، رَضِيَ اللَّهُ عَنْه رحمةً واسعةً، وجزاه الله عن الإسلام خير الجزاء، ونسأل الله تعالى أن يجمعنا به في الفردوس الأعلى مِن الجنة. أَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى بِأَسْمَائِهِ الْـحُسْنَى وَصِفَاتِهِ الْعُلا أَنْ يَجْعَلَ هَذَا الْعَمَلَ خَالِصًا لِوَجْهِهِ الْكَرِيمِ، وأن يجعله ذُخْرًا لي عنده يوم القيامة، كما أسألهُ سُبْحَانَهُ أن ينفعَ به طلابَ العِلْمِ الكِرَامِ، وأرجو من كُل قارئ كريم أن يدعوَ اللهَ تَعَالَى لي بالإخلاصِ والتوفيقِ والثباتِ على الحق، وَحُسْنِ الخاتمة، فإن دعوةَ المسلمِ الكريم لأخيه المسلمِ بظَهْرِ الغَيْبِ مُسْتجَابةٌ، وأختِمُ بقولِ اللهِ تَعَالَى: ﴿ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ [الحشر: 10]. وآخرُ دَعْوَانَا أَنِ الْـحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَصَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُـحَمَّدٍ، وَآلهِ، وَأَصْحَابِهِ، وَالتَّابِعِينَ لَـهُمْ بِإِحْسَانٍ إلَى يَوْمِ الدِّينِ.
معماريو الأنفاق في أُمَّة الحيوان معماريون كُثُر يبرعون في تخطيط وإنشاء الأنفاق المختلفة الأهداف والتصاميم والأشكال والمنحنيات والمداخل والمخارج، ولقد تم توظيف "الرادار" في دراسات جيوفيزيائية أبانت عن خرائط ثلاثية الأبعاد لنظم هندسة الأنفاق عند الحيوانات، وتبيَّن أن تصميم بعضها يكون مائلًا (30-40 درجة) ومنعطفًا ناحية اليسار أو لليمين مع اتساع عند المنعطفات لإتاحة حرية الحركة؛ إلا أن أعقد هندسة لهذه الأنفاق ما تنفذه "المناجذ" ( من آكلات الحشرات )، فهي دائرية متحدة المركز يتصل بعضها ببعض بأنفاق شعاعية، وتمتد منها أنفاق أخرى سطحية، ويُستَدل على أماكن وجودها من أكوام التراب الصغيرة التي تبقى متناثرة هنا وهناك. وفي بعض الأنفاق تأخذ الفتحات شكلًا إهليليجيًّا تعلوها كومة ترابية للتمويه؛ لكن بعض الجُحُور كجُحْر "الضَّبِّ" له فتحة واحدة، على عكس أنفاق كثير من الحيوانات التي لها عدة فتحات للتهوية والتمويه والهروب من الأعداء، ولقنص الفرائس. "الخلد" يعد "الخلد" Mole Rat ( Spalax leucodon ) القارض الثدييي الوحيد الذي ليس له فتحات عيون خارجية ( الخلد الأعمى/ أبو عماية )، وجسمه أسطواني مكتنز متكيف مع حفر الأنفاق، وهو من أفضل الحيوانات الحفَّارة ( بمعدل 13 مترًا/ ساعة، وفي الأراضي المتشققة مسافة 45 مترًا/ ساعة ) ويساعده على ذلك أرجله الأمامية الكبيرة، وأياديه التي تحمل مخالبَ ضخمة ( تشبه المناكيش/ جرافات )، وقواطعه القوية والكبيرة، وأنفه الضيق البارز، ورأسه الوتدي الشكل وشواربه الحساسة، وهو متكيف كليًّا للعيش في أنفاق أرضية يصل طولها لأكثر من 200 متر، ولا يغادرها إلا في فترات محددة في حياته، وينتج عن نشاطه في حفر أنفاقه ظهور أكوام ترابية فوق سطح التربة يتراوح قطرها بين 25-50 سم، وتبتعد عن بعضها البعض 1-5 أمتار، وقد يصل ارتفاع الأكوام الترابية السميكة إلى 25 سم والتي تظهر فجأة، وهي تحدد الشكل العام لـ"بانوراما" أنفاقه، وتم استخدام الرادار لرصد تغييرات الفاصل الزمني لشبكة أنفاق الخلد، وتبيَّن أن توزيع التلال على السطح ليس مؤشرًا مضمونًا للهندسة المعقدة للنفق؛ فلقد أظهر الرادار مجموعة متشابكة من الأنفاق تشبه خريطة مترو أنفاق "لندن". ويعتبر "الخلد" من ( الآفات الزراعية ) التي تستحق "المكافحة" لخفض الخسائر التي تسببها على بعض المحاصيل، وخاصة في الزراعات التكثيفية والمحمية والغابات الطبيعية، ففي أنفاقه يمكن لفرد واحد من الخلد تخزين كمية من الغذاء ( الجذر أو الدرنات أو الأبصال أو أوراق المحاصيل الخضرية ) تصل إلى 50 كجم/ الموسم. وتفضل إناث الخلد التغذية على المواد الخضراء بشكل خاص في مرحلة إرضاع الصغار، وكذلك يقوم الخلد بتقطيع جذور الأشجار والشجيرات التي تعترض سبيله أثناء حفر الأنفاق وتوسيع عمارة أنفاقه، وكثيرًا ما تؤدي هذه الأنفاق إلى فقد كبير في مياه الري ( عدة أمتار مكعبة ) وتحويل اتجاهها إلى أنفاقه؛ مما يؤدي لخسارة مياه ري هامة خاصة في أشهر الجفاف، وقد تصب مياه الري في مناطق لا يريد المزارع سقايتها أو تذهب لحقول مجاورة أو إلى مناطق غير مزروعة أصلًا، وينتشر الخلد في المناطق التي معدل الهطول السنوي فيها 100 ملم وأكثر, وهي مناطق زراعية على الغالب. الفئران تؤسس مجموعة متنوعة من الفقاريات- وبخاصة القوارض، كالفئران- أنفاقها لتأوي إليها، وتختبئ بها عن أعين أعدائها كما تخزن فيها قوتها، وتتخذها حول المباني والمستودعات والحقول وحواف الأنهار والقنوات، كما يمضي بعضها سحابات النهار في حفرها في الرمال، مع تميُّزها بثبات درجات الحرارة، وتتكوَّن- معظمها- من نفق رئيس يتناسب قطره مع حجم الحيوان، ويتفرع عنه تفريعات جانبية يؤدي بعضها إلى تجاويف مستديرة أو بَيْضِيَّة تستخدم لوضع الصغار أو للراحة والنوم والاختباء، ويحفر الفأر جحره بواسطة القواطع الأمامية ومخالب الطرفين الأماميين، ويستخدم الأطراف الخلفية لدفع التراب إلى الخلف وخارج النفق. ولفأر الحقل الاجتماعي « Microtus socialis ( وهو من الآفات الزراعية ) جحور يبثها في الحقول حيث يقوم بتخزين كميات كبيرة من الغذاء فيها، فهو يتغذَّى بما يعادل وزنه (40-50 جرامًا) من الجذور والبذور والثمار والأوراق وقشور الأغصان والساق في الأشجار المثمرة والحرجيَّة، ويمكنه تخزين حوالي 255 سنبلة في جحر واحد؛ حيث يتم ذلك ضمن أنفاق خاصة يصممها الفأر بالقرب من جحره الأساس، وتحفر الفئران أنفاقًا بقطر 5– 7 سم وعلى عمق5– 8 سم تحت سطح التربة، وتربط بعضها مع بعض حيث تنتهي بغرفة تُسمَّى العش يتراوح قطرها بين 10– 15 سم، ولوحظ وجود نمطين من أنظمة الجحور: النمط الأول: بسيط يتألف من 3–4 مداخل ومن حجرة تعشيش واحدة، يوجد هذا النظام في الأراضي كثيرة الفلاحة. أما النمط الثاني: وهو معقد وهو ذات مداخل عديدة وغرف تعشيش كثيرة، وهذا النمط يوجد في الأراضي الحراجية التي تقل أو تنعدم فيها الفلاحة، وينشط في الليل والنهار، غير أنَّ نشاطه يبلغ الذروة في ساعات الصباح الباكر والمساء حيث يقوم بسحب البذور والأعشاب إلى النفق ليتغذَّى عليها، وفأر الحقل الاجتماعي قارض صغير الحجم، يتراوح طول جسمه مع رأسه من 9-12سم، ويتميَّز بذيل قصير مغطَّى بشعيرات قصيرة، وبأطراف خلفيَّة أطول من الأماميَّة، كما يتميَّز عن غيره بلون شعر الظهر الذي يراوح بين الأحمر الباهت والأسود الرمادي بينما لون شعر البطن رمادي فاتح. أما الجرذ المهيمن على مدينة مثل "نيويورك" فهو "الجرذ البني"/ "الجرذ النرويجي" ( Rattus norvegicus ) وهو يحفر جحورًا، ويتميز بجمجمة مرنة؛ إذ يمكنه التسلل إلى داخل أي مكان أعرضَ من جمجمته ( كالأنبوب المفضي إلى حوض المرحاض )، وفي بعض المتنزهات، توجد تجاويف أرضية صغيرة تمثل مداخل رئيسة لأنفاق هذه الجرذان؛ حيث لكل جحر ثلاثة مداخل: مدخل رئيس، وفتحتان للهروب السريع، وتعيش الجرذان البنية في تجمُّعات عائلية وتحافظ على أعشاشها ( التي غالبًا ما تبنيها في أحواض الزهور بالمنتزهات العامة ) نظيفة نسبيًّا، كما تُجري دوريات حراسة بمناطق نفوذها الصغيرة، وعندما يبلغ درصٌ سن النضج الجنسي - نحو عشرة أسابيع- يغادر الجُحْرَ بحثًا عن شريك للتزاوج وإقامة أنفاقه الخاصة بعائلته. "القنفذ" القنفذ/ الدعلج Hedgehog من صغار الثدييات الليلية (16 نوعًا)، له غطاء شائك كثيف يحميه من أعدائه، وينشط صيفًا، وينام شتاء، ويستيقظ ربيعًا، وهو من الحيوانات المُحبة للعزلة والنوم، ويمكنه النوم 18 ساعة/ يوم، وتَحفر بعض القنافذ جحورًا عميقة في الأرض، وبعضها يبني وكرًا من الأغصان، والأعشاب، وأوراق الأشجار، أو يختبئ بين الصخور، وبعضها يعيش في جحور هجرتها بعض الحيوانات مثل السلاحف والثعالب بينما تحفر القنافذ العربية طويلة الأذن والقنافذ الصحراوية الإفريقية والآسيوية جحورًا لتقيم فيها تقيها من حَرِّ النهار، وتخرجُ القنافذ في المساء كي تتغذَّى وتقتات، وتُصبح أكثر نشاطًا في هذه الفترة من اليوم من غيرها، ورغمَ ذلك، يميلُ القنفذ في أوقاتٍ مُعيَّنة إلى الخُروج والاصطياد في النَّهار، ويحدثُ ذلك على وجه الخصوص بعد هطول الأمطار الخفيفة. ويعتاش على أكل الحشرات؛ فيأكل الديدان والرخويات والزواحف والفئران الصغيرة وبيض الطيور التي تعشش في البراري كما يأكل النباتات والثمار، وعندما يتعرَّض للخطر، فإنه يكور نفسه على هيئة كرة. "القندس" ينتمي "القُنْدُس" إلى طائفة القوارض المائية وهو أبرع "مهندسي المملكة الحيوانية"، له أسنان حادة تشبه الإزميل لتعينه علي إنشاء السدود والمساكن من أخشاب الأشجار، ويتراوح عرض السد - الذي يقيمه زوج القندس- من متر إلى مائة متر، ثم يبني بيته وسط البركة جاعلًا مدخله تحت سطح الماء لحمايته من الأعداء، ويبلغ طول الأنفاق المؤدية لمسكنه أمتارًا؛ إذ تؤدي النهاية العليا للنفق إلى غرفة تتسع لإيواء أسرته، مغطاة بطبقة من الطين المتماسك الجيِّد الصرف لوجود أعواد خشبية بأسفله، إنه يبني مسكنه عبر تكديس الأعواد الخشبية والطين تاركًا فتحة تهوية علوية، ثم يحفر بفمه التربة ليكوِّن الأنفاق والغرفة الرئيسة، وقد يكوِّن الطين المتساقط من بين الأعواد الخشبية أرضيةَ الغرفة، وعادة ما تحصل القنادس على المواد اللازمة للبناء بإسقاط الأشجار ليلًا، ويمكن قرض جذع شجرة قطرها 30 سم في ليلتين من العمل الدائب؛ ومِن ثَمَّ تُفصل الفروع عن الجذع، وتُجزَّأ إلى قطع يبلغ طول كل منها قدمًا. "الغرير" الأوروبي في الحفر والتنقيب يبرع "الغرير" الأوروبي ( Meles meles ) وهو من الثدييات البرية اللاحمة التي تقتات الجرذان والزواحف، وأرجله مزودة بمخالب طويلة تساعده على الحفر والصيد؛ لذا يعيش في "شبكة" طويلة من الأوجار ( الأنفاق )، وحجرات النوم المُبطنة بالتبن وأوراق الشجر، وما يرثه من جحر عن آبائه يضيف إليه دهاليز جديدة وبعض الحجرات، وقد يعيش في الجحر نحو 35 حيوانًا، ويبني في الجحر منافذَ إضافية لتمكنه من الهروب السريع، وقد عثر على جحر له 178 مدخلًا، ويتكون من 50 حجرة، ويربط فيما بينها نظام دهاليز تصل في مجموعها إلى طول 880 مترًا، ويهتمُّ بشدة بنظافة جحره، ويبني "مراحيض" للتبرُّز بعيدًا عن الجحر، وهناك شواهد "لدفنه" أفراد من عائلته بعد نفوقهم، ويمكن للغرير العيش حتى 15 عامًا؛ لكن يكثر اصطياده طمعًا بجلده ووبره الجميل. البيليبيَّات (الشبيهة بالأرانب) تعيش البيليبيَّات أو البندقوطيَّات ( مجموعةٌ من الجرابيات ) في صحارى قارة أستراليا، ويوجد نوعان هُما: "البيلبي الصغير" (انقرض في خمسينيَّات القرن الماضي نتيجة الأنشطة البشرية)، و"البيلبي الكبير" الذي ما زال موجودًا إلا أنَّ أعداده تناقصت كثيرًا، ولدى البيلبي خطمٌ طويل شبيهٌ بذاك الذي يُميِّز البندقوط، وآذانه كبيرةٌ جدًّا، يبلغ طول الحيوان البالغ ما بين 30 - 55 سنتيمترًا، وهو شبيهٌ إلى حد بعيد بالبندقوط؛ لكن ذيله أطول وآذانه أكبر، وأمَّا فراؤه فأكثر نعومة، وهذه المخلوقات هي روامس (تنشط ليلًا)، ولا تحتاج لشُرب الماء، فهي تحصل على ما تحتاج إليه من الطعام (الحشرات ويرقاتها والعناكب والفطريات والبذور والفاكهة وبصلات النبات، وبعض الحيوانات الصَّغيرة)، وهي تجد مُعظم طعامها بالحفر في التراب بألسنتها الطويلة جدًّا، وعلى عكس البندقوط، البيلبي حفَّارٌ ماهر وقادرٌ على شق شبكات أنفاقٍ طويلة بأرجله الأمامية ومخالبه القويَّة، ويحفر البيلبي عددًا من الجحور المختلفة في منطقته، يُمكن أن يصل عددها إلى أكثر من عشرة، وهو يتنقَّل بينها لحمايته من المفترسين ومن حرارة النَّهار، وجراب أنثى البيلبي مُوجَّه نحو الخلف؛ ممَّا يحميه من التلوُّث عندما تحفر جحورها، وتبلغ مدة الحمل عند أنثى البيلبي ما بين 12- 14 يومًا، وهي من أقصر فترات الحمل عند الثديِّيات. بينما تقوم "الأرانب البرية" بتهيئة نفقها/ مسكنها الملائم، فتخطط وتحفر أنفاقًا أرضية تحمي فيها مواليدها من تقلبات الطقس والأعداء المتربصين بالصغار، كما تختار تربة تتميَّز بمعدل تسريب كبير كي تمتص أبوالها، أمَّا "الجربوع" فمن الحيوانات التي تنشط ليلًا للحصول على غذائها (البذور والثمار) ويعيش في إنفاق خاصة صممها بعناية للمعيشة وتخزين الطعام، أما في المناطق القاحلة فتحفر السلاحف أنفاقًا طولها ما بين 1-3 أمتار تحت الأرض لتصل لأماكن أكثر رطوبة؛ حيث تقضي ساعات النهار الحار فيما يسمى بــ" البيات الصيفي "، والخلاصة: قد تكون الأنفاق دائمة أو موسمية يؤسسها معماريو الأنفاق، أو قد يتم الاستيلاء على أخرى سابقة التجهيز؛ ومن ثَمَّ تتخذ بيوتًا ومصائد ومخازن ومآوي من الافتراس والأخطار. والخلاصة: يظـُن الإنسان أنه وحده، دون باقي الكائنات الحية الذي يمتلك التخطيط العمراني، والإبداع المعماري؛ لكنه ليس وحيدًا في هذا التخطيط، وذلك الإبداع؛ بل يُشاركه- من عالم الحيوان- مِعماريون مُدهشون، وبنَّاءون عجيبون، وتقنيون بارعون.
من سير أعلام مسند الإمام [12] (عبدالله بن سلام رضي الله عنه) الإمام الحبر، عالم التوراة، أبو الحارث الإسرائيلي، من ذرية سيدنا يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام، الصحابي الجليل المشهود له بالجنة. • كان عالمًا يهوديًّا من يهود بني القينقاع يُسمَّى حصينًا، وقد سمَّاه رسول الله صلى الله عليه وسلم عبدالله. وقد روى الإمام أحمد في مسنده من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: لما سمِعَ عبدالله بن سلام رضي الله عنه بقدوم النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، أراد أن يختبره؛ ليعرف أهو الرسول المذكور في التوراة أو غيره؟ فذهب إليه وقال له: إني سائلك عن ثلاث لا يعلمُها إلا نبيٌّ: ما أول أشراط الساعة؟ وما أول ما يأكل أهل الجنة؟ ومن أين يشبه الولد أباه وأُمَّه؟ فقال صلى الله عليه وسلم: ((أخبرني بهنَّ جبريل آنفًا))، قال عبدالله: ذاك عدوُّ اليهود من الملائكة، قال صلى الله عليه وسلم: ((أمَّا أولُ أشراط الساعة فنارٌ تخرج من المشرق، فتحشر الناس إلى المغرب، وأمَّا أول ما يأكله أهل الجنة، فزيادة كبد حوت، وأما الشَّبه، فإذا سبقَ ماءُ الرجل نزع إليه الولد، وإذا سبقَ ماءُ المرأة نزع إليها))، قال عبدالله بن سلام: أشهد أنك رسول الله، وقال: يا رسول الله، إن اليهود قوم بهت، وإنهم إن يعلموا بإسلامي يبهتوني عندك، فأرسل إليهم، فاسألهم عني: أي رجل ابن سلام فيكم؟ قال: فأرسل إليهم، فقال: ((أي رجل عبدالله بن سلام فيكم؟))، قالوا: خيرنا وابن خيرنا، وعالمنا وابن عالمنا، وأفقهنا وابن أفقهنا، قال: ((أرأيتم إن أسلم تسلمون؟))، قالوا: أعاذه الله من ذلك، قال: فخرج ابن سلام، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، قالوا: شرُّنا وابن شرِّنا، وجاهلُنا وابن جاهلِنا، فقال ابن سلام: هذا الذي كنت أتخوَّفُ منهم. • فها هم اليهود أهل إفْكٍ وكذِبٍ إلى يومنا هذا، قال الله تعالى منكرًا عليهم: ﴿ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ ﴾ [البقرة: 87]، وقال سبحانه: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾ [آل عمران: 21]، وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لو تابعني عشرة من اليهود، لم يَبْقَ على ظهرها يهوديٌّ إلَّا أسلم)). من مناقبه رضي الله عنه: أخرج الإمام أحمد في مسنده والترمذي من حديث يزيد بن عميرة قال: لما حضر معاذ بن جبل الموت، قيل له: يا أبا عبدالرحمن، أوْصِنا، قال: أجلسوني، فقال: إن العلم والإيمان مكانهما، من ابتغاهما وجدهما، يقول ثلاث مرات: فالتمسوا العلم عند أربعة رهط: عند عويمر أبي الدرداء، وعند سلمان الفارسي، وعند عبدالله بن مسعود، وعند عبدالله بن سلام الذي كان يهوديًّا ثم أسلم؛ فإني سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إنه عاشر عشرة في الجنة)). وأخرج الترمذي بسنده عن عبدالملك بن عمير، عن ابن أخي عبدالله بن سلام، قال: إنه لما أُريد قتل عثمان رضي الله عنه، جاء عبدالله بن سلام، فقال له عثمان: ما جاء بك؟ قال: جئت في نصرك. قال: اخرج إلى الناس فاطردهم عني، فإنك خارجًا خيرٌ لي منك داخلًا، فخرج عبدالله إلى الناس، فقال: أيها الناس، إنه كان اسمي في الجاهلية فلان، فسمَّاني رسول الله صلى الله عليه وسلم عبدالله، ونزلت فيَّ آياتٌ من القرآن، فنزلت فيَّ: ﴿ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ... ﴾ [الأحقاف: 10] الآية إلى آخرها، ونزلت فيَّ: ﴿ قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ ﴾ [الرعد: 43]، إن لله سيفًا مغمودًا عنكم، وإن الملائكة قد جاورتكم في بلدكم هذا الذي نزل به رسول الله صلى الله عليه وسلم. الله الله في هذا الرجل أن تقتلوه، فوالله لئن قتلتموه لتطردن جيرانكم الملائكة، وليسلن سيف الله المغمود عنكم، فلا يغمد إلى يوم القيامة، قالوا: اقتلوا اليهودي، واقتلوا عثمان رضي الله عنهما. • كانت وفاته بالمدينة سنة ثلاث وأربعين من الهجرة، رحمه الله ورضي عنه وعن الصحابة أجمعين.
إمداد المسلم بشرح مختصر المنذري لصحيح مسلم لعبيد الجابري صدر حديثًا كتاب "إمداد المسلم بشرح مختصر صحيح مسلم للمنذري" ، تأليف: الشيخ "عبيد بن عبدالله بن سليمان الجابري" ، في 20 مجلدًا، نشر: "دار الميراث النبوي للنشر والتوزيع" - اليمن. ويُعَدّ مختصر الحافظ "زكي الدين بن عبد العظيم المنذري الدمشقي" (ت 656 هـ)، من أفضل مختصرات "صحيح مسلم" وأنفعها، حيث بلغت أحاديث هذا السفر الماتع التي انتقاها الإمام المنذري تسعة وسبعين ومائة حديث وألفين، وكان هذا المختصر من ذلك الصحيح ذا مكانة عالية بين أئمة الحديث، جديرًا بالعناية، ولنفاسة هذا المختصر قام فضيلة الشيخ "عبيد الجابري" بالعكوف على شرحه وبيان فوائده حتى أتم أبواب الكتاب في تلك الطبعة الحديثة، حيث سلكَ في شرح هذا المختصر المنهج الآتي: • صدَّرَ هذا الشرح بترجمة مختصرة لمنتقيه الشيخ زكي الدين عبد العظيم المنذري، اشتملت على عدة أمور منها: اسمه ونسبه وثناء العلماء عليه. • لخَّصَ ما تضمنه مقدمة صاحب المختصر. • قام بكتابة تراجم المنذري موافقة لمختصره، مع ترقيمها. • قام بكتابة أحاديث كل باب، فإن كان ما في الباب حديث واحد خرجه بسنده، محيلًا إلى مكانه في "صحيح مسلم" ، وإن كانت الأحاديث أكثر كتب الأحاديث أولًا مرتبة وفق ما ذكر في الباب، ثم قام بتخريجها بذكر أسانيدها مرتبة كما سبق. • قام بجعل شرحه لأحاديث كل باب على شكل مسائل، كما فعل القرطبي - رحمه الله - في تفسيره للآيات، ومن ثم جمع تحت كل مسألة - وهي رواية الباب - ما يبين معناها، ويشهد له ويؤكده، وساء كانت تلك الروايات لحديث الباب أو أحاديث صحابة آخرين، سالكًا مسلك الحافظ ابن حجر - رحمه الله - في "الفتح" ؛ لأن ذلك من بيان السنة بالسنة، وهذا هو الغالب في الشرح. • اعتنى المؤلف في شرحه للأحاديث النقل عن الأئمة والعلماء في الحديث وغيره فجعله جل الشرح، وقد ينقل عن عالم أو أكثر شرحًا كاملًا لبعض الفوائد في عدد من المسائل، ومن العلماء الذين اعتنى بالنقل عنهم: ابن جرير الطبري، والفراء، وابن كثير، والقرطبي، والشوكاني، وابن حجر العسقلاني والنووي وابن عبد البر والشيخ عبد الرحمن السعدي. • كما قام بخدمة الكتاب بالفهارس العلمية اللازمة كفهرس الآيات والأحاديث والمراجع والتراجم وفهرسًا للكتب والأبواب الذي ضمنه أحاديث كل باب، وأهم المسائل الواردة في الشرح. • وميز الكاتب شرحه بعلامة ((ش)) للدلالة على بداية شرحه للحديث، وضمنه فوائد وتنقيحات أصولية وترجمات للأعلام الوارد ذكرهم في الحديث كل ذلك بشكل موجز سهل ليسهل مطالعته. والمنذري (581 - 656 هـ = 1185 - 1258 م) هو عبد العظيم بن عبد القوي بن عبد الله، أبو محمد، زكي الدين المنذري. • عالم بالحديث والعربية، من الحفاظ المؤرخين. مولده ووفاته بمصر. • أصله من الشام، تولى مشيخة دار الحديث الكاملية (بالقاهرة) وانقطع بها نحو عشرين سنة، عاكفًا على التصنيف والتخريج والإفادة والتحديث. له: • "الترغيب والترهيب" . • "التكملة لوفيات النقلة" . • "أربعون حديثًا" رسالة. • "شرح التنبيه" . • "مختصر صحيح مسلم" . • "مختصر سنن أبي داود" . والشارح هو الشيخ "عبيد بن عبد الله بن سليمان الجابري الحمداني" كانت ولادته في بلدة "الفقير" من وادي "الفرع" بمنطقة المدينة النّبوية وذلك عام 1357 هـ. التحق بالجامعة الإسلامية في سنة 1388 هـ في كلية الشّريعة بالجامعة الإسلاميّة وتخرّج منها عام 1392 هـ بتقدير امتياز، وكان الأوّل على دفعته - حفظه الله -. من مشايخه: في دار الحديث: 1) الشّيخ سيف الرّحمن بن أحمد. 2) الشّيخ عمّار بن عبد الله. في المعهد العلمي: 1) الشّيخ عبد الله بن عبد العزيز الخضيري. 2) الشّيخ عودة بن طلق الأحمدي. 3) الشّيخ دخيل الله بن خليفة الخليطي. 4) الشّيخ عبد الرحمن بن عبد الله العجلان. كان يدرسهم التفسير 5) الشّيخ محمّد بن عبد الله العجلان. 6) الشيخ حميد الحازمي درسهم في النحو في الجامعة الإسلاميّة: 1) الشّيخ العلاّمة المحدّث حمّاد بن محمّد الأنصاري. 2) الشّيخ العلاّمة المحدّث عبد المحسن العبّاد. عمل مدرسًا في الجامعة الإسلامية من آخر عام 1407 هـ إلى 1414 هـ، وخلال فترة وجود الشّيخ في الجامعة تحصّل على شهادة الماجستير في التفسير. ثم التحق بمركز خدمة المجتمع التابعة للجامعة الإسلامية ثم تقاعد الشيخ في عام 1417 هـ. مؤلفاته: 1) تيسير الإله بشرح أدلة شروط لا إله إلاّ الله (مطبوع). 2) تنبيه ذوي العقول السليمة إلى فوائد مستنبطة من الستة الأصول العظيمة (نشر دار البخاري). 3) إمداد القاري بشرح كتاب التفسير من صحيح البخاري (مطبوع في دار أضواء السلف). 4) شرح منتقى ابن الجارود (يسر الله إتمامه). 5) إتحاف العقول بشرح الثلاثة الأصول (مطبوع في دار الإمام أحمد). 6) إمداد صادق الأماني بشرح مقدمة ابن أبي زيد القيرواني (مطبوع في دار ميراث النبوي). 7) تبصير الخلف بشرح التحف في مذهب السلف (مطبوع في دار ميراث النبوي). 8) تنوير المبتدي بشرح منظومة القواعد الفقهية لابن سعدي (مطبوع في دار الإمام أحمد). 9) جناية التميع على المنهج السلفي (مطبوع في دار ميراث النبوي). 10) الطيب الجني على شرح السنة للإمام المزني (مطبوع في دار ميراث النبوي). 11) فتح القدوس السلام بشرح نواقض الإسلام (مطبوع في ميراث النبوي). 12) قطع اللجاجة بشرح المقدمة من سنن الإمام ابن ماجة (مطبوع في دار ميراث النبوي). 13) مجموعة الرسائل الجابرية في مسائل علمية وفق الكتاب والسنة النبوية (مطبوع في ميراث النبوي).
نوح عليه السلام (7) أشرتُ في المقال السابق إلى أن بعض الغواة من المعاصرين فسَّر قوله تعالى: ﴿ وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا ﴾ [نوح: 14] بأنها تدلُّ على صحَّة نظرية ( داروين ) في التطور والارتقاء، وبيَّنتُ فسادَ مذهب هؤلاء، وسُقت الدليلَ القطعي على تفسير هذه الأطوار في كتاب الله عز وجل، وأشرتُ إلى ما ذكرته كذلك عنها في قصَّة خلق آدم عليه السلام من قصة آدم، وأشرتُ هناك إلى أن جميع المؤمنين بالله ورسله يكفرون بنظرية ( داروين ) هذه، وإنما يروج لها اليهودُ والماسونيون لزعزعة العقائد وإبطال الشرائع؛ كما جاء النص على ذلك في ( بروتوكولات حكماء صهيون ). هذا، وقد بيَّن الله تبارك وتعالى أن نوحًا عليه السلام لبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عامًا، ولم يرد خبر صحيح عن سنِّه يوم بعثه الله عز وجل إلى قومه، وقال بعض الناس إنه بُعث وهو ابن خمسين سنة، وبعض الناس يقول: إنه بُعث وهو ابن ثلاثمائة وخمسين سنة، والله وحدَه يعلم كم كانت سنه وقت بعثته ما دام لم يرد عن الله أو عن رسوله صلى الله عليه وسلم شيء في ذلك. كما لم يبيِّن الله عز وجل أو رسوله محمد صلى الله عليه وسلم المدةَ التي عاشها نوح عليه السلام بعد الطوفان، ولم يَرِد في حديث صحيح شيء من ذلك، لكن يبيِّن الله تبارك وتعالى أن نوحًا لما استيئَس من قومه بعد أن أعلمه الله عز وجل أنه لن يؤمن من قومه إلا من قد آمن، وأمره الله عز وجل أن يصنع الفُلكَ وبيَّن له أن الكافرين من قومه مغرقون، وأنه لا يبتئس بما كانوا يفعلون، وأشار الله عز وجل إلى سخرية قومه منه وهو يصنع السفينة، وأنه لما حُم القضاء فجَّر الله الأرض عيونًا وفتح أبواب السماء بماء منهمر، فركب نوح والمؤمنون وحمل معه في السفينة من كل زوجين اثنين، وفي ذلك يقول الله عز وجل في سورة (الصافات): ﴿ وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ * وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ * وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ * وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ * سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ * إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ * ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ ﴾ [الصافات: 75 - 82]، وقال في سورة (القمر): ﴿ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ * فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ * فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ * وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ * وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ * تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ * وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ * فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ * وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ﴾ [القمر: 9 - 17]، وقال تعالى في سورة (الحاقة): ﴿ إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ * لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ ﴾ [الحاقة: 11، 12]، وقال في سورة الأنبياء: ﴿ وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ * وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ ﴾ [الأنبياء: 76، 77]، وقال تعالى في سورة المؤمنون: ﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ * فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ * إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ * قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ * فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ * فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ ﴾ [المؤمنون: 23 - 30]، وقال في سورة هود: ﴿ وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ * وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ * وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ * فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ * حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ * وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [هود: 36 - 41]. والمشهور عند الأمم أن الذين ركبوا في السفينة مع نوح من المؤمنين هم ولده: سام وحام ويافث وزوجاتهم وزوجة يام الذي كان مع الكافرين، وقد حمل نوح في السَّفينة ما شاء الله أن يَحمل من الأزواج، وبعض الناس يُغالي فيقول: حمل كذا وحمل كذا، ويعين ويحدِّد أسماء لم تثبت عن الله ولا عن رسوله صلى الله عليه وسلم، ومن الغرائب العجائب أن بعضهم يقول: لما أركب نوح الأسد في السفينة وأركب الفأر خاف الناس وقالوا: يا نوح إن الفأر يفسد علينا طعامنا، فأوحى الله إلى الأسد أن اعطس فعطس الأسد، فخرجت من منخاره هرة فخاف الفأر واختبأ، وقال الناس: يا نوح، إنا نخاف من الحيوانات المتوحشة فألقى الله عليها الحمى... إلخ. فهذه حكايات وخرافات لا يثبت مثلها عن الله ولا عن رسوله صلى الله عليه وسلم، وينبغي للمسلمين أن يترفَّعوا عن إيراد مثل هذه الخرافات، ولا ينبغي للإنسان أن يتكلَّم عن الله أو عن رسول من رسله إلا بعلم وبيِّنة، ولا نكون كأهل الكتاب الذين ﴿ يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾ [آل عمران: 78]، وقد أعدَّ نوح سفينته من الخشب والمسامير، وفي ذلك يقول الله عز وجل: ﴿ وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ ﴾ [القمر: 13]؛ أي: على سفينة مكونة من الخشب والمسامير، فالدسر جمع دسار وهو المسمار، وقد علمهم الله عز وجل أنهم عندما يركبون السفينة يبدؤون بحَمْد الله وشكره؛ حيث يقول الله عز وجل: ﴿ فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴾ [المؤمنون: 28]، وقال نوح لهم: ﴿ وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ * وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ * قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ ﴾ [هود: 41 - 43]. وهذا تنبيه إلى أنَّ قلوب العباد بيَدِ الله لا يملكها نبيٌّ مرسَل ولا ملَك مقرَّب، ولا يُصرفها حيث يشاء إلا الله وحده؛ ولذلك كان من ذرِّية الأنبياء المؤمن والكافر؛ ولذلك يقول الله عز وجل في إبراهيم وإسحاق: ﴿ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ ﴾ [الصافات: 113]، وقال في نوح وإبراهيم: ﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ ﴾ [الحديد: 26]، وقال عز وجل: ﴿ وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ﴾ [البقرة: 124]. وقد استقرَّت سفينة نوح على الجودي بعد أن قيل: ﴿ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ ﴾ [هود: 44]، والجودي عند أكثر أهل العلم جبل، وأنه في الجزيرة بالعراق، وبعضهم يقول: هو في جبال أرارات التي تقع فيما يسمى الآن بالاتحاد السوفيتي: ﴿ وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ * قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ * قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ [هود: 45 - 47] وهذا المقام من نوح عليه السلام صدر عن ظنٍّ منه أن قوله: ﴿ احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ ﴾ [هود: 40] أن ولده من أهله، فبيَّن الله أنه ليس من أهله؛ لأنه غير صالح، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم من حديث عمرو بن العاص: ((إن آل أبي - يعني فلانًا - ليسوا لي بأولياء، إنما وليي الله وصالح المؤمنين))، وقد فسَّر بعضُ الناس قوله: ﴿ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ ﴾ [هود: 46] على أنه ولد زنا؛ وهذا خطأ، فإنه لم تزن زوجة نبي قط، مع أنها قد تكفر بالله كزوجة نوح وزوجة لوط؛ ولذلك جاء في القراءة الأخرى: (إنه عمِل غيرَ صالح)، وهي تفسر قوله في القراءة الأولى: ﴿ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ ﴾ [هود: 46]، وكم من ولد يعقُّ أباه! وكم من رجل صالح يخرج من صلبه ولد فاسد! وما أجود قول حسان بن ثابت شاعر رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنه: أبوك أبٌ حُرٌّ وأمُّك حرَّةٌ وقد يلِدُ الحرَّان غير نجيبِ فلا يعجبنَّ الناسُ منك ومنهما فما خبَث مِن فضةٍ بعجيبِ ولما نبَّه الله عز وجل نوحًا إلى حال ولده الكافر اعتذر نوح إلى الله عز وجل: ﴿ قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ * قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [هود: 47، 48]، سلام على نوح في المرسلين. وإلى الفصل القادم إن شاء الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار أصبح المسلمون في المدينة قسمين: أ - المهاجرون، وهم المسلمون الأوائل من أهل مكة الذين هاجروا من مكة إلى المدينة نتيجة اضطهاد المشركين لهم، وتركوا ديارهم وأموالهم، ولا يمنع أن يكون قد هاجر معهم عدد ممن أسلم مِن غير أهل مكة. ب - الأنصار، وهم أهل المدينة من الخزرج والأوس الذين أسلموا وبايعوا النبي صلى الله عليه وسلم في العقبة على الإيواء والنصرة لإخوانهم المسلمين المهاجرين. وقد آخى النبي صلى الله عليه وسلم فيما بينهم من أجل تقوية الصف الداخلي وإيجاد مأوى لائق للمهاجرين، بحيث يضم كل أنصاري إلى بيته رجلًا أو أسرة من المهاجرين بقوله: ((تآخوا في الله أخوينِ أخوين))، وتمت العملية بروح الأخوَّة والمحبة التي فاقت كل تصور، قال السهيلي: آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أصحابه حين نزلوا المدينة؛ ليُذهِب عنهم وحشة الغربة، ويؤنسهم من مفارقة الأهل والعشيرة، ويشد أزر بعضهم ببعض، ولقد رفع القُرْآن الكريم من قيمة هذه المؤاخاة إلى حد التوارث بين المتآخيينِ؛ قال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾ [الأنفال: 72]، يقول ابن كثير في تفسيره: ﴿ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ﴾ [الأنفال: 72]؛ أي: كل منهم أحق بالآخر من كل أحد؛ ولهذا آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار، كل اثنين أخوان، فكانوا يتوارثون بذلك إرثًا مقدمًا على القرابة، حتى نسخ الله تعالى ذلك بالمواريث: ﴿ وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ [الأنفال: 75]. وبعد الاستقرار وانطلاق المهاجرين إلى العمل والجهاد عاد التوارث حسب القرابة مع بقاء الأخوَّة والمحبة بين المسلمين ورباطهم بها بقوله تعالى: ﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ﴾ [الحجرات: 10]، وأخرَج البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ﴿ وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ... وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ ﴾ [النساء: 33]، قال: كان المهاجرون حين قدموا المدينة يرث الأنصاريُّ المهاجريَّ دون ذوي رحمه؛ للأخوَّة التي آخى النبي صلى الله عليه وسلم بينهم، فلما نزل: ﴿ وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ ﴾ [النساء: 33]، قال: نسخَتْها: ﴿ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ ﴾ [النساء: 33]، والروايات تعددت في كتب السنة، وكلها عن ابن عباس، وأخرج ابن سعد والحاكم وصححه عن الزبير بن العوام قال: أنزل الله فينا خاصة معشر قريش: ﴿ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ ﴾ [الأنفال: 75]، وذلك أنا معشر قريش قدمنا ولا أموال لنا، فوجدنا الأنصار نعم الإخوان، فواخيناهم ووارثناهم فآخونا، فآخى أبو بكر خارجة بن زيد، وآخى عمر فلانًا، وآخى عثمان بن عفان رجلًا من بني زريق، قال الزبير: وآخيت أنا كعب بن مالك ووارثونا ووارثناهم، فلما كان يوم أحد قيل لي: قد قتل أخوك كعب بن مالك، فجئته فانتقلته فوجدت السلاح قد ثقلته فيما يرى، فوالله يا بني لو مات يومئذ عن الدنيا ما ورثه غيري، حتى أنزل الله هذه الآية فينا معشر قريش والأنصار، فرجعنا إلى مواريثنا، ويعني بها: ﴿ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ ﴾ [الأنفال: 75].
الكتاب الذي لا أنسى فضله [1] العلامة السيد أبو الحسن الندوي رحمه الله يتحدث العلامة السيد أبو الحسن رحمه الله في مقاله هذا عن كتاب " رحمة للعالمين "، الذي كانت منَّتُه عظيمة عليه، وإنه لا يزال دائم الترحُّم على صاحبه، كيف، وقد أتحفه بمِنحة المحبة التي هي أغلى المنح بعد الإيمان؟ وإن السبب الأكبر في ذلك - كما يقول العلامة نفسه - هو أخوه الأكبر السيد عبدالعلي الحسني، الذي تولى تربيته وتثقيفه؛ فقد كان رحمه الله ينظر في الكتب، ويقدم إلى أخيه للمطالعة، حتى تربى بذلك على إكثار القراءة، وبخاصة فيما يتعلق منها بالسيرة، وهكذا نشأ في صغره على حب السيرة النبوية الذي هو المؤثر الأكبر في تكوين العقيدة والسلوك والأخلاق. يبدأ السيد مقاله بحكاية عن كتاب في السيرة، وما جرى له ولوالدته الكريمة في شرائه، فقد وقع بصره مرة على كتاب في فهرس الكتب، فأرسل طلبًا للشراء، وتقصرت ميزانيته القليلة عن ذلك، لكن الصغار ينساقون مع العواطف والأحاسيس، بدل أن يخضعوا لقانون الميزانيات، فلم يَرَ شفيعًا في هذه المهمة إلا شفيع الدموع والبكاء، الذي طالما يلجأ إليه الصغار، ولم يزل وجيهًا ومسموعًا عند الكبار، وكذلك كان، فرقَّ له قلب أمه الحنون، ووافقت على شراء الكتاب. ثم يخوض الكاتب في صفحات الكتاب، ويمر بقصصها التي تهز القلب هزة رقيقة رفيقة، ولا عنيفة مزعجة، ويهتز لها القلب، وهذا هو الفارق بين هزة سائر الكتب، والكتب التي أُلِّفت في سيرة خير البشر صلى الله عليه وسلم، فالأُولى تغير على القلب وتزعجه، والثانية تريح القلب وتسكنه. إن القارئ لما يطالع كتب السيرة، يشعر بلذة عجيبة تختلف عن سائر اللذات؛ فلا تشبه لذة الطعام بعد الجوع المهلك، ولا لذة الثروة والمال بعد الفقر المنسي، ولا لذة الراحة والفراغ بعد الدراسة المضنية والاشتغال المرهق، ولا لذة الثوب الجديد في يوم العيد، ولا فرح الانتصار والظفر في الاختبارات، بل إنها لذة يعرف طعمها، ولا يمكن وصفها بدقة، ولا التعبير عنها بكلمة. يتصفح المؤلف رحمه الله أوراق الكتاب، ويرى فيها حياة الأبطال الذين آثروا الأخرى على العقبى، فضحُّوا بالدنيا في سبيل الآخرة، وبالأنفس في سبيل الدعوة، والذين تنهال عليهم أنواع العذاب في سبيل الدعوة؛ فمنهم من يضرب، ومنهم من يضطهد، ومنهم من يُهان، لكنهم يتحملون كل ذلك في صبر وثبات، بل في لذة وسرور، وذلك تجعل النفوس تتمنى، وتسعد بهذه الكرامة، ولو مرة في العمر. يعُجِب الكاتب شاب ناعم من قريش؛ حيث يسلم فيفدي كل ما يملك من العيش الناعم، واللباس الفاخر، والطعام الأنيق، والقصر الشامخ، ويراه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يتخشن في اللباس، ويتقشف في المعيشة، ويمسك رداءه بالشوك، فيدمع هذا المنظر عين رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا الشاب هو مصعب بن عمير، فتى الفتيان، ومثال الترف في اللباس، والبذخ في المعيشة، حتى يصبح حديث الوادي، لكنه صار إلى أن استُشهد رضي الله عنه، ولم يخلف إلا كساء واحدًا، يقرأ الكاتب هذه الحكاية، ويعرف أن وراء كل هذه النعم لذة ترغب فيها القلوب السليمة، ويجهلها أصحاب اللذات والشهوات، وحاجة تطمح إليها همم الأبطال، ويتقاصر عنها الأثرياء والملوك. يتابع العلامة القراءة بالهدوء والسكون، واللذة والسرور، حتى يمر بقصة الهجرة، تلك القصة التاريخية التي يرتسم منظرها في النفوس والذاكرات، وما أجملها من قصة في الصدق والبساطة، والحب والإخلاص! ينتظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إذن ربه، فيؤذن له، وينطلق مع حبيبه وخليفته أبي‌ بكر الصديق رضي الله تعالى عنه إلى المدينة المنورة، وقد تعلقت بهما القلوب، وطمحت إليهما الأبصار، ورغبت فيهما الأنفس، يدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، فيتقدم إليه الأنصار فردًا فردًا، وقبيلة قبيلة، كلٌّ يقول له في صدق وإخلاص: "هلم إلينا يا نبي الله" وما أجمل هذا المنظر! لكنه يأبى، ويأبى الله أن يكون هذا الشرف - الذي ليس فوقه شرف - لأحد سوى أبي أيوب الأنصاري وأهله رضي الله تعالى عنهم، يقرأ كل هذه القصة، ويجد قلبه قد فارقه، ورافق ركاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكأنه يشاهد هذا المنظر بعينيه، ويجد أن كل ما عرفه من الحب والإخلاص من بشرٍ لِبَشَرٍ، قد ذاب وغاب في هذا المشهد. وأخيرًا يحكي رحمه الله غزوة أحد التي تمثل الحب والوفاء، والبطولة والشجاعة، والإيمان واليقين، فيهزه قول من قال: "إني لأجد ريح الجنة من دون أُحُدٍ"، ويعجبه الذي يجود بنفسه، وهو في آخر عهده بالدنيا، لكنه يشتاق إلى رؤية رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيُحمل إليه، ويلفظ نَفَسَه الأخير بين قدمي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويسره أيضًا ذلك الشجاع الذي يترس نفسه أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيدافع عنه مقابل السهام، وهو منحنٍ عليه، إلى غير ذلك من مظاهر البطولة والشجاعة والتفاني، يقرأ المؤلف هذه المشاهد العظيمة، وقد يغلبه الحزن والبكاء، فيبكي، وقد يملكه السرور والفرح، فيفرح. كما لا ينسى الكاتب الحسنة التي أحسنها إليه الكتاب وصاحبه المخلص بإثارة الحب الكامن في القلب، وتوجيهه إلى خير البشر الذي فُطِر على الحسن والإحسان، والصداقة والإخلاص؛ فالحب هو محصول الحياة ولب اللباب، ولا لذة في الحياة دونه؛ وقد صدق القائل وأجاد في قوله: "إن الحب هو الحب الوحيد في العالم، وكل ما عداه تبن وحشيش"، وكذلك صدق من قال: "قاتل الله اليوم الذي مضى، ولم أذق فيه الحب، ولا بارك الله في الساعة التي مضت، ولم أشعر فيها لذة الحب". إن الحب شيء امتاز به مَن امتاز مِن الناس بين أقرانهم، وعاش به مَن عاش مِن الناس عيشة راضية، وهو القوة التي إذا ملكها الرجال، قهروا الأمم، وإذا ملكته الأُمَّة، قهرت العالم، لكن الأمة في العصر الذي نعيش فيه، ملكت مالًا طائلًا وجاهًا عريضًا، وأفلست في إكسير الحياة؛ فأصبحت جسدًا ميتًا يُحمل على الأكتاف، والأسف كل الأسف أن الطبقة العصرية المتعلمة التي تعلقت بها الآمال، وطمحت إليها الأبصار، أصبحت أكثر إفلاسًا، وأضعف مقاومة، وأجف روحًا، وأكدر حياة، وأضل عملًا، وأخف وزنًا. هذا، ويُتِمُّ الكاتب رحمه الله مقاله بالشكر لصاحب الكتاب، ولا غرو؛ فقد أهداه نعمتين عظيمتين لا مثيل لهما بعد نعمة الإسلام؛ هما: نعمة الحب، ونعمة هدفه الصحيح، ويا لهما من نعمة! [1] عنوان المقال الأول من كتاب "الطريق إلى المدينة"؛ للداعية المفكر السيد أبي الحسن الندوي رحمه الله.
السيدة عائشة أم المؤمنين وحبيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم (٢) ولادة السيدة عائشة: في بيت العفاف والطهارة، والتقوى والإيمان؛ بيت الصديق الأكبر، وُلدت سيدة الطهر عائشة رضي الله عنها، وكانت ولادة عائشة بعد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم قطعًا؛ فقد صح عنها أنها قالت: ((لم أعقل إلا وأبواي يدينان بهذا الدين))؛ فهي ممن وُلد في الإسلام، وفي ظل أسرة مؤمنة مسلمة، فلم تعبد إلا الله، ولم تسجد إلا له سبحانه، وقد اختُلف في ميلاد السيدة عائشة رضي الله عنها؛ فذهب الحافظ ابن حجر في كتابه (الإصابة) إلى أنها وُلدت بعد البعثة بأربع سنين أو بخمس، إلا أن الحديث الصحيح الذي رُويَ عن عائشة رضي الله عنها؛ وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم: ((تزوجها وهي بنت تسع، ومات عنها وهي بنت ثماني عشرة سنة))، يجعل تاريخ مولدها قبل الهجرة بسبع سنين؛ لأنه معلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم بنى بالسيدة عائشة في شوال من السنة الثانية للهجرة، وهي بنت تسع كما قالت هي رضي الله عنها، ومات وهي بنت ثماني عشرة سنة، فعُلِم بهذا أن الراجح أنها وُلدت في السنة السابعة قبل الهجرة، والله أعلم. نشأة السيدة عائشة: عاشت عائشة رضي الله عنها سِنِيَّ طفولتها الأولى، والظروف في مكة مضطربة، والمحن والشدائد هي الغالبة؛ فلقد كانت تلك السنوات من أصعب السنوات على الإسلام وعلى الدعوة؛ من حيث الاضطهاد والتعذيب الذي نتج عنه هجرتا الحبشة الأولى والثانية، وحصار بني هاشم، ولا ريب أن آل أبي بكر- وأعظمهم عائشة - كانوا يشعرون بتلك الشدائد والمحن باعتبار مكانة أبي بكر في الدعوة والإسلام، وقد بلغت الشدة مبلغًا دفعت أبا بكر للتوجه نحو الحبشة مهاجرًا فارًّا بدينه، لولا أن ثَنَاه بعض سادات قريش، وأعاده إلى مكة؛ لمكانة الصديق في قبيلته. وفي ظل هذه الأجواء نشأت السيدة عائشة، وتفتحت مداركها، وبدأت تنضج في ظروف قاسية، وأحوال عاتية، ومن خلال تتبع الروايات، نرى أن طفولة السيدة عائشة كانت جميلة؛ فقد كانت رضي الله عنها تحب اللعب، ولها صواحب تلعب معهن، ولها أرجوحة تلعب عليها، ولا عجب؛ فقد تربَّت في بيت رجل رؤوف رحيم، أسِيف بكَّاء، وحتى بعد زواجها من النبي الأعظم صلى الله عليه وسلم استمرت باللعب مدة من الزمن مع أترابها اللواتي كان يسمح لهن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالدخول إلى السيدة عائشة، ثم يخرج، ويبدأن باللعب؛ وتروي لنا هذا السيدة عائشة فتقول كما في سنن أبي داود: ((كنت ألعب بالبنات وأنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان يسرب إليَّ صواحباتي يلاعبنني))، وكان يمازحها رسول الله صلى الله عليه وسلم أحيانًا حين يراها تلعب؛ فقد سألها مرة عن اسم لعبة بيدها، فقالت له: ((خيل سليمان ولها أجنحة))، فضحك صلى الله عليه وسلم، وقد استفادت عائشة رضي الله عنها من هذا النهج النبوي الرحيم فيما بعد؛ فكانت تعلِّم الناس فتقول: "فاقدروا قدر الجارية الحديثة السن تسمع اللهو"؛ كما في سير أعلام النبلاء للحافظ الذهبي. زواج الحبيب المصطفى من السيدة عائشة: كتب الله لعائشة رضي الله عنها السعادة الأبدية، والنعيم السرمدي في الدنيا والآخرة؛ فهي في الدنيا من الصالحات، وفي الآخرة من سيدات أهل الجنة، وحتى تتم هذه السعادة وحتى تنال السيدة عائشة شرف الدنيا والآخرة، شاء الله بحكمته أن تتزوج من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويلحق اسمها باسمه، وتصبح من سيدات البيت النبوي الكريم، ولم يكن زواج النبي صلى الله عليه وسلم من السيدة عائشة صدفة أو بلا سبب، بل كانت العناية الإلهية تدفع باتجاه هذا الزواج الميمون المبارك، وكانت بداية الخِطبة بوحيٍ من الله العليم الخبير؛ فقد أخرج الشيخان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال لعائشة رضي الله عنها: ((أُريتُكِ في المنام ثلاث ليالٍ، جاءني بك الملك في سَرَقة من حرير، فيقول: هذه امرأتك، فأكشف عن وجهها، فإذا أنت هي، فأقول: إن يكُ هذا من عند الله، يُمْضِه)), وفي حديث حسن أخرجه الترمذي وفيه: ((أن جبريل جاء بصورة السيدة عائشة في خرقة حرير خضراء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: هذه زوجتك في الدنيا والآخرة)). ومعلوم أن رؤيا الأنبياء وحي، ويتضح مما سبق مكانة السيدة عائشة الرفيعة، وجلالة قدرها عند ربها، وكيف لا وقد تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم بوحي من الله، والله لا يختار لنبيه وخليله إلا الخير العظيم؟ وأي خير أعظم من السيدة الجليلة عائشة رضي الله عنها؟ لقد كانت السيدة عائشة رضي الله عنها قد تكلم فيها المطعم بن عدي يريدها لابنه، ولكن الله أرادها أن تكون زوجة وحبيبة للمصطفى صلوات ربي وسلامه عليه، وأمًّا للمؤمنين، وكفى به شرفًا، ولنسرد الآن شيئًا من تفاصيل الخِطبة والزواج. ١-الخطبة الميمونة: توفيت السيدة خديجة بنت خويلد رضي الله عنها في السنة العاشرة للبعثة، وهي زوجة النبي صلى الله عليه وسلم الأولى، وأم أولاده، ما عدا إبراهيم، وبعدها بمدة شاء الله أن تتم هذه الخِطبة وهذا الزواج، فخطب النبي صلى الله عليه وسلم السيدة عائشة، وهي بنت ست سنين، ثم بنى بها وهي بنت تسع سنين؛ كما ثبت ذلك في الصحيح من عدة روايات؛ تقول السيدة عائشة رضي الله عنها: ((لما ماتت خديجة جاءت خولة بنت حكيم فقالت: يا رسول الله ألا تتزوج؟ قال: ومن؟ قالت: إن شئت بكرًا، وإن شئت ثيبًا، قال: من البكر؟ ومن الثيب؟ قالت: أما البكر، فعائشة ابنة أحب خلق الله إليك، وأما الثيب فسودة بنت زمعة، قد آمنت بك واتبعتك، قال: اذكريهما عليَّ، قالت: فأتيت أم رومان - والدة السيدة عائشة - فقلت: يا أم رومان، ماذا أدخل الله عليكم من الخير والبركة؟ قالت: ماذا؟ قلت: رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر عائشة، قالت: انتظري؛ فإن أبا بكر آتٍ، فجاء أبو بكر فذكرت له ذلك، فقال: أتصلح له وهي ابنة أخيه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنا أخوه وهو أخي، وابنته تصلح لي، فقام أبو بكر، فقالت لي أم رومان: إن المطعم بن عدي كان قد ذكرها على ابنه، والله ما أخلف وعدًا قط، قالت: فأتى أبو بكر المطعم، قال: ما تقول في أمر هذه الجارية؟ قال: فأقبل على امرأته فقال: ما تقولين؟ فأقبلت على أبي بكر فقالت: لعلنا إن أنكحنا هذا الفتى إليك تدخله في دينك، فأقبل عليه أبو بكر فقال: ما تقول أنت؟ قال: إنها لتقول ما تسمع، فقام أبو بكر وليس في نفسه من الموعد شيء، فقال لها: قولي لرسول الله صلى الله عليه وسلم فليأتِ فجاء فملكها))؛ [حسَّن الذهبي إسناد هذا الحديث في كتابه (تاريخ الإسلام)]. وبعد الخطبة لم يتزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم عائشة مباشرة، بل بنى بها بعد الخطبة بنحو ثلاث سنين، عندما نضجت رضي الله عنها، واستراح رسول الله صلى الله عليه وسلم قليلًا بعد انتصار بدر العظيم. وفي مدة الخِطبة هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه الصديق والمسلمون إلى يثرب التي أصبحت تسمى مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتسمى "طيبة"، زادها الله طيبًا، وكانت السيدة عائشة في بيت أبيها، وقد تخلفت مع آل أبي بكر وبنات النبي صلى الله عليه وسلم ينتظرن أن يرسل لهن النبي صلى الله عليه وسلم من يأخذهن إلى طيبة الخير، وقد بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة وأبو رافع ليقوما بهذه المهمة، وبعث أبو بكر الصديق معهما عبدالله بن أريقط الليثي؛ دليل الهجرة. وعندما دخلوا إلى مكة وجدوا الصحابي الجليل طلحة بن عبيدالله يريد أن يصطحب معه آل أبي بكر فصادف خروجهم جميعًا، وكان المهاجرون في هذه القافلة هم: السيدة عائشة، والسيدة فاطمة الزهراء، والسيدة سودة، والسيدة أم كلثوم، والسيدة أم رومان، والسيدة أسماء، بالإضافة إلى عبدالله بن أبي بكر، وطلحة بن عبيدالله؛ [انظر سير أعلام النبلاء؛ ففيه التفصيل الكافي]. ٢-الزواج العظيم: بعد الانتصار الكبير في غزوة بدر الكبرى التي كانت فرقانًا بين الحق والباطل، وبين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان، تلك المعركة العظيمة التي ابتلعت فيها سيوف عمر وعلي وحمزة رؤوس عتبة وأبي جهل وأمية بن خلف، بعد هذه المعركة عمَّت في المدينة المنورة أجواء الفرح والسرور والبهجة، وكيف لا؛ وقد قال تعالى: ﴿ قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا ﴾ [يونس: 58]؟ وعندها رأى النبي صلى الله عليه وسلم أن الوقت صار مناسبًا للبناء بأحب خلق الله إليه، وأكرم زوجاته عنده، وفي شهر شوال من السنة الثانية للهجرة تم هذا الزواج المبارك، فأحبت عائشة رضي الله عنها هذا الشهر الذي أصبح شاهدًا على أعظم حدث في تاريخ السيدة، وأصبح شاهدًا على اقتران عائشة بالنبي صلى الله عليه وسلم؛ ليتم الله ما أوحاه إلى نبيه عليه الصلاة والسلام؛ حين أرسل له جبريل قائلًا: ((هي زوجتك في الدنيا والآخرة)). وكان مهر السيدة عائشة رضي الله عنها خمسمائة درهم؛ كما ثبت في صحيح مسلم من حديث أبي سلمة بن عبدالرحمن، وكان وليمة العرس وليمة لطيفة، ليس فيها تكلف ولا بذخ، واشتركت نساء الأنصار والمهاجرين في تجهيز عائشة رضي الله عنها لإدخالها على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان فيمن جهزها أسماء بنت يزيد الأنصارية، وأُدخلت السيدة عائشة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وتم هذا الزواج العظيم في شهر شوال من السنة الثانية للهجرة قبل وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم بتسع سنين، وعمر السيدة عائشة رضي الله عنها تسع سنوات، وعاشت أكرم سيدة في خير بيت عند أفضل خلق الله كلهم، وأحبها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصارت أحب الخلق إليه، ونهلت من الصفاء النبوي، فأصبحت سيدة عالمات الإسلام بلا منازع، تم هذا الزواج فكان أحسن زواج عرفه التاريخ، جمع الله فيه بين أكرم رجل وأطيب امرأة، وقد مدح الله هذا الزواج فيما بعد فقال: ﴿ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ ﴾ [النور: 26]، تم هذا الزواج فاستحقت عائشة رضي الله عنها أن تكون أمًّا للمؤمنين، وسيدة للبيت النبوي، وجميعنا نفتخر ونتباهى بأن عائشة أمُّنا، وأكرِم بها من أمٍّ رضي الله عنها وأرضاها! حجرة عائشة منبع الفضل ومهبِط الوحي: أسكن النبي صلى الله عليه وسلم زوجته الجليلة السيدة عائشة في حجرة ملاصقة للمسجد، وكان بابها باتجاه المسجد، وقد أصبحت هذه الحجرة تعرف باسم (مهبط الوحي)؛ لكثرة ما نزل فيها الوحي على قلب النبي الأمين صلى الله عليه وسلم، وما كان ينزل الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في فراش واحدة من زوجاته الطاهرات، إلا وهو في فراش عائشة الطاهرة رضي الله عنها، وهذا مما فضَّل الله به عائشة التي جمع الله فيها ما لم يجمع في غيرها. ردود على أباطيل: وبعد أن تحدثنا عن زواج النبي صلى الله عليه وسلم من السيدة عائشة رضي الله عنها، لا بد من التعريج قليلًا للرد على بعض السفهاء ممن لا دين لهم، ولا خَلاق، ولا ثقافة، ولا فَهم، ﴿ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا ﴾ [الفرقان: 44]، من العلمانيين والتنويريين والمتخلفين عقليًّا، الذين يطعنون في سن زواج عائشة رضي الله عنها، فتارة يكذبون الروايات الصحيحة التي قدمناها، بحجة أن عقولهم لا تقبلها، وهل لهم عقول أصلًا؟ وتارة يطعنون في النبي صلى الله عليه وسلم - والعياذ بالله من ذلك - ويتوصلون إلى الطعن في الإسلام، وهذا مبتغاهم، أخزاهم الله، ويتجاهل هؤلاء السفلة اختلاف الزمان، وطبيعة المكان؛ فالأماكن الحارة تنمو فيها المرأة بسرعة، وكان من عادة العرب في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم تزويج بناتهم في هذه السن؛ لأنها سن البلوغ في جزيرة العرب؛ فهذا علي بن أبي طالب رضي الله عنه قد زوَّج ابنته أم كلثوم - حفيدة رسول الله صلى الله عليه وسلم - من عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهي ابنة عشر سنين، والأمثلة كثيرة لا تُحصى؛ فهذه عادة العرب آنذاك، ومعلوم عن السيدة عائشة أنها قالت: ((تحيض المرأة لتسع سنين))، فسن التاسعة في جزيرة العرب يومها هو سن البلوغ، وعنده تتزوج البكر، وتنتقل إلى حياة جديدة، والحق أن هؤلاء السفهاء أقل من أن ينشغل الإنسان بالرد عليهم، فما هم إلا ذباب وقع على جبل، ولكن أقول هذا تتمة لبحث هذا الزواج المبارك. وفي مقالة قادمة نكمل ما تبقى من سيرة السيدة عائشة رضي الله عنها، ونتحدث عن حياتها في المدينة، وحادثة الإفك، ووفاة زوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم وغير ذلك. وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا، والحمد لله رب العالمين. المصادر والمراجع: ١- كتاب السيدة عائشة أم المؤمنين وعالمة نساء الإسلام؛ عبدالحميد طهماز. ٢- صحيح البخاري؛ الإمام محمد بن إسماعيل البخاري. ٣- صحيح مسلم؛ الإمام مسلم بن الحجاج. ٤- سنن أبي داود؛ الإمام سليمان بن الأشعث. ٥- سنن الترمذي؛ الإمام الترمذي. ٦- سنن ابن ماجه؛ الإمام محمد بن يزيد. ٧- صحيح سنن النسائي؛ الإمام الألباني. ٨- صحيح سنن ابن ماجه؛ الإمام الألباني. ٩- سير أعلام النبلاء؛ الحافظ الذهبي. ١٠- تاريخ الإسلام؛ الحافظ الذهبي. ١١- الإصابة في تمييز الصحابة؛ الحافظ ابن حجر العسقلاني.
الشاي الأخضر وفوائده الشاي الأخضر، ويُقال الأتاي أو تيه. هو صيني الأصل، وعالمي الشهرة، وسوداني اللون، وحلالي الشرب. لا زمان له، ولا وقت له، ولا مكان له، يُشرب في الليل والنهار، والصيف والشتاء، يحبه العالم والجاهل، والكبار والصغار، والرجال والنساء. زاده الماء والسكر والنعناع، وإن زِيد فيه الزنجبيل والقرنفل، صار عذبًا سلسبيلًا. شاربه لا يملُّ ولا يَسمن، ولا يضرُّه ولا يطغيه، الغني والفقير فيه سواء. من أسراره أنه يجمع بين المكرهين في مجلس واحد، وينشط الذاكرة والجسم، ومتى هيَّأته أتى إليك الناس أفواجًا أفواجًا، ويفتح باب الحوار بين الناس، ويطوِّل حديث المجلس، ومن أراد السهر فعليه به، أو جلب الزبائن فليهيئه في باب محله؛ فسيرى العجب العُجاب. ومن أسراره أن المرأة التي تريد أن تصير كالحور العين أمام أعين زوجها، فلا تنسَ من تهيئة الأتاي، وإن زوَّدت نفسها بالزنجبيل والقرنفل؛ يُخشى أن تُتهم بالساحرة. والشاي الأخضر يُطبخ في البيوت والشوارع والإدارات. جعل الله فيه بركة، وشهرة، ومحبة، حتى قلَّ مبغضوه، وما سمعت له عدوًّا قطُّ. كل يوم تزداد أسماؤه، ومحبوه، ومشتروه، وبائعه. فأوَّله انشراح صدر، وثانيه طمأنينة القلب، ومن زاد الثالث فلا يضيق صدره، ولا يندم شاربه طوال يومه. وقد ذمَّ أقوام شرب الأتاي، فردَّ عليهم العلامة الشيخ محمد بن عمر دكوري المرجي المالي بأبيات: أما (الأتا) فإنَّه زُلال وورق وسكر حلال ومن قضى بمنعه يعلل بهيئة رماها النُّبل وقيل فيه إنه شفاء لذي الوضوء خوَّفه الشتاء وأهله قالوا به فوائد والله أعلم تعالى الواحد تنافسوا في شربه، وإن لم تشربوه فكونوا من الساقين له، وحبِّبوا الناس إليه عبر القنوات الفضائية والإذاعات، ومواقع التواصل الاجتماعي، وأقيموا المحاضرات والخطب، تنالوا لذته الحقيقي. هذه نصائح لكم فعضَّوها بنواجذكم؛ فإني لكم ناصح أمين، ورحم الله امرأً حُرم شربه، وأقرَّ الله عين من يشربه في اليوم ولو مرة واحدة.
ابن حزم الظاهري في دائرة النقد كثُرَ الحديث عن ابن حزم الظاهري عند المُعاصرة، فقوم انتقصوا من حقِّه، وآخرون غالوا فيه فأعلوه فوق حقِّه؛ الأمر الذي دعاني إلى أن أكتب مقالًا وجيزًا موضوعيًّا نقديًّا في حال ابن حزم، وها هو بين أيديكم:- يقولون ابن حزم! وأنا أقول: وهل في دُنيا الناس- في زمانه- كابن حزم؟ ! فابن حزم هو أعجوبة من أعاجيب الزمان، والذي ملك رجاحة عقلٍ لها كعب عالٍ بين الذين تميَّزوا بها عبر تاريخ البشرية، وحيدُ دهره، صاحبُ التصانيف، والذي لم يطرقُ فنًّا إلا وألَّف فيه بمُصنَّفٍ غزا به المكتبة التراثية فاحتلَّ مكانًا فيها لا يسدُّهُ غيره حتى (الحُب) قد تفنَّن في مسالِكه. ابن حزم صاحب المنهج العلمي المُعتبر في جُلِّ العلوم، نؤمنُ بمنهجهِ، ونعتبرهُ كأحد المناهج العلمية المطروقة قديمًا، وننتقدهُ ولا نُغالي فيه، فنقول: صاحب مذهب! فالظاهرية برُمتها ليست مذهبًا فقهيًّا على الحقيقة؛ بل تُعَدُّ أحد المناهج المطروقة للمدرسة الحديثية في الفقه والتي لا تنفكُّ عنها أبدًا . ابن حزم هو: الجمَّاع المُتفنِّن، والفاحص المُتمرِّس، لا ينبغي أبدًا أن يُقال عنه: "من الحزم ترك ابن حزم". أقول: أزعُم أنَّ خريطة المكتبة التراثية بأصولها وفروعها تستقرُّ في ذهني- بحمد الله وفضله ومنَّته- فجُد عليَّ - أيها الناقد اللاذع لابن حزم- ببدائل لما سأكتب الآن وقلمي لم يترك لك شفرة إلا وقضى عليها حالًا ووقتًا : 1- في الفقه الإسلامي أعطني بديلًا عن (المُحلَّى) ليحل محلهُ. 2- في الأصول أعطني بديلًا عن (الإحكام في أصول الأحكام) في إيجازه وجمعه الحافل عدا مبحث ي (القياس) و(الأمر المطلق). 3- في الإجماع أعطني بديلًا موسعًا لـ (مراتب الإجماع) عدا مورده لابن المنذر النيسابوري. 4- في العقائد سطِّر لي بديلًا عن (الفِصل في الملل والنحل) عدا (المِلل والنِّحل) للشهرستاني. 5- في الأنساب انفض المكتبة التراثية فلن تجد في هذه الواحة -الخاصة بالأنساب- إلا القليل ومنها (جمهرة أنساب العرب) لابن حزم. 6- في الأدب- قديمًا وحديثًا- هل ترى مثل (طوق الحمامة) و(الأخلاق والسير)؟ يا هذا، ابن حزم سطَّر مؤسسةً علميةً مُتكاملةً لا ينكرها أو ينتقص منها أبدًا إلا الجاحد أو الجاهل بها. أما وإن سألتني عن الصنعات العلمية لديه أجبتك بموضوعية تامة، وسأفصلها لك على النحو المُدرج :- (1) الصنعة الفقهية: ما أعتقده في ابن حزم أن له منهجًا فريدًا تميَّز به في (مدرسة أصحاب الحديث)، فلا تُعد أقواله مذهبًا خاصًّا؛ بل منهجًا خاصًّا وقد تأثَّر به كثيرًا (ابن تيمية) وعلا كعبهُ على أكتاف ابن حزم، فمن جعل لابن حزم مذهبًا فقهيًّا ومن تركه وشذذه، كلاهما لم يفرقا بين (المذهب والمسلك والمنهج) فابن حزم له منهج فقهيٌّ يُعدُّ أحد مناهج مدرسة الحديث في الفقه لا أقل ولا أكثر. (2) الصنعة الحديثية: إن حصرنا الصنعة الحديثية كما أعتقد أنا من خلال دراساتي الحديثية- فعندي تكمُن الصنعة الحديثية في (العلل) و(المختلف) و(المشكل) ودونها فالجميع سواء- قلت: ابن حزم ليس له صنعة حديثية تُذكر؛ لكنه من أعلام المحدثين بالمفهوم المتداول بين أصحاب الحديث من لدُن المتأخرين إلى يومنا هذا. (3) الصنعة الأدبية: لا شك ولا ريب أن ابن حزم أديب مغوار امتلك أدوات الأدب وسخَّرها في جُلِّ كتاباته حتى في مُنازعاته وخصوماته. (4) الصنعة العقدية: أما عن الصنعة العقدية فلا أعلم قديمًا من سطَّر مثل (المِلل) للشهرستاني، و(الفِصل) لابن حزم وفي الفِصَل تكمن الصنائع العقدية لدى ابن حزم . (5) الصنعة اللغوية: أما عن الصنعة اللغوية فلا تحتاج إلى تبيين فحرفه وكلمه وقلمه يشهد وحبره لم يجفَّ بعد . (6) الصنعة السيرية: صنَّف الجوامع وأخذ عنه أقرانه ومن جاء بعده؛ حيث انتهج فيها منهجًا ماتعًا لم يُطرق من قبله، ويكفيه وروده لأسماء الصحابة الذين رووا الحديث، وما لكل واحد منهم من العدد، وهذا من الجديد على الكتابات السيرية وقتها . وأخيرًا حتى لا أُطيل: ابن حزم هو أحد الأقلام النيِّرة التي لم يجف مِدادُها من وقته إلى يومنا هذا، ولا تزال الدراسات البحثية تتناول مناهجه في العلوم، فلا ينبغي مقارنته بأقرانه أو بمن جاء بعده، أمَّا بمن كان قبله من الأئمة الأوائل فهو تلميذهم المُتمرِّد بلا أدنى ريب . هذا والله تعالى أعلى وأعلم.
من سير أعلام مسند الإمام [11] (صاحب سِر رسول الله صلى الله عليه وسلم) • إنه الصحابي الجليل حذيفة بن اليمان رضي الله عنه، صاحب المناقب العديدة، وقد اؤتُمن على سر رسول الله صلى الله عليه وسلم، في المنافقين. أخرج البخاري في صحيحه عن أبي الدرداء رضي الله عنه أنه قال لعلقمة: ((أو ليس فيكم صاحب سر النبي صلى الله عليه وسلم الذي لا يعلمه أحد غيره؟)). قال الحافظ ابن حجر: "والمراد بالسر ما أعلمه به النبي صلى الله عليه وسلم من أحوال المنافقين". وذات يوم التقى عمر بحذيفة رضي الله عنهما، فقال له: يا حذيفة، أنشدك الله، هل وجدت اسمي بين المنافقين؟ فقال: لا والله أنت أكرمنا، ولكن لا أزكي بعدك أحدًا. • وهو أيضًا أكثر الصحابة سؤالًا عن الشر خوفًا من أن يدركه، كما يروي عن نفسه، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ذكر له الفتن الكائنة في الأمة من بعده. وله موهبـة في قراءة الوجوه والسرائر، فعاش مفتوح البصر والبصيرة على مآتي الفتن، ومسالك الشرور ليتقيَها. • وكان والده حسل رضي الله عنه قد أصاب دمًا في قومه، فهرب إلى المدينة، وحالف بني عبدالأشهل، فسماه قومه اليمان لحلفه لليمانية؛ وهم الأنصار؛ ولذلك كان رضي الله عنه من المهاجرين والأنصار، ولم يشهد بدرًا، وقال رضي الله عنه: ((ما منعني أن أشهد بدرًا إلا أني خرجت أنا وأبي، فأخذَنا كفار قريش، فقالوا: إنكم تريدون محمدًا؟ فقلنا: ما نريد إلا المدينة، فأخذوا العهد علينا لننصرفن إلى المدينة ولا نقاتل معه، فأخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: نفِي بعهدهم، ونستعين الله عليه)). فلا معاهدة مع ظالم. • شهد حذيفة بعد ذلك مع أبيه أُحُدًا، فاستشهد يومئذٍ أبوه على يد المسلمين خطأ؛ روى البخاري رحمه الله من حديث عائشة رضي الله عنها، قالت: ((لما كان يوم أُحُدٍ هُزم المشركون فصاح إبليس: أي عباد الله أخراكم، فرجعت أولاهم فاجتلدت هي وأخراهم – أي: وهم يظنون أنهم من العدو - فنظر حذيفة فإذا هو بأبيه اليمان، فقال: أي عباد الله، أبي أبي، فوالله ما احتجزوا حتى قتلوه، فقال حذيفة: غفر الله لكم)). وبعد انتهاء المعركة علم الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك، فأمر بالدية عن والد حذيفة رضي الله عنهما، ولكن تصدق بها حذيفة رضي الله عنه على المسلمين، فازداد الرسول له حبًّا وتقديرًا. • ومن مناقبه أيضًا رضي الله عنه كانت بمعركة نهاوند؛ حيث احتشد الفرس في مائة ألف مقاتل وخمسين ألفًا، اختار أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه لقيادة الجيوش المسلمة: النعمان بن مقرن رضي الله عنه، ثم كتب إلى حذيفة رضي الله عنه أن يسير إليه على رأس جيش من الكوفة، وأرسل عمر للمقاتلين كتابه يقول: "إذا اجتمع المسلمون، فليكن كل أمير على جيشه، وليكن أمير الجيوش جميعًا النعمان بن مقرن، فإذا استُشهد النعمان فليأخذ الراية حذيفة، فإذا استُشهد فجرير بن عبدالله ... وهكذا استمر يختار قواد المعركة حتى سَمَّى منهم سبعة". والتقى الجيشان ونشب قتال قوي، وسقط القائد النعمان رضي الله عنه شهيدًا، وقبل أن تسقط الراية كان حذيفة رضي الله عنه يرفعها، وأوصى بألَّا يُذاع نبأ استشهاد النعمان حتى تنجلي المعركة، ودعا نعيم بن مقرن رضي الله عنه، فجعله مكان أخيه النعمان تكريمًا له، ثم هجم على الفرس صائحًا: الله أكبر، صدق وعده، الله أكبر، نصر جنده، ثم نادى المسلمين قائلًا: يا أتباع محمد، ها هي ذي جنان الله تتهيأ لاستقبالكم، فلا تطيلوا عليها الانتظار، وانتهى القتال بهزيمة ساحقة للفرس، وكان فتح همدان والري والدينور على يده رضي الله عنه. • مات رضي الله عنه بالمدائن سنة ست وثلاثين، وقد شاخ. نسأل الله أن يجمعنا معه وبصحبة المصطفى صلى الله عليه وسلم في جنات النعيم. ...................... مسند الإمام أحمد/ صحيح البخاري/ سير أعلام النبلاء/ الإصابة في تمييز الصحابة.
النمير الداني لشرح مقدمة ابن ابن أبي زيد القيرواني لوليد بن محمد بن عبدالله العلي صدر حديثًا كتاب: "النمير الداني لشرح مقدمة ابن أبي زيد القيرواني"، تأليف: أ.د. "وليد بن محمد بن عبد الله العلي" (ت 1438 هـ)، اعتنى به: "فايز بن متعب الديحاني"، قدم له: د. "محمد بن حمد الحمود النجدي" ود. "محمد محمدي النورستاني"، نشر: "دار ركائز للنشر والتوزيع". وهذا الكتاب يضم شرحًا على "مقدمة ابن أبي زيد القيرواني" في العقيدة، كان الشيخ "وليد العلي - رحمه الله - قد وضعه ضمن تعليقه على كتاب "قطف الجني الداني" للشيخ عبد المحسن العباد، وقد قام الشيخ بإتباع هذا الشرح بشرحه لمنظومة المتن الذي قام بنظمه الشيخ "أحمد بن مشرَّف الإحسائي المالكي" - رحمه الله - المتوفى سنة 1285 هـ، وجاء هذا التعليق لتوضيح النثر والنظم معًا، حيث أتى بلفظ سهل ميسور لطلبة العلم، وكان هذا ضمن شروحه للمقدمة، والتي يروى أنه شرحها ودرسها لطلابه قرابة المئة مرة، وذلك لسهولة تلك المقدمة، وإحاطتها بجميع مباحث العقيدة، حيث احتوى الكتاب على شرح لأصول الإيمان الستة التي جاء ذكرها في حديث جبريل - عليه السلام - عن الإسلام والإيمان والإحسان، فالأصل الذي اعتمد عليه الشارح هو كتاب الشيخ "العبَّاد"، والمتن يحتوي على الإيمان بالله وما له من الأسماء والصفات، وأن ذات الله لا تشبهها ذات، وكذلك صفاته، وأن الله ليس له شريك ولا صاحبة ولا ولد، وأنه مستو على عرشه استواءً يليق بجلاله، وهو مع خلقه بعلمه، وبيان أن الإيمان عند أهل السنة اعتقادٌ وقولٌ وعملٌ، وعلى الإيمان بملائكة الله المكرمين، وأنهم موكلون بمهام أوكلها الله إليهم، وعلى الإيمان بالكتب التي أنزلها الله على رسله وآخرها القرآن الكريم، وأنه كلام الله غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود، وعلى الإيمان بالأنبياء والمرسلين الذين أرسلهم الله إلى أهل الأرض، وأنه لا يعلم عددهم إلا الله، وقد ورد أسماء خمسة وعشرين منهم في القرآن، وآخرهم هو محمد - صلى الله عليه وسلم - رسول الله إلى الإنس والجن، وعلى الإيمان باليوم الآخر، وهو ما بعد دار الدنيا من حين دخول القبر وسؤال الملكين وفتنتهم، والدخول إما إلى الجنة أو النار، وأن الجنة والنار مخلوقتان، أعد الجنة للمؤمنين، والنار للعاصين، والورود على الصراط، وذكر الإيمان بالقضاء والقدر، خيره وشره حلوه ومره كلٌ من عند الله، ثم ختم بذكر الصحابة وأنهم أفضل القرون بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - وأفضلهم الخلفاء الأربعة على الترتيب المذكور، ثم بقية العشرة، ثم بقية الصحابة رضي الله عنهم أجمعين، وأنه لا يجوز الطعن فيهم، وأنه يجب أن نذكرهم بكل خير، وأن ما وقع بينهم إنما هو اجتهاد منهم يدورون فيه بين أجر وأجرين، ووجوب طاعة ولاة الأمور من العلماء والأمراء في طاعة الله، وألا نشق عصا الطاعة بين المسلمين. وبذلك نجد تلك المقدمة على وجازتها قد جمعت وضمت جملًا من عقيدة أهل السنة والجماعة، إلى جانب سهولة عباراتها، مما يقرب هذه العقيدة للناس، وخاصةً طلبة العلم المبتدئين، وهذه المقدمة تقدمت رسالة عظيمة نظم فيها ابن أبي زيد القيرواني قواعد مذهب إمام دار الهجرة أبي عبد الله مالك بن أنس الأُصْبُحِيّ. وكانت تلك "الرسالة" أَول مؤلفاته، ولهذا قالوا: "هي باكورة السَّعْدِ، وزبدة المذهب"، وقد كتبها استجابة لرغبة بَلَدِيِّهِ، مُؤَدِّبِ الصِّبْيَةِ، ومعلمهم القرآن الكريم: أَبي محفوظ مُحْرَز بن خلف البكري التونسي المالكي، المولود سنة 340 هـ، والمتوفى سنة 413 هـ. وقيل: بل إِن الذي طلب منه تأْليفها هو: السَّبَائي: إِبراهيم بن محمد، فالله أَعلم. وهي أَول مختصر في مذهب المالكية. وقد اعتمدها المالكية شرقًا وغربًا، وعكفوا عليها: دراسة، وتدريسًا، وتلقينًا، وحفظًا، وشرحًا، ونظمًا؛ حتى بلغت شروحها نحو ثلاثين، بل قال زَرُّوق، المتوفى سنة 899 هـ - رحمه الله تعالى- في شرحه لها: (1/ 3): "حتى لَقَدْ ذُكر أَنها منذ وجدت حتى الآن، يَخْرج لها في كل سنة شرح وتبيان". فتكون شروحها والبيانات عنها بالمئات حتى أَن علي ابن محمد بن خلف المُنُوفي المتوفى سنة 939 هـ له ستة شروح على الرسالة. ولشدة الحفاوة بها كتبت بالذهب، وبيعت أَول نسخة منها في حلقة شيخه بالِإجازة، شيخ المالكية ببغداد: أَبي بكر محمد بن عبد الله التميمي الأَبهَري، المُتوفَّى سنة 375 هـ -رحمه الله تعالى- بيعت بعشرين دينارًا ذهبًا. ولشدة الحفاوة بها أَيضًا، كان أَخذ التلاميذ لها عن الأَشياخ بالِإسناد والاجازة إلى مؤلفها، وأَسانيدُها مثبتة في الأَثبات، والمشيخات، والفهارس حتى عصرنا. وقد تميزت هذه الرسالة عن غيرها من كتب الفقه التي تقدمتها أو تأخرت عنها بأنها قد جمعت بين أصلين عظيمين: الفقه الأكبر وهو فقه الاعتقاد، والفقه الأصغر وهو فقه العبادات والمعاملات، وبذلك جمع ابن أبي زيد القيرواني في كتاب واحدٍ بين فقهين: الفقه الأكبر الذي ضمنه مقدمته، والفقه الأصغر الذي شرع في شرحه في "رسالته" بدءًا من كتاب الطهارة ومرورًا ببقية أبواب العبادات وأبواب المعاملات. وبين أنها عقيدة توقيفية، لا مجال للاجتهاد فيها، بمعنى أن الله عز وجل هو الذي أوقف رسوله - صلى الله عليه وسلم - على تفاصيلها، فليس لأحد أن يتكلم في شيء من أبواب الاعتقاد من قبل رأيه، لأن مبناه على تنزل الوحي على النبي - صلى الله عليه وسلم - فليس يجوز لأحد أن يجتهد في مبحث من مباحث الاعتقاد، بخلاف مباحث الفقه الأصغر، فإن باب الاجتهاد فيها واسع. وقد قام الشيخ "وليد العلي" بشرح هذه الرسالة ذلك الشرح الموجز السهل السلس مع تضمين شرحه عددًا من الفوائد في بيان منهج أهل السنة والجماعة في العقيدة، وأن كل من لزم منهجهم فإنه سيُهدى ولابد إلى الوسطية التي تدعيها كل الفرق، وأنهم أي أهل السنة والجماعة لا يفرقون في نصوص الاعتقاد بين خبر آحاد ومتواتر، ولا يفرقون في إثباتها بين الأسماء والصفات، ولا بين الصفات بعضها مع بعض، فعندهم قاعدة: أن الكلام في الصفات فرع على الكلام في الذات. وبيان أن هذا المنهج الوسيط الذي انتهجه سلف الأمة الصالح قد انتهجوه دون تأويل ولا تفويض. كما بين أن هذا الإمام الذي نتدارس عقيدته هو أحد من نشأ في أكناف مذهب الإمام مالك بن أنس، وفي هذه دلالة على أن أتباع الأئمة الأربعة معتقدهم صحيح ونهجهم مليح، وأنه توافقوا على هذه العقيدة نقلًا عن التابعين والصحابة والنبي - صلى الله عليه وسلم -. والماتن هو عبد اللّه بن أبي زيد عبد الرحمان النفزي القيرواني أبو محمد. ولد بمدينة القيروان سنة 310 هـ / 922 - 923 م على الراجح. وكانت نشأته ودراسته بالقيروان، وهي في عصره وارثة تراث العلوم الشرعية، تحتضن كثيرًا من أعلام المذهب المالكي، وتخضع لسلطان العبيديين، ثم لسلطان بني زيري الصنهاجيين الذين بدأ حكمهم عندما انتقل أبو تميم المعز إلى مصر سنة 362هـ / 973م، واستخلف بلكين يوسف بن زيري بن مناد الصنهاجي. تلقّى ابن أبي زيد العلم بجامع عقبة بن نافع وبغيره من الأماكن كالبيوت الخاصّة حيث يُلقي شيوخ القيروان دروسهم في مختلف فنون العلم، وكان من أشهر شيوخه: أبو الفضل العباس بن عيسى الممّسي (نسبة إلى قرية ممس بافريقية) وهو فقيه فاضل يجيد الجدل والمناظرة (ت 333هـ / 945م). أبو سليمان ربيع بن عطاء اللّه بن نوفل القطان، من الفقهاء النساك، متبحر في علوم القرآن والحديث. أبو بكر محمد بن محمد بن اللباد القيرواني، وهو حافظ جمّاع للكتب مع حظّ وافر من الفقه وكان ابن أبي زيد ملازمًا له مختصًا به. أبو العرب محمّد بن أحمد التّميمي القيرواني المؤرخ الشهير وهو ثقة صالح عالم بتراجم الرجال. وسمع ابن أبي زيد من كثير من الرواة أمثال: الحسن بن نصر السوسي، وعثمان بن سعيد الغرابلي، وحبيب بن أبي حبيب الجزري. ولابن أبي زيد رحلة مشرقيّة، أدّى فيها فريضة الحج، وسمع فيها من بعض الأعلام، مثل ابن الأعرابي وإبراهيم بن محمد بن المنذر وأبي علي بن أبي هلال وأحمد بن إبراهيم ابن حماد القاضي. وكانت له عناية بالرّواية والإسناد، وأسانيده عالية في ما رواه من الأحاديث ومن الكتب الفقهية التي تعد من أمّهات المذهب وقد اعتمدها في كتابه "النوادر والزيادات" الذي ذكر في مقدّمته سنده إلى مؤلّفيها. وكان علماء المغرب والأندلس عندما يرحلون إلى الحرمين للحجّ والزيارة يتوقّفون بالقيروان لمذاكرة علمائها وتبادل الإجازة والحوار في بعض المسائل الفقهيّة. وممّن لقي منهم عبد اللّه بن أبي زيد سمع منه وذاكره وناظره في مسائل علمية: القاضي أبو محمد عبد اللّه بن إبراهيم الأصيلي المحدّث وكانت حجته سنة 353هـ / 965م وفيها أخذ عن أعلام القيروان والمشرق. أبو عبد اللّه محمّد بن أحمد بن العطّار الأندلسي الفقيه المشهور وكانت رحلته سنة 383هـ / 995م. أبو الوليد عبد اللّه بن محمد بن يوسف بن نصر الأزدي المعروف بابن الفرضي المؤرّخ الحافظ الأديب قاضي بلنسية، وكانت رحلته سنة 322هـ / 935م. بفضل المناخ العلمي القيرواني والرّحلة المشرقيّة لابن أبي زيد والصّلات العلمية والمذاكرات، اجتمعت له ثروة زاخرة من النقول والمأثورات، ومُهّد بفضلها سبيل الاجتهاد الفقهي والنّظر العقلي، وبلغ رتبة علمية سامية قبل أن يتجاوز العقد الثاني من عمره ثم زكت ملكته الفقهية، ممّا هيأ له أن يؤدّي أكبر الخدمات لمذهبه المالكي. قال أبو الحسن القابسي عنه: (كان أبو محمّد إمامًا مؤيّدًا موثوقًا به في درايته وروايته). وقال القاضي عياض: (كان أبو محمّد بن أبي زيد من أهل الصلاح والورع والفضل). وقال الداودي: (كان سريع الانقياد إلى الحقّ). وقال ابن تغري بردي: (كان واسع العلم كثير الحفظ ذا صلاح وعفّة وورع). وقال عبد اللّه اليافعي: (الإمام الكبير الشهير شيخ المغرب، إليه انتهت رئاسة المذهب). وقال الشيخ الدّباغ: (كان متفنّنًا في علوم كثيرة، منها علوم القراءات وتفسير القرآن وحديث رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، ومعرفة رجاله وأسانيده وغريبه، والفقه البارع، وآثار العلماء وكتب الرقائق والمواعظ والآداب). أمّا أثره في خدمة المذهب المالكي ودعمه فهو يتجلّى في مجالات عدّة، كالتدريس والمذاكرة والتأليف والاجتهاد والفتوى، وقد أهّله لخوض هذه المجالات زاده الوافر من المعرفة الشرعية والثّقافة الإسلامية، وسعة اطلاعه على الآثار والروايات المتعلقة بالفروع المالكية، والنّقول عن إمام المذهب وأصحابه. وكان الكثير من طلبة العلم يراسلونه مستدعين للإجازة، فيكتب إليهم ويجيزهم، وأخذ عنه العديد من التلاميذ ببلاد إفريقية والمغرب وغيرها من حواضر العالم الإسلامي. وكان المعوّل في المجال الفقهي في المراكز المالكية على ثلاثة من الكتب حظيت باهتمام الدّارسين وهي: • النوادر والزيادات على ما في المدوّنة من غيرها من الأمّهات. • مختصر المدوّنة الكبرى للإمام سحنون. • الرّسالة الفقهيّة. فالكتاب الأوّل يقول عنه ابن خلدون: (جمع ابن أبي زيد جميع ما في المذهب من المسائل والخلاف والأقوال في كتاب "النوادر" فاشتمل على جميع أقوال المذهب، وفروع الأمّهات كلّها في هذا الكتاب). ولئن كان الكتاب الثاني من المصنّفات العديدة التي وضعها أعلام المذهب على المدوّنة الكبرى شرحًا وتلخيصًا وتهذيبًا وتعقيبًا، فإنّه كان من أهمّها وأكثرها ذيوعًا في ربوع المراكز المالكية. والكتاب الثالث، هو أشهر كتب ابن أبي زيد وأوسعها انتشارًا لدى أتباع المذهب، وهو رسالة تلخّص في مقدمتها أحكام العقيدة وفي أبوابها أحكام الفقه المالكي، وهي باكورة إنتاج ابن أبي زيد ألّفها في سنّ الحداثة سنة 327هـ / 939م. وقد استقطبت هذه الرسالة اهتمام كثير من الشرّاح. وكانت الرّسالة ضمن المقرّرات التي تدرس بالقرويين والزّيتونة وغيرهما من مؤسّسات التعليم الديني بالبلاد التي ينتشر فيها المذهب المالكي. وقد عدّ الامام أبو العباس أحمد القرافي (ت 684هـ / 1286م) الرسالة من جملة خمسة كتب عكف عليها المالكيون شرقًا وغربًا، وذلك في مقدمة كتابه "الذخيرة". والملاحظ أنّ الرسالة كانت مع "النوادر والزيادات" و"مختصر المدونة" من أهمّ المصادر المعتمدة لدى أغلب من ألّف في الفقه المالكي أو في الفقه المقارن بعد عصر المؤلّف ابن أبي زيد. أما بقيّة مؤلّفات عبد اللّه بن أبي زيد فهي التالية: الاقتداء بأهل السنّة - البيان في إعجاز القرآن - تفسير أوقات الصلاة - التنبيه على القول في أولاد المرتدّين - الثقة باللّه والتوكّل على اللّه - تهذيب العتبية - الذّبّ عن مذهب مالك - ردّ السّائل - إعطاء القرابة من الزّكاة - أصول التّوحيد - الردّ على القدرية - رسالة إلى أهل سجلماسة في تلاوة القرآن - المناسك - طلب العلم - فضل قيام رمضان - حماية عرض المؤمن - كشف التلبيس في الردّ على البكرية - رسالة في من تأخذه عند قراءة القرآن والذكر حركة - المضمون من الرزق - الحبس على أولاد الأعيان - النّهي عن الجدل - الموعظة والنّصيحة - الموعظة الحسنة لأهل الصدق - الوسواس - مناقضة رسالة علي بن أحمد المعتزلي البغدادي - المعرفة واليقين - التبويب المستخرج. وفي المتحف البريطاني قصيدة في البعث منسوبة إلى ابن أبي زيد. وقد كان يقول الشعر ويجيده، وأثرت عنه مراثٍ نظّمها بعض شيوخه كابن اللباد وأبي الفضل الممّسي وكان النّاس يقصدونه للاستفتاء في الوقائع الطارئة لمعرفة أحكامها الشّرعيّة، فيفتيهم بالمذهب المالكي، ونجد كثيرًا من كتب النوازل تحتفظ بفتاويه، مثل الحاوي لابن عبد النور، وموسوعة "المعيار المعرب" لأبي العباس أحمد الونشريسي. وكانت وفاة ابن أبي زيد في شعبان سنة 386هـ (سبتمبر 996م) على الصّحيح. وصلّى عليه أبو الحسن القابسي بالريحانية في جمع غفير ودفن بداره، وتضمّ اليوم داره روضة لتعليم الصبيان وقد رثاه كثير من أدباء القيروان.
أبو ذر الغفاري ﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [فاطر: 1، 2]. أبو ذرٍّ الغفاري أحد الصحابة الكِرام الذين أعَزَّهم الله تعالى بالإسلام، وله تاريخ مجيد، ونستطيع أن نستفيد من سيرته المباركة في حياتنا، فأقول وبالله تعالى التوفيق: النسب: هو: جُنْدَبُ بن جُنَادةَ بن قيس بن عمرو بن غفار، وشهرته: أبو ذَرٍّ الغفاري، أُمُّه: رَملة بنت الوقيعة، من بني غفار. كان أبو ذرٍّ أسمرَ، ضخمًا، جسيمًا، كثيف اللحية؛ (الاستيعاب لابن عبد البر، جـ 4، صـ 216) (سير أعلام النبلاء للذهبي، جـ2، صـ 47). إسلام أبي ذرٍّ الغفاري: أسلم أبو ذر قديمًا بمكة، فكان خامس من دخل في الإسلام؛ (الطبقات الكبرى لابن سعد، جـ 4، صـ 169). روى الشيخانِ عَنْ أَبي جَمْرَةَ قَالَ: قَالَ لَنَا ابْنُ عَبَّاسٍ: أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِإِسْلَامِ أَبِي ذَرٍّ؟قَالَ: قُلْنَا بَلَى، قَالَ: قَالَ أَبُو ذَرٍّ:كُنْتُ رَجُلًا مِنْ غِفَارٍ، فَبَلَغَنَا أَنَّ رَجُلًا قَدْ خَرَجَ بِمَكَّةَ يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ، فَقُلْتُ لِأَخِي: انْطَلِقْ إِلَى هَذَا الرَّجُلِ كَلِّمْهُ وَأْتِنِي بِخَبَرِهِ، فَانْطَلَقَ فَلَقِيَهُ، ثُمَّ رَجَعَ، فَقُلْتُ: مَا عِنْدَكَ؟ فَقَالَ: وَاللَّهِ، لَقَدْ رَأَيْتُ رَجُلًا يَأْمُرُ بِالْخَيْرِ وَيَنْهَى عَنْ الشَّرِّ، فَقُلْتُ لَهُ: لَمْ تَشْفِنِي مِن الْخَبَرِ، فَأَخَذْتُ جِرَابًا وَعَصًا، ثُمَّ أَقْبَلْتُ إِلَى مَكَّةَ، فَجَعَلْتُ لَا أَعْرِفُهُ وَأَكْرَهُ أَنْ أَسْأَلَ عَنْهُ وَأَشْرَبُ مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ وَأَكُونُ فِي الْمَسْجِدِ، قَالَ: فَمَرَّ بِي عَلِيٌّ، فَقَالَ: كَأَنَّ الرَّجُلَ غَرِيبٌ، قَالَ: قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: فَانْطَلِقْ إِلَى الْمَنْزِلِ، قَالَ: فَانْطَلَقْتُ مَعَهُ لَا يَسْأَلُنِي عَنْ شَيْءٍ وَلَا أُخْبِرُهُ، فَلَمَّا أَصْبَحْتُ غَدَوْتُ إِلَى الْمَسْجِدِ لِأَسْأَلَ عَنْهُ وَلَيْسَ أَحَدٌ يُخْبِرُنِي عَنْهُ بِشَيْءٍ، قَالَ: فَمَرَّ بِي عَلِيٌّ فَقَالَ: أَمَا نَالَ لِلرَّجُلِ يَعْرِفُ مَنْزِلَهُ بَعْدُ، قَالَ: قُلْتُ: لَا، قَالَ: انْطَلِقْ مَعِي، قَالَ: فَقَالَ: مَا أَمْرُكَ؟ وَمَا أَقْدَمَكَ هَذِهِ الْبَلْدَةَ؟ قَالَ: قُلْتُ لَهُ: إِنْ كَتَمْتَ عَلَيَّ أَخْبَرْتُكَ، قَالَ: فَإِنِّي أَفْعَلُ، قَالَ: قُلْتُ لَهُ: بَلَغَنَا أَنَّهُ قَدْ خَرَجَ هَا هُنَا رَجُلٌ يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ، فَأَرْسَلْتُ أَخِي لِيُكَلِّمَهُ فَرَجَعَ وَلَمْ يَشْفِنِي مِن الْخَبَرِ، فَأَرَدْتُ أَنْ أَلْقَاهُ، فَقَالَ لَهُ: أَمَا إِنَّكَ قَدْ رَشَدْتَ، هَذَا وَجْهِي إِلَيْهِ فَاتَّبِعْنِي ادْخُلْ حَيْثُ أَدْخُلُ، فَإِنِّي إِنْ رَأَيْتُ أَحَدًا أَخَافُهُ عَلَيْكَ قُمْتُ إِلَى الْحَائِطِ كَأَنِّي أُصْلِحُ نَعْلِي وَامْضِ أَنْتَ، فَمَضَى وَمَضَيْتُ مَعَهُ حَتَّى دَخَلَ وَدَخَلْتُ مَعَهُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقُلْتُ لَهُ: اعْرِضْ عَلَيَّ الْإِسْلَامَ فَعَرَضَهُ، فَأَسْلَمْتُ مَكَانِي، فَقَالَ لِي: ((يَا أَبَا ذَرٍّ، اكْتُمْ هَذَا الْأَمْرَ، وَارْجِعْ إِلَى بَلَدِكَ، فَإِذَا بَلَغَكَ ظُهُورُنَا فَأَقْبِلْ))، فَقُلْتُ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ، لَأَصْرُخَنَّ بِهَا بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ، فَجَاءَ إِلَى الْمَسْجِدِ وَقُرَيْشٌ فِيهِ، فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، إِنِّي أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، فَقَالُوا: قُومُوا إِلَى هَذَا الصَّابِئِ (الذي خرج من دين آبائه، ودخل في دين جديد) فَقَامُوا، فَضُرِبْتُ لِأَمُوتَ، فَأَدْرَكَنِي الْعَبَّاسُ، فَأَكَبَّ عَلَيَّ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْهِمْ فَقَالَ: وَيْلَكُمْ تَقْتُلُونَ رَجُلًا مِنْ غِفَار وَمَتْجَرُكُمْ وَمَمَرُّكُمْ عَلَى غِفَار، فَأَقْلَعُوا عَنِّي، فَلَمَّا أَنْ أَصْبَحْتُ الْغَدَ رَجَعْتُ فَقُلْتُ مِثْلَ مَا قُلْتُ بِالْأَمْسِ، فَقَالُوا: قُومُوا إِلَى هَذَا الصَّابِئِ، فَصُنِعَ بِي مِثْلَ مَا صُنِعَ بِالْأَمْسِ، وَأَدْرَكَنِي الْعَبَّاسُ فَأَكَبَّ عَلَيَّ، وَقَالَ مِثْلَ مَقَالَتِهِ بِالْأَمْسِ، قَالَ: فَكَانَ هَذَا أَوَّلَ إِسْلَامِ أَبِي ذَرٍّ رَحِمَهُ اللَّهُ؛ (البخاري، حديث: 3522، مسلم، حديث: 2474). أبو ذر الغفاري أول مَن حيَّا النبي صلى الله عليه وسلم بتحيَّة الإسلام: روى مسلمٌ عَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ الصَّامِتِ، قَالَ: قَالَ أَبُو ذَرٍّ الغفاري (وهو يتحدَّث عن قصة إسلامه) جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فاسْتَلَمَ الْحَجَرَ (الأسود) وَطَافَ بِالْبَيْتِ هُوَ وَصَاحِبُهُ (أبو بكر الصِّديق) ثُمَّ صَلَّى، فَلَمَّا قَضَى صَلَاتَهُ، قَالَ أَبُو ذَرٍّ: فَكُنْتُ أَنَا أَوَّلَ مَنْ حَيَّاهُ بِتَحِيَّةِ الْإِسْلَامِ، قَالَ: فَقُلْتُ: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ: ((وَعَلَيْكَ وَرَحْمَةُ اللَّهِ))، ثُمَّ قَالَ: ((مَنْ أَنْتَ؟)) قَالَ: قُلْتُ: مِنْ غِفَارٍ؛ (مسلم، حديث: 2473). أبو ذَرٍّ الغفاري يدعو قومه للإسلام: روى مسلمٌ عَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ الصَّامِتِ، قَالَ: قَالَ أَبُو ذَرٍّ الغفاري (وهو يتحدَّث عن قصة إسلامه) جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فاسْتَلَمَ الْحَجَرَ وَطَافَ بِالْبَيْتِ هُوَ وَصَاحِبُهُ (أبو بكر الصِّديق) ثُمَّ صَلَّى، فَلَمَّا قَضَى صَلَاتَهُ، قَالَ أَبُو ذَرٍّ: فَكُنْتُ أَنَا أَوَّلَ مَنْ حَيَّاهُ بِتَحِيَّةِ الْإِسْلَامِ، قَالَ: فَقُلْتُ: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ: ((وَعَلَيْكَ وَرَحْمَةُ اللَّهِ))، ثُمَّ قَالَ: ((مَنْ أَنْتَ؟))، قَالَ: قُلْتُ: مِنْ غِفَارٍ، قَالَ: فَأَهْوَى بِيَدِهِ فَوَضَعَ أَصَابِعَهُ عَلَى جَبْهَتِهِ، فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: كَرِهَ أَن انْتَمَيْتُ إِلَى غِفَارٍ، فَذَهَبْتُ آخُذُ بِيَدِهِ، فَقَدَعَنِي صَاحِبُهُ، وَكَانَ أَعْلَمَ بِهِ مِنِّي، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ، ثُمَّ قَالَ: ((مَتَى كُنْتَ هَا هُنَا؟)) قَالَ: قُلْتُ: قَدْ كُنْتُ هَا هُنَا مُنْذُ ثَلَاثِينَ، بَيْنَ لَيْلَةٍ وَيَوْمٍ، قَالَ: ((فَمَنْ كَانَ يُطْعِمُكَ؟))، قَالَ: قُلْتُ: مَا كَانَ لِي طَعَامٌ إِلَّا مَاءُ زَمْزَمَ فَسَمِنْتُ حَتَّى تَكَسَّرَتْ عُكَنُ (انثنت) بَطْنِي وَمَا أَجِدُ عَلَى كَبِدِي سُخْفَةَ جُوعٍ، قَالَ: ((إِنَّهَا مُبَارَكَةٌ، إِنَّهَا طَعَامُ طُعْمٍ)) فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ائْذَنْ لِي فِي طَعَامِهِ اللَّيْلَةَ، فَانْطَلَقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ وَانْطَلَقْتُ مَعَهُمَا، فَفَتَحَ أَبُو بَكْرٍ بَابًا فَجَعَلَ يَقْبِضُ لَنَا مِنْ زَبِيبِ الطَّائِفِ، وَكَانَ ذَلِكَ أَوَّلَ طَعَامٍ أَكَلْتُهُ بِهَا، ثُمَّ غَبَرْتُ مَا غَبَرْتُ، ثُمَّ أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: ((إِنَّهُ قَدْ وُجِّهَتْ لِي أَرْضٌ ذَاتُ نَخْلٍ لَا أُرَاهَا إِلَّا يَثْرِبَ، فَهَلْ أَنْتَ مُبَلِّغٌ عَنِّي قَوْمَكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَنْفَعَهُمْ بِكَ وَيَأْجُرَكَ فِيهِمْ))، فَأَتَيْتُ أُنَيْسًا فَقَالَ: مَا صَنَعْتَ؟ قُلْتُ: صَنَعْتُ أَنِّي قَدْ أَسْلَمْتُ وَصَدَّقْتُ، قَالَ: مَا بِي رَغْبَةٌ عَنْ دِينِكَ، فَإِنِّي قَدْ أَسْلَمْتُ وَصَدَّقْتُ، فَأَتَيْنَا أُمَّنَا فَقَالَتْ: مَا بِي رَغْبَةٌ عَنْ دِينِكُمَا، فَإِنِّي قَدْ أَسْلَمْتُ وَصَدَّقْتُ، فَاحْتَمَلْنَا حَتَّى أَتَيْنَا قَوْمَنَا غِفَارًا، فَأَسْلَمَ نِصْفُهُمْ، وَكَانَ يَؤُمُّهُمْ أَيْمَاءُ بْنُ رَحَضَةَ الْغِفَارِيُّ، وَكَانَ سَيِّدَهُمْ، وَقَالَ نِصْفُهُمْ: إِذَا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ أَسْلَمْنَا، فَقَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ، فَأَسْلَمَ نِصْفُهُمْ الْبَاقِي، وَجَاءَتْ أَسْلَمُ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِخْوَتُنَا نُسْلِمُ عَلَى الَّذِي أَسْلَمُوا عَلَيْهِ، فَأَسْلَمُوا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((غِفَار غَفَرَ اللَّهُ لَهَا، وَأسْلَمُ سَالَمَهَا اللَّهُ))؛ (مسلم، حديث: 2473). هجرة أبي ذَرٍّ الغفاري: لما أسلم رجع إلى بلاد قومه فأقام بها حتى هاجر النبي صلى الله عليه وسلم فأتاه بالمدينة بعد غزوة الخندق، وصحبه إلى أن مات؛ (أسد الغابة لابن الأثير، جـ 1، صـ 409). مناقب أبي ذَرٍّ الغفاري: روى الترمذيُّ عَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ عَمْرو بْنِ العَاص، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: ((مَا أَظَلَّتْ الْخَضْرَاءُ (السَّمَاء)، وَلَا أَقَلَّتْ الْغَبْرَاءُ (الأرضُ) أَصْدَقَ مِنْ أَبِي ذَرٍّ))؛ (حديث صحيح) (صحيح الترمذي للألباني، حديث: 2990). قال الذهبي: كان أبو ذرٍّ رأسًا في الزهد، والصدق، والعِلم والعمل، قوالًا بالحق، لا تأخذه في الله لَوْمَة لائم، على حِدَّةٍ فيه (سريع الغضب)؛ (سير أعلام النبلاء للذهبي، جـ2، صـ 47). عِلْم أبي ذَرٍّ الغفاري: روى أبو ذرٍّ مئتين وإحدى وثمانين حديثًا، اتفقا الشيخان منها على اثني عشر حديثًا، وانفرد البخاري بحديثين، ومسلم بتسعة عشر؛ (سير أعلام النبلاء للذهبي، جـ2، صـ 75). روى عنه عبدالله بن عباس، وأنس بن مالك، وعبدالله بن عمر، وغيرهم؛ (سير أعلام النبلاء للذهبي، جـ2، صـ 46). كان أبو ذرٍّ يُفتي في خلافة أبي بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان؛ (سير أعلام النبلاء للذهبي، جـ2، صـ 46). (1) روى مسلمٌ عَنْ أَبِي ذَرٍّ الغِفَارِيِّ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا رَوَى عَن اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنَّهُ قَالَ: ((يَا عِبَادِي، إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا، فَلَا تَظَالَمُوا، يَا عِبَادِي، كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلَّا مَنْ هَدَيْتُهُ، فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ، يَا عِبَادِي، كُلُّكُمْ جَائِعٌ إِلَّا مَنْ أَطْعَمْتُهُ، فَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ، يَا عِبَادِي، كُلُّكُمْ عَارٍ إِلَّا مَنْ كَسَوْتُهُ، فَاسْتَكْسُونِي أَكْسُكُمْ، يَا عِبَادِي، إِنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا، فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ، يَا عِبَادِي، إِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضَرِّي فَتَضُرُّونِي، وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي، يَا عِبَادِي، لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئًا، يَا عِبَادِي، لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا، يَا عِبَادِي، لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلَّا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ، يَا عِبَادِي، إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا، فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَد اللَّهَ، وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ))؛ (مسلم، حديث: 2577). (2) روى أحمدُ عَنْ أَبِي ذَرٍّ الغِفَارِيِّ، قَالَ: كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى حِمَارٍ وَعَلَيْهِ بَرْذَعَةٌ أَوْ قَطِيفَةٌ، فَذَاكَ عِنْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ، فَقَالَ لِي: ((يَا أَبَا ذَرٍّ، هَلْ تَدْرِي أَيْنَ تَغِيبُ هَذِهِ؟))، قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: ((فَإِنَّهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَامِئَةٍ، تَنْطَلِقُ حَتَّى تَخِرَّ لِرَبِّهَا عَزَّ وَجَلَّ سَاجِدَةً تَحْتَ الْعَرْشِ، فَإِذَا حَانَ خُرُوجُهَا أَذِنَ اللَّهُ لَهَا فَتَخْرُجُ فَتَطْلُعُ، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يُطْلِعَهَا مِنْ حَيْثُ تَغْرُبُ حَبَسَهَا، فَتَقُولُ: يَا رَبِّ، إِنَّ مَسِيرِي بَعِيدٌ، فَيَقُولُ لَهَا: اطْلُعِي مِنْ حَيْثُ غِبْتِ، فَذَلِكَ حِينَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا))؛ (حديث صحيح) (مسند أحمد، جـ 35، صـ 363، حديث: 21459). جهاد أبي ذر الغفاري: اشترك أبو ذرٍّ مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة حنين، وكان حامل راية غفار، واشترك أيضًا في غزوة تبوك، وشهد فتح بيت المقدس مع عمر بن الخطاب؛ (سير أعلام النبلاء للذهبي، جـ 2، صـ 56). قال ابنُ إسحاق (وهو يتحدَّث عن غزوة تبوك) مَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَائِرًا (إلى تبوك)، فَجَعَلَ يَتَخَلَّفُ عَنْهُ الرَّجُلُ، يَقُولُونَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، تَخَلَّفَ فُلَانٌ، فَيَقُولُ: ((دَعُوهُ فَإِنْ يَكُ فِيهِ خَيْرٌ فَسَيُلْحِقُهُ اللَّهُ تَعَالَى بِكَمْ، وَإِنْ يَكُ غَيْرَ ذَلِكَ فَقَدْ أَرَاحَكُمْ اللَّهُ مِنْهُ)) حَتَّى قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدْ تَخَلَّفَ أَبُو ذَرٍّ وَأَبْطَأَ بِهِ بَعِيرُهُ، فَقَالَ: ((دَعُوهُ فَإِنْ يَكُ فِيهِ خَيْرٌ فَسَيُلْحِقُهُ اللَّهُ بِكَمْ، وَإِنْ يَكُ غَيْرَ ذَلِكَ فَقَدْ أَرَاحَكُمْ اللَّهُ مِنْهُ))، ركبَ أَبُو ذَرٍّ عَلَى بَعِيرِهِ، فَلَمَّا أَبْطَأَ عَلَيْهِ أَخَذَ مَتَاعَهُ فَحَمَلَهُ عَلَى ظَهْرِهِ، ثُمَّ خَرَجَ يَتْبَعُ أَثَرَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَاشِيًا، وَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ فِي بَعْضِ مَنَازِلِهِ فَنَظَرَ نَاظِرٌ مِن الْمُسْلِمِينَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّ هَذَا الرَّجُلَ يَمْشِي عَلَى الطَّرِيقِ وَحْدَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((كُنْ أَبَا ذَرٍّ))، فَلَمَّا تَأَمَّلَهُ الْقَوْمُ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هُوَ وَاَللَّهِ أَبُو ذَرٍّ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((رَحِمَ اللَّهُ أَبَا ذَرٍّ، يَمْشِي وَحْدَهُ، وَيَمُوتُ وَحْدَهُ،وَيُبْعَثُ وَحْدَهُ))؛ (سيرة ابن هشام، جـ 4، صـ 149). قال يحيى بن أبي كثير: كان لأبي ذرٍّ ثلاثون فرسًا يحمل عليها (يستخدمها في الجهاد)، فكان يحمل على خمسة عشر منها يغزو عليها، ويصلح آلة بقيتها، فإذا رجعت أخذها، فأصلح آلتها، وحمل على الأخرى؛ (سير أعلام النبلاء للذهبي، جـ 2، صـ 74). زهد أبي ذرٍّ الغفاري: جاء رجلٌ إلى أبي ذرٍّ رضي الله عنه، فعرض عليه نفقة، فقال أبو ذَرٍّ: عندنا أعنز نحلبها، وحُمُرٌ تنقل، وجارية تخدمنا، وفضل عباءة عن كسوتنا، إني أخاف أن أُحَاسب على الفضل؛ (حلية الأولياء لأبي نعيم الأصبهاني، جـ 1، صـ: 163). قبس من كلام أبي ذَرٍّ الغفاري: (1) روى أحمدُ عَنْ أَبِي ذَرٍّ، قَالَ: أَمَرَنِي خَلِيلِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَبْعٍ: أَمَرَنِي بِحُبِّ الْمَسَاكِينِ وَالدُّنُوِّ مِنْهُمْ، وَأَمَرَنِي أَنْ أَنْظُرَ إِلَى مَنْ هُوَ دُونِي وَلَا أَنْظُرَ إِلَى مَنْ هُوَ فَوْقِي، وَأَمَرَنِي أَنْ أَصِلَ الرَّحِمَ وَإِنْ أَدْبَرَتْ، وَأَمَرَنِي أَلَّا أَسْأَلَ أَحَدًا شَيْئًا، وَأَمَرَنِي أَنْ أَقُولَ بِالْحَقِّ وَإِنْ كَانَ مُرًّا، وَأَمَرَنِي أَلَّا أَخَافَ فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ، وَأَمَرَنِي أَنْ أُكْثِرَ مِنْ قَوْلِ: لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ، فَإِنَّهُنَّ مِنْ كَنْزٍ تَحْتَ الْعَرْشِ؛ (حديث صحيح) (مسند أحمد، جـ 35، صـ 327، حديث: 21415). (2) قال أبو ذَرٍّ لأصحابه: يا أيها الناس، أرأيتم لو أن أحدكم أراد سفرًا، أليس يتخذ من الزاد ما يصلحه ويُبَلِّغه؟ قالوا: بلى، قال: فسفر يوم القيامة أبعد ما تريدون، فخذوا منه ما يصلحكم؛ (حلية الأولياء لأبي نعيم الأصفهاني، جـ 1، صـ: 165). (3) قال أبو ذرٍّ لأصحابه: أيها الناس، إني لكم ناصح، إني عليكم شفيق، صلُّوا في ظلمة الليل لوحشة القبور، صوموا في الدنيا لحر يوم النشور، تصدَّقوا مخافة يوم عسير؛ (حلية الأولياء لأبي نعيم الأصبهاني، جـ 1، صـ: 165). (4) قال أبو ذَرٍّ: ذو الدرهمين أشَدُّ حسابًا من ذي الدرهم؛ (حلية الأولياء لأبي نعيم الأصبهاني، جـ 1، صـ: 164). (5) قال أبو ذَرٍّ: يكفي من الدعاء مع البر ما يكفي الملح من الطعام؛ (حلية الأولياء لأبي نعيم الأصبهاني، جـ 1، صـ: 164). (6) قال أبو ذَرٍّ لبعض أصحابه: صومُوا يومًا شديدًا حرُّه لطول النشور، وصلُّوا ركعتين في سواد الليل لوحشة القبور؛ (حلية الأولياء لأبي نعيم الأصبهاني، جـ 1، صـ:165). أبو ذَرٍّ يعتزل الناس ليتفرَّغ للعبادة: روى البخاريُّ عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ قَالَ: مَرَرْتُ بِالرَّبَذَةِ فَإِذَا أَنَا بِأَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَقُلْتُ لَهُ: مَا أَنْزَلَكَ مَنْزِلَكَ هَذَا؟ قَالَ: كُنْتُ بِالشَّأْمِ فَاخْتَلَفْتُ أَنَا وَمُعَاوِيَةُ فِي (الَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ) قَالَ مُعَاوِيَةُ: نَزَلَتْ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ، فَقُلْتُ: نَزَلَتْ فِينَا وَفِيهِمْ، فَكَانَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ فِي ذَاكَ، وَكَتَبَ إِلَى عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَشْكُونِي، فَكَتَبَ إِلَيَّ عُثْمَانُ أَنْ أقْدِمْ الْمَدِينَةَ فَقَدِمْتُهَا، فَكَثُرَ عَلَيَّ النَّاسُ حَتَّى كَأَنَّهُمْ لَمْ يَرَوْنِي قَبْلَ ذَلِكَ، فَذَكَرْتُ ذَاكَ لِعُثْمَانَ، فَقَالَ لِي: إِنْ شِئْتَ تَنَحَّيْتَ، فَكُنْتَ قَرِيبًا، فَذَاكَ الَّذِي أَنْزَلَنِي هَذَا الْمَنْزِلَ، وَلَوْ أَمَّرُوا عَلَيَّ حَبَشِيًّا لَسَمِعْتُ وَأَطَعْتُ؛ (البخاري، حديث: 1406). الرَّبَذةُ: مكان قريب من المدينة، نزل به أبو ذَرٍّ في عهد عثمان بن عفان ومات به، وقد ذُكِرَ في هذا الحديث سبب نزوله، وإنَّما سأله زيد بن وهب عن ذلك؛ لأن مبغضي عثمان بن عفان كانوا يُشَنِّعُونَ عليه أنه نفى أبا ذَرٍّ، وقد بيَّن أبو ذَرٍّ أن نزوله في ذلك المكان كان باختياره، وكان أبو ذَرٍّ يقول لأهل الشام: لا يبيتنَّ عند أحدكم دينار ولا درهم إلا ما ينفقه في سبيل الله أو يعده لغريم، فكتب معاوية بن أبي سفيان إلى عثمان: إن كان لك بالشام حاجة فابعث إلى أبي ذَرٍّ، فكتب إليه عثمان أن أقدم عليَّ، فقدم أبو ذر إلى المدينة. قوله: (فَكَثُرَ عَلَيَّ النَّاسُ حَتَّى كَأَنَّهُمْ لَمْ يَرَوْنِي قَبْلَ ذَلِكَ)؛ أي: إنهم كثروا عليه يسألونه عن سبب خروجه من الشام، فخشي عثمان على أهل المدينة ما خشيه معاوية على أهل الشام؛ (فتح الباري لابن حجر العسقلاني، جـ 3، صـ 323:322). وفاة أبي ذَرٍّ الغفاري: روى ابنُ سعد عن مالك بن الأشتر عن زوجة أبي ذرٍّ أن أبا ذرٍّ حضره الموت وهو بالرَّبَذة (مكان قريب من المدينة) فبكت امرأته، فقال: ما يُبْكيك؟ فقالت: أبكي أنه لا بُدَّ لي من تكفينك وليس عندي ثوب يسع لك كفنًا، فقال: لا تبكي؛ فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم وأنا عنده في نفر يقول: ((ليموتنَّ رجلٌ منكم بفلاةٍ من الأرض تشهده عصابة (جماعة) من المؤمنين))، فكُلُّ من كان معي في ذلك المجلس مات في جماعة وقرية، ولم يبق غيري، وقد أصبحت بالفلاة (الصحراء) أموت، فراقبي الطريق، فإنك سوف ترين ما أقول لك، وإنِّي والله ما كذبت ولا كذبت، قالت: وأنَّى ذلك وقد انقطع الحاجُّ! قال: راقبي الطريق؛ فبينما هي كذلك إذ هي بقوم قد أقبلوا حتى وقفوا عليها، فقالوا: ما لكِ؟ فقالت: امرؤ من المسلمين تكفنونه وتؤجرون فيه؟ قالوا: ومَن هو؟ قالت: أبو ذَرٍّ الغفاري، فغسَّلوه، وكفنوه، ثم دفنوه؛ (أسد الغابة لابن الأثير، جـ 1، صـ 411:410). تُوفي أبو ذرٍّ الغفاري سنة اثنتين وثلاثين من الهجرة بالرَّبَذة، وصلى عليه عبدالله بن مسعود؛ فإنه كان مع أولئك النفر الذين شهدوا موته وحملوا عياله (وكانت لأبي ذرٍّ بنت) إلى عثمان بن عفان رضي الله عنه بالمدينة فضمَّ عثمان بنت أبي ذرٍّ إلى أولاده، وقال: يرحم اللهُ أبا ذَرٍّ؛ (أسد الغابة لابن الأثير، جـ 1، صـ 411). رَحِمَ اللهُ أبا ذَرٍّ الغفاري رحمةً واسعةً، وجزاه الله عن الإسلام خير الجزاء، ونسأل الله تعالى أن يجمعنا به في الفردوس الأعلى من الجنة. ختامًا: أَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى بِأَسْمَائِهِ الْـحُسْنَى وَصِفَاتِهِ الْعُلا أَنْ يَجْعَلَ هَذَا الْعَمَلَ خَالِصًا لِوَجْهِهِ الْكَرِيمِ، وأن يجعله ذُخْرًا لي عنده يوم القيامة، كما أسألهُ سُبْحَانَهُ أن ينفعَ به طلابَ العِلْمِ الكِرَامِ، وأرجو كُل قارئ كريم أن يدعوَ اللهَ تَعَالَى لي بالإخلاصِ والتوفيقِ والثباتِ على الحق، وَحُسْنِ الخاتمة، فإن دعوةَ المسلمِ الكريم لأخيه المسلمِ بظَهْرِ الغَيْبِ مُسْتجَابةٌ، وأختِمُ بقولِ اللهِ تَعَالَى: ﴿ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ [الحشر: 10]، وآخرُ دَعْوَانَا أَنِ الْـحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَصَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُـحَمَّدٍ، وَآلهِ، وَأَصْحَابِهِ، وَالتَّابِعِينَ لَـهُمْ بِإِحْسَانٍ إلَى يَوْمِ الدِّينِ.
بيعة العقبة الأولى تحقيقًا لأداء البلاغ المبين، فإن صد القبائل للنبي صلى الله عليه وسلم لم يَثْنِه عن التبليغ، وكان واثقًا أن الله تعالى سينصر دينه ويعلي كلمته، ولكن لا بد من العمل والسعي وبذل الوسع وأقصى الجهد، ﴿ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا ﴾ [يونس: 99]؛ فسنَّة الله في الحياة السعي والعمل، واللقاء مع الناس وإيصال الدعوة لهم، ﴿ مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ ﴾ [المائدة: 99]، وبينما النبي صلى الله عليه وسلم عند العقبة لقي رهطًا من الخزرج فدعاهم إلى الله وعرض عليهم الإسلام، وكان بعض قبائل اليهود يقيمون في يثرب، وسكان المدينة من الأوس والخزرج أهل أوثان، فكان إذا حصل خلاف أو اقتتال بين اليهود والعرب يقول اليهود: إن نبيًّا يبعث قريبًا نتبعه ونقتلكم معه قتل عاد وثمود، فقال أولئك النفر بعضهم لبعض: هذا والله النبي الذي تتوعدكم به اليهود، فأجابوه وصدقوه، وقالوا له: إن بين قومنا شرًّا، وعسى الله أن يجمعهم بك، فإن اجتمعوا عليك فلا رجل أعز منك، ثم انصرفوا، وكانوا سبعة نفر من الخزرج، على رأسهم أسعد بن زرارة، فلما عادوا إلى يثرب ذكروا لهم النبي صلى الله عليه وسلم، ودعَوْهم إلى الإسلام، وما هو إلا قليل وقت حتى فشا فيهم، حتى إذا جاء العام القادم وافى الموسم من أهل يثرب اثنا عشر رجلًا، فالتقى بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عند العقبة، وهي العقبة الأولى، فبايعوه بيعة النساء - ليس فيها التزام بالقتال ضد المشركين، قال عبادة بن الصامت: بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بيعة النساء؛ على ألا نشرك بالله شيئًا ولا نسرق ولا نزني ولا نقتل أولادنا ولا نأتي ببهتان نفتريه من بين أيدينا وأرجلنا ولا نعصيه في معروف، فإن وفيتم فلكم الجنة، وإن غشيتم من ذلك شيئًا فأمركم إلى الله عز وجل، إن شاء غفر وإن شاء عذب، وفي رواية: ((وإن غشيتم من ذلك شيئًا فأخذتم بحده في الدنيا فهو كفارة له، وإن سترتم عليه إلى يوم القيامة فأمركم إلى الله عز وجل: إن شاء عذَّب وإن شاء غفر))، وعند منصرفهم إلى المدينة أرسل معهم مصعب بن عمير وأمره أن يقرئهم القُرْآن ويعلمهم الإسلام، فنزل مصعب بيثرب على أسعد بن زرارة، وبدأ مصعب مهمته على أحسن وجه، لكن سعد بن معاذ زعيم الأوس أزعجه ما كان يقوم به مصعب، فأرسل أسيد بن الحضير لكي يخرجهما من حيه، وأسعد بن زرارة ابن خالة سعد بن معاذ، فحمل أسيد حربته وانطلق إلى مصعب بن عمير، فلما قرب قال أسعد لمصعب: هذا سيد قومه، فاصدُقِ الله فيه، فلما جاء، قال: ما جاء بكما إلينا تسفهان ضعفاءنا؟ اعتزلانا إن كانت لكما بأنفسكما حاجة، فقال مصعب: أو تجلس فتسمع؛ فإن رضيت أمرًا قبلته، وإن كرهته نكف عنك ما تكره! قال: أنصفتَ، ثم ركز حربته وجلس إليهما فكلمه مصعب بالإسلام وقرأ عليه القُرْآن، فعرف في وجهه الرضا والقبول، فبعد أن انتهى قال أسيد: ما أحسن هذا وأجَلَّه! كيف تصنعون إذا دخلتم في هذا الدين؟ فقالا: تغتسل وتطهر ثوبك وتشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، ثم تصلي ركعتين، ففعل وتعلم كيفية الصلاة، فصلى ركعتين، وأخذ حربته وانطلق إلى نادي قومه، فلما رآه سعد بن معاذ قال: أحلف لقد جاءكم أسيد بغير الوجه الذي ذهب به، فقال له سعد: ما فعلت؟ قال: كلمت الرجلين، والله ما رأيت بهما بأس، وافتعل أمرًا لكي يذهب سعد إلى مصعب ليسمع منه، فذهب، وكلماه، فعرض عليه مصعب الإسلام وقرأ عليه القُرْآن، فأسلم وتطهر وصلى ركعتين، ثم ذهب إلى نادي قومه، فلما وقف عليهم قال: يا بني عبد الأشهل، كيف تعلمون أمري فيكم؟ قالوا: سيدنا وأفضلنا، قال: فإن كلام رجالكم ونسائكم عليَّ حرام حتى تؤمنوا بالله ورسوله، فما أمسى في دار بني عبد الأشهل رجل ولا امرأة إلا مسلم أو مسلمة، وواصل مصعب عمله بالدعوة وأعداد الداخلين في الإسلام تزداد، وكان معه ابن أم مكتوم يساعده في نشر الدعوة؛ كما ورد في صحيح البخاري.
محاضر مجلة الأحكام الشرعية بتونس لمحمد الصادق البليش تنشر لأول مرة صدر حديثًا كتاب "محاضر مجلة الأحكام الشرعية: قسم وأحكام الأحوال الشخصية"، تحت رئاسة وزير العدلية وشيخ الإسلام المالكي "محمد العزيز جعيط"، وكاتب تلك المحاضر الشيخ "محمد الصادق البليش"، تحقيق: أ.د. "نور الدين الجلاصي"، وأ. "عبد الهادي البليش"، في أربعة مجلدات، نشر وتوزيع "دار المازري"- تونس. وهي المحاضر التي أنشأها ثلة من مشايخ الجامع الأعظم "الزيتونة"، وتشتمل على قسمي أحكام الأحوال الشخصية وأحكام الأحوال العقارية، وكانت الغاية من إنشائها - وكان ذلك في الأربعينيات - ضبط مواد الأحكام الشرعية الموحدة لفقه المذهبين المالكي والحنفي، وهي بذلك تعد أول عملية تقنين مكتوب موحد بالنسبة للمحاكم الشرعية في تونس، ولم يكتب لهذه المجلة الصدور قبل هذا اليوم لأسباب وعراقيل عدة. هذا وقد حقق هذه المحاضر: الدكتور نور الدين الجلاصي، والأستاذ عبد الهادي البليش (حفيد كاتب المحاضر وهو المفتي الحنفي بالقيروان الشيخ "محمد الصادق بليش"). وهذه المحاضر لها صلة بواقع الناس منذ القرن الماضي، حيث ضمت محاضر الأحكام الشرعية الخاصة بالمحاكم الشرعية والتي بدأت منذ أربعينيات القرن الماضي وامتدت حتى إعلان الاستقلال عن الاحتلال الفرنسي أو إعلان وظهور "مجلة الأحوال الشخصية". وقد بقيت هذه المحاضر في غياهب النسيان، واحتفظ بها مفتي القيروان الشيخ "محمد الصادق البليش" ثم انتقلت من يد ليد؛ حتى وصلت ليد حفيده الأستاذ "عبد الهادي البليش"، الذي قرر تحقيقها والتعليق عليها وإخراجها للنور. وتضم هذه المحاضر الأعمال التحضيرية والتي تعلقت وناقشت إخراج المواد المقننة التي تتعلق بالأحكام الشرعية، في قسمين: قسم الأحوال الشخصية، وقسم الاستحقاق العيني أو الحقوق العينية أو الحقوق العقارية. وقد جمعت مواد هذا الكتاب ثروة فريدة من مواد الفقه الحنفي والفقه المالكي، أشرف على أعمال جمعها شيخ الإسلام المالكي في تونس "محمد العزيز جعيط"، والذي يعد من أعلام الحركة الإسلامية في تونس القرن الماضي، وقد كلّف الشيخ محمد العزيز جعيط بإدارة مشيخة الجامع الأعظم وفروعه من ديسمبر 1358هـ/1939م إلى سنة 1362هـ/1942م. وقام بإصلاحات عدّة منها: تفقّد سير الدّروس وتحسين مستوى الطّلبة العلمي والزّيادة في أجور المدرّسين وإدراج بعض الكتب الفقهيّة والقانونيّة المهمة ضمن مقرّرات الطّبقة العليا بالجامع الأعظم. ثمّ عاد الشّيخ جعيّط إلى المحكمة الشّرعيّة العليا بصفته مفتيًا مالكيًّا في سنة 1363هـ/1943م. وكلّف بعد سنة بنيابة الشّيخ محمد الطّاهر ابن عاشور في مشيخة الاسلام على مقتضى المذهب المالكي. ثمّ استقلّ بهذه الخطّة في سنة 1364هـ/1945م، كما ترأّس في السّنة نفسها جمعيّة الحيّ الزّيتوني من أجل تأسيس مسكن متّسع يأوي التّلامذة الزّيتونيّين المتغرّبين على بلدانهم. ولقد اكتمل في سنة 1371هـ/1952م، بناء هذا الحيّ الذي أصبح منذ سنة 1376هـ/1957م المعهد الثّانوي ابن شرف. وهو حاليًّا مؤسّسة تابعة لوزارة التّعليم العالي. ومنذ أن تولّى هذا المنصب بدأ في إصلاح الدّيوان المعمور إلى أن تولّى خطّة وزير العدليّة التّونسيّة في رمضان 366هـ/ 1947م مع احتفاظه بمشيخة الإسلام في وزارة الكعّاك. ولقد قام إثر ذلك بحركة واسعة النّطاق في سلك المحاكم الشّرعيّة والعدليّة بمختلف جهات المملكة التّونسيّة، منها إزالة المعارك التّي دامت سنين بين الأحناف والمالكيّة، وإيقاف موجة الانتقاد التّي كانت توجّه إلى المحاكم الشّرعيّة، لأنّ القضايا كانت متراكمة على القاضي فلا يفصلها بسرعة لأنّه يكون مجبرًا على مراجعة الكتب الفقهيّة وكتب الفتاوى والنّوازل، إلى أن يكبر حجم القضيّة وتكثر الملفّات وتضيع حقوق المتداعين. ولقد واصل إصلاحاته بوزارة العدل إلى أن حُلّت وزارة الكعّاك سنة 1369هـ/1950م. ولمّا خلفه "صالح بن يوسف" في صلب العدليّة التّونسيّة أيّام وزارة "محمد شنيق" للمرّة الثّانية، أعجب بالاصلاحات التي نفذت في وزارة العدل. وبعد أن استقال الشّيخ جعيّط من وزارة العدل واصل نشاطه في مشيخة الإسلام. فسعى إلى نقل المحكمة الشّرعيّة من الدّيوان إلى مكان لائق بالقصبة في سنة 1372هـ/1952م (وهو مقرّ لجنة التّنسيق حاليًّا)، وشارك في لجنة إصلاح التّعليم الزّيتوني السّادسة في سنة 1375هـ/1955م، كما كان له موقف رافض لفكرة اللاّئكيّة التّي ظهرت عند إعلان الاستقلال الدّاخلي. وبعد الاستقلال التّام وتوحيد القضاء وإلغاء المحاكم الشّرعيّة، عُيِّنَ في سنة 1376هـ/1956م مفتيًا للدّيار التّونسيّة، إلى سنة 1379هـ/1960م سنة إحالته على عدم المباشرة. فلازم بيته للتّأليف إلى أن توفيّ في 27 شوّال 1389هـ/ 1970م. أما عن كاتب هذه المحاضر فهو محمد الصادق ابن الشيخ محمد بن الشيخ حمودة البلّيش الصنهاجي القيرواني (1317 - 1384 هـ‍) (1899 - 1964 م)، الفقيه من أعلام المذهب الحنفي، والخطيب المفوّه. من مؤلفاته: 1- جمع الأحاديث المفردة الواردة في صحيح البخاري وتعليق على الأحاديث المكررة. 2- خطب منبرية، تعتبر من أشمل الخطب وأبلغها وأجمعها لأصول الأخلاق الإسلامية والهدي المحمدي ومعالجة الأمراض الاجتماعية. 3- دروس إنشائية ومنتخبات أدبية، قال عنه الشيخ محمد الفاضل بن عاشور: "وكتاب الشيخ الصادق البليش «القواعد الإنشائية» بما حوى من القواعد والتوجيهات، وما اشتمل عليه من المثل الأدبية المنتقاة بتقسيمها وتنسيقها والكشف عن مظاهر الجمال البلاغي فيها يعتبر مثالًا للنقد الأدبي والتوجيه البلاغي الذي هو من أخص خصائص النثر العلمي". 4- مجموعة في التعريف بمعالم ومساجد القيروان، تبنّت ولاية القيروان بعضها وجعلتها في نقائش من الرخام علقت على جدران تلك المعالم. 6- مجموعة في الصلوات على النبي صلّى الله عليه وسلم. 7- مجموعة من الأحكام الشرعية التي أصدرها، مجلدان. 8- مختصر في مسائل الأقضية طبق المذهب الحنفي. 9- مناسك الحج على مقتضى المذهب الحنفي.
منهج الإمام البخاري في الجمع والتفريق مقدمًا بدراسات روايات (التاريخ الكبير) صدر حديثًا كتاب "منهج الإمام البخاري في الجمع والتفريق مقدمًا بدراسات روايات (التاريخ الكبير) وبيان آخر ترجيحاته (ومناقشة ترجيح المعلمي في ذلك)"، تأليف أ.د. "الشريف حاتم بن عارف العوني"، نشر "المكتبة العمرية" و"دار الذخائر للنشر والتوزيع". وهذا الكتاب بحث دقيق في كتاب من أجل كتب التراجم، وهو (التاريخ الكبير) للإمام البخاري، والذي هو أول كتاب في تراجم الرواة مرتَّبًا على حروف المعجم. وفي قضية مهمة جدًا من قضايا هذا الكتاب الحافل بكل المهمات، وهو ما أثاره الشيخ المحقق المدقق عبدالرحمن المعلمي اليماني (1832 هـ) خلال تحقيقاته، فيما يتعلق بمنهج البخاري في الجمع والتفريق، ونعني بها: متى يمكن أن نعدّ البخاري قد جعل الراوي راويين، ومتى جعله راويًا واحدًا. ونجد أن الأصل في كتب التراجم أن كل ترجمة منفصلة عن غيرها تدل على اختصاصها براو لا علاقة له بترجمة أخرى، حتى لو تشابهت أسماء الرواة. هذا هو الأصل المطرد في كل كتب التراجم، والذي لا يُخرج عنه إلا إنْ نَصَّ صاحب الكتاب على علاقة ترجمةٍ بترجمة أخرى، كأن يصرِّح بقول يدل على ذلك، كأن يقول: «فلان هو فلان» مشيرًا إلى ترجمة سابقة أو لاحقة، أو يذكر أي شيء يدل على هذا الجمع بين الراويين، وأنه يُصوِّب كونهما راويًا واحدًا. وهذا هو منهج الإمام البخاري في (التاريخ الكبير) في مسألة الجمع والتفريق بين الرواة، كبقية كتب التراجم. وهكذا فهم العلماء كلهم منهج البخاري في تاريخه، واستفادوا من كتابه وناقشوه بناء على هذا المنهج. حتى جاء الشيخ عبد الرحمن المعلِّمي (رحمه الله) فادّعى منهجًا للبخاري في تاريخه لم يُسبق إلى مثله في أي كتاب من كتب التراجم. واستند في ادّعائه هذا إلى ثلاثة مستندات، ظنها أدلة. فيقرر المعلمي هنا عدة أمور متعلقة بمنهج البخاري في دلالته على جمعه وتفريقه بين الرواة في تاريخه: 1- أن تفريق ترجمة متشابهي الأسماء لا يدل على التفريق مع الاقتران، أي مع توالي ترجمتيهما تِباعًا عند البخاري، إذا سمح له الترتيبُ المعجمي بذلك. 2- أن تفريق ترجمة متشابهي الأسماء لا يدل على التفريق مع الاقتران: دلالته سلبية، أي: إن البخاري متوقف في الجمع والتفريق، فالأمر عنده على الاحتمال. 3- أن تفريق ترجمة متشابهي الأسماء لا يدل على التفريق مع الاقتران، مع إضافة ما يدل على علاقة الترجمتين ببعض، كتصريحه بنحو قوله: "أراه الأول" فهذا يدل على أن البخاري يقوِّي ذلك، ولم يتحقَّقه. 4- أن تفريق ترجمة متشابهي الأسماء لا يدل على التفريق حتى مع عدم الاقتران، إذا كان الترتيب المعجمي يُلزم بالتفريق بين التراجم، لكنه يشير إلى علاقة الترجمتين ببعضهما، أو يكتفي بظهور ذلك ووضوحه عن الإشارة. 5- يؤكد المعلمي أن البخاري في كثير من المواضع لم يجزم، وأبقاها على الاحتمال، بخلاف الخطيب الذي كان يجزم في موضع الاحتمال. وقد أكّد المعلمي على هذه التقريرات لمنهج البخاري في الجمع والتفريق خلال سيره في محاكمة توهيمات الخطيب وغيره للبخاري؛ إذ صار يحاكم الخطيبَ البغدادي وغيره إلى هذه التقريرات، كما ستراه في عامة تعليقاته على الخطيب، مؤكِّدًا ما ذُكرَ آنفًا في تفصيل معنى كلامه. فجاء هذا البحث ليناقش مستندات المعلمي، مبينا بطلانها، ومؤكدًا أن منهج (التاريخ الكبير) للبخاري في مسألة الجمع والتفريق كمنهج بقية كتب التراجم، خلافًا لتقرير الشيخ المعلمي (رحمه الله). وتكمن مشكلة البحث في: أن هذا المنهج الذي ذكره المعلمي ونسبه للبخاري يخالف الأصل المستقر من تصرف علماء التراجم، وأنه لم يذكر أدلة كافية على إثبات قوله رحمه الله. وناقش الكاتب هذه القضية الدقيقة المهمة من خلال مناقشة أدلة المعلمي الثلاثة التي اعتمد عليها في الذهاب إلى هذا القول في مباحث ثلاثة، وفق الخطة الآتية: المقدمة: وفيها مشكلة البحث وأهميته. المبحث الأول: الدليل الأول عرض ومناقشة. المبحث الثاني: الدليل الثاني عرض ومناقشة. المبحث الثالث: الدليل الثالث عرض ومناقشة. الخاتمة: وتشتمل على النتائج والتوصيات. إلى جانب فهرس للمصادر والمراجع وكانت نتيجة البحث هي التالي: 1- أن الإمام البخاري كغيره من المصنفين في التراجم، يدل تفريق التراجم عنده على افتراق أصحابها، سواء تابع بين تراجم المشتبهين وقرنها أو بعَدَ بينها؛ إلا إن جاء ما يدل على خلاف ذلك. 2- أن كلام المعلمي (رحمه الله) في بيان منهج الإمام البخاري في الجمع والتفريق كان خطأ خالصًا، لم يُوفق فيه إلى الصواب. والمؤلف هو أ.د. "الشريف حاتم بن عارف العوني " من مواليد "الطائف" في رجب عام 1385 هـ، التحق بجامعة أم القرى بمكة المكرمة. واختار قسم الكتاب والسنة، بكلية الدعوة وأصول الدين. فحصل على البكالوريوس سنة (1408 هـ)، ثم الماجستير بسنة (1415 هـ) ثم الدكتوراه سنة (1421 هـ) ويشغل الآن منصب أستاذ مساعد بقسم الكتاب والسنة. له العديد من التحقيقات والمؤلفات منها: التحقيقات: • وفيات جماعة من المحدثين لأبي مسعود الحاجّي الأصبهاني. نشر دار الهجرة بالخبر سنة 1414 هـ. • جزء خبر شعر ووفادة النابغة الجعدي على النبي - صلى الله عليه وسلم -. المنسوب لأبي اليمن الكندي. • مشيخة أبي عبد الله محمد بن أحمد بن ابراهيم الرازي المعروف بابن الحطاب، بانتقاء أبي طاهر السلفي. دار الهجرة. الخبر. 1414 هـ. • مشيخة أبي طاهر ابن أبي الصقر. مكتبة الرشد: الرياض. 1415 هـ. • معجم مشايخ أبي عبد الله محمد بن عبد الواحد الدقاق. مكتبة الرشد: الرياض. 1415 هـ. • مجلس إملاء للدقاق في رؤية الله - تبارك وتعالى -. مكتبة الرشد: الرياض، 1415 هـ. • أحاديث الشيوخ الثقات (المشيخة الكبرى). لأبي بكر محمد بن عبد الباقي الأنصاري. دار عالم الفوائد. مكة المكرمة (1422هـ)، وهي رسالة الدكتوراه. • تسمية مشايخ أبي عبد عبدالرحمن النسائي، وكتاب المدلسين له. وهو مقدم إلى كلية أصول الدين بالأزهر، وقد حكم، وفي طريقه للنشر، إن شاء الله تعالى. المؤلفات والبحوث: • منهج المقترح لفهم المصطلح. دار الهجرة بالخبر. 1416 هـ. • المرسل الخفي وعلاقته بالتدليس دراسة نظرية وتطبيقية على مرويَّات الحسن البصري. دار الهجرة بالخبر. 1418 هـ (وهو رسالة الماجستير). • نصائح منهجية لطالب علم السنة النبوية. دار عالم الفوائد بمكة المكرمة. 1418 هـ. • ذيل لسان الميزان. دار عالم الفوائد بمكة المكرمة 1418هـ. • العنوان الصحيح للكتاب. دار عالم الفوائد بمكة المكرمة. 1419 هـ. • خلاصة التأصيل لعلم الجرح والتعديل. دار عالم الفوائد بمـكة المكرمة. 1421 هـ. • إجماع المحدثين على عدم اشتراط العلم بالسماع في الحديث المعنعن بين المتعاصرين. دار عالم الفوائد بمكة المكرمة. 1421 هـ. • بيان الزمن الذي يمتنع فيه الحكم على الأحاديث عند ابن الصلاح. بحث حكم في مجلة الأزهر.
مميزات كتاب (الإقناع) للإمام الكبير أبي بكر بن المنذر وكذلك كتابيه (الإشراف على مذاهب العلماء) و (الأوسط) بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان وسلم تسليماً كثيراً وبعد: فإنني قد وقفت بفضل الله تعالى على كتاب ( الإقناع ) للإمام الكبير العلم أبي بكر بن المنذر -رحمه الله- فألفيته كتاباً مختصراً نافعاً مفيداً من الأهمية بمكان، ويجدر أن يعتني به كل مشتغل بالعلم، فإنه يصلح أن يكون تعليماً للمبتدي وتذكيراً للمنتهي، وقد أعجبت به غاية الإعجاب، فرغبت أن أقدم مزاياه للمشتغلين بالعلم عساهم أن يغتنموه، ويعتنوا به، ويتركوا كثيراً من المتون الفقهية للمتأخرين التي خلت من الأدلة الشرعية وملئت بالأقوال الضعيفة والباطلة، وقد لخصت هذه المزايا فيما يأتي: أولاً: يتميز كتاب الإقناع أن مؤلفه إمام كبير من أئمة السلف الصالح، وهو الإمام أبو بكر محمد بن إبراهيم بن المنذر النيسابوري، وهو إمام مجتهد غاية في التمكن من العلم في الحديث والفقه فلا يتقيد بمذهب بعينه بل يختار ما وافق الدليل الصحيح. قال الحافظ الذهبي في كتابه سير أعلام النبلاء (14/ 491): (قَالَ الشَّيْخُ مُحْيِي الدِّيْنِ النَّوَاوِيُّ: لَهُ مِنَ التَّحْقِيْقِ فِي كُتُبِه مَا لاَ يُقَارِبُهُ فِيْهِ أَحَدٌ، وَهُوَ فِي نِهَايَةٍ مِنَ التَّمكُّنِ مِنْ مَعْرِفَة الحَدِيْثِ، وَلَهُ اخْتِيَارٌ فَلاَ يَتَقيَّدُ فِي الاخْتِيَارِ بِمَذْهَبٍ بِعَيْنِهِ، بَلْ يَدُورُ مَعَ ظُهُوْر الدَّلِيْلِ. قُلْتُ: مَا يَتَقَيَّدُ بِمَذْهَبٍ وَاحِدٍ إِلاَّ مَنْ هُوَ قَاصِرٌ فِي التَّمَكُّنِ مِنَ العِلْمِ، كَأَكْثَرِ عُلَمَاءِ زَمَانِنَا، أَوْ مَنْ هُوَ مُتَعَصِّبٌ، وَهَذَا الإِمَامُ فَهُوَ مِنْ حَمَلَةِ الحُجَّةِ، جَارٍ فِي مِضْمَارِ ابْنِ جَرِيْرٍ، وَابْنِ سُرَيْجٍ، وَتِلْكَ الحَلَبَةِ، رَحِمَهُمُ اللهُ). اهـ ثانياً: يتميز كتاب (الإقناع) أن مؤلفه من الأئمة المتقدمين، فقد ذكر أهل العلم أن الإمام ابن المنذر ولد في حدود موت الإمام أحمد بن حنبل، والإمام أحمد توفي عام (241هـ) وقد توفي الإمام ابن المنذر عام (318هـ) في أصح أقوال أهل العلم، ولا شك أن كتب المتقدمين جدير بأن يعتني بها طالب العلم. ثالثاً: يتميز كتاب ( الإقناع ) أنه جمع بين الحديث والفقه، فيذكر الأحاديث بأسانيده إلى النبي صلى الله عليه وسلم ثم يذكر الفقه المستنبط منها، وقد يتكلم على بعض الأحاديث من حيث الصحة والضعف، وهذه الطريقة تقوي الطالب حديثياً وفقهياً فيكون عالماً بالدليل رواية ودراية. رابعاً: يتميز كتاب ( الإقناع ) بسهولة عبارات المؤلف، إذ لم يتقعر في الكلام ويأت بغريب الألفاظ، وإنما تكلم بكلام واضح يسهل فهمه للقارئ وكأنه معاصر لنا. خامساً: يتميز كتاب ( الإقناع ) بأن كلامه مختصر، فهو ليس بالطويل الممل ولا بالمختصر المخل، بل عوان بين ذلك. سادساً: يتميز كتاب ( الإقناع ) بأن المؤلف نقل الإجماع في كثير من المسائل، فمطالعته تفيد الطالب في معرفة الإجماع الوارد في كثير من المسائل دون الحاجة للرجوع للكتب الأخرى الخاصة بالإجماع غالباً. سابعاً: يتميز كتاب (الإقناع) أنه مستوعب لجميع أبواب الفقه من أول كتاب ( الطهارة ) إلى ( الإقرار ) على الرغم من اختصاره. وقد ذكر محقق الكتاب الدكتور عبد الله بن عبد العزيز الجبرين -وفقه الله- في مقدمته أن هذا هو ( الكتاب الوحيد من كتب هذا الإمام الذي وجد كاملاً مشتملاً على آرائه الفقهية! ) ولا شك أنه قال ذلك قبل رؤيته لكتاب الإمام ابن المنذر ( الإشراف على مذاهب العلماء ) كاملاً فإنه حينذاك لم يكن طبع منه إلا بعض الأجزاء، ثم بعد ذلك وفق الله الدكتور أبا حماد صغير أحمد الأنصاري فقام بتحقيق كتاب ( الإشراف على مذاهب العلماء ) وطبع كاملاً بفضل الله تعالى، وهو من الموسوعات الفقهية القيمة التي غفل عنها كثير من الشيوخ وطلبة العلم. ولو قال قائل: إن هذا الكتاب هو الوحيد المسند من كتب هذا الإمام الذي وجد كاملاً مشتملاً على آرائه الفقهية لكان صواباً. وأخيراً: فإن كتاباً بهذه المميزات جدير بالعناية والاهتمام خاصة وأن كتب كثير من المتأخرين من الفقهاء لم يكن مؤلفوها على العقيدة السلفية، وإذ الأمر كذلك فينبغي أن يعض على مثل ذلك بالنواجذ، فهو من القليل النادر، وما أحوجنا لمثله في أيامنا الآن. ويتميز كتابا (الإشراف على مذاهب العلماء) و(الأوسط) للإمام ابن المنذر بجميع ما سبق ما عدا ما يلي: 1- ما ورد في ( خامساً ) فإن هذين الكتابين توسع فيهما وأكثر من عرض الأدلة وخلاف العلماء، وكتاب ( الأوسط ) أوسع في ذلك أيضاً فإن كتاب (الإشراف على مذاهب العلماء) مختصر منه. ولا شك أن هذين الكتابين كموسوعة فقهية كبيرة لا تقل أهميتهما ومكانتهما عن كتاب ( المغني ) للموفق ابن قدامة، وكتاب ( المجموع ) للنووي –رحمهم الله جميعاً- بل لأهمية فقه الإمام ابن المنذر ومدى اجتهاده؛ أكثر جداً من النقل عنه ابن قدامة والنووي في كتابيهما. 2- ما ورد في ( ثالثاً ) لا يشمل كتاب (الإشراف على مذاهب العلماء) من كل جهة لأنه اختصره بحذف أسانيده، وكتاب ( الأوسط ) أوسع على الإطلاق في هذا الجانب من حيث ذكر الأحاديث والآثار بالإسناد. 3- ما ورد في ( سابعاً ) لا يشمل كتاب ( الأوسط ) لأنه لم يطبع كاملاً إذ هناك بعض الأجزاء منه مازالت مخطوطة في حكم المفقود، يسر الله الحصول عليها وإخراجها ليستفيد المسلمون منها. تنبيه هام: فإن هذا الكتاب كغيره من الكتب العلمية يوجد به بعض المسائل قد جانب فيها الإمام أبو بكر بن المنذر –رحمه الله– الصواب، وهو مأجور على اجتهاده، ورحم الله من قال: (أبى الله أن يتم إلا كتابه )، ولكن جدير بمن وقف على قول له أو لغيره -في أي كتاب كان- يخالف الأدلة الشرعية الصحيحة ألا يتعصب لقوله ولا لقول فلان أو علان، وإنما يتبع الدليل وينصاع للحق، وقد قال بعض أئمة السلف الصالح: أهل السنة يدورن مع الحق حيث دار. وأشكر الدكتور عبد الله بن عبد العزيز الجبرين على ما قام به من جهد مشكور في تحقيق كتاب ( الإقناع ) وإخراجه في صورة جيدة، وأشكر الدكتور أبا حماد صغير أحمد الأنصاري على جهده في تحقيق كتاب ( الإشراف على مذاهب العلماء ) وأشكر مجموعة المحققين الذين قاموا بتحقيق كتاب ( الأوسط )، وأسأل الله تعالى أن ييسر الحصول على بقية مخطوطات الكتاب المفقودة ليطبع كاملاً بعد ذلك. هذا والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين. كتبه أبو عبد الله وائل بن على بن أحمد آل عبد الجليل الأثري الأحد: 21/ صفر/ 1433هـ 15/ يناير/ 2012م alsalafy1433@hotmail.com
إلى من يتوهم الصراع بين العقل والنقل الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد: مما يحزنك وتأسف له كمسلم غيور تغار على دينك، وتخاف على إخوانك عندما تخاطب شخصًا يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسولُ الله بـ "قال الله" و"قال رسوله صلى الله عليه وسلم"، ثم تتفاجأ بإجابته: إنه لم يقتنع! ويتوهم أن هناك صراعًا وتعارضًا فيما جاءت به الشريعة الإسلامية ومصادرها مع العقل، ويعيش دور المنقذ لحل هذا الصراع القائم بين العقل والنقل، ثم يُنادي بعدم امتهان عقل الإنسان وقدسيته، وتعظيم العقل المجرد على تعظيم النصوص الشرعية، ومصادر التشريع، وأنه لا يُسلم لدليل من القرآن أو السنة دون اقتناع العقل، وذلك بإخضاع شرع الله كاملًا لعقل الإنسان المتقلِّب الناقص، والمجرد من النقل الصحيح، حينها تعلم أنه وقع في منزلق خطير جدا ؟! فالحق عنده ما وافق الهوى، وما استحسنَتْه النفس الأمَّارة بالسوء، فهو كحال اليهود؛ يؤمنون ببعض ويكفرون ببعض، فيأخذ ما يشاء ويترك ما يشاء، قد زيَّن له الشيطان سوء عمله، وأعمى بصيرته قال تعالى: ﴿ أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ ﴾ [محمد: 14]. قال السعدي: أي: لا يستوي من هو على بصيرة من أمر دينه علمًا وعملًا، قد علم الحق واتَّبَعه، ورجا ما وعده الله لأهل الحق، كمن هو أعمى القلب، قد رفض الحق وأضلَّه، واتَّبَع هواه بغير هدًى من الله، ومع ذلك، يرى أن ما هو عليه من الحق، فما أبعد الفرق بين الفريقين! وما أعظم التفاوُت بين الطائفتين؛ أهل الحق وأهل الغي! انتهى. فما جاء بالوحيَينِ كُلُّه حقٌّ يصدق بعضه بعضًا، وهو موافق للفطرة المستقيمة، ولا يتعارض مع العقل الصريح بإدراك الحقائق الشرعيَّة في القرآن والسنة أصلًا، والمؤمنون أبصر الناس بهذه الحقائق؛ لجمعهم بين النقل الصحيح والعقل الصريح، قال تعالى: ﴿ أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [الأنعام: 122]. ومما ينبه عليه أنه قد يتوهَّم الإنسان ويشكل عليه وجود تعارض بين النقل والعقل في الظاهِرِ، فماذا يفعل؟ يُقدم النَّقْل على العقل، ولا شكَّ؛ لأنَّ النَّقْل عِلْمُ الخالِقِ الكامِلِ، والعَقْلَ عِلْمُ المخلوقِ القاصِر، وهذا التعارض يكون بحسب الظاهر لا بحقيقة الأمر، فالقدسية المطلقه للوحْيَينِ، فالوحي هو الذي يَهْدِي الأنبياء، ويَهْدِي أَتْباعَهم إلى الحق، ويدل على هذا قول الله تعالى: ﴿ قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ ﴾ [سبأ: 50]، وقوله سبحانه: ﴿ قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ ﴾ [النور: 54]، فلا هداية إلا لمن اتَّبَع الوحي، ومن لم يتبعه فقد ضلَّ ضلالًا مبينًا؛ لذلك لا نهتدي إلى الله بالعقل المجرد من نور الشرع، فكما أنَّ العين لا تبصر إلا بنور الشمس، كذلك العقل لا يبصر إلا بنور الشريعة كما قال شيخ الإسلام: "هذا طريق النجاة من العذاب الأليم، والسعادة في دار النعيم، والطريق إلى ذلك الرواية والنقل؛ إذ لا يكفي من ذلك مجرد العقل؛ بل كما أن نور العين لا يرى إلا مع ظهور نور قدَّامه، فكذلك نور العقل لا يهتدي إلا إذا طلعت عليه شمس الرسالة"؛ انتهى، [مجموع الفتاوى 1/ 6]. قال تعالى: ﴿ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [المائدة: 15، 16]، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "كل ما يدل عليه الكتاب والسُّنَّة فإنه موافق لصريح المعقول، والعقل الصريح لا يخالف النقل الصحيح؛ ولكن كثيرًا من الناس يغلطون إما في هذا وإما في هذا، فمن عرف قول الرسول ومراده به كان عارفًا بالأدلة الشرعية، وليس في المعقول ما يخالف المنقول.."؛ [مجموع الفتاوى 3/ 339]. لذلك تجد أن العقل يكون تابعًا للنقل، فهما أخوان لا عدوان يتصارعان؛ بل نصيران لبعضهما، كما قال ابن القيم: "والسمع الصحيح لا ينفكُّ عن العقل الصريح؛ بل هما أخوان نصيران، وصَلَ الله بينهما، وقرن أحدهما بصاحبه؛ فقال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ﴾ [الأحقاف: 26]. فذكر ما ينال به العلوم؛ وهي: السمع والبصر، والفؤاد الذي هو محل العقل، وقال تعالى: ﴿ وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ ﴾ [الملك: 10]، فأخبروا أنهم خرجوا عن موجب السمع والعقل، وقال تعالى: ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ ﴾ [يونس: 67]، ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ﴾ [الرعد: 4]، وقال: ﴿ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ﴾ [محمد: 24]، فدعاهم إلى استماعه بأسماعهم، وتدبُّره بعقولهم، ومثله قوله: ﴿ أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ ﴾ [المؤمنون: 68]، وقال تعالى: ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ ﴾ [ق: 37]، فجمع سبحانه بين السمع والعقل، وأقام بهما حجته على عباده، فلا ينفك أحدهما عن صاحبه أصلًا. فالكتاب المنزَّل والعقل المدرك حُجة الله على خلقه، وكتابه هو الحُجة العظمى، فهو الذي عرفنا ما لم يكن لعقولنا سبيل إلى استقلالها بإدراكه أبدًا، فليس لأحد عنه مذهب، ولا إلى غيره مفزع، في مجهول يعلمه، ومشكل يستبينه، وملتبس يوضحه"؛ انتهى [الصواعق المرسلة 2/ 457]. فالمتأمل يجد أن النتيجة المتوقعة لمن يعاند ويجادل على تعظيم العقل وحده دون تعظيم الشريعة في قلبه- هي إسقاط ما أوجبه الله عليه سواء علِمَ بهذا أو لم يعلم؛ ومِن ثمَّ لا تستغرب أن ترى أو تسمع أحدهم لا يلتزم بالفرائض، ويقترف المحرَّمات بحجة عدم اقتناعه التام بمصادر التشريع، وما يترتب عليها من أحكام، أو يقوم على تفسير الوحيين بفهم جديد سقيم، لم يسبقه إليه أحد من السلف الصالح في القرون المفضلة، والذين لم يُسمَع منهم حرفٌ واحدٌ أنهم ردُّوا نصًّا صحيحًا؛ لأنه خالف العقل؛ وذلك لتحقق أمرين فيهم: ١- النقل الصحيح: فهم لا يبنون معتقدهم ودينهم إلا على الثابت من النُّقُول الصحيحة. ٢- العقل الصريح السليم من الآفات المضلَّة من شبهات وشهوات وأهواء، أو تعصُّب لآراء منحرفة، أو تأثُّر بلوثات فكرية أو كلامية أو فلسفية، ونحو ذلك. لذلك كان السلف الصالح من القرون المفضلة أبْصَرَ الناسِ بمصادر التشريع وحقائقها، فهم المَعينُ الصافي، والنهر الجاري، ومنهج سلف الأمة، ومن أثنى عليهم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فهم أعلم وأتقى وأصدق، وأقرب الخلق إلى الوحْيَينِ، ومن سار على نهجهم من أئمة التحقيق، والعلماء الراسخين الذين أجمعت الأمة على إمامتهم، فنحن لا نستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير، فماذا بعد قول الله ورسوله من دليل وحجه وبيان؟! إذًا من يتوهَّم وجود صراع بين العقل ومصادر التشريع الربانية حقيقته قصور عقله هو، وضعف إيمانه هو؛ لهذا المسلم يراجع إيمانه، ويرجع لربِّه، ويسأل الله الهداية والسداد قبل أن تزلَّ به القدم فيهلك، وكونك لم تقتنع بـ"قال الله" و"قال رسوله صلى الله عليه وسلم" هذا لا يخرجك من دائرة الحساب والمسؤولية أمام الله يوم القيامه. فما هو الردُّ المقنع عندما تقف بين يدي الجبَّار جل جلاله، فأعِدَّ للسؤال جوابًا، وحذارِ أن يكون حالُك كالذي قال الله عنه: ﴿ قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى ﴾ [طه: 126]، فكان الجزاء من جنس العمل يوم القيامة والعياذ بالله، فاللهم أَرِنا الحق حقًّا، وارزقنا اتِّباعه، وأرِنا الباطل باطلًا، وارزقنا اجتنابه، ولا تجعلنا يا ربَّنا ممن قلت فيهم: ﴿ الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا ﴾ [الكهف: 104]. آمين آمين وصلى الله وسلم على رسول الله. سلطان بن سراي الشمري bensrray@hotmail.com
أصول في المعاملات المالية المعاصرةلخالد بن عبدالله المصلح صدر حديثًا في طبعة جديدة كتاب "أصول في المعاملات المالية المعاصرة"، تأليف: أ.د. "خالد بن عبدالله المصلح"، نشر: "مكتبة الرشد للنشر والتوزيع". جمع الكاتب في هذه البحث ما تيسر من أصول تنبنى عليها المعاملات المالية، وحرصَ فيها على الاختصار والاقتصار على مهمات الأصول، التي تدخل في جميع أبواب المعاملات، وإليها ترجع غالب قواعده ومسائله. والعلم بهذه القواعد والأصول يفتح كثيرًا من المغلقات على طلاب العلم، في باب المعاملات، لذلك لا يستغني عنها الطالب المبتدئ، كما ينتفع بها المرتقي. وقد اصطفى الكاتب من قواعد الباب وأصوله سبعة أصول، هي أمهات قواعد هذا الباب، وهي كما يلي: 1) الأصل في المعاملات. 2) منع الظلم. 3) منع الربا. 4) منع الغرر. 5) منع الميسر. 6) منع التدليس والغش. 7) سد الزرائع. وجاءت فصول الكتاب ومباحثه على النحو التالي: تمهيد: أولًا: المراد بالأصول. ثانيًا: المراد بالمعاملات. القول الأول: أن المعاملات هي المعاوضات المالية. القول الثاني: أن المعاملات تشمل كل ما كان راجعًا إلى مصلحة الإنسان مع غيره. الأصل الأول: الأصل في المعاملات الحل: القول الأول: الأصل في المعاملات الإباحة. القول الثاني: الأصل في المعاملات الحظر. أدلة القول الأول: أولًا: من الكتاب. ثانيًا: من السنة. ثالثًا: من النظر. أدلة القول الثاني: أولًا: من الكتاب. ثانيًا: من السنة. الأصل الثاني: منع الظلم: المطلب الأول: تعريف الظلم. المطلب الثاني: الظلم في المعاملات. المطلب الثالث: تطبيقات على الظلم في المعاملات المالية المعاصرة. الأصل الثالث: منع الربا: المطلب الأول: تعريف الربا. الربا في اللغة. الربا في اصطلاح الفقهاء. المطلب الثاني: الربا في المعاملات. من أدلة السنة. المطلب الثالث: تطبيقات على الربا في المعاملات المالية المعاصرة. الأصل الرابع: منع الغرر: المطلب الأول: تعريف الغرر. المطلب الثاني: ضابط الغرر الممنوع في المعاملات. المطلب الثالث: تطبيقات على منع الغرر في المعاملات المالية المعاصرة. الأصل الخامس: منع الميسر: المطلب الأول: تعريف الميسر. المطلب الثاني: الفرق بين الغرر والميسر. المطلب الثالث: الميسر في المعاملات. المطلب الرابع: تطبيقات على منع الميسر في المعاملات المالية المعاصرة. الأصل السادس: الصدق والأمانة (منع التدليس والغش): المطلب الأول: تعريف الصدق والأمانة. المطلب الثاني: ضابط الصدق والأمانة في المعاملات. المطلب الثالث: تطبيقات على منع الغش في المعاملات المالية المعاصرة. الأصل السابع: سد الذرائع في المعاملات: المطلب الأول: التعريف بقاعدة سد الذرائع. المطلب الثاني: تحرير محل النزاع في قاعدة سد الذرائع. المطلب الثالث: ضوابط العمل بقاعدة سد الذرائع. المطلب الرابع: تطبيقات على سد الذرائع في المعاملات المالية المعاصرة. وقد بَيَّنَ الكاتب أن المقصود بالأصل في هذه الورقات، هي القاعدة الكلية المستمرة، والأمر المستصحب في باب المعاملات المالية. ويقصد الكاتب بالمعاملات هي المعاوضات المالية، وما يتصل بها كالبيع والسلم والإجارة والشركة والرهن والكفالة والوكالة ونحو ذلك وهذا هو مذهب المالكية والشافعية والحنفية. وأكدَّ الكاتب في خاتمة دراسته على أهمية التأصيل في باب المعاملات المالية، وأنه بحاجة إلى أن يوليه المعلمون والمتعلمون عناية فائقة، وما يزال المجال مفتوحًا لمزيد كتابة وتحرير في هذا الباب من أبواب العلم تأصيلًا وتطبيقًا. والمؤلف هو د. "خالد بن عبد الله بن محمد المصلح" (ولد في مدينة مكة سنة 1385 هـ / 1965 م) يعمل مفتيًا وأستاذًا للفقه بكلية الشريعة بجامعة القصيم في السعودية، وهو إمام وخطيب جامع العليا بمحافظة عنيزة - القصيم، ورئيس لجنة طلبة العلم في جامع الشيخ ابن عثيمين، وعضو اللجنتين العلمية والإعلامية في التوعية في الحج، وعضو رابطة العالم الإسلامي وغيرها من العضويات، ومفتيًا في برنامج "يستفونك" على قناة الرسالة. حصل على بكالوريوس في نظم المعلومات في كلية الإدارة الصناعية من جامعة الملك فهد للبترول والمعادن. بعد ذلك التحق بكلية الشريعة التابعة لجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية فرع القصيم وحصل منها على البكالوريوس. بعد ذلك حصل على الماجستير لرسالته بعنوان "الحوافز المرغبة في الشراء وأحكامها في الفقه الإسلامي"، ثم على الدكتوراه في الفقه من رسالته بعنوان "أحكام التضخم النقدي في الفقه الإسلامي". حفظ القرآن على يد محمد بن سلمان السلمان، وفي سنة 1403 هـ بدأ دراسته لدى محمد بن صالح العثيمين وفي سنة 1408 هـ أصبح ملازمًا له، وقرأ عليه في التفسير والحديث وأصول الدين والفقه والأصول واللغة. قرأ الفقه على كل من الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن البسام والشيخ عبد العزيز بن علي المساعد. قرأ في النحو والأدب على الشيخ علي بن محمد الزامل، وقرأ في النحو على عبد الله بن صالح الفالح، كما تواصل مع الشيخين عبد العزيز بن باز ومحمد بن ناصر الدين الألباني. له العديد من الكتب والتحقيقات والشروح منها: 1) "الأطعمة المعدلة وراثيًا - رؤية شرعية". 2) "رؤية شرعية في تحديد سن ابتداء الزواج". 3) "هدايا العمال والموظفين ضوابطها وتطبيقاتها المعاصرة". 4) "إخبار الطبيب أحد الزوجين بنتائج الفحوص الطبية للآخر - رؤية شرعية". 5) "التسويق الشبكي رؤية شرعية". 6) "النوازل الفقهية عند الشيخ ابن عثيمين - دراسة تأصيلية تطبيقية". 7) "الحلول المقترحة لحل مشكلة الأراضي البيضاء - رؤية شرعية". 8) "أحكام الإحداد". 9) شرح "العقيدة الواسطية" من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية. 10) تحقيق: شرح منظومة "القواعد الفقهية" للشيخ السعدي. 11) "الأطعمة المعدلة وراثيًا - رؤية شرعية". 12) "رؤية شرعية في تحديد سن ابتداء الزواج". 13) "شرح العقيدة الطحاوي". 14) "شرح الورقات في أصول الفقه". 15) "حصاد المنابر".
من منطلقات العلاقات الشرق والغرب (الفوقية والدونية) حوار الأديان قضية قديمة تتجدد مع الزمان،ويزيد من الاهتمام بها ازدياد الإقبال على الإسلام، فتهبُّ العقائد الأخرى، لا سيما النصرانية، في محاولة التركيز على نقاط اللقاء،ومعلوم لدينا أن هذا الحوار قد بدأ مع أول هجرة للمسلمين إلى الحبشة - كما سبق ذكره أكثر من مرة - فحاورهم النجاشي حوارًا أراد منه أن يصل إلى الحق؛ ولذلك عندما وصل إليه آمن بالبعثة، وتوفي مسلمًا مؤمنًا بالله ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم. ثم قدم وفد نجران إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان بينه وبينهم حوار انتهى بإسلام بعضهم على الأقل،وكان هناك حوار بين موفَد النبي صلى الله عليه وسلم وهرقل عظيم الروم،وكل هذه الحوارات مسجلة في سيرة المصطفى - عليه الصلاة والسلام [1] ،واستمر الحوار إلى يومنا هذا في نماذج فريدة، يريد منها المحاور المسلم إقناع الآخر بالرسالة؛ طمعًا في إسلامه، أو درء شره على الأقل، إن أصر على الكفر بالرسالة والرسول صلى الله عليه وسلم [2] . الذي يجمع بين الحوارات الفاعلة انطلاق المحاور المسلم من قوة الإيمان بالله تعالى، وبالرسالة، والرسول صلى الله عليه وسلم،ويكفي أن نتذكر موقف ربعي بن عامر رضي الله عنه في قوله لكسرى: "إن الله ابتعثنا لنخرج من شاء، من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، ومن ضِيق الدنيا إلى سَعتها، ومن جَور الأديان إلى عدل الإسلام" [3] . أما إذا لم ينطلق المحاور المسلم من هذه القوة، فإن الأمر لم يَعد يأخذ صفة الحوار، بل يمكن أن نسميه بأي اسم آخر؛ كالاعتذار، أو الدفاع، أو التسويغ لأحداث وقتية قد تلصق بالإسلام، أو قد تنطلق على أنها من هذا الدين، بينما هي ليست بالضرورة منه،وقد تكون منه، ولكن الاعتذار أو التسويغ أو الدفاع يأتي لأنها أوامر أو نواهٍ لا تُعجِب الآخر، فنتقدم بها معتذرين عنها ونحن بصدق نشعر بالدونية في مقابل الآخر. متى ما سيطر عامل الدونية والفوقية في أي حوار، فإنه لا يسمى حينئذ حوارًا بالتعريب الإجرائي للحوار بين عقيدتين، ومثله في ذلك حوار رئيس العمل الجاف الجِلف مع عامله الضعيف المنكسر الخائف [4] . إن حوارات الزمن الحالي بين المسلمين وغير المسلمين لا يصدق عليها مفهوم الحوار الإجرائي بين عقيدتين أو أكثر؛ ذلك أن أغلب المحاورين، وليس كلهم، متَّهمون باتباعهم الأساليب الاعتذارية والدفاعية والتسويغية في حواراتهم مع الآخر؛ ذلك أن الآخر ربما يركز في حواره على ظاهرات اجتماعية طارئة على المجتمع المسلم دفع إليها وضع غير طبيعي في ذاك المجتمع [5] . من ناحية أخرى، يظهر أن المحاور الآخر قد وضع تصورًا في ذهنه للحياة والعلاقات، وأراد من الآخرين أن يقربوا منها في وقت هو فيه الغالب والمسيطر على الحياة الاقتصادية والثقافية والفكرية؛ ولذا فإن مقياسه نابع من نظرته هو. لذا يقوم حواره على اتهام الآخر بأنه لم يصل إلى المستوى الاقتصادي والسياسي والفكري الذي وصل إليه هو، وإن يكن قد بنى هذا كله على مقدمات خاطئة وقواعد غير راسخة، ولكنه لا يعترف بذلك، ومن هنا، ولهذين العاملين المتوافرين في المتحاورين من الجهتين، يفقد الحوار الغرض الذي قام من أجله، ولا يكون الإقناع والاقتناع هدفًا أساسيًّا من أهدافه، فالقوي في هذا الحوار يريد أن يملي أفكاره، والضعيف فيه يريد أن يعتذر عن أفكاره، رغبةً خاطئة منه في محاولة الاقتراب. وقد بدا في لقاءات الحوار التي تتم في بعض البلاد العربية شيءٌ من هذا من الطرفين أو من الأطراف المتحاورة، ومن خلال المتابعة الإعلامية لهذه الحوارات يظهر أنه قد تجسدت فيها مفهومات الدونية والفوقية، وإن لمس الاعتذار من الطرف الآخر في مسألة البوسنة والهرسك مثلًا، الأمر الذي أدى بالجانب المسلم إلى الاعتذار عن الصرب أنفسهم، وأنهم لا يمثلون النصرانية التي تسود اليوم! وليت هذا الاعتذار قد جاء من جانب آخر، لكان الأمر أسهل، ولَدَخل في منطق التسويغية التي تهيمن على حوارات اليوم [6] . إننا لا نزال نحتاج إلى الوقت غير المحدد الذي نقوي فيه انتماءنا لهذا الدين، فنفهمه فهمًا يؤهلنا إلى تقديمه إلى الآخر بالقوة المطلوبة، التي لا تعني بالضرورة العنف، كما قد يفهم منها،وهذا أمر متحقق، والمسألة مسألة وقت ومزيد من الوعي. [1] انظر: عبدالسلام هارون ، تهذيب سيرة ابن هشام - ط 3 - القاهرة: المؤسسة العربية الحديثة، 1396هـ/ 1967م - ص 471. [2] انظر: محمد خاتمي ، حوار الحضارات/ ترجمة: سرمد الطائي - دمشق: دار الفكر، 1423هـ/ 2002م - ص 152 . [3] انظر: عبدالسلام هارون ، تهذيب سيرة ابن هشام - مرجع سابق - ص 471 - وانظر أيضًا: أبو الحسن علي الحسني الندوي ، الإسلام والغرب - بيروت: مؤسسة الرسالة، 1405هـ/ 1985م - ص 19 - 20. [4] انظر نماذج من هذا الموقف الاعتذاري في: كلثوم السعي ، نحن والغرب: حوارات مع: حمادي الصيد، وسهيل إدريس، والطاهر لبيب، وعبدالمجيد الشرفي، ومحد الطالبي - تونس: مؤسسة عبدالكريم بن عبدالله، 1992م - ص 138 ، وانظر في ذلك كذلك: عبدالوهاب المؤدب ، أوهام الإسلام السياسي - مرجع سابق - ص 231 ، وفي هذا المرجع الأخير الذي بذل فيه الكاتب جهدًا كبيرًا قدر عال من السخرية، خلط فيه الكاتب بين من يستحق ومن لا يستحق من منطلق تغريبي يبرز فيه قدر من التأثر بالكتَّاب الغربيين المتطرفين المتحاملين على الإسلام . [5] انظر حوارات أحمد الشيخ مع رهط من المثقفين العرب في: أحمد الشيخ ، من نقد الاستشراق إلى نقد الاستغراب: المثقفون العرب والغرب - القاهرة: المركز العربي للدراسات الغربية، 2000م - ص 319 ، وقد حاور فيه واحدًا وعشرين مفكرًا عربيًّا. [6] تبنَّت مكتبة الإسكندرية عقد ندوات للحوار بصورة دورية، بحيث تختار موضوعًا محددًا للحوار مع الآخر ، وهي سلسلة من الندوات موجودة على موقع المكتبة الإلكتروني.
لبابة الكِيلاني صوتٌ لا يزال يتردَّد في أذني! المعلِّمون الأكفياء يخلِّفون في وِجدان طلَّابهم ما لا يَبلى، ويسطِّرون على صفَحات أفئدتهم ما لا يُنسى، ويبقَون على مدار السنين قدوةً وذكرى! ومن خير هؤلاء ممَّن علَّمني العربيَّة في مرحلة الدراسة الثانوية امرأةٌ نبيلة أصيلة، ذاتُ شخصية فذَّة وحضور طاغ، جمعَت بين التمكُّن من المادَّة العلمية، وحُسن التوجيه والتعليم، مع فصاحةِ اللسان، وعذوبةِ البيان، في نبرةٍ آسرةٍ لا يزال صداها يتردَّد في أذني على تطاول السنين، وتمادي العهد بتلك الأيام، ويا ما أُحَيلاها من أيام! دخلَت علينا قاعةَ الدرس بخطًا واثقة، وقسَمات حازمة، واعتلت مِنصَّة التعليم بقَوامها الفارع، وما كادت تصوِّب نظَراتها إلى الطلَّاب، حتى ساد صمتٌ مُحكَم، وغدت ثرثراتُ المشاغبين وهمهماتُهم أثرًا بعد عين! ومضَت دروسها طَوالَ العام على تلك الحال من الانضباط والسَّكينة، لتَخلُصَ للنفع والعطاء غيرَ مَشوبةٍ بشائبة. حتى عُتاةُ الشَّكِسِين المزعجين من الطلَّاب ممَّن أعيَوا الأساتيذَ بسوء سلوكهم وتنمُّر طباعهم باتوا في حِصَصها هُريراتٍ أليفةً لا تملك أن ترفعَ رأسًا أو تُصدرَ صوتًا! فإن سوَّل لأحد هؤلاء شيطانُه أن يُحدثَ شغبًا فما كانت الأستاذةُ تزيد على أن تصمتَ هُنَيهةً، وتصوِّبَ نظراتٍ صارمةً إلى مَصدَر الشغَب، وتقولَ بنبرة جادَّة يُخامرها عتابٌ رقيق: (طلاب ثالث ثانوي، ما عوَّدتموني إعطاءَ الملاحظات) فما أسرعَ أن يفيءَ الجانحُ عن جنوحه، ويحورَ المتمرِّد إلى الجادَّة، فتمضيَ في درسها وكأن شيئًا لم يكن! أما مادَّة الدرس فمتعةٌ للعقول والأرواح، وإذا كان لفصاحةِ لسانها وجَرْسِ صوتها وقعٌ في الآذان مُطرِب، فما ظنُّك به حين يكون شعرًا يُنشَد، أو أدبًا رفيعًا يُعرَض؟! فلا تسَل بعدُ عن حال الطلَّاب وقد حلَّقوا مع الأستاذة في فضاء الكلمة المُبينة والبلاغة المُعجِبة! ومن أياديها علينا، وما أكثرَها! يدان تُذكران فتُشكران؛ أوَّلهما تشجيعُنا على النقاش الحرِّ والحوار الجريء المنضبِط بحُسن التأتِّي، والأُخرى حثُّنا على التعبير عن خلَجات النفس والإبانة عن هواجس الصدر من رؤًى ومشاعر. ولعلِّي لا أغادر الحقيقة إن قلت: إن الأستاذة أولُ من اكتشفَ موهبتي الأدبية، وشجَّعني على استكمال أدواتها، والمضيِّ قدُمًا في دروبها.. وما كنت أظنُّ قبل ذلك من نفسي إلا العِيَّ والحصَر، والعجزَ عن الكتابة والتعبير! ومن هنا أن كنت أُرجئ المشاركةَ في إلقاء ما تُكلِّفنا إنشاءَه من موضوعات في مادَّة (التعبير والإنشاء) تهيُّبًا ووجَلًا، وكانت سُنَّتها معنا أن يُلقيَ عددٌ من الطلَّاب في كل حِصَّة ما كتبوه، ثم تعلِّق على موضوعاتهم بما يقوِّم المُنآدَ، ويُنير السبيل، ثم تتيح لسائر الطلَّاب الإسهامَ في النقد والتقويم. ولمَّا كان اسمي يبدأ بحرف الألف فقد كنت ممَّن ينبغي أن يكونَ في طليعة من يُلقون موضوعاتهم من الطلَبة، بيد أني كنت أستمهلها على الدوام وأطلب تأجيل مشاركتي إلى حِصَّة أُخرى، وهي توافق بأريحيَّة وسماحة. وما زلتُ على هذه الحال من الارتياع والتخوُّف حتى أزِفَ الموعد؛ إذ لم يبقَ من الطلَّاب إلا قلَّةٌ قليلة لم يُلقوا موضوعاتهم، وكانت الحِصَّة القادمةُ هي الموعدَ المحتوم لهم، وكنت بلا ريب في مقدِّمتهم. انتابني شعورٌ من التوجُّس والفتور حالَ دون أن أكتبَ الموضوع في المنزل، وفي اليوم التالي كانت الحصَّة الأولى لمادَّة النصوص والحصَّة التالية لمادَّة التعبير والإنشاء، وبينهما فُسحةٌ للراحة لا تزيد على ربع ساعة، ولمَّا انتهت أولى الحصَّتين رمقَتني الأستاذة بنظرةِ تشوُّف، وقالت: في الحصَّة التالية سنبدأ بموضوعك فكن مستعدًّا. هزَزتُ رأسي وخرجت إلى الفُسحة أَهيمُ على وجهي لا أدري ما أفعل! فالوقت المُتاح قصير، ومجال التفكير والتحبير ضئيل، فما عساي أكتب، وأنَّى لي أن أُعبِّرَ وأُنشِئ؟! ولكن لا مَفرَّ من كتابة الموضوع ولا مَهرَب! فما كان مني إلا أن أطلقتُ لقلمي العِنانَ ليمضيَ على سجيَّته، أسابق به على عجَل الدقائقَ والثواني، أدوِّن كل ما يخطُر ببالي من عناصر الموضوع، بخطٍّ كخَربَشات طفل لاهٍ، حتى قُرع الجرس مُؤْذِنًا بانتهاء أمَد الفُسحة، موافقًا إثباتي نقطةَ الختام. لم أتمكَّن من مراجعة ما كتبت، ولا حتى إلقاءِ نظرةٍ عابرة عليه، وهُرعت إلى الفصل مضطربًا، وما إن ولَجت من الباب حتى دخلَت المعلِّمة خلفي، ولم أكد ألتقطُ أنفاسي حتى سمعتُ اسمي يُنادى به على رؤوس الأشهاد! مضَيت إلى المِنصَّة متثاقلًا أقدِّم رِجلًا وأؤخِّر أُخرى، قد استولى عليَّ شعورٌ من الرهَب والحياء، فلا أدري على الحقيقة ما كتبت، ولا كيف كتبته! وشرَعتُ في إلقاء الموضوع، ولساني في فمي يتلجلَج، ولكنِّي كلَّما مضَيت شوطًا اختلست نظرةً إلى معلِّمتي فأرى علاماتِ الارتياح على وجهها بادية، فيُسرِّي ذلك عني بعضَ ما أجد، حتى أتممتُ الإلقاء. وها هنا كانت المفاجأة التي لم أتوقَّعها، لقد انفرجَت أساريرُ الأستاذة عن بهجةٍ وإعجاب، وأغدقت عليَّ ما لم أكن أحلُم بقليل منه من عبارات الثناء، وكالت لموضوعي من صنوف المديح والإطراء، ما جعلني أقف متحيِّرًا مُهَوِّمًا لا أدري أفي صَحوٍ أنا أم نوم! وإني لعلى يقين أن ما كتبته حينئذٍ لم يكن يستأهلُ ما فاضت به عليَّ من إشادة، إلا أنها كانت ترمي من وراء كلماتها إلى تحطيم صخرة الوهم التي حجزَتني عن التعبير من قبلُ، وأخلدَتني إلى شعور بالعجز والخوَر، وما أنا بعاجز ولا خائر! ولقد كان لذلك الموقف أثرٌ عميق في نفسي، ومن يومئذٍ باتت حصَّة التعبير والإنشاء أحبَّ الحصص إليَّ، وصرت أحبِّر ما أكتب تحبيرًا، وأعيد النظر فيه كرَّة بعد أُخرى، ولا أزال محتفظًا بدفتر المادَّة وعلى هامش كل موضوع من موضوعاته عباراتُ تقريظٍ وتشجيع بخطِّ أستاذتي الجليلة. وممَّا أعتزُّ به حقًّا موضوعٌ من تلك الموضوعات، استفرغتُ في إنشائه وُسعي، وبذلت في إتقانه وُكدي وكَدِّي! غير أن الأستاذة ارتابت فيه، وظنَّت أني التمستُ مساعدةً من خبير حاذق، أو عونًا من كاتب ماهر! ولا والله لم يكن إلا من بنات أفكاري وصدًى لمشاعري وإحساسي! فخطَّت لي في هامش الموضوع كلماتٍ لا ينقضي فخري بها، تقول فيها: (موضوع ممتاز، أحسنتَ فيه وأجدتَّ إن لم تكن استعنتَ بغيرك، وفقك الله وإلى مزيد من الإبداع). تلكم الذكرياتُ البهيَّة تمثَّلت في مخيِّلتي غِبَّ خبر فاجع بلغني، أمضَّ قلبي وأحزنني، وأقضَّ مضجعي وآلمني.. لقد مضَت أستاذتي النبيلةُ الأصيلة لبابة الكِيلاني إلى باريها الكريم سبحانه، قبل أيام قليلة، عن سبع وسبعين سنة، بعد ابتلاء بداء السَّرطان لازمها سنين، غفر الله لها وكفَّر عنها ذنوبها، وتولَّاها بعفوه ورحمته؛ كِفاءَ إخلاصها في عملها، وصدقها في أداء رسالتها، والنهوض بما نِيطَ بها من أمانة التربية والتعليم. وهي لبابة بنت صادق الكِيلاني (بكسر الكاف)، المولودة بمدينة حماة عام 1944، لأسرة عريقة شهيرة ترجع في نسبها إلى الإمام عبد القادر الجِيلاني (الكِيلاني) رحمه الله، وأمُّها الأستاذة فوزية الريِّس من أعلام المربين والمعلمين هناك رحمها الله. تخرجت الأستاذة لبابة في قسم اللغة العربية بكلية الآداب في جامعة دمشق عام 1970، وعملت سنواتٍ طويلةً في التعليم، واختيرَت معلِّمةً أولى تحضُر للمعلِّمات الدروسَ وتوجِّهُهنَّ. وكان لها نشاطٌ اجتماعيٌّ وحضورٌ ثقافي. توفَّاها الله في مشفى الشامي بدمشق مساء السبت سادسَ عشرَ ذي الحِجَّة 1440 هـ (17/ 8/ 2019 م)، وصُلِّي عليها في اليوم التالي بعد صلاة الظهر بجامع سعد بن معاذ بحيِّ المالكي، ودُفنت في مقبرة مَعْرَبا بريف دمشق. لله ما أخذ ولله ما أعطى، وكلُّ شيء عنده بأجل. وإنا لله وإنا إليه راجعون. كتبه: أبو أحمد الميداني أيمن بن أحمد ذو الغنى الرياض 21 ذي الحِجَّة 1440 هـ 22/ 8/ 2019 م نشرت في جريدة الجزيرة السعودية، العدد (17142)، الأربعاء 5 المحرَّم 1441هـ، 4 أيلول (سبتمبر) 2019م. صفحة 15 (وفاء).
مناهج المؤلفين في علم رسم المصحف لابتهال حسن عبد الله عزوز صدر حديثًا كتاب " مناهج المؤلفين في علم رسم المصحف - من بداية عصر التدوين إلى نهاية القرن السابع الهجري، دراسة مقارنة "، تأليف : د. " ابتهال بنت حسن بن عبد الله عزوز"، نشر "دار طيبة الخضراء للنشر والتوزيع ". وأصل هذا الكتاب أطروحة علمية تقدمت بها الكاتبة لنيل درجة الدكتوراه في تخصص القراءات من كلية الدعوة وأصول الدين بجامعة أم القرى، تحت إشراف فضيلة الشيخ د. " عبد القيوم بن عبد الغفور السندي " وذلك عام 1436 هـ - 2015 م. وتناولت هذه الرسالة منهج المؤلفين في علم رسم المصحف، حتى نهاية القرن السابع الهجري، وتعني الكاتبة برسم المصحف في اصطلاح علماء الرسم: الوضع الذي ارتضاه سيدنا عثمان - رضي الله عنه - في كتابة كلمات القرآن الكريم وحروفه، والأصل في المكتوب موافقته للمنطوق، لكن ذلك أُهمِلَ في المصحف العثماني لأسباب يستنتجها القاريء في باب مزايا الرسم العثماني وفوائده، لذلك عني بعض العلماء بحصر تلك القواعد في رسم المصحف العثماني، والسير على منهاجها، كما ألف العلماء واعتنوا بحصر تلك الكلمات التي جاء خَطها على غير مقياس لفظها، وقد عرضت الكاتبة للمؤلفين في علم رسم المصحف، وبينت مناهجهم في مؤلفاتهم، ومصادرهم، والقيمة العلمية، وأبرز الملحوظات العلمية والمنهجية حول تلك المؤلفات. وكان من أسباب كتابة هذا البحث إثراء مكتبة الدراسات القرآنية ببحث متخصص في دراسة مناهج المؤلفين في علم الرسم، كما هو من باب التعمق في دراسة علم رسم المصحف، والتعرف على مباحث جديدة فيه. كما أن علم رسم المصحف يمكننا من معرفة اختلاف القراءات في بعض الأحرف. إلى جانب أثر علم الرسم على العلوم الأخرى، كاللغة والتفسير والنحو، فضلًا عن القراءات، حيث كان العلماء يعتبرون رسم المصحف من وسائل الترجيح، ويحتجون به في اللغة والإعراب والصرف والاشتقاق. وقد انقسم البحث إلى مقدمة وتمهيد وبابين يندرج تحتهما عدة فصول ومباحث ومطالب، وخاتمة وفهارس علمية. بينت الكاتبة في المقدمة أهمية هذا الموضوع، وأسباب اختياره، والدراسات السابقة، وخطة البحث، والمنهج الذي سلكته فيه. وذكرتْ في التمهيد تعريف المنهج لغةً واصطلاحًا. كما جعلتْ دراسة مناهج المؤلفين في علم الرسم في بابين: الباب الأول: مناهج الصحابة في رسم المصحف، والتعريف بعلم الرسم وأحكامه. ويشتمل على فصلين: الفصل الأول: منهج الصحابة في رسم النص القرآني في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وما بعده. الفصل الثاني: التعريف برسم المصحف، وما يتعلق به من أحكام. الباب الثاني: مناهج المؤلفين في علم رسم المصحف من عصر التدوين إلى نهاية القرن السابع الهجري. ويشتمل على ثلاثة فصول: الفصل الأول: مصادر وملامح التأليف في علم الرسم، من عصر التدوين إلى نهاية القرن الثالث الهجري. الفصل الثاني: مناهج المؤلفين في علم رسم المصحف في القرنين: الرابع والخامس الهجريين. (وتناولت فيه دراسة: كتاب المصاحف لأبي بكر عبد الله بن أبي داود (ت 316 هـ)، وكتاب مرسوم الخط لأبي بكر محمد بن القاسم بن بشار الأنباري (ت 327 هـ)، وكتاب هجاء مصاحف الأمصار لأبي العباس أحمد بن عمار المهدوي (ت في حدود 440 هـ)، وكتاب المقنع في معرفة مرسوم مصاحف أهل الأمصار لأبي عمرو عثمان بن سعيد الداني (ت 444 هـ)، وكتاب البديع في معرفة ما رسم في مصحف عثمان - رضي الله عنه - لمحمد بن يوسف الشهير بابن معاذ الجهني (ت في حدود 442 هـ)، وكتاب مختصر التبيين لهجاء التنزيل لأبي داود سليمان بن نجاح (ت 496 هـ)، وقارنتْ بينهم. الفصل الثالث: مناهج المؤلفين في علم رسم المصحف في القرنين السادس والسابع الهجريين. (وتناولت فيه دراسة كتاب خط المصاحف لتاج القراء أبي القاسم محمود بن حمزة الكرماني (ت في حدود 535 هـ)، ومنظومة عقيلة أتراب القصائد في أسنى المقاصد للقاسم بن فيره بن خلف الرعيني الشاطبي (ت 590 هـ)، وكتاب الهجاء في رسم المصحف لمؤلف مجهول عاش بين النصف الثاني من القرن السادس وأوائل القرن السابع الهجري، وكتاب مرسوم خط المصحف للإمام إسماعيل بن ظافر العقيلي (ت 623 هـ)، وكتاب الوسيلة في شرح العقيلة لعلم الدين أبي الحسين السخاوي (ت 643 هـ)، وكتاب رسالة في رسم المصحف لأبي إسحاق إبراهيم بن محمد بن عبد الرحمن بن وثيق الأندلسي (ت 654 هـ)، وكتاب شرح العقيلة الرائية لشهاب الدين إسماعيل بن إبراهيم أبي شامة الدمشقي (ت 656 هـ)، وكتاب شرح القصيدة الرائية لأبي عبدالله محمد بن سليمان المعافري الشاطبي (ت 672 هـ) مع المقارنة بينهم. وأما الخاتمة فقد اشتملت على أبرز النتائج والتوصيات، فبينت في النتائج: 1- أن نضوج التأليف في علم رسم المصحف واكتمال قواعده وإرساء دعائمه كان بنهاية القرن الخامس الهجري. 2- حرص أغلب المؤلفين في علم الرسم على التنبيه على وجوب التزام خط المصاحف وأنه سنة متبعة، والدفاع عن الطعون الواردة على رسم المصحف أو كتابة الصحابة. كما أوصت الكاتبة بتخصيص مسائل "ضبط المصحف" التي وردت في بطون كتب علم الرسم أو في ذيلها بالدراسة والجمع وملاحظة تطورها عبر القرون. مع ضرورة استكمال دراسة مناهج المؤلفين في علم رسم المصحف من بعد القرن السابع الهجري.
الدعوة أيام الحج وعرض النبي صلى الله عليه وسلم نفسَه على القبائل ورُوي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعرض نفسه في المواسم على القبائل - والمواسم يقصد بها أيام الحج وأسواق العرب الموسمية التي تقام قريبًا من مكة - ففي الحديث الذي صححه ابن حبان: أن ربيعة بن عباد قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بسوق ذي المجاز يتبع الناس في منازلهم يدعوهم إلى الله عز وجل، وعند أحمد عن جابر قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرض نفسه على الناس بالموسم فيقول: ((هل من رجل يحملني إلى قومه؟ فإن قريشًا منعوني أن أبلغ كلام ربي))، فأتاه رجل من هَمْدان فأجابه، ثم خشي ألا يتبعه قومه فجاء إليه فقال: آتي قومي فأخبرهم ثم آتيك من العام المقبل، قال: ((نعم))، فانطلق الرجل وقد جاء الأنصار في رجب، وفي منى يروي علي بن أبي طالب رضي الله عنه، قال: لما أمر الله نبيه أن يعرض نفسه على قبائل العرب خرج وأنا معه وأبو بكر إلى منى، حتى دفعنا إلى مجلس من مجالس العرب، وتقدم أبو بكر وكان نسَّابة فقال: من القوم؟ فقالوا: من ربيعة، فقال: من أي ربيعة أنتم؟ قالوا: من ذهل، وكان معهم لقاء لم يثمر، كما روي أنه التقى بوفد لبني شيبان، فكان جوابهم بأنهم يمنعون رسول الله صلى الله عليه وسلم من العرب، ولا يستطيعون أن يمنعوه من الفُرس، فكان جواب النبي صلى الله عليه وسلم: ((إنه لا يقوم بهذا الدين إلا مَن يحوطه من كافة جوانبه))، وذكر ابن الأثير أسماء عدد من القبائل التقاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم: كندة ممثلة بسيدها مليح، فأبوا قبول دعوته وحمايته، وعرض الدعوة على قبيلة كلب، فلم يقبلوا ما عرض عليهم، وأتى بني حنيفة فكان ردهم عليه أقبح رد، وأتى بني عامر فقال رجل منهم: أرأيت إن نحن تابعناك فأظهرك الله على من خالفك أيكون لنا الأمر من بعدك؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الأمر إلى الله يضعه حيث يشاء))، فقال: أفنهدف نحورنا للعرب دونك فإذا ظهرت كان الأمر لغيرنا؟ لا حاجة لنا بأمرك، ولما رجعت بنو عامر إلى ديارهم وأخبروا شيخهم خبر النبي صلى الله عليه وسلم ونسبه، وضع يده على رأسه، ثم قال: "يا بني عامر، هل من تلاف؟ والذي نفسي بيده، ما تقوَّلها إسماعيليٌّ قط وإنها لحق؛ فأين كان رأيكم عنه؟". ويروى أن بيحرة بن فراس وجد قومه قد أذنوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينزل عندهم، فقال: ما أعلم أحدًا من أهل هذه السوق - عكاظ - يرجع بشيء أشد من شيء ترجعون به بدءًا ثم لتنابذوا الناس وترميكم العرب عن قوس واحدة، قومه أعلم به، لو آنسوا منه خيرًا لكانوا أسعد به، أتعمدون إلى زهيق قد طرده قومه وكذبوه فتؤوونه وتنصرونه؟ فبئس الرأي رأيتم، ثم أقبل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: قم فالحق بقومك؛ فوالله لولا أنك عند قومي لضربتُ عنقك، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ناقته فركبها، فغمز بيحرة شاكلتها - خاصرتها - فقمصت برسول الله صلى الله عليه وسلم فألقته، وعند بني عامر يومئذ ضباعة ابنة عامر بن قرط، كانت من النسوة اللاتي أسلمن، جاءت زائرة إلى بني عمها، فقالت: يا آل عامر ولا عامر لي، أيصنع هذا برسول الله بين أظهركم لا يمنعه أحد منكم؟ فقام ثلاثة من بني عمها إلى بيحرة واثنان وقفوا معه فجلدوا ببيحرة وأعوانه الأرض وعلوهم لطمًا وضربًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اللهم بارك على هؤلاء، والعن هؤلاء))، فآمن فيما بعدُ الذين ناصروه، وبقي على الكفر الذين ناصروا بيحرة، وهكذا ضيع بنو عامر شرف السبق لمناصرة الدعوة، فكان الشرف للأوس والخزرج أنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم. وروى ابن إسحاق: أن رجلًا وضيئًا أحول له غديرتان وعليه حلة عدنية كان يتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم في منى، فإذا فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله وما دعا إليه، قال ذلك الرجل: يا بني فلان، إن هذا إنما يدعوكم إلى أن تسلخوا اللات والعزى من أعناقكم، وحلفاءكم من الجن إلى ما جاء به من البدعة والضلالة، فلا تطيعوه ولا تسمعوا منه، فكان هذا الرجل أبا لهب، فهل يوجد أفجر من هذا العم تحت أديم الشمس؟
الإلحاد أخطر تبعات الجهل بالإسلام الجهل بالإسلام: هو الجهل بالدين الحق، الذي ارتضاه الله لعباده في كل زمان ومكان، وهو الدين الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، وهو أيضًا دينُ جميع الأنبياء عليهم السلام قبل أن تنال يدُ التحريف منها. وبتتبُّع سَيْرِ الإلحاد في العالم قديمًا وحديثًا، يظهر أن شيوع هذا الفكر الضالِّ لا يكون إلا مع غياب الدين الصحيح، فكلما كان الدين السائد محرَّفًا أو مشوَّهًا أو باطلًا من جذوره، كانت فرص الإلحاد بين الناس كبيرة، وذلك واضح جدًّا حينما نتعرف على نشأة الإلحاد في الغرب قديمًا؛ فإنه نشأ في بيئة تؤمن بتعدد الآلهة، فجاء إلحاد بعض الفلاسفة ردًّا عنيفًا على ذلك التعدد، حتى صار رفضًا لفكرة الألوهية من أساسها. ديمقريطس أول الملحدين: يعد ديمقريطس في الفكر اليوناني هو أول من قال بأن العالم لا توجد فيه إلا المادة، فألغى وجود إلهٍ، وقد نبع إلحاد ديمقريطس بالأساس من رفضه لعقيدة تعدد الآلهة، فلذلك قال: إن الآلهة التي كان يعتقد بها اليونانيون مركَّبة من جواهر كالبشر، إلا أن تركيبهم أدقُّ، فهم لذلك أحكم وأقدر، وأطول عمرًا بكثير، ولكنهم لا يخلُدون، وهكذا نشأ إلحاده من خلال وصوله إلى نصف الحقيقة، دون أن يتابع المسير لبلوغ النصف الثاني؛ فقد أنكر تعدد الآلهة، ومن ثَمَّ وجودهم، وكان ينبغي أن يقوده ذلك إلى التوحيد، لكنه أنكر وجود أيِّ إله البتةَ. نشأة الإلحاد في بلاد المسلمين: لقد نشأ الإلحاد في بلاد المسلمين أيضًا عندما تشوَّه الإسلام، بظهور الفرق الإسلامية، وكثُر الخوض في الغيبيات، واختلطت الحضارة الإسلامية بالثقافات اليونانية والرومانية البائدة، فدخل في الإسلام بعض الملوَّثين بهذه الأفكار الضالة التي حاولوا نقلها إلى دينهم الجديد، لكن الحقيقة أن إنكار الإله لم يُعرَف في التاريخ الإسلامي، فلم يكن هناك من يجرأ على إعلان إنكار وجود الله، ولكن عُرف الإلحاد في ثوب آخر؛ وهو إنكار النبوة والأنبياء؛ ولذلك يقول الأستاذ عبدالرحمن بدوي: "إن الدين والتدين إنما يقومان على فكرة النبوة والأنبياء، وعلى هذا فإن الإلحاد لا بد أن يتجه إلى القضاء على هذه الفكرة التي تكوِّن عصبَ الدين وجوهره لدى تلك الروح، وهذا يفسر لنا السر في أن الملحدين في الروح العربية إنما اتجهوا جميعًا إلى فكرة النبوة وإلى الأنبياء، وتركوا الألوهية، بينما الإلحاد في الحضارات الأخرى كان يتجه مباشرةً إلى الله، ولا فارقَ في الواقع في النتيجة النهائية بين كلا الموقفين؛ لأن كليهما سيؤدي في النهاية إلى إنكار الدين"، وهذا كلام غاية في النَّفَاسة؛ لأنه يجلِّي لنا سر الهجوم على سنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في العصر الحديث، ويُبرز لك الحقيقة الكامنة ما بين السطور. الإلحاد قرين الجهل بالدين: فالجهل بالدين الحق هو التربة الخصبة لنشأة الإلحاد، في أي مكان وأي زمان، فكلما كان الإسلام الصحيح الواضح سائدًا، كما في عصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعصر الخلفاء الراشدين، كانت فرص الضلال أقلَّ، بل أندر، وكلما تحولت الأديان عن نقائها واختلطت بها المداخيل، هاج العقل البشري في متاهات لا ساحلَ لها، واحتكم في نهاية المطاف إلى أحد أمرين؛ إما إلى السائد مهما كان قدر ضلاله، أو إلى الرفض للتدين جملة وتفصيلًا، ومن ثَمَّ إنكار الدين بجميع مشتملاته؛ لذلك كرر الله تعالى إرسال الرسل على مر التاريخ، ونبَّه في القرآن الكريم إلى هذه الغاية من إرسالهم؛ فقال: ﴿ تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾ [النحل: 63، 64]، لقد أرسلهم واحدًا تلو الآخر؛ ليحافظوا على نقاء التوحيد، وأصل الدين من الزيغ والانحراف، الذي لطالما ظلَّ الإنسان يجنح إليه على مدى تاريخه. نيتشه يثني على الإسلام: الفيلسوف الألماني فريدريخ نيتشه هو أحد أشهر الملاحدة على الإطلاق، وُلد في 1844م، رفض المسيحية بقوة واعتبرها تُكرِّس للضعف، واعتبرها أيضًا ديانة محرَّفة قام بتشكيلها بولس بما يتفق والعقائد الوثنية للرومان، وبرغم أنه أثنى على الإسلام في مواطنَ مِن بعض كتبه؛ مثل قوله: إن "الكنيسة تقاوم النظافة، حتى إن المعيار الأول عند المسيحية بعد طرد المسلمين كان إغلاق الحمامات العامة، التي كانت قرطبة وحدها تملك منها 270 حمامًا"، إلا أن ثناءه ذلك لم يكن عن قراءة متعمقة للإسلام، بل كانت نظرته له سطحية، فلم ينظر إلى الإسلام على أنه دين من عند الله، بل مع إعجابه بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم، لكنه نظر إليه على أنه (مؤسس دين)؛ فيقول: "ما كان الشيء الوحيد الذي استعاره محمد لاحقًا من المسيحية؟ إنه ابتداع بولس، ووسيلته للتسلط الكهنوتي، ولتشكيل القطعان: الاعتقاد بالخلود، وهذا يعني عقيدة الدينونة". نيتشه جاهل: هل كان نيتشه جاهلًا أو أحمقَ؟ سؤال طرحته على نفسي وأنا أستل هذه المقالة من بحثي للدكتوراة، وأنا أبحث في أسباب إلحاد الفيلسوف الكبير للمرة الثانية، بعد إثبات اختلال منظومة القيم لديه في كتابي (براهين الدين في مواجهة الملحدين)، فقد تبين لديَّ أن أحد أهم أسباب إلحاده أنه لم يقرأ القرآن الكريم، لقد قرأ الأناجيل، وقرأ في كتب اليهود، وقرأ البوذية، والزرادشتية، لكن قراءته للإسلام لم تكن كذلك، فلم يقرأ الإسلام من مصادره، وإنما عرف الإسلام من نافذة المستشرقين، فلم تكن معرفته بالإسلام موسوعية ولا عميقة؛ إذ لا يورد في دفاتره سوى مصدرين لمستشرقَين ألمانيَّين شهيرين: يوليوس فلهوزن J. WELLHAUSEN صاحب كتاب: (الدولة العربية)، وأوغست موليير A. MLLER صاحب كتاب: (الإسلام في الشرق والغرب)، وإن هذا يكرس لدينا الاعتقاد بأنه على قدر اضطلاعه على مثالب المسيحية، وعقائدها المحرفة التي رفضها بقوة، على قدر ما جهل الإسلام، ولم يقرأ فيه، ولكن قرأ عنه، من خلال كتابات بعض بني جِلدته من الغربيين، لا من مصادره الأصلية، وهذا أيضًا سبب رئيس في إلحاد شيطان كبير في حجم نيتشه، كان من الممكن لو أولى قضية الإيمان قدرًا أكبر من مطالعاته لأدرك أن الحق قريب منه. في بؤرة الجهل العربي: بتتبع حركة الفكر العربي الحديث وما اكتنفها من إلحاد، في صور شتى، خاصة مع بدايات ما يسمونه بعصر النهضة، أو قادة التنوير، سنجد أن نموذج نيتشه المصغر لطالما تكرر في صور باهتة مهرتأة، تظهر بين الفينة والأخرى في أشخاص يظنون أنهم أعلام ثقافة، وهم في الواقع ليسوا إلا ناقلين عن الغرب، مفتونين به، قليلي العلم بالدين الحق، يأخذون الإسلام من أفواه نيتشه وأمثاله، وهم وإن لم يعلنوا كفرهم بوجود الله تعالى، لكنهم ينكرون أحكامه، ويحاربون شرعه، وليس لذلك سبب سوى الجهل بالإسلام الذي لم يدرسوه دراسة متأنية، بل ولم يقرؤوه بإنصاف، ولكن قرؤوا عنه، من مصادر غربية فتأثروا بذلك، ليظل الجهل بالدين هو أحد أهم أسباب الإلحاد، بجميع أشكاله. الوقاية من الجهل بالدين: الوقاية لا تكون كاملة شاملة تامة، إلا إذا كان الدرع سابغًا، وهكذا الدين لا يكون قويًّا، واقيًا من موجات الإلحاد، إلا حينما يُؤخذ به جميعه، ويُحاط به فهمًا وعلمًا وعملًا من كل أطرافه، وإذا كان الجهل بالدين الحق يمكن أن يوقِعَ الإنسان فريسة الضلال إلى أقصى مداه، فيكفر بجميع الأديان، وينكر وجود الله تعالى، فإن هذا يعني أن العلم الشرعي السليم يقِي من ذلك، ويحول دون حصوله، وهذه مسألة على جانب شديد من الخطورة في تشكيل عقائد العامة، ومكمن الخطورة فيها أن العناصر التي تساهم في تشكيل العقول والعقائد، وتحدد المفاهيم، يجب أن تكون واضحة ابتداءً، كاملة في التصور والتطبيق، لا يتخلف منها عنصر، فنحن قد نجد من يقرأ عن الإسلام عشرات الكتب، ربما بعضها لمتخصصين فيه، ومع ذلك لم تزده تلك المعرفة إلا ثقافة خالية عن الإيمان واليقين، فهي ليست إلا ثقافة سطحية لم تلامسِ الحق من قريب، وقد نجد من يحفظ أجزاء كاملة من القرآن الكريم؛ مثل: الملحد المصري السابق أحمد حرقان، الذي كان يحفظ القرآن، ثم بين ليلة وضحاها قرر ترك الإسلام؛ ولذا فإن العلم بالإسلام - في مثل هذه الحالات - لا يكون علمًا كاملًا ولا واقيًا، بل إنه يكون صارفًا عن الحق، منفرًا منه، ومضلًّا عنه، في كلا النموذجين؛ نموذج من يقرأ بلا تعمق ودراسة، ونموذج من يحفظ ولا يفهم؛ ومن ثَمَّ فإن الذي يقي من الإلحاد هو أن يقدَّم الإسلام كاملًا كما أُنزل، ويُؤخذ به على هذا النحو، من غير تغليب لجزء منه على آخر. مقترحات لتوفير الحماية من الإلحاد: 1- تعليم النشء في المدارس والمقارئ القرآنية طرفًا من تفسير ما يحفظون من القرآن الكريم. 2- التصدي لجميع الشُّبُهات التي تُثار في وسائل الإعلام، ودحضها أولًا بأول، مهما بلغ تهافتها وضحالتها. 3- الاهتمام في الخطاب الديني والتربوي والإعلامي بالجوانب التي تقلص الاختلاف بين المذاهب الإسلامية في فروع الفقه والعقيدة، وإبرازه على أنه اختلاف تنوع لا تضاد. 4- زيادة العناية بالترجمات الصحيحة لمعاني القرآن الكريم، نشرًا وتوزيعًا لدى المجتمعات غير المسلمة، والتي يكثُر فيها الإلحاد في أوروبا وآسيا.
فتح القسطنطينية السلطان محمد الفاتح: قبل أن نتحدَّثَ عن فتْح القسطنطينية، لا يَسعنا إلا أنْ نتحدَّثَ عن فاتحها، وهو "محمد الفاتح"، السلطان محمد الثاني "الفاتح" "835هـ - 886هـ": وُلد السلطان "محمد" في 27 من رجب 835 هـ - 30 من مارس 1432م، وتولَّى عرش السلطنة بعد وفاة أبيه في 5 من المحرم 855 هجرية - 7 من فبراير 1451م، بعد أنْ بايَعه أهْل الْحَلِّ والعَقد في الدولة العثمانيَّة. إعداد محمد الفاتح: بدأَ السلطان "محمد" حياته الأولى منذ نعومة أظفاره بتعلُّم القرآن الكريم والحديث والفقه، والعلوم العصرية آنذاك من رياضيات وفَلك، وتاريخ ودراسات عسكرية نظرية وتطبيقية، كما شارَكَ وهو غلام في الحروب التي كان يَشنها والده السلطان "مراد الثاني" ضد "أوروبا"، أو التي كان يصدُّ فيها اعتداءاتهم. ثم أسْنَدَ والده إليه إمارة "مغنيسيا" وهو في سنٍّ مبكِّرة، تحت إشراف مجموعة من علماء ذلك العصر، وفي مقدمتهم الشيخ "آق شمس الدين" والْمُلَّا "الكوراني". وقد أثَّرتْ هذه المجموعة من العلماء في تكوين الأمير الصغير، وتشكيل اتجاهاته الثقافيَّة والسياسية والعسكريَّة، وكان الشيخ "آق شمس الدين" صارمًا مع الأمير، حتى إنَّ السلطان "محمد" وهو سلطان قال لأحد وزرائه عن شيخه هذا: "إنَّ احترامي لهذا الشيخ احترامٌ يأخذ بمجامع نفسي، وأنا ماثِلٌ في حضرته مضطربًا، ويداي ترتعشان". ثقافة محمد الفاتح: دَرَس السلطان "محمد" إلى جانب العلوم الإسلاميَّة والتجريبيَّة ثلاثَ لغات هي: العربيَّة، والفارسيَّة، والتركيَّة، وعُنِي بالأدب والشعر خاصَّة، فكان شاعرًا له ديوان بالتركية، وله بيت مشهور يقول فيه: نِيَّتِي هِيَ الامْتِثَالُ لِلأَمْرِ الإلَهِي "جَاهِدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ". وَحَمَاسِي إِنَّمَا هُوَ حَمَاسٌ فِي سَبِيلِ دِينِ اللهِ. وتعلَّم السلطان "محمد" أيضًا اللغات: اللاتينية، واليونانية، والصِّربيَّة، ولا تخفى أهميَّة هذه اللغات لأمير في طريقه إلى تولِّي الدولة العثمانية. وقد أثَّرتْ مدَّة إمارة "محمد" في شخصيَّته، فجعلتْه - بفضْل توعية أساتذته - أكثرَ الأُمراء العثمانيين وعْيًا في دراسة علوم التاريخ، والجغرافيا، والعلوم العسكريَّة، وخاصَّة أنَّ أساتذته وجَّهوا اهتمامَه إلى دراسة الشخصيَّات الكبيرة، التي أثَّرَتْ في مجرى التاريخ، وأبانوا له عن جوانب العَظَمة في تلك الشخصيات، كما وضَّحوا له نقاطَ الضَّعف فيها؛ أملاً أن يكونَ أميرُهم ذات يومٍ من أكثر الْحُكَّام خِبرة وحِكمة وعبقريَّة. ولا شكَّ أنَّ الشيخ "آق شمس الدين" استطاع أن يلعبَ دورًا كبيرًا في تكوين شخصية "محمد"، وأن يبثَّ فيه منذ صِغَره أمرين جعلا منه فاتحًا، وهما: • مضاعَفة حركة الجهاد العثمانية. • الإيحاء دومًا لمحمد منذ صغره بأنَّه هو الأمير المقصود بالحديث النبوي: ((لتُفْتَحَنَّ القسطنطينية، فلنعم الأميرُ أميرُها، ولنعم الجيشُ ذلك الجيش)). وقد استغرقَ تَحقيق النقطة الأولى مدَّة تاريخيَّة من حياة السلطان "محمد" - بعد أنْ أصبحَ سلطانًا للدولة - لنرى حملاته العسكريَّة، ونكتفي هنا بذِكْر حروبه البريَّة على الجبهة الأوروبيَّة. ففي عام 857 هجرية - 1453م فتَحَ القسطنطينية، وفي عام 863 هجرية - 1459م فتَحَ بلاد الصِّرْب، وفي عام 866 هجرية - 1462م ضمَّ "بلاد الأفلاق"، وفي عام "868 هجرية - 1464م" فتَح "بلاد المورة"، وبين العامين: 867 - 884 = 1462 - 1479م فتَحَ بلاد "ألبانيا"، وبين العامين: 867 -870 هجرية = 1462 - 1465م فتَحَ بلاد "البوسنة والهرسك"، وفي عام 881 هجرية - 1476م وقعتْ حربُ الْمَجَر. ومنذ حرب بلاد المجر وحتى وفاة الفاتح عام 886 هجرية - 1481م دخلتِ الدولة العثمانية في حروب بحريَّة كثيرة، منها: ضم الجزر اليونانية عام 884 هجرية - 1479م، وضمُّ "أوترانتو" عام 885 هجرية - 1480م، ومعلوم أنه كان قد أعَدَّ بالفِعْل جيوشه وتحرَّك على رأْسها؛ لمحاربة المماليك، إلاَّ أنَّ أجَله قد وافاه. فتْح القسطنطينية: رأى السلطان "محمد الفاتح " أنَّ فتح القسطنطينية كما أنه يحقِّق أملاً عقائديًّا عنده، فإنه أيضًا يُسهِّل للدولة العثمانية فتوحاتها في منطقة "البلقان"، ويجعل بلاده مُتَّصلة لا يتخلَّلها عدوٌّ، وكانت القسطنطينيَّة تُمثِّل الأرض التي تعترض طريق الفتوحات في "أوروبا"، فبدأ في عاصمته "أدرنة" الاستعداد لعمليَّة فتْح القسطنطينية، ومن ذلك: صبُّ المدافع خاصَّة الضخم منها، والاستعداد لنقْل هذه المدافع إلى أسوار مدينة القسطنطينية، ثم رأى السلطان "محمد" أن جَدَّه "بايزيد الصاعقة" كان قد بَنَى - أثناء محاولته فتْحَ القسطنطينية - قلعة على الضفة الأسيويَّة من البوسفور سَمَّاها: "أنا ضولو حصاري"؛ أي: "قلعة الأناضول، كانت تقوم على أضيق نقطة من مَضيق البوسفور، فقرَّر الفاتح بناءَ قلعة في مواجهة هذه القلعة على الجانب الأوروبي من البسفور، سَمَّاها "روملي حصاري"؛ أي: قلعة منطقة الروم، "يُطلِق الأتراك على الجانب الأوروبي من تركيا والمنطقة الملاصقة له والمعروفة الآن باسم "البلقان" اسم: "روم إيلي"؛ أي: منطقة الروم، وكان القصْد من هذا هو التحكُّم في "البوسفور" تمامًا، وكان السلطان "محمد" هو الذي وضَعَ بنفسه تخطيط هذه القلعة، ونفَّذها المعماري "مصلح الدين آغا"، ومعه "7000" عامل أنهوا مُهمَّتهم في أربعة أشهر كاملة. وبعد أن تَمَّ البناء خرَجَ بعض الجنود العثمانيين لرؤية القسطنطينية، فما لبثَ أن وَقَع بينهم وبين البيزنطيين المجاورين لأسوار المدينة بعضُ حوادث الشغب، كان لها رَدُّ فعْلٍ عند السلطان "محمد"، فأصدر أوامره بإبعاد البيزنطيين المجاورين للأسوار والقرويين المجاورين للمدينة، فقَام إمبراطور بيزنطة "قسطنطين دركازيز" بإخلاء القرى المجاورة، وسَحْبِ سكانها إلى داخل المدينة، ثم أمَرَ الإمبراطور بإغلاق أبواب القسطنطينية وإحْكام رِتاجها. وبينما الاستعدادات العثمانية تَجري على قَدَمٍ وساق في "أدرنة"؛ لفتْح القسطنطينية، كان الوضعُ في المدينة غاية في الاضطراب، فقد طَلَب الإمبراطور "قسطنطين" معونة عاجلة من البابا "نيقولا الخامس"، فاستجابَ البابا وأرْسَل الكاردينال "أيزودور" إلى القسطنطينية، فتوجَّه هذا الكاردينال - وهو كاثوليكي - إلى "كنيسة آيا صوفيا"، وأقام فيها المراسمَ الكَنَسيَّة على الأصول الكاثوليكيَّة، مُخالفًا بذلك - بل متحدِّيًا - مشاعرَ شعب القسطنطينية الأرثوذكسي. وقَفَ الشعب ينظر إلى الكاردينال المنقِذ باشمئزاز بالغٍ، وكان إمبراطور القسطنطينية يَميل إلى فكرة اتحاد الكنيستين: الأرثوذكسية والكاثوليكيَّة. أمَّا رئيسا الحكومة لوكاس نوتارس وجناديوس - الذي صارَ بطريقًا بعد الفتْح - فقد عارَضَا بشدَّة هذا الاتحاد؛ خوفًا على الأرثوذكسيَّة من الفَناء، وقال "نوتارس" قولته الشهيرة: "إني أفضِّل رؤية العمامة التركيَّة في القسطنطينية على رؤية القبعة اللاتينيَّة"، ولَم يكن "البيزنطيون" قد نسوا الأعمال الوحشيَّة التي قامَ بها "اللاتين" عندما احتلوا القسطنطينية عام 601 هجرية - 1204م، ومع ذلك فإنَّ الكنيسة اللاتينيَّة لَم تتوانَ عن إرسال موجات المتطوعين إلى القسطنطينية؛ بناءً على طلب إمبراطورها، لكنَّ مَجيء "أيزودور" لَم يحقِّقْ أدنى نتيجة في مسألة اتحاد الكنيستين. الحصار والفتْح: حاصَرَ العثمانيون القسطنطينية برًّا وبحرًا في سنة 857 هجرية - 1453م، واشترَكَ في الحصار من الجنود البحرية "20000" جندي على "400" سفينة، أما القوات البريَّة، فكانت "80000" جندي، والمدفعيَّة "200" مدفع. وقفتِ القوات البحريَّة العثمانية بقيادة "بلطة أوغلو سليمان بك" على مدخل "الخليج الذهبي"، وكانَ عليه تدمير الأسطول البيزنطي المكلَّف بحماية مدخل الخليج، وكان البيزنطيون قد أغْلقوا قبل الحصار الخليجَ بسلسلة حديدية طويلة يَصْعُب من جرَّائها دخول أيِّ سفينة إلى الخليج؛ مما شكَّل أكبر مُعضلة أمام العثمانيين؛ لأن سُفنَهم كان عليها أن تحمِلَ الجنود وتدخلَ الخليج لإنزالهم؛ لكي يَضربوا القسطنطينية. ثم جاءتْ ثلاثُ سُفنٍ جُنويَّة، وسفينة بيزنطية بقيادة القائد الشهير "جوستنياني"، أرسلها البابا للدفاع عن القسطنطينية، ولنقْل الإمدادات إليها، جاءتْ هذه السفن ولَم تستطعِ البحريَّة العثمانية منْعَها، فبعد معركة عنيفة مع البحريَّة العثمانية تغلَّب "جوستنياني"، ومَضَى بسُفنه إلى الخليج، ففتَحَ لها أهل القسطنطينية السلسلة الحديدية وأدْخَلوها، وكانتْ هذه الحادثة دافعًا؛ لكي يفكِّرَ السلطان "محمد" في خُطة عسكريَّة شَهِد لها القوَّاد العسكريون بالبَرَاعة. كانتْ هذه الخطة تقتضي نَقْلَ "67" سفينة من السُّفن الخفيفة عبر البرِّ من منطقة "غلطة" إلى داخل الخليج؛ لتفادي السلسلة، وتَمَّتْ هذه العملية بوضْع أخشاب مَطلية بالزيوت على طول المنطقة المذكورة، ثم دُفِعَت السفن؛ لتنزلِقَ على هذه الأخشاب في جُنح الظلام، بعد أن استطاعتِ المدفعيَّة العثمانية - بإطلاقها مدافع الهاون - أن تشدَّ انتباه البيزنطيين إليها، ومِن ثَمَّ لم يلتفتْ أحدٌ لعمليَّة نقْل السفن إلى الخليج. نُقِلَت السفن وأُنْزِلَتْ إلى الخليج، ووُضِعَت الواحدة تلو الأخرى على شكْلِ جِسْرٍ على عرض الخليج؛ حتى استطاع الجنود الانتقال عليها وصولاً إلى بَرِّ القسطنطينية، وما أنْ جاء الصباح حتى تَمَلَّكتِ الدهشة أهْلَ القسطنطينية، ويَصِف المؤرخ "دوكاس" وهو بيزنطي عاصَرَ الحادثة دَهْشته من هذه العمليَّة قائلاً: "إنَّها لمعجزة لَم يَسمع أحدٌ بمثلها من قبلُ، ولَم يَرَ أحدٌ مثلَها من قبلُ". وبعد أنْ فَشِلتِ البحرية العثمانية في إحباط محاولة "جوستنياني" دخول الخليج، لَم يَملك السلطان "محمد" إلا الأمرَ بالهجوم العام الذي اشتركتْ فيه كلُّ القوات العثمانيَّة مرة واحدة، وقبل هذا مباشرة أرْسَلَ السلطان "محمد" إلى الإمبراطور للمرة الثانية يَطلب منه تسليمَ المدينة سلمًا؛ حَقنًا للدماء، وللإمبراطور أن ينسحبَ إلى أيِّ مكان يريده بكلِّ أمواله وخزائنه، وتعهَّد السلطان "محمد" بتأمين أهْل القسطنطينية - في هذه الحالة - على أموالهم وأرواحهم ومُمتلكاتهم، لكن الإمبراطور - بتحريض من الجنويين - رفَضَ هذا العَرض. وفي 16 من ربيع الأول 857 هجرية - 26 من مايو 1453م، أراد ملك "المجر" أنْ يَضغطَ على السلطان "محمد" في هذا الوقت الْحَرِج، فأرْسَلَ يقول له: "إنَّه في حالة عدم توصُّل العثمانيين إلى اتِّفاق مع إمبراطور القسطنطينية، فإنه - أي ملك المجر - سيقود حملة أوروبيَّة؛ لسَحْق العثمانيين، ولَم تُغَيِّر هذه الرسالة شيئًا. مَضَى نهار يوم 28 من مايو هادئًا، وعند الفجر وبعد الصلاة مباشرة، اتَّجه السلطان "محمد" إلى مكان الهجوم، ومع دَوِيِّ المدافع الضخمة الذي بدأ، صدَرَ الأمر السلطاني بإخراج العَلَم العثماني من محفظته، وهذا يَعني عند الأتراك الأمرَ ببداية الهجوم العام. واستطاعتِ المدافع أثناء ذلك إحداثَ فتْحة في الأسوار، ثم اجتازَ الجنود العثمانيون الخنادق المحفورة حول القسطنطينية، واعتلَوْا سلالم الأسوار، وبدأ الجنود يتدفَّقون على ثلاث موجات، اشتركت الإنكشارية في الثالثة منها، فاضطر "قسطنطين" أنْ يدفَعَ بقوَّاته الاحتياطيَّة التي كانتْ مرابطة بجوار كنيسة الحواريين "سانت أبوترس" مكان جامع الفاتح بعد ذلك؛ لتدخلَ المعركة، وما لبثَ أنْ أَطلق جندي عثماني سَهْمه، فأصَابَ القائد "جوستنياني" إصابةً بالغةً، فانسحبَ "جوستنياني" من مَيدان المعركة رغم توسُّلات الإمبراطور له؛ لأن جوستنياني كان له دورٌ كبير في الدفاع عن المدينة. وكان أوَّلُ شُهداء العثمانيين هو الأمير "ولِي الدين سليمان"، الذي أقامَ العَلَم العثماني على أسوار المدينة البيزنطية العريقة، وعند استشهاده أسرع "18" جنديًّا عثمانيًّا إليه؛ لحماية العلم من السقوط، واستطاعوا حمايته، حتى واصَلَ بقيَّة الجنود تدافُعَهم على الأسوار، وثبتَ العلم تمامًا على الأسوار بعد أن استُشْهِد أيضًا هؤلاء الثمانية عشر جنديًّا، أثناء ذلك كان العثمانيون يواصلون تدفُّقَهم إلى المدينة، عن طريق الفتحات التي أحدثتْها المدفعيَّة في الأسوار، ثم عن طريق تسلُّق السلالم التي أقاموها على أسوار المدينة، وتمكَّن جنود من فِرَق الهجوم العثمانية من فتْح بعض أبواب القسطنطينية، ونَجَح آخرون في رَفْع السلاسل الحديديَّة التي وُضِعَتْ في مدخل الخليج؛ لِمَنْع السفن العثمانية من الوصول إليها، فتدفَّق الأسطول العثماني إلى الخليج، وبعد ذلك إلى المدينة نفسها، وسادَ الذُّعر البيزنطيين، وكان قد قُتِل منهم مَن قُتِل، وهربَ من استطاع إلى ذلك سبيلاً. الفاتح يُعطي الأمان: عندما دخَل محمد الفاتح المدينة أمَرَ بإحراق جُثث القتْلَى تفادِيًا للأمراض، وسارَ على ظَهْر جَوَاده إلى كنيسة "آيا صوفيا"؛ حيث تجمَّع الشعبُ البيزنطي ورُهبانه، وما أنْ علموا بوصول السلطان الفاتح، حتى خَرُّوا سُجَّدًا راكعين بين أنينٍ وبكاء وعويل، ولَمَّا وصَلَ الفاتح، نزَلَ من على ظَهْر حِصَانِه، وصلَّى ركعتين شكرًا لله على توفيقه له بالفتْح، ثم سارَ يَقصِد شعب بيزنطة ورُهبانه، ولَمَّا وجَدَهم على هذه الحال من السجود، انْزَعَج وتوجَّه إلى رُهبانهم قائلاً: "قِفوا، استقيموا، فأنا السلطان محمد، أقول لكم ولجميع إخوانكم ولكل الموجدين هنا: إنَّكم منذ اليوم في أمانٍ في حياتكم وحريَّاتكم"، وهذا ما سجَّله مؤرِّخ بولوني كان معاصرًا. وكان لهذا التصرُّف من الفاتح أثرٌ كبير في عودة المهاجرين النصارى، الذين كانوا قد فروا من المدينة، وأمَرَ الفاتح قوَّاده وجنوده بعدم التعرُّض للشعب البيزنطي بأذًى، ثم طلَبَ من الناس العودة إلى ديارهم بسلام، وحوَّل "آيا صوفيا" إلى جامعٍ، على أن تصلَّى فيه أول جُمعة بعد الفتْح "كان الفتح يوم ثلاثاء"، وكانتْ آيا صوفيا أكبر كنيسة في العالَم، وأقدم مَبنًى في أوروبا كلها، وسُمِّيت المدينة "إسلامبول"؛ أي: مدينة الإسلام، كان سلوك الفاتح - عندما دخَلَ القسطنطينية ظافرًا - سلوكًا مختلفًا تمامًا عمَّا تقول به شريعة الحرب في العصور الوسطى، وهو نَفْي شعب المدينة المفتوحة إلى مكان آخرَ أو بيعه في أسواق النخاسة، لكن الفاتح قام بما عَجَز عن فَهمه الفِكْر الغربي المعاصر له من تسامُحٍ ورحمة، فقد قام بالآتي: • أطْلَقَ سَراح الأسرى فورًا نظير مقابل مادي قليل يُسَدد على أقساط طويلة المدى. • وأسكنَ الأَسرى الذين كانوا من نصيبه في المغانم في المنازل الواقعة على ساحل الخليج. • وعندما أُبيحت القسطنطينية للجنود ثلاثة أيام عقب الفتْح، كان هذا الإذن مقتصرًا على الأشياء غير المعنوية، فلمْ تُغتصب امرأة، ولَم يُمسَّ شيخٌ ولا عجوز، ولا طفل ولا راهب بأذًى، ولَم تُهدَمْ كنيسة ولا صومعة، ولا دير ولا بيعة، مع أنَّ المدينة أُخِذَتْ بالحرب، ورَفَضت التسليم. وكان من حقِّ الفاتح قانونًا - ما دامتِ المدينة قد أُخِذَتْ عُنْوة - أنْ يكونَ هو نيابة عن الجيش الفاتح مالكًا لكلِّ ما في المدينة، وأن يحوِّل نصف الكنائس والبِيَع على مدى زمني طويل إلى جوامعَ ومساجد، وأن يتركَ النصف الآخر لشعب المدينة على ما هو عليه، وفي وقفيات السلطان "محمد الفاتح" بنود كثيرة على بقاء أديرة "جوكاليجا"، و"آيا" و"ليبس" و"كيرا ماتو" و"ألكس" في يد البيزنطيين. • واعترف لليهود بملكيَّاتهم لبِيَعهم كاملة، وأنعم بالعَطايا على الحاخام "موسى كابسالي". • وعَيَّن في سنة 865 هجرية - 1461م للجماعات الأرمينيَّة بطريقًا يُدْعَى "يواكيم"؛ ليشرِفَ على مصالح "الأرمن"، ويوحِّد صفوفَهم. وبدأ في أعمال تعمير المدينة ابتداءً من 23 من ربيع الأول 857 هجرية - 12 من يونية 1453م، وقد كان الفتح يوم 29 من مايو من العام نفسه، وأمَرَ بنَقْل جماعات كثيرة من مختلف أنحاء الدولة إلى القسطنطينية؛ للإسهام في إعادة إنعاشها. • وأعاد للأرثوذكس كرامتهم التي أهْدَرها اللاتين الكاثوليك، بأنْ أعطاهم حقَّ انتخاب رئيس لهم، يُمثِّلهم ويُشرف على شؤونهم، وأصبح "سكولا ريوس جناديوس" أوَّل بطريقٍ لهم بعد الفتْح العثماني للقسطنطينية. • وجعَل الفاتح مسائِلَ الأحوال الشخصيَّة، مثل: الزواج والطلاق والميراث، وأمور الوفاة الخاصة بأهل المدينة المفتوحة من حقِّ الجماعات الدينيَّة المختصة، وكان هذا امتيازًا منعدمَ النظير في "أوروبا" في ذلك الوقت.
كيف فهم العلماء نصوص الطب النبوي؟ ينقسم علاج الأمراض إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول: الوسائل التي وصفها النبي صلى الله عليه وسلم لغيره؛ كالعلاج بالعسل وأبوال الإبل وألبانها، والحجامة، والتمر، والتلبينة... ويُطلق عليها الطب النبوي. القسم الثاني: العلاج بالأذكار والأدعية والمعوِّذات والرُّقى، وهذه لا يستغني عنها المسلم بحال، أيًّا كان نوع المرض، وخاصة في علاج العين والسحر والحسد. القسم الثالث: العلاج عن طريق الطب الحديث، الذي يعتمد على الحقائق العلمية، والعلاجات المادية المدروسة. وحديثنا هنا عن القسم الأول، هل له صفة العموم لكل أحد في كل زمان ومكان، أم أن بعضه مخصوص بزمان النبي صلى الله عليه وسلم، وبعضها له صفة الخصوص من حيث حالة كل مريض، فما يصلح لمريض قد لا يصلح لآخر؟ في السطور التالية عرض مختصر لأقوال شراح الأحاديث، وبطبيعة الحال، لن أسرد كل أقوالهم، كما لن أقف مع كل وسيلة على حِدَةٍ بل سأتعرض لأشهرها. أولًا: عسل النحل: • أخبرنا ربنا في محكم تنزيله أن العسل فيه شفاء للناس؛ قال تعالى: ﴿ يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ ﴾ [النحل: 69]. قال الإمام القرطبي (ت: 671 هـ): "اختلف العلماء هل هو على عمومه أم لا، فقالت طائفة: هو على العموم في كل حال ولكل أحد، وقالت طائفة: إن ذلك على الخصوص، ولا يقتضي العموم في كل علةٍ وفي كل إنسان، بل إنه خبر عن أنه يشفي كما يشفي غيره من الأدوية في بعض وعلى حال دون حال، ففائدة الآية إخبار أنه دواء، لما كثر الشفاء به وصار خليطًا ومُعينًا للأدوية في الأشربة والمعاجين، وليس هذا بأول لفظ خُصِّص، فالقرآن مملوء منه، ولغة العرب يأتي فيها العام كثيرًا بمعنى الخاص، والخاص بمعنى العام. ومما يدل على أنه ليس على العموم أن ﴿ شِفَاءٌ ﴾ نكرة في سياق الإثبات، ولا عموم فيها باتفاق أهل اللسان ومحققي أهل العلم وأهل الأصول " [1] . • وفي الصحيحين أن رجلًا أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: ((أخي يشتكي بطنه، فقال: اسقه عسلًا، ثم أتى الثانية، فقال: اسقه عسلًا، ثم أتاه الثالثة، فقال: اسقه عسلًا، ثم أتاه، فقال: فعلت، فقال: صدق الله وكذب بطن أخيك، اسقه عسلا فسقاه، فبرأ)) [2] . قال النووي: "قال بعض العلماء: الآية على الخصوص؛ أي شفاء من بعض الأدواء، ولبعض الناس، وكان داء هذا المبطون مما يُشفَى بالعسل، وليس في الآية تصريح بأنه شفاء من كل داء، ولكن علِم النبي صلى الله عليه وسلم أن داء هذا الرجل مما يُشفى بالعسل" [3] . ثانيًا: الحبة السوداء: حديث أبي هريرة، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: ((في الحبة السوداء شفاء من كل داء، إلا السَّامَ)) [4] ، والسام يعني: الموت. وصيغة هذا الحديث فيها من التعميم ما ليس في آية النحل، ومع ذلك لم يقل العلماء بأنها على عمومها، وأنها نافعة لكل داء. قال الخطابي: "قوله: ((من كل داء))، هو من العام الذي يُراد به الخاص؛ لأنه ليس في طبع شيء من النبات ما يجمع جميع الأمور التي تقابل الطبائع في معالجة الأدواء بمقابلها، وإنما المراد أنها شفاء من كل داء يحدث من الرطوبة... وقال أبو بكر بن العربي: من الأمراض ما لو شرب صاحبه العسل لتأذَّى به، فإن كان المراد بقوله في العسل: ﴿ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ ﴾ [النحل: 69] الأكثرَ الأغلب، فحَمْلُ الحبة السوداء على ذلك أولى. وقال غيره: كان النبي صلى الله عليه وسلم يصف الدواء بحسب ما يشاهده من حال المريض، فلعل قوله ذلك وافق مرضَ مَن مزاجه بارد، فيكون معنى قوله: ((شفاء من كل داء))؛ أي: من هذا الجنس الذي وقع القول فيه، والتخصيص بالحيثية كثير شائع" [5] . ثالثًا: التداوي بأبوال الإبل: روى البخاري وغيره: ((أن قومًا قدموا إلى المدينة، فمرضوا، فأشار عليهم النبي صلى الله عليه وسلم بالشرب من ألبان إبل الصدقة وأبوالها، حتى صحوا وسمنوا، وفي القصة أنهم ارتدوا وقتلوا راعي الإبل، ثم أدركهم المسلمون وقتلوهم)) [6] . وقد ذهب الإمام السرخسي الفقيه الأصولي المعروف، وأحد أئمة المذهب الحنفي (ت:483 هـ) إلى أن التداوي بأبوال الإبل رخصة لأناس مخصوصين في وقت مخصوص، ولا يصح تعميمه على الناس إلى الأبد، واستند في ذلك إلى قاعدة أصولية مفادها أن: (حكاية الحال - إذا تطرق إليها الاحتمال - كساها ثوب الإجمال، وسقط منها الاستدلال)، وهذا فيما يتعلق بالوقائع الفعلية التي تحتمل التخصيص، وهو ما ينطبق على هذه الحادثة. ونص كلامه: الحديث حكاية حال، فإذا دار بين أن يكون حجة، أو لا يكون حجة سقط الاحتجاج به، ثم نقول: خصَّهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك؛ لأنه عرف من طريق الوحي أن شفاءهم فيه، ولا يوجد مثله في زماننا، وهو كما خصَّ الزبير بن العوام بلبس الحرير لحكة كانت به... أو لأنهم كانوا كفارًا في علم الله تعالى، وقد علم رسول الله - من طريق الوحي - أنهم يموتون على الرِّدَّة، ولا يبعد أن يكون شفاء الكافر في النجس" [7] . وقد نقل العلَّامة بدر الدين العيني (ت: 855هـ) كلام السرخسي السابق ثم أعقبه بقوله: "فإن قلت: هل لأبوال الإبل تأثير في الاستشفاء حتى أمرهم صلى الله عليه وسلم بذلك؟ قلت: قد كانت إبله صلى الله عليه وسلم ترعى الشيح والقيصوم، وأبوال الإبل - التي ترعى ذلك وألبانها - تدخل في علاج نوع من أنواع الاستشفاء، فإذا كان كذلك، كان الأمر في هذا أنه عليه الصلاة والسلام عرف من طريق الوحي كون هذه للشفاء، وعرف أيضًا مرضهم الذي تزيله هذه الأبوال، فأمرهم لذلك، ولا يوجد هذا في زماننا" [8] . رابعًا: أحاديث العجوة: قوله صلى الله عليه وسلم: ((من أكل سبع تمرات من تمر المدينة حين يصبح لم يضره سُمٌّ حتى يمسي)) [9] . يرى جمع من أهل العلم أن هذا الحديث - وما في معناه - خاص بزمانه صلى الله عليه وسلم، وحجتهم عدم معقولية معناه من جهة الطب؛ وفي هذا يقول المازري (ت 536هـ): "هذا مما لا يعقل معناه في طريقة علم الطب، ولو صح أن يخرج لمنفعة التمر في السُّمِّ وجه - من جهة الطب - لم يُقدَر على إظهار وجه الاقتصار على هذا العدد الذي هو سبع، ولا على الاقتصار على هذا الجنس الذي هو العجوة، ولعل ذلك كان لأهل زمانه صلى الله عليه وسلم خاصةً أو لأكثرهم؛ إذ لم يثبت عندي استمرار وقوع الشفاء بذلك في زمننا غالبًا..." [10] . وأقره غير واحد كالإمام ابن العربي والقاضي عياض وابن حجر والمناوي. وانتقد الإمام النووي هذا التوجيه، وحذر من الاغترار به، ورأى أنه كلام باطل لا يُلتفَت إليه، وعلق ابن حجر على كلام النووي بقوله: "ولم يظهر لي من كلامهما – أي: المازري والقاضي عياض - ما يقتضي الحكم عليه بالبطلان" [11] . قال أبو العباس القرطبي (ت 656 هـ): "فحيث أطلق العجوة هنا إنما أراد به عجوة المدينة... وظاهر هذه الأحاديث خصوصية عجوة المدينة بدفع السُّمِّ، وإبطال السحر... ثم هل ذلك مخصوص بزمان نطقه صلى الله عليه وسلم أو هو في كل زمان؟ كل ذلك محتمل، والذي يرفع هذا الاحتمال التجربة المتكررة، فإن وجدنا ذلك كذلك في هذا الزمان، علِمنا أنها خاصة دائمة، وإن لم نجده مع كثرة التجربة، علمنا أن ذلك مخصوص بزمان ذلك القول" [12] . خامسًا: أحاديث الحجامة: قال صلى الله عليه وسلم: ((إن أمثل ما تداويتم به الحجامة والقسط البحري)) [13] . قال ابن القيم (ت: 751هـ) تعليقًا على هذا الحديث: "إشارة إلى أهل الحجاز، والبلاد الحارة؛ لأن دماءهم رقيقة" [14] . وقال المناوي (ت: 1031هـ): "في الحجامة شفاء من غالب الأمراض لغالب الناس في قطر مخصوص في زمن مخصوص، هكذا فافْهَمْ كلام الرسول، ولا عليك من ضعفاء العقول، فإن هذا وأشباهه يخرج جوابًا لسؤال معين يكون الحجم له من أنفع الأدوية، ولا يلزم من ذلك الاطراد" [15] . وأخيرًا أود التنبيه على أمرين مهمين: الأول: أن القول بخصوصية هذه الوسائل لا يعني عدم الاستفادة منها لمن احتاج إليها، ولم يكن هناك ضرر من استعمالها، بشرط ألَّا يقدح ذلك في الأصل، وهو أن أهل كل فن أعرف وأحق به من غيرهم، وأن مرض الإنسان وما يتعلق به موكل إلى الأطباء؛ استنادا لقوله تعالى: ﴿ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [النحل: 43]. الثاني: أن بعض المشتغلين بالطب النبوي بالغوا فيه وقدَّموا أنفسهم على أنهم مختصون بهذا الطب، ويعالجون المرضى على هذا الأساس، ولا ريب أن في هذا السلوك جرأة على دين الله، وغشًّا لعباده، ومخاطرة بحياتهم. نسأل الله أن يفقهنا في الدين، وأن يديم علينا الصحة والعافية، وأن يشفي مرضانا ومرضى المسلمين أجمعين، اللهم آمين. [1] تفسير القرطبي (10/ 136). [2] اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان (1432). [3] شرح النووي على مسلم (14/ 203). [4] اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان (1430). [5] فتح الباري (10/145). [6] رواه البخاري (2855) ومسلم (1671). [7] المبسوط للسرخسي (1/ 54). [8] عمدة القاري شرح صحيح البخاري (3/ 155). [9] رواه مسلم (2047). [10] المُعْلم بفوائد مسلم (3/ 121). [11] فتح الباري لابن حجر (10/ 240). [12] المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم (5/ 321). [13] اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان (1015). [14] زاد المعاد في هدي خير العباد (4/ 50 ) . [15] فيض القدير (2/ 471 ) .
مملكة أوسان - دراسة في التاريخ السياسي والاجتماعي لمحمود عبد الباسط صدر حديثًا كتاب " مملكة أوسان، دراسة في التاريخ السياسي والاجتماعي "، تأليف: د. " محمود عبدالباسط عطية "، تقديم: أ.د. " سليمان الديب " نشر: " دار ملامح "، الشارقة-الإمارات. وأصل هذا الكتاب أطروحة علمية تقدم بها الباحث لنيل درجة الماجستير في آثار وتاريخ الشرق الأوسط، من كلية الآثار بجامعة القاهرة، وذلك تحت إشراف أ.د. "علاء الدين شاهين"، وذلك عام 1434 هـ - 2012 م. تتناول هذه الدراسة التارخ السياسي والحضاري لمملكة أوسان، إحدى الممالك القديمة التي نشأت في جنوب غرب شبه الجزيرة العربية. ومملكة أوسان أو "أوسن" (الأوس) - حسب كتابات خط المسند - هي مملكة قديمة تقع أطلالها في جنوب اليمن كان تتبع مناطق حِمْيَر وقتبان، ولكنها انفصلت عنها في ظروف غامضة، حيث جمعت حولها الأحلاف والقبائل وكونت كيان سياسي مستقل، وساعدها في ذلك ازدهارها الاقتصادي بسبب قربها من خليج عدن. استمرت هذه الدولة في ازدهارها حتى اتسعت مطامع مملكة سبأ في أواخر عهود المكربيين، وقام بين الدولتين مناوشات تناوبت الانتصارات بين الطرفين، حتى عهد الحاكم السبئي الملك "كرب إيل وتر" أول من تلقب بلقب "ملك دولة سبأ" في حوالي القرن السابع ق.م، وقام هذا الملك بتدمير مدن أوسان واحتلالها لفترة طويلة. ونجد أن عاصمتها "هجر يهر" Hagar Yahirr كانت مركزًا لحضارة كبيرة وغنية بشكل مدهش متأثرة بالحضارة الهلينية، حيث كانت شواهدها دالة على عدد من المعابد والقصور المحاطة بالمساكن المبنية من الطين المحروق، وموقع محتمل لسوق كبير، ومكان لاستراحة القوافل المسافرة. وأحرز الملوك الأوسانيون امتيازات كبيرة، وسلطة دينية على شعبهم، كما أنهم تأثروا بالنموذج اليوناني في الهيئة. وامتد نفوذ أوسان إلى إفريقيا والهند حيث كان الساحل الإفريقي يسمى بالساحل الأوساني، وكانت أوسان من أكثر ممالك اليمن نفوذًا وثراءً حتى قضت عليها مملكة سبأ. وتنقسم الدراسة إلى مقدمة، وتمهيد، وخمسة فصول، وخاتمة بأهم النتائج؛ وذلك على النحوالتالي: المقدمة: استعرض فيها الباحث أسباب اختيار موضع الدراسة، ومدى أهميته، وأهم الصعوبات التي واجهته أثناء الدراسة. التمهيد: تناول الباحث فيه الحديث عن اسم اليمن قديمًا، علاوة على موقعه الفلكي والجغرافي، وأثر ذلك في مختلف مناحي الحياة (السياسية- الاقتصادية- الاجتماعية- الدينية- الفنية). الفصل الأول: يتطرق إلى الأوضاع السياسية في جنوب غرب شبه الجزيرة العربية خلال الألف الأول قبل الميلاد. الفصل الثاني: يشمل الحديث عن مصادر دراسة تارخ أوسان، واسمها، ونطاقها الجغرافي، علاوة على تاريخها السياسي ونظم الحكم فيها. الفصل الثالث: يتناول علاقات أوسان السلمية والحربية بجيرانها. الفصل الرابع: خصص للحديث عن الأوضاع الاقتصادية (الزرعة- الصناعة- التجارة)، والاجتماعية، والدينية (المعبودات- المعابد- الطقوس). الفصل الخامس: يتناول الفنون والعمارة الأَوْسَانية. وخاتمة: استعرض الباحث فيها أهم النتائج التي توصل إليها. ويعد هذا البحث التاريخي من البحوث التي استقصت تاريخ مملكة من ممالك شبه الجزيرة العربية، حيث نشأت في الألف الأول قبل الميلاد بجنوب الجزيرة العربية، حضارة عريقة. قام بتلك الحضارة ممالك أو كيانات سياسية، اصطُلِح على تسميتها ممالك جنوب الجزيرة العربية. وهذه الممالك عاشت في فترات متداخلة ومتعاقبة؛ وهي معين، سبأ، وقتبان، وحضرموت، وحمير، ثم هناك أَوْسَان، التي نشأت في وادي مرخة، ونجحت في فترات مختلفة من تاريخها السياسي في السيطرة على كثير من مناطق جنوب الجزيرة العربية. ويناقش البحث ما يقدمه من معلومات يمكن الاستفادة منها في زيادة الجانب المعرفي عن بعض أنماط الحياة العامة؛ متمثلة في الأوضاع السياسية والدينية والاقتصادية والاجتماعية.
لم يصنف ابن تيمية كتابًا بعنوان "نقد مراتب الإجماع" لم يصنف ابن تيمية – رحمه الله - كتابًا بعنوان " نقد مراتب الإجماع "، وبيان ذلك على النحو التالي: 1- لم يذكر أحدٌ ممن ترجم لابن تيمية – فيما أعلم - كتابًا أو رسالة بعنوان " نقد مراتب الإجماع ". 2- لم يذكره ابن رشيق في " أسماء مؤلفات شيخ الإسلام ابن تيمية "، ولا ابن عبد الهادي في " العقود الدرية "، وهما من أوسع ما كتب قديمًا في حصر مؤلفات شيخ الإسلام. 3- الرسالة المطبوعة بهذا العنوان ليس فيها ما يدل على هذا الاسم، بل جاء في مقدمتها ما يشير إلى غيره؛ فقد جاء في أول الرسالة: «هذا فصلٌ فيما ذكره الحافظ تقيُّ الدين أبو العباس أحمد ابن تيمية في الكلام على الإجماعات، ومن جملتها الكلامُ على ما ذكره الشيخ الإمام أبو محمد بن حزم». فهذا فصل للكلام على الإجماعات عمومًا ومن جملة هذه الإجماعات الكلام على ما ذكره ابن حزم في كتابه " مراتب الإجماع ". 4- هذا العنوان لم أقف عليه في شيءٍ من مصنفات ابن تيمية المطبوعة، ولا في شيء من مصنفات خواص تلامذته المقربين منه. لهذه الأسباب طعن الدكتور عبدالله بن عبد المحسن التركي في نسبة هذه الرسالة إلى ابن تيمية في كتابه " المذهب الحنبلي " (2 /386 - 387) ورجح أن تكون هذه الرسالة لأبي يعلى حمزة بن موسى المعروف بـ "ابن شيخ السَّلَاميَّة" (ت 769هـ). وتحقيق هذه المسألة: أن الرسالة المطبوعة مع كتاب " مراتب الإجماع "، لابن حزم بعنوان " نقد مراتب الإجماع "، هي في نفسها ثابتة النسبة لشيخ الإسلام ابن تيمية، لكن بعنوان: " مؤاخذة على ابن حزم في الإجماع "، كما جاء ذلك مثبتًا على النسخة المخطوطة منها، إذ تقع هذه النسخة الخطية ضمن مجموع في مكتبة الأوقاف العامة ببغداد برقم (6454 – مجاميع)، وتحتوي هذه المجموعة على ثماني رسائل لشيخ الإسلام ابن تيمية أوَّلها " الرسالة التدمرية "، وهي نسخة متأخرة يرجع تاريخ نسخها إلى نهاية القرن الثالث عشر الهجري. وقد ذكر هذه الرسالة صلاح الدين الصفدي في ترجمة ابن تيمية من كتاب " الوافي بالوفيات "، وابن شاكر الكتبي في " فوات الوفيات " بعنوان: " مؤاخذة على ابن حزم في الإجماع "، وهو نفس العنوان الموجود على الأصل الخطي. ويؤكد صحة نسبتها لابن تيمية أنَّه أشار إليها في كتاب " الرد على السبكي في مسألة الطلاق المعلق " (2/ 622 – 623، 624). وقد طبعت هذه الرسالة ضمن المجموعة الثالثة من " جامع المسائل لشيخ الإسلام ابن تيمية " - طبعة عالم الفوائد، بتحقيق الشيخ محمد عزير شمس، بعنوان: " فصل في مؤاخذة ابن حزم في الإجماع ". وأغلب الظن عندي أن هذا العنوان: " نقد مراتب الإجماع " تصرف من محمد زاهد الكوثري الذي قام بطباعة الرسالة والتعليق عليها مع كتاب " مراتب الإجماع " لأول مرة بمكتبة القدسي بالقاهرة، والله أعلم. وللفائدة يراجع: • مقدمة تحقيق المجموعة الثالثة من جامع المسائل لشيخ الإسلام ابن تيمية، تحقيق محمد عزير شمس (ص 17). • مقدمة تحقيق " مراتب الإجماع "، لابن حزم، تحقيق وتعليق محمد صلاح فتحي، دار الفتح للدراسات والنشر - الأردن، الطبعة الثانية 1443هـ = 2022م.
الدرعية في المصادر التاريخية الدرعية بلد يقع على ضفاف وادي حنيفة في العارض من بلاد اليمامة وسط الجزيرة العربية، وقد بدأ تاريخها الحديث في سنة850هـ حيث قدم مانع بن ربيعة المريدي من بلد الدروع المعروفة بالدرعية من نواحي القطيف على ابن درع وذلك عندما حل ببلده وباء وحُمَّى، وكان ابن درع رئيسًا للدروع أو لطائفة منهم [1] ، وكان مع مانع المريدي أولاده ورجاله وأتباعه فأقطعه ابن عمِّه ابن درع المليبد وغصيبة وما بينهما، وهي منطقة ضيقة لا تتجاوز مساحتُها خمسة أكيال في عرض الوادي؛ ولكن هذه الهجرة صادفت قبولًا كما يقول ابن بشر، فبُورك لمانع في المال والولد، فأخذ النمو والتطور يزدادان يومًا بعد يوم حتى أصبحت الدرعية الجديدة واسطة عقد هذا الوادي [2] ، وبسبب هذا التطور كثر جيران المردة من الموالفة وغيرهم [3] . وقد كان آل يزيد يسكنون المنطقة قبل ذلك ثم قلَّ عددُهم، قال الشيخ حمد الجاسر رحمه الله: آل يزيد من أقدم من عرف في العصور الأخيرة من بقايا سكان وادي حنيفة القدماء، واستدل بما ذكره الحموي في معجم البلدان في رسم: غائط بني يزيد، قال: نخل وروض باليمامة، نقله عن ابن أبي حفصة [4] ، وابن أبي حفصة واسمه محمد بن إدريس من أهل اليمامة الخبيرين بها؛ إذ إن له مؤلفًا عنها، فلعلها سُمِّيت نسبة إليهم [5] . وقال فلبي: وكان سكان وادي حنيفة وهم فرع من قبائل آل يزيد الحنفيين، يملكون واديهم كاملًا من ممرِّ الحيسية حتى الخرج، وقد تنازلوا لا بن درع قبل زيارة مانع بمدة قصيرة عن بعض أملاكهم [6] . وذكر المؤرخون أنهم باعوا سنة 850هـ العيينة لحسن بن طوق جد آل معمر، فقال الفاخري: في سنة 850هـ اشترى حسن بن طوق جد آل معمر العيينة [7] من آل يزيد الحنفيين أهل الوصيل والنعمية [8] ومن ذريتهم آل دغيثر [9] ورحل من ملهم ونزلها وعمرها وتداولها ذريته من بعده [10] . قال فلبي: ولم يتبق لآل يزيد إلا جزء من الوادي يمتد من شمالي غصيبة حتى الجبيلة، وكانت مناطق سكناهم الوصيل والنعمية [11] ، وقال ابن عيسى:" وكان ما فوق المليبد وغصيبة لآل يزيد من بني حنيفة، وكان جميع الوصيل مما فوق سمحة لآل يزيد، ومن الجبيلة إلى الأبكّين الجبلين المعروفين" [12] ، وسبب هذه الإجراءات من تنازل عن جزء كبير من أملاكهم لابن درع وبيع العيينة لحسن بن طوق فقد يكون السبب أمراضًا فتكت بكثير منهم؛ مما صعب معه القيام بالعمل في هذه الأراضي الشاسعة، أو بسبب حروب طاحنة، وفي نفس السنة (850ه) قدم مانع بن ربيعة المريدي كما تقدم. وأسباب منح ابن درع مع ابن عمِّه مانع المريدي إرادة ابن درع أن يتكثر ببني عمِّه من الدروع، وأن يجعل بني عمِّه درعًا واقيًا له من آل يزيد الذين يملكون الوصيل وما فوقه من وادي حنيفة بينما يملك ابن درع حجر والجزعة وما فوقهما إلى محاذاة آل يزيد [13] . ثم تولى ربيعة بعد أبيه مانع فرغب في توسيع مناطق نفوذه، فوقعت وقائع بينه وبين آل يزيد بسبب ذلك، ثم إن موسى بن ربيعة بن مانع المريدي استلم الحكم من والده بالقوة فلجأ والده إلى حمد بن حسن بن طوق رئيس العيينة، فبقي عنده، وعالج ما لحق بدنه من جراحات بسبب مقاومته لولده، وما زال موسى بن ربيعة يزداد قوة، فرغب في توسيع نفوذه فبدأت سلسلة من الهجمات على آل يزيد، وجُرِح في إحداها جراحات شديدة، ثم هاجمهم بغتة بعد شفائه ومعه الموالفة [14] ، ولم يكن مع آل يزيد سلاح؛ فقتل منهم ثمانين رجلًا ونجا الباقون [15] ، قال ابن عيسى: "وهي الوقعة التي يضرب بها المثل في نجد فيقال: صبحهم فلان صباح الموالفة لآل يزيد [16] ". قال فلبي: فلم يرد لهم ذكر بعد ذلك التاريخ إلا عائلة الدغيثر [17] ، وقد قتل موسى بن ربيعة بالعيينة سنة 1139هـ وقد تولى محمد بن سعود إمارة الدرعية في1139هـ/ 1727م، بعد مقتل أميرها زيد بن مرخان بن وطبان ، وأسس إمارة أصبحت فيما بعد انطلاقة لتأسيس الدولة السعودية الأولى وهو يوم التأسيس، ثم قامت الدولة السعودية الأولى في الفترة (1157 - 1233 هــ / 1744 - 1818 م) بعد أن كانت شبه الجزيرة العربية في أوائل القرن الثاني عشر الهجري الموافق للثامن عشر الميلادي تعيش حالة من التفكُّك وانعدام الأمن؛ مما أوجد حالة من الفوضى وعدم الاستقرار السياسي والاجتماعي، إضافة إلى انتشار البدع والخرافات، فمهَّد هذا الأمر لعمل تحالف بين أمير الدرعية محمد بن سعود وبين محمد بن عبد الوهاب رحمهم الله. وبدأ الشيخ «محمد بن عبد الوهاب» دعوته في الدرعية بعد اتفاقه مع الأمير « محمد بن سعود »، الذي عُرف تاريخيًّا باتفاق الدرعية عام (1157هـ/ 1744م) ، كما قام الأمير « محمد بن سعود » بالتركيز على استتباب الأمن ونشر الدعوة الإصلاحية داخل الدرعية، وبقي الشيخ عامين يدعو الناس فيها إلى التوحيد الخالص، فقام بمراسلة العلماء والأمراء يدعوهم فيها لقبول دعوته الإصلاحية، والانضمام إلى الأمير «محمد بن سعود»، وابتدأ بأهل نجد فكاتب علماءها وأمراءها، وكاتب علماء الأحساء وعلماء الحرمين الشريفين، وكذلك كاتب العلماء من خارج الجزيرة، علماء مصر والشام والعراق والهند واليمن، وانضم الكثير ممن صدقوا دعوته، مثل بلدة العُيينة، وحريملاء، وبلدة منفوحة، وبلدان العارض مثل العمارية، والقويعية، وشقراء، والحوطة، والمحمل، وثادق، والقصب، والفرعة، وثرمداء. وأعلن بعض البلدان معارضة الانضمام للدرعية، فجابهها أمير الدرعية بجيوشه حتى دخلت معظم بلاد الجزيرة العربية تحت لوائها. وبسبب التوسع الكبير حاربت الدولة العثمانية الدولة السعودية وسَعَت لإسقاطها، ففشلت الحملات في البداية، ثم أرسل القائد الشهير إبراهيم باشا قادمًا من مصر عام 1818 م 1233/ ه ـ ـ إلى الدرعية وأمر بهدم أسوارها، وعمل على أسر الأمير عبدالله بن سعود رحمه الله وعدد كبير من عائلته وأنصاره بعد حصار دام ستة أشهر، وبذلك انتهت الدولة السعودية الأولى، لتنتقل العاصمة بعد ذلك إلى الرياض. وقد اهتمت المملكة بالدرعية وتُوِّج هذا الاهتمام بإعلان منظمة الأمم المتحدة للعلوم والتربية والثقافة أن حي الطريف في مدينة الدرعية موقع تراث عالمي، وذلك خلال اجتماع لجنة التراث العالمي باليونسكو في دورته الرابعة والثلاثين المنعقد في مدينة برازيليا بالبرازيل في 29 يوليو 2010م ليصبح الحي الموقع السعودي الثاني الذي يتم تسجيله في قائمة التراث العالمي بعد اعتماد تسجيل (موقع الحجر ( مدائن صالح، وفي 20 ديسمبر 2021 اختارت المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (الألكسو) الدرعية عاصمة للثقافة العربية للعام 2030 لتصبح ثاني مدينة سعودية يتم اختيارها بعد الرياض في عام 2000م. وأهم الأحياء الأثرية في الدرعية: 1) حي غصيبة: ويقع في أعلى وادي صفار على بعد 3 كم شمال حي المليبيد، ويتميز حي غصيبة بموقعه الاستراتيجي الحصين؛ إذ يقع على رأس جبل فيما يشبه رأس مثلث، يطل رأس هذا المثلث من جهة الجنوب على التقاء شعيب قليقل في وادي حنيفة ثم يأخذ في التوسع عند الاتجاه إلى الشمال نحو ظهرة ناظرة، وقد سكنه المردة في البداية ثم انتقلوا إلى حي الطريف، وسكنه بعدهم آل دغيثر. 2) حي الطريف: وفيه معظم المباني الإدارية في عهد الدولة السعودية الأولى، كقصر سلوى الذي تم إنشاؤه أواخر القرن الثاني عشر الهجري، وكانت تدار منه شؤون الدولة السعودية الأولى، وكذلك جامع الإمام محمد بن سعود، وقصر سعد بن سعود، وقصر ناصر بن سعود، وقصر الضيافة التقليدي الذي يحتوي على حمام طريف، ويحيط بحي الطريف سور كبير وأبراج كانت تستخدم لأغراض المراقبة والدفاع عن المدينة. 3) حي البجيري: وفيه سكن الشيخ محمد بن عبد الوهاب وبنى له الإمام محمد بن سعود ولتلاميذه مسجدًا كبيرًا وأماكن لإقامتهم، وصار منارة علمية للتعليم الديني واللغوي في ذلك العهد، وموقعه على الجهة الشرقية لوادي حنيفة ، مقابل حي الطريف . 4) حي المُلَيْبِيْد: يقع في الجهة المقابلة لمصب وادي صفار بوادي حنيفة، وذلك في أسفل الدرعية من جهة الجنوب باتجاه عرقة. 5) حي سمحان: يتشكَّل حي سمحان من عدد من المباني الطينية التراثية، يقدر عددها بـ (36) مبنى ذات طابق أو طابقين. وقد اعتنى المؤرخون بإفراد الدرعية بمؤلفات خاصة، فمن أبرز المؤلفين والمؤلَّفات: 1) أقدم الكتب المفردة عن الدرعية: كتاب (الدرعية العاصمة الأولى) لابن الدرعية المؤرخ الأديب الشيخ عبدالله بن خميس رحمه الله، وهو كتاب ماتع بأسلوب رائع وسرد مشوق. 2) أصدرت مكتبة العبيكان كتاب (الدرعية قاعدة الدولة السعودية الأولى) لمحمد العيسى، ويتميَّز بحسن الإخراج وجودة الصور وهو مختصر يُناسِب القارئ الذي يعشق المختصرات. 3) كتاب (الدرعية نشأةً وتطورًا) للمؤرخ الدكتور عبدالله العثيمين رحمه الله، ويتميز الدكتور باطلاعه الواسع على كتب التاريخ العربي والكتب المؤلفة بالإنجليزية للرحَّالة وزوار المنطقة. 4) الدكتور عثمان الصوينع كتب عن الدرعية هذا الكتاب الرائع بعنوان (العاصمة التاريخية للدعوة السلفية "الدرعية") والذي ينمُّ عن اطلاع واسع، وصدر عن مطابع الفرزدق، الرياض، الطبعة الأولى، 1420هـ/ 1999م، 5) كتاب من أصالة الماضي العريق والحاضر المجيد للدرعية، للباحث عبدالرحمن العبد اللطيف، وقد صدر في الرياض، الطبعة الأولى، 1996م، وفيه معلومات إضافية. 6) المؤرخ عبدالحكيم العواد أخرج بحثًا ماتعًا وكتابًا نافعًا بإخراج رائع نتيجة لاستقراء واسع، عنوانه (الدرعية بين باب سمحان وباب سلمان) . 7) كتاب فخم بتقديم خادم الحرمين الشريفين وفَّقه الله للخير، للمؤرخ النبيل الدكتور راشد العساكر، بعنوان (تاريخ المساجد والأوقاف القديمة في بلد الدرعية) ، ويتميَّز بوثائق مهمة. 8) صمود وشجاعة أهل الدرعية ضد الحملة القادمة من مصر بقيادة السفاح إبراهيم باشا- أخزاه الله- كانت محلًّا للبحوث الأكاديمية، ومنها: ♦ حملة إبراهيم باشا على الدرعية وسقوطها، للباحثة فاطمة القحطاني. ♦ بطولات وقائع معركة الدرعية الخالدة، تأليف الدكتور محمد السلمان. ♦ التحصينات الخارجية الدفاعية للدرعية إبان عهد الدولة السعودية الأولى، للباحث سليمان الشهري. 9) دراسة بعنوان (مجمع الدرعية في عهد الدولة السعودية الأولى) ، للباحث عبدالله المطوع، الجمعية التاريخية السعودية، الرياض، 1424هـ/ 2003م، وفيه فوائد مهمة. 10) بعض الكتب من إصدار جهات حكومية وهي للزائر والسائح وليست للمؤرخ، منها: ♦ امتداد قصر سلوى وقصر عبدالله بن سعود. ♦ الدرعية أصالة الماضي وإشراقة الحاضر. ♦ حمام الطريق وملحقاته. ♦ الدرعية والدولة السعودية الأولى، لويليام فيسي. 11) لهجة أهل الدرعية كانت محلًّا للدراسة والبحث من الباحثة مشاعل الشبيب، بعنوان (ظواهر وألفاظ لغوية في لهجة أهل الدرعية) ، وهو بحث لغوي رائع. 12) من البحوث المهمة عن الدرعية: مجلة الدرعية. 13) من الكتب التي تستحق القراءة وتتعلق بتاريخنا الوطني، وخاصة الدرعية كتاب (مجتمع الدرعية في عهد الدولة السعودية الأولى) للدكتور عبدالله المطوع. 14) وأما كتاب (الدرعية عاصمة الدولة السعودية الأولى للدكتور عبدالحكيم عبدالغني قاسم – مكتبة مدبولي) وقد كتب عنه المؤرخ الدكتور عبدالحكيم العواد بأنه كتاب ضعيف. ولا زالت الدرعية تستحق من الدراسات ما هو جديرة به، وأسأل الله العون على كتابة كتاب شامل مناسب للترجمة للغات الحية تناسب توجُّه المملكة في جعل الدرعية بلدة جاذبة للسياحة. [1] جعله ابن عيسى في "تاريخ بعض الحوادث في نجد" رئيسًا للدروع، ومثله في "مجموع في التاريخ النجدي/ 36" ضمن الخزانة التاريخية لابن بسام 9/ 36، وأما ابن خميس فذكر في تاريخ اليمامة 4/ 31 أنه رئيس لبعضهم. [2] تاريخ اليمامة 4/ 31. [3] "مجموع في التاريخ النجدي" ضمن الخزانة التاريخية لابن بسام 9/ 36 [4] المعجم (8747). [5] الجمهرة 2/ 976. [6] تاريخ نجد لفلبي/ 4-5. [7] ذكر ابن خميس حدودها في تاريخ اليمامة 5/ 125. [8] قال ابن بشر 1/ 17: موضعان في الوادي- أي: وادي حنيفة- أعلى الدرعية، وقال الجاسر في الجمهرة 2/ 836: ويقعان بين الدرعية والجبيلة. [9] يقال بأن آل يزيد أهل الوصيل والنعمية لم يبق منهم إلا عائلة واحدة وهم آل دغيثر، مع أنه يوجد عوائل من آل يزيد ساكنة في الرياض قبل هذه الحوادث كما سيأتي. وهذا ما جعل المغيري يقصر آل يزيد في آل دغيثر حيث قال: آل يزيد بطن من حنيفة بقاياهم آل دغيثر الموجودون الآن. المنتخب/ 422. [10] تاريخ الفاخري/ 60، وتاريخ ابن عيسى المتمم لتاريخ ابن بشر/ 35. [11] فلبي/ 4-5. [12] "مجموع في التاريخ النجدي" ضمن الخزانة التاريخية لابن بسام 9/ 36. [13] تاريخ اليمامة 4/ 31. [14] الموالفة لفظ مأخوذ من التآلف والتعاون والتناصر وليسوا فخذًا مستقلًّا؛ حيث إننا لم نجد لهم ذكرًا في كتب التاريخ بعد هذه القصة، فهم أحلاف من بعض الدروع والمردة وغيرهم؛ ولهذا قالوا في المثل: صبحهم صباح الموالفة لآل يزيد، فجعلوا جميع المهاجمين من الموالفة، وهذا يؤيد ما ذكر، فما ذكره الشيخ حمد الجاسر رحمه الله في المعجم بعيد، بدلالة أنه ذكر أن آل مديرس من آل يزيد في صفحة 800، ونقل عن ابن لعبون في تاريخه قوله: والموالفة الذين بقاياهم آل سعود وآل وطبان وجميع الدروع وآل مديرس وآل عبدالرحمن شيوخ ضرماء فقتلوا آل يزيد قتلًا ذريعًا ..." وانظر تاريخ ابن لعبون صفحة 31، فجعله آل مديرس من الموالفة مع أنهم من آل يزيد أهل الرياض يدل على أن الموالفة مجموعة أحلاف وليسوا فخذًا مستقلًّا. [15] فلبي/ 4-5. [16] في كتاب الدولة السعودية للدكتور عبدالرحيم عبدالرحمن/ 31: آل يزيد وآل دغيثر، وهو خطأ. [17] تاريخ ابن ضويان / 20، تاريخ فلبي / 5، المنتخب/ 422، وهذا يؤكد ما ذكر، من أن آل يزيد قسمان، وأن القسم الذي في الوصيل والنعمية انقرضوا ولم يبقَ منهم إلا عائلة آل دغيثر.
أصناف الناس مع مواقع الإنترنت بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان وسلم تسليماً كثيراً وبعد: فلا شك أن نعم الله علينا كثيرة جداً لا تعد ولا تحصى، كما قال الله تعالى: ﴿ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا ﴾ [1] ومن تلك النعم التي أنعم الله بها علينا وأساء استخدامها كثير من الناس ( الإنترنت )، وكان جديراً بأن يسخر في طاعة الله سبحانه وتعالى، ونشر العقيدة الصحيحة والذب عنها، والتحذير من الشرك، وأهل البدع والأهواء. لكننا وجدنا عكس ذلك، فقد أنشئت مواقع متخصصة لبث الفاحشة في الذين آمنوا؛ تدعوا إلى الفحش والفجور، فنتج عن ذلك ضياع الأوقات في اللهو والملذات، وانتشار الفاحشة في المجتمع المسلم، وقد قال الله تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آَمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ ﴾ [2] . وأنشئت مواقع أخرى لنشر ما هو مباح وليس فيه مخالفة، وهذه المواقع ينبغي أن يستفيد منها المرء على قدر حاجته من غير تضييع لوقته فيها. وأنشئت مواقع أخرى لأهل البدع والأهواء، يبثون من خلالها سمومهم وأفكارهم المنحرفة والهدامة في صفوف المسلمين ليوقعوا الشباب في تياراتهم المنحرفة، مثل: مواقع الرافضة، والصوفية، وجماعتي التبليغ والإخوان، وكذلك مواقع دعاتهم، فإنه لا خير فيها، بل هي والله أشد خطراً من المواقع التي تبث الرذيلة –من غير تهوين للمعصية– فإن صاحب المعصية يعلم أنه عاصٍ لله، وأما صاحب البدعة فيتدين لله ببدعته ويقاتل ويموت عليها، كما قرر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- في مواطن من كتبه. وأنشئت مواقع أخرى يدعي أصحابها السلفية، ويُدَلِّسُون ويُلَبِّسُون على الناس وهم منها براء، وقد انكشف حال كثير من هؤلاء لكثير من الناس، وتبين أنهم يخالفون المنهج السلفي، وأما بقيتهم فسيظهر عوارهم بمشيئة الله، ونسأل الله أن يهديهم، فهدايتهم أحب إلينا من ضلالهم، ونشهد الله على ذلك. وأنشئت مواقع أخرى ومنتديات شتى باسم السلفية، يوضع فيها مقالات وكتب ودروس للعلماء السلفيين، وأخرى لغيرهم من المنحرفين، وهم بذلك قد جمعوا بين الغثِّ والسمين وبين الحق والباطل. بل لقد اغتر بفعلهم كثير من الناس فقالوا لو كان هؤلاء على الباطل ما وضعهم الشيخ فلان -في موقعه أو منتداه الذي يشرف عليه- بجوار العلماء السلفيين، فإنا لله وإنا إليه راجعون. وأما المواقع والمنتديات السلفية الصحيحة النقية فهي قليلة جداً بجوار ركام الباطل، وهذا يدل على غربة الدين في هذا الزمان الذي قلَّ فيه السلفيون المخلصون، وكثر فيه الكاذبون الهمج الرعاع والمدَّعون لذلك، نسأل الله السلامة والعافية من هذا الدخن. وهناك بلية أخرى في الإنترنت يجدر بنا التنبيه عليها؛ فالكلام عليها الآن من الأهمية بمكان نظراً لتفشى ذلك الأمر في عالم الإنترنت وهي: أن الكتابة فيه مفتوحة المجال لكل أحد، فقد دخل الجهلاء من الدهماء والغوغاء تلك المواقع والمنتديات السلفية فأفسدوها، وهذا ما يعرف اليوم بالطعن من وراء الشاشات، ولسان حال أحدهم (أنا ابن باز ، أنا ابن عثيمين) وجهل المسكين أو تجاهل أنه لا يحسن فقه الطهارة، بل ربما لا يحسن مسألة من مسائل العقيدة والتوحيد. فشغب هؤلاء على الحق وأهله، وأصبح زماننا زماناً ظهر فيه العجب العجاب، ونطق فيه الرويبضة كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم، ثم إذا بهم يوجهون إلى أهل الحق الاتهامات والطعنات وهم منها براء فإلى الله المشتكى. فحري بمن يريد الحـق ويسعى إليه ويطلب النجاة والهـدى؛ أن يَعَضَّ عليه وعلى أهله بالنواجذ، وأن لا يدخل إلا المواقع والمنتديات السلفية النقية ويبتعد عما فيها دخن، وأن يحذر أهل البدع والأهواء ومواقعهم ومنتدياتهم، ويحذر منها إخوانه المؤمنين حتى لا يغتر بها أحد، أو يدخل ليشاهد ما هو مباح وليس فيه مخالفة على قدر الحاجة كما تقدم. هذا والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين. وكتبه أبو عبد الله وائل بن على بن أحمد آل عبد الجليل الأثري الأربعاء: 24/ صفر / 1430هـ 18/ فبراير / 2009م alsalafy1433@hotmail.com [1] (سورة إبراهيم آية: 34). [2] (سورة النور آية: 19).
من منطلقات العلاقات الشرق والغرب (الحوار - طرَفا الحوار) في السنوات الأخيرة ازداد الحوار المستمر بين الشرق والغرب، وأضحى يسمى اصطلاحًا "الحوار بين الإسلام والغرب"، وكأن الإسلام هو الطرف الأول والغرب هو الطرف الثاني في الحوار أو العكس. المتمعن في هذا الاصطلاح يدرك الغرض من إطلاقه؛ إذ إن الإسلام ثقافيًّا منطلق واحد، يحمل أفكارًا محددة، مَنشؤها كتاب الله تعالى القرآن الكريم، وسنَّة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم. أما الغرب فهو تجميع لثقافات عدة، بعضها ينطلق من منطلق ديني؛ كالنصرانية واليهودية، وبعضها ينطلق من منطلق متناقض مع الدين ومحارب له في الحياة العامة؛ كالعلمانية الشاملة، والشيوعية والاشتراكية والإلحادية، ثم في صياغتها الأخيرة باسم العولمة الثقافية، وغيرها من الملل والنحل التي تقف طرَفًا آخر في هذا الحوار القائم الآن مع الإسلام. الأصل أن يقوى الحوار ويستمر ويتخذ أشكالًا سلمية متعددة، بحسب المقام من حوارات فردية، أو جماعية علمية أكاديمية، أو فكرية، أو تجارية، أو اجتماعية؛ إذ لا يملك المرء اليوم إلا أن يكون طرفًا في هذا الحوار المستمر. مع أن فكرة الحوار ليست جديدة على هذه الثقافة، إلا أنه يستغرب المرء تحفظ بعض المعنيين من الحوار مع الآخر بحجج، منها: ارتباط الحوار بالتنصير [1] ، وارتباطه بالتهيئة للاحتلال، ونحو ذلك من حجج وقتية قد لا ترقى إلى العلمية الموضوعية،وليس لدينا نحن المسلمين ما نخفيه عن الآخر، ليتحفظوا على الحوار معه [2] ، وليس لدينا كذلك ما نخشاه من أن نصل إلى نتيجة مَرْضيَّة في الحوار؛ إذ إن المقصود من الحوار ليس النجاح فيه هدفًا، بل إن النجاح وسيلةٌ لا غاية، وعدم النجاح يعزى إلى المحاور، وليس إلى الموضوع المتحاور فيه،وإنما الغاية هي نقل المعلومة الصحيحة عن الإسلام، وتلقي المعلومة الصحيحة عن الثقافات الأخرى، ليكون هناك إقناع واقتناع. أهم من هذا كله: أن يقوم الحوار على المعلومة الصحيحة الواضحة، وأن يقوم على الندية بين المتحاورين، وأن تكون هناك نقاطُ تلاقٍ، كما تكون هناك نقاط اختلاف، ليكون للحوار مغزى وثمرة دونما خوف من الغرب على الشرق/ الإسلام، أو خوف من الشرق/ الإسلام على الغرب [3] ،وقد أبدع فضيلة الشيخ الدكتور صالح بن عبدالله بن حميد في حديثه، بل أحاديثه عن الحوار، وطرقه وآدابه وأصوله، ونشر هذا في أكثر من مكان ومقام [4] ، فيرجع إليه؛ لِما فيه من فائدة مهمة في مجال الحوار بين المسلمين وغيرهم [5] . [1] انظر: التبشير والحوار في: سعود المولى ، الحوار الإسلامي المسيحي: ضرورة المغامرة/ قدم له الشيخ محمد مهدي شمس الدين - بيروت: دار المنهل اللبناني، 1996م/ 1416هـ - ص 127 - 136 . [2] جرى في المجمع الفاتيكاني الثاني (فاتيكان اثنين)، الذي عقد سنة 1965م، الوصول إلى إحدى عشرة نقطة، هي جملة قرارات المجمع، وهي على النحو الآتي: 1- تبرئة اليهود من دم المسيح عيسى ابن مريم - عليهما السلام. 2- اقتلاع اليسار في عقد الثمانينيات. 3- اقتلاع الإسلام في عقد التسعينيات. 4- توصيل الإنجيل إلى البشر كافة. 5- توحيد الكنائس كافة تحت لواء كاثوليكية روما. 6- فرض عملية التنصير على المسحيين كافة، الكنسيون منهم والعلمانيون. 7- استخدام الكنائس المحلية في عمليات التنصير. 8- فرض بدعة الحوار أسلوبًا للتنصير. 9- إنشاء لجنة خاصة للحوار. 10- إنشاء لجنة خاصة لمهمات تنصير الشعوب. 11- تغيير اسم لجنة محاكم التفتيش . انظر: زينب عبدالعزيز، حرب صليبية بكل المقاييس - مرجع سابق - ص 27 - 53. [3] انظر: عبدالله عبدالدائم ، العرب والعالم وحوار الحضارات - دمشق: دار طلاس، 2002م - ص 136. [4] انظر: صالح بن عبدالله بن حميد ، أصول الحوار وآدابه - جدة: دار المنارة، 1415هـ/ 1994م - ص 40. [5] انظر: في آداب الحوار: عمر بن عبدالله كامل ، آداب الحوار وقواعد الاختلاف - في: المؤتمر العالمي عن موقف الإسلام من الإرهاب - الرياض: جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، 1425هـ/ 2004م - ص 34.
نبذة وتَعرِيف بكِتَاب: (غرِّيد المحاريب.. الشيخ محمد أيوب، الأنموذج والقدوة) المعلومات الفنية للكتاب: عنوان الكتاب: غرِّيد المحاريب.. الشيخ محمد أيوب، الأنموذج والقدوة. اسم المؤلف: عمار بن محمد بن أعظم. رقم الطبعة وتاريخها: الطبعة الأولى في دار الأوراق، جدة عام 1442هـ. حجم الكتاب: يقع في مجلدين وعدد صفحاته (480) صفحة. تقديم فضيلة الشيخ الدكتور: صالح بن عبد الله بن حميد، إمام وخطيب المسجد الحرام والمستشار بالديوان الملكي. الترجمات: تُرجم الكتاب للأردية وترجمه الشيخ: أويس محمد إدريس العاصم وطبع في مطبعة العاصم. تقديم معالي الشيخ الدكتور صالح بن عبد الله بن حميد إمام وخطيب المسجد الحرام والمستشار بالديوان الملكي الحمد لله، وأصلى وأسلم على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، واهتدى بهداه إلى يوم أن نلقاه، أما بعد: فإن من أهم ما ينبغي أن تنصرف إليه همةُ طلاب العلم العناية بتراجم علمائهم وسلفهم الصالح، والاطلاع على سِيَر حياتهم ونهجهم في تعلُّم العلم وتعليمه؛ للتأسي بهم والاقتداء بآثارهم. ولا شك أن في العناية بذكر الأعلام إيقاظًا للهمم، وتنويرًا للأفهام والبصائر، واعترافًا بفضلهم، وليكون قدوة للأجيال وتذكيرًا للناشئة ليكونوا خير خلف لخير سلف. وأمة الإسلام تميزت بحفظ تاريخ رجالاتها من الفقهاء والمحدثين والمفسرين والقراء والنحاة والمؤرخين وغيرهم، فهو محفوظ موثق، فأيامهم وأحوالهم وسيرهم محفوظة. والتراجم لأهل العلم من القراء اعتراف بفضلهم، فقد يسر الله لهم أن تكون نشأتهم منذ نعومة أظفارهم مع كتاب الله العزيز، فقد رفعهم الله به المنزلة في قوله سبحانه: ﴿ يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ﴾ [المجادلة: 11]، وقوله عز شأنه: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ * لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ ﴾ [فاطر: 29، 30]. وإن خير الناس من تعلم وعلم القرآن الكريم، قال صلى الله عليه وسلم: «خيرُكم من تعلم القرآن وعلمه» [1] . فكانت حياتهم القرآن، وبلغ منهم وبهم منزلة جليلة في قلوب المسلمين في أصقاع العالم الإسلامي. وأخونا وزميلنا الشيخ محمد أيوب رحمه الله له صوت شجي، وهو يُعد من الأصوات المميزة في القراءة التي يشتاق لسماع تلاوته ملايين النفوس المؤمنة من جنبات مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخصوصًا في شهر رمضان المبارك في صلاة التراويح. كما يأتي أخونا وصديقنا وحبيبنا فضيلة الشيخ محمد أيوب محمد يوسف منظومًا في سلف هؤلاء الأعلام الأئمة، وتميز الشيخ رحمه الله بأن حياته العلمية ارتبطت بالقرآن حفظًا وتدريسًا وتأليفًا؛ فالقرآن الكريم هو محور عمله، وفضيلة الشيخ بلغ مبلغًا في المرتبة العالية في حسن التلاوة للقرآن الكريم، وقد كانت صلتي بالشيخ محمد أيوب منذ أيام الانتظام في حلقات تحفيظ القرآن الكريم في المسجد الحرام في مكة المكرمة، فقد حضرنا على شيخنا الشيخ محمد أكبر شاه رحمه الله [2] ، وكنت ألتقي بالشيخ محمد أيوب وعليه سمت ووقار حملة كتاب الله وأدب حفظته، ثم لما أخذتنا الحياة في مساراتها ودروبها، صرنا نلتقي بين الفينة والفينة في المناسبات، وبخاصة المناسبة العلمية والمؤتمرات في مكة المكرمة والمدينة النبوية المنورة؛ فنجدد الذكريات، ونتبادل أحاديث الصداقة، وقد وضع الله القبول للشيخ محمد أيوب والمحبة، فالتفَّ الناس حوله وبخاصة الفقراء وصغار طلبة العلم، والأخص من الجالية الأركانية، فهو يوليهم عنايته ويحوطهم برعايته، جزاه الله خيرًا، وجعل ذلك في ميزان حسناته، فكان صاحب معروف وإحسان وتفقُّد لذوي الحاجات. أما الجانب العلمي، فهو عضو هيئة التدريس في الجامعة الإسلامية، وله حضور وعناية بالعلم وأهله. وقد أثنى عليه جملة من المشايخ القراء المعتبرين، بل وصفوه بأنه قد بلغ المرتبة العليا في حسن القراءة وضبط التجويد ومخارج الحروف، فهو من الأعلام الكبار في هذا الشأن، بل قال الشيخ عبد العزيز بن عبدالفتاح قارئ: (إنه في نظره أحسن إمام وقف في محراب التراويح منذ خمسين سنة) [3] . وبين يدي ترجمة أعدها الأستاذ: عمار محمد أعظم سماها: (غريد المحاريب) في سيرة فضيلة الشيخ محمد أيوب محمد يوسف رحمه الله. فقد أجاد فيها المؤلف ؛ حرص فيها على جمع المادة العلمية، وقد أحسن تبويبها وتقسيمها حتى جاءت وافية بالمقصود مستوعبة لجوانب حياة الشيخ وشخصيته العلمية والعملية رغم شح المصادر. أسأل المولى تعالى أن يبارك في الجهود، وأن ينفع بها كل من اطلع عليها من المسلمين. وحرره صالح بن عبد الله بن حميد إمام وخطيب المسجد الحرام والمستشار بالديوان الملكي وعضو هيئة كبار العلماء بالسعودية 30 / 5 / 1441هـ - مكة المكرمة ♦    ♦     ♦ الحمد لله الذي ﴿ خَلَقَ الْإِنْسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ ﴾ [الرحمن: 3، 4]، سبحانه رفع أهل العلم والفرقان، وأوصانا بالاعتبار بقصص أولى الفضل والإيمان: ﴿ لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ ﴾ [يوسف: 111]، والصلاة والسلام على خير ولد عدنان؛ من جعل الخيرية في أهل التبيان، فقال: «خيركم من تعلم القرآن وعلمه» [4] ، وعلى آله وصحبه ومن اتبعه من ذوي الخير والإحسان، اللهم اجعلنا من أهل القرآن الذين هم أهلك وخاصتك، أما بعد: فإن كتاب الله ينبوع الهداية ومشكاة الحكمة، ومجمع الشريعة ومعتمد الأمة، ليس لنا طريق إلى الله سواه، ولا هادي لنا إلى المولى غيره، ولا منجى ولا ملجأ لنا بعده؛ فهو حبل الله المتين وهو الصراط المستقيم، وحَرِيٌّ به أن يتخذ نديمًا وسميرًا، ويستلهم منه هدى نورًا، ويزداد المرء به وبأهله فرحًا وسرورًا. ومن هنا فليس المغزى الوحيد من هذا السفر عرض حياة الشيخ محمد أيوب فرحًا وإعجابًا به فحسب - وهو أهل لذلك - بل اقتباس الدروس والعبر من تاريخه القرآني، سواء لحملة القرآن معلمين ومتعلمين أو لغيرهم من المسلمين، فالشيخ محمد أيوب من النماذج العالية والقدوات الحسنة لكل أولئك، وليست الحنجرة الذهبية هي ما يميز الشيخ فحسب، بل تكاملُ حياته وشخصيته في جوانب متعددة يجعلُه أنموذجًا ذهبيًّا وقدوةً حيةً للأمة في كثير من مناحي الحياة [5] . أضف إلى ذلك أن من أهم خصائص الأمة المحمدية حفظها لتاريخ علمائها؛ اعترافًا بفضلهم، واعتبارًا بقصصهم وأيامهم، لتستضيء الأجيال بنبراس منهاجهم، وتستهدي بهداهم، وإن كانت الأمم تفخر برجالاتها وأمجادها، وتنقش على جدار التاريخ مفاخرها ومآثرها؛ فإن أحق من نفخر بهم من رفعهم الله بالقرآن، ومن أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عنهم بالرفعة بالفرقان: «إن الله يرفع بهذا الكتاب أقوامًا ويضع به آخرين» [6] . وليس الفخر هو كل المقصد كما ذكرنا من نقش أيامها وأحوالها، ولا الغرض من ذكر أيام الصالحين مضحكاتها وملهياتها، وليست أحاديث يتفكه عليها قصاصها ووعاظها، ولكنها تصديقٌ للمحجة ورفعةٌ لأهلها، وهدى ورحمةٌ لأهل الملة وأتباعها، قال الله تعالى: ﴿ لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾ [يوسف: 111] يقول الإمام الطبري (310) رحمه الله: (لقد كان في قصص يوسف وإخوته عبرة لأهل الحجا والعقول يعتبرون بها، وموعظة يتّعظون بها) [7] . ففي ذكر الأعلام تشنيف للأسماع، وإيقاد للهمم وإذكاء للعقول والأبدان، وتنوير للبصائر والأفهام، وفي ذكر العظماء اعتراف لهم بفضلهم، وردٌّ لبعض الجميل الذي قدموه لنا في حياتهم، ووفاء تجاه الفضائل التي أحيوها ببذلهم، وتنبيه للأجيال إلى سلفهم وقدوتهم، وتذكير للناشئين بعظمائهم وساداتهم؛ فيكونوا خير خلف لخير سلف. وكما أن دستور الأمة الإسلامية محفوظ: ﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾ [الحجر: 9]، وحديث النبي المبعوث به الشارح له محفوظ، فكذلك تاريخ الرجال الذين اتَّبعوه وحفظوه ونقلوه، محفوظٌ، وما عرفت الأمم تأريخًا للرجال والأعلام ما عرفته أمة القرآن، فأيامهم وأحوالهم ملء السمع والبصر، أنى شئت من الأوطان والأزمان، عشت معها وكأنها مرأى العين. ومن المعلوم أن خير من نفخر بهم أهل الفرقان، وخير من يقتدى بهم أهل القرآن، وخير من تحيا ذكراهم أهل التبيان، ويأتي في طليعة أولئك في عصرنا من خصصنا له كتابنا هذا، فضيلة الشيخ الدكتور المقرئ محمد أيوب بن محمد يوسف، إمام الحرم النبوي الشريف رحمه الله. فنميط اللثام عن أيامه وأعماله، ونبيِّن للأمة فضائله وشمائله، ونشيد بجهوده وآثاره، ونخلد للتاريخ اسمه ورسمه، فيحيا في الأفئدة من كان يحييها بالقرآن، ويستنير الأحفاد بمن أنار الطريق من الأجداد، ويلهم الأب والمربي والطالب سبيلا من سبل الرشاد، وهذا أقل الوفاء في حق العلم الإمام محمد أيوب رحمه الله. يقول الشيخ القارئ د. عبد الله بصفر - أمين عام الهيئة العالمية لتحفيظ القرآن الكريم، والأستاذ المشارك بجامعة الملك عبد العزيز -: (نشر سيرة الشيخ محمد أيوب رحمه الله وبيان بذله في صغره من أجل تعلُّم القرآن، وما بلغ إليه من الرِّفعة والمنزلة بذلك، وما تسامى به من الأخلاق الحميدة والقلب الرؤوف، هو من الأعمال الجليلة المهمة في زماننا حقيقة؛ لتعرف الأجيال القادمة منزلة هذا الشيخ ومنزلة أهل القرآن، وكيف حفظ الله عز وجل  كتابه على يد أولئك الرجال) [8] . فهو نقلة نوعية في قراءته وأدائه، وهو الغريد الذي طالَما تشنَّفت الأسماع بتلاواته، وهو البلبل الذي طالما تشوقت النفوس لدوحه. كما أنه رجل اختار أن يكون القرآن محور حياته؛ فكان صباه وذكرياته الأولى في الحلقة الأولى بجمعية تحفيظ القرآن، وكانت مدرسته التي درس فيها مدرسة تحفيظ القرآن الأولى بمكة، وحين اشتد عوده جلس لتدريس القرآن في حلقات تحفيظ القرآن، وكان حريصًا على أن ينتقل إلى كلية القرآن الكريم بالجامعة الإسلامية بمجرد افتتاحها رغم أنه كان في السنة الثانية في كلية الشريعة آنذاك، وجعل بحثه في الماجستير والدكتوراه يدور في فلك تفسير القرآن، وكذلك عاش بعد ذلك مدرسًا للقرآن ولتفسيره في الجامعة، ولما اشتد عوده كان القرآن محور يومه، فهو منشغل بالقرآن الكريم في صباحه ومسائه، وهو مع القرآن سواء في الإمامة أو في التفسير أو الإقراء، أو في المراجعة أو في عضوية مجمع المصحف، وفي حياته العملية كذلك عاش متخلقًا بأخلاق القرآن مع أهله وأقاربه وتلاميذه والفقراء والأرامل والمحتاجين، وكذلك كتبه ومؤلفاته كانت في تفسير القرآن الكريم، وزملاؤه وأقرانه أيضًا غالبهم من أهل القرآن، فشأنه وحياته دائرة حول القرآن الكريم. وقَمِنٌ بمن هذا حاله أن يُعلى شأنه ويُرفَع ذكرُه، وهو ما نسعى إليه في كتابنا هذا. ورغم بحثي لم أجد له ترجمة وافية تليق بمقامه، وهو ما دفعني للاستفاضة في هذه الترجمة بعد البحث وسؤال أبنائه وإخوته وأقاربه وأصدقائه وزملائه وتلاميذه وكل من أمكنني الإفادة منه ممن له صلة بالشيخ رحمه الله، وزادني حرصًا وشدَّ من أزري وفاءُ الشيخ مع شيوخه؛ حيث كان معتنيًا بالكتابة عنهم كما كتب عن شيخه خليل عبد الرحمن القارئ رحمه الله نبذة موجودة بخط يده، وقد شدَّ في اللوم والعتاب على من قصَّر في تدوين تراجم العلماء والقراء بعد وفاتهم، وذلك في مقال له بعنوان: (أليس للعلماء حق كغيرهم؟!)، ومما جاء فيها: (فإنه في كل يوم من أيام هذه الدنيا نسمع أن فلانًا من الناس - رجلًا كان أو امرأة - قد اختاره ربه إلى جواره...، لكن الناس - للأسف الشديد - يختلفون في الوفاء بحق ذلك المتوفى باختلاف شخصيته من خبر وفاته، حتى يتمكنوا من شهود جنازته والاشتراك في مراسم دفنه؛ فهناك فئة من الناس من العلماء والصالحين وعباد الله المؤمنين من يموت ولا يسمع بموته إلا أناس قليلون لا يذكرون، وقليل جدًّا من يحضر جنازته، ويشارك في دفنه. أليس لعلمائنا وقرائنا - وبالخصوص من أمضى عمره وأفنى حياته في خدمة كتاب الله - حق في ذلك كغيرهم؟! بلى، والله لهم حق أعظم وأكبر من غيرهم! لكن النفوس جُبلت على الاهتمام بأهل الدنيا والتساهل والتهاون بأهل الآخرة، أهل العلم والإيمان، أهل القرآن، الذين هم أهل الله وخاصته، فالله المستعان، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم...)، ويواصل الشيخ بأن من المهم الكتابة عن المتوفى من قامات العلم بعد وفاته؛ حيث يقول: (ولكنني كنت أتمنى أن يكتب عن هذا كغيره من المتوفين بعد وفاته مباشرة) [9] . وإلى جانب حضه وحثِّه على الكتابة في سِيَر العلماء، كان الشيخ يدعو إلى التثبت من المعلومات والرجوع إلى المصادر الاصلية؛ فقد كتب أحد الصحفيين شيئًا مغلوطًا عنه رحمه الله، فاستاء جدًّا من ذلك، فاستدعاه وقال له: من أين أخذت هذه المعلومات؟ فقال: من فلان وفلان. فقال الشيخ: هلَّا أخذتها مني شخصيًّا! كيف تأخذ من فلان وفلان وأنا حي؟! [10] . وهذا الكتاب هو أول كتاب مفرد في ترجمة الشيخ حسب علمي، كما أنه إضافة إلى كتب تراجم الأعلام عامة وأعلام مكة والمدينة على وجه الخصوص؛ فقد ولد الشيخ ونشأ في مكة، ثم انتقل إلى المدينة المنورة. وقد نظمت خيوط هذا الكتاب في مقدمة وبابين وملحق وخاتمة، وهي على النحو التالي تفصيلًا: المقدمة: وفيها: بيان أهداف البحث وأسبابه وخطته. الباب الأول: حياة الشيخ محمد أيوب الشخصية ونشأته العلمية، وفيه ثلاثة فصول: الفصل الأول: محمد أيوب ولادةً ونشأةً، وفيه مبحثان: المبحث الأول: محمد أيوب ولادةً. المبحث الثاني: محمد أيوب تلميذًا، وفيه ثلاثة مطالب: المطلب الأول: محمد أيوب تلميذًا في الحلقة الأولى لتحفيظ القرآن الكريم. المطلب الثاني: محمد أيوب تلميذًا في المدرسة الأولى لتحفيظ القرآن الكريم. المطلب الثالث: محمد أيوب تلميذًا في الدراسة النظامية. الفصل الثاني: أبرز شيوخه، وفيه ثلاثة مباحث: المبحث الأول: أبرز شيوخه إجمالًا. المبحث الثاني: أبرز شيوخه تفصيلًا. المبحث الثالث: محمد أيوب وفيًّا مع شيوخه. الفصل الثالث: محمد أيوب عابدًا وخلوقًا، وفيه ثلاثة مباحث: المبحث الأول: محمد أيوب عابدًا لله. المبحث الثاني: محمد أيوب خلوقًا. المبحث الثالث: مع محمد أيوب يومًا. الباب الثاني: جهود الشيخ محمد أيوب وآثاره، وفيه خمسة فصول: الفصل الأول: محمد أيوب إمامًا وخطيبًا، وفيه ستة مباحث: المبحث الأول: محمد أيوب في محراب رسول الله صلى الله عليه وسلم. المبحث الثاني: محمد أيوب والمحاريب. المبحث الثالث: محمد أيوب والتسجيلات القرآنية. المبحث الرابع: محمد أيوب خطيبًا. المبحث الخامس: محمد أيوب قارئًا، وفيه مطلبان: المطلب الأول: محمد أيوب في عيون علماء القراءات وقراء العالم الإسلامي. المطلب الثاني: دراسات وتحليلات لقراءته وأدائه. المبحث السادس: محمد أيوب حافظةً. الفصل الثاني: محمد أيوب أستاذًا ومؤلفًا، وفيه أربعة مباحث: المبحث الأول: محمد أيوب مقرئًا للقرآن الكريم، وفيه ستة مطالب: المطلب الأول: محمد أيوب وبداية تعليم القرآن في مسجد العنابية. المطلب الثاني: محمد أيوب محبوبًا بين طلبة العلم وحفظة القرآن. المطلب الثالث: محمد أيوب يستثمر فرص الإقراء حتى في السيارة. المطلب الرابع: محمد أيوب شيخًا في حلقات المسجد النبوي. المطلب الخامس: محمد أيوب وإقراء القرآن أساليب ومهارات. المطلب السادس: أبرز التلاميذ الذين قرؤوا عليه. المبحث الثاني: محمد أيوب عضوًا لهيئة التدريس بالجامعة الإسلامية. المبحث الثالث: محمد أيوب حاذقًا لعدة لغات. المبحث الرابع: محمد أيوب مؤلفًا. المبحث الخامس: محمد أيوب والمناصب التي تقلدها. الفصل الثالث: محمد أيوب معتنيًا بأمور المسلمين، وفيه ثلاثة مباحث: المبحث الأول: محمد أيوب مهتمًّا بأمور المستضعفين. المبحث الثاني: محمد أيوب أبو الأيتام والمحتاجين. المبحث الثالث: محمد أيوب مصلحًا. الفصل الرابع: محمد أيوب ولدًا ووالدًا وواشجةً وصديقًا، وفيه خمسة مباحث: المبحث الأول: محمد أيوب ولدًا. المبحث الثاني: محمد أيوب والدًا. المبحث الثالث: محمد أيوب واشِجَةً. المبحث الرابع: محمد أيوب صديقًا. المبحث الخامس: محمد أيوب الرجل القرآني. الفصل الخامس: محمد أيوب فقيدًا، وفيه أربعة مباحث: المبحث الأول: محمد أيوب فقيدًا. المبحث الثاني: محمد أيوب مرثيًّا. المبحث الثالث: محمد أيوب مثنيًّا عليه. ملحق الصور والوثائق. الخاتمة. وقد حاولت أن أُلِمَّ بكل ما يفيد في سيرته وحياته، بيد أني موقن أن الإنسان ناقص، وأن الكمال لله وحده؛ إذ «كل مبتدئ لشيء لم يسبق إليه، ومبتدع لأمر لم يتقدم فيه عليه؛ فإنه يكون قليلًا ثم يكثر، وصغيرًا ثم يكبر» [11] . وقد سميته: (غريد المحاريب؛ الشيخ محمد أيوب الأنموذج والقدوة)؛ فأوله اقتباس من رثاء كتبه الشاعر د. محمود كابر الشنقيطي عن الشيخ محمد أيوب رحمه الله [12] ، وآخره دلالة على ما في الكتاب من إبراز كونه أنموذجًا في القراءة والأداء وقدوة حية في مسيرته العلمية والعملية. وفي نهاية المطاف أود البوح بكلمات الشكر والامتنان وعبارات التقدير والاحترام وفاءً وامتثالًا لمنهج النبي صلى الله عليه وسلم «من لم يشكر الناس لم يشكر الله» [13] . وإن أول من يستحق الشكر في هذا المقام - بعد شكر المولى - والديَّ الكريمان اللذان لا زالا صابرين داعيين لي حتى أكون موفقًا في حياتي العلمية والعملية. ثم الشكر لزوجتي التي صابرت وعاونت بكل ما تستطيع حتى أتممت هذا الجهد. ولا أنسى أن أشكر أشقائي وشقيقتي الذين أعانوني في إتمام هذا البحث. والشكر موصول لكل من تعاون على إتمام هذا البحث، وأدلى بما يعرفه من معلومات عن الشيخ؛ بدءًا بأولاده وإخوته وأصهاره وأقاربه وتلاميذه وأصدقائه وزملائه ومحبيه، فأسأل الله أن يجزيهم عني خير الجزاء. وقد أكرمني أبناء الشيخ بمراجعة الكتاب كاملًا قبل طباعته إلى جانب وقوفهم الدائم وجوابهم عن كل ما أسأل، وفي مقدمتهم نجل الشيخ خالد، فجزاهم الله خيرًا. ثم أتوجه بالشكر والامتنان لكل من علمني البحث والكتابة عامةً، ثم من قاسمني معاناة هذا البحث خاصةً، وأخص منهم: فضيلة الشيخ علي الغفالي صهر الشيخ [14] ، وفضيلة الشيخ أبرار الحق مولوي [15] ، وكل من كان له علي فضل وعون، فكم كانت لهم من فضائل بالغة وأياد سابغة، فأسأل الله أن يجزيهم عني خير الجزاء. اللهم اجعل عملي كله صالحًا، واجعله لوجهك خالصًا، ولا تجعل فيه لأحد شيئًا، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم. [1] أخرجه البخاري (5027). [2] ينظر: ترجمة الشيخ صالح بن عبد الله بن حميد له في صحيفة الجزيرة يوم الأحد 4/ 4/ 1441هـ، http:// www.al-jazirah.com/ 2019/ 20191201/ wa1.htm. [3] لقاء مع الشيخ د. عبد العزيز بن عبد الفتاح القارئ. https:// www.youtube.com/ watch?v=-Rf-hMJp_GY [4] أخرجه البخاري (5027). [5] وممن كتب بهذا النحو المؤلف مرشد الحيالي في بحثه المنشور على شبكة الألوكة، بعنوان: تجويد المنشاوي (دراسة وتحليل)، فقد أبدع في التنويه على الجوانب التربوية وهو يعرض تاريخ الشيخ المنشاوي . [6] أخرجه مسلم (817). [7] جامع البيان (16/ 312). [8] أملاه علي الشيخ القارئ د. عبد الله بصفر في لقاء معه يوم الثلاثاء بجامع الشعيبي في جدة بتاريخ 8/ 3/ 1441هـ. [9] مقال: أليس للعلماء حق كغيرهم؟! للشيخ محمد أيوب، ملحق التراث بجريدة المدينة، العدد العاشر، السنة التاسعة عشرة، الخميس 19/ 12/ 1415هـ، الموافق 18/ 5/ 1995م. [10] قاله لي تلميذه د. أسامة إقبال في لقاء معه يوم الثلاثاء بتاريخ 16/ 2/ 1441هـ. [11] النهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير (1/ 5). [12] وقد أوردته في مبحث رثاء الشي خ رحمه الله. [13] أخرجه الترمذي (1955)، وقال: هذا حديث حسن. [14] وكان من أوائل المعينين لي والمبادرين في كل ما أحتاجه في هذا الكتاب وتواصَلت مبادراته واستمرت حتى نهاية البحث، وقد استضافني في بيته يوم الأربعاء بتاريخ 17/ 9/ 1440هـ وأتحفني بالوثائق والأوراق والمستندات الرسمية للشيخ، وأطلعني على كتبه وجميع ما تركه من آثار، فجزاه الله خيرًا. [15] وقد كان خير عون لي في هذا البحث من مبتدئه حتى منتهاه.
خواطر وعبر.. محطات في حياة الشيخ الألباني (المقال منشور في (مجلة الأصالة، العدد 23))
تحقيق جديد لكتاب "منار السبيل في شرح الدليل" لابن ضويان صدر حديثًا " منار السبيل في شرح الدليل "، تأليف: " ابراهيم بن محمد بن سالم بن ضويان " (ت 1353 هـ)، تحقيق وتعليق: " خالد بن ضاهر "، في مجلدين، نشر: " دار ابن كثير للنشر والتوزيع ". وهذا الكتاب شرح على كتاب: " دليل الطالب لنيل المطالب " الذي ألفه الشيخ " مرعي بن يوسف المقدسي الحنبلي " رحمه الله، ومتن " دليل الطالب " من المتون المهمة في الفقه الحنبلي، اختصره مؤلفه اختصارًا حسنًا، وذكر فيه القول الراجح المعتمد في المذهب في أبواب الفقه، وقد بين في مقدمته أنه لم يذكر فيه إلا ما جزم بصحته أهل التصحيح والعرفان، وعليه الفتوى فيما بين أهل الترجيح والإتقان من المتأخرين... فكان هذا المتن اللطيف حقيقًا بالعناية لما اشتمل عليه من الفوائد. وكان من جملة شراح هذا المتن النافع من المتأخرين العلامة "إبراهيم بن ضويان"، حيث اهتم فيه باختصار الكتاب وتبسيطه لطلبة العلم. يقول ابن "ضويان" في مقدمته: "ذكرت فيه ما حضرني من الدليل والتعليل، ليكون وافيًا بالغرض من غير تطويل، وزدت في بعض الأبواب مسائل يحتاح إليها النبيل، وربما ذكرت رواية ثانية أو وجهًا ثانيًا لقوة الدليل، نقلته من كتاب "الكافي" لموفق الدين عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة المقدسي ثم الدمشقي، ومن شرح "المقنع الكبير" لشمس الدين عبد الرحمن بن أبي عمر بن قدامة وغالب نقلي من مختصره، ومن "فروع" ابن مفلح و"قواعد" ابن رجب وغيرها من الكتب. وقد أفرغت في جمعه طاقتي وجهدي، وبذلت فيه فكري وقصدي، ولم يكن في ظني أن أتعرض لذلك، لعلمي بالعجز عن الخوض في تلك المسالك، فما كان فيه من صواب فمن الله، أو خطأ فمني، وأسأله سبحانه العفو عني، ولما تكففته من أبواب العلماء وتطفلت به على موائد الفقهاء تمثلت بقول بعض الفضلاء: أسير خلف ركاب النجب ذا عرج مؤملًا كشف ما لاقيت من عوج فإن لحقت بهم من بعد ما سبقوا فكم لرب الورى في ذاك من فرج وإن بقيت بظهر الأرض منقطعًا فما على عرج في ذاك من حرج وإنما علقته لنفسي، ولمن فهمه قاصر كفهمي، عسى أن يكون تذكرة في الحياة، وذخيرة بعد الممات، وسميته "منار السبيل في شرح الدليل" أسأل الله العظيم أن يجعله لوجهه خالصًا، وإليه مقربًا، وأن يغفر لي ويرحمني والمسلمين، إنه غفور رحيم". وبذلك حدد "ابن ضويان" منهجه في شرح كتاب "دليل الطالب" حيث شرح هذا المتن شرحًا غير مطول، فاكتفى بذكر الدليل والتعليل مع الإشارة أحيانًا إلى الروايات الأخرى في المسألة عند الحاجة، وبخاصة إذا كانت الرواية الأخرى أقوى دليلًا، وكثيرًا ما يشير إلى ترجيحات بعض محققي الحنابلة كالموفق ابن قدامة وشارح المقنع، وقد أكثر من النقل عنه وعن شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم وصاحب "الفروع" وصاحب "الإنصاف" وغيرهم، وبالجملة فالكتاب نافع في بابه يصلح للمبتدئين في دراسة الفقه الحنبلي، وقد عني الشيخ الألباني بأحاديث هذا الكتاب فخرجها في كتابه "إرواء الغليل" مما زاد من قيمة هذا الكتاب المبارك. وهذا التحقيق يمتاز بأنه على نسخة المؤلف الشيخ "إبراهيم بن محمد بن سالم بن ضويان" كتبها بخطه سنة 1322 هـ، وقد حقق وفق منهج علمي رصين مع الضبط والتوثيق والتخريج وشرح للغريب، والتعليق على مرادات الشيخ "ابن ضويان"، وربط كلامه بكلام متن الشيخ "مرعي بن يوسف المقدسي الحنبلي" رحمه الله. والمؤلف هو الشيخ "إبراهيم بن محمد بن سالم بن ضويان"، وُلدَ الشيخ إبراهيم بن ضويان عام 1275 هـ في بلدة الرس في القصيم. وقد قرأ على علماء كبار. قال فيه الشيخ محمد بن رشيد: "إن شيخي إبراهيم بن ضويان من الفقهاء الكبار وله اطلاع واسع في الفقه". وقال الشيخ عبدالعزيز بن ناصر بن رشيد: "اشتهر بالعلم والفضل وفاق أقرانه، وكان إليه المرجع في "الرسّ" في الإفتاء والتدريس والنفع العام". فصار عالم بلده ومن كبار علماء القصيم. ومن مشايخه الذين أخذ عنهم العلم: الشيخ محمد بن سليم، والشيخ صالح القرناس، فقد لازمه زمنًا طويلًا، وكان يستنيبه على قضاء الرس حينما تولى الشيخ صالح على قضاء بريدة وعنيزة فقام عنه بالنيابة في الرس، وسُدد في أقضيته، فكان مثالًا في العدالة والنزاهة، ورحل إلى عنيزة ولازم علماءها زمنًا، ثم صار يرتادها بعدُ إلى آخر حياته. ولازم الشيخ عبد العزيز المانع حتى مات عام 1307 هـ فرثاه بمرثية يائية قوية. وبعد وفاة ابن مانع رحل إلى بريدة فقرأ على علمائها، ومن أشهر مشايخه محمد العبد الله بن سليم فقد لازمه زمنًا، كما قرأ على علي السالم الجليدان بعنيزة وجه سنة، وكان يحضر حلقات الجد صالح العثمان القاضي كلها إذا كان بعنيزة ويستشكل في حلقة القراءة ويسترشد منه، وكان من خواصه، وكثيرًا ما يستضيفه - رحمهما الله - فيعتبره أحد مشائخه، وجدَّ في الطلب حتى أدرك في الفقه والتوحيد والفرائض والحديث إدراكًا تامًا أهَّله للقضاء والفُتيا، وله اليد الطولى في الأدب والتاريخ ومرجع في الأنساب، وله إلمام في بقية العلوم كالعربية والتفسير، وله مخطوطات كثيرة جدا، وكان قليل ذات اليد، وكانت الكتابة مهنة له يتعيش منها، ومعظم كتب الفقه والوعظ تجدها بقلمه الحسن الواضح النيِّر. ومن مؤلفاته: "منار السبيل في شرح الدليل"، و"رفع النقاب في تراجم الأصحاب"، و"رسالة في أنساب أهل نجد"، وله حاشية على مخطوطته (شرح الزاد) أكثر فيها النقول عن مشايخه وعن الأصحاب، وله رسالة في تاريخ نجد وما جرى فيها من حوادث، ابتدأ الرسالة من عام 750 هـ إلى سنة 1319 هـ كرؤوس الأقلام، وغيرها. توفي رحمه الله في ليلة عيد الفطر عام 1353هـ، بعد صلاة القيام قبل أن يأتي الخبر بالعيد، وبعد تجهيزه صلي عليه بعد صلاة العيد في مصلى العيد.
الدعوة في الطائف بعد وفاة أبي طالب رأى النبي صلى الله عليه وسلم أن ينقل دعوته إلى الطائف؛ لعله يجد أنصارًا له يؤمنون بما جاء به بعيدًا عن تأثير كفار قريش وتهديدهم لمن آمن بالإيذاء والتعذيب والمقاطعة، فخرج إلى الطائف يلتمس من ثقيف النصرة والمنعة بهم من قومه، ورُوي أنه خرج إليهم وحيدًا، وقيل: كان معه زيد بن حارثة، فلما انتهى إلى الطائف عمد إلى نفر من ثقيف هم سادة ثقيف وأشرافهم وهم إخوة ثلاثة؛ عبد ياليل، ومسعود، وحبيب، أولاد عمر بن عمير بن عوف، وعند أحدهم امرأة من قريش من بني جمح، فجلس إليهم وكلمهم ودعاهم إلى الله، وأنه قصدهم لنصرته والقيام معه على من خالفه من قومه، فقال أحدهم: يمرط ثياب الكعبة إن كان الله أرسلك - كناية عن تكذيبه - وقال الآخر: أما وجد الله أحدًا أرسله غيرك؟ وقال الثالث: والله لا أكلمك أبدًا، لئن كنت رسولًا من الله كما تقول لأنت أعظم خطرًا من أن أرد عليك الكلام، ولئن كنت تكذب على الله ما ينبغي لي أن أكلمك، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم من عندهم وقد يئس من خير ثقيف، وقال لهم: ((إن فعلتم ما فعلتم، فاكتموا عليَّ)). وكره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبلغ ما حدث في الطائف قريشًا، فيزيدوا من ممانعتهم وإيذائهم؛ لأنه طلب مناصرة ثقيف عليهم، فلم يفعلوا، بل زادوا أن حرضوا عليه سفهاءهم وعبيدهم فسبُّوه ورمَوْه بالحجارة حتى ألجؤوه إلى حائط - بستان - لعتبة وشيبة ابني ربيعة وهما فيه، ورجع عنه من سفهاء ثقيف من كان يتبعه، فعمد إلى ظل حبلة - دالية العنب - فجلس فيه وابنا ربيعة ينظران إليه من بعيد، ويريان ما يلقى من السفهاء، جلس يستريح مما لاقاه وقلبه مشفق على أمته؛ لأن الجهل قد عشش في قلوبهم فأعماهم فهم لا يعلمون، فكيف يُقنعهم ويدخل الإيمان إلى قلوبهم؟ لذلك شكا ضعفه إلى الله بهذه المناجاة المؤثرة: ((اللهم إليك أشكو ضعف قوتي، وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين، وأنت ربي، إلى مَن تكلني، إلى بعيد يتجهمني أم إلى عدو ملكته أمري؟ إن لم يكن بك عليَّ غضب فلا أبالي، ولكن عافيتك هي أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات وصلَح عليه أمر الدنيا والآخرة مِن أن تنزل بي غضبك، أو تُحِلَّ عليَّ سخطك، لك العتبى حتى ترضى، لا حول ولا قوة إلا بك)) [1] . فلما رأى ابنا ربيعة ما حصل للنبي صلى الله عليه وسلم تحركت فيهما الرحم، وقالا لخادمهما عداس: خذ قطف العنب هذا وضعه في هذا الطبق وأطعمه إلى ذلك الجالس تحت الحبلة، فحمل عداس العنب وأتى به النبي صلى الله عليه وسلم ووضعه بين يديه، وقال له: كُلْ، فلما وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده فيه قال: ((بسم الله))، ثم أكل، فقال عداس: والله إن هذا الكلام ما يقوله أهل هذه البلاد، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مِن أي البلاد أنت؟ وما دِينك؟))، قال: أنا من أهل نِينوى، أَدِين بالنصرانية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مِن قرية الرجل الصالح يونس بن متى))، فقال عداس: وما يدريك ما يونس بن متى؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ذاك أخي، كان نبيًّا، وأنا نبي))، فأكب عداس على رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبِّل رأسه ويديه ورِجْليه، وهذا على مرأى من ابني ربيعة، فقال أحدهما للآخر: أما غلامك فقد أفسده عليك، وهم يجهلون أن الدين واحد عندما يسلم من التحريف، فلما عاد عداس قالا له: ويلك يا عداس ما لك تقبل رأس هذا الرجل ويديه ورِجْليه؟ قال: يا سيدي، ما في الأرض شيء خير من هذا؟ لقد أخبرني بأمر ما يعلمه إلا نبي، فقالا: ويحك يا عداس، لا يصرفنك عن دينك؛ فإن دينك خير من دينه. وذكر أن أهل الطائف وقفوا صفين على طريقه، فلما قفل عائدًا إلى مكة جعلوا لا يرفع رِجليه إلا رضخوهما بالحجارة حتى أدمَوْه، فخلص منهم وهما يسيلان دمًا، فعمد إلى ظل نخلة وهو مكروب ليستريح تحتها، وفي صحيح مسلم: أن عائشة رضي الله عنها قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: هل أتى عليك يوم كان أشد عليك من يوم أحد؟ قال: ((ما لقيت من قومك كان أشد منه يوم العقبة - في الطائف - إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب، فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلتني، فنظرت فإذا فيها جبريل عليه السلام، فناداني فقال: إن الله قد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك، وقد بعث الله لك ملك الجبال، لتأمره بما شئت فيهم، قال: فناداني ملك الجبال فسلم عليَّ، ثم قال: يا محمد، قد بعثني الله، إن الله قد سمع قول قومك لك، وأنا ملك الجبال، قد بعثني إليك ربك لتأمرني بأمرك ما شئت، إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين؟))، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أرجو أن يخرج الله من أصلابهم مَن يعبد الله وحده لا يشرك به شيئًا))، ولما أصرَّ أهل الطائف على الكفر الذي اتبعوه بإيذاء النبي صلى الله عليه وسلم عوض الله نبيه بإسلام قوم آخرين، فلما بات بنخلةَ وصلى العشاء الآخرة في ذلك الموضع، مر نفر من الجن، وكانوا تسعة، فسمعوا قراءة القُرْآن، فوقفوا يستمعون؛ قال تعالى: ﴿ وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ * قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [الأحقاف: 29، 30]، وقد ورد أن الجن استمعوا للنبي صلى الله عليه وسلم أكثر من مرة، مرة هنا في موضع نخلة، ومرة في طرف مكة عند محبس الجن، وكان معه ابن مسعود، فخط له دائرة وقال له: ((لا تخرج منها))، ثم تقدم إلى الجن فجلس معهم وقرأ عليهم القُرْآن وعلمهم، ثم انطلقوا إلى قومهم منذرين، وورد أنهم كانوا من بلدة نصيبين، وفي سورة الجن: ﴿ قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا ﴾ [الجن: 1، 2]. وأراد النبي صلى الله عليه وسلم دخول مكة، لكنه خشي من سطوة قريش، وأنها قد تكون علمت بما حصل في الطائف فيشتد إيذاؤها؛ لذلك بعث في طلب المطعم بن عدي وأن يدخل في جواره، فكان له ذلك، فأجاره المطعم وخرج بالسلاح مع بنيه الستة أو السبعة ودخلوا المسجد، وقال للنبي صلى الله عليه وسلم: طُفْ بالكعبة، وخرج أبو سفيان ورأى هذا المنظر، فقال للمطعم: أمتابع أم مجير؟ قال: بل مجير، قال: إذًا لا تغفر، وظل المطعم وأبناؤه في وضعية الحماية إلى أن انتهى النبي صلى الله عليه وسلم من طوافه، فلما انصرف انصرفوا معه، وفي رواية: أن أبا جهل هو الذي قال للمطعم: أمجير أم متابع؟ قال: بل مجير، قال: قد أجرنا من أجرت، وهذا القول هو الأرجح؛ لأن أبا جهل هو زعيم المعارضة، وأبو سفيان لم يعلُ صوته إلا بعد مقتل الزعماء الكبار في غزوة بدر، فانتقل من الصف الثاني إلى الصف الأول، وبعد أيام مر النبي صلى الله عليه وسلم بنادي قريش في طريقه إلى البيت للطواف به، فقال أبو جهل بلغة الهازئ: هذا نبيكم يا بني عبد مناف! فرد عليه عتبة: وما ينكر أن يكون منا نبي وملك؟ فعاد إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((أما أنت يا عتبة فما حميت لله وإنما لنفسك، وأما أنت يا أبا جهل، فوالله لا يأتي عليك غير بعيد حتى تضحك قليلًا وتبكي كثيرًا، وأما أنتم يا معشر قريش، فوالله لا يأتي عليكم غير كثير حتى تدخلوا فيما تنكرون وأنتم كارهون))، فكان الأمر كما قال. ولقد ألان لهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم القول في مواقف كثيرة؛ طمعًا في إسلامهم، وكان كثير الاهتمام بأمرهم؛ ليتجنب عداوتهم وليكسبهم مؤيدين للدعوة؛ فهم أهله وعشيرته، لكن الله تعالى عاتبه لهذا الموقف؛ ففي قصة الأعمى عبدالله ابن أم مكتوم مثلٌ لما قدمنا؛ قال الله تعالى: ﴿ عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى * أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى * فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى * وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى * وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى * وَهُوَ يَخْشَى * فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى ﴾ [عبس: 1 - 10]، وفي سورة الكهف: ﴿ وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا ﴾ [الكهف: 28]، وفي سورة الأنعام: ﴿ وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ ﴾ [الأنعام: 52]، وفي صحيح مسلم عن سعد بن أبي وقاص، قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ستة نفر، فقال المشركون للنبي صلى الله عليه وسلم: اطرد هؤلاء لا يجترئون علينا، وكنت أنا وابن مسعود ورجل من هذيل وبلال ورجلان نسيت اسمهما، فوقع في نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شاء الله أن يقع، فحدَّث نفسه، وقد كانت حالتهم بعد كل البراهين ببطلان عقيدتهم الوثنية التكذيب والهزء والسخرية من النبي صلى الله عليه وسلم ودعوته: ﴿ وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا * وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا * نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا ﴾ [الإسراء: 45 - 47]. [1] قصة الطائف هذه وما فيها من الدعاء ضعفها الألباني - رحمه الله - في كتاب "دفاع عن الحديث النبوي والسيرة" (ص 25 -26)، وغيره من كتبه، فاقتضى التنبيه. [إدارة تحرير الألوكة].
تَعرِيف بكِتَاب: (المدرسة التوحيدية.. دراسة تاريخية وصفية) المعلومات الفنية للكتاب: عنوان الكتاب: المدرسة التوحيدية.. دراسة تاريخية وصفية. اسم المؤلف: عمار بن محمد بن أعظم. رقم الطبعة وتاريخها: الطبعة الأولى عام 1443هـ. حجم الكتاب: يقع في غلاف وعدد صفحاته (122) صفحة. تقديم فضيلة الشيخ الأستاذ الدكتور: خالد بن محمد الغيث، أستاذ التاريخ بجامعة أم القرى. المقدمة: الحمد لله الذي اصطفى مكَّة من بين كلِّ البقاع وطهَّرها، واجتبى زمزم وجعله أنقى المياه وأبرَكها، واختار نبينا محمدًا صلى الله عليه وسلم، وأنزل إليه أعظم كتبه وأحكمها؛ أما بعد: فقد غدت بكَّة بفضل الله تعالى مأرز العلم وقبلة المسلمين، ولم يتوقَّف عن أروقةِ حَرمِه دويُّ القراء وهُتافات المدرسين، بل ظلَّ وما زال جامعةً [1] لأهل العلم معلِّمين ومتعلِّمين، يجمعون فيه بين العبادة وثني الرُّكب لتلقِّي العلم المبين، وينهَلون من الحِلق والدُّروس التي تعقد في الأروقة كلَّ حِين، ففي أيِّ وقت حدَّقت وجدتهم بين تعليم وتبيين، لا فرق بين عشيِّ وإبكار ولا بين عِشاءَين، فمواقيت الصَّلوات مواقيت للدُّروس والحَلقات، فكانت تُعقد بعد كل صلاة وفي الضحى والسَّحر وغالب الأوقات، ولم يكونوا يقتصرون على العربية أشرفِ اللُّغات، بل كانت مجالس العلم قائمة بعددٍ من الألسنة واللَّهجات، واسأل أروقة الحرم المكِّي تحدِّثك عن تلك الحلقات [2] ، "فما تجد حصوةً أو رواقًا ليس فيه حلقة من حلقات الدروس الدينية أو اللغوية أو غيرهما" [3] ، "ومن النَّادر أن تتوقف المحاضرات نتيجة هطول الأمطار" [4] . ولم يُقم المسلمون حضارتهم في مكَّة وحسبُ، بل تركوا بصماتهم في كلِّ عاصمةٍ من عواصم الإسلام، ونَقشوا على جدار التاريخ حضارة تعجَّب منها باحثو الحضارات، "ومن وقف على تاريخ العرب والإسلام، وعلى الأخص تاريخ الحضارة الإسلاميَّة راعته تلك الوثبة الثَّقافية، وأخذ بمجامع قلبه ذلك الانفتاح لشتَّى المعارف والفنون، تصبُّ في بحر العلوم العربيَّة النَّامية باستمرار، وأدهشته تلك الوفرة في المدارس ودور الكتب العربيَّة وخزائنها في الشرق والغرب التي تعطي دليلًا قاطعًا على جهود جدودنَا الذين أطفؤوا نور عيونهم لينيروا عقولنَا، وأحرقوا أعصابهم لينمُّو جسومنَا، وهدموا أنفسهم ليَبنُوا لنَا مجدًا خالدًا على مرِّ العُصُور" [5] . ومن معالم هذه الحضارة الإسلاميَّة الحركةُ العلميَّةُ التي أثارها علماء الإسلام في العواصم الإسلاميَّة عامَّة، وفي مقدمتها: مكَّة المكرَّمة؛ حيث تُعتبر " مركزًا مهمًّا من مراكز العلم في الدَّولة الإسلاميَّة" [6] ، وقد بدأ الدويُّ العلميُّ فيها مع عبد الله بن عباس رضي الله عنه وغيره من الصحابة منذ العصور الأولى، وقد دامت هذه العناية حتى يوم الناس هذا [7] . وأما نشأة المدارس تحديدًا، فقد "أثبتت الدِّراسات التأريخيَّة أن نشأة المدارس في البلاد الإسلاميَّة تعود إلى القرن الخامس الهجري، إلا أنَّ ظهورها في مكَّة بدأ متأخرًا حوالي الرُّبع الأخير من القرن السَّادس الهجري" [8] ، ففي ذلك القرن شهد مهبط الوحي ومهوى الأفئدة أكثر من ثلاثين مدرسة تَسامقت حول المسجِد الحرام؛ منها: مدرسة الزَّنجبيلي، ثم مدرسة طاب الزمان، ثم مدرسة العفيف الآرسو عام، ثم مدرستي المحموديَّة والداوديَّة [9] . وإلى جانب العلماء وطلبة العلم، كان للخلفاء والولاة والسَّلاطين دورٌ كبير في إنشاء المدارس وبعث الحركةِ العلميَّةِ في مهبط الوحي ومهوى الأفئدة في كل عصر من العصور، وقد بدأ هذا منذ العصور الأولى، فعلى سبيل المثال: "خلفاء بني أمية قد أَوْلوا جلَّ اهتمامهم بالحجاز، وخاصَّة مكَّة المكرَّمة والمدينَة المنوَّرة" [10] . وفي عصرنا الحاضر كان الملك عبد العزيز "المؤسِّس رحمه الله قد أَوْلى اهتمامًا متزايدًا بمهبط الوحي وبحلقات الدَّرس في الحرم المكيِّ الشَّريف، فأصدر أمره بتنظيم التَّدريس بالمسجِد الحرَام...، وكان في مكَّة المكرَّمة مدارس خاصَّة مثل: المدرسَة التَّوحيديَّة ومدارس البُورما والمدرسَة الفخريَّة والصولتيَّة" [11] ، وكان رحمه الله تعالى يزور المدارس ويُوليها اهتمامه كزيارته للمدرسة الصولتيَّة وثنائِه عليها. وما قصَّة مؤسِّس تلك المدرسَة الشَّيخ رحمتُ الله الهندي رحمه الله عنا ببعيدة؛ فهذا الاسم الذي لا يخفى على المتخصصين في العقيدة وفي مقارنة الأديان بفضل كتابه (إظهار الحق) [12] لا يخفى أيضًا على مُؤرِّخي مكَّة؛ حيثُ أسَّس المدرسَة الصولتيَّة؛ أول مدرسة لا في مكَّة وحدها بل في الجزيرة العربيَّة كلها [13] ، وقد ازدَهرت وذاع صِيتها وانتشر طُلَّابها، فكانت تسمى أَزهَر الحِجاز [14] ، وكانت هي وأمثالها من المدارس الأهليَّة نواة النَّهضة التَّعليميَّة في الجزيرة العربيَّة [15] ؛ ومن بعدها تتابعت المدارس ودُور العلم إلى العصر الحاضر، يقول د. عبد الله الزيد: "المتتبِّع لنظام التَّعليم في المملكة منذُ توحيدها عام 1344هـ يجد أنَّ التَّعليم مرَّ بأطوار متعدِّدة... ففي نفس العام لم يكن في أقاليم المملكة على تعدُّدها وتباعُد أطرافها من المدارس القريبة من المفهوم المعاصر غير مجموعة قليلة يمكن حصرها على أصابع اليد منها: المدرسَة الصولتيَّة 1391هـ، والمدرسَة الفخريَّة 1398هـ والمدرسَة الإسلاميَّة (دار الفائزين) 1354هـ..." [16] . ومن ضمن تلك المدارس في مكَّة المكرَّمة: المدرسَةُ التَّوحيديَّة التي يهدف هذا الكتاب إلى التَّنقيب عن تأريخها ، ورغم أنها أُنشِئت عام 1370هـ إلا أنه لم يُنشر عنها إلَّا القليل، وقد تأسَّف الأستاذ الباحث فيصل مَقادِمي -حفظه الله- عام 1403هـ على ذلك، وقال: "وبما أن المدرسَة لم يُكتب عنها من قبل، وهي لا تزال موجودة منذ أكثر من ثلاثين عامًا" [17] ، إلا أنَّ هذا التأسُّف ما زال له مكان في قلوب مُحبِّي مكَّة من علماء وطلبة علم وكُتَّاب ومؤرِّخين؛ فعلى الرُّغم من كتابته وُرَيْقات حول هذه المدرسَة إلا أنَّها لا تكاد تُغطِّي جزءًا من تأريخها، كيف وقد أُنشِئت قبل أكثرَ مِن نصف قرن من اليوم؟! وهو ما دفعني إلى المضيِّ قُدمًا في رَقمِ حروف هذا الكتاب. وقد كان منهج الدراسة هو المنهج الوصفي التاريخي؛ ولذا سميته: (المدرسة التوحيدية – دارسة تاريخية وصفية)، وقد أرفق الوصف أحيانًا بشيءٍ من المنهج التحليلي إن وُجدت مناسبة وتطلَّب الأمر ذلك. خطة الكتاب: انتظمت خيوط هذا الكتاب على النحو التالي: المقدمة ، وفيها: أهمِّية الكتاب وهدفه ومنهجه وخطَّته. المبحث الأول: مؤسِّس المدرسَة التَّوحيديَّة وقصَّة تأسيسها، وفيه مطلبان: المطلب الأول: مؤسِّس المدرسَة التَّوحيديَّة. المطلب الثاني: تأسيس المدرسَة التَّوحيديَّة. المبحث الثاني: أهداف المدرسَة ومناهجها، وفيه أربعة مطالب: المطلب الأول: أهداف المدرسَة التَّوحيديَّة. المطلب الثاني: مناهج المدرسَة التَّوحيديَّة ومقرَّرَاتها. المطلب الثالث: الأنشطة والبرامج اللاصفيَّة. المطلب الرابع: أنظمة المدرسَة التَّوحيديَّة. المبحث الثالث: المباني والمرافق التَّعليميَّة التي تنقَّلت بينها، وفيه أربعة مطالب: المطلب الأول: الأماكن والمباني التي تنقَّلت بينها المدرسَة. المطلب الثاني: مسجِد المدرسَة التَّوحيديَّة. المطلب الثالث: إنشاء مكتبة المدرسَة التَّوحيديَّة. المطلب الرابع: إنشاء برنامج للمذاكرة والتقوية للطلاب. المبحث الرابع: أطوار المدرسَة التَّوحيديَّة، وفيه خمسة مطالب: المطلب الأول: مرحلة التكوُّن والنَّشوء. المطلب الثاني: مرحلة النُّهوض والنُّمو. المطلب الثالث: مرحلة الاكتمال والنُّضوج. المطلب الرابع: مرحلة الانحسار والرُّكود. المطلب الخامس: مرحلة الاندماج مع وزارة التَّعليم. المبحث الخامس: ثناء العلماء على المدرسَة التَّوحيديَّة. المبحث السادس: الهيئة الإداريَّة بالمدرسَة التَّوحيديَّة، وفيه مطلبان: المطلب الأول: الهيئة الإشرافيَّة على المدرسَة. المطلب الثاني: مديرو المدرسَة. المبحث السابع: معلمو المدرسَة التَّوحيديَّة وطلَّابها. المطلب الأول: أبرز المعلِّمين. المطلب الثاني: أبرز الطُّلَّاب. الخاتمة ، وفيها: أهم النتائج. وهذا الكتاب أول ما أفرد في بابه حسب علمي، فلم أقف على كتابٍ مفردٍ مطبوعٍ في تأريخ المدرسَة حسب بحثي، وقد بذلت فيه وُسعي، ويبقى حال المبتدئ كما قال ابن الأثير (606) رحمه الله: "كل مبتدئٍ لشيءٍ لم يُسبق إليه، ومبتدعٍ لأمرٍ لم يتقدم فيه عليه؛ فإنه يكون قليلًا ثم يكثر، وصغيرًا ثم يكبر" [18] . وهو إضافة إلى تأريخ مكَّة المكرَّمة -حرسها الله- كما أنه إضافة إلى تأريخ المدارس والتَّعليم في المملكة العربيَّة السعودية - أدام الله عزَّها وأيَّد بالحق ولاة أمرها. والمنصف يهب خطأ المخطئ لإصابته وسيئاته لحسناته، فهذه سنة الله تعالى في عباده جزاءً وثوابًا، ومن ذا الذي يكون قوله كلُّه سديدًا، وعملُه كلُّه صوابًا، وهل ذلك إلا للمعصوم الذي لا ينطق عن الهوى ونطقه وحي يوحى [19] . ولا أنسى هنا أن أنتهز الفرصة لشكر كل من له علي أياد سابغة وفضائل بالغة في إتمام هذا الكتاب، وفي مقدمتهم - بعد المولى الكريم - والديَّ الكريمان؛ فدعاؤُهما له جميل الأثر في حياتي، ثم أساتذتي ومشايخي الأجلَّاء بدءًا بمن علَّمني نطق الحروف والطريقة الصحيحة لإمساك القلم ومرورًا بأولئك الذين أناروا دربي في المساجد والمدارس والجامعات والمجالس وانتهاءً بمن علمني الكتابة والبحث، ثم زوجتي؛ فبوفائِها وصبرِها وبذلِها أَنجزت ما أَنجزت، ثم أشقائي وشقيقتي نفع الله بهم الإسلام والمسلمين. ويصعب في هذا المقام أن أعدِّد كل من أعانني على إتمام هذا الكتاب من مشايخ وأساتذة وزملاء وطلاب ومحبِّي المدرسَة التَّوحيديَّة سواء بلقاء أو اتِّصال أو مشورة أو مراجعة، ولكن لست أنسى شكرهم ولا الدعاء لهم، والله يتولانا ويتولاهم بالرحمة والعفو والرضوان. والشُّكر موصول لفضيلة الشَّيخ الأستاذ الدكتور خالد بن محمد الغَيث على مراجعته للكتاب وتقديمه، فأسأل الله تعالى أن يجزيهم جميعًا عني خير الجزاء. اللهم اجعل عملي كله صالحًا، واجعله لوجهك خالصًا، ولا تجعل فيه لأحد شيئًا، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم. [1] ينظر: صفحات من تاريخ مكة المكرمة، سنوك هورخرونيه، ترجمة: علي عودة الشيوخ (2/ 490). [2] ينظر: الحياة العلمية في مكة المكرمة، آمال رمضان (1/ 253)، سير وتراجم، عمر عبد الجبار (ص: 19 وما بعدها)، الدور التربوي للمسجد الحرام، خالد حسن الدين منديلي، رسالة ماجستير بجامعة أم القرى (ص: 93). [3] صور من تراث مكة في القرن الرابع عشر الهجري، عبد الله أبكر (ص: 81). [4] صفحات من تاريخ مكة المكرمة، سنوك هورخرونيه، ترجمة: علي عودة الشيوخ (2/ 488). [5] المدرسة الظاهرية: دار الكتب الظاهرية، أسماء الحمصي، بحث منشور في مجلة مجمع اللغة العربية بدمشق، (مج 42/ ج3، 4)، ربيع الأول 1387هـ (ص:663). [6] المدرسة المليبارية لتحفيظ القرآن الكريم بين الماضي والحاضر 1346 – 1434هـ، حسين عبد العزيز شافعي، بحث منشور في مجلة جامعة أم القرى لعلوم الشريعة، العدد (63) ذو الحجة 1435هـ (ص:352)، وينظر: التعليم في مكة والمدينة في آخر العهد العثماني، محمد عبد الرحمن الشامخ (ص:9). [7] ينظر: التربية والتعليم في الحجاز في العصر الأموي – مكة المكرمة، خالد بن عوض الفعر (ص:58) المدارس في مكة خلال العصرين الأيوبي والمملوكي، فواز علي الدهاس (ص:61). [8] المدارس في مكة خلال العصرين الأيوبي والمملوكي، فواز علي الدهاس (ص:6)، وينظر: المدرسة المليبارية لتحفيظ القرآن الكريم بين الماضي والحاضر 1346 – 1434هـ، حسين عبد العزيز شافعي، بحث منشور في مجلة جامعة أم القرى لعلوم الشريعة، العدد (63) ذو الحجة 1435هـ (ص:352). [9] ينظر: المدارس في مكة خلال العصرين الأيوبي والمملوكي، فواز علي الدهاس (ص:9 وما بعدها). [10] التربية والتعليم في الحجاز في العصر الأموي – مكة المكرمة، خالد بن عوض الفعر (ص:8). [11] مقال: مكانة مكة العلمية عند المؤسس وأبنائه، نجيب يماني، صحيفة عكاظ، الأحد 19/ 6/ 1442هـ. [12] ينظر: تاريخ مكة، أحمد السباعي (2/ 654). [13] مستفاد من محاضرة منشورة على اليوتيوب بعنوان: محاضرة عامة بعنوان: تاريخ المدرسة الصولتية للشيخ ماجد ابن الشيخ رحمت الله مدير المدرسة الصولتية في مكة المكرمة سابقًا، ألقيت يوم الإثنين 30/ 3/ 1439هـ بتنظيم من مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية. [14] لقبها الملك المؤسس $ بقوله: "إن الصولتية هي الجامع الأزهر في بلادي"، المدرسة الصولتية بمكة المكرمة دراسة تاريخية وصفية 1292هـ 1412هـ، عبد العزيز الفقيه (ص:4) رسالة ماجستير غير مطبوعة. [15] ينظر: المدرسة الصولتية بمكة المكرمة دراسة تاريخية وصفية 1292هـ 1412هـ، عبد العزيز الفقيه (ص:2) رسالة ماجستير غير مطبوعة. [16] التعليم في المملكة العربية السعودية، عبد الله بن محمد الزيد (ص: 5). [17] التعليم الأهلي للبنين في مكة المكرمة، فيصل مقادمي (ص:171). [18] النهاية في غريب الحديث والأثر، ابن الأثير (1/ 5). [19] روضة المحبين، ابن القيم (ص: 23).
مقدمة قريبة المسالك إلى مذهب الإمام مالك للشيخ علي العمروسي صدر حديثًا كتاب " مقدمة قريبة المسالك إلى مذهب الإمام مالك ‎ "، على مختصر الشيخ خليل بن إسحاق الجندي لما به الفتوى في المذهب المالكي، تأليف: الشيخ العلامة " علي بن خضر العمروسي " (ت 1173 هـ)، اعتنى به وحققه: " عبدالله بن أحمد الماجد "، نشر " دار رواق المالكية ". وهذا الكتاب للشيخ علي بن خضر العمروسي (ت1173 هـ) شرح على مختصره على " مختصر خليل " الشهير في الفقه المالكي، قال الجبرتي في تاريخه: " اختصر المختصر الخليلي في نحو الربع، ثم شرحه " [1: 219]. ومن عجيب الموافقات في التصنيف الفقهي المالكي أن اختصرَ مختصر الشيخ خليل خمسة من أعلام المذهب، وكلهم شرح مختصره، مع أن خليل لم يشرح مختصره، ومنهم الشيخ "علي بن خضر العمروسي". يقول العلامة "علي العمروسي" في مقدمة شرحه: "وبعد، فهذا شرح وضعته على مقدمتي التي لخصتها من مختصر العلامة خليل، قاصدًا بذلك الثواب من الملك الجليل، يحل ألفاظها، ويبين مرادها، ويقيد مطلقها، خاليًا من الإطناب الممل، والإيجاز المخل، يحصل به النفع للمبتدئين، ولا يكون خاليًا عن إفادة الممارسين". والمختصر هو آخر مؤلفات الشيخ خليل، مكث في تحريره أزيد من عشرين سنة، وهي فترة زمنية عادة ما تُخصص للمطولات من أمهات الكتب، وبقاء المؤلف مدة مثل هذه، دليل على شدّة حرصه وتوخيه الدقة العلمية في جمع أحكامه وتنظيمها، ولذا جاء مقتضبًا في ألفاظه، دقيقًا في مصطلحاته، جامعًا لمعظم أمّهات مسائل الفقه المالكي. وقد أثنى العلماء على مختصره الفقهي الذي لخّص فيه جامع الأمهات لابن الحاجب، وأتى فيه بالعجب من حيث الإيجاز، والمقدرة الذهنية على استيعاب المسائل وحصرها في ألفاظ جزلة جمع فيها شتات الفروع الكثيرة المتنوعة، وأوضح فيها المشهور المعمول به مجردًا عن الخلاف، واهتم العلماء بالمختصر شرحًا ونظمًا، إذ كُتب عليه الكثير، وتَعرّض للتعلقة عليه جمعٌ غفير، بحيث بلغت الكتابة عليه عددًا هائلًا تنوّعت بين الإيجاز والإطناب، حتى أنّ الشيخ محمد بن عثمان السوسي التونسي (ت 1900م) ألّف مؤلّفًا خاصًّا ضم فيه مَن كتب على المختصر سماه: (تراجم مختصر خليل)، فأورد نحو سبعين ترجمة، وإن كان عدد الشروح والحواشي يفوق هذا العدد بثلاثة أضعاف أو أكثر. وصاحب هذا الشرح على مختصره على "مختصر خليل" هو الشيخ العلامة "علي بن خضر بن أحمد العمروسي" من فقهاء المالكية بمصر، وعلماء الأزهر الشريف. أخذ العلم عن السيد محمد السلموني، والشهاب النفراوي، والشيخ محمد بن عبدالباقي الزرقاني، ودرس بالجامع الأزهر وانتفع به الطلاب، وكان إنسانًا حسنًا منجمعًا عن الناس مقبلًا على شأنه، له " حاشية على إتحاف المريد شرح جوهرة التوحيد"، ورسالة في "فضائل النصف من شعبان " ، وشرحه على مختصر خليل، توفي في سنة ثلاث وسبعين ومائة وألف من القرن الثاني عشر الهجري. وقد وضع " الشيخ محمد بن سلامة الزرقاني " حاشية على هذا الشرح، ونشرها قديمًا، ويقول في مقدمتها: "إن شرح العلامة المحقق الفقيه المدقق الشيخ علي العمروسي على مقدمته في فقه الإمام مالك من أنفع الكتب وأعذبها وأجمعها للأحكام، وقد وقع عليه الاختيار ليكون منهلًا لطلاب القسم الثانوي بالأزهر والمعاهد الدينية". وقد نظم هذا الشرح أيضًا العلامة "عثمان بن سند الفيلكاوي" نظمًا عذبًا سلسًا، واضح المعاني، يقول فيه: وكان لي شوق إلى أن أنظما مختصرًا فاق اختصارًا وسما مختصر العلاّمة العُمروسي محيي دروس العلم بالدروس مع زيادات له ضممت ورب لفظ مطلق قيدت مبينًا لراجح في المذهب وإن يكن عنه قصيرًا مذهبي سميته بأوضح المسالك في فقه مذهب الإمام مالك
صدر حديثًا من كتب السنة وعلومها (145) 1. دعوى تأثر الأحاديث النبوية بالإسرائيليات، دراسة تحليلية نقدية، تأليف د. فاطمة بنت سعد السلمي، دار المحدِّث، (رسالة دكتوراه). 2. رجال الكتب الستة الذين قال فيهم ابن عدي: "لم أر للمتقدمين فيهم كلامًا"، دراسة استقرائية تحليلية، تأليف عبدالرحمن بن خالد الهليل، دار المحدث، (رسالة ماجستير). 3. مسند المقلين، للحافظ دعلج السجزي، تحقيق أحمد رمضان الوراق، الهيئة العامة لطباعة ونشر القرآن الكريم والسنة النبوية وعلومهما بالكويت، 3ج. 4. المتواري على أبواب البخاري، للحافظ ناصر الدين ابن المُنيِّر، طبعة جديدة بتحقيق دار الكمال المتحدة، وإشراف عطاءات العلم، دار المنهاج القويم. 5. الحداثيون العرب وموقفهم من الجرح والتعديل، دراسة استقرائية نقدية، تأليف خالد بن محمود الجالولي، دار النفائس، (رسالة ماجستير). 6. التابعون المنسوبون إلى البدعة، عرض ونقد، تأليف د. أحمد بن محمد اللهيب، مركز تكوين، (رسالة ماجستير). 7. مجموع عن الموطآت وغيرها، وفيه: منارات السالك إلى روايات موطأ مالك، ويليه عدة رسائل عن الموطأ، تأليف محمد زياد تكلة، دار الألوكة. 8. منتقى من مسند أبي بكرٍ محمد بن هارون الروياني، انتقاء الحافظ ضياء الدين المقدسي، تحقيق خالد عبدالعظيم الحويني، دار الأمل. 9. أخبار المدينة، لابن شبة، طبعة جديدة بتحقيق مجموعة من المحققين، وأصلها رسائل دكتوراه في الجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية، مكتبة الميمنة، 7ج. 10. جهود المحدثين في ضبط ألفاظ الأحاديث النبوية (صحيح البخاري أنموذجًا)، تأليف د. نور محمود الحيلة، دار الرياحين. 11. إفادة النصيح بإسناد الجامع الصحيح، للحافظ ابن رشيد السبتي، طبعة جديدة بتحقيق نظر بن محمد الفاريابي. 12. لسان المُحدِّثين (معجم يُعنى بشرح مصطلحات المحدثين القديمة والحديثة ورموزهم وإشاراتهم وجملة من مُشكل عباراتهم وغريب تراكيبهم ونادر أساليبهم)، تأليف محمد خلف سلامة، الدار الأندلسية، 5ج. 13. شرح غريب الجامع الصحيح للإمام البخاري، للمكناسي، طبعة جديدة بتحقيق د. هشام عزوزي، مؤسسة الرسالة ناشرون، 2ج. 14. المنتقى من الأحاديث الصحاح والحسان، لضياء الدين المقدسي، تحقيق د. رياض الطائي، ركائز للنشر. 15. معرفة أصحاب قتادة، وتحقيق القول في طبقاتهم، تأليف د. سامح متولي، دار الفكر العربي. 16. قواعد فهم الحديث عند الإمام الشافعي، تأليف د. عبدالرحمن بن محمد آل نصر، مركز سطور، مكتبة الإمام مسلم. 17. المغني في ضبط أسماء الرجال، للفَتني، طبعة جديدة محققة على عشر نسخ خطية، تحقيق محمد طلحة بلال، مكتبة إسماعيل، بريطانيا. 18. تجريد أسماء الصحابة، للذهبي، وعليه حاشية سبط ابن العجمي، طبعة جديدة بتحقيق خليفة آل بوكوارة، دار البر، دبي، 2ج. 19. الوفا بما يجب لحضرة المصطفى صلى الله عليه وسلم، للإمام السمهودي، طبعة جديدة بتحقيق أ.د محمد بن عبدالهادي الشيباني، إصدارات مركز بحوث ودراسات المدينة المنورة. 20. الاكتفاء في تنقيح كتاب الضعفاء، للحافظ مغلطاي؛ تحقيق د. مازن السرساوي، طبعة جديدة فيها زيادات كثيرة على السابقة، دار المنهاج القويم، 5ج. 21. مجموعة بحوث حديثية، وتشمل: (التسعير، دراسة حديثية فقهية، حديث الكساء، رواية ودراية، أحاديث جحد العارية، دراسة نقدية، مصطلح "غير مقنع" عند الجوزجاني، دراسة استقرائية نقدية)، تأليف د. عبدالله بن برجس آل عبدالكريم، دار اللؤلؤة. 22. منهج ابن سعد في الجرح والتعديل من خلال طبقات الكوفيين في كتابه الطبقات الكبرى، تأليف د. مشعل بن محمد الحداري، دار اللؤلؤة. 23. آراء الإمام أحمد بن حنبل في علم الحديث، تأليف د. عبدالعزيز حسين عطورة، الأصول العلمية. 24. منكرو السنة: المذهب الضال عن القرآن، تأليف: د. هيثم طلعت، دار اليسر. 25. الإعجاز العلمي، دراسة نقدية لبحوث المؤتمر العالمي العاشر للإعجاز العلمي في القرآن والسنة، تأليف مهاوش الشمري، ميثاق ناشرون.
قصة جريج العابد وأثرها في مجتمع اليوم في قصص السابقين عظاتٌ وعبر، يتأملها المسلم، ويقف عندها مليًّا، فيجد تشابهًا وتشاكلًا بين ما كان بالأمس، وما يكون اليوم، فيستلهم منها العبرة، ويبحث فيها عن وجه الحكمة، ويأتي منها بقبس ينير دياجير الظلمة التي يصنعها أولياء الشيطان؛ ليصرفوا الناس عن الحق والهدى المتمثل في حملة ذلك الحق، والقائمين به والمدافعين عنه، أو حتى المحبين له. ما الذي حدث؟ عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لَمْ يَتَكَلَّمْ في المَهْدِ إلَّا ثَلاثَةٌ عِيسَى ابنُ مَرْيَمَ، وصاحِبُ جُرَيْجٍ، وكانَ جُرَيْجٌ رَجُلًا عابِدًا، فاتَّخَذَ صَوْمعةً، فَكانَ فيها، فأتَتْهُ أُمُّهُ وهو يُصَلِّي، فقالَتْ: يا جُرَيْجُ فقالَ: يا رَبِّ أُمِّي وصَلاتِي، فأقْبَلَ علَى صَلاتِهِ، فانْصَرَفَتْ، فَلَمَّا كانَ مِنَ الغَدِ أتَتْهُ وهو يُصَلِّي، فقالَتْ: يا جُرَيْجُ فقالَ: يا رَبِّ أُمِّي وصَلاتِي، فأقْبَلَ علَى صَلاتِهِ، فانْصَرَفَتْ، فَلَمَّا كانَ مِنَ الغَدِ أتَتْهُ وهو يُصَلِّي فقالَتْ: يا جُرَيْجُ فقالَ: أيْ رَبِّ أُمِّي وصَلاتِي، فأقْبَلَ علَى صَلاتِهِ، فقالَتْ: اللَّهُمَّ لا تُمِتْهُ حتَّى يَنْظُرَ إلى وُجُوهِ المُومِساتِ، فَتَذاكَرَ بَنُو إسْرائِيلَ جُرَيْجًا وعِبادَتَهُ وكانَتِ امْرَأَةٌ بَغِيٌّ يُتَمَثَّلُ بحُسْنِها، فقالَتْ: إنْ شِئْتُمْ لأَفْتِنَنَّهُ لَكُمْ، قالَ: فَتَعَرَّضَتْ له، فَلَمْ يَلْتَفِتْ إلَيْها، فأتَتْ راعِيًا كانَ يَأْوِي إلى صَوْمعتِهِ، فأمْكَنَتْهُ مِن نَفْسِها، فَوَقَعَ عليها فَحَمَلَتْ، فَلَمَّا ولَدَتْ قالَتْ: هو مِن جُرَيْجٍ، فأتَوْهُ فاسْتَنْزَلُوهُ وهَدَمُوا صَوْمعتَهُ وجَعَلُوا يَضْرِبُونَهُ، فقالَ: ما شَأْنُكُمْ؟ قالوا: زَنَيْتَ بهذِه البَغِيِّ، فَوَلَدَتْ مِنْكَ، فقالَ: أيْنَ الصَّبِيُّ؟ فَجاؤُوا به، فقالَ: دَعُونِي حتَّى أُصَلِّيَ، فَصَلَّى، فَلَمَّا انْصَرَفَ أتَى الصَّبِيَّ فَطَعَنَ في بَطْنِهِ، وقالَ: يا غُلامُ مَن أبُوكَ؟ قالَ: فُلانٌ الرَّاعِي، قالَ: فأقْبَلُوا علَى جُرَيْجٍ يُقَبِّلُونَهُ ويَتَمَسَّحُونَ به، وقالوا: نَبْنِي لكَ صَوْمعتَكَ مِن ذَهَبٍ، قالَ: لا، أعِيدُوها مِن طِينٍ كما كانَتْ، فَفَعَلُوا..." [1] . لَما أراد الفاسدون من بني إسرائيل إسقاط العابد الصالح «جُريج» حين تذاكروا سيرته وعبادته، عظُم عليهم تركُه وشأنه، فأرادوا أن يكون مثلهم، فيصرفوه عن العبادة، فسلطوا عليه امرأة بغيًّا، فاعترضت طريقه لتَلفته إلى جمالها، وتفتنه بحسنها، فيفسُد كما فسدوا، ويَغوى كما غووا، لكن الله عصمه فلم يقع في حبالها، فاستشاطت غضبًا كيف يتجاهلها ولا يُفتن بها، فماذا تصنع؟ ! ذهبت إلى راعي أغنام كان يأوي إلى صومعة جريج، فأمكنته من نفسها، حتى زني الراعي بها، ثم لما استتم حملها وولدت، جاءت فاتَّهمت جريجًا العابد وقالت: العابد الصالح هو الذي فعل تلك الفَعلة، وهذا ابنه من الزنا، فهاج الناس وماجوا وسبُّوا ولعنوا حتى همُّوا بقتل جريج .. وتدخل السلطان، فقال جريج: ائتوني بالرضيع، ثم قام فصلى، ودعا أن يُظهر الله الحقيقة، ثم نخس في بطن الرضيع قائلًا بثقة المؤمن: من أبوك؟؟ فأنطق الله الرضيع، فقال: أبي الراعي، أبي الراعي، وظهرت براءة جريج. العبرة يا إخواني من قصة جريج أن تشويه صورة الدعاة إلى الله، ومحاولة تلويث سمعة الصالحين عن طريق النساء - مسلك مرضَى النفوس، ومنكوسي الفطرة الذين لم يتأدبوا بأدب الإسلام، ولا عرفوا تعاليمه، فيفعلون فعلة إخوانهم السابقين "تشابهت قلوبهم"، وأن القصة تتكرَّر في كل زمان بمغزاها وغايتهاو لكن بأسماء مختلفة، وأن الفاسد يريد أن يكون المجتمع كله مثله في فساده وقذارته ونجاسته، أن الله ينصر أولياءه ويدافع عن أحبابه ﴿ وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [الروم: 47]، وأن الانسياق وراء الدعايات المشوهة دون تثبُّت، مسلكٌ خطير، يُدخل صاحبه دائرة الإثم والعقوبة؛ كما قال تعالى: ﴿ أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ ﴾ [الحجرات: 6]. وأن المؤمن الحق الصادق صاحب القلب السليم، يضع نفسه موضع أخيه المسلم، فيحب له ما يحب لنفسه من النجاة والخير، ويكره مساءته ومضرته، وتلويث سمعته، ﴿ لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ ﴾ [النور: 12]. وأن دعاة الفسق والتحلل والحريات المزعومة، لا يريدون الحرية إلا لأنفسهم فقط، فإن تحرَّر غيرهم ممن يخالفهم، أو وقع فيما يدعون إليه وينافحون عنه من مُجون، تحوَّلوا إلى دعاة للفضيلة وحماة للأخلاق، وهذا يدل على خُبث الطوية، ودناءة النفسية، فبئس ما يصنعون. نسأل الله السلامة والعافية... [1] صحيح مسلم / 2550.
من منطلقات العلاقات الشرق والغرب (أوريانا فلاتشي) وهذه وقفة أخرى حول كتاب " الغضب والاعتزاز " للكاتبة الروائية الصحفية الإيطالية أوريانا فلاتشي، التي توفيت في فلوانسا مسقط رأسها يوم الخميس ليلة الجمعة 21/ 8/ 1427هـ الموافق 15/ 9/ 2006م عن سبعة وسبعين عامًا، وقد ذكرت الأخبار أن شخصًا ليس مسلمًا عندما قرأ الكتاب ازداد تعاطفًا مع الإسلام، وربما أنه على وشك أن يعلن إسلامه، أو قد تم له ذلك هو وعدد ممن قرؤوا الكتاب، رغبةً في الوصول إلى معلومة تؤيد نظرتهم السلبية عن الإسلام والمسلمين، إلا أن النتيجة صارت عكسية؛ نظرًا لما اتسم به الكتاب من لهجة تجرح المشاعر الإنسانية، ناهيك عن المشاعر المنتمية للإسلام [1] . مهما يكن من أمر فلاتشي، فليست هي الأولى، ولن تكون الأخيرة التي تتعرض للإسلام بهذا الأسلوب الهزلي "الكاريكاتوري"، الذي زاد من توهجه وذيوعه كتابها الغضب والكرامة، أو الغضب والاعتزاز [2] ،بل ربما يستغرب المتابع أسلوب التهوين في الوقوف مع الكتاب والكاتبة؛ ذلك أن اللغة التي عالجت المؤلفة بها الموضوع هي لغة سطحية واضحة ومباشرة،والذين يقرؤون ما يكتب عن الإسلام والمسلمين من بعض علماء الغرب والمستشرقين يدركون تمامًا المراد من التهوين؛ ذلك أن هؤلاء العلماء والمستشرقين قد كالوا للإسلام وأهله بمكيالين، وفلاتشي تكيل بمكيال واحد، وهذا أهون. يُعَد هذا الإرهاب الفكري نوعًا من أنواع الحوار بين الإسلام والأديان الأخرى،هذا الحوار ليس جديدًا، بل إنه بدأ بدايات واضحة إبان بعثة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، وعند الهجرة الأولى إلى الحبشة، فكان هناك منظر خلاب يجسد المناظرة بين المسلمين الجدد ورهبان النصارى المتمرسين بين يدي النجاشي، وكان هناك حوار آخر بين هرقل ومبعوث النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وكان هناك حوار ثالث بين النبي محمد صلى الله عليه وسلم نفسِه ونصارى جنوب جزيرة العرب، ثم امتدت الحوارات إلى يومنا هذا، وستبقى كذلك إلى أن تقوم الساعة. وقد مر وزير مغربي - كما عند المقريزي في كتابه السلوك لمعرفة الدول الملوك - على مصر في طريقه إلى مكة المكرمة، فوجد فيها أهل الذمة ينعمون بالحرية، بحيث يتعذر تمييز المسلم من النصراني [3] ، ورأى كذلك أن النصارى يعملون في الدولة على زمان السلطان الناصر محمد بن قلاوون، فأنكر الوزير ذلك في أن تظهر النعمة على أهل الذمة، وكونهم يلبَسون أفخر الثياب، ويركبون الخيل والبغال، ويُستخدَمون في أجلِّ المناصب، ويذلون المسلمين ويمشونهم في خدمتهم [4] ، مما كان سببًا في إصدار مرسوم يحد من هذه الانطلاقة، ويعود بالذاكرة إلى ما عرف باسم الشروط العُمَرية، التي يدور حولها مزيد من الحوار كذلك، كما عند الحافظ ابن عساكر في تاريخ دمشق الكبير [5] . يزخر التاريخ الحضاري الإسلامي بالأخبار التي تحدد مدى التعامل مع أهل الكتاب فيما يطلق عليه أحكام أهل الذمة [6] ،وليس المجال هنا مجال العرض لهذا الجانب، مع أهميته. إن طرح فلاتشي سواء في كتابها هذا أم في كتابها الذي سبقه بعنوان "إن شاء الله" (1410هـ/ 1990م) أم في كتابها الذي لحقه بعنوان قوة العقل (1425هـ/ 2004م) [7] إنما هو نوع من الحوار؛ إذ إن الحوار يأخذ أشكالًا متعددة، بعضها بهجومه وغطرسته عنيفٌ جدًّا، وبعضها بعلميته وموضوعيته حضاري جدًّا، وبين هذين البعضين بُعوضٌ أخرى متفاوتة في قربها من أي من البعضين،ويحكم ذلك عوامل الزمان والمكان والحال التي عليها المسلمون حينما يكونون أكثرية غير فاعلة، ويكون أهل الذمة أقلية فاعلة، أو حينما يكون المسلمون أقلية فاعلة، ويكون أهل الذمة أكثرية غير فاعلة. يذكر عمارة لخوص في جريدة الحياة عرضًا للكتاب الأخير "قوة العقل"، ويعرج على أسلوب الصحَفية أوريانا فلاتشي مراسلة الحرب خلال الحرب الأمريكية على فيتنام، وخلال الحرب الأهلية في لبنان، في طرحها للقضايا الإسلامية في كتبها الثلاثة وغيرها، بأنها "نفضت الغبار عن أطروحة عفا عليها الزمن سادت في القرون الوسطى، وغذت مشاعر الخوف والكراهية والحقد، والتي كانت أرضية خصبة لشن الحروب الصليبية" [8] ،ويذكر أن هذا الطرح أسلوب من أساليب "اغتيال الشخصية الإسلامية"، الذي زاد التركيز عليه في الآونة الأخيرة بالتحذير من تعريب أوروبا؛ أي: أسلمتها، "أوروبا العربية Euraoatabia" [9] . لا داعي للمزيد من جلد الذات، فإنما هي دول، ﴿ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ ﴾ [آل عمران: 140]،وإنما يغضب الفرد بقدر ما يمس دينه بما ليس فيه، فيكون الغضب لله وفي الله. مع أن هذا الموضوع شائق، إلا أنه في الوقت نفسه شائك،ومع هذا وذاك فهو مهم جدًّا وحيوي، ويحتاج إلى مزيد من التركيز في بناء العلاقات، بغضِّ النظر عن التوجه السائد اليوم نحو العولمة والعلمنة، فإنما هي حقبة من أحقاب مرت وستمرُّ، والحاجة قائمة إلى مزيد من الاطلاع وفهم الآخر "بالاستغراب" بعد فهم الذات. [1] وصف جورج قرم هجوم كتاب فالاتشي بقوله: "أحرزت رسالة الهجاء المرعبة، التي تهاجم فيها الصحافية الإيطالية أوريانا فالاتشي بنبرة تنضح عنصرية، الإسلام والمسلمين، عقب اعتداء الحادي عشر من أيلول، نجاحًا متعاظمًا في أوروبا" ، انظر: جورج قرم ، شرق وغرب: الشرخ الأسطوري - مرجع سابق - ص 143. [2] انظر: جورج قرم ، شرق وغرب: الشرخ الأسطوري - المرجع السابق - ص 153. [3] انظر: المقريزي، تقي الدين أحمد بن علي ، السلوك لمعرفة الدول والملوك - ط 2 - القاهرة: لجنة التأليف والترجمة والنشر، 1970م (1/ ق3: 909 – 913). [4] انظر: المقريزي، تقي الدين أحمد بن علي ، السلوك لمعرفة الدول والملوك - المرجع السابق – (1/ ق3: 990 – 913). [5] انظر: صبحي الصالح ، شرح الشروط العمرية مجردًا من كتاب أحكام أهل الذمة، تأليف ابن قيم الجوزية - ط 2 - بيروت: دار العلم للملايين، 1401هـ/ 1981م - ص 262 - وانظر أيضًا مختصرًا لدى: شوقي أبو خليل ، العهدة العمرية: البعد الإنساني في الفتوحات العربية الإسلامية - دمشق: دار الفكر، 1430هـ/ 2009م - ص 32. [6] انظر مثلًا: حسن الممي ، أهل الذمة في الحضارة الإسلامية/ تقديم الشاذلي القليبي - بيروت: دار الغرب الإسلامي، 1998م - ص 207 ، وانظر كذلك: أ . س . ترتون ، أهل الذمة في الإسلام/ ترجمة حسن حبشي - ط 3 - القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1994م - ص 280 - (سلسلة تاريخ المصريين؛ 70) ، وسيدة إسماعيل كاشف ، مصر الإسلامية وأهل الذمة - القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1993م - ص 180 - (سلسلة تاريخ المصريين؛ 57)، وسلام شافعي محمود ، أهل الذمة في مصر في العصر الفاطمي الأول - القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1995م ، ص 327 - (سلسلة تاريخ المصريين؛ 75) ، وفاطمة مصطفى عامر ، تاريخ أهل الذمة في مصر الإسلامية من الفتح العربي إلى نهاية العصر الفاطمي - 2 ج - القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2000م - ص 416 - (سلسلة تاريخ المصريين؛ 172 - 173). [7] انظر: عمارة لخوص ، الاستشراق، بمعناه السيئ، على الطريقة الإيطالية - الحياة. [8] انظر: عمارة لخوص ، الاستشراق، بمعناه السيئ، على الطريقة الإيطالية - الحياة - المرجع السابق . [9] انظر: عمارة لخوص ، الاستشراق، بمعناه السيئ، على الطريقة الإيطالية - الحياة - المرجع السابق .
جديد ممدوح الشيخ في معرض الرياض الدولي ترجمة "فضاء المقدس لا يعرف الفراغ: تاريخ الإلحاد السوفيتي" " هذا الكتاب الرائع يكشف بمهارة عن الطبيعة المتغيرة للدين في الاتحاد السوفيتي، وحدود العلمنة في ظل الشيوعية، والمكانة المهمة للروحانية في القرن العشرين، كما تكشف سمولكين المفارقة اللافتة للنزر في كيف وحدت السلطات السوفيتية نفسها تحاول إحياء الروحانية والعواطف الدينية، حتى عندما كانوا يسعون إلى تدميرها ". بول دبليو ويرث مؤلف كتاب: "م عتقدات القيصر الأجنبية: التسامح ". " هذا كتاب مبتكر، ومهم للغاية، تقدم سمولكين سردية حول تاريخ صنع الإلحاد السوفيتي، وما تلاه من تفكيك.. إنه جدير بالقراءة ". دينيس موزلوف مؤلف كتاب: "التصالح مع الماضي الستاليني". صدرت عن مركز تكوين للدراسات والأبحاث - السعودية بالتزامن مع معرض الرياض الدولي للكتاب الترجمة العربية لكتاب: " فضاء المقدس لا يعرف الفراغ: تاريخ الإلحاد السوفيتي "، وهو أطروحة أكاديمية للباحثة فيكتوريا سمولكين ، وترجمه إلى العربية وقدم له الباحث المصري ممدوح الشيخ . وقد كتبت المؤلفة الكتاب للمرة الأولى كأطروحة حصلت بها على درجة دكتوراه الفلسفة في التاريخ من جامعة كاليفورنيا عام 2010، ثم قامت توسيع الحقبة التاريخية التي تغطيها الدراسة، وأعادت إصداره عام 2018، وتتصدر مقدمة المؤلف عبارة نصها: " بحلول نهاية الحقبة السوفيتية، كان الروس شعبًا مشوهًا دينيًّا، تعرضوا لأضرار جسيمة، على المستويين الفردي والمؤسسي، بسبب عقود الإلحاد التي رعاها الحزب ". واستعرض المترجم في ترجمته ملامح عودة الدين إلى الحياة العامة في روسيت بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، مطلع تسعينيات القرن الماضي، ويستشهد ممدوح الشيخ برسالة مفتوحة إلى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين حول " تغلغل الكنيسة الروسية الواسع في جميع مجالات الحياة الاجتماعية "، وقد وجَّهها في يوليو 2007 علماء روس، بينهم الحائزان على جائزة نوبل للفيزياء: فيتالي غينزبورغ وجوريس ألفيوروف، وانتقد موقعوها تغطية الإعلام المتحمسة للشعائر الدينية التي يشارك فيها رجال الدولة، بينما الكنيسة تتغلغل تقريبًا في جميع مؤسسات السلطة. ويتناول الكتاب تعليم الإلحاد السوفيتي وطقوس دورة الحياة الاشتراكية في فترة ما بعد الحرب، ويتبع السرد دورتين مختلفتين متداخلتين في الحياة: دورة الإلحاد العلمي الماركسي اللينيني؛ حيث جرت محاولة لملء الفراغ الذي كان يشغله الدين بمحتوى روحي سوفيتي واضح، ودورة حياة المواطن السوفييتي الذي تَم ترتيب حياته بهدف جعلها ذات مغزى عبر معتقدات وطقوس سوفيتية، وقد ناقشت سمولكين جهود الدولة السوفييتية لوراثة المؤسسات الدينية، ودرست أسباب فشل الإلحاد رغم أجندته الأيديولوجية الشاملة، ورغم الطقوس الاشتراكية التي اختُرعت ونُشرت على نطاق واسع حتى عصر خروتشوف. وقد أصبح الأيديولوجيون السوفييت متأخرًا أكثر وعيًا بالتناقضات التي كشفت عن نفسها عندما حاولوا تحويل المعتقدات والطقوس الأيديولوجية إلى قناعات وممارسات يومية، ونتيجة لذلك أصبح الاهتمام المتجدد بالحياة الروحية لـ" المادة البشرية " للثورة مركزيًّا لتفسيرات الماركسية اللينينية، وكذلك لمصير التجربة السياسية السوفيتية، وقد درست فيكتوريا سمولكين في أطروحتها الأكاديمية على نطاق أوسع أهميةَ طقوس المجتمع الحديث ووظائفها، وكما حاولت أن تقيم مدى قدرة الدولة السوفيتية على توجيه هذا الجانب من حياة الفرد والمجتمع. والكتاب لا يشمل دراسة " نظرية " للإلحاد، وبدلًا من ذلك يقدم سردية شديدة الثراء لحقبة أخفيت الكثير من وثائقها لعشرات السنين، وكانت موضوعًا للإنكار والنفي المتكرر في أدبيات عديدة استهدفت نفي الطبيعة الإلحادية للتجربة السوفيتية، ومن الحقائق المؤسفة أن المكتبة العربية كان نصيبها كبيرًا من هذه الكتابات المضللة التي استهدفت بشكل مقصود " تبييض وجه الشيوعية "، وبسبب غياب هذا الجانب النظري مَرَّ المترجم في مقدمته على بعض المفاهيم الرئيسة في الإلحاد الشيوعي، وبحسب: " المعجم العلمي للمعتقدات الدينية " وهو " ثمرة جهد مجموعة من العلماء والمتخصصين من الاتحاد السوفيتي والبلدان الاشتراكية استغرق عدة سنوات "، " مركزية الإنسان في الكون " هي " مفهوم ديني مثالي يضع الإنسان في مركز الكون، ويجعل منه الغاية النهائية من خلقه، وتؤكد هذه النظرية أن هناك أهدافًا وذرائع موضوعية متعالية عن البشر (إلهية) وراء خلق العالم .. .. .. .. وقد يتمثل الشكل النهائي لنظرية "مركزية الإنسان في الكون" في اليهودية والمسيحية والإسلام، وقد قوَّض العلم الطبيعي – ممثلًا في كوبرنيكوس وجاليليو ودارون وأينشتين – جنبًا إلى جنب مع الفلسفة المادية، أسس هذه النظرية "، و" الإلحاد الماركسي " هو " مرحلة جديدة من حيث الكيف في تطور الفكر الإلحادي ... وظهر بوصفه النظرية العلمية الحقة التي تعبر عن مصالح تلك القوة الثورية والتقدمية (أي الطبقة العاملة) على نحو متماسك ومتسق، ويصف لينين جوهر الإلحاد بقوله: "الماركسية هي المادية، وهي بصفتها تلك مناهضة على نحو لا يعرف الهوادة للدين ". ومن بين سمات المجتمع الشيوعي التي لفتت نظر المراقبين الغربيين باستمرار، كانت السياسة السوفيتية الطموح التي تهدف إلى تغيير الشخصية البشرية، لقد فرضت الأيديولوجية السوفيتية أن يتم إنشاء " الشخص السوفيتي الجديد "؛ ليكون محبًّا للسلام، عالميًّا، وطنيًّا، ملتزمًا بالقانون، جماعيًّا، مجتهدًا، وملحدًا متشددًا، ولتعزيز الإلحاد أنشأت سلطات الدولة والحزب الشيوعي برنامجًا تعليميًّا شاملًا يُترجم على أنه: " التنشئة الملحدة "، وقد كانت تلك النواة الصلبة للمخططات العامة لتكوين الشخصية التي ابتكرتها السلطات السوفيتية، كما تصورها ونفذها خبراء الحزب الشيوعي، وتضمن هذه المخططات " جهودًا متعددة الأوجه عبر العمر لتغذية الإلحاد، وتحويله إلى طريقة تفكير لكل مواطن سوفيتي" . وفي سياق الثقافة الإسلامية يتقاطع موضوع الكتاب بشكل واضح مع قضيتين: الأولى تركيز المؤلفة على الكنيسة الأرثوذكسية – بشكل رئيس – كهدف لسياسات الترويج الرسمي للإلحاد، رغم أن مسلمي روسيا كانوا ضمن المكونات الدينية التي استهدفتها الدعاية الإلحادية السوفيتية، والقضية الثانية طبيعة التأثيرات التي انتقلت إلى عديد من الدول العربية المسلمة بتأثير المد اليساري الكبير في خمسينيات وستينيات القرن العشرين بصفة خاصة. وبحسب الباحث البريطاني براين ويتاكر، كانت اليـمن الـجنوبي النـموذجَ الوحيدَ للحكـم الـمـاركسي اللينيني " الحرفي " في الـمنطقة، وكانت حكومتها تطمح لبناء مـجتـمعٍ " عقلاني اشتراكي "، ووجدت نفسها مضطرةً لمواجهة مسألة التعامل مع الإسلام، فاتـخذت إجراءاتٍ صارمةً، وعنيفة أحيانًا ضد الـمؤسسة الدينية؛ كتأميـم الأوقاف، وتوظيف رجال الدين لدى الدولة، والسيطرة على الـمؤسسات الدينية، وقد انتهج النظامُ القائـمُ نهجًا معقدًا بـمشورة سوفيتية على ما يبدو، ويقال: إنَّ اللجنة الـمركزية للحزب الوحدوي الاشتراكي بألـمـانيا الشرقية، أوصتِ النظامَ اليـمني بـالآتي: "ا لدّين يُستعمل كسلاح ضدكـم، فلمـا لا تستعملون السلاح ذاته ضد أعدائكـم؟ لـمـاذا تتخلون عن الـمبادرة لـحساب الرجعيين والانتهازيين؟ لـم لا تكون الـمبادرة للتقدميين؟ لـم لا تقولون إننا ضدّ الرأسـمـاليّة الاستغلاليّة؟ " وقولوا: " إن سيدنا مـحمدًا كان ضدّ الرأسـمـالية الاستغلالية؟ ". دفع ذلك الـحكومةَ لترويـج إسلام اشتراكـي يـُحتفَلُ فيه بـميلاد " لينين " مع احتفالات دينية تقليدية. الإسلام الاشتراكي يشبه حركة " لاهوت التحرير " بأمريكا اللاتينية، وفي دراسة عن التعايش الهش والـمضطرب بين الإسلام والدولة باليـمن الـجنوبي، قال نورمان سيجار: " إنَّ الاشتراكيين اليـمنيين تعاملوا مع الإسلام كـظاهرةٍ اجتـمـاعيةٍ اقتصاديةٍ معنيةٍ بعالَمنا فقط "، و" تـجاهلوا أو ربّمـا هـمَّشوا الـجوانب الأُخرى من الإيـمـان ". وفي النهاية كان الهدف النهائي للماركسية السوفييتية: " تطوير بيئة نقية؛ حيث تكون تأثيرات الإيمان الديني محدودة جدًّا، بحيث يصبح الفراغ في المجال الديني مستدامًا ذاتيًّا، وفي التصور الأيديولوجي يُمثل مثل هذا الوضع بيئة نقية؛ حيث يمكن أن يحدث تطور الشخصية الكاملة للشخص الشيوعي الجديد دون عوائق ". وقد كان الهدف النهائي للتنشئة الإلحادية ما أسماه الكتاب السوفييت: " نظرة علمية إلحادية للعالم "، وبذلت الدولة كل ما في وسعها " للتغلب " على الدين، لجعله " يذبل "، ولكن عندما فشِلت مساعيها " البناءة "، كانت مستعدة لنشر مجموعة واسعة من أجهزة الرقابة الاجتماعية للقضاء على العادات الدينية، وبعد عقود من " الإغواء " و" القمع " انهار الحزب الشيوعي السوفيتي ومشروعه الإلحادي. الكتاب: فضاء المقدس لا يعرف الفراغ: تاريخ الإلحاد السوفيتي. المؤلف: فيكتوريا سمولكين. ترجمة وتقديم: ممدوح الشيخ. الناشر: مركز تكوين للدراسات والأبحاث - السعودية. عدد الصفحات: 560 صفحة من القطع الكبير. تاريخ النشر: 2022. A Sacred Space Is Never Empty A History of Soviet Atheism Victoria Smolkin 2018 Princeton University Press UK
معرفة الخصال المكفرة للذنوب المقدمة والمؤخرة لابن حجر العسقلاني صدر حديثًا كتاب "م عرفة الخصال المكفرة للذنوب المقدمة والمؤخرة "، للحافظ الإمام " شهاب الدين أبي الفضل أحمد ابن علي بن محمد بن محمد بن علي العسقلاني " الشهير " بابن حجر " (773-852 هـ)، تحقيق وتعليق: " أبي الحسن علي بن جاد الله "، نشر: " دار اللؤلؤة للنشر والتوزيع "- القاهرة، مصر. وهذه الطبعة تستدرك أخطاء الطبعات السابقة حيث تمت مقابلة النص على سبع نسخ خطية، راعت مواطن السقط في الطبعات السابقة، وتعقبت مواطن التحقيق في الرسالة. وهذا الكتاب من ضمن كتب فضائل الأعمال المنتقاة من السنة النبوية، وهو كتاب معرفة الخصال المكفرة للذنوب المقدمة والمؤخرة والتي وردت في أحاديث النبي -صلى الله عليه وسلم-، حيث جمعها المُصنِّف في هذا الكتاب. قال ابن حجر في مقدمة الرسالة: "هذه أحاديث نبوية تتبعتها من كتب كثيرة بعضها غريب، وبعضها مشهور، وكلها داخلة تحت معنى واحد رائق، وهو العمل بما ورد الوعد فيه بغفران ما تقدم من الذنوب وما تأخر على لسان الصادق المصدوق، وكان الباعث على جمعها إجابة سؤال سائل له حقوق توجب الإقبال على مطلوبه، وذكر لي بعض الإخوان أنه وقف على جزءٍ في ذلك للحافظ زكي الدين عبد العظيم المنذري فما زلت أتطلبه إلى أن وقفت عليه، فوجدت فيه نبذًا من ذلك، وقد أشرت في أثناء هذا التصنيف إلى ما استفدته مما هنالك، وقد رتبت الأحاديث التي جمعتها في المعنى المذكور على الأبواب؛ ليسهل على طالبها كشفها، وسميته بـ (معرفة الخصال المكفرة للذنوب المقدمة والمؤخرة)". وهذا الكتاب من كتب الحافظ ابن حجر المشهورة والمتداولة بين الناس لما حواه من أبواب في الترغيب والترهيب، وهي بضاعة العوام في ترقيق القلوب وزيادة الإيمان. وقد امتاز الكتاب أيضًا بنقول فريدة، وتخريجات عزيزة من كتب نادرة، وبعضها في حكم المفقود، وهي من بضاعة الخواص من طلاب العلم والعلماء. وهذا الكتاب من المراجع الحديثية الهامة، وقام ابن حجر بترتيب الأحاديث الواردة فيه في المعنى المذكور على الأبواب ليسهل على طالبها كشفها. وضم الكتاب ستة وسبعون حديثًا في خصال متفرقة يغفر الله لفاعلها ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وتنقسم أحاديث كتاب معرفة الخصال المكفرة للذنوب المقدمة والمؤخرة إلى ثلاثة أقسام، القسم الأول: الأحاديث الصحيحة المطلقة، والقسم الثاني: الأحاديث الصحيحة المقيدة: وهي التي صححت بدون زيادة وما تأخر، والقسم الثالث: الأحاديث الضعيفة وتنقسم إلى خمسة أقسام فرعية: الضعيفة المطلقة، والضعيفة المقيدة: وهي التي ضعفت بسبب زيادة وما تأخر، والأحاديث الموضوعة، والمنكرة، والمجهولة. أما الأحاديث الصحيحة فقد بلغ عددها (24) حديثًا، وأما الأحاديث الصحيحة بدون زيادة وما تأخر فقد بلغ عددها (8) أحاديث. وأما الأحاديث الضعيفة المطلقة فقد بلغ عددها (35) حديثًا، وأما الأحاديث الموضوعة فقد بلغ عددها (7) أحاديث. وأما الأحاديث المنكرة فقد بلغ عددها ثلاثة فقط، وأما الأحاديث المجهولة الحال فهي حديثان فقط. وأما الرواة الذين تكلم فيهم ابن حجر بالجرح والتعديل في رسالته فبلغ عددهم مائة وأربعة راو. وقد قام المحقق بتخريج الأحاديث الواردة في هذا الكتاب، والكلام على أسانيدها من حيث الصحة والضعف، والكلام على الرواة من حيث الجرح والتعديل. كما قدَّمَ للكتاب بمقدمة عن نسبة الكتاب لصاحبه وعمله في تحقيق المخطوطات، مع الترجمة للمصنف ومنهجه في التأليف والتخريج. والمصنف هو ابن حَجَر العَسْقلاني (773 - 852 هـ = 1372 - 1449 م)، أحمد بن علي بن محمد الكناني العسقلاني، أبو الفضل، شهاب الدين، ابن حَجَر. • من أئمة العلم والتاريخ. أصله من عسقلان (بفلسطين) ومولده ووفاته بالقاهرة. • ولع بالأدب والشعر ثم أقبل على الحديث، ورحل إلى اليمن والحجاز وغيرهما لسماع الشيوخ. • وعلت له شهرة فقصده الناس للأخذ عنه وأصبح حافظ الإسلام في عصره، قال السخاويّ: (انتشرت مصنفاته في حياته، وتهادتها الملوك، وكتبها الأكابر). • وكان فصيح اللسان، راوية للشعر، عارفًا بأيام المتقدمين وأخبار المتأخرين، صبيح الوجه. • وولي قضاء مصر مرات ثم اعتزل. أما تصانيفه فكثيرة جليلة، منها: • (الدرر الكامنة في أعيان المئة الثامنة). • (لسان الميزان). • (الإحكام لبيان ما في القرآن من الأحكام). • (الكافي الشاف في تخريج أحاديث الكشاف). • (ذيل الدرر الكامنة). • (ألقاب الرواة). • (تقريب التهذيب) في أسماء رجال الحديث. • (الإصابة في تمييز أسماء الصحابة). • (تهذيب التهذيب) في رجال الحديث. • (تعجيل المنفعة بزوائد رجال الأئمة الأربعة). • (تعريف أهل التقديس) ويعرف بطبقات المدلّسين. • (بلوغ المرام من أدلة الأحكام). • (المجمع المؤسس بالمعجم المفهرس) جزآن، أسانيد وكتب. • (تحفة أهل الحديث عن شيوخ الحديث). • (نزهة النظر في توضيح نخبة الفكر) في اصطلاح الحديث. • (القول المسدَّد في الذب عن مسند الإمام أحمد). • (تسديد القوس في مختصر الفردوس للديلي). • (تبصير المنتبه في تحرير المشتبه). • (رفع الإصر عن قضاة مصر). • (إنباء الغمر بأنباء العمر). • (إتحاف المَهرة بأطراف العشرة). • (الإعلام في من ولي مصر في الإسلام). • (نزهة الألباب في الألقاب). • (فتح الباري في شرح صحيح البخاري). • (التلخيص الحبير في تخريج أحاديث الرافعي الكبير). • (تغليق التعليق)، في الحديث. ولتلميذه السخاوي كتاب في ترجمته سماه (الجواهر والدرر في ترجمة شيخ الإسلام ابن حجر) في مجلد ضخم.
وفاة خديجة رُوي أن خديجة رضي الله عنها قد توفيت قبل أن تفرض الصلاة، وهذا على قول من قال: بأن حصار الشعب كان قبل الإسراء والمعراج، فهناك رواية أن الإسراء كان قبل الهجرة بسنة، وأن وفاة خديجة رضي الله عنها كانت قبل الهجرة بثلاث سنين، قال ابن إسحاق: ثم إن خديجة وأبا طالب ماتا في عام واحد، فتتابعت على رسول الله صلى الله عليه وسلم المصائب بهلك خديجة، وكانت له وزير صدق على الابتلاء، يسكن إليها، ويهلك عمه أبو طالب وكان له عضدًا وحرزًا في أمره ومنعة وناصرًا على قومه، وذلك قبل الهجرة بثلاث سنين، وفي رواية الزهري: أن خديجة توفيت بمكة قبل خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وقبل أن تفرض الصلاة. وقال ابن إسحاق: ماتت خديجة وأبو طالب في عام واحد. وقال البيهقي: بلغني أن خديجة توفيت بعد موت أبي طالب بثلاثة أيام. وقال الواقدي: إن خديجة وأبا طالب ماتا قبل الهجرة بثلاث سنين عام خرجوا من الشعب، وأن خديجة توفيت قبل أبي طالب بخمس وثلاثين ليلة. وقد سُمِّي العام الذي ماتت فيه خديجة ومات فيه أبو طالب بعام الحزن؛ حيث توالى الحزن على النبي صلى الله عليه وسلم بتوالي موتهما، وقد نالت خديجة رضا الله تعالى؛ لموقفها المؤيد والمساند للنبي صلى الله عليه وسلم في دعوته، وهي - كما مر - أول من أسلم، وعن أبي هريرة - كما ورد في الصحيحين - قال: أتى جبريل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، هذه خديجة قد أتت معها إناء فيه إدام - أو طعام أو شراب - فإذا هي أتتك فأقرئها السلام من ربها ومنِّي، وبشِّرها ببيت في الجنة من قصب، لا صخب فيه ولا نصب. والقصَب: الفضة، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يذكرها كثيرًا ويثني عليها، كما كان يكرم صديقاتها؛ إكرامًا لها؛ فهي - إلى جانب وقوفها معه ودعمه وسبقها في الإسلام وسَعة عقلها وحسن تفكيرها وتدبيرها - أمُّ أولاده؛ فلم يرزق الأولاد إلا منها، ومن جاريته أم إبراهيم مارية، فلم يعش إلا بناتها؛ زينب ورقية وأم كلثوم وفاطمة، ولما قالت له عائشة: لقد أبدلك الله خيرًا منها، قال: ((ما أبدلني الله خيرًا منها، وقد آمنَتْ بي إذ كفر بي الناس، وصدقتني إذ كذبني الناس، وآستني بمالها إذ حرمني الناس، ورزقني الله ولدها إذ حرمني أولاد النساء))، وفي الحديث: ((كمَل مِن الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلا ثلاث؛ مريم بنت عمران، وآسية امرأة فرعون، وخديجة بنت خويلد، وفضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام)). فلماذا هؤلاء النسوة؟ قالوا: والقدر المشترك بين النسوة الثلاث هو أن كلًّا منهن قد كفلت نبيًّا مرسلًا، وأحسنت الصحبة في كفالتها، وصدقته؛ فآسيا ربَّت موسى أحسن تربية وحمَتْه وصدقته حين بعث، ومريم ربت عيسى وجهدت في حمايته وتنقلت من مكان إلى آخر طلبًا لإخفائه عن أعين البغاة الذين يريدون قتله، ولما أرسل إليه آمنت به وصدقته، وكذلك خديجة، فقد كفته هم المال فأنفقت على بيتها بسخاء، وتفرغ هو للدعوة وآمنت بدعوته وساندته برأيها ومشورتها.
مشارق الآي لعبد اللطيف بن عبدالله التويجري صدر حديثًا كتاب " مشارق الآي ". تأليف: د. " عبد اللطيف بن عبدالله التويجري ". نشر "آفاق المعرفة " . «مشارقُ الآي» دعوةٌ للأمة بمجموعها للعيش مع كتاب ربها، والنهل من معينه، والتدبر في معانيه؛ فهو الذي يُطلعهم على معالم الخير والشر، ويجعلُ في أيديهم مفاتيح كنوز السعادة، ويُثبِّت الإيمان في قلوبهم، ويعطيهم قوةً وانشراحًا، وبهجةً وسرورًا. وهي دعوةٌ للعبد حتى يدخل في عالم الحياة الحقيقي، ويعيش مع مشارق آي الذكر الحكيم في ظلال أقوال السلف الكرام؛ كي تكون نبراسَ حياة ومشروع عمل وحياة أمة. يقول الكاتب في التعريف بالكتاب: "(مشارقُ الآي) مقالاتٌ متنوعة في النفس والكون، والتفكر والحياة، مرصوفة بعبارات الأولياء، والسادة النجباء، اجتمعت تُذكر وتقول: لا ظلام مع نور الوحي! "تُذَكرني المشارقُ كل يومٍ بأن الله لا يبقي ظلامَا"..". وتضم هذه الباقة من المقالات رقائق إيمانية وخواطر تعبدية استقت معينها من كتاب الله الحكيم، كتبت بأسلوب رائق لإحياء القلوب وتذكير النفوس بالغاية من خلق العباد، ومن عناوين مقالات الكتاب وموضوعاته: • تقارب القلوب. • القرآن والتربية على الذوق. • الشريعة كلها صلاح. • صلاح القدوات. • وعظُ الكبار. • القلب النقي والصوت الخفي. • كل صاحب بدعة ذليل! • مرفأ الأمان. • التاجرُ الأمين. • إلى كل مصلح! • المرأة الكاملة. • وما أدراك ما توسد القرآن؟! والمؤلف هو د. "عبد اللطيف بن عبدالله التويجري"، حاصل على درجة الدكتوراه في القرآن وعُلومِه، من كلية أصول الدين بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، وكان عنوان أطروحته العلمية "تدبر القرآن الكريم عند السلف الصالح في ضوء الآثار المروية من خلال تفسير ابن جرير الطبري - دراسة تأصيلية تطبيقية"، وذلك عام 1441 هـ. من مؤلفاته: • "تتبع الرخص بين الشرع والواقع". • "قلائد الذكرى". • مطوية "وسائل علمية لتدبر القرآن الكريم".
الأعمال الكاملة الشعرية والنثرية لشاعر دمشق وغِرِّيدها المِفَنِّ (أنور العطَّار) (1327- 1392هـ/ 1909- 1972م) أتحفَني الأخُ الكبير والصديق العزيز، الرجلُ النبيل والأديب الرقيق، الأستاذُ هاني العطَّار بهدية نفيسة، هي ثمرةُ سنوات من العمل الدؤوب في جمع تراث أبيه؛ شاعر دمشق المرهَف الأستاذ الكبير ( أنور العطَّار ) رحمه الله تعالى. وهذا العملُ بلا ريب دليلُ بِرٍّ ووفاء وإخلاص من الأستاذ الفاضل هاني؛ بِرٍّ بأبيه وأدبه الرفيع، وفنِّه الراقي البديع.. ووفاءٍ للشام وتاريخ رجالاتها، وأعلام أدبائها، وآثار مبدعيها.. وإخلاصٍ للعربية وبيانها الساحر، ولشعرها البليغ الآسِر.. جزاه الله عن العربية وأدبها، وعن الشام وأدبائها خيرَ الجزاء وأحسَنه. ۞۞ ۞ ۞۞ الأعمال الكاملة: • وقد كان أصدر الأستاذ هاني أولًا ديوان أبيه ( ظلال الأيام ) عام 1434هـ/ 2013م في الرياض، في طبعة مَزيدة. وقد سبق أن طُبع في حياة الشاعر بدمشق عام 1367هـ/ 1948م. • ثم أصدر ديوان أبيه الثاني ( رباعيات علَّمتني الحياة ) عام 1436هـ/ 2015م في الرياض. • ثم أصدر الأعمال الكاملة (الشعرية والنثرية) في مجلَّدين كبيرين، عام 1441هـ/ 2020م عن دار الفكر بدمشق. تضمَّنت الأعمالُ الشعرية عشَرة دواوين هي: (البواكير) (منعطف النهر) (وادي الأحلام) (ربيع بلا أحبَّة) (ليل البلبل المسحور) (قصائد المدن والبلدان) (أغاني الديار) (ظلال الأيام) (رباعيات علَّمتني الحياة) (مع الشعر أحيا). وتضمَّنت الأعمالُ النثرية ثلاثة عشر دراسةً أو نصًّا، منها: (الوصف والتزويق عند البحتري) (دراسة أدبية عن أرجوزة القلم للأستاذ محمد كُرد علي) (دراسة أدبية بين الزجَل والشعر مع رشيد نخلة) (دراسة عن أمير الشعراء أحمد شوقي) (دراسة عن الشاعر شفيق جبري) (فهرس الطريف والتليد من أدب العرب). ۞۞ ۞ ۞۞ وعلى أن الأستاذ هاني استقرَّ بعيدًا عن ديار العرب، في أوهايو بالولايات المتحدة الأمريكية، لا يزال يعمل بجِدٍّ في التنقيب عمَّا بقيَ من تراث أبيه الأدبي ليخرجَه لأبناء العربية، ويثري به مكتبتنا البلاغية الأدبية. والمتأمِّل فيما أصدر لا يملك إلا أن يُكبرَ جهده الحثيثَ الظاهر، وكأني به قد سكبَ فيه من جمال روحه، ورقَّة طبعه، فأتى على طِراز بديع من الإخراج الفني المشرق! وصدقَ أستاذُنا الكبير أديبُ الصَّحفيين الأستاذ عبد الغني العطري حين وصف شاعرَنا أنور العطَّار في كتابه (حديث العبقريات) بقوله: أنور العطار شاعرُ الطبيعة والوصف الذي ظلم نفسَه وظلمناه.. فقد ظلم نفسَه باختياره العُزلةَ والبعدَ عن أضواء الشُّهرة.. وظلمناه بأن لم نُقبِل على أدبه دراسةً وإذاعةً وتنويهًا.. ولكنَّ هذه العزلةَ التي اختارها الشاعرُ إنما كانت بمِلء إرادته، وصريح رغبته، وقد أبان عن هذا في رباعيته (العُزلة مملكة الأفكار) من ديوانه (رباعيات علمتني الحياة) قال: عَلَّمَتني الحياةُ أن أحذرَ النَّا سَ وأن أسلُكَ الطَّريقَ اعتِزالا غيرَ مُصْغٍ إلى ضَلالِ المضِلِّي نَ، ولا جاعلٍ حديثي جِدالا أتسَلَّى بالصَّمتِ عن لغَطِ الخَلْ قِ، وأفنَى في ذاتِ ربِّي ابتِهالا أملِكُ الكَونَ كلَّهُ في اعتِزالي وأقِي نفسِيَ اللَّجوجَ المُحالا ومن أراد أن يعرفَ مكانة أنور العطار الأدبية والشعرية والإنسانية فليقرأ ما خطَّه صديقُ طفولته، وخِدنُ شبابه، وصَفيُّ دهره، أديبُ الفقهاء الشيخُ علي الطنطاوي فيما قدَّم لديوانه (ظلال الأيام)، وفي مقالته (أنور العطَّار شاعر الحب والألم والطبيعة) المنشورة في كتابه (أعلام من التاريخ) ص157- 172، وفيما نثره عنه في (ذكرياته)، وقد بلغا من ألفة النفس وامتزاج الروح وشدَّة القرب مبلغًا جعل الطنطاوي يصف حالهما أيام عملهما في بغداد بقوله: (كنَّا أنا وأنور نتحدَّث ساعاتٍ عن أيامنا في بغداد؛ أبدأ أنا الكلام فيُكمل هو، ويتكلَّم هو فأُتمُّ أنا. عِشنا حياةً واحدة، كنَّا دائمًا معًا، فمن رآني رآه، ومن رآه رآني، وكانوا يقولون: علي وأنور، وأنور وعلي، وربما خلَطوا فقالوا: علي العطار، وأنور الطنطاوي!). وعبَّر عن هذا الامتزاج الأستاذُ أنور العطار نفسُه، في تعقيب له على مقالة للطنطاوي عنه بعنوان (صورة!)، نشرها في مجلَّة الرسالة عدد رمضان 1355هـ/ 1936م، بقوله: (الأستاذ علي أخي؛ قد تشابهَت حياتانا، وتماثلَت نفسانا، حتى صرتُ أراه أنا، ويراني هو، وحتى أراد أن يصوِّرَني في هذه القطعة فصوَّر فيها نفسَه، فما درَيتُ أنا ولا دَرى هو، ولا دَرى القرَّاء لمن منَّا هذه الصورة!). رحم الله شاعرَنا العبقريَّ أنور العطار الذي رحلَ عن دنيانا بجسَده، وبقيَ صدى شِعره وفنِّه يتردَّد في الآفاق، وقد صحَّ فيه ما قدَّم به قصيدتَه ( الخالدون ) من كلمات قال فيها: (إن الموتَ نهاية، وإنه بداية، وإنه للعبقري حياةٌ وخلود) الخالدونَ جمالُ الأرضِ ما طَلَعُوا والخالدونَ سَنا الآبادِ ما هَمَدُوا في العَبقريَّةِ أحقابٌ لهُم قُشُبٌ وفي البُطولةِ آبادٌ لهُمْ جُدُدُ عاشُوا جمالَ الدُّنا حتَّى إذا نزلَتْ بهِمْ مَناياهُمُ بينَ الوَرى خَلَدُوا كأنَّما يبدَؤُونَ العُمْرَ ثانيةً فإنْ هُمُ لفَظُوا أنفاسَهُم وُلِدُوا ۞۞ ۞ ۞۞ تاريخ ولادة أنور العطَّار: • ذكر الزِّرِكْلِيُّ في ترجمة أنور العطار في (الأعلام) 2/ 29: أنه ولد سنة 1326هـ/ 1908م. • وذكر أستاذُنا العِطري في ترجمته للعطار في كتابيه (عبقريات شامية) ص53، و(حديث العبقريات) ص302: أنه ولد سنة 1913م. • وما ذكره العطري هو الشائعُ في جُلِّ المصادر التي ترجمت له، ومنها: (من هم في العالم العربي- سورية) ص427، و(معجم المؤلفين السوريين) لعبد القادر عيَّاش ص355. • وهذا التاريخ (1913م) هو ما دوَّنه العطار نفسُه بخطِّ يده في سيرته الذاتية، وهو التاريخُ الذي اعتمده ولدُه الأستاذ هاني في ترجمته لأبيه في كلِّ ما أخرج من تراثه. • وذكر الشيخ علي الطنطاوي في كتابه (رجال من التاريخ) ص482، ثم نُقلت المقالة إلى كتابه (أعلام من التاريخ) ص168: أنه ولد عام 1327هـ، ويوافقه عام 1909م، وعبارته: (وُلد أنور في السنة التي وُلدتُّ أنا فيها، سنة 1327هـ). ثم علَّق في الحاشية تعليقًا صريحًا يؤكِّد فيه ما ذكره في المتن، قال: (وقد كبَّره الأستاذُ مؤلف "الأعلام"، وصغَّره الأستاذُ العطري، وميلادُه الحقُّ هو ما قلته). • ووَهَم أستاذُنا العطري رحمه الله في هامش (حديث العبقريات) ص303، فقال: (ذكر صاحبُ "الأعلام" خير الدين الزِّرِكْلي أن الشاعر من مواليد عام 1908م، غير أن صديقَه ورفيقَ عمره المرحوم علي الطنطاوي أكَّد أن العطار من مواليد عام 1913م، وهذا التاريخُ أثبتناه في كتابنا "عبقريات شامية" ونكرِّره اليوم)! كذا قال العطري! وما أكَّده الطنطاوي هو ما نقلتُه لك من أن العطار وُلد في العام الذي وُلد هو فيه، وهو عام 1327هـ ويوافقه 1909م. والراجح عندي قول الطنطاوي، لأسباب: • لأنه ألصَقُ الناس بأنور، وهو أليفه وصفيُّه من يفاعتهما إلى وفاة أنور! حتى إنه قال: (كنت أُبصر كلَّ دقيق وجليل من حياتي وحياة أخي في الصِّغَر وفي الكِبَر، ورفيقي في السَّفَر وفي الحضَر، وأنيسي في المسرَّة وفي الكدَر، أنور). وقد أكَّد الطنطاوي قوله تأكيدًا جازمًا، وردَّ ما سوى ذلك من تواريخ، بما يُستبعَد معه الوهم. • لأن كثيرًا من الحوادث التي ذكرها الشيخُ الطنطاوي في ذكرياته لا يستقيم معها إلا أن يكونَ أنور من مواليد عام 1909م مثله، ومن ذلك عند حديثه في (الذكريات) 2/ 337 عن قصيدة (الشاعر) لأنور العطار قال: (وهذه القصيدةُ منشورة في الجزء السادس من "الحديقة" لخالي محبِّ الدين الخطيب، المطبوع سنة 1346هـ، لمَّا كان عمر أنور وعمري تسع عشرة سنة، وقد نظمها وألقاها قبل ذلك). فإذا كان عمرهما عام 1346هـ تسع عشرة سنة فهما قطعًا من مواليد عام 1327هـ/ 1909م. • لأن الزِّرِكلي جعل أولَ مصادره في كتابة ترجمة أنور العطَّار: (من رسالة خاصَّة كتبَها ابنُه هشام)، ثم ذكر مصادرَ أُخرى وردَ تاريخ ولادة أنور فيها عام 1913م، منها كتابُ سامي الكيَّالي (الأدب العربي المعاصر في سورية) ص404. ولكنَّ الزِّرِكلي ضرب بها عُرضَ الحائط، مُثبتًا تاريخ ولادته سنة 1326هـ/ 1908م، مما يرجِّح أنه التاريخُ الذي كتبَه له ابنُ المترجَم الأستاذ هشام العطار في الرسالة الخاصَّة التي ألمعَ إليها. وهذا التاريخُ على تخطئة الطنطاوي له هو أقربُ من التاريخ الآخَر الذي كتبه أنورُ بيده. وخُلاصة القول: ما رجَح عندي في تاريخ ولادة الأستاذ أنور العطار هو ما أكَّده الشيخُ علي الطنطاوي من أنه عام 1327هـ/ 1909م. أما التاريخُ الذي دوَّنه العطار في سيرته الذاتيَّة بخطِّ يده، أي عام 1913م، فهو فيما يبدو التاريخُ المثبَت في أوراقه الرسمية الثبوتية، على عادة القوم يومئذٍ من تصغير أولادهم؛ لتأخير التحاقهم بالخدمة العسكرية الإلزامية! والله تعالى أعلم. كتبه أبو أحمد المَيداني أيمن بن أحمد ذو الغنى الرياض 14 جُمادى الأولى 1443هـ (18/ 12/ 2021م) أنور العطار في شبابه، وإهداء بخطِّه إلى صديق عمره علي الطنطاوي الأليفان أنور العطار وعلي الطنطاوي
رفع الارتياب في بيان أحكام إجازة القراءة والسماع عن بُعد ومن وراء حجاب لأحمد آل إبراهيم العنقري صدر حديثًا كتاب " بُغية الطلاب في رفع الارتياب في بيان أحكام إجازة القراءة والسماع عن بُعد ومن وراء حجاب ". تأليف: " أحمد بن عبد الرزاق بن محمد آل إبراهيم العنقري ". نشر: " دار خير زاد للنشر والتوزيع ". وهذه الرسالة قيّمة في بابها، تشتمل على مسألة مهمة، ألا وهي (القراءة والسماع عن بُعد ومن وراء ستر وجدار وحجاب) وما يُلحق بها، مبنية على أحاديث صحيحة ثابتة في "الصحيحين" و"السنن" و"الموطأ" و"المسند" من قوله وفعله صلى الله عليه وسلم مصحوبة بفهم الصحابة وأمهات المؤمنين وعملهم رضي الله عنهم أجمعين، معَ ذِكر فَهم التابعين من أهل الحديث والقراء وعملهم القائم على الأدلة منها المذكورة في هذا الكتاب المستنبطة على صحة ذلك. ولا شك في صحة القراءة والسماع أكان للقرآن أو الحديث أو الدعوة إلى الله تعال عن ( بُعد، ومن وراء حجاب ) كعبر مكبرات الصوت، والانترنت، والغرف الصوتية، ووسائل الاتصال كالهاتف، وبرنامج السكايب، وما يلحق بها، وصحة الإجازة والرواية فيها؛ وذلك شريطة أن يكون الصوت واضحًا دون تشويش، مع معرفة صوت الشيخ الذي يقرأ عليه والتأكد من وجوده، ومعرفة صوت الطالب الذي يقرأ كذلك، للأدلة المذكورة منها حديث عائشة، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وعبد الله بن عمر بن الخطاب - رضي الله عنهم أجمعين -، وغير ذلك حن الأحاديث المروية عن الصحابة رضوان الله عليهم المذكورة في ثنايا الدراسة. وهذه الرسالة ألحق بها مؤلفها لطائف مختصرة، وفوائد يسيرة مستتبطة، وسلسلها بسنده عن الأشياخ، متصلة إلى النبي الهادي - صلى الله عليه وسلم -، عن ثلة من أعلام زمانه، ووضع فيها تنبيهات حول مسألة القراءة والسماع عن بعد ومن وراء حجاب. وقد قدم للرسالة فضيلة الشيخ المحدث عبد الله بن عبد الرحمن السعد. وجاءت مباحث الرسالة على النحو التالي: مقدمة المؤلف. الحديث المسلسل بالأولية. خُطبة الكتاب. الحديث الأول: حديث الصحابي الجليل عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه مع ذكر فوائد حديثه وأحكامه. الحديث الثاني: حديث الصحابي الجليل عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه مع ذكر فوائد حديثه وأحكامه. الحديث الثالث: حديث أمنا أم المؤمنين عائشة الصديقة رضي الله عنها مع ذكر فوائد حديثها وأحكامه. الحديث الرابع: حديث أم المؤمنين حفصة بنت عمر بن الخطاب رضي الله عنها مع ذكر فوائد حديثها وأحكامه. الحديث الخامس: حديث أم المؤمنين حفصة بنت عمر بن الخطاب رضي الله عنها مع ذكر فوائد حديثها وأحكامه في مسألة قراءة المرأة على الرجل. الحديث السادس: حديث آخر لأم المؤمنين عائشة الصديقة - رضي الله عنها - مع ذكر فوائد حديثها وأحكامه. الحديث السابع: حديث آخر لأم المؤمنين عائشة الصديقة - رضي الله عنها - مع ذكر فوائد حديثها وأحكامه. الحديث الثامن: حديث آخر لأم المؤمنين عائشة الصديقة - رضي الله عنها - مع ذكر فوائد حديثها وأحكامه. الحديث التاسع: حديث آخر لأم المؤمنين عائشة الصديقة - رضي الله عنها - مع ذكر فوائد حديثها وأحكامه. الحديث العاشر: حديث الصحابي الجليل أبي هريرة عبد الرحمن بن صخر الدوْسِي - رضي الله عنه - مع ذكر فوائد حديثه وأحكامه. الفصل الأول: القراءة والسماع عن بُعد الفصل الثاني: ذكر الشروط التي دلت على صحة إجازة القراءة والسماع عن بُعد ومن وراء حجاب. الفصل الثالث: الرحلة في طلب العلم والقعود في حلق العلم. الفصل الرابع: تنبيهات حول القراءة والسماع عن بُعد ومن وراء حجاب. الفصل الخامس: شرح أبيات الحافظ العراقي في ألفيته المسماة (التبصرة والتذكرة) الفصل السادس. ملحق. فَصْلٌ: بِذِكْرِ أَحْكَام ِالسمَاعِ الَّذِي تَصِح بِه الرِّوَايَة. فَصْلٌ: في بيان عدم صحة سماع عدَّةِ مجالس مباشرة في وقتٍ واحد بِنيّة السماع والرواية. نص الإجازة. الطبقةُ الثانية. الطبقة الثالثة. • والمؤلف هو الشيخ: أحمد بن عبد الرزاق بن الشيخ محمد بن زيد بن إبراهيم بن الشيخ عبد الوهاب آل إبراهيم العنقري التميمي (من آل إبراهيم الدورة الكويت) وكان جده الشيخ عبد الوهاب آل ابراهيم أكبر مالك للسفن الشراعية في الكويت. وتخصص الشيخ في علوم القرآن والقراءات العشر. • طلب علم الحديث على الشيخ العلامة المحدث الشيخ عبد الله السعد.. وأجازه بالكتب الستة وهي (البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه) وطلب الشيخ أحمد آل إبراهيم علم الفقه والعقيدة على الشيخ الفقيه إبراهيم التركي وقد حضر الشيخ أحمد خمس سنوات متواصلة عند العلامة الشيخ عبد الرحمن البراك, وقد تعلم منه علم العقيدة والتوحيد. • يحفظ الشاطبية وهي 1073 بيت ويحفظ المقدمة الجزرية بسندها وغيرها. • باحث في الأنساب ... وله بحوث ومقالات في ذلك. • له مجلس لتعليم علوم القرآن ودروس وهو مستقر حاليًا بالرياض. • من مؤلفاته: "الأربعون القرآنية"، و"الأربعين على خطى أمهات المؤمنين".
كتاب (لقطُ الدُّرَرِ من خواتيم طوالِ السُّوَر) نبذة وتعريف صدر هذا الكتاب مؤخرًا في بيروت عن دار الغوثاني للدراسات القرآنية، وهو دراسة قرآنية علمية. والكتاب يقع في 280 صفحة قياس 17*24 سم. المؤلف: عبدالستار المرسومي / العراق. الطبعة: الأولى، 2022م. الرقم الدولي الموحد للكتاب ردمك هو ISBN: 9786057484925 موضوع الكتاب: علوم القرآن الكريم. وتأتي أهمية هذا الكتاب في كونه دراسة قرآنية أصولية تنبثق من فكرة جديدة من ناحية العنوان والمضمون، تتناول خواتيم السُّور الطوال في القرآن الكريم؛ لأن الخواتيم بشكلها العام تقرر مآلات الأمور، واستنبط الكتاب ما في هذه الخواتيم من أسرارٍ ومعانٍ وإشاراتٍ وهداياتٍ؛ تلفت النظر من حسنها، وتقرع الأسماع من حبكتها وفحواها، وهي تستحق أن نسميها دُررًا؛ لأنها اشتملت على مواضيع في كليات الدين وأصوله؛ كالهداية والإيمان بالله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، والمؤمنين والمتقين، والكفر والكافرين، ويوم القيامة والقرآن، والعرش وأهل الكتاب، وقصة عيسى وأمه مريم عليهما السلام، والصلاة والشرك، والملائكة، واشتملت على أمور شرعية هامة؛ كالأذكار والخشوع، والصبر والمرابطة، وبعض أحكام المواريث والتكليف الشرعي وغيرها، وقد سعى الكتاب بالبحث والتفكر والتَّدبر والجدِّ والاجتهاد؛ لالتقاط هذه الدُّرر، وكشف مضمونها، وشرح مقاصدها؛ لتكون زادًا ومعينًا للقارئ أو الباحث. ويمتاز الكتاب بما يأتي: 1- فكرة الكتاب جديدة من حيث العنوان والمضمون. 2- يخدم شريحة واسعة من الناس، فهو نافع لشرائح مختلفة من الناس؛ ومنهم: أ– الدعاة والخطباء؛ لأن كلَّ فصل من فصول الكتاب يصلح أن يكون درسًا أو مجموعة من الدروس، أو خطبة أو مجموعة من الخطب العلمية المتسلسلة. ب- الأكاديميون؛ فالكتاب فيه من المادة العلمية والمنقحة ما يصلح لأن يكون مرجعًا علميًّا للبحوث والدراسات للأكاديميين. ج- طلاب العلم. د- المثقفين. 3- متن الكتاب اعتمد الرصانة والأمانة العلمية من خلال الاعتماد على الأدلة الصحيحة. والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
مختصر المجروحين من المحدثين لشمس الدين البعلي الحنبلي صدر حديثًا كتاب " مختصر المجروحين من المحدثين " لابن حبان، لشمس الدين أبي عبد الله محمد بن أبي الفتح البعلي الحنبلي (ت 709 هـ) ، تحقيق: د. "فيصل بن إبراهيم السويدي" ود. " محمد سعيد عبد ربه "، نشر " مركز اللؤلؤة للنشر والتوزيع ". وهذا الكتاب اختصر فيه الإمام شمس الدين البعلي الحنبلي كتاب "المجروحين" لابن حبان، وذكر فيه عصارة رأي ابن حبان في الراوي دون الخوض في الأسانيد والروايات، مع ذكر شيء من كلام الأئمة في الرواة بحيث لا تتجاوز الترجمة الواحدة أسطرًا قليلة. فهذا الكتاب هو امتداد لسلسلة كتب الجرح والتعديل التي أولت عناية هامة في أول شرطي صحة الحديث، وهما الضبط والعدالة. فإن المراد الأسمى من ذلك، هو ذب الكذب عن النبي - صلى الله عليه وسلم. ويعد كتاب "المجروحين" لابن حبان من كتب التراجم والجرح والتعديل ذات المكانة العلمية الجليلة والفائدة الكبيرة، كما ولمصنفه المكانة الرفيعة؛ فهو من علماء الحديث الأفذاذ؛ لتبحره بهذا العلم، ونقده للرواة، وأسلوبه ومنهجه الخاص، وأحكامه واستنباطاته في مصنفاته العلمية الكثيرة والجليلة. وقد قدَّم "ابن حبان" لكتابه بمقدمة بيَّن فيها موضوع الكتاب فقال: ".. وإني ذاكرٌ ضعفاء المحدثين وأضداد العدول من الماضين ممن أطلق أئمتنا عليهم القدح، وصحَّ عندنا فيهم الجرح، وأذكر السبب الذي من أجله جُرح، والعلة التي بها قُدِح، ليرفض سلوك الاعوجاج بالقول بأخبارهم عند الاحتجاج..". وقد قدم له بمقدمة واسعة، فرتب أسماء من ترجم لهم من الرواة على حروف المعجم، فذكر اسمه ونسبه ونسبته وكنيته، وبعض شيوخه وتلاميذه، وأحيانًا وفاته. وذَكرَ ألفاظ وعبارات الجرح بحق كل راوي، بنقل كلام غيره من علماء الجرح والتعديل ممن سبقه، فإذا لم يجد حكمًا فيه فإنه يسبر رواياته ثم يحكم عليهم بحكمه هو، ذاكرًا سبب الحكم. ويعد ابن حبان من الأئمة المتشددين في الحكم على الرجال. ثم يختم ذلك بعدد من روايات الراوي، والتي طُعِنَ به لأجلها. واعتمد على قواعد واضحة ومحددة في الحكم على الرجال، فكان يسبر ويمحص ويدقق رواياتهم قبل الحكم، وقسَّمَ أنواع جرح الرواة إلى عشرين قسمًا. ونجد أنَّ الأئمة الذين جاؤوا بعد ابن حبان قد اعتمدوا كلامه واستفادوا منه، ونقلوا عنه، حتى لا يكاد يخلو كتاب من كتب الجرح والتعديل إلا وفيه نقلٌ عن هذا الكتاب. كما أنَّ هذا الكتاب يعتبر موسوعة ضخمة في أسماء رواة الحديث المُتكلَّم فيهم، سواء كان الكلام مسلَّمًا أو غير مسلَّم. وقد قام المحققان بتحقيق النص على نسخه الخطية المعتمدة، حيث يطبع لأول مرة مقابلًا على ثلاث نسخ خطية، وكان الجزء الأول من الكتاب حققه د. "فيصل السويدي" ونال به درجة الدكتوراه، وساعده في تحقيق الجزء الثاني د. "محمد سعيد" بحيث تم الكتاب محققًا بشكل علمي رصين. ومُختصِر المتن هو "محمد بن أبي الفتح بن أبي الفضل البعلي"، أبو عبد الله، شمس الدين: فقيه حنبلي، ومحدث، ولغويّ. ولد ونشأ في بعلبكّ ونزل بدمشق، وزار طرابلس والقدس، وتوفي بالقاهرة. له ( المطلع على أبواب المقنع ) في فروع الحنابلة، و( شرح ألفية ابن مالك ) في النحو، و( المثلث بمعنى واحد من الأسماء والأفعال )، و( الفاخر ) في شرح الجمل.
من منطلقات العلاقات الشرق والغرب (الصور النمطية) ومن محددات العلاقة بين الشرق والغرب ذلك الإنتاج الفني المتمثل في التقارير والأفلام السينمائية التي دأبت على تصوير العرب (المسلمين) صورًا لا تليق بالإنسان والحضارة، سواء من النواحي غير الأخلاقية، أم من تصوير العرب من خلال مواقفهم السياسية وتعاملهم معها بالعنف والتخريب والهدم "الإرهاب"؛ فالمسلمون في هذه الأفلام إما شهوانيون يشربون الخمر ويتعاطون المخدِّرات ويرقصون ويعاشرون الحريم ويكثرون من الجواري والقيان، وإما غشاشون مدلسون محتالون ماكرون في التعامل مع الرحالة الأجانب والمستشرقين ومع المنصرين والمستكشفين والبعثات الدبلوماسية، وإما غواة يعشقون التفجير والخطف والاغتصاب والإهانات الأخرى. وهذه الصورة النمطية في التقارير المرئية والسينما والمسلسلات الغربية إنما جاءت بإيحاء من المحدد السابق المتعلق بالاستشراق، وربما اليهود، على اعتبار أن هناك اتفاقًا بين كثير من المعنيين على بروز سيطرة اليهودية على الفن عمومًا، وعلى المدن التمثيلية بخاصة، مثل هوليوود في لوس أنجلوس بالولايات المتحدة، بالإضافة إلى سيطرتهم على شبكات القنوات التلفزيونية، وبالتالي القنوات الفضائية التي ملأت الأرض بما تبثه من أفكار ومشاهد، بينما اكتفت كثير من الفضائيات العربية باللهو والرياضة. وقد نوقشت هذه الظاهرة في تصوير المسلمين هذه الصور من مجموعة من المهتمين بتحسين الصورة العربية والمسلمة أمام الآخرين، من أمثال الدكتور جاك جي.شاهين، [1] والدكتور عبدالقادر طاش - رحمه الله تعالى - الذي كتب عن الصورة النمطية للإسلام والعرب في مرآة الإعلام الغربي [2] ، وإدوارد سعيد وزينب عبدالعزيز وغيرهم [3] ، في كتب معلومة وبحوث ودراسات علمية [4] ، ومقالات مبثوثة في الصحافة الثقافية والدوريات العلمية [5] ، فيرجع إليها في مظانها لمن أراد المزيد من البحث والدراسة. وقد يقال: إن العرب قد ساعدوا على ترسيخ هذه الصورة النمطية في الإعلام الغربي من خلال التراث الأدبي والفني العربي المأخوذ من ألف ليلة وليلة، وكتاب الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني، ومجالس بعض الخلفاء المزعومة، من أمثال مجالس الخليفة العباسي هارون الرشيد وأبنائه وأحفاده. والمشكلة هنا أننا أخذنا صورة الخليفة هارون الرشيد هذه من الغرب عن طريق الاستشراق، ثم عن الإعلام الغربي، فهارون الرشيد ذو المواقف التاريخية، الذي كان يحج عامًا ويغزو عامًا تراه - رحمه الله - عند بعضنا مثالًا للغَواية، حتى ذكر بعض المستشرقين أنه قد فصل ثوبين، ثوبًا يدخل رأسين، رأسه ورأس جعفر البرمكي، وذلك من ولعه وحبه بجعفر، ويعلق المستشرق على هذا الخبر بأنه يعطي صورة لمدى الغَواية التي وصل إليها الخلفاء المسلمون تعميمًا،ومع أن هذا الخبر مكذوب على خليفة واحد، فإنه أيضًا يسري عند هؤلاء على بقية خلفاء المسلمين. وكما اتُّهِمَ الخليفة العباسي في عِرضه - رحمه الله - يتهم بشهوانيته، وأنه يتكئ على النهود العارية للجواري الصافات على الدرج وهو يرتقيه ليهجع في منامه! وهذا الاتهام ليس لآخر خلفاء بني أمية الذين أسهموا في انتقال الخلافة إلى بني العباس، مع أنه لا يثبت، وليس اتهامًا لآخر خلفاء بني العباس الذين طردهم المغول فأسهموا في سقوط الخلافة، مع أنه لا يثبت كذلك، وإنما هو اتهام لخليفة يُعَدُّ عصرُه عصرَ ازدهار الحضارة الإسلامية. يأخذ الإعلام الغربي هذه الآثار ويصورها للعامة بعد أن يزيد عليها، ليقول للغربيين خاصة: هذا هو الدين الذي سيغزوكم، وهؤلاء هم الحكام الذين يسعون إلى الوصول إليكم،ولعل من آخر هذه الحملات وليس آخرها: فيلمًا خرج أخيرًا بعنوان "المأخوذة Taken"، تختطف فيه فتاة أمريكية في باريس عن طريق عصابة ألبانية، وينتهي بها المقامُ في أحضان شخصية عربية تشتري العذارى! فيُنقذها والدها، ويقتل كل من يقف في طريقه، بما فيهم تلك الشخصية العربية التي ظهرت في الفيلم بصورة شهوانية مقززة! إذا ما فرغ الإعلام الغربي من التراث، عرَّج على الواقع من خلال حوادث موجودة، ولكنها منعزلة هناك، تؤيد أن يبنى عليها قصصٌ وروايات هي مجال رحب للتمثيل، كاختطاف الطائرات والبواخر وتفجير الملاعب والمحافل العامة وأخذ الرهائن، وينسج عليها روايات، ويطعمها بمشاهد تقرب من الواقع العربي ومن المجتمع العربي، ليقول للعامة من سذج الغربيين: هؤلاء هم الناس هناك في الشرق، يملي عليهم دينهم هذه الأعمال الشهوانية والتخريبية، ويَعدهم جزاءً لها الجنة؛ لأنهم مجاهدون في سبيل الله،وهكذا تدخل المصطلحات الإسلامية هذا العبث في المدلول، فيحصل التشويه، وتعمم الصورة على الماضي والواقع والتطلعات. إذا كانت هذه الصورة النمطية المتمثلة في مجموعة المشاهد قد بدأت من السينما، فإنها انطلقت إلى بقية وسائل الإعلام المسموعة والمقروءة والمرئية بالمشهد أو المقالة أو الصورة الهزلية "الكاريكاتير" في صحف واسعة الانتشار، وفي صحف غربية محلية لم يسلم منها سيد المرسلين محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم [6] . عندما فكرت المملكة العربية السعودية في استجلاب جبال الجليد للحصول على ماء حالٍ "محلًّى" قابل للشرب، صُوِّرت هذه الفكرة في إحدى الصحف المحلية (مدينة جينسفيل بولاية فلوريدا، 1397هـ/ 1997م) بجمل يجر جبلًا جليديًّا، ومع مراحل جلب هذا الجليد عن طريق جره بالجمل يذوب الجبل تدريجيًّا عند مروره على خط الاستواء، حتى إذا وصل إلى محطته الأخيرة لم يبقَ منه إلا مكعب ثلج يضعه العربي، بلباسه العربي، في كأس من الخمر فيشربه! هذه صورة واحدة أو مشهد واحد من المشاهد التي انتقلت بالصورة النمطية إلى بقية وسائل الإعلام الأخرى،والصور كثيرة جدًّا، أضحت مجالًا مؤثرًا وفاعلًا في تحديد العلاقة مع الغرب؛ إذ إنها لعبت لعبتها في العقلية الغربية التي آلت في مفهومها عن المسلمين بهذه الصورة النمطية إلى رفض قيام علاقة جادة بين الشرق/ المسلمين والغرب؛ لما يتوقع من التأثير الإسلامي على الحياة الغربية تأثيرًا سلبيًّا، إذا كان هذا هو الإسلام وإذا كان هؤلاء هم المسلمين،كما أنها أثرت في المجال الإسلامي تجاه الغرب الذي آمن بهذه الدعاية، وجعلها هي الوسيلة التي يحكم بها على أناسٍ هم على النقيض من ذلك تمامًا. رغم محاولات تصحيح الصورة بالجهود العلمية والثقافية من خلال الكتاب والمقالة والمحاضرة والحوار، فإن الطريق طويل للتصحيح، لعله يبدأ من داخل المسلمين أنفسهم، الذين لا نقول: إنها تتحقق فيهم الصورة النمطية عنهم، ولكنهم - من دون شك - أسهموا في بروز هذه الصورة النمطية، ولو بنسبة ضئيلة جدًّا، فلو لم يجد الغرب أرضية يتكئ عليها، لما وُفِّق كثيرًا في هذا التشويه للإسلام والمسلمين،ومهما كان الطريق طويلًا نحو التصحيح، وبالتالي التأثير، فإنه يبدأ بالخطوة الأولى، ولعله قد بدأ. [1] انظر: جاك جي . شاهين ، الصورة النمطية للعرب في الأفلام الأمريكية - بالإنجليزية. [2] انظر: عبدالقادر طاش ، الصورة النمطية للإسلام والعرب في مرآة الإعلام الغربي - الرياض: الدائرة للإعلام، 1409هـ. [3] انظر: سوزانا طربوش ، صورة العرب في الغرب: حلقة نقاشية عقدت في أكسفورد 7 - 9 حزيران 1998م/ ترجمة طلال فندي، مراجعة عواد علي - عمان: المعهد الملكي للدراسات الدينية، 1998م - ص 79. [4] انظر رسالة الدكتور علي بن زهير القحطاني حول صورة العرب والإسلام والمسلمين في صحيفتي الواشنطن بوست والنيو يورك تايمز، لما بعد 11 سبتمبر ، باللغة الإنجليزية The Post - September 11 Potrayal of Arabs ، Islam ، And Muslims in The Washington Post and The New Yorok Times: A Comattive Content Analysis Study - ، Washington ، D ، C ، Howard Univesit ، 2002 . [5] انظر الوقفة ذات العنوان: الاستشراق، تلك التي تتحدث عن إدوارد سعيد من خلال كتابه: خارج المكان. [6] انظر: علي بن إبراهيم النملة ، الاستشراق والرسول صلى الله عليه وسلم: مقدمة لنقد وراقي "بيبليوجرافي" - مجلة الجامعة الإسلامية - ع 147 مج 42 (1/ 1430هـ - ديسمبر 2008م) - ص 168 - 203.
الملكوت رحلة في أسرار الوجود والزوال والبقاء والفناء لأحمد بن صالح الطويان صدر حديثًا كتاب "الملكوت رحلة في أسرار الوجود والزوال والبقاء والفناء"، تأليف: "أحمد بن صالح بن إبراهيم الطويان"، نشر: "دار الحضارة للنشر والتوزيع". وهذا الكتاب يأخذنا فيه كاتبه بين صفحاته في رحلة سريعة خاطفة من بدء الخلق إلى الجنة أم النار، واستقى الكاتب فكرته من حديث حذيفة بن اليمان وعمرو بن أخطب أبو زيد الأنصاري قال: "صَلَّى بنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ الفَجْرَ، وَصَعِدَ المِنْبَرَ فَخَطَبَنَا حتَّى حَضَرَتِ الظُّهْرُ، فَنَزَلَ فَصَلَّى، ثُمَّ صَعِدَ المِنْبَرَ، فَخَطَبَنَا حتَّى حَضَرَتِ العَصْرُ، ثُمَّ نَزَلَ فَصَلَّى، ثُمَّ صَعِدَ المِنْبَرَ، فَخَطَبَنَا حتَّى غَرَبَتِ الشَّمْسُ، فأخْبَرَنَا بما كانَ وَبِما هو كَائِنٌ فأعْلَمُنَا أَحْفَظُنَا". فالكلان عن قصة رحلة أسرار الوجود والزوال والبقاء والفناء سنة نبوية، أخبر بها النبي - صلى الله عليه وسلم -، لذا كتب الكاتب هذه القصة من خبر القرآن والسنة؛ للعظة والاعتبار، اجتهد في تحريرها، وابتعد عن التفصيل الممل، وعن الاختصار المخل، وحرص على وضوح العبارة، وتقريب المعاني في روايته تلك الأخبار. وجاءت مباحث تلك الرحلة على النحو التالي: • مقدمة. • العلي الكبير. • كان الله ولم يكن شيء قبله. • خلق الملائكة. • خلق الجن. • الجن هم أول من سكن الأرض. • أسرار السماء. • أسرار الأرض. • وتبكي الأرض عند فقد المؤمن. • وتشهد الأرض لمن أذن عليها. • خلق آدم عليه السلام. • نزول آدم إلى الأرض. • وفاة آدم عليه السلام. • خلق سلالة آدم. • مرحلة الطفولة. • فطرة الإنسان وغرائزه. • غريزة التدين. • غريزة الشهوة. • غريزة التملك. • غريزة الحياة. • طبيعة الإنسان. • أحوال النفس البشرية. • حال الغضب والرضا. • حال الفرح والحزن. • حال الحب والكره. • حال اليسر والعسر. • حال الفقر والغنى. • حال المرض والصحة. • حال القوة والضعف. • الإنسان بين الأمل والأجل والعمل. • حال الإنسان مع الهداية الربانية. • نهاية الإنسان من هذه الحياة. • حقيقة الموت. • المشروع لمن حضر عند المحتضر. • والمشروع لمن حضر. • حياة البرزخ. • فتنة القبر. • نعيم القبر وعذابه. • ومن المنجيات من عذاب القبر. • ومن المنجيات من فتنة القبر. • تزاور أهل القبور. • الساعة. • علامات الساعة الصغرى. • من العلامات الصغرى. • علامات الساعة الكبرى. • خروج المهدي. • صفة المهدي. • نسبه ونشأته. • أول ظهور المهدي وبيعته. • الملحمة الكبرى بقيادته. • خلافة المهدي. • قتال الدجال واليهود. • خروج الدجال. • تسميته بالمسيح الدجال. • وقت ظهوره. • حالة الناس عند خروجه. • صفاته الخلقية والخُلقية. • من أين يخرج؟ • مدة بقائه في الأرض. • أول ادعائه. • فتنة الدجال. • حماية مكة والمدينة من الدجال. • أشد الناس على الدجال. • أتباع الدجال. • ما يشرع للمؤمن تجاه فتنة المسيح الدجال. • من أدرك الدجال فيشرع له: • قتل الدجال ونهاية أمره. • حديث الجساسة. • نزول المسيح آخر الزمان. • وقت نزوله وكيفية نزوله وأين ينزل؟ • المسيح عيسى ابن مريم ويأجوج ومأجوج. • ظهور البركة في الأرض: • دين المسيح عيسى ابن مريم إذا نزل آخر الزمان. • مدة مكث المسيح وطيب أيامه. • وفاة المسيح عليه السلام. • خروج يأجوج ومأجوج. • صفات يأجوج ومأجوج. • وقت خروجهم. • الحياة بعد يأجوج ومأجوج. • خروج رجل من قحطان. • خروج الدابة. • تكتب على المؤمن مؤمن وعلى الكافر كافر. • خروج الدابة يقطع التوبة. • هدم الكعبة. • رفع القرآن من الصدور والسطور. • الدخان. • طلوع الشمس من مغربها. • بعث الريح الطيبة لقبض أرواح المؤمنين. • حال الناس بعد قيض أرواح المؤمنين. • وقوع الخسوف الثلاث. • النار التي تحشر الناس إلى المحشر. • قيام الساعة. • النفخ في الصور. • ما بين النفختين. • نزول المطر. • نفخة البعث. • أول من ينشق عنه القبر نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -. • يبعثون على أعمالهم. • أرض المحشر. • أول من يكسى يوم القيامة. • انتظار الحساب ودنو الشمس. • عظم هذا اليوم. • أحوال الكون يوم القيامة. • في ظل الله تعالى. • شفاعة نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - لأهل الموقف. • مجئ رب العالمين لفصل القضاء. • أول ما ينظر من عمل العبد. • اقتصاص الخلق من بعضهم. • الوزن يوم القيامة. • مناجاة الله عبده. • إعطاء العباد كتبهم. • ورود الحوض. • تبديل الأرض والسموات. • الصراط على متن جهنم. • ما يكون على الصراط. • القنطرة. • شفاعة النبي - صلى الله عليه وسلم - لأهل الجنة بدخولها. • أول الناس دخولًا الجنة. • صفات أول زمرة يدخلون الجنة وصفات أهلها. • أول طعام أهل الجنة. • شفاعة النبي عليه الصلاة والسلام. • شفاعة أهل الجنة في إخوانهم من العصاة. • صفات أهل النار. • من عذابهم لفح النار لوجوهم. • ومن عذاب النار أن النار تحيط بهم من كل جانب. • ومن عذاب النار أنهم يسحبون على وجوههم. • ومن عذاب النار تصفيدهم بالأغلال. • ومن عذاب النار أنهم يضربون بمقامع من حديد. • ومن عذاب النار السموم والظل من يحموم. • النار تدعو لك إذا استجرت منها؟ • خاتمة نسأل الله حسنها. والمؤلف د. " أحمد بن صالح بن إبراهيم الطويان " له العديد من التحقيقات والرسائل العلمية، ومن مصنفاته: • "كيف تعامل النبي صلى الله عليه وسلم مع الأخطاء". • تيسير التفسير "عرض مختصر لمعاني القرآن الكريم". • "مختصر سيرة الرسول للشيخ عبدالله بن محمد بن عبدالوهاب". • "الأجوبة الجلية في الأحكام الحنبلية". • "حاشية الدروس المهمة لعامة الأمة: لسماحة العلامة عبدالعزيز بن عبدالله بن عبدالرحمن ابن باز". • "واحد". • "دليل المعتمر". • "الدرر الحسان في أحاديث ومواعظ رمضان". • "الطهور شطر الإيمان". • "عمدة الطالب لنيل المآرب" تأليف منصور بن يونس البهوتي؛ تحقيق أحمد بن صالح إبراهيم الطويان. • "شروط الصلاة للشيخ محمدبن عبدالوهاب"؛ عني بها أحمد بن صالح الطويان.
وفاة أبي طالب قال عليه الصلاة والسلام: (( ما نالت مني قريش ما أكرهه حتى مات أبو طالب ))، مِن هذا يتبين مدى وقوف أبي طالب إلى جانب النبي صلى الله عليه وسلم، فكان يعينه ويقف معه بقوة ضد إيذاء قريش. كانت وفاة أبي طالب قبل الهجرة بثلاث سنين، هكذا ذكر ابن إسحاق، وبفقده خسر النبي صلى الله عليه وسلم عضدًا ونصيرًا، وتجرأ كفار قريش على إيذائه، فقد نثر أحد سفهاء قريش التراب على رأسه وهو ساجد، ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بيته والتراب على رأسه، فقامت إحدى بناته تغسل عنه التراب وهي تبكي، فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم وجلة خائفة مما حدث أشفق عليها وطمأنها بكلماتها: ((لا تبكي يا بنيةُ؛ فإن الله مانع أباك)). كما رُوي أن بعض الأشقياء كان يطرح في بُرْمَته - القِدر - الأذى ليلوث طعامه، فكان يخرجه على عود ثم يقول: (( يا بني عبد مناف، أي جوار هذا؟ ))، ثم يلقيه في الطريق، ويروي ابن إسحاق: أنه لما اشتد وجع أبي طالب قالت قريش بعضها لبعض: انطلقوا بنا إلى أبي طالب فليأخذ لنا على ابن أخيه وليعطه منا؛ فإنا والله ما نأمن أن يبتزونا أمرنا، فمشوا لأبي طالب وكلموه، فقالوا: يا أبا طالب، إنك منا حيث قد علمت، وقد حضرك ما ترى، وتخوفنا عليك، وقد علمت الذي بيننا وبين ابن أخيك، فادعه فخذ لنا منه، وخذ له منا؛ ليكف عنا ونكف عنه، وليدعنا وديننا، ولندعه ودينه، فبعث إليه أبو طالب فجاءه فقال: يا ابن أخي، هؤلاء أشراف قومك قد اجتمعوا إليك ليعطوك وليأخذوا منك، فقال عليه الصلاة والسلام: ((يا عم، كلمة واحدة تعطونها تملكون بها العرب، وتدين لكم بها العجم))، فقال أبو جهل: وأبيك وعشر كلمات، قال: ((تقولون: لا إله إلا الله، وتخلعون ما تعبدون من دونه))، فصفقوا بأيديهم، ثم قالوا: يا محمد، أتريد أن تجعل الآلهة إلهًا واحدًا؟ إن أمرك لعجب! لقد صورت سورة "ص" هذا الموقف خير تصوير: ﴿ ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ * بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ * كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ * وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ * أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ * وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ ﴾ [ص: 1 - 6]، فاتفقوا على التمسك بدين آبائهم حتى يحكم الله بينهم وبينه، ثم تفرقوا، فقال أبو طالب: والله يا بن أخي، ما رأيتك سألتهم شططًا، فطمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بإسلام عمه، فقال: (( أي عم، فأنت فقلها، أستحل لك بها الشفاعة يوم القيامة ))، فقال أبو طالب: يا ابن أخي، والله لولا مخافة السبة عليك وعلى بني أبيك من بعدي وأن تظن قريش أني إنما قلتها جزعًا من الموت لقلتها، لا أقولها إلا لأسرك بها، وقبل أن يلفظ أنفاسه رآه العباس يحرك شفتيه فأصغى إليه، فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: يا بن أخي، لقد قال أخي الكلمة التي أمرته أن يقولها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لم أسمع))، ويستدل الشيعة بقول العباس بأن أبا طالب مات مسلمًا، وفي رواية ابن المسيب: أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على أبي طالب في مرض وفاته وعنده أبو جهل فقال: (( أي عم، قل: لا إله إلا الله، كلمةً أحاج لك بها عند الله ))، فقال أبو جهل وعبدالله بن أبي أمية: يا أبا طالب، أترغب عن ملة عبدالمطلب؟ فلم يزالا يكلماه حتى قال آخر ما كلمهم به: على ملة عبدالمطلب، فحزن النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال: (( لأستغفرن لك ما لم أُنْهَ عنك ))، لكن نزل من القُرْآن بهذا الشأن: ﴿ إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ ﴾ [القصص: 56]، وقال تعالى: ﴿ مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ﴾ [التوبة: 113]. وفي صحيح مسلم: أن العباس قال للنبي صلى الله عليه وسلم: ما أغنيت عن عمك؛ فإنه كان يحوطك ويغضب لك؟ قال: (( هو في ضحضاح من نار، ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل ))، وعن أبي سعيد: أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم ذُكر عنده عمه، فقال: (( لعله تنفعه شفاعتي يوم القيامة، فيُجعَلَ في ضحضاح من النار يبلغ كعبيه، يغلي منه دماغه ))، وعن ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (( أهون أهل النار عذابًا أبو طالب، منتعل نعلين من نار، يغلي منهما دماغه )).
المسلمون ومواجهة أزمات العصر في زحام هـذه الأيام ما حالنا كمسلمين؟ إن أكثر من مليارَيْ مسلمٍ موزَّعين على دول العالم يُواجهون أيامًا من تاريخهم أرى أنها عصيبة؛ فأعداء الإسلام يعلنون عداوتهم جهارًا نهارًا حينًا، ويواربون أحيانًا بنيتهم تجاه الإسلام، سواء صرَّحوا أو لمَّحوا، فإن أعمالهم تُعلن عمَّا يُبيِّتُون! إنهم يريدون القضاء على الإسلام، وقد رسموا الخطط ونفَّذوها. وأيامنا الماضية والحالية خيرُ شاهدٍ بمظاهر المحنة وأحداثها الكثيرة يومًا بعد يوم، يريدون ضياع أصولنا من كتاب وسُنَّة وتاريخ مجيد، والعولمة تريدنا بلا مضمون بمحو شرائعنا وسُنَّتنا بمعونة كُتَّاب من بني جلدتنا ليسوا على طريق الصواب، أو إعلاميين مُبغضين لكتاب الله وسُنَّة رسوله، وبقليل من التفكُّر الحر، فما موقفنا كمسلمين مما يحدث ويُحاك ضد الإسلام في عصر الإنترنت والمحمول والتكنولوجيا الذي تطوَّرت فيه الحروب، فأصبحت حروبًا بدون سلاح، وحروبًا بالفقر والمرض والجهل، وبها كل شيء، وأصبح مَن يكرهون الإسلام أكثرَ جراءة عليه وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم، وأضْحَوا أكثرَ وقاحةً؛ بل واضح أنهم أصبحوا أكثرَ استعدادًا لهدم أُمَّتِنا وإعادة بناء أنقاضهم على أنقاضنا، ويجب علينا كمسلمين أولًا معرفة ديننا وربنا ورسولنا، وما علاقاتنا بإسلامنا، وما هو المطلوب مِنَّا لديننا ونُصْرته. فالمسلم لديه يقين أنَّ له ربًّا واحدًا أحدًا فردًا صمدًا، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوًا أحد، وأنه سبحانه ليس كمثله شيء، وهو السميع العليم، والمسلم دائم الاتصال والذكر لربِّه، ويسمع ويطيع كل أوامره سبحانه، ويسلم بكل أوامره وينتهي عن كل نواهيه، وكما أمره سبحانه المسلم يتعاون ويتحابُّ مع إخوانه في العقيدة في كل العبادات والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويجتهد أن يكون من حماة البناء المتميِّز للمجتمع بأن يجعل الدنيا خادمةً للدين، وأسباب الارتقاء كلها في يديه وبين ضلوعه لإعلاء لا إله إلا الله محمد رسول الله، وهو يعمل على تأسيس مجتمع يلتزم بكل أسس وقِيَم الإسلام، فلم يَعُدْ باستطاعة المسلم العيش في عصر العولمة؛ لأنه لم تعُد قيمة للقدرات العقلية واستخدامها بصورة تجعله متفوقًا بحسن استخدامها مع طاقته الجسدية، رغمًا عن أن الرؤية الإسلامية أنه يجب العمل على تكوين المسلم العلمي، والمجتمع العلمي، وذلك لبلوغ درجة اليقين الإيماني، فالعلم والتفكير العلمي هـما دعامتا الإيمان، وبرهانه الساطع، وحين يشيع العلم وينتشر، تنكشف المعجزات الإيمانية في الآفاق والأنفس، كما وعد الله تعالى: ﴿ سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ﴾ [فصلت: 53] ؛ بل إن الإشارة الواضحة إلى أن المقصود بالعلماء الذين يخشون الله ليس فقط علماء الدين؛ بل معهم المختصون بالعلوم الطبيعية؛ كعلم النبات والجيولوجيا والطب وعلم الأحياء، والعلوم الإنسانية، الذين يُديمون البحث والنظر في عناصر الكون، وظواهر الاجتماع، وحركة التاريخ، فالآية التي أثبتت صفة الخشية للعلماء، جاءت بعد تقديم لمظاهر الكون وعناصر الوجود الحي القائم : ﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ * وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ ﴾ [فاطر: 27، 28]. إن آيات الآفاق والنفس هـي هـذه المعجزة المستمرة التي لا تتوقف لحظة واحدة عن لفت العقول والأبصار والأسماع إلى العلاقة المتبادلة المستمرة، وإلى التطابق الكامل بين آيات الكتاب التي جاء بها الوحي، وآيات الآفاق والأنفس التي يكتشفها العلم في كل يوم، والقرآن لا تخلو صفحة من صفحاته من الحثِّ على تتبُّع مظاهر هـذه المعجزة العلمية في السموات، وفي الأرض، وفي النفس الإنسانية، وفي مفردات الخلق كلها، والقرآن لا يوجه العقل إلى غيب لا يقع تحت أسماعنا وأبصارنا وعقولنا؛ ولكن الغيب الذي يوجه الإسلام إليه هـو كائن موجود لم يأتنا تأويله بعد، وحين يأتي تأويله- أي: بروزه إلى عالم الحس- فسوف نراه ونُعايشه، وما الكهرباء والجاذبية والطاقة الذرية والطاقة الهيدروجينية، وتطبيقات البثِّ التلفزيوني، والاتصالات عبر القارات، والتلكس، والكمبيوتر، وأمثالها إلا محسوسات كانت في عالم الغيب، وسوف يتوالى انتقال المغيبات إلى عالم الحس، حتى يرى الإنسان كل ما وعد به الرسول وجاءت به الرسالة: ﴿ هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ ﴾ [الأعراف: 53] . لقد شرعت التربية الإسلامية في عصور الازدهار في تنمية القدرات التسخيرية اللازمة للنظر في آيات الكتاب أولًا، ثم النظر في آيات الآفاق والأنفس ثانيًا، وتطويع الحياة لخدمة الدين أصل فكري إسلامي في بناء المجتمعات، وهو يحتم توجيه النشاط الفردي والجماعي لخدمة الغايات الشرعية لنجاح العلماء وتفوُّقهم، والمسلم منذ صلاة الفجر يتحرك في الموضع الذي اختاره االله له ليُعلي كلمة ربِّه، وعلينا كمسلمين أن نحفر في الصخور لنتقدم ونتطور وننمو نموًّا كافيًا لنُصرة الحق دون خذلان، وأن نبذل قُصارى جهدنا لنصل لأرقى المستويات العلمية والفكرية والاقتصادية بنفس جهودنا في الصلاة وبناء المساجد والصيام والحج، فمسلم النجاح هو قائد ناجح في المزرعة وفي المحل وفي الشارع وفي الجيش وفي الأخلاق وفي حرفته وفي مهنته، يتقن عمله ويتفوق لإعلاء المجتمع الإسلامي ونجاحه وتفوُّقه وما يكتب وما يسمع، وقد يتناول خطرات النفوس وأحلام النيام. الإسلام رسالة تُوجِب على معتنقيها أن يجعلوا مجتمعهم أجدرَ بالحياة، وأقدرَ على النجاح، وكل ما يُعينُ على ذلك فهو دين، أو كما يقول علماء الأصول: ما لا يتمُّ الواجبُ إلَّا به فهو واجبٌ.